7 Oct 2016
الدرس الثالث: التذكير بصبر العلماء على طلب العلم
ومن ظن أنه ينالُ العلمَ
بلا مشقّة يكابدها، ولا دَأَبٍ على التحصيل، ولا احتمال لكثير من الأذى،
فهو تائِهٌ في أمانيه الباطلة، مغترّ بظنونه الكاذبة، وعزيمته الواهية،
بعيدٌ عن معرفة أحوال العلماء في تحصيله والقيام به ونشره، وما عانوه من
الشدائد والمصاعب حتى بلغوا ما شرّفهم الله به من الإمامة في الدين،
والمكانة العليّة في العلم.
وقد قال موسى عليه السلام في رحلته في طلب العلم: {لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَٰذَا نَصَبًا}.
وقال البخاريُّ في كتاب العلم من صحيحه: (باب الخروج في طلب العلم..
ورحل جابرُ بن عبد الله مسيرةَ شهرٍ إلى عبد الله بن أنيس في حديثٍ واحد)ا.هـ.
وَخَبَرُ هذه الرحلةِ
أخرجه الإمام أحمد في مسنده، والبخاري في الأدب المفردِ من طريق القاسم بن
عبد الواحد المكّي، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، أنه سمع جابر بن عبد
الله، يقول: بلغني حديثٌ عن رجل سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم
فاشتريتُ بعيراً، ثم شددتُ عليه رحلي، فسرتُ إليه شهرا، حتى قدمت عليه
الشام؛ فإذا عبد الله بن أنيس، فقلت للبواب: قل له: جابر على الباب؛ فقال
ابن عبد الله؟
قلت: نعم.
فخرج يطأ ثوبه؛ فاعتنقني واعتنقته.
فقلتُ: حديثا بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في القصاص؛ فخشيت أن تموت أو أموت قبل أن أسمعه.
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « يُحشَر الناس يوم القيامة - أو قال: العباد - عراة غرلا بهما ».
قال: قلنا: وما بُهْمَا؟
قال: « ليس معهم شيء، ثم
يناديهم بصوتٍ يسمعه من بَعُد كما يسمعه من قَرُب: أنا الملك، أنا
الدَّيَّان، ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النارَ وله عند أحدٍ من
أهل الجنة حقٌّ، حتى أقصّه منه، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة
ولأحد من أهل النار عنده حق حتى أقصّه منه حتى اللَّطمة ».
قال: قلنا: كيف وإنا إنما نأتي الله عز وجل عراة غرلا بهما؟
قال: « بالحسنات والسيئات »
فاحتمل جابرٌ رضي الله
عنه مشقّة السفر في ذلك الزمان على بعد المسافة، وخطر الطريق في الفيافي
الموحشة، ليطلب حديثاً واحداً ليس له غرض إلا أن يسمعه ممن سمعه من رسول
الله صلى الله عليه وسلم.
وروى الخطيب البغدادي في
"الرحلة في طلب الحديث" أن أبا أيّوب الأنصاري رضي الله عنه رحل من المدينة
إلى عقبة بن عامر الجهني في مصر ليسمع منه حديثاً واحداً.
وقال سعيد بن المسيّب: (إن كنت لأسير الأيّام واللّيالي في طلب الحديث الواحد). رواه الخطيب البغدادي في الرحلة في طلب الحديث.
وقال الحسن البصري: (رحلت إلى كعب بن عجرة من البصرة إلى الكوفة فقلت: ما كان فداؤك حين أصابك الأذى؟
قال: "شاةٌ"). رواه الخطيب البغدادي.
وقال أبو العالية الرياحي: (كنا نسمع الرواية بالبصرة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلم نرضَ حتى ركبنا إلى المدينة فسمعناها من أفواههم). رواه ابن سعد في الطبقات.
فلم يكتفوا بما بلغهم من
رواية بعض التابعين عن الصحابة مع إمكان سماعهم الحديث من الصحابة مشافهة
ولو اضطرّهم ذلك للسفر مسافات بعيدة جداً؛ ليستفيدوا التثبّت من صحّة ما
نقله الرواي، ويزدادوا علماً ومعرفة بجواب ما قد يشكل عليهم من ذلك.
وهذا الصبر والاجتهاد في
طلب العلم بعزيمة صادقة وثبات على المنهج الصحيح في تحصيل العلم ورعايته
أوصلهم بفضل الله تعالى إلى ما أوصلهم إليه؛ من الإمامة في الدين، ولسان
الصدق في المسلمين؛ وأورثهم فضلًا كبيرًا من الله عز وجل؛ إذْ جعلهم الله
عز وجل من حَفَظَةِ دينه وأُمَنَاء شريعته؛ يعلّمون الناس أحكام دينهم،
ويبيّنون لهم ما أنزل الله في كتابه من الهدى والبيّنات.
وقال يحيى ابن أبي كثير رحمه الله: «لا يستطاع العلم براحة الجسم» رواه الإمام مسلم في صحيحه.
قال أبو الحسن المدائني في كتاب الحكمة: (قيل
للشعبي: من أين لك هذا العلم كله؟!
قال: «بنفي الاعتماد، والسير في البلاد، وصبر كصبر الجماد، وبكور كبكور الغراب»). رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق.
وهذا إنما يكون بالحرص على طلب العلم والنهمة فيه، حتى يتحمّل طالب العلم ما يلاقيه من المشقة في تحصيله.
وكان شعبة رحمه الله يقول: « كم من عصيدةٍ فاتتني » رواه العقيلي في مقدّمته.
كان إذا سمع بمجلس حديث خرج إليه، ولم ينتظر نضج الطعام؛ من إيثاره لطلب العلم وتحصيله على ما تشتهيه نفسه من الطعام.
وقال داود بن مخراق: سمعت النضر بن شميل يقول: (لا يجد الرجلُ لذَّةَ العلم حتى يجوع وينسى جوعه). ذكره الذهبي في تاريخ الإسلام.
وهذا إنما يحصل للجادّين
في طلب العلم؛ فإنهم من شدة انهماكهم في طلبه، واستئناس نفوسهم به، واشتغال
أذهانهم بالفكرة في مسائله، قد يغفلون عن أنفسهم، وربما يجوع أحدهم
فيماطلُ نفسَه حتى ينسَى جوعَه.
وصبر العلماء على شدائد التحصيل، أمرٌ يطول الحديث عنه، وفيه قصص عجيبة.
وأُرشد في هذا الباب إلى
كتاب حسن الجمع والاختيار والترتيب للأستاذ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله،
عنوانه: "صفحات من صبر العلماء على شدائد التحصيل".
وقد ذكر في كتابه أخباراً
عجيبة عن صبر العلماء وما عانوه من الشدائد والأهوال، واحتمال الجوع وشدّة
الفاقة، وما أصاب بعضهم في رحلاتهم من نفاد الزاد وقلة النفقة، وتعرّض
قطّاع الطريق لهم، وما أصاب بعضهم من النكبات الشديدة من احتراق الكتب
وغَرَقِها، وغيرها من أنواع الابتلاءات التي كانت تمحيصاً لهم؛ فثبت أهلُ
العلم على طريق طلبه، ولم يَثْنِهم ما أصابهم عن طلب العلم، والدَأَبِ في
تحصيله.
قال بقيّ بن مخلد: (إني لأعرف رجلا كان يمضي عليه الأيام في وقت طلبه العلم، ليس له عيش إلا ورق الكرنب الذي يُرمى).
والظنّ أنه يعني نفسه،
فقد كان من الأعلام الذين لاقوا الشدائد في تحصيل العلم؛ وله في الصبر على
شدائد التحصيل أخبار عجيبة؛ فمنها أنه كان من أهل الأندلس فركب البحر إلى
المغرب الأقصى؛ ثم رحل سيراً على قدميه، من المغرب إلى مصر والحرمين والشام
والعراق وتنقّل بين البصرة والكوفة وواسط وبغداد مشياً على قدميه، وجمع
أكبر مسندٍ عرفه أهل العلم، وهو مسند بقيّ بن مخلد.
وقد روي عنه أنه قال: (سمعت من كل من سمعت منه في البلدان ماشياً إليهم على قدمي).
والقصص والأخبار في هذا
الباب كثيرة جداً، ويحسن بطالب العلم أن يكون له نصيب من القراءة في سير
العلماء، والتفكّر في أحوالهم وآثارهم، والاستفادة من قصصهم وأخبارهم،
ففيها عبر وفوائد عظيمة النفع لطلاب العلم.
والمقصود من التذكير بصبر
العلماء على شدائد التحصيل أن يَهُون على طالب العلم ما يلقاه من الشدّة
والمشقّة في طلب العلم إذا علم ما أصاب العلماء قبله، وأن يعلم أن الابتلاء
سنة ماضية، وأن يعلم أن للصبر على طلب العلم ثمراتٍ عظيمة؛ فهو من دلائل
الصدق في طلبه، وأسباب تحصيله ورسوخه ومعرفة قَدْره، وهو أيضاً من أعظم
أسباب البركة فيه، فكم من رحمة تنزّلت على طالب العلم بسبب صبره على ما
أصابه في سبيل الله وهو يطلب العلم إيماناً واحتساباً، وكم من بركة جعلها
الله في علمه لمّا صدق في طلبه وأخلص فيه لله تعالى.