1 Nov 2008
ق3: عند التزاحم تقدم أعلى المصلحتين وترتكب أدنى المفسدتين
قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): (فـَإِنْ تـَزَاحـَمْ عَدَدُ الْمَصَالِحِ = يـُقـَدَّمُ الأَعْلَى مـِنَ الْمَصَالِح
وَضـِدُّهُ تــَزَاحــُمُ الـمـَفـَاسِدِ = يُرْتَكَبُ الأَدْنَى مِنَ الْمَفَاسِدِ).
شرح الشيخ: عبد الرحمن بن ناصر السعدي
قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): ( (13) إِذَا دارَ الأَمْرُ بينَ فعلِ إحدى المصلحتيْنِ وتفويتِ الأُخْرَى، بحيثُ لا يمكنُ الجمعُ بينهُمَا، رُوعِيَ أَكبرُ المصلحتيْنِ وأَعلاهُمَا فَفُعِلَتْ.
فإِنْ كانتْ إحدى المصلحتيْنِ واجبةً،
والأُخْرى سُنَّةً، قَدَّمَ الوَاجبَ على السُّنَّةِ، وهذَا مثلُ: إِذَا أُقيمتِ الصَّلاةُ الفريضةُ، لمْ يَجُزِ ابْتداءُ التَّطَوُّعِ، وكذَا إذَا ضاقَ الوقْتُ، وكذلك لا يجوزُ نفلُ الصِّيامِ، والحجِّ، والعمرةِ، وعليْهِ فرْضٌ، بلْ يُقَدَّمُ الفَرْضُ.
وإِنْ كانتِ المَصْلَحَتَانِ واجبتيْنِ، قدَّمَ أَوْجَبَهُمَا، فَيُقَدِّمُ صلاةَ الفَرْضِ، على صلاةِ النَّذْرِ، وكالنَّفَقَةِ اللاَّزِمةِ للزَّوجاتِ، والأَقاربِ، والمماليكِ، تُقَدَّمُ الزَّوْجَاتُ، ثُمَّ المماليكُ، ثُمَّ الأَولادُ، ثُمَّ الأَقْرَبُ فالأَقْرَبُ، وكذَا صدقةُ الفطرِ.
وإِنْ
كانتِ المصلحتانِ مسنونتيْنِ،قَدَّمَ أَفْضَلَهُمَا فتُقَدَّمُ الرَّاتبةُ
على السُّنَّةِ، والسُّنَّةُ على النَّفْلِ المطلقِ، ويُقَدَّمُ ما فيهِ
نفعٌ متعدٍّ، كالتَّعليمِ وعيادةِ المريضِ، واتِّباعِ الجنائِزِ، ونحوِهَا
على ما نفعُهُ قاصرٌ، كالصَّلاةِ النَّافِلَةِ، والذِّكْرِ، ونحوِهَا. وتُقَدَّمُ الصَّدَقَةُ، والبِرُّ للقريبِ على غيْرِهِ، ويُقَدَّمُ مِنْ عِتْقِ الرِّقاب أغْلاهَا وأَنْفَسُهَا. ولكنْ
ها هنَا أمرٌ ينبغي التَّفَطُّنُ لهُ، وهوَ أنَّهُ قدْ يَعْرضُ للعملِ
المفضولِ منَ العوارِضِ ما يكونُ به أفضلَ منَ الفاضِلِ، بسببِ اقترانِ ما
يوجبُ التَّفضيلَ. والأَسبابُ الموجبةُ للتَّفضيلِ أشياءُ: منْهَا:
أَنْ يكونَ العملُ المفضولُ مأْمُوراً بهِ بخصوصِ هذَا الموْطِنِ،
كالأَذْكارِ في الصَّلاةِ وانتقالاتِهَا، والأَذكارِ بعدَهَا، والأَذكارِ
الموظَّفَةُ بأَوقاتِهَا، تكونُ أفضلَ منَ القراءَةِ في هذِهِ المواطِنِ. ومنَ الأَسبابِ الموجبةِ للتَّفْضِيلِ:أَنْ
يكونَ العملُ المفضولُ مشتملاً على مصلحةٍ لا تكونُ في الفاضِلِ، كحصولِ
تأْليفٍ بِهِ أَوْ نفعٍ مُتَعَدٍّ لا يحصلُ بالفاضِلِ، أَوْ يكونَ في
العملِ المفضولِ دفعُ مفسدةٍ يُظَنُّ حصولُهَا في الفاضِلِ. ومنَ الأسْبَابِ الموجبةِ للتَّفضيلِ:أَنْ
يكونَ العملُ المفضولُ أَزيدَ مصلحةً للقلبِ منَ الفاضِلِ، كمَا قالَ
الإمامُ أَحمدُ رحمهُ اللهُ لمَّا سُئِلَ عنْ بعضِ الأعمالِ: (انْظُرْ إلى
مَا هُوَ أَصْلَحُ لقلبِكَ فافْعَلْهُ). فهذِهِ الأَسبابُ تُصيِّرُ العملَ المفضولَ أفضَلَ منَ الفَاضِلِ، بسببِ اقترانِهَا بهَا. (14) المفاسدُ: - إِمَّامحرَّماتٌ. - أَوْ مكروهاتٌ. كمَا أَنَّ المصالِحَ: - إمَّا واجباتٌ. - أَوْ مستحبَّاتٌ. فإِذَا
تزاحمتِ المفاسدُ بأَنْ اضْطُرَّ الإنسانُ إلى فعلِ إحداهمَا؛ فالواجبُ
أَنْ لا يرتكبَ المفسدَةَ الكُبْرَى، بلْ يفعلُ الصُّغْرى، ارتكاباً
لأَهونِ الشَّرَّيْنِ، لدفعِ أَعْلاهُمَا. فإِنْ كانتْ إحدى المفسدتيْنِ حراماً والأُخرى مكروهةً: قَدَّمَ
المكروهَ على الحرامِ، فيقدِّمُ الأَكلَ منَ المشتبهِ على الحرامِ
الخالصِ، وكذلكَ يقدِّمُ سائرَ المكروهاتِ على المحرَّماتِ. وإنْ كانتِ المفسدتانِ حراميْنِ: قَدَّمَ أخفَّهُمَا تحريماً، وكذَا إذَا كانتَا مكروهتيْنِ قَدَّمَ أَهونَهُمَا. ومراتبُ المحرَّماتِ والمكرُوهاتِ في الصِّغرِ والكبرِ تستدعي بسْطاً كثيراً لاَ يُمكنُني ضَبْطُهَا).
روضة الفوائد ، لفضيلة الشيخ : مصطفى مخدوم
قال الشيخ مصطفى بن كرامة الله مخدوم: ( (13) (التَّزاحُمُ): هو التَّعارُضُ بينَ أمرين بحيث لا يمكنُ الجمعُ بينَهما.
والمعنى: أن المصلحتَيْن إذا تعارَضَتا بحيث لم يمكنِ الجمعُ بينَهما بفعلِ الجميعِ، فيُؤْخَذُ بأعلاهما، ولو أدَّى إلى تفويتِ أدْناهما.
فإذا تعارَض واجبان،ولم يمكنِ الإتيانُ بهما فيُعْمَلُ بأوجبِهما، كمثلِ الزَّوجةِ إذا تعارَض في حقِّها أمرُ زوجِها وأمرُ أبويها، فتَعْملُ بأمرِ الزَّوجِ؛ لأن طاعتَه آكَدُ وأوجبُ.
وإذا تعارَض واجبٌ ومندوبٌ،ولم يمكنِ القيامُ بهما جميعاً، فيُؤْخَذُ بالواجبِ، ولو أدَّى إلى تفويتِ المندوبِ، كما لو أُقِيمت الصَّلاةُ المفروضةُ فلا يَشْرَعُ في النَّافلةِ، أو ضاق الوقتُ عن أداءِ الفريضةِ والنَّافلةِ فتُؤَدَّي الفريضةُ.
وإذا تعارَضت سنَّتان، فيُؤْخَذُ بالأوكدِ منهما. وإذا تعارَضَت مصلحتان عامَّةٌ وخاصَّةٌ،فتقدَّمُ المصلحةُ العامَّةُ؛ لأنها آكَدُ. (14)
يعني: أن المفاسدَ إذا تعارَضَت بحيث لابدَّ من وقوعِ المكلَّفِ في بعضِها،
فيرتكبُ المكلَّفُ أدنى المفاسدِ وأقلَّها، ويدفعُ أعلاها وأقْواها. مثالُ ذلك: أن
يتعارَضَ محرَّمٌ ومكروهٌ، فيفعلُ المضطرُّ المكروهَ، ولا يفعلُ
المحرَّمَ، كما لو اضْطُرَّ إلى أكلِ الرِّبا أو المالِ المُشْتَبَهِ فيه،
فيأكُلُ من المُشْتَبَهِ فيه. ولو تعارض محرَّمان، أحدُهما متَّفقٌ على تحريمِه، والآخرُ مختلَفٌ فيه،فيرتكبُ المضطرُّ الثانيَ دونَ الأوَّلِ. ولو تعارض مكروهان،فيرتكبُ المضطرُّ أدناهما كراهةً، وعلى هذا فقِسْ. ويدلُّ لذلك قصةُ الخَضِرِ
عليه السَّلامِ والسَّفينة، فقد تعارَضَت مفسدتان؛ أخْذُ الملكِ
للسَّفينِة، أو خَرْقُها مع بقائِها في يدِ المساكينِ، فاختار خرقَ
السَّفينِة؛ لأنه أهونُ ضررًا، وأقلُّ مفسدةً. وكذلك النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم لم يُقِمْ حدَّ القَذْفِ على عبدِ اللهِ بنِ أُبَيٍّ بنِ سَلُولَ في
حادثةِ الإفْكِ، مع أنه الذي توَلَّي كِبْرَها، وهذا مفسدةٌ، ولكنَّها
كانت أقلَّ ضررًا، وأدنى مفسدةً من مفسدةِ الفتنةِ العظيمةِ التي كان يمكنُ
أن تَقَعَ بالمدينةِ عندَ إقامةِ الحدِّ عليه؛ لأنه كان رجلاً متبوعاً،
وله شوكةٌ. وهذا أمرٌ مركوزٌ عندَ العقلاءِ، كما قيل:
إنَّ الـلــَّبـيبَ إذا بـدا مِن جسمِه مرضان مختلفان داوَى الأخْطَرَا
وبِقيَت صورةٌ ثالثةٌ لم يَذْكُرْها النَّاظمُ، وهي تعارُضُ المصالحِ بالمفاسدِ، والحكمُ فيها أن المعتبرَ هو الأرجحُ منهما، فإن كانت المصلحةُ هي الأرجحَ فيُباشِرُ الفعلَ، وإن كانت المفسدةُ هي الأرجحَ فيتركُ الفعلَ.
ويشهدُ لهذا الحديثُ الصحيحُ: ((لَوْلا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُو عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ لَهَدَمْتُ الْكَعْبَةَ وَلَبَنَيْتُهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ)). فبناءُ
الكعبةِ على قواعدِ إبراهيم مصلحةٌ، ولكنَّ افتتانَ الضُّعفاءِ وتشهيرَ
الأعداءِ مفسدةٌ راجحةٌ على تلك المصلحةِ، فترَكه النَّبيُّ صلَّى الله
عليه وسلَّم.
وأما إذا تساوَت المصلحةُ والمفسدةُ،ولم تَرْجَحْ إحداهما، فدرءُ المفاسدِ مقدَّمٌ على جلبِ المصالحِ؛ لأن عنايةَ الشارعِ بتركِ المنهياتِ آكَدُ من عنايتِه بفعلِ المأموراتِ، كما في الحديثِ: ((إذا أمَرْتُكم بشيءِ فأْتُوا منه ما اسْتَطَعْتُم، وإذا نهَيْتُكم عن شيءٍ فاجْتَنِبوه)).
ودرءُ المفسدةِ كرأسِ المالِ، وجلبُ المصلحةِ كالرِّبحِ، والمحافظةُ على رأسِ المالِ أولى من المحافظةِ على الربحِ).
العناصر
شرح قول الناظم:
فإن تزاحم عدد المصـالح نقدم الأعلى من المصالح
وضده تزاحم المفاســد يرتكب الأدنى من المفاسد
القاعدة التي تضمنتها الأبيات:
القاعدة : ترتكب أدنى المفسدتين لدرء أعلاهما، وتقدم أعلى المصلحتين على أدناهما
القاعدة الثانية: ترتكب أدنى المفسدتين لدرء أعلاهما،
وتقدم أعلى المصلحتين على أدناهما
أولاً: تزاحم المصالح:
شرح قول الناظم: فإن تزاحم عدد المصالح يقدم الأعلى من المصالح
شرح القاعدة
أدلة القاعد من الكتاب والسنة
أهمية القاعدة:
باب سد الذرائع مقرر على هذه القاعدة
الترجيح عند الفقهاء والأصوليين مبني على مراعاة تفاوت رتب المصالح والمفاسد
أنواع المصالح من جهة حكمها:
النوع الأول: مصلحة واجبة وجوباً عينياً
مثاله: الصلوات المفروضة
النوع الثاني: مصلحة واجبة وجوباً كفائياً
مثاله: غسل الميت
النوع الثالث: مصلحة مستحبة
مثاله: نوافل العبادات
مراتب المصالح:
المرتبة الأولى: المصالح الضرورية
ضابط المصالح الضرورية: ما أدى فوتها إلى هلاك أو تلف عضو أو فوات السعادة في الآخرة
مثال المصالح الضرورية: مصلحة الدين، ومصلحة النفس
المصالح الضرورية مقدمة على المصالح الحاجية
مراتب المصالح الضرورية (الضرورات الخمس)
المرتبة الثانية: المصالح الحاجية
ضابط المصالح الحاجية: هي التي يؤدي فقدها إلى الضيق والحرج
مثال المصالح الحاجية: الرخص الشرعية، وعقود المعاملات
المصالح الحاجية مقدمة على المصالح التحسينية
المرتبة الثالثة: المصالح التحسينية
أنواع المصالح من حيث تحققها:
النوع الأول: مصالح يقينية
النوع الثاني: مصالح ظنية
المصالح القطعية مقدمة على المصالح الظنية
القطع والظن على مراتب متفاوتة
أمثلة تطبيقية للقاعدة
المثال الأول: المنفعة المتعدية مقدمة على المنفعة القاصرة
تعليم العلم مقدم على صلاة النافلة
المثال الثاني: المصلحة الخاصة مقدمة على المصلحة العامة في محل الخصوص
يعمل بالمصلحة العامة فيما عداه
قراءة القرآن أفضل الذكر، لكن أذكار طرفي النهار في وقتها مقدمة
مثال3: الفضيلة المتعلقة بنفس العبادة أولى من الفضيلة المتعلقة بظرفها
الرمل في طواف القدوم مع البعد عن البيت أولى من القرب مع عدم الرمل
تنبيه: قد يقترن بالعمل المفضول ما يجعله فاضلاً
ثانياً: تزاحم المفاسد
شرح قول الناظم: وضـده تزاحم المفاسد يُرتكب الأدنى من المفاسد
معنى تزاحم المفاسد: أن يضطر الإنسان لفعل أحدها
شرط جواز ارتكاب المفسدة الأدنى: ألا يتمكن من ترك المفسدتين جميعاً
الاستدلال للقاعدة:
قال تعالى: (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه)
ارتكبت مفسدة الأكل من الميتة لدرء ما هو أعظم منها وهو مفسدة تلف النفس
أقسام المفاسد من حيث حكمها:
القسم الأول: مفاسد محرمة
المفاسد المحرمة متفاوتة منها كبائر ومنها صغائر
ترتكب المفسدة الأخف تحريماً لدرء المفسدة الأشد تحريماً
مثال: صلاة العريان جالساً
القسم الثاني: مفاسد مكروهة
ترتكب المفسدة الأخف كراهة لدرء المفسدة الأشد كراهة
تطبيقات القاعدة:
ترتكب المفسدة الأدنى لدرء المفسدة الأعلى
ترتكب المفسدة المكروهة لدرء المفسدة المحرمة
المفسدة القاصرة أخف من المفسدة المتعدية
قاعدة: (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح)
دليل القاعدة:
قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه)
أمثلة القاعدة:
مثال1: ترك مصلحة المبالغة في الاستنشاق للصائم خشية مفسدة الفطر
مثال2: تحريم أكل الحيوان المتولد من مأكول وغير مأكول، كالبغل
مثال3: لو اشتبهت أخته بأجنبية حرمتا
مثال4: هجرة المرأة بدون محرم مقدمة على الإقامة مع الفتنة في الدين
تنبيه: محل هذه القاعدة إذا تساوت المفاسد والمصالح
إذا كانت المصلحة أعظم من المفسدة قدمت المصلحة
مثال1: فاقد الطهورين يصلي بلا طهور، لأن مصلحة الصلاة أعظم
مثال2: السمع والطاعة لولاة الجور والظلم
الأسئلة
س1: ما معنى تزاحم المصالح؟ وما الموقف الشرعي منه؟
س2: ما معنى سد الذرائع؟
س3: عدد مع التمثيل مراتب المصالح؟
س4: ما هي شروط جواز ارتكاب المفسدة الأول؟
س5: اذكر طرق الموازنة بين المصالح، وطرق الموازنة بين المفاسد؟
شرح الشيخ: سعد بن ناصر الشثري (مفرغ)
القارئ: (فإن تزاحم عدد المصالحِ يـُقدَّم الأعلى من المصالح)
قال الشيخ سعد بن ناصر الشثري: (هذه قاعدة (تزاحم المصالح)، والمراد بهذه القاعدة إذا لم يتمكن العبد من فعل إحدى المصلحتين إلا بتفويت الأخرى فماذا يعمل حينئذٍ؟ ذكر المؤلف بأنه يُرجِّح بين المصالح، فيفعل المصلحة العظمى ولو كان في سبيل ذلك تركٌ للمصلحة الأقل، وهذه قاعدة في الشريعة مقررةٌ بعددٍ من الآيات والأحاديث.
- منها قول الله عز وجل: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم}.
- ومنها قوله جل وعلا: {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}، وأحسنه يرجع إلى القول، فإذا تزاحمت المصالح التي يكون فيها تحقيق لأحكام من أحكام الشريعة؛ فإننا نتبع الأحسن. وباب سد الذرائع مقررٌ على هذه القاعدة. وقد بنى الفقهاء باب الترجيح في كتبهم الأصولية للنظر فيما هو الأعلى من المصالح وما هو الأقل والأدنى. فمثلاً: إذا نظرنا في الأفعال نجد أن بعضها يتعدى نفعه إلى الغير، وبعضه قاصر يقتصر على الفاعل، ولا شك أن الفعل المتعدي نفعه للغير أولى من الفعل القاصر،
ولذلك فإن تعليم العلم أفضل من صلاة النافلة لكون النفع هنا متعدياً إلى
الغير، ولذلك الفعل الواجب أولى من الفعل المستحب المسنون، كما ورد في
الحديث عند البخاري: ((ما تقرب العباد إلي بمثل ما افترضت عليهم)). ومن هنا فمن دخل المسجد، والصلاة الفريضة قد أقيمت قدم الفريضة على تحية المسجد وعلى النافلة؛ نافلة الفجر وغيرها من النوافل. ومن القواعد في الترجيح بين المصالح أنهم قالوا: إن المصلحة الخاصة مقدمة على المصلحة العامة في محل الخصوص،
ويعمل بالمصلحة العامة فيما عداه،ويمثلون لذلك بقراءة القرآن، قالوا: هذا
فيه مصلحة وهو أفضل الذكر، ولكن في المحالِّ الخاصة يقدم عليها الذكر
الخاص، مثل أذكار الصلوات، وأذكار بعد الصلوات، وأذكار الصباح والمساء،
فهذه يقدم فيها الذكر الخاص في محل الخصوص، وتبقى المصلحة العامة مقدمة في
غير محل الخصوص. ومن ذلك قولهم أيضاً: إن الفضيلة المتعلقة بنفس العبادة أولى من الفضيلة المتعلقة بظرفها، سواء الظرف الزماني أو المكاني، ويمثلون لذلك بفروع عديدة. منها في
باب الطواف قالوا: الرَّمَل في طواف القدوم مستحب متعلقٌ بذات [عبادة]
الطواف، والقرب من البيت مستحب [و] متعلقٌ بمكان العبادة، فإذا لم يتمكن من
الرَّمَل إلا بالابتعاد عن البيت فحينئذٍ يُقدِّم الفضيلة المتعلقة بذات
العبادة على الفضيلة المتعلقة بمكانها. وقواعد
الترجيح بين المصالح عديدة، وقد تتعارض بأن يوجد في أحد الفعلين عدد من
المصالح، وفى الآخر كذلك عدد من المصالح الراجحة، فحينئذٍ يحتاج إلى باب
الترجيح، وباب الترجيح معمول به في الشريعة. إذا تقرر ذلك؛فإن
المصالح منها ما هو ضروري، [و] لو فقد لأدى فقده إلى فوات حياةٍ، أو فوات
السعادة في الآخرة، مثل:مصلحة الدين ومصلحة النفس، فهذه مقدمة على المصالح
الحاجِيَّة. والمراد بالمصالح الحاجيَّة: التي إذا قُدِّر فقدها أدى ذلك إلى الضيق والحرج، مثل: الرخص الشرعية، ومثل عقود المعاملات. والمصالح الحاجيَّة مقدمة على المصالح التحسينية. والمراد بالمصالح التحسينية: هي
التي يؤدي فقدها إلى مخالفة ما فُطرت عليه النفوس من أحسن المناهج، ففقد
المصالح التحسينية يؤدي إلى أمر مما تأباه النفوس والعقول الراجحة، وإن كان
لا يؤدي إلى ضيقٍ ولا حرجٍ،ومثال ذلك: إزالة النجاسات فهذا مُرَاعًى من
أجل أمر تحسيني، فإذا تعارضت مصلحة حاجية ومصلحة تحسينية قُدمت المصلحة
الحاجية.
والمصالح الضرورية تنقسم أيضاً إلى أقسام عدة: فضرورة الدين مقدمةً على ضرورة النفس. وضرورة النفس مقدمةً على ضرورة المال، لذلك ورد في الأثر عن جُنْدُب -رضي الله عنه- أنه قال: (إذا عرض لك بلاءٌ فقدم مالك دون نفسك، فإن تجاوز البلاء فقدم نفسك دون دينك). وكذلك من المصالح ما يقطع بكونه مصلحة، ويقطع بأن الشريعة قد دلت عليه، ومنها ما هو ظنيٌّ، ولا شك أن المصالح القطعية مقدمة على الظنية،
بل إن القطع والظن على مراتب متفاوتةً، فليس القطع على مرتبةٍ واحدةٍ،
وليس الظن على مرتبة واحدة، وتختلف هذه المراتب، والإنسان يجد التفاوت بين
هذه المراتب وإن لم يستطع أن يتلفظ بهذه المراتب، كما أن الري والشِّبع لها
مراتب، وإن كان الإنسان لا يستطيع التعبير والتلفظ بمراتب ذلك.
القارئ: (وضـده تـزاحم المفاسد يُرتكب الأدنى من المفاسد)
قال الشيخ سعد بن ناصر الشثري: (وضد القاعدة السابقة تزاحم المفاسد بحيث لا يتمكن المرء من ترك المفسدتين معاً، وإنما يتمكن من ترك إحداهما بشرط ارتكاب الأخرى، فحينئذٍ يرتكب المفسدة الأقل من أجل درء المفسدة الأعلى.
وهذه القاعدة لها أدلة في الشريعة، [و] من أدلتها قوله جل وعلا: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}، فهنا تعارضت مفسدتان: المفسدة الأولى: تلف النفس. والمفسدة الثانية: الأكل من الميتة. فتجنبت المفسدة الأشد، ولو كان في ذلك ارتكاب المفسدة الأقل بأكل الميتة. وكما سبق أن المفاسد: - منها ما هو محرم. - ومنها ما هو مكروه. - ومنها ما هو كبائر. - ومنها ما هو صغائر. فنجتنب الصغيرة ولو فعلنا المكروه، ونجتنب الكبيرة، ولو كان في ذلك فعل الصغيرة، إذا لم يمكن ترك الجميع. وكذلك من المفاسد ما يتعلق بالغير. ومنها ما هو قاصر على النفس، فالمفسدة القاصرة على النفس نرتكبها إذا لم نتمكن من درء المفسدة المتعلقة بالغير إلا بارتكاب المفسدة الأولى. ومثال ذلك: إذا كان الإنسان مضطرّاً للأكل ولم يجد إلا ميتة، أو طعاماً لمن كان في مثل حالته، فحينئذ إن أكل من الطعام الآخر هو حلال، [لكن] فيه مفسدة متعلقة بالغير، والميتة ليس فيها مفسدة متعلقة بالغير، فنقدم المفسدة القاصرة على النفس، على المفسدة المتعلقة بالغير. ومثال
ذلك أيضاً: لو قيل للإنسان: اقْتُل غيرك وإلا قتلناك، فحينئذ هنا مفسدتان؛
قتل النفس وقتل الغير، والمفسدة المقدمة هنا المفسدة المتعلقة بالنفس،
فنرتكب تلك المفسدة ونتحمل القتل من أجل أن ندرء المفسدة الأعظم المتعلقة
بقتل الغير. وهنا قاعدة متعلقة بهذه القاعدة يعبر عنها الأصوليون كثيراً وهي قاعدة (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) قالوا: لأن اعتناء الشـارع بالمنهيات أعظم من اعتنائه بالمأمورات. واستدلوا عليه بقـول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه)) ففي النهى قال: اجتنبوه واتركوه كلية، وفي الأمر علقه بالاستطاعة.
ويمثلون له بأمثلة عديدة: منها: ما ورد في الحديث: ((وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً))
كما في السنن، قالوا:هنا مفسدة متعلقة بالتأثير على الصيام، وهنا مصلحة
متعلقة بالاستنشاق، فدرئت المفسدة هنا؛ لأن درء المفسدة أولى من جلب
المصلحة. ومن أمثلته أيضاً:لو تولد حيوان من حيوان مأكول وحيوان غير مأكول،مثل:البغل يتولد من الحمار ويتولد من الخيل، فحينئذ قالوا: هنا درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، فنحكم بتحريمه. ومثله أيضا:لو اشتبهت أخته بأجنبية، فهنا اجتمع سببان: سبب تحريم، وسبب إباحة، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح. وشيخ الإسلام يرى رأياً آخر في المسألة ويقول: إن اعتناء الشارع بالمأمورات أكثر من اعتنائه بالمنهيات، وقد استدل على ذلك بأوجه عديدة، ولعل قول الجمهور في هذه المسألة أقوى من قول شيخ الإسلام، رحمة الله على الجميع. وليُعلم أن محل هذه القاعدة إذا تساوت المفاسد والمصالح. أما إذا كانت المصلحة أعظم من المفسدة؛ فإننا نقدم المصلحة، ولو كان في ذلك فعل للمفسدة: ومن
أمثلة ذلك: المريض الذي لا يستطيع الوضوء، أو فاقد الماء والتراب، هنا
مفسدة في كونه سيصلي بدون طهارة، وهنا مصلحة وهي الصلاة. فيقدم مصلحة
الصلاة [لأنها] أعظم من تلك المفسدة، فيصلي ولو كان على غير طهارة. ومثاله
أيضاً: السمع والطاعة لولاة الجور والظلم، فإن السمع والطاعة لهم فيه
مفسدة إعانتهم على ظلمهم، وفيه مصلحة انتظام أحوال الجماعة واستقرار الأمة،
وهذه المصلحة أعظم من تلك المفسدة، فتقدم هذه المصلحة، فيسمع ويطاع
الظَّلَمَة من الولاة ولو كان في ذلك نوع إعانة لهم؛ لأن هذه المفسدة
القليلة مغتفرةٌ في مقابل تلك المصلحة العظيمة. هذا شيء مما يتعلق بهذه القاعدة).