7 Oct 2016
الدرس الرابع: بيان أنواع الفتور في طلب العلم وأسبابه
أعاذلتي على إتعابِ نفسي ... وَرَعْيِي في السُّرَى روضَ السُّهَادِ
ما يعتري طالب العلم من الفتور على نوعين:
النوع الأول: فتور
تقتضيه طبيعة جسد الإنسان، وما جُبل عليه من الضعف والنقص؛ وهذا من طبائع
النفوس والأجساد، لا يُلام عليه الإنسان، وقد روى ابن أبي شيبة بإسنادٍ
صحيح، عن عبد الله بن عمر بن العاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لِكُلِّ
عَمَلٍ شِرَّةٌ، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ ، فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ
إِلَى سُنَتِي فَقَدْ اهْتَدَى ، وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى غَيْرِ
ذَلِكَ فَقَدْ هَلَكَ)) وأخرجه أيضًا الإمام أحمد، والطحاوي، وابن حبان.
ورُوي أيضًا من حديث أبا هريرة، وابن عباس، وأبي أمامة الباهلي، وجعد بن هبيرة بألفاظ متقاربة.
فكلَّ عمل يعمله الإنسان
له شرّة ونهمة يجدها العامل في نفسه تحمله على الدأب فيه واستلذاذه واحتمال
المشقة التي تصيبه في ذلك العمل.
ثمّ لكلّ شرّة فَتْرةٌ وسُكُون؛ يقصر فيها العامل عمّا كان يعمل في حال النهمة والاجتهاد وإقبال النفس على العمل.
فأمّا من كانت فترته إلى
قصد واعتدال، فلا يخلّ بالفرائض؛ ولا يتقحّم المحرّمات؛ ولا يحيد عن منهاج
السنة؛ فهو غير ملوم على تلك الفترة.
وأمّا من كانت فترته إلى
انقطاع عن العمل الواجب، وإلى استرواح النفس إلى المحرّمات، وإلى سلوك غير
سبيل السنة؛ فهو مذموم على ما أدّاه إليه فتوره، وهو على خطر من الهلاك
بسبب ضلاله عن الهدى في تلك الفتنة.
ولله تعالى حكمة بالغة في
تقدير هذا الفتور؛ فهو فتنة وابتلاء؛ يتميّز بها الصادق من الكاذب، ومن
يريد اتّباع هدى الله عزّ وجلّ على كلّ حال، ومن يريد اتّباع هوى نفسه.
فأما العامل الصادق
المخلص فيجعل من هذه الفترة استراحة له، يجمّ فيها نفسه، ويستروح إلى
المباحات، وإلى تنويع العمل بما يدفع عنه السآمة، ليعود إلى العمل بجدّ
واجتهاد.
وأمّا غيره فهو على خطر
من الضلال في هذه الفتنة؛ بأنْ ينقطع ويدع العمل، أو ينحرف عن سبيل السنّة
فتخفّ عليه الأهواء وتستجريه حتى يهلك بسبب زيغه عن السنة.
ولابن القيم رحمه الله
كلامٌ حسن في أمر الفتور الطبيعي الذي يعرض للسالكين، وأنّ له حِكمةً
بالغةً من الله عز وجل؛ فقال -رحمه الله- في مدارج السالكين: (فتخلل
الفترات للسالكين: أمر لازم لا بد منه؛ فمن كانت فترته إلى مقاربة وتسديد،
ولم تخرجه من فرض، ولم تدخله في محرم رُجِيَ له أن يعود خيرا مما كان.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: إن لهذه القلوب إقبالا وإدبارا. فإذا أقبلت فخذوها بالنوافل، وإن أدبرت فألزموها الفرائض.
وفي هذه الفترات والغيوم والحجب، التي تعرض للسالكين من الحكم ما لا يعلم تفصيله إلا الله، وبها يتبين الصادق من الكاذب.
فالكاذب: ينقلب على عقبيه، ويعود إلى رسوم طبيعته وهواه.
والصادق: ينتظر الفرج، ولا ييأس من روح الله،
ويلقي نفسه بالباب طريحاً ذليلاً مسكيناً مستكيناً، كالإناء الفارغ الذي لا
شيء فيه ألبتة، ينتظر أن يضع فيه مالك الإناء وصانعه ما يصلح له، لا بسببٍ
من العبد - وإن كان هذا الافتقار من أعظم الأسباب - لكن ليس هو منك. بل هو
الذي منَّ عليك به، وجرَّدك منك، وأخلاك عنك، وهو الذي يحول بين المرء
وقلبه.
فإذا رأيته قد أقامك في هذا المقام، فاعلم أنه
يريد أن يرحمك ويملأ إناءك، فإن وضعت القلب في غير هذا الموضع؛ فاعلم أنه
قلب مضيَّع؛ فسل ربه ومن هو بين أصابعه أن يردَّه عليك، ويجمع شملك به،
ولقد أحسن القائل:
إذا ما وضعت القلب في غير موضع ... بغير إناء فهو قلبٌ مضيَّع).ا.هـ.
وينبغي لطالب العلم أن
يوطّن نفسَه على أمر الفتور الطبيعي، وأن يعرف لنفسه حاجتها إلى الاستجمام
والراحة؛ ويدركَ أنَّ الدأب على العمل بجدٍّ ونشاط لا انقطاع معه أمرٌ غير
ممكن، وإذا حمل الإنسان نفسه على ما لا يطيق؛ كان على خطرٍ من الإضرار
بنفسه أو الانقطاع الطويل الذي يحرمه من الانتفاع بعمله.
وقد روي من حديث عائشة، وجابر بن عبد الله، وعبد الله عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إِنَّ
هذَا الدِّينَ مَتِينٌ، فَأَوْغِلْ فِيهِ بِرِفْقٍ، وَلا تُبَغِّضْ إِلَى
نَفْسِكَ عبادَةَ اللَّهِ، فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ لا أَرْضًا قَطَعَ
وَلاظَهْرًا أَبْقَى))
وهذا الحديث لا تخلو طرقه
من ضعف، لكن معناه صحيح، ويشهد له ما في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة
رضي الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنَّ الدينَ يُسْرٌ، ولن يشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غلبَه، فسدِّدوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدّلجة ».
وكان من هدي الأئمة
أنهم يجعلون لفترتهم بعض الأعمال المعينة لهم على طلب العلم مما لا يستدعي
كدّا ذهنياً، ولا جهداً بدنيّاً مرهقاً، كتهيئة الدفاتر، وبري الأقلام،
وترتيب الكتب، وإعداد الفهارس.
ومنهم من ينشد الأشعار،
ويقرأ في الدواوين وطرائف الأخبار، وبعضهم يتعاهد الرمي، وغير ذلك من
الأعمال التي تُجّم النفس، وفيها نفع لطالب العلم.
ومنهم من يعمل أعمالاً أخرى متنوّعة من البرّ؛ فيدفع عن نفسه السآمة، ويعاود طلب العلم بجدّ واجتهاد.
وليحذر طالب العلم أن
يغالبَ الفتورَ الطبيعي بإكراه النفس على الجدّ والاجتهاد؛ فالفتور لا
يُعالج بمغالبته وقصد القضاء عليه، فذلك خلاف الفطرة، والسنن الماضية،
وإنما يكون علاجه بإعطاء النفس حقَّها من الراحة والاستجمام في قصد
واعتدال، وأن يجعل لحال فتوره من الأعمال ما يناسبها، حتى يتهيأ لمعاودة
العمل بنشاطٍ متجدد، وعزيمة متوقّدة.
وينبغي أن يحرص في فترته
إذا خشي طولها على ضبط حدٍّ أدنى من المراجعة، حتى يبقى مواظبًا على شيء من
العلم، فلا ينقطع عن العلم انقطاعًا كليًا في مدّة فتره؛ لأنّ الانقطاع
إذا استروحت إليه النفس وركنت إلى الراحة والدعة، ربّما طال أمده، فتثاقل
عن معاودة طلب العلم.
ولذلك ينبغي أن يلزم طالب
العلم نفسه بقدر لا يشقّ عليه من المراجعة والمذاكرة والقراءة؛ حتى إذا
عاود التحصيل لم يكن قد خسر شيئاً كثيراً في فترته.
والنوع الآخر من الفتور هو الفتور الذي يكون سببه ضعف اليقين وضعف الصبر، وهذا النوع مما يُلام عليه العبد.
وأسباب الفتور التي
يُعَدّدُها بعض من يكتب في الفتور وعلاجه وأسبابه ومظاهره يمكن إرجاعها إلى
هذين الأمرين: ضعف اليقين وضعف الصبر؛ لأنهما جامعان لآفات كثيرة.
وإذا ضعف اليقين والصبر؛
سلطت على الإنسان آفات من كيد الشيطان، وعلل النفس، وعواقب الذنوب، فلا
يكون له سبيل إلى الخلاص منها إلا بالاعتصام بالله تعالى، وبالإلحاح عليه
في الدعاء أن يرزقه العلم والإيمان، وأن يصرف عنه كيد الشيطان، وأن يعيذه
من شره نفسه، ومن سيئات أعماله.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبه: ((وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ
شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا)).
فكيد الشيطان، وشر النفس، وعواقب الذنوب، من أعظم الصوارف عمَّا ينفع الإنسان في دينه ودنياه.
آثار ضعف اليقين:
وإذا ضعف اليقين في قلب طالب العلم؛ ضعفت
عزيمته، ووهت قوّته، ودنت همّته، واحتجب عن القلب هدى الله عز وجل؛ فاتّبع
هوى النفس، وافتتن بالدنيا، وغرّه طول الأمل، واستجراه الشيطان، حتى يغفل
ويقسو قلبه؛ فتدبّ إلى طالب العلم آفات خطيرة تصرفه إلى طلب الدنيا ومتاعها
العاجل.
وذلك لأنه قَصَر نَظَرَه
عمَّا يجب عليه أن يقصدَه بعلمه، وغفل عن تحقيق الإخلاص لله تعالى، وابتغاء
وجهه بما يطلبه من العلم، ورجاء فضله وثوابه، والنجاة من سخطه وعقابه،
وغفل عن واجبه في القيام لله تعالى بعلمه كما أمره الله، ومتى ضعفت هذه
الدوافع في قلب طالب العلم التفت قلبه إلى عاجل مُتع الدنيا، وطلب زينتها،
ووجد في العلم ما يدعوه إلى الرياسة والترفّع به والتوصّل به إلى ما افتتن
به من متاع الدنيا.
- وربما حمله ذلك على الرياء لطلب الثناء والتكثّر من المتاع الدنيوي.
- وربما حمله أيضًا على
العجب بما عنده من قليل العلم؛ فتنمّر به وتكبّر؛ والعجب داء خطير، ماحق
للبركة، جالب للنقمة، قاطع للعبد عن الاستعانة بالله تعالى والتوكّل عليه؛
فتنقطع عنه أسباب قوّته الحقيقة التي مدادها من الله تعالى، ويوكل إلى
نفسه؛ فيضلّ ويشقى.
- وربما حمله أيضًا على
كفران النعمة، ونسبة ما حصّله من العلم إلى نفسه ونظره واجتهاده، وغفل عن
شكر نعمة الله تعالى عليه؛ فكان ذلك من أعظم أسباب محق بركة العلم، وموانع
الانتفاع به.
فإنّ الله تعالى يحبّ
الشكور من عباده الذي إذا أنعم عليه تلقّى نعمة الله تعالى بالفرح
والتعظيم، والشكر والثناء، وأدّى حقّ الله فيها، واستعمل ما أنعم الله به
عليه فيما يرضيه جلّ وعلا؛ فيبارك الله له فيما أنعم عليه ويزيده منه،
ويرزقه الانتفاع به.
وهذا بخلاف حال كافر
النعمة الذي يزدري نعمة الله عليه، وينسب ما أنعم الله به عليه إلى نفسه،
ولا يؤدي حقّ الله تعالى في تلك النعمة، بل ربّما استعملها فيما يغضب الله
عزّ وجلّ؛ فاستحقّ بهذا الكفر محق البركة وحرمان الانتفاع من العلم.
والناس في هذا الباب على
درجات فمنهم المحسن في شكره فهذا بأعلى المنازل وأحبّها إلى الله، وأحراهم
بالفضل والزيادة، ومنهم من يؤدّي الشكر الواجب، ومنهم من يؤدّي بعضه دون
بعض، ومنهم من يقع منه كفر النعمة أحياناً، ومنهم من يكثر منه ذلك.
وإذا ضعف اليقين كان العبد على خطر من الوقوع في كفر النعمة، ومعاناة عقوبته، وسوء مغبَّته، وقبح آثاره.
وقد قال الله تعالى:
{سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ
يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ
شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)}
فالنعمة بالعلم النافع
أعظم النعم لأنه السبيل إلى معرفة هدى الله تعالى، وسمّي هدى الله نعمة
لقوّة ترتّب الأثر عليه، فمن استبدل به غيرَه فقد بدّل النعمة التي كانت
قريبة المأخذ لو اتّبع هدى الله.
وبذلك يُعلم أن تبديل النعمة يكون بتبديل سببها، وهو هدى الله تعالى.
وقال الله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ}
فهذا رجلٌ آتاه الله
علمًا عرف به هدى الله تعالى، فاستبدل به غيره حتى انسلخ من تلك النعمة،
فتسلّط عليه الشيطان وسلك به طرق الغواية، وأمعن في الضلالة حتى صار من
الغاوين.
فمخالفة هدى الله تضعف اليقين في القلب، فتسهل الغواية، ويتسلط الشيطان.
قال الله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ۚ ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}.
والمقصود التنبيه على أن لضعف اليقين آثاراً خطيرة، وأنه يولّد آفات أخرى تؤدّي بالعبد إلى الفتور.
آثار ضعف الصبر
- وضعف الصبر كذلك يُنتج لصاحبه آفات تؤدّي به إلى الفتور؛
فمنها: وَهَن النفس، وضعف العزيمة، وسرعة التأثر بالأعراض، وطلب الأمور العاجلة التي لا يحتاج المرء فيها إلى الصبر.
والنار قد حفت بالشهوات،
واتباع الهوى لا يحتاج فيه المرء إلى صبر، بل فيه ما تستروح إليه النفس
ويخف عليها وتجد فيه لذة عاجلة تستلذها ما لم يمنعها من ذلك مانع اليقين
بسوء العاقبة.
فإذا ضعف صبر الإنسان كان
أسرع شيءٍ إلى اتباع هواه، وإلى الإخلاد إلى الأرض، وإذا اتبع المرء هواه
وأخلد إلى الأرض، قسى قلبه، وطال أمله؛ وغرّته الأماني، ودبَّت إليه آفات
كثيرة من العجز والكسل، والضعف والوهن، وسرعة الاستجابة للقواطع والشواغل،
وسرعة التأثر بالعلل العارضة، وغيرها من الآفات التي تؤدي بصاحبها إلى
الفتور.
التنبيه على أهمية الصبر واليقين
إذا أحسّ طالب العلم من
نفسه ضعفاً في اليقين أو ضعفاً في الصبر فليبادر إلى معالجة هذا الضعف
بتقوية اليقين، وحمل النفس على الصبر على استقامة وسداد.
وإذا حصل للمرء يقين صادق
بما جعله الله تعالى لطالب العلم من الثواب العظيم، والرفعة في الدنيا
والآخرة، وأنه سبب لبركات عظيمة لا تخطر له على بال، ولا تدور له في خيال،
ولا تقدر بثمن، عرف قيمة كل ساعة يقضيها في طلب العلم.
ذلك أن اليقين يُغذّي القلب، ويدفعه للعمل، ويحمله على احتمال المشاقّ بنفس مبتهجة ليقينه بحسن العاقبة.
وسأضرب لكم مثلاً يتّضح
به تلخيص ما سبق بيانه، فلو أنّ رجلاً أراد السفر إلى أناس يحبّهم محبّة
عظيمة، ويجد عندهم ما تشتاق إليه نفسه، وسار في طريق سفره إليهم حتى مرّ
بمكان غير آمن، ومتاهة شديدة، فأضاع الطريق، ولم يعرف أين يوجّه مما يجد من
الحيرة والتباس الطرق عليه.
فما هو فيه من ضعف اليقين بصحة الطريق له أثر بالغ السوء على نفسه، يعود عليه بضعف العزيمة، ووهن النفس، وتسلّط المخاوف.
فإذا أتاه مُرشِدٌ يعرف
صِدْقَه وَحُسْنَ بيانِه؛ فبصّره بالطريق، وأخبره بالعلامات التي يعرف بها
صحّة سلوكه، وأرشده إلى ما يأمن به من المخاوف، فإن كان عاقلاً فسيعرف لهذا
المرشد حقّه، ويعتني بحفظ إرشاده، حتى لا يتيه عن الطريق، وكلما ظهرت له
علامة من العلامات التي أخبره بها ازداد يقيناً بصدق قوله، وصحّة إرشاده،
واطمأنَّ إلى سلوكه الطريق الصحيح الآمن، وقوي عزمه على مواصلة السير، وجمع
همّته على بلوغ غايته، حتى إذا رأى أعلام المدينة التي يريدها من بعيد
أيقن بصحة الإرشاد، ووجد من خفة النفس وشدة الشوق وقوة العزيمة ما يُذهب
عنه كثيراً من العناء، ويحمله على مواصلة السير واحتمال المشقة.
فكذلك حال طالب العلم إذا
أبصر ثمرات العلم النافع، ورأى علامات صحّة الطريق، ووجد آثار العلم في
نفسه وحاله؛ فإنّه يحصل له من اليقين بصحّة منهج الطلب، ورجاء إدراك
المقصد، ما يزيده حرصاً على طلب العلم والازدياد منه، فلا يلتفت إلى وساوس
الشيطان وتثبيطه، ولا إلى أهواء النفس ورغباتها القاطعة له عن بلوغ غايته،
بل يزداد اجتهاداً وتشميراً في طلب العلم.
وما أحسن قول ابن نباتة رحمه الله في ذلك:
إذا شامَ الفَتى بَرْقَ المعــــالِي ... فأَهْــــونُ فائـــتٍ طِــــيــبُ الرُّقَــــــــــادِ