7 Oct 2016
الدرس الثاني: التذكير بسنة الابتلاء وكيد الشيطان لطالب العلم
مما ينبغي أن يُعلم أن
الفضائل العظيمة التي جعلها الله تعالى لأهل العلم والإيمان قد جعل لها
ثمنًا جليل القدر؛ فلا تُنَال بالتمني، ولا بالدعاوى الباطلة، ولا بالعزائم
الواهية؛ وإنما تنال ببذل ثمنها، وسلعة الله غالية، يتميز ببذلها الصادق
من الكاذب، والمؤمن المصدّق من المنافق المكذّب، ويتميز بها القوي الأمين
من الضعيف المتردد.
وقد قال الله تعالى: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ}،
والعلم كذلك ينبغي لطالبه أن يأخذه بقوة، وأن َيُعِدّ له عدّته، وأن يبذل
له أغلى ما يملك، وأعزَّ أوقاته، وأنفسَ أمواله، وأن يجتهدَ له اجتهادًا
يليق بمطلوبه العظيم؛ حتى يظفر طالبُ العلم بما رُتِّبَ على طلب العلم من
الفضل العظيم.
ويجب أن يدرك طالب العلم في هذا طريق طلبه للعلم حقيقتين مهمتين:
·الحقيقة الأولى: سنة
الابتلاء؛ فكما أسلفت أن فضائل العلم والإيمان لا تدرك بالأماني، ولا
بالتشهي، وإنما يعترض طالبها من الابتلاء؛ ما يتميز به الصادق من الكاذب،
ومن يثبت ومن لا يثبت.
وهذا الابتلاء ليس
ابتلاءً اختياريًا؛ إن شاء العبد أن يدخل الابتلاءَ دخله، وإن لم يشأ لم
يدخله، فكلّ إنسان معرّضٌ للابتلاء، وأرفع الناس قدرًا، وأشرفهم وأفضلهم
مَن كان ابتلاؤه في أشرف الأمور وأفضلها.
والله عز وجل يبتلي عباده
بما يشاء، وكيف يشاء، لا اختيار للعبد في ذلك، وإنما على العبد أنه إذا
ابتلي أن يتبع هُدى الله عز وجل في ذلك البلاء الذي ابتلي به.
ومن توجَّهت عنايته، وسمت
همّته لطلب معالي الأمور، وطلب فضل العلم؛ فإنه قد يبتلي بما يناسب هذا
المطلوب العظيم؛ فإذا اتّبع هدى الله عز وجل، وصدق وصبر؛ فإنه يرجى له أن
يفتح له في العلم، وأن ينال به الفضل العظيم في الدنيا والآخرة، فإن مات
وهو في طريق طلبه للعلم، ولما يظهر للناس أنه قد حصّل علمًا كثيرًا؛ فإنَّ
أجرَه على الله عز وجل، وهذا عامّ في كلّ عمل صالح يشرع فيه المؤمن ثمّ
يموت ولم يستكمله، وهو صادق في السعي فيه فإنّ الله تعالى يكتب له عمله؛
كما قال الله تعالى: {وَمَنْ
يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ
يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}.
وقد قصصت في "بيان فضل
العلم" خبَر طالب العلم الذي مات في المدينة فرُئِيَت فيه تلك الرؤيا
العظيمة التي رواها الإمام مالك لتلميذه يحيى بن يحيى الليثي، وفيها أن
الله عز وجل قد شرّفه ورفع منزلته بطلبه للعلم، وأنه رفعت درجته حتى كان
بعد درجة الصحابة رضي الله عنهم، وهو قد مات في أوّل طلبه للعلم.
فإن من رحمة الله عز وجل،
وفضله العظيم؛ أنه يثيب على النيّة والعزيمة الصادقة من العبد، والله
تعالى ينظر إلى ما في قلوب الناس كما قال الله تعالى:{ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18)}
وقال: {
إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا
أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم».
فمن صدقت عزيمته في طلب
العلم رُجيَ له أن يبلّغه الله منازل العلماء، وإن مات في أوّل طلبه للعلم،
وهذا يفيد الطالب بأهميّة الصدق والجدّ في طلب العلم، وأن يسير فيه على
منهاج أهله، ولا يتعجّل التصدّر.
ويجب أن يتبيّن طالب العلم أنه معرّض في طريق طلبه للعلم لأنواع من الابتلاءات؛ وقد يعظم الابتلاء على بعض الطلاب، ويشتدّ على بعضهم في جوانب ويُخفّف عنهم في جوانب أخرى
والحكمة من هذا الابتلاء
تمييز الصادقين من الكاذبين، ومن يتّبع هدى الله تعالى ممّن يتّبع هوى
نفسه؛ فإذا ثبت طالب العلم واتّبع هدى الله عز وجل فيما يعرض له من البلاء؛
فإن الله عز وجل يهديه ويثبّته وينصره، ويضمن له أن لا يضّل، ولا يشقى،
ولا يخاف، ولا يحزن؛ وهذه البشارات عظيمة يُعطاها من صدق في اتباع هدى الله
عز وجل؛ كما قال الله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)}
وقال تعالى: { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)}
وقال تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}
وقال تعالى: {
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ
الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)}
وأعظم الجهاد جهاد النفس والشيطان.
وقال تعالى: {
أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا
يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ
(3)}
وهذه الآيات وما في معناها من دلائل ابتلاء
الله تعالى لعباده المؤمنين، وطلاب العلم لهم نصيبهم من هذا الابتلاء؛ فمن
اتّبع هدى الله وصدق وثبت رجي له أن يهديه الله ويسدّده ويوفّقه.
والحقيقة الثانيةالتي
ينبغي لطالب العلم أن يدركها وأن يكون على بصيرة منها، ومعرفة بخطرها
وآثارها، هي أن هذه الفضائل العظيمة لطلب العلم قد جُعل له دونها عدوٌّ
يكيده كيدًا عظيمًا ليحرمَه من الفوز بها، وهو الشيطان الرجيم، وهو عدوّ لا
تراه العين، لكنّه مصاحب للإنسان عند كلّ شيء من شأنه، كما في صحيح مسلم
من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه
وسلم يقول: « إن الشيطان يحضر أحدكم عند كل شيء من شأنه»
وقد حذّرنا الله تعالى من عداوة الشيطان وكيده، وأمرنا أن نتّخذه عدوّا؛ قال الله تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)}.
وحذّرنا الله من اتّباع خطواته فقال تعالى: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}
فالشيطان يتعرض لطلاب
العلم بأنواع من الحيل والمكائد، ويزيّن لهم الوقوع فيما يفسد عليهم
أعمالهم ومقاصدهم، ويحرفهم من الصراط المستقيم؛ ليسلكوا سبيلاً من سبل
الضلالة؛ فيجب على طالب العلم أن يكون على حذر من ذلك.
وتعرّض الشيطان لطلاب العلم والمقبلين على عبادة الله تعالى أكثر من تعرّضه لغيرهم.
قال شيخ الإسلام بن تيمية
رحمه الله تعالى: (الشيطان يكثر تعرّضُه للعبد إذا أراد الإنابة إلى ربّه
والتقرّب إليه والاتصال به؛ فلهذا يعرض للمصلّين ما لا يعرض لغيرهم، ويعرض
لخاصّة أهل العلم والدّين أكثر مما يعرض للعامّة، ولهذا يوجد عند طلاب
العلم والعبادة من الوساوس والشبهات ما ليس عند غيرهم؛ لأنه لم يسلك شرع
الله ومنهاجه؛ بل هو مقبل على هواه في غفلة عن ذكر ربه. وهذا مطلوب الشيطان
بخلاف المتوجهين إلى ربهم بالعلم والعبادة؛ فإنه عدوّهم يطلب صدَّهم عن
الله، قال تعالى: {إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا}.
ولهذا أمر قارئ القرآن أن
يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم فإن قراءة القرآن على الوجه المأمور به
تورث القلب الإيمان العظيم وتزيده يقينا وطمأنينة وشفاء. وقال تعالى:
{وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا}
وقال تعالى: {هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين} وقال تعالى {هدى
للمتقين} وقال تعالى: {فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم
يستبشرون})ا.هـ.
والمقصود من التنبيه على
هذه الحقيقة؛ أن هذه العداوة من الشيطان لها آثارها، ولها مظاهرها، ولها
صورها، ومن تأمل ما يصيب بعض طلاب العلم من الفتور، وجد كثيراً منه بسبب
كيد الشيطان، وعلل النفس الخفية.
والمقصود من هذا الفصل التذكير بهاتين الحقيقتين العظيمتين، وبيان أثرهما على طالب العلم في طريق طلبه، فإذا
سَلِمَ طالبُ العلمِ من كيد عدوه، ودفعه بما أمر الله عز وجل به، وثبت في
الابتلاء؛ حصلت له – بإذن الله تعالى - تلك الفضائل العظيمة التي جعلها
الله لأهل العلم.