الدروس
course cover
أهل السنة والجماعة هم الفرقة الناجية والطائفة المنصورة
11 Nov 2008
11 Nov 2008

4397

0

0

course cover
العقيدة الواسطية

القسم العاشر

أهل السنة والجماعة هم الفرقة الناجية والطائفة المنصورة
11 Nov 2008
11 Nov 2008

11 Nov 2008

4397

0

0


0

0

0

0

0

أهل السنة والجماعة هم الفرقة الناجية والطائفة المنصورة

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (لَكِنْ لَمَّا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ أُمَّتَهُ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِيَن فِرْقَةً كُلُّها فِي النَّارِ إِلاَّ وَاحِدَةً ، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ ، وَفِي حَدِيثٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : ((هُمْ مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي)) صَارَ الْمُتَمَسِّكُونَ بِالإِسْلاَمِ الْمَحْضِ الْخَالِصِِ عَن الشَّوْبِ هُمْ أَهْلُ السُّنةِ وَالْجَمَاعَةِ وَفِيهِم الصِّدِّيقُونَ ، وَالشُّهَدَاءُ ، وَالصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ أَعْلاَمُ الْهُدَى ، وَمَصَابِيحُ الدُّجَى ، أُولُو الْمَنَاقِبِ الْمَأثُورَةِ ، وَالفَضَائِلِ الْمَذْكُورَةِ ، وَفِيهِم الأَبْدَالُ ، ومنهم الأَئِمَة الَّذِينَ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى هِدَايَتِهِمْ ودرايتهم، وَهُم الطَّائِفةُ المنْصُورَةُ التي قَالَ فِيهِم النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لاَ يَضُرُّهُم مَنْ خَالَفَهُمْ ، وَلاَ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ)) ).

هيئة الإشراف

#2

28 Dec 2008

التنبيهات اللطيفة فيما احتوت عليه الواسطية من المباحث المنيفة لابن سعدي رحمه الله


قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): (وهذا كلام جامع واضح نادر جمعه في موضع واحد، لا يحتاج إلى شرح ولا إلى مزيد من الإيضاح).

(مكرر)

هيئة الإشراف

#3

28 Dec 2008

شرح العقيدة الواسطية للشيخ مُحمَّد خَليل هَرَّاس رحمه الله


قال الشيخ محمد خليل هراس (ت: 1395هـ): (وأَمَّا قولُهُ: (( وَفِيهِمُ الصِّدِّيقونَ … )) إلخ. فالصِّدِّيقُ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ مِنَ الصِّدْقِ، يُرَادُ بهِ الكَثِيرُ التَّصْدِيقِ، وأبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ هوَ الصِّدِّيقُ الأوَّلُ لهذهِِ الأُمَّةِ.
وأَمَّا الشَّهداءُ؛ فهوَ جَمْعُ شَهِيدٍ، وهوَ مَنْ قُتِلَ في المَعْرَكَةِ.
وأَمَّا الأَبْدَالُ؛ فهمْ جَمْعُ بَدَلٍ، وهُمُ الَّذينَ يَخْلُفُ بَعْضُهُمْ بعضًا في تجديدِ هذا الدِّينِ والدِّفاعِ عنهُ؛ كمَا في الحديثِ: (( يَبْعَثُ اللهُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا أَمْرَ دِينِهَا )) ).

هيئة الإشراف

#4

28 Dec 2008

شرح العقيدة الواسطية للشيخ: صالح بن فوزان الفوزان


قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: (وهُم الجماعةُ الثَّابِتةُ على ما كان عليه النَّبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم وأصحابُه، وَهُوَ الإسلامُ المَحْضُ الخالِصُ مِن الشَّوائبِ، ولذَلِكَ فازُوا بلَقَبِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ. وصار فيهم (الصِّديِّقونَ) المبالِغون في الصِّدقِ والتَّصديقِ (والشُّهداءُ) القَتْلى في سبيلِ اللَّهِ (والصَّالِحونَ) أهلُ الأعمالِ الصَّالِحةِ (وفيهم أعلامُ الهُدى …) الخ أيْ: وفي أهلِ السُّنَّةِ العُلماءُ الأعلامُ بكُلِّ وصفٍ حميدٍ عِلماً وعَملاً (وفيهم الأبدالُ) وهُم الأوْلياءُ والعُبَّادُ، سُمُّوا بذَلِكَ قيل لأنَّهم كُلَّما ماتَ منهم أَحدٌ أُبْدِلَ بآخَرَ، وفي روايةٍ عن أحمدَ أنَّهم أصْحابُ الحديثِ (وفيهم أئِمَّةُ الدِّينِ) أي في أهلِ السُّنَّةِ العلماءُ المُقْتَدى بهم كالأئِمَّةِ الأربعةِ، وغيرِهم (وهُم الطَّائِفةُ المنصورةُ) أيْ: وأهلُ السُّنَّةِ هُم الطَّائفةُ المذكورةُ في الحديثِ ((لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي )) الحديثُ رواه البخاريُّ ومسلمٌ).

هيئة الإشراف

#5

28 Dec 2008

التنبيهات السنية للشيخ: عبد العزيز بن ناصر الرشيد رحمه الله

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (ولكن لما أخبر النبى صلى الله عليه وسلم أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها فى النار إلا واحده وهي الجماعة، وفي حديثٍ عنه أنه قال: ((هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)).
صارَ المتمسِّكونَ بالإِسلامِ المَحْضِ الخالِصِ عَنِ الشَّوْبِ هُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ والجَماعَةِ.(1)

وفيهِمُ الصِّدِّيقونَ؛ والشُّهَداءُ، والصَّالِحونَ؛ ومنهُمْ أَعلامُ الهُدَى، ومَصابيحُ الدُّجَى، أُولو المَناقِب المَأْثُورَةِ، والفَضائِلِ المَذْكورَةِ. (2)
وفيهِمُ الأبْدالُ، وفيهِم [ أَئِمَّةُ الدِّينِ ]، الَّذينَ أَجْمَعَ المُسْلِمونَ على هِدايَتِهِمْ [ ودِرايَتِهم ]. (3)
وهُمُ الطَّائِفَةُ المَنْصورَةُ الَّذينَ قالَ فيهمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( لا تَزالُ طائِفةٌ مِنْ أُمَّتي عَلى الحَقِّ ظاهرين، لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ، ولا مَنْ خَذَلَهُمْ، حَتَّى تَقومَ السَّاعَةُ ))
).

الشرح:

قال الشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد (ت: 1408هـ): ( (1) قولُه (بالإسلامِ) أي الاستسلامِ لِلَّهِ وحْدَه بطاعتِه والانقيادِ لأمْرِه، والمرادُ هنا: الإسلامُ والإيمانُ؛ لأنَّه كما تقدَّمَ إذا أُطلِقَ أحدُهما دَخَلَ فيه الآخرُ، والمحْضُ هُوَ الخالِصُ الذي لم يخالِطْه غيرُه، والخالِصُ هُوَ السَّالِمُ، يقال خَلَّصَ الشَّيءَ: صفَّاه ومَيَّزَه عن غيرِه، والشَّوائِبُ هي الأقذارُ والأدناسُ، وأصلُ الشَّوْبِ الخَلْطُ،
لمَّا ذَكَرَ المصنِّفُ -رَحِمَهُ اللَّهُ- ما تقدَّمَ مِن الأحاديثِ التي فيها ذِكْرُ افتراقِ هَذِهِ الأُمَّةِ، وفيها ذِكرُ الفِرقةِ النَّاجيةِ، وأنَّهم الجماعةُ ومَن كان على مِثلِ ما كان عليه الرَّسولُ –صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم- وأصحابُه،

فاتَّضحَ ممَّا تقدَّمَ أنَّ أهلَ السُّنَّةِ والجَماعَةِ هم المتمسِّكونَ بالإسلامِ المحْضِ الخالِصِ عن الشَّوائِبِ البِدعيَّةِ، والطُّرقِ المخالِفَةِ لِما كان عليه –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-، فهم المعْتَصِمونَ بالإسلامِ، المتمَسِّكون بِهِ بالأقوالِ والأعمالِ والاعتقاداتِ، الذين لم يَشُوبُوه بالبِدَعِ والخُرافاتِ،
فهؤلاء هم أهلُ السُّنَّةِ والجَماعَةِ الذين انْطَبَقَتْ عليهم الصِّفاتُ المذكورةُ في الأحاديثِ المتقدِّمَةِ، وأمَّا مَن عَداهُم مِن سائرِ الفِرَقِ فقد حَكَّمُوا المعقولَ وخالَفوا المنقولَ عن رسولِ اللَّهِ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-، فسَطَوْا على النُّصوصِ بتَخْطِئةِ الرِّواياتِ وتكذِيبِهم، فإنْ لم يَجِدُوا سبيلاً إلى ذَلِكَ سَطَوْا على معانِيها بالتَّحريفِ والتَّأويلِ،
وأصلُ فسادِ هَذَا العالَمِ وخَرابِه إنَّما نَشَأ مِن تقديمِ الرَّأيِ على الوحيِ، والهَوَى على النَّقلِ، وما استحْكَم هَذَانِ الأصلانِ الفاسدانِ في قلبٍ إلاَّ استَحْكَم هلاكُه، ولا في أُمَّةٍ إلا مَرَجَ أَمْرُها، واختلَّ نِظامُها، وانعقدَ سَببُ هلاكِها، وبسببِ ذَلِكَ انفتحَ بابُ الجَدَلِ واتَّسعَتْ شُقَّةُ الخلافِ، فكُلُّ فريقٍ يرى أنَّه على الحقِّ وأنَّ غيرَه ضالٌّ، فهم كما قال اللَّهُ تعالى: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}، قال الشَّاعِرُ:

وكُلاًّ يدَّعِي وَصْـلاً لِليْلَـى ... ولَيْلَى لا تُقِرُّ لهـم  بِذاكَـا
إذا اشْتَبَكتْ دُموعٌ في خُدودٍ ... تَبَيَّنَ مَنْ بَكى ممَّـن تَباكَـى

وكُلُّ ما وَقَع هُوَ سَببُ إعراضِهم عن الكِتابِ والسُّنَّةِ، وما كان عليه السَّلَفُ الصَّالِحُ، فلا نجاةَ إلاَّ باتِّباعِ ذَلِكَ، كما قال بعضُهم:

تَخالَفَ النَّاسُ فيما قد رَأَوْا وَرَوَوْا ... وكُلُّهم يَدَّعُونَ الفَـوزَ  بالظَّفَـرِ
فخُذْ بقولٍ يكونُ النَّصُّ  بنَصْـرِه ... إمَّا عن اللَّهِ وإمَّا عن  سيِّدِ  البَشرِ


وقال آخر:

فخيرُ الأمورِ السَّالِفاتُ على الهُدى ... وشَرُّ الأمورِ المُحْدَثـاتُ البدائِـعُ


ولا شكَّ أنَّ مَن لم يَعتصِمْ بالكِتابِ والسُّنَّةِ وما كان عليه السَّلَفُ الصَّالِحُ فمَآلُه إلى الحَيْرَةِ والاضطرابِ، وعدمِ الوصولِ إلى نتيجةٍ كما قال الرَّازيُّ:

نهايةُ إقـدامِ العقـولِ  عِقـالُ ... وأكثرُ سَعْي العالَمِيـنَ ضَـلالُ
ولم نَسْتَفِدْ مِن بَحثِنا طُولَ عُمْرِنا ... سوى أنْ جَمَعْنا فيه قِيلَ  وقالوا
وأَرْواحُنا في وحشةٍ مِن جُسومِنا ... وغايـةُ دُنيانـا أَذًى  ووبـالُ


وقال الشَّهرسْتانيُّ:

لَعَمْري لقد طُفْتُ المعاهِدَ كُلَّها ... وسيَّرْتُ طَرْفي بين تِلكَ المعالِمِ
فلم أَرَ إلاَّ واضِعًا كَفَّ حائـرٍ ... على ذَقَنٍ أو قارِعاً سِنَّ نـادِمِ


إذا عَرَفْتَ ما وَصلَ إليه هؤلاءِ مع ما لديْهِم مِن الذَّكاءِ والعِلمِ عَرفْتَ أَنَّ النَّجاةَ والسَّعادةَ هُوَ بالاعتصامِ بالكِتابِ والسُّنَّةِ، وما كان عليه السَّلَفُ الصَّالِحُ، قال تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى}.
قال ابنُ عبَّاسٍ -رضي اللَّهُ عنه-: تكفَّلَ اللَّهُ لمَنْ قَرَأ القُرآنَ وعَمِلَ بما فيه أنْ لا يَضِلَّ في الدُّنْيَا ولا يَشقَى في الآخرةِ، ثم قرأ هَذِهِ الآيةَ.

(2) قولُه: (وفيهم الصِّدِّيقونَ والشُّهداءُ) إلخ: الصِّدِّيقونَ: الذين صَدَّقوا أقوالَهم بأفعالِهم، المبالِغونَ في الصِّدْقِ والتَّصديقِ، قال في المختارِ: الصِّدِّيقُ بِوَزْن السِّكِّيتِ: الدَّائمُ التَّصديقِ، وهُوَ أيضًا الذي يُصَدِّقُ قولَه بالعَملِ، انتهى، وقد تقدَّمَ الكلامُ على هَذَا.
قولُه: (أعلامُ) جَمعُ عَلَمٍ، بفتحتَيْنِ العَلامةُ وهُوَ ما يُهتَدى بِهِ إلى الطَّريقِ مِن جَبلٍ أو غيرِه، على قَولِ الخنساءِ في أخيها صَخْرٍ:

وإنَّ صَخْرا لتأْتَمُّ الهُداةُ بِهِ ... كأنَّه عَلَمٌ في رَأْسِه  نَـارُ


وسُمِّي العالِمُ عَلَمًا: لأنَّه يَهتَدِي النَّاسُ بعِلمِه، كما يقال: فلانٌ جبلٌ في العِلمِ، والهُدَى وهُوَ الدَّلالةُ والإرشادُ، والهادِي هُوَ الدَّالُّ والمُرشِدُ، فالعلماءُ هم الهُداةُ، أي: المُرْشِدُونَ إلى طريقِ الخيرِ، هدايةَ دلالةٍ وإرشادٍ وتوضيحٍ وبَيانٍ،

وأمَّا الهدايةُ المذكورةُ في قولِه -سُبْحَانَهُ-: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}، فالمرادُ بها: هدايةُ التوفيقِ والإلهامِ، فالرُّسُلُ وأتْباعُهم هم الأدِلَّةُ حقاًّ، واللَّهُ هُوَ الموَفِّقُ المُلْهِمُ الخالِقُ للهُدى في القلوبِ.
قولُه: (مصابيحُ) جمع مِصباحٍ وهُوَ السِّراجُ، والدُّجَى الظُّلمةُ، أي يُستضاءُ بهم في ظُلماتِ الجهلِ، كما يُجلى ظلامُ اللَّيلِ بالسِّراجِ المنيرِ ويُهتدَى بِهِ فيه، أي: مِن أهلِ السُّنَّةِ والجَماعَةِ أئمَّةُ الإسلامِ وهُداةُ الأنامِ، والدَّالُّون للأُمَّةِ على نَهْجِ الرَّسولِ، والكاشِفونَ لهم عن معاني الكِتابِ والسُّنَّةِ، والمستضاءُ بهم في ظُلماتِ الجهلِ وسَوادِ الشِّركِ والخُرافاتِ والوَثَنِيَّةِ، والذَّابُّونَ عن الشَّريعةِ، المدافِعون عنها تحريفَ الغالِينَ وانتحالَ المُبْطِلينَ وتأويلَ الظَّالِمينَ، الذين بهم قام الكتابُ وبِهِ قامُوا.
وعن أنسٍ مرفوعا: ((اتَّبِعُوا العلماءَ فإنَّهم سُرُجُ الدُّنْيَا ومصابيحُ الآخرةِ))، أَخرجَه في مسنَدِ الفِرْدَوسِ بسندٍ ضعيفٍ،

وفي مسنَدِ أحمدَ -رضي اللَّهُ عنه- عن النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((إِنَّ مَثَلَ الْعُلَمَاءِ فِي الأَرْضِ كَمَثَلِ النُّجُومِ فِي السَّمَاءِ يُهْتَدَى بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، فَإِذَا انْطَمَسَتِ النُّجُومُ أَوْشَكَ أَنْ تَضِلَّ الْهُدَاةُ)).
قولُه: (أُولو المناقِبِ المأثورةِ والفضائلِ المذكورةِ) أي: أصحابُ المناقِبِ، وَهِيَ جَمعُ مَنْقَبةٍ ضِدُّ المَثْلَبةِ، قال في القاموسِ: المَنْقَبةُ: المَفْخَرةُ، والمأثورةُ أي المذكورةُ، ومنه أَثَرَ الحديثَ، أي: نَقَلَه عن غيرِه، والفضائِلُ جَمعُ فضيلةٍ، وَهِيَ ضِدُّ النَّقيصةِ، والفَضلُ: الخيرُ،

(المذكورةِ)، أي: الذَّائعةِ الصِّيتِ المتردِّدةِ على الألْسُنِ، والذِّكْرُ: هُوَ الصِّيتُ والشَّرفُ، قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ}/ وهَذَا الذِّكْرُ عُمْرٌ ثانٍ وحياةٌ أخرى، وَذَلِكَ أحقُّ ما تَنافَسَ بِهِ المتنافِسون ورَغِبَ بِهِ الرَّاغِبون، ومَن تأمَّلَ أحوالَ أئِمَّةِ الإسلامِ كَيْفَ هم تحتَ التُّرابِ، وهم في العالَمِين كأنَّهم أحياءُ بينهم لم يَفْقَدوا منهم إلا صُوَرَهم، وإلاَّ فَذِكْرُهم والثَّناءُ عليهم غيرُ منقطِعٍ، عَلِمَ أنَّ هَذِهِ الحياةُ حقاًّ كما قال المتَنَبِي:

ذِكْرُ الفَتَى عُمْرُه الثَّاني وحاجَتُه ... ما فاتَه وفُضولُ العَيشِ إِشغـالُ


وقال ابنُ دُريدٍ:

وإنَّما المرءُ حديثٌ  بعـده ... فكُنْ حَدِيثا حَسَنا لمَنْ وَعَى

وقال آخَرُ:

وفي الجَهلِ قبلَ الموتِ موتٌ  لأهلِه ... فأجْسامُهُم قَبـلَ القُبـورِ قُبـورُ
وأرْواحُهُم في وَحشةٍ مِن جُسومِهم ... وليس لَهُم حتَّى  النُّشورِ  نُشـورُ


وقال آخر:

أخو العِلمِ حَـيٌّ خالـدٌ بعـد  مَوْتِـه ... وأوصالُـه تحـت التُّـرابِ  رَمـيـمُ
وذو الجهلِ مَيْتٌ وهُوَ يَمْشِي على الثَّرى ... يُعَـدُّ مِـن الأحيـاءِ وهُـوَ عَـديـمُ


وفي حديثِ عليٍّ -رضي اللَّهُ عنه- أنَّه قال: ماتَ خُزَّانُ الأموالِ وهم أحياءُ، والعلماءُ باقونَ ما بَقِيَ الدَّهرُ، أعيانُهم مفقودةٌ وأمثالُهم في القلوبِ مَوجودةٌ.
قولُه: (وفيهم الأبدالُ) أي: في أهلِ السُّنَّةِ والجَماعَةِ الأبدالُ، قال في النِّهايةِ: هم الأولياءُ والعُبَّادُ، سُمُّوا بِذَلِكَ؛ لأنَّهم كُلَّ ما ماتَ مِنهم واحدٌ أُبْدِلَ بآخَرَ. انتهى.
قال في الآدابِ الشَّرعيَّةِ: ونَصَّ أحمدُ -رَحِمَهُ اللَّهُ- على أنَّ لِلَّهِ أَبْدالاً في الأرضِ، قيل مَن هُم؟ قال: إن لم يكونوا أصحابَ الحديثِ فلا أَعْرِفُ لِلَّهِ أبدالا.

وقال أيضًا عنهم: إن لم يكونوا هؤلاءِ فلا أَدْرِي مَن النَّاسُ. انتهى.
وقد ورد في الأبدالِ عِدَّةُ أحاديثَ، وكُلُّها متكلَّمٌ فيها، وصَنَّفَ السيوطيُّ مُصَنَّفا في الأبدالِ وذَكَرَ الأحاديثَ الواردةَ فيهم،

وقال الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ -رَحِمَهُ اللَّهُ- تعالى: كُلُّ حديثٍ يُروى عن النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- في عِدَّةِ الأولياءِ والأبدالِ والنُّقباءِ والنُّجباءِ والأَوْتادِ والأقطابِ ونحوِ ذَلِكَ فليس في ذَلِكَ شيءٌ صحيحٌ عن النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-، ولم يَنْطِق السَّلَفُ بشيءٍ من هَذِهِ الألفاظِ إلاَّ بلفظِ الأبدالِ، رُوِي فيهم حديثٌ أنَّهم أربعون وأنَّهم في الشَّامِ، وهُوَ في المسنَدِ مِن حديثِ عليٍّ، وهُوَ حديثٌ منقطعٌ ليس بثَابتٍ. انتهى.
إذا عرفْتَ ما تقدَّمَ فما يَزْعُمُه المُخَرِّفون مِن أنَّ مَدَدَ الخلائِقِ ونَصْرَهُم ورِزْقَهُم يكونُ بواسطةِ هؤلاءِ لا شكَّ في بُطلانِه، وأنَّه ليس مِن دِينِ المسلِمِينَ، بل مِن دينِ المشركين، وقد ذَكَرَ الشَّيخُ الإجماعَ على أنَّ مَن جَعلَ بَيْنَه وبين اللَّهِ واسطةً يَدعُوه ويتوكُلُّ عليه أنَّه كافِرٌ، قال اللَّهُ تعالى حاكِيًا عن المشركِين أنَّهم يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}، وقال عنهم إنَّهم يقولون: {هَـؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ}.
قال ابنُ القيِّمِ في النُّونيَّةِ:

والشِّركُ فهُوَ  تَوسُّلٌ  مقصودُه ... الزُّلْفَى إلى الرَّبِ العظيمِ الشَّانِ


وقال الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ -رَحِمَهُ اللَّهُ- بعد كلامٍ: والذين تكلَّمُوا باسِمِ البَدَلِ أَفْردُوه بمعانٍ، منها أنَّهم كُلَّ ما ماتَ منهم رجُلٌ أُبْدِلَ بآخَرَ، ومنها أنَّهم أَبْدَلوا السِّيَّئاتِ بأخلاقِهم وأعمالِهم وعقائدِهم بالحسناتِ، وَهَذِهِ الصِّفاتُ كُلُّها لا تختصُّ بأربعين ولا بأقَلَّ ولا أَكْثَرَ، ولا تُحْصَرُ بأهلِ بقعةٍ مِن الأرضِ،

إلى أنْ قال: فالغَرضُ أنَّ هَذِهِ الأسماءَ تارةً تُفَسَّرُ بمعاني باطِلةٍ بالكِتابِ والسُّنَّةِ وإجماعِ السَّلَفِ، مِثلُ تفسيرِ بعضِهم بأَنَّ الغَوْثَ هُوَ الذي يُغِيثُ اللَّهُ بِهِ أهلَ الأرضِ مِن رِزقِهم ونَصْرِهم، فإنَّ هَذَا نَظيرُ ما تَعتقِدُه النَّصارى في البابِ، وهُوَ معدومُ العينِ والأثرِ وتشبيهٌ بحال المنْتَظَرِ، وَكَذَلِكَ مَن فسَّرَ الأربعين الأبدالَ بأَنَّ النَّاسَ إنَّما يُنْصرُونَ ويُرْزقونَ بهم فذَلِكَ باطلٌ، بل النَّصرُ والرِّزقُ يَحصلُ بأسبابِ مِن أَوْكدِها دعاءُ المسلِمِينَ والمؤمنين، وَصَلاتُهم وإخلاصُهم، ولا يتقيَّدُ ذَلِكَ بأربعين ولا بأقلَّ، وقد يكونُ للنَّصرِ والرِّزقِ أسبابٌ أُخرُ، انتهى بتلخيص.

(3) قولُه: (وفيهم أئمَّةُ الدِّينِ) إلخ أي: في أهلِ السُّنَّةِ والجَماعَةِ أئمَّةُ الدِّينِ، أي المُقْتَدى بهم فيه، كالإمامِ أبِي حنيفةَ، ومالِكٍ، والشَّافِعيِّ، وأحمدَ، وسفيانَ الثَّوريِّ، وغيرِهم، كالشَّيخِ تَقِيِّ الدِّينِ وابنِ القيِّمِ، وكإمامِ هَذِهِ الدَّعْوةِ الشَّيخِ مُحَمَّدِ بنِ عبدِ الوهَّابِ، وغيرِهم مِن أئمَّة الهُدى الذين اشتَهَرت إمامَتُهم، وأَجْمعَ المسلمونَ على هِدايَتِهم ودِرَايَتِهِم، فلا يُقبلُ فيهم قولُ جارحٍ ولا طَعنُ طاعِنٍ؛ إذْ مَن ظَهَرتْ عَدَالَتُه واشتهَرَتْ إمامَتُه فلا يُلْتَفَتُ فيه إلى قولِ قائلٍ.
وقد رُوِيَ عن النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- بأنَّه قال: ((يَحْمِلُ هَذَا العِلْمَ مِن كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ، يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِيَن)).

قال ابنُ القيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: وهَذَا يتضمَّنُ تعديلَه -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- لحَمَلةِ العِلمِ الذي بُعِثَ به، فلهَذَا اشتُهِرَ عند الأمَّةِ عَدالَةُ نَقَلَتِه اشْتِهارًا لا يَقْبلُ شَكاًّ ولا امْتِراءً، ولا ريبَ أنَّ مَن عدَّلَه الرَّسولُ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- لا يُسمعُ فيه جرحُ جارحٍ، فلهَذَا لا يُقبلُ قَدْحُ بعضِهم في بعضٍ، وهَذَا بخلافِ مَن اشتُهِرَ عندَ الأمَّةِ جَرحُه والقَدحُ فيه، كأئمَّةِ البدعِ، ومَن جَرى مجراهم مِن المتَّهَمِين، فإنَّهم ليسوا عند الأمَّةِ مِن حَملةِ العِلمِ، انتهى بتصرفٍ،
وقد اشتُهِرَ عن هؤلاء الأئمَّةِ النَّهْيُ عن التَّقليدِ والحثِّ على اتِّباعِ الكِتابِ والسُّنَّةِ، كما رُويَ عن الإمامِ أحمدَ أنَّه قال: عَجِبْتُ لقومٍ عَرَفوا الإسنادَ وصِحَّتَه يَذْهَبونُ إلى رأى سُفيانَ، واللَّهُ تعالى يقولُ: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، أتدري ما الفِتنةُ؟ الفتنةُ: الشِّركُ، لعلَّه إذا رَدَّ قولَه أو بعضَ قولِه أنْ يَقعَ في قَلبِه شيءٌ مِن الزَّيغِ فيَهلَكُ.
وقال مالكٌ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: كُلٌّ يُؤخَذُ مِن قولِه ويُترَكُ إلاَّ صاحِبَ هَذَا القَبرِ.

وقال الشَّافِعيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: أَجمعَ العلماءُ على أنَّ مَن استَبَانَتْ له سُنَّةُ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- لم يكُنْ له أنْ يَدَعَها لقولِ أحدٍ. إلى غيرِ ذَلِكَ مِن كلامِ الأئمَّةِ في الحثِّ على الاتِّباعِ وذَمِّ التَّقليدِ،
قال الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّين -رَحِمَهُ اللَّهُ-: قد اتَّفَق الأئمَّةُ اتِّفاقًا يَقِيناً على وُجوبِ اتِّباعِ الرَّسولِ –صلى الله عليه وسلم- وعلى أنَّ كُلَّ أحدٍ يُؤخَذُ مِن قَولِه ويُتْرَكُ إلاَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- وإذا وُجِدَ لواحدٍ منهم قولٌ قد جاء الحديثُ الصَّحيحُ بخلافِه فلا بدَّ له مِن عُذْرٍ في تَرْكِه، وجميعُ الأعذارِ ثلاثةُ أصنافٍ:
أحدُها: عدمُ اعتقادِ أَنَّ الرَّسولَ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قاله.
والثَّاني: عدمُ اعتقادِه إرادةُ تلكَ المسألةِ بِذَلِكَ القولِ.
الثَّالثُ: أنَّ ذَلِكَ الحُكمَ مَنسوخٌ، انتهى مِن كتابِ رَفعِ المَلامِ عن الأئمَّةِ الأعلامِ.
قولُه: (المَنْصورَةُ) أي: بالحُجَّةِ والبَيانِ أو بالسَّيْفِ والسِّنانِ، فعلى الأوَّلِ هم أهلُ العِلمِ، وبِهِ قال البخاريُّ وغيرُه، وقال ابنُ القَيِّمِ: هم أهلُ العِلمِ والمعرفةِ بما بَعثَ اللَّهُ بِهِ رَسولَه.
قولُه: (الذين قال فيهم النَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-) الحديثُ رواه مسلمٌ من حديثِ جابرِ بنِ سَلمةَ، وجابرِ بنِ عبدِ اللَّهِ وثوبانَ، وأَخْرجاه في "الصَّحيحَيْنِ" من حديثِ المغيرةِ بنِ شعبةَ ومعاويةَ بنِ أبي سفيانَ.
قولُه ((ظَاهِرين)) أي: غَالِبين، والظُّهورُ: الغَلَبةُ.

وقولُه: ((حتى تَقُومَ السَّاعةُ)) أي: ساعةُ مَوْتِهم بهُبوبِ الرِّيحِ، تَقْبِضُ رُوحَ كُلِّ مؤمِنٍ، وَهِيَ السَّاعةُ في حقِّ المؤمنين، وإلاَّ فالسَّاعةُ لا تَقومُ إلاَّ على شِرارِ الخَلقِ، وقد تقدَّمَ ذَلِكَ،
وفي هَذَا الحديثِ فوائدُ:
منها أنَّ فيه عَلمًا مِن أعلامِ نُبوَّتِه -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-، ومعجزةً ظاهرةً للنَّبيِّ، فإنَّ هَذَا الوَصْفَ ما زَالَ بحمدِ اللَّهِ مِن زَمَنِ النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- إلى الآنَ ولا يَزالُ،
وفيه دليلٌ لكونِ الإجماعِ حُجَّةً، وقال القرطبيُّ: وهُوَ أَفْصَحُ ما استُدِلَّ بِهِ مِن الحديثِ، أمَّا حديثُ: ((لا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلاَلَةٍ)) فضعيفٌ،
وفيه الآيةُ العظيمةُ أنَّهم مع قِلَّتِهم لا يَضرُّهُم مَن خَذَلَهم ولا مَن خالَفَهم، وفيها البِشارةُ أَنَّ الحقَّ لا يَزولُ بالكُلِّيَّةِ، قالَه الشَّيخُ مُحَمَّدُ بنُ عبدِ الوهَّابِ في كتابِ التَّوحيدِ،
واحتجَّ بِهِ أحمدُ على أَنَّ الاجتهادَ لا يَنقطِعُ، وأنَّ هَذِهِ الطائفةَ موجودةٌ،
واستُدِلَّ بِهِ أيضًا على أَنَّ الأمَّةَ لا تَجتمِعُ على ضلالةٍ، ولا تَرتدُّ جميعُها، بل لا بدَّ أن يُبقِيَ اللَّهُ مِن المؤمنينَ مَن هُوَ ظاهرٌ إلى قيامِ السَّاعةِ، فإذا ماتَ كُلُّ مؤمنٍ فقد جاءت السَّاعةُ).

هيئة الإشراف

#6

28 Dec 2008

شرح العقيدة الواسطية للشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (لكنْ لَمَّا أخْبَرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ أمَّتَهُ سَتَفَتَرقُ على ثلاث وَسَبْعينَ فرْقَةً كُلُّهَا في النَّارِ إلاَّ وَاحِدَةً، وهيَ الجَمَاعةِ، وفي حديثٍ عنْهُ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قال: ((هم مَنْ كان على مثْلِ ما أنَا عليْهِ اليَوْمَ وأصْحَابي)) صَارَ المُتمسِّكوُنَ بالإِسْلامِ المَحْضِ الخَالِصِ عن الشَّوْبِ همْ أَهْلُ السُّنَّةِ والجمَاعَةِ، وفيهمْ الصِّدِّيقُونَ والشُّهَدَاءُ وفيهمْ الصَّالحونَ، ومنهمْ أعلامُ الهُدى ومَصَابيحُ الدُّجَى، أولو المنَاقِبِ المأثُورةٍ، والفَضَائل المذْكُورةِ، وفيهم الإبْدَالُ وفِيهمْ أَئِمَّةُ الدِّينَ أجْمَعَ المُسْلِمُونَ على هِدَايَتِهمْ ودِرايتِهمْ، وهُمْ الطَّائفَةُ المنْصُورَةُ الَّذينَ قالَ فيهمْ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((لا تزَالُ طَائفَةٌ من أمَّتي على الحَقِّ ظاهِرِينَ لا يَضُرُّهُمْ منْ خذلَهُمْ ولا من خَالَفَهُمْ حتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ)). (1) ).


الشرح:

قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): ( (1) (52) قَولُهُ: ((لَكِنْ لَمَّا أَخْبرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّ أُمَّتَهُ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً؛ كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً، وَهِيَ الجَمَاعَةُ)):
((أنَّ أمَّتَهُ))؛ يَعْنِي: أُمَّةَ الإِجَابَةِ، لَا أُمَّةَ الدَّعوَةِ؛ لِأَنَّ أُمَّةَ الدَّعْوَةِ يَدْخُلُ فِيهَا اليَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَهُمْ مُفْتَرِقُونَ؛ فَاليَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَالنَّصَارَى عَلَى اثْنَتَينِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَهَذِهِ الأُمَّةُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ؛ كُلُّهَا تَنْسِبُ نَفْسَهَا إِلَى الإِسْلَامِ وَاتِّبَاعِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَولُهُ: ((كُلُّها فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً)): لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الخُلُودُ فِي النَّارِ، وَإِنَّمَا المَعْنَى أَنَّ عَمَلَهَا مِمَّا تَسْتَحِقُّ بِهِ دُخُولَ النَّارِ.
وَهَذِه الثَّلَاثُ وَالسَّبْعُونَ فِرْقَةً؛ هَلْ وَقَعَتِ الآنَ وتَمَّتْ أَوْ هِيَ فِي المَنْظُورِ؟
أَكْثَرُ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا عَلَى هَذَا الحَدِيثِ قَالُوا: إنَّها وَقَعَتْ وَانتَهَتْ، وَصَارُوا يُقَسِّمَونَ أَهْلَ البِدَعِ إِلَى خَمْسَةِ أُصُولٍ رَئِيسِيَّةٍ، ثُمَّ هَذِهِ الخَمْسَةُ الأُصُولُ يُفَرِّعُونَ عَنْهَا فِرَقاً، حَتَّى أَوْصَلُوهَا إِلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَأَبْقَوا فِرْقَةً وَاحِدَةً، وَهِيَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ.
وَقَالَ بَعْضُ العُلَمَاءِ: إنَّ الرَّسولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَبْهَمَ هَذِهِ الفِرَقَ، وَلَا حَاجَةَ أَنْ نَتَكَلَّمَ فَنُقَسِّمُ البِدَعَ المَوْجُودَةَ الآنَ إِلَى خَمْسَةِ أُصُولٍ، ثُمَّ نُقَسِّمُ هَذِهِ الأُصُولَ إِلَى فُرُوعٍ، حَتَّى يَتِمَّ العَدَدُ، حَتَّى إِنَّنَا نَجْعَلُ الفَرْعَ أَحْيَاناً فِرْقَةً تَامَّةً مِنْ أَجْلِ مُخَالَفَتِهَا فِي فَرْعٍ وَاحِدٍ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يُعَدُّ فِرْقَةً مُسْتَقِلَّةً.
فَالأَوْلَى أَنْ نَقُولَ: إِنَّ هَذِهِ الفِرَقَ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ لَنَا، وَلَكِنَّنَا نَقُولُ: بِلَا شَكٍّ إنَّهَا فِرَقٌ خَرَجَتْ عَنِ الصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ؛ مِنْهَا مَا خَرَجَ فَأَبْعَدَ، وَمِنْهَا مَا خَرَجَ خُرُوجاً مُتَوَسِّطاً، وَمِنْهَا مَا خَرَجَ خُرُوجاً قَرِيباً، وَلَا نُلْزمُ بِحَصْرِها؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَخْرُجُ فِرَقٌ تَنْتَسِبُ لِلأُمَّةِ الإِسْلَامِيَّةِ غَيْرُ الَّتِي عَدَّهَا العُلَمَاءُ؛ كَمَا هُوَ الوَاقِعُ؛ فَقَدْ خَرَجَ فِرَقٌ تَنْتَسِبُ إِلَى الإِسْلَامِ مِنْ غَيْرِ الفِرَقِ الَّتِي كَانَتْ قَدْ عُدَّتْ فِي عَهْدِ العُلَمَاءِ السَّابِقِينَ.
وَعَلَى كُلِّ حَالٍ؛ فَالرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَخْبَرَ أَنَّ أُمَّتَهُ أُمَّةَ الإِجَابَةِ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، كُلُّها ضَالَّةٌ، وَفِي النَّارِ؛ إِلَّا وَاحِدَةً وَهِيَ:
قَالَ: ((وَهِيَ الجَمَاعَة))؛ يِعْنِي: الَّتِي اجْتَمَعَتْ عَلَى الحَقِّ وَلَمْ تَتَفَرَّقْ فِيهِ.
قَولُهُ: ((وَفِي حَدِيثٍ عَنْهُ أنَّهُ قَالَ: ((هُمْ مَن كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ اليَوْمَ وَأَصْحَابِي))؛ صَارَ المُتَمَسِّكُونَ بِالإِسْلَامِ المَحْضِِ الخَالِصِ عَن الشَّوْبِ هُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ)).
قَالَ: ((وَفِي حَدِيثٍ عَنْهُ أنَّهُ قَالَ: ((هُمْ مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ اليَوْمَ وَأَصْحَابِي)))): والَّذِينَ كَانُوا عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ هُم الجََمَاعَةُ الَّذِينَ اجْتَمَعُوا عَلَى شَرِيعَتِهِ، وَهُم الَّذِينَ امْتَثَلُوا مَا وَصَّى اللهُ بِهِ: (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) [الشُّورى: 13]؛ فَهُمْ لَمْ يَتَفَرَّقُوا، بَلْ كَانُوا جَمَاعَةً وَاحِدَةً.
قَالَ: ((صَارَ المُتَمَسِّكُونَ بِالإِسْلَامِ المَحْضِ الخَالِصِ عَن الشَّوبِ هُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ)): جُمْلَةُ ((صَارَ)) جَوَابُ الشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ: ((لَكِنْ لِمَّا)).
فَإِذَا سُئِلْنَا: مَن أَهْلُ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ؟
فَنَقُولُ: هُم المُتَمَسِّكُونَ بِالإِسْلَامِ المَحْضِ الخَالِصِ عَنِ الشَّوبِ.
وَهَذَا التَّعْرِيفُ مِن شَيْخِ الإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَةَ يَقْتَضِي أَنَّ الأَشَاعِرَةَ وَالمَاتُرِيدِيَّةَ وَنَحْوَهُمْ لَيْسُوا مِن أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ؛ لِأَنَّ تَمَسُّكَهُمْ مَشُوبٌ بِمَا أَدْخَلُوا فِيهِ مِن البِدَعِ.
وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ؛ أنَّهُ لَا يُعدُّ الأَشَاعِرةُ وَالمَاتُرِيدِيَّةُ فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ فِي أَسْمَاءِ اللهِ وَصِفَاتِهِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ.
وَكَيْفَ يُعَدُّونَ مِن أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ فِي ذَلِكَ مَعَ مُخَالَفَتِهِمْ لِأَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ؟!
لِأَنَّهُ يُقَالُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ الحَقُّ فِيمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ هَؤُلَاءِ الأَشَاعِرَةُ وَالمَاتُرِيدِيَّةُ، أَو الحَقُّ فِيمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ السَّلَفُ. وَمِن المَعْلُومِ أَنَّ الحَقَّ فِيمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ السَّلَفُ؛ لِأَنَّ السَّلَفَ هُنَا هُم الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَأَئِمَّةُ الهُدَى مِنْ بَعْدِهِمْ. فَإِذَا كَانَ الحَقُّ فِيمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ السَّلَفُ، وَهًؤُلَاءِ يُخَالِفُونَهُمْ؛ صَارُوا لَيْسُوا مِن أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ فِي ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: ((وَفِيهِمْ))؛ أَيْ: فِي أَهْلِ السُّنَّةِ.
((الصِّدِّيقُونَ)): جَمْعُ صِدِّيقٍ، مِن الصِّدْقِ، وَهَذِهِ الصِّيغَةُ لِلمُبَالَغَةِ، وَهُوَ الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ؛ كَمَا قَالَ تعالَى: (وَالَّذِى جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ) [الزُّمَر: 33]؛ فَهُوَ صَادِقٌ فِي قَصْدِهِ، وَصَادِقٌ فِي قَوْلِهِ، وَصَادِقٌ فِي فِعْلِهِ.
-أَمَّا صِدْقُةٌ فِيِ قَصْدِهِ؛ فَعَنْدَهُ تَمَامُ الإِخْلَاصِ للهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَتَمامُ المُتَابَعَةِ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَقَدْ جَرَّدَ الإِخْلَاصَ وَالمُتَابَعَةَ، فَلَمْ يَجْعَلْ لِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى شِرْكَاً فِي العَمَلِ، وَلَمْ يَجْعَلْ لِغَيْرِ سُنَّةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتِّبَاعاً فِي عَمَلِهِ؛ فَلَا شِرْكَ عِنْدَهُ وَلَا ابْتِدَاعَ.
-صَادِقٌ فِي قَوْلِهِ، لَا يَقُولُ إِلَّا صِدْقاً، وَقَدْ ثَبَتَ عَن النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أنَّهُ قَالَ: ((عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ؛ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى البِرِّ، وَإِنَّ البِرَّ يَهْدِي إِلَى الجَنَّةِ، وَلَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقاً)).
-صَادِقٌ فِي فِعْلهِ؛ بِمَعْنَى: أنَّ فِعْلَهُ لَا يُخَالِفُ قَوْلَهُ، فَإِذَا قَالَ؛ فَعَلَ، وَبِهَذَا يَخْرُجُ عَنْ مُشَابَهَةِ المُنَافِقِينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ.
-وَأيضاً يُصَدِّقُ بِمَا قَامَتِ البَيِّنَةُ عَلَى صِدْقِهِ؛ فَلَيْسَ عِنْدَهُ رَدٌّ لِلْحَقِّ، وَلَا احْتِقَارٌ لِلْخَلْقِ.
وَلِهَذَا كَانَ أَبُو بَكْرٍ أَوَّلَ مَنْ سُمِّيَ الصِّدِّيقُ مِن هَذِهِ الأُمَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَجَعَلَ يَتَكَلَّمُ أنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ وَعُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ؛ صَارَ الكُفَّارُ يَضْحَكُونَ بِهِِ وَيُكَذِّبُونَهُ وَيَقُولُونَ: كَيْفَ تَذْهَبُ يَا مُحَمَّدُ فِي لَيْلَةٍ وَتَصِلُ فِي لَيْلَةٍ إِلَى مَا وَصَلْتَ إِلَيْهِ فِي السَّمَاءِ وَنَحْنُ إِذَا ذَهَبْنَا إِلَى الشَّامِ نَبْقَى شَهْراً لَمْ نَصِلْهُ وَشَهْراً لِلرُّجُوعِ؟! فَاتَّخَذُوا مِن هَذَا سُلَّمَاً لِيُكَذِّبُوا الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى أَبِي بَكْرٍ، وَقَالُوا: إنَّ صَاحِبَكَ يُحَدِّثُ وَيَقُولُ كَذَا وَكَذَا! قَالَ: إِنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ؛ فَقَدْ صَدَقَ. فَمِن ذَلِكَ اليَومِ سُمِّيَ الصِّدِّيقُ، وَهُوَ أَفْضَلُ الصِّدِّيقِينَ مِن هَذِهِ الأُمَّةِ وَغَيْرِهَا.
قَولُهُ: ((وَفِيهِم الشُّهَدَاءُ)): جَمْعُ شَهِيدٍ؛ بِمَعْنَى: شَاهِدٍ.
فَمَنْ هُم الشُّهَدَاءُ؟
-قِيلَ: هُمْ العُلَمَاءُ؛ لِأَنَّ العَالِمَ يَشْهَدُ بِشَرْعِ اللهِ، وَيَشْهَدُ عَلَى عِبَادِ اللهِ بِأَنَّهَا قَامَتْ عَلَيْهِمْ الحُجَّةُ، وَلِهَذَا يُعَدُّ العَالِمُ مُبَلِّغاً عَن اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُولِهِ شَرِيعَتِه الَّتِي جَاءَ بِهَا رَسُولُهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَكُونُ شَاهِداً بِالحَقِّ عَلَى الخَلْقِ.
-وَقِيل: إَنَّ الشَّهِيدَ مَن قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الآيَةَ عَامَّةٌ لِهَذَا وَهَذَا.
قَولُهُ: ((وَفِيهِمْ الصَّالِحُونَ))، وَالصَّالِحُ ضِدُ الفَاسِدِ، وَهُوَ الَّذِي قَامَ بِحَقِّ اللهِ وَحَقِّ عِبَادِهِ، وَهُوَ غَيْرُ المُصْلِحِ؛ فَالإِصْلَاحُ وَصْفٌ زَائِدٌ عَلَى الصَّلَاحِ؛ فلََيْسَ كُلُّ صَالِحٍ مُصْلِحاً، فَإِنَّ مِن الصَّالِحِينَ مَن هَمُّهُ هَمُّ نَفْسِهِ، وَلَا يَهْتمُّ بِغَيْرِهِ، وَتَمَامُ الصَّلَاحِ بِالإِصْلَاحِ.
قَولُهُ: ((وَمِنْهُمْ أَعْلَامُ الهُدَى وَمَصَابِيحُ الدُّجَى)):
الأَعْلَامُ: جَمْعُ عَلَمٍ، وَهُوَ فِي الأَصْلِ الجَبَلُ؛ قَالَ اللهُ تعالَى: (وَمِن آيَاتِهِ الجَوَارِ فِى البَحْرِ كَالأَعْلامِ) [الشُّورى: 32]؛ يَعْنِي: الجِبَالَ، وَسُمِّيَ الجَبَلُ عَلَماً؛ لِأَنَّهُ يُهْتَدَى بِهِ وَيُسْتَدلُّ بِهِ.
وَ((أَعْلَامُ الهُدَى)): الَّذِينَ يَسْتَدِِلّ النَّاسُ بِهِمْ وَيَهْتَدُونَ بِهَدْيِهِمْ، وَهُمْ العُلَمَاءُ الرَّبَّانِيُّونَ؛ فَإِنَّهُمْ هُم الهُدَاةُ، وَهُمْ مَصَابِيحُ الدُّجَى.
وَالمَصَابِيحُ: جَمْعُ مِصْبَاحٍ، وَهُو مَا يُسْتَصْبَحُ بِهِ لِلإِضَاءَةِ.
واَلدُّجَى: جَمْعُ دُجَيَّةٍ، وَهِيَ الظُّلْمَةُ؛ أَيْ: هُمْ مَصَابِيحُ الظُّلْمِ، يَسْتَضِيءُ بِهِم النَّاسُ، وَيَمْشُونَ عَلَى نُورِهِمْ.
قَوْلُهُ: ((أُولُو المَنَاقِبِ المَأثُورَةِ، وَالفَضَائِلِ المَذْكُورَةِ)):
((المَنَاقِبُ)): جَمْعُ مَنْقَبَةٍ، وَهِيَ المَرْتَبَةُ؛ أيْ: مَا يَبْلُغُهُ الإِنْسَانُ مِن الشَّرَفِ وَالسُّؤدُدِ.
وَأمَّا ((الفَضَائِلُ))؛ فَهِي جَمْعُ فَضِيلَةٍ، وَهِي الخِصَالُ الفَاضِلَةُ، الَّتِي يَتَّصِفُ بِهَا الإِنْسَانُ مِن العِلْمِ وَالعِبَادَةِ وَالزُّهْدِ وَالكَرَمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ فَالفَضَائِلُ سُلَّمٌ لِلمَنَاقِبِ.
قَولُهُ: ((وَفِيهِم الأَبْدَالُ)): ((الأَبْدَالُ)): جَمْعُ بَدَلٍ، وَهُمْ الَّذِينَ تَمَيَّزُوا عَنْ غَيْرِهِمْ بِالعِلْمِ وَالعِبَادَةِ، وَسُمُّوا أَبْدَالاً: إِمَّا لِأَنَّهُمْ كُلَّمَا مَاتَ مِنْهُمْ وَاحِدٌ؛ خَلَفَهُ بَدَلُهُ، أَوْ أنَّهُم كَانُوا يُبَدِّلُونَ سَيِّئاتِهِمْ حَسَنَاتٍ، أَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا لِكَوْنِهِمْ أُسْوَةً حَسَنَةً كَانُوا يُبَدِّلُونَ أَعْمَالَ النَّاسِ الخَاطِئَةَ إِلَى أَعْمَالٍ صَائِبَةٍ، أَوْ لِهَذَا كُلِّهِ وَغَيْرِهِ.
قَولُهُ: ((وَفِيهِمْ أَئِمَّةُ الدِّينِ الَّذِينَ أَجْمَعَ المُسْلِمُونَ عَلَى هِدَايَتِهِمْ)):
الإمَامُ: هُوَ القُدْوَةُ.
وَفِي أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ أَئِمَّةُ الدِّينِ الَّذِينَ أَجْمَعَ المُسْلِمُونَ عَلَى هِدَايَتِهِمْ؛ مِثْلُ: الإِمَامِ أَحْمَدَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَمَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَسُفْيَانَ الثَّورِيِّ، وَالأَوْزَاعِيِّ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ الأَئِمَّةِ المَشْهُورِينَ المَعْرُوفِينَ؛ كَشَيْخِ الإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَةَ، وَشَيْخِ الإِسْلَامِ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الوَهَّابِ.
وَقَولُهُ: ((أَئِمَّةُ الدِّينِ)): خَرَجَ بِهِ أَئِمَّةُ الضَّلَالِ مِنْ أَهْلِ البدعِ؛ فَهَؤلَاءِ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ، بَلْ هُمْ عَلَى خِلَافِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ، وَهُمْ؛ وَإِنْ سُمُّوا أَئِمَّةً؛ فَإِنَّ مِن الأَئِمَّةِ أَئمَّةٌ يَدْعُوُنَ إِلَى النَّارِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ آلِ فِرْعَونَ: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ القِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ) [القَصَص: 41].
قَولُهُ: ((وَهُم الطَّائِفَةُ المَنْصُورَةُ)):
يَعْنِي: أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ هُم الطَّائِفَةُ المَنْصُورةُ الَّتِي نَصَرَهَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ؛ لِأَنَّهُمْ دَاخِلُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا فِى الحَيَاةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ) [غَافِر: 51]؛ فَهُمْ مَنْصُورُونَ، وَالعَاقِبَةُ لَهُمْ.
وَلَكِنْ لَا بُدَّ قَبْلَ النَّصْرِ مِنْ مُعَانَاةٍ وَتَعَبٍ وَجِهَادٍ؛ لِأَنَّ النَّصْرَ يَقْتَضِي مَنْصُوراً وَمَنْصُوراً عَلَيْهِ؛ إِذَنْ فَلَا بُدَّ مِن مُغَالَبَةٍ، وَلَا بُدَّ مِن مِحْنَةٍ، وَلَكِنْ كَمَا قَالَ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ:
الحَقُّ مَنْصُورٌ وَمُمْتَحَنٌ فَلَا تَعْجَبْ فَهَذِي سُنَّةُ الرَّحْمَنِ
فَلَا يَلْحَِقْكَ العَجْزُ وَالكَسَلُ إِذَا رَأَيْتَ أَنَّ الأُمُورَ لَمْ تَتِمَّ لَكَ بِأَوَّلِ مَرَّةٍ، بَلْ اصْبِرْ وَكَرِّرْ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرى، وَاصْبِرْ عَلَى مَا يُقَالُ فيِكَ مِن اسْتِهْزَاءٍ وَسُخْرِيَةٍ؛ لِأَنَّ أَعْدَاءَ الدِّينِ كَثِيرُونَ.
لَا يُثْنِي عَزْمَكَ أَنْ تَرَى نَفْسَكَ وَحِيداً فِي المَيْدَانِ؛ فَأَنْتَ الجَمَاعةُ وَإِنْ كُنْتَ وَاحِداً، مَا دُمْتَ عَلَى الحَقِّ، وَلِهَذَا ثِقْ بِأنَّكَ مَنْصُورٌ إِمَّا فِي الدُّنْيا وَإِمَّا فِي الآخِرَةِ.
ثُمَّ إنَّ النَّصْرَ لَيْسَ نَصْرُ الإنْسَانِ بِشَخْصِهِ، بَلْ النَّصْرُ الحَقِيقِيُّ أَنْ يَنْصُرَ اللهُ تَعَالَى مَا تَدْعُو إِلَيْهِ مِِن الحَقِّ، أمَّا إِذَا أُصِيبَ الإِنْسَانُ بِذُلٍّ فِي الدُّنْيا؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُنَافِي النَّصْرَ أَبَداً؛ فَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أُوذِيَ إِيذَاءً عَظِيماً، لَكِنْ فِي النِّهَايَةِ انْتَصَرَ عَلَى مَن آذَاهُ، وَدَخَلَ مَكَّةَ مَنْصُوراً مُؤَزَّراً ظَافِراً بَعْدَ أَنْ خَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً.
قَولُهُ: ((الَّذِينَ قَالَ فِيهِم النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الحَقِّ مَنْصُورَةٌ؛ لَا يَضُرُّهُمْ مَن خَالَفَهُمْ وَلَا مَن خَذَلَهُمْ، حَتَّى تَقُومَ السَّاعةُ)))).
هَذَا الحَدِيثُ أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ بِنَحْوِ مَا سَاقَهُ المؤلِّفُ عَن عَدَدٍ مِن الصَّحَابَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قولُهُ: ((لَا تَزَالُ)): هَذا مِنْ أَفْعَالِ الاسْتِمْرَارِ، وَأَفْعَالُ الاسْتِمْرَارِ أَرْبَعَةٌ، وَهِي: فَتِئَ، وَانْفَكَّ، وَبَرِحَ، وَزَالَ؛ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا النَّفْيُ أَوْ شَبَهُهُ.
فَقَوْلُهُ: ((لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الحَقِّ))؛ يَعْنِي: تَسْتَمِرُّ عَلَى الحَقِّ.
وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ غَيْرُ مَحْصُورَةٍ بِعَدَدٍ وَلَا بِمَكَانٍ وَلَا بِزَمَانٍ، يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ بِمَكَانٍ تَنْصُرُ فِيهِ فِي شَيءٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، وَفِي مَكَانٍ آخَرَ تَنْصُرُ فِيهِ طَائِفَةٌ أُخْرَى، وِبِمَجْمُوعِ الطَّائِفَتَينِ يَكُونُ الدِّينُ بَاقِياً مَنْصُوراً مُظَفَّراً.
وَقَولُهُ: ((لَا يَضُرُّهُمْ))، وَلَمْ يَقُلْ: لَا يُؤذِيهِمْ؛ لِأَنَّ الأَذِيَّةَ قَدْ تَحْصُلُ، لَكِنْ لَا تَضَرُّ، وَفَرْقٌ بَيْنَ الضَّرَرِ وَالأَذَى، وَلِهَذَا قَالَ اللهُ تَعالَى فِي الحَدِيثِ القُدُسِيِّ: ((يَا عِبَادِي! إِنَّكُم لَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِي))، وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِى الدُّنْيا وَالآخِرَةِ) [الأَحْزَاب: 57]، وَفِي الحَدِيثِ القُدُسِيِّ: ((يُؤْذِيني ابنُ آدَمَ؛ يَسُبُّ الدَّهْرَ، وَأَنَا الدَّهْرُ))؛ فَأثْبَتَ الأَذَى وَنَفَى الضَّرَرَ، وَهَذَا مُمْكِنٌ، أَلَّا تَرَى الرَّجُلَ يَتَأَذَّى بِرَائِحَةِ البَصَلِ وَنَحْوِهِ، وَلَا يَتَضَرَّرُ بِها.
وَفِي قَولِهِ: ((حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ)): إِشْكَالٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أنَّهَا ((لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُقَالَ فِي الأَرْضِ: اللهُ، اللهُ))؛ أَيْ: حتَّى يُمْحَى الإسْلَامُ كُلُّهُ، وَلَا يَبْقَى مَن يَعْبُدُ اللهَ أَبَداً؛ فَكَيْفَ قَالَ هُنَا: ((حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ))؟!
وَأَجَابَ عَنْهُ العُلَمَاءُ بِأَحَدِ جَوَابَيْنِ:
-إِمَّا أنْ يَكُونَ المُرَادُ حتَّى قُرْبِ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَالشَّيءُ قَدْ يُعَبَّرُ بِهِ عَمَّا قَرُبَ مِنْهُ إِذَا كَانَ قَرِيباً جِدًّا، وَكَأَنَّ هَؤُلَاءِ المَنْصُورُونَ إِذَا مَاتُوا؛ فَإِنَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبَةً جِدًّا.
-أَوْ يُقَالُ: إِنَّ المُرَادَ بِالسَّاعَةِ سَاعَتُهُمْ.
وَلَكِنَّ القَوْلَ الأَوَّلَ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ إِذَا قَالَ: ((حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ))؛ فَقَدْ تَقُومُ سَاعَتُهُمْ قَبْلَ السَّاعَةِ العَامَّةِ بِأَزْمِنَةٍ طَوِيلَةٍ، وَظَاهِرُ الحَدِيثِ أَنَّ هَذَا النَّصْرَ سَيَمْتَدُّ إِلَى آخِرِ الدُّنْيا؛ فَالصَّوابُ أنَّ المُرَادَ بِذَلِكَ إِلَى قُرْبِ قِيَامِ السَّاعَةِ. وَاللهُ أَعْلَمُ).

هيئة الإشراف

#7

28 Dec 2008

الروضة الندية للشيخ: زيد بن عبد العزيز بن فياض رحمه الله


قال الشيخ زيد بن عبد العزيز بن فياض (ت: 1416هـ): (وروَى أبو دَاوُدَ والتِّرْمِذِيُّ وصحَّحَهُ عَن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: افْتَرَقَتِ اليَهُودُ عَلَى إِحْدَى - أَو ثِنتَيْنِ - وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَتَفَرَّقَتِ النَّصَارَى عَلَى إِحْدَى أو ثِنْتَينِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَتفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً. وروى الإِمَامُ أَحْمَدُ عَن أَبِي عامرٍ عبدِ اللهِ بنِ يَحْيى. قَالَ: حَجَجْنا مَعَ مُعاوِيَةَ بنِ أَبِي سُفْيَانَ فلمَّا قَدِمْنا مكَّةَ قامَ حينَ صلَّى صَلاةَ الظُّهْرِ فقَالَ: إنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابَيْنِ افْتَرَقُوا فِي دِينِهِمْ عَلَى ثِنْتَينِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً. وَإِنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً - يَعنِي الأهواءَ - كُلُّهَا فِي النَّارِ إلاَّ وَاحِدَةً وَهِي الْجَمَاعَةُ، وَأنَّهُ سَيَخْـرُجُ مِنْ أُمَّتِي أَقْـوَامٌ تَتَجَارَى بِهمُ الأَهْواءُ كَما يَتَجَارَى الْكَلْبُ بِصَاحِبِهِ لاَ يَبْقَى مِنْهُ عِرْقٌ وَلاَ مِفْصَلٌ إِلاَّ دَخَلَهُ. واللهِ يا مَعْشَرَ الْعَرَبِ لَئِنْ لَمْ تَقُـومُوا بما جَاءَ به نَبيُّكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَغَيْرُكم مِن النَّاسِ أحْـرَى أنْ لا يقومَ بِه ورَوَاهُ أبو دَاوُدَ وغَيْرُهُ ((فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّ عَامَّةَ المُختلِفينَ هَالِكُونَ مِن الجانِبينِ إلا فِرقةً واحدِةً وهم أهلُ السُنَّةِ والجَمَاعَةِ)).
وفِي حَدِيثِ عبدِ اللهِ بنِ عمْرٍو عندَ التِّرْمِذِيِّ قَالُوا: مَن هي يا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِِي وقَدْ رُوِيَ مَعنى ذَلِكَ عَن جماعةٍ مِن الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ ابنُ مسعودٍ وأنسٍ وسعدِ بنِ أَبِي وقَّاصٍ وشدَّادِ بنِ أوسٍ وعَمرِو بنِ عَوْفٍ، قَولُهُ المُتمسِّكونَ بالإسْلاَمِ المَحضِ - المحضُ الخالِصُ مِن كلِّ شيءٍ. ومنه سُمِّيَ اللَّبنُ الخالصُ الَّذِي لم يخالِطْه ماءٌ مَحضاً. ومنه: أمَحضَ فلانٌ فُلاناً الودَّ ومَحضَه أخْلصَهُ الْودَّ والشَّوبُ المُخالِطُ وَكُلُّ ما خُلِطَ بغَيْرِهِ فهُوَ مَشوبٌ. فأهلُ السُنَّةِ تَمَّسكوا بالإسْلاَمِ الخالِصِ مِن شوائِبِ البِدعِ وطُرقِ الضَّلالِ.
وفِيهِمُ الصِّدِّيقونَ والشُّهداءُ والصَّالحونَ فقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِن النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} وقَالَ: {وَالَّذِينَ آمَنواْ بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَـئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} والصِّدِّيقُ كثيرُ الصِّدقِ والتَّصديقِ. وأفضلُ الصِّديقينَ هُوَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
((ومَرتبةُ الصِّدِّيقينَ فوقَ مَرتبةِ الشُّهداءِ ؛ ولهَذَا قدَّمهم عليهم فِي الآيتَينِ هنا وفِي سورةِ النِّساءِ. وهكذا جَاءَ ذِكرُهم مُقدَّماً عَلَى الشُّهداءِ فِي كلامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَولِهِ: اثْبُتْ أُحُدُ فإنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ. ولهَذَا كَانَ نعتُ الصِّدِّيقيَّةِ وصفٌ لأفضلِ الخَلْقِ بعدَ الأنبياءِ والمُرسلينَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ ولو كَانَ بعدَ النُّبُوَّةِ دَرجةٌ أفضلُ مِن الصِّدِّيقيَّةِ لكَانَتْ نَعْتاً لَهُ)).
ومِنْهُمْ أعلامُ الهُدى ومَصابيحُ الدُّجَى تَشبيهٌ لعُلَمَاءِ السُنَّةِ المُهتدَينَ وأهلِ الخيراتِ مِن المُصَلِّينَ فِي الأُمَّةِ بالجبالِ الشَّاهِقةِ والعلاماتِ الواضِحةِ التي يُعرفُ بها طَريقُ الفلاحِ والفوْزِ وبالمصابيحِ النَّيِّرةِ التي تُضيءُ السَّبيلَ للسَّالِكينَ.
قَالَ الرَّاغبُ: الْعِلْمُِ الأثرُ الَّذِي يُعْلَمُ به الشَّيءُ كعِلْمِ الطَّرِيقِ وعِلْمِ الجَيشِ وسُمِّيَ الجبلُ عَلَماً كذَلِكَ وجَمْعُه أعلامٌ. وقُرِئَ وإنه (عَلَمُ السَّاعَةِ) وقَالَ (وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلاَمِ) والشَّقُّ فِي الشَّفةِ العُلْيا عَلَمٌ وعَلَمُ الثَّوبِ ويُقَالُ: فلانٌ عَلَمٌ أي مَشهورٌ يُشبَّهُ بعَلَمِ الجيشِ وأَعْلمْتُ كذا جَعلْتُ لَهُ عَلَماً، ومَعالِمُ الطَّرِيقِ والدِّينِ الواحدُ مَعلَمٌ. وفُلانٌ مَعْلَمٌ للخَيْرِ اهـ.
وقَالَتِ الخَنساءُ:

وإنَّ صَخْراً لَتأْتَمُّ الهُداةُ بِه كأنَّهُ عَلَمٌ فِي رَأسِهِ نَارٌ

ورَوَى ابنُ عبدِ البَرِّ مِن حَدِيثِ مُعاذِ بنِ جبلٍ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الْعِلْمَ حَيَاةٌ لِلْقُلُوبِ مِنَ الجَهْلِ ومَصَابِيحُ الأَبْصَارِ مِنَ الظُّلمِ. ورَوَى ابنُ عبدِ البَرِّ مِن حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَواكِبِ وَأَنَّ العُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِياءِ وَأَنَّ الأَنْبِياءَ لَمْ يُورِّثُوا دِينَاراً وَلا دِرْهَماً وإنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ.
ورَوِيَ عَن عبدِ اللهِ بنِ أَبِي جَعْفَرٍ أنَّهُ كَانَ يقولُ: العُلَمَاءُ منارُ البلادِ مِنْهُمْ يُقتبسُ النُّورُ الَّذِي يُهتَدى به وما أحسنَ ما قَالَ العلَّامةُ ابنُ القيِّمِ رحِمَه اللهُ فِي وصْفِ العُلَمَاءِ:

ولَولاهُمُوا كَادتْ تَمِيدُ بِأهلِها وَلكِنْ رَواسِبُها وَأوْتَادُها هُمُوا

ولَولا هُمُوا كَانَتْ ظَلاماً بأهْلِها ولكنْ هُمُوا فيها بدورٌ وأنْجُمُ

والْمَناقِبُ جمعُ مَنْقَبةٍ وهي الخَصْلةُ الحَميدةُ والخُلُقُ الجميلُ. والفضائلُ جَمعُ فَضيلةٍ وهي المَزِيَّةُ والدَّرَجةُ الرَّفِيعةُ ضِدَّ الرَّذِيلةِ وَالنَّقِيصةِ.
قَولُهُ ((وفِيهِمُ الأبْدالُ)) الأَبْدالُ جَمعُ بدلٍ وهم قومٌ صَالِحون.
قَالَ ابنُ الأثيرِ قَـولُهُ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ: الأبْدالُ بالشَّامِ هُم أولياءُ الرَّحمنِ الَّذِينَ أخلصُوا لَهُ العِبادةَ والوَاحِدُ بَدلٌ كحَمَلٍ وَأحمالٍ، وبَدلٌ كَجملٍ سُمُّوا بذَلِكَ لأنَّهُ كُلَّما ماتَ واحدٌ مِنْهُمْ أُبدِلَ بِآخرَ وقَالَ الرَّاغبُ: الأبْدالُ قَوٌم صَالِحونَ يَجعلُهم اللهُ مكَانَ آخرِينَ مِثلِهم مَاضِينَ وَحقِيقتُه: هم الَّذِينَ بَدَّلوا أحْوالَهُم الذَّمِيمةَ بأحوالِهم الحَميدةِ وهم المُشارُ إليهم بقَولِهِ تَعَالَى: {فَأُوْلَـئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} اهـ.
ورَوَى ابنُ مَرْدويْهِ عَنْ ثَوبانَ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا يَزَالُ فِيكُمْ سَبْعَةٌ بِهِمْ تُنْصَرُونَ وَبِهِمْ تُمْطَرُونَ وَبِهِمْ تُرْزَقُونَ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ. ورَوَى ابنُ مَرْدَوَيْهِ أيضاً عَن عُبادةَ بنِ الصَّامتِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الأَبْدَالُ فِي أُمَّتِي ثَلَاثُونَ بِهِمْ تُرْزَقُونَ، وَبِهِمْ تُمْطَرونَ وَبِهِمْ تُنْصَرُونَ قَالَ قَتادةُ: إنِّي لأَرْجُو أنْ يكونَ الحَسَنُ مِنْهُمْ.
وقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ} ورَوَى الإِمَامُ أَحْمَـدُ فِي مُسندِه عَن شُريحِ بنِ عُبيدٍ قَالَ: ذُكِرَ أهلُ الشَّامِ عندَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طالبٍ وهُوَ بالْعِـراقِ فقَالُوا: العَنْهُمْ يا أميرَ الْمُؤْمِنينَ: قَالَ لا إنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ: الأَبْدَالُ يَكُونُونَ بِالشَّامِ وَهُمْ أَرْبَعُونَ رَجُلاً كُلَّمَا مَاتَ رَجُلٌ أَبْدَلَ اللهُ مَكَانَهُ رَجُلاً يُسْقَى بِهُمُ الْغَيْثُ وَيُنْتَصَرُ بِهِمْ عَلَى الأَعْدَاءِ وَيُصْرَفُ عَنِ أَهْلِ الشَّامِ بِهِمُ الْعَذَابُ، وإسْنَادٌ مُنقطِعٌ وَسُئِلَ الإِمَامُ أَحْمَدُ عَن الأبْدالِ؟ فقَالَ: همُ أهلُ الْحَدِيثِ.
وكَانَ يقولُ فِي إبراهيمَ بنِ هانِئٍ النَّيْسابُورِيُّ: إنْ كَانَ فِي هَذَا البلدِ رَجُلٌ مِن الأبْدالِ فأبُو إسْحاقَ ((وأمَّا الأسماءُ الدَّائرةُ عَلَى ألْسِنَةِ كَثِيرٍ مِن النُّسَّاكِ والعامَّةِ مِثلِ الْغَوْثِ الَّذِي يكونُ بمكَّةَ والأوْتادِ الأرْبَعةِ والأقطَابِ السَّبْعةِ والأَبْدالِ الأرْبعِينَ والنُّجباءِ الثَّلاثِمائةٍ فهَذِهِ الأسْماءُ ليست مَوجودةً فِي كتابِ اللهِ ولا هي أيضاً مأثورةٌ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا بإسنادٍ صَحِيحٍ ولا ضعيفٍ مُحتمَلٍ إلا لَفْظَ الأَبْدَالِ فقَدْ رُوِيَ فِيهِمْ حَدِيثٌ شَامِيٌّ مُنقَطعُ الإسنادِ عَن عَلِيِّ بْنِ أَبِي طالبٍ مَرفوعاً إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ قَالَ: إِنَّ فِيهِمْ - يعْنِي أهلَ الشَّامِ - الأَبْدَالَ أَرْبعِينَ رَجُلاً كُلَّمَا مَاتَ رَجُلٌ أَبْدَلَ اللهُ مَكَانَهُ رَجُلاً. ولا تُوجدُ هَذِهِ الأسماءُ فِي كلامِ السَّلَفِ كما هي عَلَى هَذَا التَّرتيبِ. ولا هي مَأثورٌ عَلَى هَذَا التَّرتيبِ والمَعانِي عَن المَشايخِ المَقبولِينَ عندَ الأُمَّةِ قَبولاً عَامًّا وإنَّمَا تُوجدُ عَلَى هَذِهِ الصُّورةِ عَن بعضِ المُتوسِّطينَ مِن المشايخِ وقَدْ قالها إمَّا آثِراً لها عَن غَيْرِهِ، أو ذَاكِراً وهَذَا الجِنسُ ونحوُه مِن الْعِلْمِ الَّذِي قَدِ الْتَبَسَ عَلَى أكثرِ المُتأَخِّرينَ حَقُّه بِباطلِهِ فصَارَ فيه مِن الحقِّ ما يُوجِبُ قَبولَهُ، ومِن البَاطلِ ما يُوجبُ رَدَّه فإنَّ هَذِهِ الأسماءَ عَلَى هَذَا العددِ والتَّرتيبِ والطَّبقاتِ ليست حقاًّ فِي كلِّ زَمانٍ بَل يَجِبُ القَطْعُ بأنَّ هَذَا عَلَى عُمومِه وإطْلاقِه باطِلٌ فإنَّ الْمُؤْمِنينَ يَقِلُّونَ تارةً ويَكثُرونَ أُخْرى ويَقِلُّ فِيهِمُ السَّابِقُونَ المُقَرَّبونَ تارةً ويَكثُرون أُخْرَى ويَنتقِلونُ فِي الأمْكِنةِ لَيْسَ مِن شَرْطِ أولياءِ اللهِ أهلِ الإيمانِ والتَّقوى ومَن يَدخُلُ مِنْهُمْ فِي السَّابِقِينَ المُقَرَّبِينَ لزومُ مكَانٍ واحدٍ فِي جميعِ الأزْمِنةِ.
ولفظُ البَدلِ جَـاءَ فِي كلامِ كثيرٍ مِنْهُمْ. فأمَّا الْحَدِيثُ المَرفوعُ فالأشْبَهُ أنَّهُ لَيْسَ مِن كلامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنَّ الإيمَـانَ كَانَ بالحِجَازِ وَاليَمَنِ قَبْلَ فُتُـوحِ الشَّـامِ وكَانَتِ الشَّـامُ وَالعِـرَاقُ دَارَ كُفْرٍ. ثُمَّ فِي خِلَافَةِ عَلِيٍّ قَدْ ثَبتَ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ قَالَ: تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ عَن المُسْلِمِينَ بِقَتْلِهِمْ أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ. فكَانَ عَلِيٌّ وأصْحابُه أَوْلى بالحقِّ مِمَّنْ قَاتَلَهم مِن أهلِ الشَّامِ. ومعلومٌ أنَّ الَّذِينَ كانوا مَعَ عَلِيٍّ مِن الصَّحَابَةِ مِثلِ عَمَّارٍ وسهلِ بنِ حُنيفٍ ونحوِهما كانوا أفْضلَ مِن الَّذِينَ مَعَ مُعاوِيَةَ وإنْ كَانَ سعدُ بنُ أَبِي وقَّاصٍ ونحوُه مِن القَاعِدينَ أفضلَ مِمَّنْ كَانَ مَعهما فكيفَ يُعتقَدُ مَعَ هَذَا أنَّ الْأَبْدَالَ جَميعَهم الَّذِينَ هم أفضلُ الخلْقِ كانوا فِي أهلِ الشَّامِ؟ هَذَا باطِلٌ قَطعاً. وإنْ كَانَ قَدْ وَرَدَ فِي الشَّامِ وأهْلِهِ فَضائلُ معروفةٌ فقَدْ جَعلَ اللهُ لكلِّ شَيءٍ قَدْراً.
والَّذِينَ تَكَّلَّمُـوا باسمِ البَدلِ أفْرَدوُه بِمعانٍ (منها أنَّهُمْ) أبدالٌ ومنها أنَّهُمْ كُلَّمَا ماتَ مِنْهُمْ رَجُـلٌ أَبدلَ اللهُ مَكَانَهُ رَجُلاً. (ومنها) أنَّهُمْ أبْدَلوا السَّيِّئاتِ مِن أخلاقِهم وأعمَالِهم وعقائدِهِم بالحسناتِ.
وهَذِهِ الصِّفاتُ كُلُّها لا تَختصُّ بَأربْعِينَ ولا بِأقلَّ ولا أكْثرَ. ولا تُحصرُ بأهلِ بُقعةٍ مِن الأرضِ. وبهَذِهِ التَّحريرِ يَظهرُ المَعْنى باسمِ النُّجباءِ فالغرضُ أنَّ هَذِهِ الأسماءَ تارةً تُفسَّرُ بِمعانٍ باطِلةٍ بالكتابِ والسُنَّةِ وإجماعِ السَّلَفِ مثلِ تَفسيرِ بَعْضِهِمْ بأنَّ الغَوْثَ هُوَ الَّذِي يَغِيثُ اللهُ به أهلَ الأرضِ مِن رِزْقِهم وَنَصْرِهم. فإنَّ هَذَا نظيرُ ما تقَولُهُ النَّصارى فِي البابِ وهُوَ مَعدومُ العينِ والأثرِ وتَشبِيهٌ بحالِ المُنتظرِ.
وكذَلِكَ مَن فَسَّرَ الأرْبعِينَ الأَبْدَالَ بأنَّ النَّاسَ إنَّمَا يُنصرونَ ويُرزقونَ بهم فذَلِكَ باطِلٌ بَلِ النَّصرُ والرِّزقُ يَحصلُ بأسبابٍ مِن أَوْكدِها دُعاءُ المُسْلِمِينَ الْمُؤْمِنينَ وصلاتُهم وإِخلاصُهم ولا يَتقَيَّدُ ذَلِكَ لا بِأرْبعينَ ولا بِأقَلَّ وقَدْ يكونُ النَّصرُ والرِّزقُ أسْباباً أُخَرَ.
وفِيهِمْ أئمَّةُ الدِّينِ الَّذِينَ أجْمعَ المُسْلِمونَ عَلَى هِدايتِهم، ومِنْهُمُ الأئمَّةُ الأرْبعةُ أصحابُ المَذاهبِ المُقَلِّدينَ وسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وسُفْيَانُ بنُ عُيينةَ والشَّعْبِيُّ والزُّهرِيُّ وأصحابُ الصِّحاحِ والسُّنَنِ والمَسانيدِ. وكشيخِ الإسْلَامِ ابنِ تَيميةَ وتلميذِه العلَّامةُ ابنُ القَيِّمِ والشيخِ المُصلِحِ مُحَمَّدِ بنِ عبدِ الوَهَّابِ. وَكثِيرونَ غَيْرُهُمْ مِن أئمَّةِ الهُدى الَّذِي حَفِظَ اللهُ بهم ديِنَه وجَعلَ لهم فِي الأُمَّةِ لِسانَ صِدْقٍ.
وقَدْ رُوِيَ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن وجوهٍ مُتعَدِّدةٍ وطُرقٍ كثيرةٍ أنَّهُ قَالَ: يَحْمِلُ هَذَا الدِّينَ مِنْ كُلِّ خلَفٍ عُدُولُهُ يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ وَانْتِحَالَ المُبْطِلينَ وتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ ((فأخْبرَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّ الْعِلْمَ الَّذِي جَاءَ به يَحْملُهُ عُدولُ أُمَّتِه مِن كُلِّ خَلَفٍ حَتَّى لا يَضِيعَ ويذَهَبَ.
وهَذَا يَتضمَّنُ تَعدِيلَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَمَلةِ الْعِلْمِ الَّذِي بُعِثَ به وهُوَ المُشارُ إِلَيْهِ فِي قَولِهِ هَذَا الْعِلْمُ. فكُلُّ مَن حَمَلَ الْعِلْمَ المُشارَ إِلَيْهِ لا بُدَّ وأنْ يكونَ عَدْلاً. ولهَذَا اشْتهَرَ عندَ الأُمَّةِ عدالةُ نَقَلَتِه وَحَمَلَتِه اشْتِهَاراً لا يقبلُ شَكاًّ ولا امْتراءً. ولا رَيبَ أنَّ مَنْ عَدَّلَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يُسمعُ فيه جَرْحٌ فالأئمَّةُ الَّذِينَ اشتُهِروا عندَ الأُمَّةِ بنقلِ الْعِلْمِ النَّبويذِ ومِيراثِهِ كُلُّهم عُدولٌ بِتعدِيلِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولهَذَا لا يُقبلُ قَدْحُ بَعْضِهِمْ فِي بَعضٍ وهَذَا بخلافِ مَن اشتُهِرَ عندَ الأُمَّةِ جَرْحُه والقَدْحُ فيه كأئمَّةِ البِدعِ ومَن جَرَى مَجرَاهم مِن المُتَّهمِين فِي الدِّينِ فَإِنَّهُمْ لَيْسوا عندَ الأُمَّةِ مِن حملةِ الْعِلْمِ فما حَملَ عِلْمَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا العدْلُ.
ولكنْ قَدْ يُغلطُ فِي مُسَمَّى العدالةِ فُيظنُّ أنَّ المُرادَ بالعدْلِ مَن لا ذَنْبَ لَهُ ولَيْسَ كذَلِكَ، بَل هُوَ عدلٌ مُؤتمنٌ عَلَى الدِّينِ وإنْ كَانَ مِنَّا ما يَتوبُ إِلَى اللهِ منه فإنَّ هَذَا لا يُنافِي العدالةَ كما لا يُنافِي الإيمانَ والولايةَ)) وإذا وُجِدَ لأحدٍ مِن الأئمَّةِ قولٌ قَدْ جَاءَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ بخلافِه فلا بُدَّ لَهُ فِي تَرْكِه مِن عُذرٍ وَجِماعُ الأعذارِ ثلاثةٌ:
(أَحَدُهما) عَدمُ اعتقَادِه أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَه
(الثَّانِي) عدمُ اعتقَادِه أنَّهُ أرادَ تلك المَسْأَلةَ بذَلِكَ القوْلِ
(الثَّالِثُ) اعتقَادُه أنَّ ذَلِكَ الحُكْمَ مَنسوخٌ فلهم الفَضلُ عَلَى مَن بَعدَهم بالسَّبقِ والحِفظِ لهَذَا الْعِلْمِ وغيرِ ذَلِكَ. وإذا اجْتهَدَ أحدُهم فأخْطَأَ فلَهُ أجرٌ واحدٌ لاجْتهادِه، وإذا اجتهدَ وأصابَ فلَهُ أجْرانَ وإذا اجتَهدَ فأخْطَأَ فلَهُ أجرٌ واحِدٌ. فتبَيَّنَ أنَّ المُجتهِدَ مَعَ خَطَئِه لَهُ أجرٌ. وذَلِكَ لأجلِ اجتهادِه وخَطؤُه مَغفورٌ لأنَّ دَرْكَ الصَّوابِ فِي جميعِ أعيانِ الأحكامِ إمَّا مُتعذَّرٌ وإمَّا مُتعسَّرٌ)) قَولُهُ: وهمُ الطَّائِفَةُ المَنصورةُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِن أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَن خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ. هَذَا الْحَدِيثُ خَرَّجاه فِي الصَّحِيحَيْنِ مِن حَدِيثِ المُغيرةِ بنِ شُعبةَ ومُعاوِيَةَ بنِ أَبِي سُفْيَانَ وأخرجَه مُسْلِمٌ وغَيْرُهُ مِن حَدِيثِ ثَوبانَ وجَابِرِ بنِ سَمُرةَ وجَابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ.
وفِي رِوايَةٍ: لاَ يَضُرُّهم مَن خَذَلَهُمْ وَلاَ مَن خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وفِي رِوايَةٍ حَتَّى يُقَاتِلوا الدَّجَّالَ. وفِي رِوايَةٍ: حَتَّى يَنزِلَ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ وهم ظَاهِرونَ وَكُلُّ هَذِهِ رواياتٌ صَحيحةٌ ولا تَعارُضَ بَينَها.
((وقَوْلُهُ)) حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ)) أيْ عَلَى مَن خَالَفَهم - أيْ غَالِبونُ والْمُرادُ بالظُّهورِ أنَّهُمْ غيرُ مُستتِرينَ بَل مَشْهورونَ. والأوَّلُ أَوْلَى.
وقَدْ وَقعَ عندَ مُسْلِمٍ مِن حَدِيثِ جَابِرِ بنِ سَمُرةَ: لَنْ يبْرَحَ هَذَا الدِّينُ قَائِماً تُقاتِلُ عَلَيْهِ عِصَابَةٌ مِن المُسْلِمِينَ حَتَّى تَقومَ السَّاعَةُ. ولَهُ فِي حَدِيثِ عُقبةَ بنِ عَامرٍ لا تَزالُ عِصَابَةٌ مِن أُمَّتِي يُقاتِلونَ عَلَى أمْرِ اللهِ قَاهِرِينَ لِعَدُوِّهِمْ لَا يَضُرُّهُمْ مَن خَالَفَهُمْ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ.
وقَدْ اخْتُلِفَ فِي الطَّائِفَةِ المنْصورةِ ما هي؟ قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحيحِه: هُمْ أهلُ الْعِلْمِ ((وقَالَ يزيدُ بنُ هارونَ وأَحْمَدُ بنُ حنبلٍ إِنْ لم يَكُونوا أهلَ الْحَدِيثِ فلا أدْرِي مَن هم؟ وقَالَ ابنُ المُباركِ وعَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ وَأَحْمَدُ بنُ سِنانٍ والْبُخَارِيُّ وغَيْرُهمْ إنَّهُمْ أهلُ الْحَدِيثِ وعَن ابنِ المَدِينيِّ رِوايَةً هُم الْعَرَبُ. واسْتدلَّ برِوايَةِ مَن رَوَى هم أهلُ الغَرْبِ.
وفَسَّرَ الغَرْبَ بالدَّلْوِ العظيمةِ لأنَّ الْعَرَبَ هم الَّذِينَ يَسْتقونَ بها ؛ وقَالَ النَّووِيُّ فيه: إنَّ الإجماعَ حُجَّةٌ ثُمَّ قَالَ يجوزُ أنْ تكونَ الطَّائِفَةُ جَماعةً مُتعدِّدةً مِن أنواعِ الْمُؤْمِنينَ ما بَين شُجاعٍ وبَصيرٍ بالحربِ وفَقيهٍ ومُحَدِّثٍ ومُفسِّرٍ وقائمٍ بالأمرِ بالمَعْروفِ والنَّهْيِ عَن المُنْكَرِ وزَاهدٍ وَعابِدٍ. ولا يلزمُ أنْ يكونوا مُجتمِعينَ فِي بلدٍ واحدٍ بَل يجوزُ اجْتماعُهم فِي قُطْرٍ وَاحدٍ وافْتراقُهم فِي أقطارِ الأرضِ ويجوزُ أنْ يجْتمِعوا فِي البلدِ الواحدِ وأنْ يكونوا فِي بَعضٍ دُونَ بَعضٍ منه ويجوزُ إخْلاءُ الأرضِ مِن بَعْضِهِمْ أوَّلاً فَأوَّلاً إِلَى أنْ لا يَبقى إلا فِرقةٌ واحِدةٌ بِبلدٍ واحدٍ فإذا انْقرضُوا جَاءَ أمرُ اللهِ انتهى مُلَخَّصاً مَعَ زيادةٍ فيه. ونظيرُ هَذَا ما نَبَّهَ عَلَيْهِ ما حَمَلَ عَلَيْهِ بعضُ الأئمَّةِ حَدِيثَ: إنَّ اللهَ يَبْعَثُ لهَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَها أنَّهُ لا يلزمُ أنْ يكونَ فِي رأسِ كلِّ مائةِ سَنَةٍ واحدٌ فقطْ بَل يكونُ الأمرُ فيه كما ذُكِرَ فِي الطَّائِفَةِ وهُوَ مُتَّجهٌ. فإنَّ اجتماعَ الصِّفاتِ المُحتاجِ إِلَى تَجدِيدِها لا يَنحصِرُ فِي نوعٍ مِن أنواعِ الخيرِ ولا يلزمُ أنَّ جميعَ خِصالِ الخيرِ كُلِّها فِي شخصٍ واحدٍ إلا أنْ يُدَّعَى ذَلِكَ فِي عُمَرَ بنِ عبدِ العزيزِ فإِنَّهُ كَانَ القائمَ بالأمْرِ عَلَى رأسِ المائةِ الأُولى باتِّصافِه بجميعِ صِفاتِ الخيرِ وتَقَدُّمِه فيها. ومِنَ ثَمَّ أطلقَ أَحْمَدُ أنَّهُمْ كانوا يَحملونَ الْحَدِيثَ عَلَيْهِ. فعَلَى هَذَا كُلُّ مَن كَانَ مُتَّصِفاً بشيءٍ مِن ذَلِكَ عندَ رأسِ المائةِ هُوَ المُرادُ سَواءً تَعَدَّدَ أمْ لا).
وفِي الصَّحِيحِ عن أَبِي هُرَيْرَةَ أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَضْطَرِبَ أَلْياتُ نِسَاءِ دَوْسٍ حَوْلَ ذِي الخَلَصةِ. وكَانَتْ صَنماً تَعبدُها دَوسٌ فِي الجاهِليَّةِ بَتبالَةَ.
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: هَذَا الْحَدِيثُ وما أشْبَهَهُ لَيْسَ المُرادُ به أنَّ الدِّينَ يَنقطِعُ كُلَّهُ فِي جميعِ أقْطارِ الأرْضِ حَتَّى لا يَبقَى منه شَيءٌ لأنَّهُ ثَبتَ أنَّ الإسْلَامَ يَبْقَى إِلَى قيامِ السَّاعةِ إلا أنَّهُ يَضعفُ ويَعودُ غَرِيباً كما بَدَأ. ثُمَّ ذكرَ حَدِيثَ: لَا تَزالُ طَائِفَةٌ مِن أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ. الْحَدِيثَ. قَالَ: فَتبَيَّنَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ تَخْصيصُ الأخبارِ الْأُخْرَى وأنَّ الطَّائِفَةَ التي تَبْقَى عَلَى الحقِّ تَكونُ بِبَيتِ المَقْدِسِ إِلَى أنْ تقومَ السَّاعةُ. قَالَ فبهَذَا تَأْتِلفُ الأخبارُ. قَالَ الحافظُ: لَيْسَ فيما احْتجَّ به تَصْريحٌ ببقاءِ أولئك إِلَى قيامِ السَّاعةِ وإنَّمَا فيه حَتَّى يأتيَ أمْرُ اللهِ فَيحتَملُ أنْ يكونَ المُرادُ بأمرِ اللهِ ما ذُكِرَ مِن قَبْضِ مَن بَقِيَ مِن الْمُؤْمِنينَ، وَظَواهِرُ الأخبارِ تَقتَضِي أنَّ المَوْصُوفينَ بِكونِهم ببيتِ المَقْدسِ أنَّ آخِرَهم مَن كَانَ مَعَ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ.
ثُمَّ إذا بَعَثَ اللهُ الرِّيحَ الطَّيِّبَةَ فَقَبَضَتْ رُوحَ كُلِّ مُؤْمِنٍ لم يَبقَ إلا شِرارُ النَّاسِ وقَدْ أخْرجَ مُسْلِمٌ مِن حَدِيثِ ابنِ مَسعودٍ رَفَعَهُ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ إلَّا عَلَى شِرَارِ النَّاسِ، وذَلِكَ إنَّمَا يقعُ بعدَ طلوعِ الشَّمسِ مِن مَغْرِبها، وخروجِ الدَّابَّةِ وسائرِ الآياتِ العِظامِ. وقَدْ ثَبَتَ أنَّ الآياتِ العِظامَ مِثلُ السِّلكِ إذا انْقَطَعَ تَناثَرَ الخَرَزُ سُرعَةً.
وقَدْ أوْرَدَ مُسْلِمٌ عَقِبَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِن حَدِيثِ عَائِشَةَ ما يُشيرُ إِلَى بيانِ الزَّمانِ الَّذِي يقعُ فيه ذَلِكَ ولَفْظُه: لَا يَذْهَبُ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ حَتَّى تُعْبَدَ اللَّاتُ وَالْعُزَّى فِيهِ يَبْعَثُ اللهُ رِيحاً طَيِّبَةً فَتَوَفَّى كُلَّ مَن فِي قَلْبهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِن خَرْدَلٍ مِن إِيمَانٍ فَيبْقَى مَن لا خَيرَ فيه فَيرْجِعونَ إِلَى دِينِ آبائِهِم. وعِنْدَه فِي حَدِيثِ عبدِ اللهِ بنِ عمْرٍو رَفَعَهُ: يَخْرُجُ الدَّجَّالُ فِي أُمَّتِي، الْحَدِيثَ. وفيه فَيَبْعثُ اللهُ عِيسى بنَ مَرْيَمَ فَيَطْلُبُهُ فَيُهْلِكُهُ. ثُمَّ يَمْكُثُ النَّاسُ سَبْعَ سِنِينَ. ثُمَّ يُرْسِلُ اللهُ رِيحاً بَارِدَةً مِنْ قِبَلِ الشَّامِ. فَلَا يَبْقَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَيْرٍ أوْ إِيمانٍ إِلَّا قَبَضَتْهُ، وفِيه يَبْقَى شِرارُ النَّاسِ فِي خِفَّةِ الطَّيرِ وأحلامِ السِّباعِ لا يَعرفونَ مَعروفاً ولا يُنكرِونَ مُنكراً. فَيَتَمَثَّلُ لَهُمُ الشَّيْطَانُ فَيأْمُرُهم بِعِبادةِ الأوْثانِ. ثُمَّ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، فَيظْهَرُ بذَلِكَ أنَّ المُرادَ فأَمَرَ اللهُ فِي حَدِيثِ: لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ، وقوعُ الآياتِ العِظامِ التي يَعقبُها قِيامُ السَّاعةِ، ولا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إلا شَيْئاً يَسيراً، ويُؤيِّدُه حَدِيثُ عِمرانَ بنِ حُصينٍ رفَعَهُ: لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرينَ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ حَتَّى يُقَاتِلَ آخِرُهُمُ الدَّجَّالَ. أخْرَجه أبو دَاوُدَ والحاكِمُ، ويُؤْخذُ منه صِحَّةُ ما تَأَوَّلْتُه. فإنَّ الَّذِينَ يُقاتِلونَ الدَّجَّالَ يكونُ بعدَ قَتْلِهِ مَعَ عِيسى. ثُمَّ يُرْسَلُ عليهم الرِّيحُ الطَّيِّبَةُ فلا يَبْقَى بعدَهم إلَّا الشِّرَارُ كما تَقدَّمَ. وَوَجَدْتُ فِي هَذَا مُناظرةٌ لِعُقْبةَ بنِ عَامرٍ ومُحَمَّدِ بنِ مَسْلَمةَ. فَأخرجَ الحُكْم مِن رِوايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ شِماسَةَ أنَّ عبدَ اللهِ بنَ عُمَرَ وقَالَ: لا تقومُ السَّاعةُ إلا عَلَى شِرارِ الخَلْقِ هم شَرُّ مِن أهلِ الجاهِليَّةِ. فقَالَ عُقبةُ بنُ عامِرٍ عبدُ اللهِ أَعْلَمُ ما نَقُولُ: وأمَّا أنا فسَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ: لاَ تَزَالُ عِصَابَةٌ مِن أُمَّتِي يُقاتِلُونَ عَلَى أَمْرِ اللهِ ظَاهِرينَ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهم حَتَّى تَأْتِيَهم السَّاعَةُ وهم عَلَى ذَلِكَ فقَالَ عبدُ اللهِ بنُ عمْرٍو: أَجَلْ. ويَبْعثُ اللهُ رِيحاً رِيحُها رِيحُ المِسكِ وَمَسُّها مَسُّ الحَريرِ فلا تَتْرُكُ أحَداً فِي قَلْبِه مِثقَالُ حَبَّةٍ مِن إيمانٍ إلا قَبَضَتْهُ. ثُمَّ يَبْقَى شِرارُ النَّاسِ فَعَليْهم تَقومُ السَّاعةُ. فعَلَى هَذَا فالمُرادُ بقَولِهِ فِي حَدِيثِ عُقبةَ: حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ سَاعَتُهُمْ هم وهي وقتُ مَوْتِهم بِهُبوبِ الرِّيحِ واللهُ أعْلْمُ.
ولا يَأبَى هَذَا كُلَّ الْإباءِ ما وَرَدَ فِي بعضِ الرِّواياتِ مكَانَ أمْرِ اللهِ يومَ القيامةِ لأنَّ مَا قَاربَ الشَّيْءَ يُعْطَى حُكمَه. فهَذَا الوقتُ لِقُربِه مِن القِيامةِ يُطلقُ عَلَيْهِ القيامةُ وجَمْعُه هنا أحسنُ مِن جَمْعِ غَيْرِهِ بأنْ يَكفُرَ بعضُ النَّاسِ ويَبْقى بَعْضُهُمْ لِمُنافَاتِه لِلْكُلِّياتِ الوَارِدَةِ كما لا يَخْفَى.
وجَوَّزَ الطَّبرِيُّ أنْ يُضْمَرَ فِي كُلٍّ مِن الْحَدِيثَينِ المَحَلُّ الَّذِي يكونُ فيه تلك الطَّائِفَةُ. فالمَوصُوفونَ بِشرارِ النَّاسِ الَّذِي يَبقونَ بعدَ أنْ تَقبضَ الرِّيحُ مَن تَقْبِضُه يَكونون مَثلاً ببعضِ البلادِ كالشَّرقِ الَّذِي هُوَ أصلُ الفِتَنِ، والْمَوصُوفونَ بأنَّهُمْ عَلَى حَقٍّ يَكُونون مَثلاً بِبعضِ البلادِ كَبَيْتِ المَقْدِسِ لقَولِهِ فِي حَدِيثِ مُعاذٍ إِنَّهُمْ بالشَّامِ، وفِي لفظٍ بِبَيتِ المَقْدِسِ وما قالَهُ وإنْ كَانَ مُحْتملاً يَرُدُّه قَولُهُ فِي حَدِيثِ أنسٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ لا تَقومُ السَّاعَةُ حَتَّى لا يُقَالَ فِي الْأَرْضِ اللهَ اللهَ إِلَى غيرِ ذَلِكَ مِن الأحاديثِ التي تَقَدَّمَ ذِكْرُها فِي مَعنى ذَلِكَ واللهُ أَعْلَمُ.
فعَلَى هَذَا فهَذِهِ الطَّائِفَةُ قَدْ تَجتمِعُ، وقَدْ تَتفَرَّقَ، وقَدْ تكونُ فِي الشَّامِ، وقَدْ تكونُ فِي غَيْرِهِ. فإنَّ حَدِيثَ أَبِي أُمامةَ وقولَ مُعاذٍ لا يُفيدُ حَصْرَها بالشَّامِ، وإنَّمَا يُفِيدُ أنَّهَا تَكونُ فِي الشَّامِ فِي بعضِ الأزْمَانِ لا فِي كُلِّها).