الدروس
course cover
عشرة أسباب لانشراح الصدر
14 Feb 2015
14 Feb 2015

4890

0

0

course cover
عشريات ابن القيّم

القسم الثاني

عشرة أسباب لانشراح الصدر
14 Feb 2015
14 Feb 2015

14 Feb 2015

4890

0

0


0

0

0

0

0

عشرة أسباب لانشراح الصدر


قال 
ابن القيم رحمه الله في "زاد المعاد": (فصل: فى أسباب شَرْحِ الصّدورِ، وحصولِها على الكمالِ له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

- فأعظم أسباب شرح الصدر: التوحيدُ وعلى حسب كماله، وقوته، وزيادته يكونُ انشراحُ صدر صاحبه، قال الله تعالى: {أَفَمَن شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّنْ رَبِّه} [الزمر: 22]. وقال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلاَمِ، وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى السَّمَاءِ} [الأنعام: 125].
- فالهُدى والتوحيدُ مِن أعظم أسبابِ شرح الصدر، والشِّركُ والضَّلال مِن أعظم أسبابِ ضيقِ الصَّدرِ وانحراجِه.
- ومنها: النورُ الذى يقذِفُه الله فى قلب العبد، وهو نورُ الإيمان، فإنه يشرَحُ الصدر ويُوسِّعه، ويُفْرِحُ القلبَ؛ فإذا فُقِدَ هذا النور من قلبِ العبدِ، ضاقَ وحَرِجَ، وصارَ فى أضيقِ سجنٍ وأصعبه.
وقد روى الترمذى فى جامعه عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه قال: (( إذا دَخَلَ النور القلبَ، انْفَسَحَ وانشرحَ )).
قالوا: وما عَلاَمَةُ ذَلِكَ يَا رسُولَ اللهِ؟ قال: (( الإنَابَةُ إلى دارِ الخُلُودِ، والتَجَافِى عَنْ دَارِ الغُرُورِ، والاسْتِعْدادُ للمَوْتِ قَبْلَ نُزوله )).
فيُصيب العبد من انشراح صدْرِه بحسبِ نصيبِه من هذا النُّورِ، وكذلكَ النورُ الحِسِّى، والظلمةُ الحِسِّية، هذه تشرحُ الصدْر، وهذه تُضيِّقه.

- ومنها: العلم، فإنه يشرح الصدر، ويوسِّعه حتى يكون أَوسعَ من الدنيا، والجهلُ يورثه الضِّيق والحَصْر والحبس، فكلما اتَّسع علمُ العبد، انشرح صدره واتسع، وليس هذا لكل عِلم، بل للعلم الموروث عن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو العلمُ النافع، فأهلُه أشرحُ الناس صدراً، وأوسعهم قلوباً، وأحسُنهم أخلاقاً، وأطيبُهم عيشاً.
- ومنها: الإنابةُ إلى الله سبحانه وتعالى، ومحبتُه بكلِّ القلب، والإقبالُ عليه، والتنعُّم بعبادته، فلا شيءَ أشرحُ لصدرِ العبدِ من ذلك؛ حتى إنه ليقولُ أحياناً: إن كنتُ فى الجنة فى مثل هذه الحالة، فإني إذاً فى عيش طيب، وللمحبة تأثيرٌ عجيبٌ فى انشراح الصدر، وطيبِ النفس، ونعيم القلب، لا يعرفه إلا مَن أحسَّ به، وكلَّما كانت المحبَّة أقوى وأشدَّ، كان الصدرُ أفسحَ وأشرحَ، ولا يَضيق إلا عند رؤية البطَّالين الفارِغين من هذا الشأن، فرؤيتُهم قَذَى عينِه، ومخالطتُهم حُمَّى روحه.
ومِنْ أعظم أَسباب ضيق الصدر: الإعراضُ عن الله تعالى، وتعلُّقُ القلب بغيره، والغفلةُ عن ذِكره، ومحبةُ سواه، فإن مَن أحبَّ شيئاً غيرَ الله عُذِّبَ به، وسُجِنَ قلبُه فى محبة ذلك الغير، فما فى الأرض أشقى منه، ولا أكسف بالاً، ولا أنكد عيشاً، ولا أتعب قلباً، فهما محبتان: محبة هى جنة الدنيا، وسرور النفس، ولذةُ القلب، ونعيم الروح، وغِذاؤها، ودواؤُها، بل حياتُها وقُرَّةُ عينها، وهى محبةُ الله وحدَه بكُلِّ القلب، وانجذابُ قوى الميل، والإرادة، والمحبة كلِّها إليه.
ومحبةٌ هى عذاب الروح، وغمُّ النفس، وسِجْنُ القلب، وضِيقُ الصدر، وهى سببُ الألم والنكد والعناء، وهى محبة ما سواه سبحانه.
- ومن أسباب شرح الصدر: دوامُ ذِكرِه على كُلِّ حال، وفى كُلِّ موطن، فللذِكْر تأثير عجيبٌ فى انشراحِ الصَّدْرِ، ونعيم القلبِ، وللغفلةِ تأثيرٌ عجيبٌ فى ضِيقِه وحَبْسِه وعذابه.
- ومنها: الإحسانُ إلى الخَلْق ونفعُهم بما يمكنه من المال والجاهِ والنفع بالبدن، وأنواع الإحسان؛ فإن الكريمَ المحسنَ أشرحُ الناس صدراً، وأطيبُهم نفساً، وأنعمُهم قلباً، والبخيلُ الذى ليس فيه إحسان أضيقُ الناسِ صدراً، وأنكدُهم عيشاً، وأعظمُهم همَّاً وغمَّاً.
وقد ضربَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الصحيح مثلاً للبخيلِ والمتصدِّق، كمَثَل رَجُلينِ عليهما جُبَّتانِ مِنْ حديدٍ، كلَّما هَمَّ المُتَصَدِّقُ بصَدَقَةٍ، اتَّسَعتْ عليهِ وانبسَطَتْ، حتَّى يَجُرَّ ثيابَهُ وَتعفّيَ أثَرهُ، وكلما همَّ البخيلُ بِالصَّدَقَةِ، لَزِمَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا، وَلَمْ تَتَّسِعْ عَلَيْهِ.
فهذا مَثَلُ انشِراحِ صدر المؤمن المتصدِّق، وانفساح قلبه، ومثلُ ضِيقِ صدر البخيل وانحصارِ قلبه.
- ومنها: الشجاعة، فإنَّ الشجاعَ منشرحُ الصدر، واسع البِطَان، متَّسِعُ القلبِ، والجبانُ: أضيقُ الناس صدراً، وأحصرُهم قلباً، لا فرحةَ له ولا سرور، ولا لذَّةَ له، ولا نعيمَ إلا منْ جنس ما للحيوانِ البهيميِّ، وأما سرورُ الرُّوحِ ولذَّتُها ونعيمُها وابتهاجُها، فمحرَّمٌ على كل جَبانٍ، كما هو محرَّم علِى كل بخيلٍ، وعلى كُلِّ مُعرِضٍ عن الله سبحانه، غافلٍ عن ذِكرِه، جاهلٍ به وبأسمائه تعالى وصفاته ودِينه، متعلِّق القلبِ بغيره.
وإنَّ هذا النعيمَ والسرورَ يصير فى القبرِ رياضاً وجَنة، وذلك الضيقُ والحصر ينقلبُ فى القبر عذاباً وسجناً؛ فحال العبد فى القبر. كحال القلب فى الصدر، نعيماً وعذاباً وسجناً وانطلاقاً، ولا عبرةَ بانشراح صدر هذا لعارض، ولا بضيق صدرِ هذا لعارض، فإن العوارِضَ تزولُ بزوال أسبابها، وإنما المعوَّلُ على الصِّفة التى قامت بالقلب تُوجب انشراحه وحبسه، فهى الميزان.. والله المستعان.

- ومنها بل من أعظمها: إخراجُ دَغَلِ القَلْبِ من الصفات المذمومة التى تُوجب ضيقه وعذابه، وتحولُ بينه وبين حصول البُرء، فإن الإنسان إذا أتى الأسباب التى تشرحُ صدره، ولم يُخرِجْ تلك الأوصافَ المذمومة من قلبه، لم يحظَ مِن انشراح صدره بطائل، وغايته أن يكون له مادتان تعتوِرَانِ على قلبه، وهو للمادة الغالبة عليه منهما.
- ومنها: تركُ فضولِ النظر، والكلام، والاستماع، والمخالطةِ، والأكل، والنوم، فإن هذه الفضولَ تستحيلُ آلاماً وغموماً، وهموماً فى القلب، تحصُرُه، وتحبِسه، وتضيِّقهُ، ويتعذَّبُ بها، بل غالِبُ عذابِ الدنيا والآخرة منها، فلا إله إلا اللهُ ما أضيقُ صدَر مَن ضرب فى كل آفةٍ من هذه الآفات بسهم، وما أنكَدَ عيشَه، وما أسوأ حاله، وما أشدَّ حصرَ قلبه، ولا إله إلا الله، ما أنعمَ عيشَ مَنْ ضرب فى كل خَصلةٍ من تلك الخصال المحمودة بسهم، وكانت همتُّه دائرةً عليها، حائمةً حولها، فلهذا نصيب وافر مِنْ قوله تعالى: {إنَّ الأَبْرَارَ لَفِى نَعِيم} [الانفطار: 13] ولذلك نصيب وافر من قوله تعالى: {وإنَّ الفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ} [الانفطار: 14] وبينهما مراتبُ متفاوتة لا يُحصيها إلا الله تبارك وتعالى.
والمقصود: أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان أكملَ الخلق فى كلِّ صفة يحصُل بها انشراحُ الصدر، واتِّساعُ القلب، وقُرَّةُ العين، وحياةُ الروح، فهو أكملُ الخلق فى هذا الشرح والحياة، وقُرَّةِ العين مع ما خُصَّ به من الشرح الحِسِّىِّ،
وأكملُ الخلق متابعة له، أكملُهم انشراحاً ولذَّة وقُرَّة عين، وعلى حسب متابعته ينالُ العبد من انشراح صدره وقُرَّة عينه، ولذَّة روحه ما ينال، فهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى ذُروة الكمال مِن شرح الصدر، ورفع الذِكْر، ووضع الوِزْر، ولأتباعه من ذلك بحسب نصيبهم من اتِّباعه.. والله المستعانُ.
وهكذا لأتباعه نصيبٌ من حفظ الله لهم، وعصمتِه إياهم، ودفاعِه عنهم، وإعزازه لهم، ونصرِه لهم، بحسب نصيبهم من المتابعة، فمستقِلُّ ومستكثِر، فمَن وجد خيراً، فليحمد الله. ومَن وجد غير ذلك، فلا يلومنَّ إلا نفسه).