قالَ الحافظُ أبو مُحَمَّدٍ عبدُ الغَنِيِّ بنُ عبدِ الواحدِ الْمَقْدِسِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ وأَرضاهُ:
[ابتداءُ الوحْيِ]
فلمَّا بَلَغَ أربعينَ سنةً [1] اخْتَصَّهُ اللَّهُ بكَرامتِهِ، وابْتَعَثَهُ بِرِسَالَتِهِ [2].
أَتاهُ جِبريلُ عليهِ السلامُ وهوَ بغَارِ حِرَاءَ، جَبَلٌ بِمَكَّةَ [3]، فأقامَ بِمَكَّةَ ثلاثَ عَشْرَةَ سنةً.
وقيلَ: خَمْسَ عَشْرَةَ، وقيلَ: عَشْرًا.
والصحيحُ الأَوَّلُ[4].
وكان يُصَلِّي [5] إلى بيتِ الْمَقْدِسِ مُدَّةَ إقامتِهِ بِمَكَّةَ، ولا يَستدْبِرُ الكَعبةَ ويَجْعَلُها بينَ يَدَيْهِ [6].
وصَلَّى إلى بيتِ الْمَقْدِسِ أيضًا بعدَ قُدومِهِ المدينةَ سبعةَ عَشَرَ شَهْرًا، أوْ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا [7].
تعليق الشيخ: خالد بن عبد الرحمن الشايع
[1] جَزَمَ الحافظُ ابنُ حَجَرٍ في (الفتحِ) (7 / 164) أنَّ عُمْرَ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حينَ أُنْزِلَ عليهِ كانَ أَربعينَ سنةً وسِتَّةَ أَشْهُرٍ؛ وذلكَ على اعتبارِ ما ثَبَتَ في (الصحيحِ)، أنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ على رَأْسِ أربعينَ، وأنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُنْزِلَ عليهِ في رمضانَ. وعلى المشهورِ منْ أنَّ مَوْلِدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في شهرِ ربيعٍ الأَوَّلِ، وهذا مُوَافِقٌ لِمَا ذَكَرَهُ المُؤَلِّفُ؛ حيثُ لمْ يَذْكُر الكُسورَ على عادةِ العرَبِ في ذلكَ.شرح مختصر عبد الغني لفضيلة الشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين (مفرغ)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
بدأ الشيخ رحمه الله في حال النبي صلى الله عليه وسلم بعد النبوة، وبالأمس قرأنا حالته قبل أن ينزل عليه الوحي.
الوحي ابتدأ وعمره أربعون،
وقيل: أربعون وستة أشهر، المشهور أن عمره أربعون، ويمكن أن الذين قالوا
ذلك أسقطوا الزيادة؛ لأنها كسر، هكذا ذكرت عائشة رضي الله عنها قالت: (أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح) يعني: تحققت، إذا رأى رؤيا تحققت وظهرت مثل الصبح الذي يتبين، تقول: (ثم حبب إليه الخلاء) يعني: حببت إليه الخلوة، والانقطاع عن الناس، ولعل ذلك لتمرين قلبه وجسده حتى يتقبل
الوحي عندما ينزل إليه، فكان يخلو بغار حراء، ويتزود من ذلك الليالي ذوات
العدد يأخذ زادا، ويبقى يتحنث يعني يتعبد في ذلك الغار، وهكذا إلى أن نزل
عليه الوحي.
البخاري رحمه الله بدأ كتابه بقوله: باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر حديث عائشة الطويل الذي هو (أول ما بدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة) إلى آخره وذكر أيضا حديثا عن عائشة أيضا أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف يأتيك الوحي؟ فقال: ((أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس فأعي ما يقول، وأحيانا يتمثل لي الملك فيكلمني فأعي ما يقول)).
تقول عائشة رضي الله عنها: (ولقد كان ينزل عليه الوحي في اليوم الشاتي فينفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا)
أي: من ثقل الوحي، وذكروا أنه كان يلقى من الوحي شدة عندما ينزل عليه
الملك يلقى منه شدة، ثم بعد ذلك إذا انفصل وإذا هو قد ألقي عليه ذلك الوحي
نزل عليه قوله تعالى: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} وقوله تعالى: {لَا
تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ
وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ
عَلَيْنَا بَيَانَهُ}
فكان بعد نزول هذه الآية
ينصت عندما ينزل عليه الوحي إلى أن ينتهي الملك مما ينزل عليه، ثم بعد ذلك
يقرأه، يقرأ ذلك الوحي الذي نزل عليه كما أنزل؛ لأن الله قال: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} أي: جمعه في فؤادك، وقرآنه يعني: قراءته وتوفيقك لأن تقرأه.
فأول ما نزل عليه وهو في
غار حراء، وهذا الغار لا يزال معروفا أي الجبل رأسه طويل، طويل فرعه، ويمكن
أنه إذا كان يتزود يبقى فيه شهرا أو عشرين يوما لم ينزل، ويوجد عنده أيضا
ماء، الجبل كما ذكروا ينزل عليه المطر، ويكون هناك مستنقعات ماء، وفي هذه
الأزمنة يتكلف كثير من الناس يصعدون هذا الجبل يقولون: إن صعوده يستغرق نصف
ساعة، وهم يصعدون إلى ذروة الجبل، وهذا ليس من السنة.
ما ذكر أن النبي صلى الله
عليه وسلم عاد يرقى الجبل بعد تلك المرة بعدما نزل عليه الوحي ولا كان
الصحابة يصعدونه، وهؤلاء الذين يصعدون إلى أن يصلوا إلى ذلك الجبل ذلك
الغار كأنهم يريدون أن يتبركوا به، وقد سهلت الدولة التركية له مصاعد،
وجعلت فيه درجا، ولكن مع طول السنين تغير ذلك الدرج الذي كانوا يصعدون معه.
ومثله غار ثور المذكور في قوله تعالى: {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ}
فإن الترك وضعوا له درجا طويلا بحيث يستمر الذي يرقاه نحو ساعة، وكل هذا
لا أصل له، الذين يزورونه قد يتمسحون به، وقد يلقون فيه دراهم يدعون أن هذه
الدراهم تنفعهم وتشفعهم لأنهم يتصدقون فيه، ولا أصل لزيارة ولا لصعود
الغارين.
والحاصل أنه صلى الله عليه وسلم لما أنزل عليه الوحي أول ما جاءه الملك كما في القصة المشهورة أنه غطه يعني: غمه، ثم أرسله، وقال: ((اقرأ)) يقول: ((فقلت: ما أنا بقارئ)) أي:
أني لا أعرف شيئا؛ لأنه لم يزل أميا لا يقرأ ولا يكتب، ولله حكمة، وهو أنه
لو كان يقرأ ويكتب لاتهمه المشركون، وقالوا: نسخ هذا القرآن من الكتب
السابقة ومع ذلك فقد قالوه، قال الله تعالى: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}.
ولما غطه أي: أرسله قال اقرأ ثلاث مرات بعد المرة الثالثة لقنه سورة العلق أولها: {اقْرَأْ
بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ *
اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ
الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} فنزل بهذه الآيات ترجف بوادره يرجف قلبه، وجاء إلى زوجته خديجة، وقال:((دثروني)) أي غطوني فلما ذهب عنه الروع أخبرها الخبر، فقالت: (كلا والله لا يخزيك الله إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق) يعني أن هذه صفات شريفة والله تعالى لا يخزي من كان متصفا بها.
ذهبت به في الحال إلى ابن
عمها ورقة بن نوفل، وكان قد تنصر في الجاهلية، وكان قد قرأ شيئا من كتب
النصارى، وتعلم لغتهم السريانية، فكان يكتب أو ينقل من السريانية بالحروف
العربية، فقالت: (اسمع من ابن أخيك)، فأخبره
النبي صلى الله عليه وسلم بما يسمع وبما يرى فقال: (هذا هو الناموس الذي
نزل على موسى) يعني: الملك الذي ينزل بالوحي وهو جبرائيل عليه السلام، (يا
ليتني حيا إذ يخرجك قومك)، فقال:((أومخرجي هم؟))قال: (نعم، لم يأت أحد بمثل ما أتيت به إلا أوذي وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا) تقول عائشة: (ثم لم ينشب ورقة أن توفي، ثم فتر الوحي)، ولمدة ستة أشهر فتر الوحي، ثم بعد ذلك نزل الوحي وتواتر وتتابع، فأول ما نزل سورة "اقرأ"، ثم بعدها بستة أشهر نزلت سورة المدثر.
هكذا اختصه الله تعالى
بكرامته حيث فضله وأكرمه بهذه الكرامة التي هي الرسالة أتاه جبريل عليه
السلام وهو في غار حراء أي الجبل المعروف بمكة، وبعدما نزل عليه الوحي
ابتدأ يدعو الناس امتثالا لقوله تعالى: {قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} وقرأ بعضهم (والرجس فاهجر)، {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ}
أخذ يدعو إلى هذا، والوحي ينزل عليه استمر على ذلك ثلاث عشرة سنة، وهو
يدعو أهل مكة، فمنهم من هدى الله، ومنهم من حقت عليه الضلالة.
بعد عشر سنين أسري به إلى
السماء وفرضت عليه الصلوات الخمس، ولما أصبح أخبر الناس أني قد أسري بي
البارحة وصلت إلى بيت المقدس ورجعت؛ فتعجبوا من ذلك وقالوا: هذا كذب نحن
نعمل المطي إلى بيت المقدس شهرا ذهابا وشهرا إيابا، وهذا يدعي أنه جاء ورجع
في ليلة، وما علموا بأن الله تعالى قادر على كل شيء ولما جاءوا إلى أبي
بكر وقالوا: إن صاحبك يزعم كذا وكذا، فقال: (صدق إني أصدقه في أعظم من ذلك أصدقه في خبر السماء).
كان يصلي بمكة إلى بيت
المقدس مدة إقامته في مكة، ولكن يجعل الكعبة بين يديه يستقبل الكعبة،
ويستقبل أيضا بيت المقدس يتمكن من استقباله، فلما هاجر إلى المدينة كان
يصلي إلى بيت المقدس بأمر من الله لأن بيت المقدس قبلة الأنبياء من بني
إسرائيل، وكان قد رجا أنهم يسلمون، ولكن أصروا ولما تم له ستة أشهر وهو
يصلي إلى بيت المقدس ولم يتأثروا صرفه الله وجعل قبلته قبلة إبراهيم التي
هي الكعبة المشرفة.