الدروس
course cover
الدرس الخامس: بيان علاج الفتور في طلب العلم
7 Oct 2016
7 Oct 2016

4269

0

0

course cover
علاج الفتور في طلب العلم

القسم الأول

الدرس الخامس: بيان علاج الفتور في طلب العلم
7 Oct 2016
7 Oct 2016

7 Oct 2016

4269

0

0


0

0

0

0

0

الدرس الخامس: بيان علاج الفتور في طلب العلم


الكلام في علاج الفتور مؤسَّسُ على ما تقدّم من بيان أسباب الفتور في طلب العلم وآثاره؛ ولذلك فإن أعظم ما يعالج به الفتور تحصيل اليقين وتحصيل الصبر؛ وهذا أصل العلاج الذي يعالج به الفتور، وبقيّة ما يُذكر في علاج الفتور إنما هو تبع لتحصيل هذين الأصلين ومعينٌ عليهما.
واليقين أعظم نعمة أنعم الله بها على عباده، وهو أصل النجاة من كلّ فتنة، والسلامة من كلّ معصية، والعون على كلّ طاعة، وصاحب اليقين يسهل عليه من الصبر ما لا يسهل على من ضعف يقينه.
وقد روى الإمام أحمد، والبخاري في الأدب المفرد، وابن أبي شيبة، والنسائي، والترمذي، وغيرهم، من طرق أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قام خطيبًا على المنبر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بسنة فقال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم مقامي هذا عامَ الأوَّل ثم بكى أبو بكر.
ثم قال: (( سَلُوا الله العفوَ والعافية؛ فإنَّ الناسَ لم يُعْطَوا بعدَ اليقينِ شيئاً خيراً من العافيةِ، وعليكم بالصِّدقِ فإنَّه مع البرّ، وهما في الجنة، وإيَّاكم والكذب؛ فإنه مع الفجور، وهما في النار، ولا تقاطعوا، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا إخواناً كما أمركم الله عزَّ وجلَّ )).
والشاهد قوله: (فإنَّ الناسَ لم يُعْطَوا بعدَ اليقينِ شيئاً خيراً من العافيةِ).
فكانت نعمة اليقين أعظم من نعمة العافية، وبيان ذلك أن اليقين يُثمر في قلب الموقِن البصيرة في الدّين، وقوَّةَ العلمِ والتصديق بما أخبر الله تعالى به، وأخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حتى يجد أثر هذا التصديق في قلبه ونفسه وجوارحه.
فيكون في قلبه من الخشية والإنابة، والرغبة والرهبة، والمراقبة لله تعالى، والشوق إلى لقائه، والفرح بفضله، ما يصلح به ذلك القلب ويحيا ويستنير؛ فتصلح الجوارح كلها بإذن الله، ويصلح العمل كله، ويهون على العبد احتمال ما يجد من المشقّة في الطاعات، ويهون عليه ترك المعاصي؛ لما قام في قلبه من البصيرة التي عمادها اليقين بالله تعالى والتصديق بوعده، والخوف من سخطه وعقابه.
ومما يبين ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في المنافقين: « ليس صلاة أثقل على المنافقين من الفجر والعشاء، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا » متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
فهؤلاء المنافقون لو كان عندهم يقين بما أعدّ الله عز وجل للمصلين في صلاة العشاء وصلاة الفجر؛ لأتوهما ولو حبوًا، ولا يخفى على المتأمّل ما في الحَبْوِ من البيت إلى المسجد من المشقّة العظيمة؛ لكن متى حلَّ اليقينُ في القلبِ هانَ عليه احتمالُ تلكَ المشقّة، بل يحتملها وهو منشرح الصدر فرحاً مسروراً لما يرجو من الظفرِ بالثواب العظيم، والفضل الكبير.
ولكنَّ المنافقين لما غاب عنهم اليقين بالثواب والعقاب، وغلبت على قلوبهم الفتنة بالدنيا، وغرتهم الأمانيّ هان عليهم ترك الصلاة.
ومما يعين على اكتساب اليقين: إقبال القلب على الله تعالى؛ وطلب الهدى منه جل وعلا، وكثرة الذكر والتذكر، ومعاودة التفكر والتدبر، حتى يكون العلم يقينياً يقرّ في قلب صاحبه، فيحيا به، ويبصر به، ويتكلم به، ويقوم به، ويمشي به، كما قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)}
وقال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}.

فالعلم المراد هنا هو علم اليقين؛ وهو مستمد من التصديق والإيمان.

بمَ يُنال الصبر؟
وأما الصبر فينال ببذل أسباب تحصيله من الدعاء والتوكّل والتصبر والتبصّر، وهذه الأمور الأربعة قد جمعها النبي صلى الله عليه وسلم بأحسن بيان وألطف تنبيه كما في صحيح البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن أناساً من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلم يسأله أحد منهم إلا أعطاه حتى نفد ما عنده، فقال لهم حين نفدَ كلُّ شيء أنفقَ بيديه: «ما يكن عندي من خيرٍ لا أدَّخرُه عنكم، وإنه من يستعف يعفُّه الله، ومن يتصبَّر يصبّره الله، ومن يستغنِ يغنِه الله، ولن تُعطَوا عَطَاءً خيراً وأوسعَ من الصَّبر»
- فأمّا الدعاء فلأجل وصف الصبر بأنّه عطاء، والعطاء يُسأل من المعطي، وقد أثنى الله تعالى في كتابه على من سأله الصبر ثناء يدلّ على محبّة الله تعالى لسؤالهم، ومنّته بإجابته، وحثّ للمؤمنين على الاتساء بمن أثنى عليهم في ذلك.
- وأما التوكّل فدلالة الحديث عليه من وجهين:
أحدهما: أن التصبّر فيه تفويض لمن بيده التصبير، واستعانة به ليُمدّه بالصبر.
والوجه الآخر: أن الصبر المبنيّ على الإيمان بالله وتصديق وعده توكّل على من بيده حسن العاقبة والقدرة على الوفاء بالوعد.
فالمتصبّر المحتسب متوكّل على الله.
- وأما التصبّر فدلالة الحديث عليه ظاهرة، وفيه وعدٌ للمتصبّر بأن يُعطى الصبر عطاءً لا حرجَ معه، ولا تكليف فيه بما لا يطاق، بل هو عطاء واسع جميل.
- وأمّا التبصّر فالمراد به العلم اليقيني الذي تحصل به البصيرة النافعة بحسن عاقبة الصبر، ومحبة الله له ولأهله، ومعيّته الخاصة لهم، وأن الله لا يخلف وعده للصابر ولا يخذله، ولا يقطع عنه عونه وتوفيقه، وأنّ في الصبر على ما يكره المرء خيراً كثيراً، وأن النصر مع الصبر؛ فكلُّ ذلك من التبصُّر المعين على تحصيل الصبر واعتياده والرضا به عطاءً واسعاً مباركاً.
ومن تأمّل النصوص الواردة في الصبر وفضله ومنزلته من الدين وما وعد الله به الصابرين حصل له من التبصّر ما يعينه على الصبر إيمانا واحتساباً.
وقد قال الله عز وجل: {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} وتعليل الأمر بهذه العلّة المنبّهة على ما يستعين به المرء على الصبر دليل على أثر التبصّر في الإعانة على الصبر.
ولذلك ينبغي لطالب العلم إذا وجد في نفسه ضعفًا وفتوراً أن يبادر إلى معالجته بتحصيل اليقين والصبر؛ وأن يكون على بصيرة بأنّ الله تعالى لا يضيع أجر صبره على طلب العلم، ولا مكثه في حلقات العلم، ولا قراءته لكتب أهله العلم، وتفهّمها، لا يضيع من ذلك شيءٌ مهما قلّ؛ فإذا تبصّر بذلك طالب العلم هان عليه التصبّر على طلب العلم.

والمقصود أنّ أصل علاج الفتور في طلب العلم تحصيل اليقين، وتحصيل الصبر.

3، 4. ومما يُدفع به الفتور في طلب العلم سببان مهمّان مؤثّران، وهما: الفرح بفضل الله تعالى، وشكر نعمة الله.
وهذان العملان من آثار اليقين، ولهما أثر عظيم في باب التوفيق والخذلان، وفي باب القضاء والقدر؛ فإنّ اللهَ عزَّ وجلَّ قد قدَّر الأقدارَ خيرها وشرَّها، وجعل لتقدير الخير أسبابًا، ولتقدير الشر أسبابًا.
وهذان السببان من أعظم أسباب تقدير الخير، وتركهما من أعظم أسباب تقدير الشرّ.
والتوفيق لطلب العلم نعمة عَظيمة؛ من تلقّاها بالفرح بفضل الله تعالى، ومعرفة قَدْرِ هذه النعمة، وشكر الله تعالى عليها؛ رُجي له أن يوفّق لطلب العلم، وأن ينتفع به، وأن يُبارك له فيهن وأن يُدفع عنه ما يحول بينه وبين الانتفاع به.

وهاتان الخصلتان إذا رسختا في قلب طالب العلم، وتمكّنتا من نفسه؛ وانتهجهما في حياته؛ فُتِح له بهما أبواب من الفضائل والبركات والخيرات العظيمة؛ فإنَّ الله عز وجل يحبُّ من يفرحُ بفضله ورحمته ويشكرُ نعمتَه ، وقد قال الله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا}.
وقال تعالى: {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}
وقال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)}
وينبغي لطالب العلم أن يعتني بأمر العبادات القلبية عناية عظيمة؛ ولا سيّما فيما يتّصل بتعلّمه العلم وقيامه به ورعايته له؛ فمن جاهد نفسه لإحسان التعبّد لله تعالى بطلب العلم، وعرف قدر نعمة الله تعالى عليه بما فتح له من أبواب العلم ، وبما علّمه وفهّمه؛ وعرف أن لهذا التعليم والتفهيم واجباً من الاعتراف لله تعالى بفضله، والشكر له على إحسانه؛ ورعاية حقّ العلم الذي تعلّمه، كان دائم التقرّب إلى الله تعالى بهذا العلم، وكان علمه بركة عليه، وسبباً موصلاً إلى رضوان الله تعالى وفضله العظيم، ودافعاً لكثير من مكائد الشيطان وتوهينه.
ومن سلك في التعلّم هذا المسلك الرشيد من حسن التقرّب الله تعالى، قاده ذلك إلى الحرص على تعلّم العلم النافع بنيّة صالحة، والاهتداء به، وتعليمه ودعوة الناس إليه؛ فإنه على سبيل الهداية الذي يحبّه الله، ويحبّ السائر فيه، ويؤيّده ويعينه.
وإذا أحب اللهُ عزَّ وجل عبداً من عباده، ورضي عمله توالت عليه الرحمات والبركات والفضائل، وزاده الله هداية وتوفيقاً، وبركة وتفضيلاً ما دام متّبعاً لرضوان الله تعالى؛ فَرِحاً بفضله، شاكراً لأنعمه.
وقد بيّن الله تعالى في كتابه أنّ ما يعلمه من قلوب عباده من الشكر هو سبب اختصاصهم بفضله ومنّته عليهم بالهداية والتوفيق؛ كما قال الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)}

وتدبّر هذه الآية العظيمة يبيّن للمتدبّر أثر الشكر في منّة الله تعالى على عباده، وما يفيض به على قلوبهم من الهداية والتبصير، لأنها قلوب طيبة صالحة شاكرة؛ فيحبّها الله، ويزيدها من عطائه وفضله، لأنه يعلم أن إنعامه عليها؛ إنعام على محلّ طيّب قابلٍ للنعمة، فرح بفضله، شاكر لربّه، تظهر عليه آثار النِّعَم؛ أعمالاً صالحة، وأقوالاً طيبة، واستقامة على طاعة الله تعالى، وقياماً بأمره، ونصرة لدينه، وجهاداً في سبيله.
بخلاف القلوب الفاسقة والفاجرة التي تتغافل عن فضل الله تعالى وتجحده، ولا تعرف له قدراً، ولا يرعى له حقّاً، ولا تثني به على ربّها، فهؤلاء قلوبهم قاسية خبيثة كالأرض الخبيثة التي لا تنبت مهما سقيت، وإن أنبتت كان نباتها قليلاً نكداً كثير الآفات؛ قال الله تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّنَكِداً كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ}.
فهذا المَثل القرآني الذي ضربه الله للقلوب الطيّبة والخبيثة بالبلدان الطيّبة والخبيثة لا يفقهُ مقاصدَه حقَّ الفِقْهِ إلا الشاكرون الذين عمروا قلوبهم بشكر الله تعالى، ورعاية حقّه، واتّباع رضوانه.

والمقصود أن هذين السببين من أنفع الأسباب لمعالجة الفتور في طلب العلم.

5: ومما يعالج به الفتور: تذكير النفس بفضل العلم وشرفه؛ فإنّ النفس إذا طال عليها الأمد واشتغلت بكثير من العوارض والملهيات ربّما نسيت بعض فضائل العلم، فأثّر ذلك فيها فتوراً عن طلبه، وذلك ينبغي لطالب العلم أن يتعاهد قلبه بإزالة حجب الغفلة والقسوة عنه، ومن ذلك معاودة تذكّر فضائل طلب العلم من وقت لآخر، والتذكر النافع يعالج به المرء كثيرًا من الآفات بإذن الله عز وجل.

6: ومن الأسباب المعينة على معالجة الفتور: ترك الفضول والإعراض عن اللغو؛ ولا يستقيم لطالب العلم حصول طلب العلم على الوجه الصحيح المُرضي، وهو لا يعرض عن اللغو، وقد بيّن الله تعالى في كتابه الكريم أنّ الإعراض عن اللغو من أعظم أسباب الفلاح، وجعله بعد الصلاة مباشرة في ذكر أسباب الفلاح؛ فقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُون} .
فمن أعظم أسباب الفلاح: الإعراض عن اللغو، والجمع بين الصلاة والإعراض عن اللغو؛ فيه تنبيهٌ على أن النفس كالنبات، تحتاج إلى غذاءٍ يُقَوّيها، وإلى وِقَاية تحميها؛ فالصلاة غذاءٌ للرُّوحِ، والإعراضُ عن اللَّغْوِ حِمايةٌ؛ بل هو أصل من أعظم أصول السلامة من الفتن والآفات.
وذلك أن كثيراً من الآفات إنما كان مبدأ تسلطها على الإنسان بسبب عدم إعراضه عن اللغو؛ واتباعه لفضول النظر، وفضول السماع، وفضول المخالطة، وفضول الكلام، وكلّ ذلك مما يؤدّي بالمرء إلى اللغو الذي لا فائدة منه، وأقلّ ما يصيبه منه شتاتٌ يجده في نفسه، وضعف في عزيمته، ووهن في قوّته، وذهابُ كثيرٍ من وقته في غير فائدة يجتنيها، ولا علم يحصّله.
وكثير من أبواب العلم يحتاج طالب العلم فيها إلى استجماع قوّته الذهنية، والإقبال على تعلّمه بجد واجتهاد وتركيز، ومن كان لا يعرض عن اللغو فإنّه لا يتأتّى له هذا الإقبال الحسن على تعلّم العلم.
ولذلك فإنَّ طالب العلم الذي لا يعرض عن اللغو أكثر عرضة للإصابة بالفتور، ومن أهمّ ما يوصى به من ابتلي بذلك أن يربّي نفسه على الإعراض عن اللغو.

7: ومما يعالج به الفتور: معرفة قدر النفس، وعدم تحميلها ما لا تطيق؛ فإنّ النفس إذا حُمّلت ما تطيق سئمت وعجزت وانقطعت، ومداومة طالب العلم على قَدْرٍ من التعلّم ولو كان قليلاً أنفعُ له من إتعاب نفسه بما يشقّ عليه حتى يعجز عنه وينقطع.
وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يا أيها الناس، خذوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب الأعمال إلى الله ما دام وإن قلَّ»
وهذه قاعدة ينبغي لطالب العلم أن يبني عليها تنظيم وقته وتحصيله العلمي، وهي أن يداوم على مقدار من التحصيل اليومي بما لا يشقّ عليه؛ فإنّه بذلك يحصّل علماً غزيراً بمرور الأيّام والشهور والأعوام، وينمو تحصيله العلمي نموّاً متوازناً مباركاً.

8: ومما يعالج به الفتور: التحرّز من علل النفس الخفية وأهوائها المردية؛ التي قد يحرم بسببها من بركة العلم أو التوفيق لتحصيله، كالعجب والغرور، والمراءاة والتسميع، وحب الرياسة والعلو في الأرض، والتكلّف والمراء، واستكثار العلم، والتفاخر به، والتعالي على الأقران، وغير ذلك من الأدواء المردية.
ولذلك ينبغي لطالب العلم أن يتعاهد نفسه بالمحاسبة، والتفتيش عن دواخلها، ومراجعة مقاصده من تعلّم العلم، وامتثاله لآداب طلبه، والتحقق من سلامته من تلك الآفات.

9: ومما يعالج به الفتور: تنظيم الوقت؛ وتقسيم الأعمال إلى أقسام يوزّعها على جدول وقته بما يتسّر له المداومة عليه؛ فيحصل بهذه التجزئة وهذا التنظيم – بعد توفيق الله تعالى - إنجاز أعمال كثيرة من غير إرهاق للنفس، ولا شعور بالسآمة والملل.
وشعور المرء بإنجاز يمكنه البناء عليه، والترقّي منه إلى غيره يدفعه إلى مواصلة طلب العلم بعزيمة متجدّدة، وهمّة عالية.
وقد كان الشوكاني –رحمه الله- كثير التأليف، ألّف كتباً كثيرة في علوم متنوّعة، وقد ذُكر عنه أنه كان لا يمرّ عليه يوم إلا وكتب فيه شيئاً ولو كان صفحة أو صفحتين.
وهذه المداومة أثمرت له البركة في عمله حتى قدّم للأمّة كتباً كثيرة عظيمة النفع.
واستمعت إلى لقاء أجري مع المحقق العراقي المعاصر الدكتور بشّار بن عوّاد معروف، وهو ممن يُتعجّب من كثرة تحقيقاتهم وجودتها؛ فقد حقق أكثر من ثلاثمائة كتاب، وتحقيقاته في الذروة العليا من الجودة.
والتحقيق المُتقن عَمَلٌ شاقّ، لما تستلزم من تحصيل المخطوطات، وفحصها، والتوثّق من صحّتها، وقراءتها، والموازنة بين النسخ المخطوطة، وتوثيق النقول، وتخريج الأحاديث، وترجمة الرواة، والتعليق على المواضع المشكلة، وإعداد الفهارس، وتهيئة الكتاب للطباعة، ومراجعته، وكل تلك الأعمال الشاقّة يجمعها المحقق ليخرج للأمّة كتاباً صحيحاً كما أراده مؤلّفه.
وقد سُئل في ذلك اللقاء عن سرِّ غزارة إنتاجه العلمي مع جودته؛ فذكر أنّه كان يُلزم نفسَه بأن لا يقلَّ إنجازه اليومي عن ملزمة ( 16 صفحة )؛ فكان يداوم على هذا المقدار يومياً لا يخلّ به، وإذا عرض له عارض عوّض هذا المقدار في وقت آخر، وهذه المداومة التي بورك له فيها أثمرت له هذا الإنتاج العلمي الغزير.

والمقصود تنبيه الطالب على تنظيم وقته، وتجزئة أعماله العلمية، ومحافظته على حدّ أدنى من التحصيل اليومي يداوم عليه ما استطاع.

10: ومما يعين على علاج الفتور: أن يسلك طالب العلم في طلبه للعلم منهجًا صحيحًا موصلًا إلى غايته بإذن الله؛ وأن يحذر من التذبذب بين المناهج والكتب والشيوخ، وأن يسير على خطة منتظمة، فكلما وجد من نفسه جدًا، ونشاطًا؛ سار مرحلة فيها حتى يتمها، وإذا عرض له فتورٌ، عرف الموضع الذي وصل إليه، فإذا عاوده النشاط والجد واصل طلبه من حيث انتهى حتى يصِل بإذن الله عز وجل إلى مبتغاه.
.
11: ومما يعالج به الفتور: اختيار صحبةٍ صالحة تعينه على طلب العلم، فتعاونون ويتنافسون، وليحذر كلّ الحذر من الصحبة السيئة، ومصاحبة البطّالين.

12: ومما يعالج به الفتور: الحرص على بذل العلم؛ فإن العلم يزكو بتبليغه وتعليمه، كما قال أبو إسحاق الألبيري رحمه الله:

وكنز لا تخاف عليه لصًّا .. خفيف الحمل يوجد حيث كنتَ

يزيد بكثرة الإنفاق منه .. وينقص إن به كفّا شددتَ


ومن اشتغل بالتعليم والإرشاد والإفادة بنيّة صالحة بورك له في علمه، ودفعه ذلك إلى الازدياد من العلم لكثرة ما يعرض له أحوال الناس وأسئلتهم التي تستدعي البحث والقراءة والنظر والتأمّل وسؤال أهل العلم.
فإذا وفّق طالب العلم لحسن التعليم والإرشاد مع التثبّت فيما يقول، والتحرّز من القول بغير علم، وادّعاء ما ليس عنده، ورُزق التواضع وصلاح القصد فإنّه يرجى له أن يوفّق لعلم كثير مبارك، وأن يدفع عنه اشتغاله بالتعليم والإفادة أعراض الفتور في طلب العلم.


13: ومما يعالج به الفتور: قراءة سير العلماء السابقين؛ ففيها فوائد جليلة من التثبيت والتبصير، والتعريف بعوارض الطريق وعوائقه، وسننه وابتلاءته، وعاقبة المتبصّرين الصابرين، وفيها تجديد للعزيمة، وإعلاء للهمة، وترقيق للقلب، ومداوة للنفس من كثير من العلل.
ولا يكاد يُبتلى طالب العلم بأمرٍ إلا وقد ابتلي بأعظم منه أئمةٌ من العلماء قبلَه؛ فينظر في أحوالهم، ويتبصّر بهديهم؛ وينتفع بأخبارهم وآثارهم ووصاياهم.

14: ومن أهمّ ما يعالج به الفتور: الحرص على أسباب التوفيق لتحصيل العلم والبركة فيه من بر الوالدين، وصلة الأرحام، والإحسان إلى الناس، ولا سيما الضعفاء والمساكين والجيران، وصدقة السر، وكثرة الاستغفار، ودوام الالتجاء إلى الله تعالى، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله تعالى على بصيرة؛ فكلٌّ ذلك من أسباب التوفيق التي ينبغي لطالب العلم أن يحرص عليها؛ وكم شوهد من فرق عظيم بين رجلين يدأبان في التحصيل العلمي مع فيتفاوتان كثيراً في بركة العلم والارتفاع به، وإذا فُتّش الأمر وُجدَ للمرتفع بالعلم نصيبٌ وافرٌ من هذه الأعمال التي يذكرها عنه من يعرف سيرته.

وليعلم طالب العلم أن مردّ الأمر كلّه إلى الله تعالى؛ فلا يكون شيء إلا بإذنه، ولا تنفع الأسباب إلا بعونه وتوفيقه؛ فليجتهد في التضرّع إليه، والتقرّب إليه بما يحبّ، وسؤاله العلم النافع، والعمل الصالح، والقلب الخاشع، واللسان الصادق؛ فمن استجيب له انتفع بما يُرشد إليه.

أسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم من أهل العلم والإيمان، وأن يصرف عنّا كيد الشيطان، وأن يقينا شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وأن يدخلنا في رحمة منه وفضل، وأن يهدينا إليه صراطًا مستقيمًا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آلهِ وصحبه أجمعين.