1 Nov 2008
ق2: الدين مبني على جلب المصالح ودرء المفاسد
قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): (وَالـدِّيْنُ مَبْنِيٌّ عَلـَى المَصَالِحِ = فـِي جـَلـْبِهَا وَالـدَّرْءِ لِلْقَبَائِحِ).
شرح الشيخ: عبد الرحمن بن ناصر السعدي
قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): ( (12) هذَا الأَصْلُ العظيمُ والقاعدةُ العامَّةُ يدخُلُ فيهَا الدِّينُ كلُّهُ، فكلُّهُ مَبْنيٌّ على تحصيلِ المصالحِ في الدِّينِ والدُّنْيَا والآخرةِ، وعلى دفْعِ المضارِّ في الدِّينِ والدُّنْيَا والآخرةِ، فما أَمرَ اللهُ بشيْءٍ إلاَّ وفيهِ منَ المصالحِ ما لا يُحيطُ بهِ الوَصْفُ، ومَا نَهى عنْ شيْءٍ إلاَّ وفيهِ منَ المفاسِدِ ما لا يُحيطُ بهِ الوصْفُ.
ومنْ أَعظمِ مَا أمرَ اللهُ بهِ: التَّوحيدُ،
الذِي هُوَ:إفرادُ اللهِ بالعبادةِ، وهوَ مشتمِلٌ على صلاحِ القلوبِ وسعتِهَا ونورِهَا، وانشراحِهَا وزوالِ أَدْرانِهَا، وفيهِ مصالحُ البدنِ والدُّنْيا والآخرةِ.
وأَعظمُ ما نهى اللهُ عنْهُ: الشِّرْكُ في عبادتِهِ، الَّذي هوَ فسادٌ [ومضرةٌ] وحسرةٌ في القلوبِ والأَبدانِ، والدُّنْيَا والآخرةِ. فكلُّ خيْرٍ في الدُّنْيَا والآخرةِ، فهوَ منْ ثمراتِ التَّوحيدِ وكلُّ شرٍّ في الدُّنْيَا والآخرةِ فهوَ منْ ثمراتِ الشِّرْكِ. وممَّا أَمرَ اللهُ بهِ:
الصَّلاةُ، والزَّكاةُ، والصِّيامُ، والحجُّ: الَّذي منْ فوائِدِ هذَا
انشراحُ الصَّدرِ ونورُهُ، وزوالُ همومِهِ وغمومِهِ، ونشاطُ البدنِ
وخفَّتُهُ، ونورُ الوجهِ وسعةُ الرِّزْقِ، والمحبَّةُ في قُلوبِ
المؤْمنينَ.
وفي الزَّكاةِ والصَّدقةِ، ووجوهِ الإحسانِ:
زكاةُ النَّفسِ وتطهيرُهَا، وزوالُ الوسخِ والدَّرنِ عنْهَا، ودفعُ حاجةِ
أخيهِ المسلمِ، وزيادةُ بركةِ مالِهِ ونماؤه، معَ مَا في هذِهِ الأَعمالِ
منْ عظيمِ ثوابِ اللهِ الَّذي لا يمكنُ وصْفُهُ، ومنْ حصولِ رضَاهُ الَّذي
هوَ أكبرُ مِنْ كلِّ شيْءٍ، وزوالِ سخطِهِ.
وكذلكَ شَرَعَ لعبادِهِ الاجتماعَ للعبادةِ في مواضعَ، كالصَّلواتِ الخَمْسِ، والجمعةِ والأعيادِ، ومشاعرِ الحجِّ، والاجتماعِ لذكرِ اللهِ، والعلمِ النَّافعِ؛ لمَا في الاجتماعِ منَ الاخْتلاطِ الَّذي يُوجِبُ التوادُدَ والتَّواصُلَ، وزوالَ التَّقاطُعِ والأَحقادِ بينهُمْ، ومراغمةَ الشَّيْطَانِ الَّذي يكرهُ اجتماعَهُمْ على الخيْرِ، وحصولَ التَّنافُسِ في الخَيْرَاتِ، واقتداءَ بعضِهِمْ ببعضٍ، وتعليمَ بعضِهِمْ بَعْضاً، وتعلُّمَ بعضِهِمْ منْ بَعْضٍ، وكذلكَ حصولُ الأَجرِ الكثيرِ الَّذي لا يحصلُ بالانفرادِ، إلى غيرِ ذلكَ مِنَ الحِكَمِ.
وأباحَ سبحانَهُ البيعَ والعقودَ المباحةَ، لمَا فيهَا منَ العدْلِ، ولحاجةِ النَّاسِ إليْهَا.
وحرَّمَ الرِّبى وسائرَ العقودِ الفاسدةِ، لمَا فيهَا من الظُّلْمِ والفسادِ، ولاغْتِنَاءِ النَّاسِ عنْهَا، وأَباحَ الطَّيِّبَاتِ منَ المآكِلِ والمشارِبِ، والملابِسِ والمناكِحِ لمَا فيهَا منْ مصالحِ الخَلْقِ، ولحاجةِ النَّاسِ إليْهَا، ولعدَمِ المفسدةِ فيهَا.
وحرَّمَ الخبائِثَ منَ المآكِلِ والمشارِبِ والملابِسِ والمناكِحِ؛ لمَا فيهَا منَ الخبثِ والمضرَّةِ عاجلاً وآجلاً فتحريمُهَا حمايةٌ لعبادِهِ، وصيانةٌ لَهُمْ، لاَ بخْلاً عليْهِمْ، بلْ رحمةً منْهُ بهمْ، فكمَا أَنَّ عطاءَهُ رحمةً، فمنْعُهُ رحمةً، مثالُ ذلكَ أنَّ إنزالَ المطرِ بقدرِ ما يحتاجُ إليهِ العبادُ رحمةٌ منهُ تعالى، فإذَا زادَ بحيثُ تضرُّ زيادتُهُ كانَ منْعُهُ رحمةً.
وبالجملةِ،فإنَّ أوامرَ الرَّبِّ قوتُ القلوبِ وغذاؤُهَا، ونواهِيَهُ داءُ القلوبِ وسمومها وكُلومُهَا.
وكذلكَ المواريثُ، والأَوقافُ، والوصايَا، ومَا في معنَاهَا، مشتملة كلُّهَا على غايةِ المصلحةِ والمحاسنِ.
ولا يمكنُ ضبطُ الحِكمِ والمصالحِ في بابٍ واحدٍ منْ أَبوابِ العلمِ، فضْلاً عنْ جميعِهِ.
قالَ ابنُ القَيِّمِرحمَهُ
اللهُ تعالى: (وإذَا تأَمَّلْتَ الحِكْمَةَ الباهرةَ في هذَا الدِّينِ
القويمِ، والملَّةِ الحنيفيَّةِ، والشَّريعةِ المحمَّديَّةِ التي لا تنالُ
العبارةُ كمالَهَا، ولاَ يدرِكُ الوصفُ حسنَهَا، ولاَ تَقْتَرِحُ عقولُ
العقلاءِ -لوِ اجتمعتْ وكانتْ على أَكملِ عقلِ رجلٍ واحدٍ منهمْ-
فَوْقَهَا، فإنَّ العقولَ الكاملةَ الفاضلةَ أنْ أَدركتْ حسنَهَا، وشهدتْ
لَهَا، وأَنَّهُ ما طَرَقَ العالَمَ شريعةٌ أَكملُ منْهَا ولاَ أَعظمُ ولا
أَجلُّ، ففيهَا الشَّاهِدُ والمشهودُ لهُ، والحُجَّةُ والمحتجُّ لهُ،
والدَّليلُ والبرهانُ، ولوْ لمْ يأتِ الرَّسولُ ببرهانٍ عليْهَا لكفَى بهَا
برهاناً وشاهداً على أنَّها منْ عندِ اللهِ تعالى، وكلُّهَا شاهدةٌ للهِ
بكمالِ العلمِ، وكمالِ الحكمةِ، وسعةِ الرَّحمةِ، والبِرِّ، والإحسانِ
والإحاطةِ بالغيبِ والشَّهادةِ، والعلمِ بالمبادئِ والعواقبِ، وأنَّهَا منْ
أعظمِ نعمِ اللهِ الَّتي أنعمَ بهَا على عبادِهِ.
فمَا أَنعمَ على عبادِهِ نعمةً أَجلَّ مِنْ أَنْ هَداهُمْ لَهَا، وجعلهُمْ منْ أهلِهَا، وممَّنِ ارْتضاهُمْ لَهَا وارتضاهَا لَهُمْ، كمَا قالَ تعالى {لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ ويُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ والْحِكْمَةَ وإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفي ضَلالٍ مُبينٍ}، ثُمَّ أطالَ الكلامَ رَحِمَهُ اللهُ تعالى).
روضة الفوائد ، لفضيلة الشيخ : مصطفى مخدوم
قال الشيخ مصطفى بن كرامة الله مخدوم: ( (12) (الدِّينُ) في اللُّغةِ: الطَّاعةُ والجزاءُ.
فمِن الأوَّلِ قولُ الشَّاعرِ: وأيَّامٍ لــــنــــا غــــُرٍّ طــــوالٍ =عصَيْنا الملْكَ فيها أن نَدِينا
{يومُ الدِّينِ}،أي: الجزاءِ.
وأُطْلِق على الشَّريعةِ لفظُ الدِّين لقيامِها على معنى الطَّاعةِ والجزاءِ.
(المصالح): جمعُ مصلحةٍ، وهي المنفعةُ وزناً ومعنًى.
(القبائح): هي المفاسدُ، جمعُ مفسدةٍ، وهي المضرَّةُ.
والمعنى أن الشَّريعةَ مبناها على جلبِ المصالحِ، ودرءِ المفاسدِ، فما أمَر الشرعُ بفعلٍ إلا وفيه مصلحةٌ راجحةٌ، وما نهَى عن فعلٍ إلا وفيه مفسدةٌ راجحةٌ.
وهذه هي القاعدةُ العامَّةُ التي تَرْجِعُ إليها أصولُ الشَّريعةِ وفروعُها، وسائرُ القواعدِ الفقهيَّةِ،
كما قال الأهدلُ:
بـل بعضُهم قد رجَّع الفقهَ إلى قـــاعــدةٍ واحــدةٍ مــُكــَمِّلا
وهي اعتبارُ الجلبِ للمصالحِ والـدَّرءِلــلــمفاسدِ الـقبائحِ
بلقـال قــد يـَرْجـِعُ كـلـُّه إلـى أولِ جـــُزْئيْ هـــذه وقـــُبـــِلا
يعني: أن بعضَ العلماءِ وهو العزُّ بنُ عبدِ السَّلامِ -أرْجَع الفقهَ كلَّه إلى قاعدةٍ واحدةٍ، وهي: (جلبُ المصالحِ ودرءُ المفاسدِ).
وقال ابنُ السُّبْكيِّ: بل يَرْجِعُ الفقهُ كلُّه إلى الجزءِ الأوَّلِ مِن القاعدةِ، وهي: (جلبُ المصالحِ)؛ لأن درءَ المفاسدِ نوعٌ مِن جلبِ المصالحِ.
والدليلُ لهذه القاعدةِ: العمومُ والاستقراءُ.
أما العمومُ فمنه: قولُه تعالى: {إنَّ اللهَ يأًمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ والْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ}(النحل:90).
قال ابنُ مسعودٍ رضِي اللهُ عنه: (هذه أجمعُ آيةٍ للخيرِ والشَّرِّ).يعني: أن كلَّ خيرٍ يدخلُ في الأمرِ المذكورِ في الآيةِ، وكلَّ شرٍّ يدخلُ في النَّهيِ المذكورِ فيها.
وأما الاستقراءُ -وهو تتبُّعُ الجزئيَّاتِ للوصولِ إلى حكمٍ كلِّيٍّ-: فهو واضحٌ من تتبُّعِ الأحكامِ، والنَّظرِ في عللِها وحِكَمِها).
شرح الشيخ: سعد بن ناصر الشثري (مفرغ)
القارئ: (والدين مبني على المصالح=في جلبها والدرء للمفاسد).
قال الشيخ سعد بن ناصر الشثري: (تضمن هذا البيت أن الشريعة مبنية على جلب المصالح ودرء المفاسد، والمراد بالدِّين: الشريعة، مأخوذ من الفعل(دان) بمعنى أطاع، فمن دان لغيره وأطاعه؛ فإنه قد سلَّم الدين له، ولما كان أهل الإيمان يطيعون الله عـز وجل سميت شريعة الله الدين، قال سبحانه: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ}.
وقوله هنا: (مبنيٌّ على المصالح) يعني: أن الشريعة راعت في وضع أحكامها المصالح، وواحدتها المصلحـة، [والمراد بها] المنفعة، وليست المنفعة والمصلحـة عائدة لله سبحـانه، فهو سبحانه الغني كما قال جـل وعـلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} فهو سبحانه غني، وإنما المصلحة عائدة إلى الخلق، وليس المراد بذلك موافقة الأهواء والرغبات التي ترغبها النفوس؛ فإن ذلك مخالفٌ لمعنى الدين والطاعة، فإن الطاعة مبنية على الالتزام بأوامر الله، لذلك جاءت الشريعة بالنهي عن اتباع الهوى {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} وفي اتباع الهوى مضارٌ عديدة وشرورٌ وخيمة، ليست المصلحة أبداً في اتباع الهوى.
إذا تقرر ذلك: فما هو المصدر الذي نحكم من خلاله أن هذا الفعل مصلحة أو مفسدة ؟
للناس في ذلك مناهج متعددة:
- فالمعتزلة يقولون:إن الأفعال تُعرف مصلحيتها للعباد ومفسدتها من خلال العقول، ولذلك هم أهل التحسين والتقبيح العقلي.
-والأشاعرة يقولون:إن مصدر الحسن والقبح هو الشارع، ووصف الفعل بالحسن والقبح وصف نسبي يختلف بالنِّسَبِ والإضافة، فالكذب ليس قبيحاً في ذاته، وإنما بحسب ما يضاف إليه.
وهذا الكلام خاطئ عقلاً وشرعاً،فكل الناس يعرفون أن الكذب قبيح، وأن الصدق حسن، ولذلك فإن الأفعال القبيحة أثبت الشـارع كونها قبيحةً على العبـاد قبل وجـود الرسـل، وإنما عاقبهم بعد بعثة الرسـل، وقال جـل وعـلا في وصف النبي صلى الله عليه وسلم: {يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ} فلو كان على قول الأشاعرة بأن مصدر الحسن والقبح هو الشارع، لكان معنى الآية يأمرهم بما يأمرهم به؛ لأن المعروف إنما يعرف من قبل الشارع.
والصواب في هذه المسألة أن للأفعال صفاتٍ ذاتيةً تثبت حسنها وقبحها ولو لم يوجد عقل أو شرع، فالصدق حسنٌ قبل ورود الشرائع، وقبل معرفة العقول لحسنه، ولكنَّ العقاب إنما يترتب على الأفعال بعد ورود الشريعة لقوله عز وجل: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً }.
وقد انتشر اليوم بين كثير من الكتاب المحدَثِينَ أن مصدر الحسن والقبح هو المجتمع، وهذا آتٍ من المناهج العِلمانية، ويقولون: ولذلك فإن الفعل يكون في زمان حسناً، وفي زمان آخر يكون قبيحاً، وهذا منهج خاطئ مخالف للعقل، ومخالف للشرع.
فالصواب أن للأفعال صفاتٍ ذاتيةٍ تثبت حسنها وقبحها، وأن العقوبة إنما تكون على الفعل بعد ورود الشرع.
وأما الثواب فقد اختلف أهل السنة فيه:
فمنهم من يثبت الثواب على الأفعال قبل ورود الشرائع.
ومنهم من ينفيه، ولعل في الحديث الوارد في ذلك: ((أسلمت على ما أسلفت من خير)) دليلٌ على اعتبار الثواب على الأفعال ولو قبل ورود الشرائع.
وهذه القاعدة
-قاعدة بناء أحكام الشريعة على جلب المصالح ودرء المفاسد- يدل عليها أدلة عديدة.
- منها: قوله سبحانه: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}، فمقتضى كون هذه الشريعة رحمة أن تكون جالبة للمصلحة دافعة للمفسدة.
- وقال جلا وعلا: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا}، فإكمال النعمة بإتمام هذا الدين، وتمام النعمة وإكمالها يكون بكون هذا الدين جالباً للمصالح دافعاً للمفاسد، وفي تعاليل الأحكام نجد أن الشريعة عللت كثيراً من أحكامها بمصالح الخلق، كما قال جـل وعـلا: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ}فقوله:(حياة) هذا تعليل لهذا الحكم وهو القصاص لمصلحة الخلق، وفي استقراء أحكام الشريعة دليل قاطع على كون هذه الشريعة مصلحة للخلق.
ولأهمية هذه القاعدة اعتنى العلماء بها، بل قد أفردها الإمام العز بن عبد السلام بمؤلف كامل، وجعل أحكام الشريعة كلها تدور على هذه القاعدة.
وإذا تأمل الإنسان أحكام الشريعة وجد أن المصلحة فيها على أنواع:
- فمرات تكون المصلحة متحتمة واجبة مثل الصلوات المفروضة.
-ومرات تكون المصلحة مستحبة مندوبة مثل صلوات النوافل.
- ومرات تكون المصلحة يُراد وجودها في المجتمع، ولو لم يفعلها جميع أفراد المجتمع، مثل صلاة الجنازة، وتغسيل الميت.
- ومرات يراد بالمصلحة أن تتحقق من جميع الأفراد.
وهذه المصالح منها مصالح معتبرة للشارع نص على حكمها.
والعلماء يقسمون المصالح إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: مصالح معتبرة، وهي التي شهد لها الشارع بالاعتبار، سواء كان ذلك بطريق الكتاب، أو بطريق السنة، أو بالإجماع، أو بالقياس.
والقسم الثاني: مصالح ملغاة،وهي المصادِمة لنص شرعي، ومثلوا لها بمن لا يرتدع عن التحفظ في يمينه إلا بالصيام، لا يردعه الإطعام ولا يردعه الكسوة، فلو قال قائل بأن هذا الشخص نوجب عليه صيام ثلاثة أيام؛ لأنه لا يرتدع عن التحفظ في يمينه إلا بالصيام، لكانت هذه مصلحة ملغاة في الشرع؛ لأن الشريعة جاءت بأن الحانث في يمينه يطعم، أو يكسو، أو يعتق، فإذا لم يجد انتقل إلى الصيام.
ولذلك ورد عن بعض العلماء المالكية أنه سأله ملكٌ من ملوك زمانه فقال: إني واقعت في نهار رمضان وكان معه العلماء والقضاة، فقال مقدمهم: يجب عليك صيام شهـرين متتابعين، فلما عادوا قالوا له: إن الشريعة جاءت بالعتق، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((اعتق رقبة)) فقال: الرقاب عنده كثير، فلو لم نوجب عليه إلا إعتاق الرقبة لما ارتدع عن الوطء في نهار رمضان، فهذا ظن أن هذا الحكم مصلحة لكنَّ هذه المصلحة ملغاة في الشريعة، فلا تعتبر ولا يلتفت إليها، بل إنها في حقيقة الأمر مفسدة، فما ظنكم لو علم ذلك الملك بأنهم قد أخفوا عنه الحكم؟ هل سيطمئن بعد ذلك لفتوىً يفتونه بها ؟! بل هل سيستفتيهم فيما يأتي من الزمان ؟! سيعرض عنهم ويعمل على وفق هواه بدون الرجوع إلى فتاواهم.
فدلنا ذلك على أن تسمية ما ألغي مصلحة لا يصح، فلا يصح أن نقول: مصلحة ملغاة، وإنما يقال: ما يتوهم أنه مصلحة؛ لأن الشريعة لا يمكن أن تأتي بإلغاء مصلحة.
وقد وجد في عصرنا وزماننا من يتشبث بالعمل بالمصالح في إلغاء النصوص، ولذلك تجدهم يقولون: الناس في الغرب ليس لديهم إجازة إلا في يوم الأحد، فتكون صلاة الجمعة يوم الأحد لمراعاة أحوال الناس، فهذه مصلحة ملغاة، وهي ليست مصلحة، بل يتوهم أنها مصلحة، وهي مضادة للشريعة، ولو فُتح الباب لغُيِّرت مراسيم الشرع، ولم تسر أحكام الشريعة على منوال واحد.
القسم الثالث: مصالح مرسلة، وهى التي لم يأت بها نص، لا بإلغائها، ولا باعتبارها.
وقد اختلف العلماء في حجيتها:
- فمنهم من يثبت الحجية.
- ومنهم من ينفي الحجية.
وقد رأى شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم -رحمهما الله- أنه لا يمكن أن توجد مصلحة مرسلة، بل جميع المصالح معتبرة في الشريعة.
ومن رأى مصلحة ظنها مرسلة، فلا يخلو من أحد أمرين:
الأمر الأول: أن تكون مفسدة ولا تكون مصلحة.
والأمر الثاني:أن يدل عليها نص من الشارع خفي على ذلك الفقيه.
وفي هذا القول قوة، وفيه إثبات لكمال الشريعة وشمولها، والناظر في النصوص الشرعية يجدها شاملة لأغلب أفعال العباد، وأن المرء لا يحتاج إلى القياس إلا في مواطن قليلة تسد النقص الوارد في دلالة النصوص على الحوادث.
كذلك تُقَسَّم المصالح إلى [قسمين أولهما]:
مصالح في الأحكام لا نعرف وجه كونها مصلحة، فهناك أحكام نجزم بأنها في مصلحة الخلق، لكننا لا نعرف وجه المصلحة، مثال ذلك: أكل لحم الجزور ينقض الوضوء، ما المصلحة في ذلك ؟ نحن لا نعرف المصلحة، فلا يحق لنا أن نترك الحكم لعدم معرفتنا بحكمة الحكم ومصلحته.
النوع الثاني:ببعض، واستقرارهما مع بعض، ولتحصيل الأبناء الصالحين، وتحصيل الأجر والثواب في ذلك، فهذه مصلحة معلومة، لكن كيف تكون نية العبد في مثل هذه الأعمال؟
لابد أن ينوي العبد [ذلك] ليحصل على الأجر والثواب [ويقصد] وجه الله عز وجل والدار الآخرة.
فإن نوى المصالح الدنيوية فقط جاز له ذلك في المصالح الدنيوية التي نص عليها الشارع، لكن ليس له من الأجر الأخروي شيء.فإن نوى العبد بهذا العمل نية مضادة لمقصود الشارع؛ فإنه يكون آثماً بذلك، مثاله: من تزوج بقصد التحليل، هذه نية مضادة لمقصود الشارع، فيكون العبد مستحقّاً للإثم بها.
وكما أن المصالح تتقسم لأقسام عدة، كذلك المفاسد.
وقوله هنا: (على المصالح في جلبها) يعني في إحضارها أحكام معلومة المصالح للمكلفين، مثل: مشروعية النكاح؛ فإنه يراد لتحصيل السكن الروحي، واطمئنان الزوجين بعضهما والعمل بها.(والدرء للقبائح) الدرء المراد به الإبعاد، والمراد بالقبائح المفاسد.
والمفاسد:
- منها مفاسد مكروهة.
- ومفاسد محرمة.
والمفاسد المحرمة:
- منها ما هو كبائر.
- ومنها ما هو صغائر، وتتفاوت في نفسها إلى مراتب عديدة.
وقد ذكر المؤلف في شرحه للمنظومة كيف عادت أكثر أحكام الشريعة إلى اعتبار المصالح وإلغاء المفاسد).
العناصر
شرح قول الناظم:
والدين مبني على المصالح =في جلبها والدرء للقبائح
شرح المفردات:
(الدين): الشريعة
مأخوذ من (دان) أي أطاع
تعريف (المصالح)
المصلحة: هي المنفعة
تطلق (المصلحة) على جلب المنفعة ودفع المضرة
تسميتها مصلحة ليس باعتبار عودها إلى الله تعالى بل إلى المكلفين
الله تعالى غني عن عباده
معنى قوله: (مبني على المصالح)
أي ما أمرت الشريعة إلا بما فيه مصلحة ولا نهت إلا عما فيه مفسدة
(في جلبها): أي في تحصيلها
(الدرء): الإبعاد
(القبائح): المفاسد
القاعدتان اللتان تضمنتهما الأبيات:
القاعدة الأولى: الدين مبني على جلب المصالح ودرء المفاسد
القاعدة الثانية: ترتكب أدنى المفسدتين لدرء أعلاهما، وتقدم أعلى المصلحتين على أدناهما
أهمية قاعدة جلب المصالح ودرء المفاسد
أدلة القاعدة
الاستدلال لها من القرآن الكريم:
ورد في النصوص تعليل كثير من الأحكام بمصالح الخلق
أهمية هذه القاعدة:
أحكام الشريعة مبنية على هذه القاعدة
أمثلة على بعض المصالح في الشريعة:
التوحيد أعظم ما أمر الله به
تعريف التوحيد
الشرك أعظم ما نهى الله عنه
من فوائد الحج
من فوائد الزكاة والصدقة
الحكمة من كون الأصل في البيع والعقود الإباحة
الحكمة من تحريم الله للعقود الفاسدة والربا
المصالح في الأوامر والنواهي الشرعية لا يمكن أن يحاط بها
مصالح إباحة الطيبات
مصالح تحريم الخبائث
كلام لابن القيم عن الحكم الباهرة في هذا الدين
عناية العلماء بهذه القاعدة
أفرد العز بن عبد السلام مؤلفاً في هذه القاعدة
مصدر الحكم على الفعل بالمصلحة والمفسدة:
الحكم على الشيء بأنه مصلحة ليس راجعاً إلى الأهواء والرغبات
خطر اتباع الهوى في تقدير المصلحة
اختلاف المناهج في التحسين والتقبيح:
1- منهج المعتزلة: مصدر التحسين والتقبيح هو العقل
الرد على المعتزلة.
2- منهج الأشاعرة: التحسين والتقبيح شرعي فقط
الأشاعرة ينفون الحكمة والتعليل.
الرد على الأشاعرة:
3- منهج العلمانيين: مصدر التحسين والتقبيح هو المجتمع
الرد على العلمانيين:
4-منهج أهل السنة والجماعة: مصدر التحسين والتقبيح الشرع والعقل والفطرة
الأفعال توصف بالحسن والقبح قبل ورود الشرع
التأثيم والمجازاة لا يكونان إلا بحكم الشرع
أقسام المصالح من حيث اعتبارها شرعًا:
القسم الأول: مصالح معتبرة
المصالح المعتبرة: هي المصالح التي شهد الشرع لها بالاعتبار.
تعرف المصالح المعتبرة بالنص أو الإجماع أو القياس.
القسم الثاني: مصالح ملغاة
تنبيه: تسميتها (مصالح ملغاة) اصطلاحية وإنما هي متوهمة لأن الشريعة لا تأتي بإلغاء مصلحة صحيحة.
المصالح الملغاة:هي المصالح المصادمة لنص شرعي
مثال: إفتاء من حنث في يمينه بالصيام تعزيراً له لظن أن الإطعام لا يردعه
أفتى بعض فقهاء المالكية ملكاً واقع في نهار رمضان بالصيام لتيسر العتق له ومشقة الصوم عليه
خطر التلاعب بأحكام الشريعة تذرعاً بالمصالح.
القسم الثالث: مصالح مرسلة
المصالح المرسلة: هي المصالح التي لم يأت نص بإلغائها ولا باعتبارها
الخلاف في حجية المصالح المرسلة.
ذهب شيخ الإسلام وابن القيم إلى أنه لا توجد في الشريعة مصالح مرسلة
المصالح الصحيحة تدل عليها الشريعة ولو بوجه خفي.
أقسام المصالح من حيث العلم بها:
القسم الأول: مصالح لا نعلم وجه المصلحة فيها
مثال: وجه المصلحة في الأمر بالوضوء من لحم الإبل
الأحكام الشرعية الثابتة نجزم بأن فيها مصلحة
لا يجوز ترك امتثال الأمر الثابت بحجة عدم معرفة وجه المصلحة فيه
القسم الثاني: مصالح معلومة
مثال: مشروعية النكاح
النكاح فيه مصالح متعددة
أقسام الناس تجاه المصالح المترتبة على الأوامر الشرعية:
القسم الأول: من يمتثل الأمر احتساباً للثواب في تلك المصالح المعتبرة، فيثاب على كل مصلحة نواها
القسم الثاني: من ينوي المصالح الدنيوية فقط، فليس له من الأجر الأخروي شيء
القسم الثالث: من ينوي نية مضادة للمصلحة الشرعية، كنكاح التحليل فيأثم بذلك
الأسئلة
س1: عرف (الدِّين) لغة وشرعاً؟
س2: عرف (المصلحة) لغة واصطلاحاً؟
س3: ما معنى قول الناظم: (والدين مبني على المصالح في جلبها والدرء للقبائح)؟
س4: اذكر القاعدتين اللتين تضمنتها أبيات هذا الدرس؟
س5: تحدث عن أهمية قاعدة (جلب المصالح ودرء المفاسد).
س6: ما مصدر الحكم على الفعل بالمصلحة والمفسدة؟
س7: اذكر اختلاف الطوائف في مصدر التحسين والتقبيح؟
س8: اذكر أقسام المصالح من حيث اعتبارها شرعاً؟
س9: ما رأيك في لفظ (مصالح ملغاة)؟
س10: اذكر الخلاف في حجية المصالح المرسلة؟
س11: اذكر أقسام الناس تجاه المصالح المترتبة على الأوامر الشرعية؟