الدروس
course cover
من آداب أهل السنة
11 Nov 2008
11 Nov 2008

3383

0

0

course cover
العقيدة الواسطية

القسم العاشر

من آداب أهل السنة
11 Nov 2008
11 Nov 2008

11 Nov 2008

3383

0

0


0

0

0

0

0

من آداب أهل السنة

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (من آداب أهل السنة
وَيَأْمُرُونَ بِالصَّبْرِ على البَلاَءِ ، وَالشُّكْرِ عِنْدَ الرَّخَاءِ ، والرِّضَى بِمُرِّ القَضَاءِ ، وَيَدْعُونَ إِلَى مَكَارِمِ الأَخْلاَقِ ، وَمَحَاسِنِ الأَعْمَالِ ، وَيَعْتَقِدُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: ((أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا)) ، ويَنْدُبُونَ إِلَى أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ ، وَتُعْطِي مَنْ حَرَمَكَ ، وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ ، وَيَأْمُرُونَ بِبِرِّ الوَالِدَيْنِ ، وَصِلَةِ الأَرْحَامِ ، وَحُسْنِ الجِوَارِ ، وَالإِحْسَانِ إِلَى اليَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ، وَالرِّفقِ باِلْمَمْلُوكِ ، وَيَنْهَونَ عَنْ الفَخْرِ وَالخُيَلاءِ ، وَالْبَغْيِ وَالاسْتِطَالَةِ عَلَى الْخَلْق بِحَقٍّ أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَيَأْمُرُونَ بِمَعَالِي الأَخْلاَقِ ، وَيَنْهَوْنَ عَنْ سَفَسَافِهَا .
وَكُلُّ مَا يَقُولُونَهُ أوَيَفْعَلُونَهُ مِنْ هَذَا أوَغَيْرِهِ فَإِنَّمَا هُمْ فِيهِ مُتَّبِعُونَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَطَرِيقَتُهُمْ هِيَ دِينُ الإِسْلامِ الَّذِي بَعَثَ اللهُ بِهِ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم
).

هيئة الإشراف

#2

28 Dec 2008

التنبيهات اللطيفة فيما احتوت عليه الواسطية من المباحث المنيفة لابن سعدي رحمه الله


قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): (وهذا كلام جامع واضح نادر جمعه في موضع واحد، لا يحتاج إلى شرح ولا إلى مزيد من الإيضاح).

(مكرر)

هيئة الإشراف

#3

28 Dec 2008

شرح العقيدة الواسطية للشيخ مُحمَّد خَليل هَرَّاس رحمه الله


قال الشيخ محمد خليل هراس (ت: 1395هـ): (قولُهُ: (( ثمَّ هُمْ معَ هذهِِ الأُصولِ … )) إلخ. جَمَعَ المُؤَلِّفُ في هذا الفصلِ جمَاعَ مَكَارِمِ الأَخْلاقِ، التَّي يَتَخَلَّقُ بهَا أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ؛ من الأمْرِ بالمَعْرُوفِ، وهوَ مَا عُرِفَ حُسْنُهُ بالشَّرْعِ والَعَقْلِ، والنَّهيِ عنِ المُنْكَرِ، وهوَ كلُّ قبيحٍ عَقْلاً وشَرْعًا، على حَسَبِ ما تُوجبُهُ الشَّرِيعَةُ مِنْ تلكَ الفريضَةِ؛ كمَا يُفْهَمُ مِنْ قولِهِ عليهِ السَّلامُ: (( مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا؛ فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ؛ فَبِلِسَانِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ؛ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ )).
ومِنْ شُهُودِ الجُمَعِ والجَمَاعَاتِ والحَجِّ والجِهَادِ معَ الأُمَراءِ أيًّا كانُوا؛ لقولِهِ عليهِ السَّلام: (( صَلُّوا خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ )).
ومِنَ النُّصْحِ لكلِّ مُسْلِمٍ؛ لقولِهِِ عليهِ السَّلامُ: (( الدِّينُ النَّصِيحَةُ )).
ومِنْ فَهْمٍ صَحِيحٍ لِمَا تُوجِبُهُ الأُخُوَّةُ الإِيمَانِيَّةُ مِنْ تَعَاطُفٍ وتَوَادٍّ وتَنَاصُرٍ؛ كمَا في هذهِِ الأحاديثِ التَّي يُشَبِّهُ فيهَا الرَّسُولُ المؤمنينَ بِالبُنْيَانِ الْمَرْصُوصِ المُتَمَاسِكِ اللَّبِنَاتِ، أوْ بِالْجَسَدِ الْمُتَرَابِطِ الأعْضَاءِ مِنْ دعوةٍ إلى الخيرِ، وإلى مكارمِ الأخلاقِ، فَهُمْ يَدْعُونَ إلى الصَّبْرِ على المَصَائِبِ، والشَّكْرِ على النَّعْمَاءِ، والرِّضَا بِقَضَاءِ اللهِ وقَدَرِهِ … إلى غيرِ ذلكَ مِمَّا ذَكَرَهُ).

(الشرح مكرر مع الجزئية السابقة)

هيئة الإشراف

#4

28 Dec 2008

شرح العقيدة الواسطية للشيخ: صالح بن فوزان الفوزان


قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: (ومِن صفاتِ أهلِ السُّنَّةِ: ثَباتُهم في مواقِفِ الامتِحانِ (يأمُرونَ بالصَّبرِ عندَ البلاءِ) الصَّبرُ لغةً: الحبسُ، ومعناه هنا: حَبسُ النَّفْسِ عن الجَزَعِ، وحَبسُ اللِّسانِ عن التَّشَكِّي والتَّسَخُّطِ، وحَبسُ الجَوارحِ عن لطْمِ الخُدودِ وشَقِّ الجُيوبِ.
(البلاءُ) الامتحانُ بالمصائبِ والشَّدائدِ (والشُّكرُ عندَ الرَّخاءِ) الشُّكرُ: فِعلٌ يُنْبئُ عن تعظيمِ المُنْعِمِ لكَونِه مُنْعِماً، وَهُوَ صَرْفُ العبدِ ما أنْعَمَ اللَّهُ به عليه في طَاعتِه. (الرَّخاءِ) اتِّساعِ النِّعْمةِ (والرِّضا بمُرِّ القضاءِ) الرِّضا: ضِدُّ السَّخَطِ، والقضاءُ لغةً: الحُكمُ. وعُرْفاً: إرادةُ اللَّهِ المتعلِّقةُ بالأشياءِ على ما هِيَ عليه. ومُرُّ القضاءِ: ما يجري على العبدِ مما يَكرَهُه كالمَرَضِ والفقرِ وأذَى الخَلقِ والبَرْدِ والآلامِ.
يَهْتمُّ أهلُ السُّنَّةِ بالأخلاقِ فيَتحلَّوْنَ بالأخلاقِ الفاضلةِ، ويُرغِّبونَ فيها غيرَهم فهُم (يَدْعونَ إلى مكارمِ الأخلاقِ) أيْ: أحْسَنِها. والأخلاقُ: جمعُ خُلُقٍ بضمِّ الخاءِ واللاَّمِ، وَهُوَ الصُّورةُ الباطِنةُ، والخَلْقُ بفتحِ الخاءِ وسُكونِ اللاَّمِ هُوَ الصُّورةُ الظاهرةُ، وَهُوَ الدِّينُ والسَّجيَّةُ والطَّبْعُ، ويَدعون إلى (محاسِنِ الأعمالِ) كالكرَمِ والشَّجاعةِ والصِّدقِ والأمانةِ (ويعتقِدون معنى قولِه صلى اللهُ عليه وسلم) أيْ: يؤمِنونَ به ويَعملونَ بمقتضاه (( أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَاناً أَحْسَنُهُمْ خُلُقاً )) رواه أحمدُ والتِّرمذيُّ، وقال حَسنٌ صحيحٌ. وقولُه: ((أَحْسَنُهُمْ خُلُقاً)) أيْ: ألْينُهُم وألْطَفُهم وأجْمَلُهم.
ففي الحديثِ الحثُّ على التَّخلُّقِ بأحسنِ الأخلاقِ. وفيه أنَّ الأعمالَ تدْخُلُ في مسمَّى الإيمانِ، وأنَّ الإيمانَ يتفاضَلُ. وأهلُ السُّنَّةِ يَدْعُونَ إلى التَّعامُلِ مع النَّاسِ بالتي هِيَ أحْسنُ، وإلى إيتاءِ ذَوِي الحقوقِ حقوقَهم، ويُحذِّرونَ مِن أضدادِ تِلْكَ الأخلاقِ مِن الكِبْرِ والتَّعدِّي على النَّاسِ، فهُم (يَندُبونَ) أيْ: يَدْعونَ (إلى أنْ تَصِلَ مَنْ قطَعَكَ) أيْ: تُحسِنَ إلى مَن أساءَ إليكَ (وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ) أيْ: تَبذُلَ العطاءَ وَهُوَ التَّبرُّعُ والهَدِيَّةُ ونحوُها لمَن منَعَ ذَلِكَ عنكَ؛ لأنَّ ذَلِكَ مِن الإحسانِ (وتَعفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ) أيْ: تُسامِحَ مَنْ تَعدَّى عليكَ في مالٍ أو دمٍ أو عِرْضٍ؛ لأنَّ ذَلِكَ ممَّا يَجْلِبُ المودَّةَ ويُكسِبُ الأجْرَ والثَّوابَ.
(ويأمُرونَ) أيْ: أهلُ السُّنَّةِ بما أمَرَ اللَّهُ به مِن إعطاءِ ذَوِي الحقوقِ حقوقَهم (بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ) أيْ: طاعَتِهما في غيرِ مَعصِيةٍ والإحسانِ إليهما بالقولِ والفِعلِ. (وصِلةِ الأرحامِ) أيْ: الإحسانِ إلى مَن يَسكُنُ بجوارِك ببَذْلِ المعروفِ وكَفِّ الأذَى (والإحسانِ إلى اليَتامَى) جمعِ: يَتيمٍ وَهُوَ لغةً: المُنْفَرِدُ، وشَرْعاً: مَن ماتَ أبوه قَبْلَ بُلوغِه، والإحسانُ إليهم هُوَ برِعايةِ أحْوالِهم وأموالِهم والشَّفقةِ عليهم (والمساكينِ) أي والإحسانِ إلى المساكينِ، جمعِ مِسْكينٍ، وَهُوَ المحتاجُ الذي أسْكنَتْه الحاجةُ والفقرُ، والإحسانُ إليهم يكونُ بالتَّصدُّقِ عليهم والرِّفْقِ بهم (وابنِ السَّبيلِ) أيْ: والإحسانِ إلى ابنِ السَّبيلِ وَهُوَ المسافِرُ المنقطَعُ به الذي نفِدَتْ نفقَتُه أو ضاعَتْ أو سُرِقتْ ـ وقيل هُوَ الضَّيفُ. (والرِّفْقِ بالمملوكِ) أيْ: ويأمُرونَ بالرِّفقِ بالمملوكِ، وَهُوَ الرَّقِيقُ ويدخُلُ فيه المملوكُ مِن البهائمِ، والرِّفقُ ضِدُّ العُنفِ، وَهُوَ لِينُ الجانِبِ.
(وينهَوْنَ عن الفَخْرِ) وَهُوَ المُباهاةُ بالمكارِمِ والمناقِبِ مِن حسَبٍ ونسَبٍ (والخُيلاءِ) بضمِّ الخاءِ: الكِبرُ والعُجبُ (والبَغْيِ) وَهُوَ العدوانُ على النَّاسِ (والاستطالةِ على الخَلقِ) أيْ: التَّرفُّعِ عليهم، واحتقارِهم، والوقيعةِ فيهم (بحقٍّ وبغيرِ حقٍّ) لأنَّ المستطِيلَ إنِ استَطالَ بحقٍّ فقد افْتَخَرَ، وإنِ استطالَ بغيرِ حقٍّ فقد بَغَى، ولا يَحِلُّ لا هَذَا ولا هذا. (ويأمُرونَ بمعالِي الأخلاقِ) أيْ: يأمُرُ أهلُ السُّنَّةِ بالأخلاقِ العاليةِ وهِيَ الأخلاقُ الحسَنةُ (ويَنهَوْنَ عن سَفْسَافِها) أي رَدِيئِها وحقيرِها، والسَّفْسَافُ الأمرُ الحقيرُ والرَّديءُ مِن كُلِّ شيءٍ، وَهُوَ ضِدُّ المعالي والمكارِمِ. وأصلُه ما يَطيرُ مِن غُبارِ الدَّقِيقِ إذا نُخِلَ، والتُّرابِ إذا أُثِيرَ.
(وكُلُّ ما يَقُولُونَه ويَفعلُونَه مِن هَذَا وغيرِه فإنَّما هم فيه متَّبِعون للكتابِ والسُّنَّةِ) أيْ: كُلُّ ما يقولُه ويَفعَلُه أهلُ السُّنَّةِ ويأمُرونَ به وينهَوْنَ عنه ممَّا تَقدَّمَ ذِكْرُه في هَذِهِ الرِّسالةِ، وما لم يُذْكَرْ. فقد استفادُوه مِن كتابِ رَبِّهم وسُنَّةِ نبِيِّهِم، لم يَبتدِعوه مِن عندِ أنْفُسِهم، ولم يُقلِّدوا فيه غيرَهم، فقد قال اللَّهُ تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً} والأحاديثُ في هَذَا كثيرةٌ مِنها ما ذَكَرهُ الشَّيخُ.
يواصِلُ الشَّيخُ رَحِمَهُ اللَّهُ بيانَ مزايا أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ فبَيَّنَ مَزِيَّتَهم العُظْمَى وهي: أنَّ (طريقَتَهم دِينُ الإسلامِ) أي هُوَ مذهبُهم وطريقُهم إلى اللَّهِ، وأنَّهم عندَ الافتراقِ الذي أخبرَ النَّبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم عن حُدوثِه في هَذِهِ الأُمَّةِ ثَبَتُوا على الإسلامِ، وصاروا هم الفِرقةَ النَّاجيةَ مِن بَيْنِ تِلْكَ الفِرَقِ).

هيئة الإشراف

#5

28 Dec 2008

التنبيهات السنية للشيخ: عبد العزيز بن ناصر الرشيد رحمه الله

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (ويَأْمُرونَ بالصَّبْرِ عِنْدَ البَلاءِ، والشُّكْرِ [ عند الرَّخاءِ ] والرِّضا بمُرِّ القَضاءِ.(1)
ويَدْعونَ إِلى مَكارِمِ الأَخلاقِ، ومَحَاسِنِ الأعْمالِ.(2)
ويَعْتَقِدونَ مَعْنى قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( أَكْمَلُ المُؤمِنينَ إِيْماناً أَحْسَنُهُم خُلُقاً )).(3)
وَيَنْدُبُونَ إِلى أَنْ تَصِلِ مَنْ قَطَعَكَ، وتُعْطيَ مَنْ حَرَمَكَ، وتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ.(4)
ويَأْمُرونَ بِبِرِّ الوَالِديْنِ، وصِلَةِ الأرْحامِ. (5)
وحُسْنِ الجِوارِ. (6)
والإِحسانِ إِلى اليَتَامى والمَساكِينِ وابنِ السَّبيلِ، والرِّفْقِ بالمَمْلوكِ.(7)
ويَنْهَوْنَ عَنِ الفَخْرِ، والخُيَلاءِ، والبَغْيِ، والاسِتطالَةِ عَلى الخَلْقِ بَحَقٍّ أَو بغيرِ حَقٍّ.(8)
ويَأْمُرونَ بِمَعالي الأخْلاَقِ، ويَنْهَوْنَ عَنْ سَفْسافِها،وكُلُّ مَا يَقُولونَهُ وَيَفْعَلونَهُ مِنْ هذا وَغَيْرِهِ؛ فإِنَّما هُمْ فيهِ مُتَّبِعونَ للكِتابِ والسُّنَّةِ.(9)
وطريقتُهُمْ هِيَ دينُ الإِسْلامِ الَّذي بَعَثَ اللهُ بهِ مُحَمَّداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ).(10)
).

الشرح:

قال الشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد (ت: 1408هـ): ( (1) قولُه: (ويأمُرون بالصَّبْرِ) الأمْرُ استدعاءُ الفِعلِ بالقولِ على وَجْه الاستعلاءِ، قال بَعضُهم:

أَمْرٌ مع استعلا وعَكْسُه دَعَا ....... وفي التَّساوِي فَالتْماسٌ وَقَعا

وَهَذِهِ الثلاثةُ المذكورةُ في المَتْنِ مِن صفاتِ المؤمنين، وَهِيَ عُنوانُ السَّعادةِ وعلامةُ الفَلاحِ، أَخْرَجَ الطَّبرانيُّ بسنَدٍ حَسنٍ عن سنجرة مرفوعا: ((مَنْ أُعْطِيَ فَشَكَرَ، وَابْتُلِيَ فَصَبَرَ، وَظَلَمَ فَاسْتَغْفَرْ، وَظُلِمَ فَنَفَرَ، أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)).
والصَّبرُ معناه لغةً: الحبْسُ.
قال ابنُ القيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: هُوَ حَبْسُ النَّفْسِ عن الجَزَعِ، وحَبسُ اللِّسانِ عن التَّشكِّي والتَّسخُّطِ، وحَبسُ الجوارِحِ عن لَطْمِ الخُدودِ وشَقِّ الجيوبِ،
وقد تكاثَرَتِ الأدِلَّةُ في الأمْرِ بالصَّبرِ والحثِّ عليه، قال تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}، وقال: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} وقال النَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((الصَّبْرُ ضِياءٌ))، وقال عليٌّ -رضي اللَّهُ عنه-: إنَّ الصَّبْرَ مِن الإيمانِ بمنـزلةِ الرَّأسِ مِن الجسَدِ، ثم رَفَعَ صوتَه فقال: أَلاَ إِنَّهُ لاَ إيمانَ لمَنْ لاَ صَبْرَ لَهُ، وقد تقدَّمَ الكلامُ في الصَّبرِ فلا نُطيلُ بإعادتِه.
أمَّا الرِّضَا؛ فهُوَ مِن أَجَلِّ الطَّاعاتِ وأَشْرَفِ منازِلِ السَّائرِينَ إلى اللَّهِ -سُبْحَانَهُ-، وهُوَ مُسْتَحبٌّ بالإجماعِ، وقال بعضُ العُلماءِ بوُجوبِه لقولِه -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((فَمَنْ أَرْضَى اللَّهَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَعَلَيْهُ السَّخَطُ))، والأدِلَّةُ على فَضْلِه والحثِّ عليه كثيرةٌ جِداًّ،
قال اللَّهُ تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ
وكان مِن دعاءِ النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((وَأَسْأَلُكَ الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ))،
وجاء رَجُلٌ إلى النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- فسألَه أنْ يُوصِيَهُ وصيَّةً جامِعةً مُوجَزةً، فقال: ((لا تَتَّهِمِ اللَّهَ فِي قَضَائِهِ))،
وفي صحيحِ مسلمٍ عن العبَّاسِ بنِ عبدِ المطلبِ عن النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ باللَّهِ رَباًّ وَبِالإِسْلاَمِ دِيناً وبمُحَمَّدٍ رَسُولاً))، فَالرِّضَا بربُوبِيَّتِه يَتَضَّمَنُ الرِّضَا بعبادَتِه وَحْدَه لا شريكَ له، والرِّضا بتدبيرِه العبدَ واختيارِه له، وقد تقدَّمَ الكلامُ على الرِّضا على قولِه: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ}،
والشُّكْرُ هُوَ فِعلٌ يُنْبِئُ عن تعظيمِ المُنْعِمِ لكونِه مُنْعِما، وهُوَ شَرْعا صَرفُ العبدِ جميعَ ما أَنْعمَ اللَّهُ بِهِ عليه لِمَا خُلِقَ لأجْلِه، ويتعلَّقُ بالقلبِ واللِّسانِ والجوارحِ كما قيل:

أَفادَتْكُمُ النَّعماءُ مِنِّي ثلاثةً ....... يَدِي ولِساني والضَّمِيرَ المُحْجَبَا

والشُّكرُ مِن أجلِّ الطَّاعاتِ وأفْضلِها، ومِن أَشْرفِ منازِلِ السَّائِرينَ إلى اللَّهِ وأرْفَعِها، وهُوَ مُؤْذِنٌ بالمزيدِ، قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ}،
قال ابنُ القيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: مَنـزلةُ الشُّكرِ أعلى المنازِلِ، وهُوَ فَوقَ منـزلَةِ الرِّضا، فالرِّضا مُندرِجٌ في الشُّكرِ؛ إذْ يَستحِيلُ وُجودُ الشُّكرِ بِدُونِه وهُوَ نِصفُ الإيمانِ، والإيمانُ نِصفانِ نِصفُ شكرٍ ونِصفُ صبرٍ، إلى أنْ قال: وأهلُه هم القليلُ، قال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}، وقال: {وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} انتهى،
والتَّحدُّثُ بالنِّعمةِ شُكرٌ، كما قال تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} وأمَّا حُكمُ الشُّكرِ فواجِبٌ لما تَقدَّمَ، وهُوَ مَبنيٌّ على ثلاثةِ أركانٍ: التَّحدُّثُ بالنِّعمةِ ظاهراً، والاعترافُ بها باطِنا، وصَرْفُها في طاعةِ مُولِيها ومُسْدِيها وهُوَ اللَّهُ. ذَكَرَه ابنُ القيِّمِ بتصرٌّفٍ.

(2) قولُه: (ويَدعونَ إلى مكارِمِ الأخلاقِ) المكارِمُ جمعُ مَكْرُمَةٍ بضمِّ الرَّاءِ، وَهِيَ مِن الكرَمِ، وكُلُّ فائِقٍ في بابِه يقال له كُريمٌ.
قولُه: (ومَحاسِنِ الأعمالِ) أي: جَميلِها، وقال الرَّاغبُ: الحُسْنُ عِبارةٌ عن كُلِّ مَرغوبٍ فيه، أي أنَّ أهلَ السُّنَّةِ والجَماعَةِ يَحثُّون ويُرَغِّبون في مكارِمِ الأخلاقِ ومحاسِنِ الأعمالِ، كالكَرَمِ والشَّجاعةِ والصِّدْقِ والأمانةِ ونحوِ ذَلِكَ؛ لِما تكاثَرَتْ بِهِ الأدِلَّةُ مِن الحثِّ على ذَلِكَ والتَّرغيبِ فيه، وأنَّ ذَلِكَ مِن صفاتِ المؤمنين، بل مِن أخصِّ علاماتِ الإيمانِ،
كما في حديثِ أبي هريرةَ -رضي اللَّهُ عنه- مرفوعًا: ((خَصْلَتَانِ لاَ يَجْتَمِعَانِ فِي مُنَافِقٍ، حُسْنُ سَمْتٍ وَفِقْهٌ فِي الدِّينِ)) رواه الترمذيُّ،
قال تعالى في نَبِيِّه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}،
قالتْ عائشةُ -رضي اللَّهُ عنها-: كانَ خُلُقُه القرآنَ، يَأْتَمِرُ بأوامِرِه، وَيَنْزَجِرُ عن زَواجِرِه، ويَرْضَى لِرِضَاه ويَغْضَبُ لِغَضبِه، أي: كان متُمَسِّكاً بآدابِه وأوامِرِه ونواهِيه، وما يَشتَمِلُ عليه مِن المكارِمِ والمحاسِنِ والألطافِ،
قال ابنُ القيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ- في المدارِجِ: وقد جَمعَ اللَّهُ له مَكارِمَ الأخلاقِ في قولِه: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}،
قال جعفرُ بنُ محمَّدٍ: أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّه بمكارِمِ الأخلاقِ، وليس في القرآنِ آيةٌ أجْمَعُ لمكارِمِ الأخلاقِ مِن هَذِهِ الآيةِ، انتهى.
وفي الصَّحيحِ أنَّ أبا ذَرٍّ -رضي اللَّهُ عنه- قال لأخِيهِ لما بَلَغَه مَبْعَثُ النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ارْكَبْ إلى هَذَا الوادِي فاسْمَعْ مِن قَولِه، فرَجَعَ فقال: رأيتُه يَأمُرُ بمكارِمِ الأخلاقِ،
وفي الحديثِ أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكاَرِمَ الأَخْلاَقِ)) رواه أحمدُ والبزَّارُ، ورواه مالِكٌ في الموطَّأِ، ولفظُه: قال: بلغني أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ حُسْنَ الأَخلاقِ)).
قال القرطبيُّ في المفهمِ: الأخلاقُ أوصافُ الإنسانِ التي يُعامِلُ فيها غيرَه، وَهِيَ محمودةٌ ومذمومةٌ، فالمحمودةُ على الإجمالِ: أنْ تكون مع غَيرِكَ على نَفْسِكَ، فَتُنْصِفُ مِنها ولا تُنْصِفُ لها، وعلى التَّفِصيلِ العفوُ والحِلمُ والجُودُ والصَّبرُ وتَحمُّلُ الأذَى والرَّحمةُ والشَّفقةُ وقَضاءُ الحوائجِ ونحوُ ذَلِكَ، والمذمومُ ضِدُ ذَلِكَ. انتهى.
وقال الحسَنُ: حقيقةُ حُسنِ الخُلقِ بَذلُ المعروفِ وكَفُّ الأذَى وطَلاقةُ الوجْهِ، رواه الترمذيُّ عن عبدِ اللَّهِ بنِ المبارَكِ.
قال ابنُ القيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ- في المدارِجِ: الدِّينُ كُلُّهُ خُلُقٌ، فمَن زاد عليك في الخُلقِ زادَ عليكَ في الدِّينِ، وحُسنُ الخُلقِ يقومُ على أربعةِ أركانٍ: الصَّبرُ، والعِفَّةُ، والشَّجاعةُ، والعَدلُ،
فالصَّبرُ يَحمِلُه على الاحتمالِ وكَظْمِ الغيظِ، والحِلمُ والأناةُ والرِّفقُ وعَدمُ الطَّيْشِ،
والعِفَّةُ تَحملُه على اجتنابِ الرَّذائلِ والقَبائِحِ مِن القولِ والفِعلِ،
والشَّجاعةُ تحملُه على عِزَّةِ النَّفْسِ وقُوَّتِها على إخراجِ المحبوبِ وتَحمِلُه على كَظْمِ الغَيظِ، والحِلمُ،
والعَدلُ يَحملُه على اعتدالِ أخلاقِه وتوسُّطِه بين طرَفَيِ الإفراطِ والتَّفريطِ،
فمَنْشأُ جميعِ الأخلاقِ الفاضِلةِ مِن هَذِهِ الأربعةِ، ومَنْشأُ جميعِ الأخلاقِ السَّافلةِ وبناؤها على أربعةِ أركانٍ: الجهلُ، والظُّلمُ، والشَّهوةُ، والغَضبُ. انتهى.

(3) قولُه: (ويعتقدُونَ معنى قولِه -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-) إلخ: هَذَا الحديثُ رواه أحمدُ والترمذيُّ وقال: حسنٌ صحيحٌ، مِن حديثِ أبي هريرةَ وتمامُه: ((وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ))، وَاقْتَصَرَ أبو دَاودَ على قولِهِ: ((أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَاناً أَحْسَنُهُمْ خُلُقاً))، وأخْرَجَه أبو يعلى عن أنسٍ،
فهَذَا الحديثُ كغيرِه فيه: الحثُّ على حُسنِ الخُلقِ، وأنَّه مِن صفاتِ المؤمنين، فحُسنُ الخُلقِ هُوَ احتيازُ الفضائلِ واجتنابُ الرَّذائلِ،
وقال النوويُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: حُسنُ الخُلقِ كلمةٌ جامعةٌ للإحسانِ إلى النَّاسِ وكَفِّ الأذَى عنهم. انتهى، وتقدَّمَ كلامُ الحسَنِ في حقيقةِ حُسنِ الخُلقِ.
والخُلقُ بالضَّمِّ صورةُ الإنسانِ الباطنةِ، وبالفَتحِ صورَتُه الظَّاهِرةُ، وقد تكاثَرَت الأحاديثُ في مَدحِ حُسنِ الخُلقِ وذَمِّ سوءِ الخُلقِ،
فعَنْ أبي هريرةَ -رضي اللَّهُ عنه- مرفوعاً أنَّه سُئِلَ عن أكثرِ ما يُدخِلُ النَّاسَ الجَنَّةَ، فقال: ((تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الخُلقِ)) رواه جماعةٌ منهم الترمذيُّ وصححَّه،
ولأبي داودَ مِن حديثِ عائشةَ مرفوعًا: ((إِنَّ الرَّجُلَ لَيَبْلُغُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ)).
وعن أبي هريرةَ -رضي اللَّهُ عنه- أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((إِنَّكُمْ لَنْ تَسَعُوا النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ سَعُوهُمْ بَبَسْطِ الْوَجْهِ وَحُسْنِ الخُلُقِ)) أَخْرَجَه أبو يَعلَى وصحَّحه الحاكِمُ.
وأَخبَرَ النَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((أَنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ أَثْقَلُ مَا يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ، وَأَنَّ صَاحِبَهُ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ وَأَقْرَبُهُمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مَجْلِساً)).
فَخَرَّجَ الإمامُ أحمدُ وأبو داودَ والترمذيُّ مَن حديثِ أبي الدَّرداءِ عن النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((مَا مِنْ شَيْءٍ يُوضَعُ فِي مِيزَانِ الْعَبْدِ أَثْقَلُ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ، وإِنَّ صَاحِبَ حُسْنِ الْخُلُقِ لَيَبْلُغُ بِهِ دَرَجَةَ صَاحِبِ الصَّوْمِ وَالصَّلاَةٍ)).
وأَخرَجَ ابنُ حِبَّانَ في "صحيحِه" مِن حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو عن النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَحَبِّكُمْ إِلَى اللَّهِ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِساً يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟)) قالوا: بلى قال: ((أَحْسَنُكُمْ أَخْلاَقاً)) انتهى،
وفي الحديثِ المذكورِ فوائدُ،
منها: مَدحُ حُسنِ الخُلقِ والثَّناءِ على أهلِه والحثِّ على التَّخلُّقِ بأحسنِ الأخلاقِ،
وفيه أنَّ حُسنَ الخُلقِ مِن خِصالِ الإيمانِ،
وفيه: دليلٌ على أَنَّ الأعمالَ داخِلةٌ في مسمَّى الإيمانِ،
وفيه تَفاضُلُ النَّاسِ في الإيمانِ، والرَّدُّ على مَن زَعَم أَنَّ الإيمانَ لا يَتَفاضَلُ، وأَنَّ النَّاسَ فيه سواءٌ.

(4) قولُه: (ويَندُبون إلى أنْ تَصِلَ مَن قَطَعَكَ) أي: يَدعُون ويَحثُّونَ ويُرغِّبون في صِلةِ مَن قَطَعكَ، والنَّدْبُ لغةً: الدُّعاءُ وَالمنتدَبُ المَدْعُو، كما قيل:

لاَ يَسْأَلُون أَخاهُمْ حِينَ يَندُبُهم ....... في النَّائِباتِ على ما قال بُرْهانا

واصْطِلاحًا المندوبُ: هُوَ ما أُثِيبَ فاعِلُه ولم يُعاقَبْ تَارِكُه، ويُسمَّى المندوبُ سُنَّةً وتطوُّعا ومُسْتَحباًّ ونَفْلا، وقُربةً ومُرَغَّبا فيه وإحسانًا، أي أنَّ أهلَ السُّنَّةِ يَندبُون إلى أنْ تَصِلَ مَن قَطَعكَ إلخ،
لِمَا رَوى الإمامُ أحمدُ في مسنَدِه مِن حَديثِ معاذِ بنِ أنسٍ الجُهَنِيِّ -رضي اللَّهُ عنه- قال، قال رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((أَفْضَلُ الْفَضَائِلِ أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ، وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ، وَتَصْفَحُ عَمَّنْ شَتَمَكَ)).
وخرَّج الحاكِمُ مِن حديثِ عقبةَ بنِ عامرٍ الجهنيِّ قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((يَا عُقْبَةُ أَلاَ أُخْبِرُكَ بِأَفْضَلِ أَخْلاَقِ أَهْلِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ؟ تَصِلُ مَنْ قَطَعَكَ، وَتُعْطِي مَنْ حَرَمَكَ، وَتَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَكَ)).
وروى أنَّ جبريلَ قال للنبيِّ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- حينَ نَزَّلَ {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} قال في تفسيرِ ذَلِكَ: "أنْ تَعْفُوَ عمَّن ظَلَمَك، وتَصِلَ مَن قَطَعكَ، وتُعطِي مَن حَرَمَك".
قولُه: (تَعفُو عمَّنْ ظَلمَكَ) العَفْوُ: هُوَ الصَّفحُ والتَّجاوُزُ عن الذَّنْبِ، أيْ: تَصفَحُ عمَّن ظَلَمَكَ وتَتجاوَزُ عن ذَنْبِه، ولا تُؤاخِذُه بما نَالَ مِنْكَ، فإنَّ ذَلِكَ مِن خصالِ الإيمانِ، وسببٌ للرِّفعةِ والعِزَّةِ، كما روى ابنُ عمرَ مرفوعًا ((ابْتَغُوا الرِّفْعَةَ عِنْدَ اللَّهِ تَحْلُمُ عَمَّنْ جَهِلَ عَلَيْكَ وَتُعْطِي مَنْ حَرَمَكَ)) أَخْرَجَهُ ابنُ عَدِيٍّ.
وعن أنسٍ الجُهنيِّ عن أبيه أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْفِذَهُ دَعَاهُ اللَّهُ عَلَى رُءُوسِ الْخَلاَئِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ فِي أيِّ الْحُورِ شَاءَ)) رواهُ أبو داودَ والترمذيُّ.
قولُه: (وتَصِلَ مَن قَطَعكَ) أي: تَصِلَ رَحِمَكَ وإنْ قَطَعَكَ، كما في الصَّحيحِ: ((لَيْسَ الوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ، وَلَكِنَّ الْوَاصِلَ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا)).
وروى عبدُ الرَّزَّاقِ عن عُمرَ مَوقوفا: (ليس الوَصْلُ أنْ تَصِلَ مَن وَصَلَكَ، ذَلِكَ القِصاصُ، ولكنَّ الوَصْلَ أنْ تَصِلَ مَن قَطَعَكَ)، وفي حديثِ أبي ذَرٍّ: (وَأَوْصَانِي أَنْ أَصِلَ رَحِمي وإنْ أدْبَرَتْ).
قولُه: (وتُعْطِيَ مَن حَرَمَكَ) أي: مَنَعَكَ ما هُوَ لكَ؛ لأنَّ مَقامَ الإحسانِ إلى المُسِيءِ ومقابلةَ إساءَتِه بإحسانٍ مِن كمالِ الإيمانِ.
قال الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّين -رَحِمَهُ اللَّهُ-: وجِماعُ حُسنِ الخُلقِ مع النَّاسِ أنْ تَصِلَ مَن قَطعكَ بِالسَّلامِ والإكرامِ، والدُّعاءِ له، والاستغفارِ، والثَّناءِ عليه، والزِّيارةِ له، وتُعْطِيَ مَن حَرَمَكَ مِن التَّعليمِ والمنْفَعةِ والمالِ، وتَعفُوَ عمَّن ظَلَمكَ في دَمٍ أو مالٍ أو عِرضٍ، وبعضُ هَذَا واجِبٌ وبَعْضُه مُستحَبٌّ. انتهى.
ففي هَذِهِ الأحاديثِ الحثُّ على العَفوِ والصَّفحِ، وأنَّ ذَلِكَ مِن أَفْضَلِ الأعمالِ وأَشْرَفِ الأخلاقِ، قال اللَّهُ -سُبْحَانَهُ- وتعالى: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}، وقال: {وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ}.
وروى الحاكِمُ مِن حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ مسعودٍ مرفوعا: ((إنَّ اللَّهَ عَفُوٌّ يُحِبُّ الْعَفْوَ)).
وفِي حديثِ أبي هُريرةَ -رضي اللَّهُ عنه- أَنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالِكَ، وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْداً بِعَفْوٍ إِلاَّ عِزاًّ، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلاَّ رَفَعَهُ)) أَخْرجَه مسلمٌ،
وفيها الحثُّ على الصِّلةِ للأقارِبِ والأرحامِ، وإنْ عَامَلُوك بالقطيعةِ فلا تَقطَعْ عنهم الصِّلةَ مُجازاةً لهم للأدِلَّةِ الحاثَّةِ على ذَلِكَ، والمصَرِّحةِ بتحريمِ القطيعةِ، وأنها مِن كبائرِ الذُّنوبِ، وأنَّ هَذَا مِن أَشْرَفِ أَخلاقِ المؤمِنِ.

(5) قولُه: (وَيأمُرونَ بِبِرِّ الوالدَيْنِ) أي: طاعَتِهِما والإحسانِ إليهما بما لا يُخالِفُ الشَّرْعَ، وخَفْضِ الجَناحِ لهما، والشَّفَقةِ عليهما، والتَّلطُّفِ بهما، وَذَلِكَ لِعِظَمِ حَقِّهِما، ولذَلِكَ قَرَنَ -سُبْحَانَهُ- حَقَّهُ بحقِّهِما، قال اللَّهُ تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}، وقال: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ}.
وفي "الصَّحيحَيْنِ" مِن حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ مسعودٍ أنَّهُ قال: قلت: يا رسولَ اللَّهِ أيُّ العملِ أفْضلُ؟ قال: ((الصَّلاَةُ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا))، قال: قلتُ: ثم أيُّ؟ قال: ((الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)) قال: قلتُ: ثم أيُّ؟ قال: ((بِرُّ الْوَالِدَيْنِ)) والبِرُّ بِكسْرِ الرَّاءِ: هُوَ التَّوسُّعُ في فِعلِ الخيرِ.
وروى الإمامُ أحمدُ مِن حديثِ أبي هريرةَ -رضي اللَّهُ عنه- عن النَّبيِّ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((رَغِمَ أَنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ أَوْ أَحَدَهُمَا فَلَمْ يُدْخِلاَهُ الجَنَّةَ)).
وعن أبي بكرةَ -رضي اللَّهُ عنه- قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَكْبِرِ الْكَبَائِرِ))؟ قال: قلنا: بلى يا رسولَ اللَّهِ، قال: ((الإِشْرَاكُ باللَّهِ وَحْدَهُ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ))، وكان مُتَّكِئا ثم جَلَسَ فقال: ((أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ، أَلاَ وَشَهَادَةُ الزُّورِ))، فما زَالَ يُكَرِّرُهَا حتى قلنا لَيْتَهُ سَكَتَ. رواهُ البخاريُّ ومسلمٌ.
قولُه: ((وعُقوقُ الْوَالِدَيْنِ)) قال العَلقميُّ: يقالُ: عَقَّ والِدَه عُقوقاً فهُوَ عاقٌّ، إذا آذاه وعَصاهُ وخَرَج عليه، وهُوَ ضِدُّ البِرِّ بِهِما، والآياتُ والأحاديثُ في الأمْرِ بِبِرِّ الوالدَيْنِ وتحريمِ عُقُوقِهما كثيرةٌ جداًّ.
قولُه: (وصِلةُ الأرحامِ) أي: الإحسانُ إلى الأقْرَبِينَ مِن ذويِ النَّسَبِ والأصهارِ، والتَّعَطُّفِ عليهم والرِّفِقُ بهم ورِعايَةِ أَحْوالِهم، وضِدُّ ذَلِكَ قَطيعةُ الرَّحِمِ، والأرحامُ جَمعُ رَحِمٍ، وهُوَ مِن المرأةِ الفَرْجُ، قال الرَّاغِبُ: ومنه استُعِيرَ الرَّحِمُ للقَرابَةِ، لِكونِهِم خَارِجَيْنِ مِن رَحِمٍ واحدَةٍ،
وصِلةُ الأرحامِ واجبةٌ وقطيعَتُها حرامٌ، والأدِلَّةُ مِن الكِتابِ والسُّنَّةِ تَشهَدُ لذَلِكَ، قال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُواْ أَرْحَامَكُمْ * أَوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ}، وفي هَذِهِ الآيةِ وأشباهِها أعظمُ وَعيدٍ في قطيعةِ الرَّحمِ، وفيها أَصْرحُ دلالةٍ على حُرمةِ قطيعةِ الرَّحمِ، وأنَّها كبيرةٌ مِن الكبائرِ.
وفي "الصَّحيحَيْنِ" من حديثِ جبيرِ بنِ مُطعمٍ عن أبيهِ مَرفوعا: ((لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَاطِعٌ)) يعني : قاطِعَ رَحِمٍ، انتهى، والقطيعةُ: الهَجْرُ والصَّدُّ، والرَّحِمُ: الأقاربُ كما تقدَّمَ.
وفي "الصَّحيحَيْنِ" عن أنسِ بنِ مالكٍ، قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ)) يقالُ: وَصلَ رَحِمَه يَصِلُها وَصْلا، كأنَّه بالإحسانِ إليهمْ وَصَلَ ما بينه وبينهم مِن علاقةِ القرابةِ.
قال في فتحِ الباري: قال القرطبيُّ: الرَّحِمُ التي تُوصلُ خَاصَّةٌ وعامَّةٌ، فالعامَّةُ رَحِمُ الدِّينِ، وتَجِبُ مواصَلَتُها بالتَّوَدُّدِ والتَّناصُحِ والعَدلِ والإنصافِ والقيامِ بالحقوقِ الواجبةِ والمستحبَّةِ، وأمَّا الرَّحِمُ الخاصَّةُ فبِمَزيدِ النَّفقةِ على القريبِ وتَفقُّدِ أحوالِهم والتَّغافُلِ عن زلاَّتِهم، وتتفاوتُ مَراتِبُ استحقاقِهم في ذَلِكَ. انتهى.

(6) قولُه: (وحُسنِ الجوارِ) بإيصالِ ضُروبِ الإحسانِ إليهم بحسَبِ الطَّاقَةِ، كالهديةِ والسَّلامِ وطلاقَهِ الوَجْهِ عِندَ لِقائِه ومعاوَنَتِه فيما يَحتاجُ إليه إلى غيرِ ذَلِكَ، وكفِّ أسبابِ الأَذَى عنه على اختلافِ أنواعِه، وقد تكاثَرَت الأدِلَّةُ في تعظيمِ حقِّ الجارِ، وأنَّ حِفظَ الجارِ مِن كمالِ الإيمانِ، ومِن أعظمِ مكارِمِ الأخلاقِ، قال تعالى: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ}.
وفي الصَّحيحِ مِن حديثِ أبي هريرةَ -رضي اللَّهُ عنه- أَنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ))،
وفي "الصَّحيحَيْنِ" عن عائشةَ -رضي اللَّهُ عنها- أنَّها سَمِعَتْ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- يقولُ: ((مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ)).
وأَخْرجَ الترمذيُّ بسندٍ صحيحٍ عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرَ -رضي اللَّهُ عنهما- قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((خَيْرُ الأَصْحَابِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ، وَخَيْرُ الْجِيرَانِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ))،
وَفِي صَحيحِ البُخارِيِّ عن أبي شُريحٍ عن النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((واللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ، واللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ، واللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ)) قيل مِن يا رسولَ اللَّهِ: قال: ((مَنْ لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ))، إلى غيرِ ذَلِكَ مِن الأدِلَّةِ الدَّالَّةِ على عِظَمِ حقِّ الجارِ، والحثِّ على إكرامِه واحتمالِ أَذاهُ، وأنَّ ذَلِكَ مِن صفاتِ المؤمنينَ،
وفيه النَّهْيُ عن أَذَى الجارِ والدَّلالَةُ على تحريمِه، وأنَّه مِن كبائرِ الذُّنوبِ، فإنَّ الأذَى بغيرِ حقٍّ حرامٌ لكُلِّ أَحدٍ، ولكن في حقِّ الجارِ أشدُّ تحريماً، كما في "الصَّحيحَيْنِ" مِن حديثِ ابنِ مسعودٍ -رضي اللَّهُ عنه- أنَّه سألَ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-، أيُّ الذَّنْبِ أَعْظمُ؟ قال: ((أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِداًّ وهُوَ خَلَقَكَ))، قال: قلتُ ثُمَّ أيُّ؟ قال: ((أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ))، قال: قلتُ ثُمَّ أيُّ؟ قال: ((أَنْ تُزَانِي حَلِيلَةَ جَارِكَ))،
والجارُ له مراتبُ بعضُها أعلى مِن بعضٍ، فيُعْطَى كُلٌّ بحسَبِ حالِه، كما وَرَدَت الإشارةُ إلى ذَلِكَ في الحديثِ المرفوعِ الذي أَخْرَجه الطَّبرانيُّ مِن حديثِ جابرٍ -رضي اللَّهُ عنه- مرفوعًا: ((الجيرانُ ثَلاثةٌ: جارٌ له حقٌّ واحدٌ، وهُوَ المشرِكُ، له حقُّ الجِوارِ، وجارٌ له حقَّانِ، وهُوَ المسلِمُ، له حَقُّ الجِوارِ وحقُّ الإسلامِ، وجارٌ له ثلاثةُ حُقوقٍ، وهُوَ المسلِمُ القَريبُ، له حقُّ الجوارِ وحقُّ الإسلامِ وحَقُّ الرَّحِمِ)).
وقال النَّوويُّ وغيرُه: الجارُ يقعُ على أربعةٍ:
السَّاكِنُ مَعَكَ في البيتِ، قال الشاَّعِرُ:

أَجَارَتَنَا فِي البَيتِ إنَّكِ طالِقٌ

ويقع على مَن لاصَقَ بيتَكَ، ويَقعُ على أربعين دارًا مِن كُلِّ جانبٍ، ويَقعُ على السَّاكِنِ في البلدِ، قال اللَّهُ تعالى {لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً}.

(7) قولُه: (والإحسانِ إلى اليَتامَى) اليَتِيمُ لُغةً: المنفرِدُ. وشَرْعًا: مَن ماتَ أبوه قِبلَ بُلوغِه،

والإحسانُ إلى اليَتامَى رعايةُ أحوالِهم والتَّلطُّفُ بِهم وإكرامُهم والشَّفقةُ عليهم، وفيه فَضْلٌ عظيمٌ، كما في "الصَّحيحَيْنِ" من حديثِ سهلِ بنِ سعدٍ -رضي اللَّهُ عنه-، عن النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الجَنَّةِ هَكَذَا)) وقال بأُصْبُعَيهِ السَّبابةِ والوُسْطى.

وفي حديثٍ آخرَ: ((مَنْ مَسَحَ عَلَى رَأْسِ يَتيِمٍ وَلَمْ يَمْسَحْ إِلاَّ لِلَّهِ كَانَ لَهُ بكُلِّ شَعْرَةٍ تَمُرُّ عَلَيْهَا يَدَيْهِ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَمَنْ أَحَسْنَ فِي يَتِيمٍ كُنْتُ أَنَا وَهُوَ في الجَنَّةِ كَهَاتَيْنِ))، وقَرَنَ بين أُصبعَيْه،

ورُويَ أنَّه -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((إِذَا أَرَدْتَ أَنْ يَلِينَ قَلْبُكَ فَأَطْعِمِ الْمِسْكِينَ، وَامْسَحْ عَلَى رَأْسِ اليَتِيمِ)).

قولُه: (والمساكينِ) جمعُ مِسكينٍ، وهُوَ الذي يَرْكَبُه ذُلُّ الفاقَةِ والفَقْرُ، فتَمَسْكَنَ لذَلِكَ، وإذا أُطلِقَ المِسكيُن دَخلَ فيه الفقيرُ وبالعكس، وإذا ذُكِرَا معا فُسِّرَ كُلُّ واحدٍ منهما بتفسيرٍ، كالإسلامِ والإيمانِ إذا اجتَمَعا افْترَقا، وإذا افْتَرَقا اجتمعا،

والفقيرُ في الاصطلاحِ: مَن وَجَدَ أَقَلَّ مِن نِصْفِ كِفَايَتِه، أو لم يَجِدْ شيئًا أصلا، والمِسكينُ مَن وَجَدَ نِصْفَ كِفايَتِه فأكثرُ، فالفَقيرُ أشدُّ حاجةً مِن المسكينِ عندنا، خِلافًا لأبي حنيفةَ ومالِكٍ،

والمرادُ بالإحسانِ إلى المساكينِ: رعايةُ أحوالِهم، وتَقريبُهم، والتَّطلُّفُ بهم، وإكرامُهم، قال تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ}.

ورويَ عن أبي هريرةَ -رضي اللَّهُ عنه- قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- ((السَّاعِي عَلَى الأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)) وَأَحْسِبُه قال – يِشكُّ القعنبيُّ – ((كَالْقَائِمِ لاَ يَفْتُرُ وَالصَّائِمِ لاَ يَفْطُرُ)) رواه البخاريُّ ومسلمٌ.

قولُه: (وابنُ السَّبيلِ) وهُوَ المسافِرُ المنقطَعُ به، والسَّبيلُ الطَّريقُ، وسُمِّيَ بِذَلِكَ لملازَمَتِه السَّفرَ، كما يقالُ: ابنُ اللَّيلِ لمَنْ يُكثِرُ الخُروجَ في اللَّيلِ، وقال بعضُ العلماءِ: المرادُ بابنِ السَّبيلِ الضَّيفُ يَمُرُّ بك فتُكْرِمُه وتُحسِنُ ضيافَتَهُ.

وفي "الصَّحيحَيْنِ" عن أبي هريرةَ -رضي اللَّهُ عنه- قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْراً أَوْ لِيَصْمُتْ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ))،

وفيهما عن أبي شُريحٍ العدويِّ قال: سَمِعَتْ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- أُذُنايَ، وأَبْصَرتْ عَينايَ حِين تكلَّمَ النَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- فقال: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ وَالْيَوْم الآخِر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن باللَّه وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ جَائِزَتَهُ))، قالوا: وما جائزُته؟ قال: ((يَوْمٌ وليلةٌ، والضِّيافَةُ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ، وَمَا كَانَ وَرَاءَ ذَلِكَ فهُوَ صَدَقَةٌ عَلَيْهِ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْراً أَوْ لِيَصْمُتْ)).

قولُه: (والرِّفقِ بالمملوكِ) الرِّفقُ بكسرِ الرَّاءِ وسُكونُ الفاءِ وهو: لِينُ الجانبِ بالقولِ والفِعلِ والأخذِ بالأسهَلِ، وهُوَ ضِدُّ العُنفِ،

وقد تكاثَرَت الأدِلَّةُ في الحثِّ على ذَلِكَ، كما أَوْصَى -سُبْحَانَهُ- بِذَلِكَ، قال تعالى: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}، وَكَذَلِكَ أَوْصَى النَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- بِهِمْ كَثِيراً وأَمَرَ بالإحسانِ إليهم، ورُوِيَ أنَّ آخِرَ ما أَوْصَى بِهِ عندَ مَوتِه: ((الصَّلاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ))،

فروى الإمامُ أحمدُ والنَّسائيُّ وابنُ ماجهْ وابنُ حِبَّانَ عن أنسٍ، ومالِكٍ وأحمدَ وابنِ ماجهْ عن أُمِّ سَلمةَ زوجٍ النَّبيِّ، والطَّبرانيُّ عن ابنِ عمرَ بأسانيدَ صحيحةٍ مرفوعةٍ، أَنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((الصَّلاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ))، فجَعلَ يُرددِّها في مَرَضِ مَوتِه حتى ما يَفِيضُ بها لسانُه،

وعن أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ -رضي اللَّهُ عنه- أنَّ رَسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((لاَ يَدْخُلُ الجَنَّة سَيِّئُ الْمَلَكَةِ))، أَخرجه الترمذيُّ.

(8) قولُه: (ويَنهوْن عن الفَخْرِ) أي: المباهاةِ بالمكارِمِ والمناقِبِ، مِن حسَبٍ ونَسَبٍ وغيرِ ذَلِكَ، سواءً كان فيه أو في آبائِه، ذَكَرَه في المصباحِ، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} المُختالُ: هُوَ المتكبِّرُ العظيمُ في نَفْسِه الذي لا يَقومُ بحقوقِ النَّاسِ، والفَخورُ: هُوَ الذي يَفخَرُ كُلَّ النَّاسِ، وَيُعدِّدُ مَناقِبَه تَكَبُّرًا وتَطاوُلا على مَن دُونَه، ويَنْظُرُ إلى غيِره نَظَرَ ازْدِرَاءٍ وَاحتقارٍ، قال تعالى: {فَلاَ تُزَكَّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}.

وروى مسلمٌ في "صحيحِه" مِن حديثِ عياضِ بنِ حمارٍ -رضي اللَّهُ عنه- أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إليَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لاَ يَبْغِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدْ، وَلاَ يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ)).

قال الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ في اقتضاءِ الصِّراطِ الْمُسْتِقِيمِ عَلَى هَذَا الحديثِ: فنَهَى -سُبْحَانَهُ- عَن نَوْعَيِ الاستطالَةِ على الخَلقِ، وهُوَ الفَخرُ والبَغيُّ؛ لأنَّ المستطِيلَ إنِ استطالَ بِحَقٍّ فقد افْتَخَرَ، وإنْ كان بِغَيرِ حَقٍّ فقد بَغَى.

قال ابنُ القيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ- في المَدارِجِ: والافتخارُ نوعانِ: محمودٌ ومذمومٌ،

فالمذْمومُ إظهارُ مَرتَبَتِه على أبناءِ جِنْسِه تَرَفُّعًا عليهم،

والمحمودُ إظهارُ الأحوالِ السُّنِّيَّةِ والمَقَامَاتِ الرَّفيعةِ لا عَلَى وَجْهِ الفَخْرِ بل على وَجْهِ التَّعظِيمِ للنِّعْمةِ والفَرحِ بها، وذِكْرِها وَالتَّحَدُّثِ بها والتَّرْغِيبِ فيها، وَذَلِكَ مِن المقاصِدِ في إظهارِها، كما قال –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلاَ فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عنه الأَرْضُ يَوْمَ القِيامَةِ وَلاَ فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ وَلاَ فَخْرَ))، وقال سعدٌ: (أَنَا أَوَّلُ مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبيِلِ اللَّهِ) انتهى.

قولُه: (والخيلاءُ) قال تعالى: {وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا* إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}.

قولُه: {وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ} أي: تُمِيلُه وتُعرِضُ عَن النَّاسِ تَكَبُّرًا، وقولُه: {مُخْتَالٍ فَخُورٍ} أي: ذي خُيلاءَ يَفْخَرُ على النَّاسِ ولا يَتَواضَعُ لهم.

قال المنذريُّ: الخُيلاءُ بِضمِّ الخاءِ المعجَمةِ وكَسرِها: الكِبْرُ والعُجْبُ، والمَخِيلَةُ بفتحِ الميمِ وكسرِ المعجَمةِ مِن الاختيالِ، وهُوَ الكِبرُ واستحقارُ النَّاسِ. انتهى.

وعن ابنِ عمرَ -رضي اللَّهُ عنه- قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى عليه وسلم: ((لاَ يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيلاَءَ))، متَّفقٌ عليه،

وفي البخاريِّ معلَّقاً عن ابنِ عبَّاسٍ -رضي اللَّهُ عنهما-: ((كُلْ مَا شِئْتَ وَاشْرَبْ مَا شِئْتَ مَا أَخْطَأَتْكَ اثْنَتَانِ سَرَفٌ وَمَخِيلَةٌ)).

وعن أبي هريرةَ -رضي اللَّهُ عنه- أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((لاَ يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ بَطَراً)) متَّفقٌ عليه،

وعنه أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي فِي حُلَّةٍ تُعْجِبُهُ نَفْسُهُ مُرَجِّلٌ جُمَّتَهُ يَخْتَالُ في مِشْيَتِه إِذْ خَسَفَ اللَّهُ بِهِ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)).

قولُه: (والبَغْيِ) وهُوَ العُدوانُ على النَّاسِ، قال العلقميُّ: أَصْلُ البَغْيِ مجاوزَةُ الحدِّ، قال اللَّهُ تعالى: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُمْ} أي: أنَّ إِثْمَ البَغْيِ وعُقوبةُ البَغْيِ على الباغِي إمَّا عاجلاً وإمَّا آجلاً، وفي هَذِهِ الآيةِ شُؤمُ البَغْيِ، وسُوءُ مَصْرَعِ الباغِي، قال تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}.

والفَخرُ والخيلاءُ كُلُّها خِصالٌ مَذمومةٌ، وَرَدَت الأحاديثُ بالنَّهيِ عنها والتَّحذيرِ مِنها، ووَرَدَتْ أَحَادِيثُ في سُرعةِ عُقوبةِ الباغِي، فعَنْ أبي بكرٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَوْ أَحَقُّ مِنْ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُ اللَّهُ لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ)) رواه الترمذيُّ والحاكِمُ وصحَّحاه.

قولُه: (والاستطالةِ على الخَلقِ بِحقٍّ وبغيرِ حقٍّ) أي: التَّرفُّعُ عليهم واحتقارُهُم والوقيعةُ فيهم، قال العلقميُّ: يُقالُ طَالَ عليه واستطالَ وتطاوَلَ إذا علاهُ وتَرفَّعَ عليه.

(9) قولُه: (ويأمُرونَ بمكارِمِ الأخلاقِ ويَنهوْنَ عن سَفْسافِها) أي: يأمُرُ أهلُ السُّنَّةِ بمعالي الأخلاقِ؛ لأنَّها مِن أخلاقِ المؤمنينَ، بل مِن أخصِّ علاماتِ الإيمانِ، كما تقدَّمَ حديثُ: ((أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَاناً أَحْسَنُهُمْ أَخْلاقاً)) الحديثَ، أي: يأمُرُونَ بأعالي مَراتبِ الخُلُقِ الحَسَنِ، كَالسَّخاءِ والصِّدْقِ والأمانةِ والشَّجاعةِ والحِلمِ، ونحوِ ذَلِكَ، مُشتَقٌّ مِن عَلَى في المكانِ يَعلُو مِن بابِ قَعَدَ، علاءً بالفتحِ والمَدِّ،

(ويَنهوْن عن سَفْسافِها) أي: رَدِيئِها وحَقيرِها، كالبُخلِ والجُبْنِ والكَذِبِ والغِيبةِ والنَّميمةِ ونحوِ ذَلِكَ، كما روى الخلاَّلُ عن سهيلِ بنِ سعدٍ مرفوعًا: ((إِنَّ اللَّهَ كَرِيمٌ يُحِبُّ الكَرِيمَ وَمَعَالِي الأَخْلاَقِ وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا)).

وروى أيضًا عن جابرٍ مرفوعًا: ((إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ مَكَارِمَ الأَخْلاَقِ وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا)).

وأَخرَج البيهقيُّ في شُعَبِ الإيمانِ عن طلحةَ بنِ عُبيدِ اللَّهِ مرفوعا ((إِنَّ اللَّهَ جَوادٌ يُحِبُّ الجُودَ، وَيُحِبُّ مَعَالِيَ الأَخْلاَقِ وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا)) وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، عَن ابْنِ عبَّاسٍ.

قَالَ في النِّهَايَةِ: السَّفْسَافُ: الأَمْرُ الْحَقِيرُ وَالرَّدِيءُ مِنْ كُلِّ شيءٍ، وهُوَ ضِدُّ المعالي والمكارِمِ، وأصْلُه ما يَطِيرُ مِن غُبارِ الدَّقيقِ إذا نُخِلَ، والتَّرابِ إذا أُثِيرَ، وفي الحديثِ: ((إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ مَعَالِيَ الأُمُورِ وَيُبْغِضُ سَفْسَافَهَا)) انتهى.

قولُه: (وكُلُّ ما يَقولونه ويَفْعَلونه) إلخ أي: كُلُّ ما يقولُه أهلُ السُّنَّةِ ويَفعلونه ويأمُرون بِهِ ويَنهوْن عنه ممَّا تقدَّمَ ذِكرُه في هَذِهِ الرِّسالَةِ وغيرُه، فإنَّما هم فيه متَّبِعونَ للكِتابِ والسُّنَّةِ، فهم متَّبِعونَ لا مُبْتدِعون، مُقتَدُونَ لا مُبْتَدُون، فأقوالُهم وأفعالُهم واعتقاداتُهم كُلُّها مُقَيَّدةٌ بالكِتابِ والسُّنَّةِ، ولذا سُمُّوا أهلَ الكِتابِ والسُّنَّةِ، لاتِّباعِهم للكتابِ والسُّنَّةِ، وتقيُّدِهم بما جاء فيهما، وتُحكِيمِهما في الكثيرِ والقليلِ، ونَبذِهِم كُلَّ ماخالَفَهُما، فهم يَزِنُون أقْوالَهم وأعمالَهم واعتقادَهم بالكِتابِ والسُّنَّةِ، إذْ لا نجاةَ إلا باتِّباعِهما، ولا طريقَ مُوصِّلٌ إلى السعادةِ في الدُّنْيَا والآخرةِ إلا بسُلوكِ الصِّراطِ المستقيمِ الذي أوصانا اللَّهُ بسُلوكِه، وهُوَ ما كان عليه النَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- وأصحابُه، قال اللَّهُ تعالى: {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ} فأهلُ السُّنَّةِ يَجعلونَ كلامَ اللَّهِ وكلامَ رسولِه هُوَ الإمامَ الذي يَجِبُ اتِّباعُه والرُّجوعُ إليه عندَ التَّنازُعِ، قال اللَّهُ تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدَّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} الآيةَ،

فكما يَجِبُ إفرادُ اللَّهِ –سُبْحَانَهُ- بالعبادةِ يَجِبُ توحيدُ الرَّسولِ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- بالتَّحكيِمِ، فَهُما توحيدانِ لا نجاةَ للعبدِ مِن عذابِ اللَّهِ إلاَّ بهما، توحيدُ المُرسِلِ وتوحيدُ متابَعةِ الرَّسولِ، فلا يُحاكَمُ إلى غيرِه، ولا يُرْضَى بِحُكمِ غيرِه، فمَن أَعْرضَ عن الكِتابِ والسُّنَّةِ ورَغِبَ عن تَحكيمِهما أو زَعَم حصولَ السَّعادةِ والفلاحِ بالاستغناءِ عنهما، والتَّحاكُمِ إلى غيرِهما كائِنا مَن كانَ فقد نَبذَ الإسلامَ وراءَ ظَهرِه، قال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الآيةَ.

وعن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ -رضي اللَّهُ عنهما- أَنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ))، قال النَّوويُّ: حَديثٌ حَسَنٌ صَحيحٌ رُوِّيناهُ في كتابِ الحُجَّةِ بإسنادٍ صحيحٍ،

وتقدَّمَ ذِكرُ معنى الاتِّباعِ، وهُوَ الاقتفاءُ والاسْتِنانُ،

وذَكَر ابنُ القيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ- الفَرْقَ بين الاتِّباعِ والتَّقليدِ، وذَكَرَ الأدِلَّةَ في ذَمِّ التَّقليدِ، وذَكَرَ الإجماعَ الذي ذَكَرَه ابنُ عبدِ البَرِّ أَنَّ المقلِّدَ ليس مَعدودًا مِن أهلِ العِلمِ، ثم قال بعدَ كلامٍ: فإنَّ الاتِّباعَ سُلوكُ طريقِ المتَّبَعِ، والإتيانُ بمِثلِ ما أَتَى به،

وذَكَرَ كَلامَ ابنَ خريز أَنَّ التقليدَ معناه في الشَّرعِ: الرُّجوعُ إلى قولٍ لا حُجَّةَ لقائِلِه، وَذَلِكَ ممنوعٌ في الشَّريعةِ، والاتِّباعُ ما ثَبتَ عليه حُجَّةٌ،

وذَكَرَ في الكوكبِ المُنِيرِ شَرْحُ مختصَرِ التَّحريرِ الفَرقَ بين التأَّسِي والموافَقةِ، فقال: (التَّأسِّي) برسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- (فِعلُكَ) أي أن تفعلَ (كما فَعلَ لأجلِ أنَّه فَعلَ)، وأمَّا التَّأسِّي في التَّرْكِ: فهُوَ أنْ تَتْرُكَ ما تَرَكَهُ لأجلِ أنَّه تَرَكَهُ، (و) أمَّا التَّأسِّي (في القولِ فـ) هُوَ (امتثالُه على الوجْه الذي اقْتضاهُ)، (وإلاَّ) أيْ وإنْ لم يكُنْ كذَلِكَ في الكُلِّ (فـ) هُوَ (مُوافَقةٌ لا مُتابَعَةٌ) لأنَّ الموافقةَ المشارَكةُ في الأمْرِ، وإنْ لم يكن لأَجْلِه فالموافقةُ أعمُّ مِن التَّأسِّي؛ لأنَّ الموافقةَ قد تكونُ مِن غيرِ تأسٍّ. انتهى.

(10) قولُه: (وطريقَتُهم هي دينُ الإسلامِ) إلخ أي: سبيلُهم ومذهبُهم وصراطُهم المستقيمُ الذي لا طريقَ إلى اللَّهِ -سُبْحَانَهُ- إلاَّ هُوَ ولا نجاةَ إلا بسُلوكِه، قال تعالى: {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ}، هُوَ دينُ الإسلامِ الذي بَعثَ اللَّهُ بِهِ محمَّدا، وهُوَ دِينهُ –سُبْحَانَهُ- الذي لا يَقبلُ دينًا سِواهُ، قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ}، وقال: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.

قولُه: (لكن ما أخبَرَ النَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-) إلخ، هَذَا الافتراقُ مَشهورٌ عن النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- مِن حديثِ أبي هريرةَ ومعاويةَ وعمرِو بنِ عوفٍ وغيرِهم، فعن أبي هريرةَ -رضي اللَّهُ عنه- قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَىَ أَوِ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَتَفَرَّقَتِ النَّصَارَى عَلَى إِحْدَى أَوِ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً)) رواه أبو داودَ والترمذيُّ وابنُ ماجهْ مختصَرا: وقال الترمذيُّ: حسنٌ صحيحٌ.

وعن معاويةَ -رضي اللَّهُ عنه- أنَّه قام فقال: إنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قام فينا فقال: ((أَلاَ إِنَّ مَنْ قَبْلَكُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ افْتَرَقُوا عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرقَةً، وَإِنَّ هَذِهِ الأمَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ، كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلاَّ وَاحِدَةٌ فِي الجَنَّةِ وَهِيَ الجَمَاعَةُ)) رواهُ أبو داودَ،

وفي روايةِ الترمذيِّ: ((كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلاَّ وَاحِدَةً))، قالوا: مَنْ هي يارسولَ اللَّهِ؟ قال: ((مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الَيْوَمَ وَأَصْحَابِي)) وقال: هَذَا حديثٌ غريبٌ مفسِّرٌ لا نَعرِفُه إلاَّ مِن هَذَا الوجهِ،

والأُمَّةُ هي الجماعةُ، قال الأخفشُ: هي في اللَّفظِ واحدٌ وفي المعنى جَمعٌ، والمرادُ هنا: أُمَّةُ الإجابةِ لا الدَّعوةِ.

قولُه: ((ستَفتَرِقُ أُمَّتِي)) إلخ، أي: أُمَّةُ الإجابَةِ،

وقد وَقَع هَذَا الافتراقُ كما أخبرَ النَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- فافترَقَتْ هَذِهِ الأمَّةُ إلى ثلاثٍ وسَبعينَ فِرقةً، كُلُّ فرقةٍ تُضلِّلُ الأخرى، وأصولُ هَذِهِ الفِرَقِ: قيل: خَمسٌ، وقيل: سِتٌّ، وقيل: غيرُ ذَلِكَ، وهم:

المعتزِلةُ، وهم عِشرونَ فِرقةً،

الثَّانيةُ: الشِّيعةُ وَهِيَ اثنتانِ وعِشرونَ فِرقةً،

الثَّالثةُ: الخوارجُ افتَرَقوا إلى سبعِ فِرَقٍ،

الرَّابعةُ: المُرْجِئةُ، وَهِيَ خمسُ فِرَقٍ،

الخامِسةُ: الجَبْريَّةُ الذين يقولون إنَّا مَجبُورون على أعمالِنَا، ويُسنِدُونَ الأعمالَ إلى اللَّهِ -سُبْحَانَهُ- وتعالى.

السَّادسِةُ: المشَبِّهةُ الذين شَبَّهوا اللَّهَ بِخَلْقِه،

وَهَذِهِ الأحاديثُ فيها إخبارٌ منه -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- بما يَقعُ في أُمَّتِه مِن الافتراقِ في أصولِ الدِّينِ وفُروعِه، فوقع كما أَخبرَ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-، وهَذَا عَلَمٌ مِن أعلامِ نُبوَّتِه،

وفيه ذمُّ التَّفرُّقِ، فإنَّ الخبرَ خَرَجَ مَخْرَجَ الذَّمِّ للاختلافِ، والأدِلَّةُ على ذَمِّه مِن الكِتابِ والسُّنَّةِ كثيرةٌ، كما قال تعالى: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ}، وقولُه: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} الآيةَ،

وفيه عامَّةً أَنَّ المختلِفِينَ هالِكونَ إلاَّ فِرقةً واحدةً، وهم أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ.

قال الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: وهَذَا الحديثُ وما قَبلَه يُفيدُ أَنَّ الفُرقةَ والاختلافَ لا بدَّ مِن وُقوعِهما في هَذِهِ الأُمَّةِ، وتحذيرَ أُمَّتِه مِن الخلافِ، إلى أنْ قال: فأفادَ من ذَلِكَ شيئَيْنِ:

أحدُهما: تحريمُ الاختلافِ في مِثلِ هَذَا.

الثَّاني: الاعتبارُ بمَن كان قَبْلَنا والحذَرُ مِن مشابَهَتِهِم. انتهى.

قال الخطَّابيُّ في معالِمِ السُّنَنِ: فيه دلالةٌ على أنَّ هَذِهِ الفِرَقَ كُلَّها غيرُ خارجِةٍ مِن الدِّينِ؛ إذْ جَعلَهم النَّبيُّ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- كُلَّهم مِن أُمَّتِه، وفيه أَنَّ المتأوِّلَ لا يَخْرُجُ مِن الملَّةِ وإنْ أَخْطَأَ. انتهى.

قال الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ -رَحِمَهُ اللَّهُ- بعدَ كلامٍ: والنبيُّ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- لم يُخْرِج الثِّنْتَيْنِ والسَّبْعِين فِرقةً مِن الإسلامِ، بل جَعلَهم مِن أُمَّتِه، ولم يَقُلْ إنَّهم يخلَّدُونَ في النَّارِ، فمَن كَفَّرَ الثِّنْتَيْنِ والسَّبْعِينَ فِرقةً كُلَّهم فقد خالَفَ الكِتابَ والسُّنَّةَ وإجماعَ الصَّحابةِ والتَّابِعينَ لهم بإحسانٍ، انتهى،

وفيها الرَّدُّ على مَن زعَم أَنَّ الفِرقةَ النَّاجِيةَ هم الأشعريَّةُ والماتُريديَّةُ وأهلُ الحديثِ، فإنَّ الحديثَ ليس فيه فِرقةٌ ناجيةٌ إلاَّ واحدةٌ، فهُوَ يُنافِي التَّعدُّدَ،

وفيه وَصْفُ الفرقةِ النَّاجيةِ بأنَّها المتَّبعةُ للكِتابِ والسُّنَّةِ، وأنَّها مَن كان على مِثلِ ما عليه النَّبيُّ –صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم- وأصحابُه، وفي روايةٍ فسَّرَ الفِرقةَ النَّاجيةَ بأنَّهم الجماعةُ، وهم المجتمِعون الذين ما فَرَّقُوا دِينَهم وكانوا شِيعا، وبهَذَا يُعلمُ أنَّه وصَفَ الفِرقةَ النَّاجيةَ باتباعِ سُنَّتِه التي كان عليها هُوَ وأصحابُه، وبلُزومِ جماعةِ المسلِمِينَ، فمَن عَدَا هؤلاء فليس مِن الفرقةِ النَّاجيةِ).

هيئة الإشراف

#6

28 Dec 2008

شرح العقيدة الواسطية للشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (ويأْمُرُونَ بالصَّبْرِ عندَ الْبَلاَءِ، والشُّكْرِ عنْدَ الرَّخَاءِ، والرِّضا يِمُرِّ القَضَاءِ .
ويَدْعُونَ إلى مكَارِمِ الأَخْلاقِ وَمَحاسِنِ الأَعْمَالِ، ويَعْتَقِدُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: ((أكْمَلُ المؤمنينَ إِيمَاناً أَحْسَنُهمْ خُلُقاً)) ويندُبُونَ إلى أن تَصِلَ مَنْ قطَعَكَ، وتُعْطي مَن حَرَمَكَ، وتَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَكَ. ويأمرُوُنِ. بِبِرِّ الوَالدَينِ وَصِلَةِ الأَرْحَامِ وحُسْنِ الجِوَارِ. والإحْسَانِ إلى اليَتَامَى وَالمْسَاكين وابنِ السَّبيِلِ والرِّفْقِ بِالمْمَلُوكِ، وينْهَوْنَ عنِ الفَخْرِ والخُيلاءِ والبَغْي والاسْتطَالةِ على الخلْقِ بحَقٍّ أَوْ بغَيْرِ حَقٍّ ويَأْمُروُنِ بمعالي الأَخْلاَقِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ سَفَاسِفِهَا، وكلُّ ما يقولُونَهُ ويفعلونَهُ مِنْ هذا وغيرِهِ فإنَّما هُمْ فيهِ مُتَّبِعُونَ للكْتَابِ وَالسُّنّةِ. وَطَريَقتُهْمَ هيَ دينُ الإِسْلامِ الذي بعَثَ اللهُ محمَّداُ صلى اللهُ عليه وسلم. (1)
).


الشرح:

قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): ( (1) قَوْلُهُ: ((وَيَأْمُرُونَ بِالصَّبْرِ عِنْدَ البلَاءِ، وَالشُّكْرِ عِنْدَ الرَّخَاءِ، وَالرِّضَى بِمُرِّ القَضَاءِ)):
((يَأْمُرُونَ)): قَدْ يُقَالُ: إِنَّ هَذِهِ الكَلِمَةَ تَشْمَلُ أَمْرَ نُفُوسِهِمْ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِى إِنَّ النَّفْسَ لَأمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) [يُوسُف: 53]؛ فَهُمْ يَأْمُرُونَ حَتَّى أَنْفُسَهُمْ.
((بِالصَّبْرِ عِنْدَ البَلَاءِ)): الصَّبْرُ: هُوَ تَحَمُّلُ البَلَاءِ، وَحَبْسُ النَّفْسِ عَن التَّسَخُّطِ بِالقَلْبِ أَو اللِّسَانِ أَو الجَوَارِحِ.
وَالبَلَاءُ: المُصِيبَةُ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: (وَلَنَبْلوَنَّكُمْ بِشَىْءٍ مِن الخَوْفِ وَالجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْواَلِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) [البَقَرَة: 155-156].
فَالصَّبْرُ يَكُونُ عِنْدَ البَلَاءِ، وَأَفْضَلُهُ وَأَعْلَاهُ الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى، وَهَذَا عُنْوَانُ الصَّبْرِ الحَقِيقِيِّ؛ كَمَا قَالَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلمَرْأَةِ الَّتِي مَرَّ بِهَا وَهِي تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ، فَقَالَ لَهَا: ((اتَّقِي اللهَ وَاصْبِري، قَالَتْ: إِلَيْكَ عَنِّي فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِي وَلَمْ تَعْرِفْهُ، فَقِيلَ لَهَا: إِنَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ بَوَّابِينَ، فَقَالَتْ: لَمْ أَعْرِفْكَ، فَقَالَ: إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى))، أمَّا بَعْدَ أَنْ تَبْرُدَ الصَّدْمةُ؛ فَإِنَّ الصَّبْرَ يَكُونُ سَهْلاً، وَلَا يُنَالُ بِهِ كَمَالُ الصَّبْرِ.
فَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ يَأْمُرُونَ بِالصَّبْرِ عِنْدَ البلَاءِ، وَمَا مِنْ إِنْسَانٍ؛ إِلَّا يُبْتَلَى إِمَّا فِي نَفْسِهِ وَإِمَّا فِي أَهْلِهِ، وَإِمَّا فِي مَالِهِ، وَإِمَّا فِي صحْبِهِ، وَإمَّا فِي بَلَدِهِ، وَإِمَّا فِي المُسْلِمِينَ عَامَّةً. وَيَكُونُ ذَلِكَ إِمَّا فِي الدُّنْيا وَإِمَّا فِي الدِّينِ، وَالمُصِيبَةُ فِي الدِّينِ أَعْظَمُ بِكَثِيرٍ مِن المُصِيبَةِ فِي الدُّنْيا.
فَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ يَأْمُرُونَ بِالصَّبْرِ عِنْدَ البَلَاءِ فِي الأَمْرَيْنِ:
-فَأمَّا الصَّبْرُ عَلَى بَلَاءِ الدُّنْيا؛ فَأَنْ يَتَحَمَّلَ المُصِيبَةَ كَمَا سَبَقَ.
-وَأَمَّا الصَّبْرُ عَلَى بَلَاءِ الدِّينِ؛ فَأَنْ يَثْبُتَ عَلَى دِينِهِ، وَلَا يَتَزَعْزَعَ عَنْهُ، وَلَا يَكُنْ كَمَنْ قَالَ اللهُ تَعَالَى فِيهِمْ: (وَمِن النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِى اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ) [العَنْكَبُوت: 10].
((بِالشُّكْر ِعِنْدَ الرَّخَاءِ)): الرَّخَاءُ سَعَةٌ فِي العَيْشِ، وَالأَمْنُ فِي الوَطَنِ، فَيَأْمُرُونَ عِنْدَ ذَلِكَ بِالشُّكْرِ.
وَأيُّهُمَا أَشَقُّ: الصَّبْرُ عَلَى البَلَاءِ، أَو الشُّكْرُ عِنْدَ الرَّخَاءِ؟
اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ الصَّبْرَ عَلَى البَلَاءِ أَشَقُّ، وَقَالَ آخَرُونَ: الشُّكْرُ عِنْدَ الرَّخَاءِ أَشَقُّ.
وَالصَّوابُ أنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ آفتُهُ وَمَشَقَّتُهُ؛ لِأَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثَمَّ نَزَعْناَهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ، وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ) [هُوُد: 9-10].
لَكِنْ كُلٌّ مِنْهُمَا قَدْ يُهَوِّنُهُ بَعْضُ التَّفْكِيرِ: فَالمُصَابُ إِذَا فَكَّرَ وَقَالَ: إِنَّ جَزَعِي لَا يَرُدُّ المُصِيبَةَ وَلَا يَرْفَعُهَا؛ فَإِمَّا أَنْ أَصْبِرَ صَبْرَ الكِرَامِ، وَإِمَّا أَنْ أََسْلُوا سَلْوَ البَهَائِمِ، فَهَانَ عَلَيْهِ الصَّبْرُ، وَكَذَلِكَ الَّذِي فِي رَخَاءٍ وَرَغَدٍ.
لَكِنْ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ يَأْمُرونَ بِهَذَا وَهَذَا؛ بِالصَّبْرِ عِنْدَ البَلَاءِ وَالشُّكْرِ عِنْدَ الرَّخَاءِ.
((بِالرِّضَى بِمُرِّ القَضَاءِ)): الرِّضَى أَعْلَى مِن الصَّبْرِ. وَمُرُّ القَضَاءِ: هُوَ مَا لَا يُلَائِمُ طَبِيعَةَ الإِنْسَانِ، وَلِهَذَا عَبَّرَ عَنْهُ بِـ((المُرِّ)).
فَإِذَا قَضَى اللهُ قَضَاءً لَا يُلَائِمُ طَبِيعَةَ البَشَرِ، وَتَأَذَّى بِهِ؛ سُمِّي ذَلِكَ مُرُّ القَضَاءِ؛ فَهُو لَيْسَ لَذِيذاً وَلَا حُلْواً، بَلْ هُوَ مُرٌّ؛ فَهُمْ يَأمُرُونَ بِالرِّضَى بِمُرِّ القَضَاءِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مُرَّ القَضَاءِ لَنَا فِيهِ نَظَرَانِ:
النَّظَرُ الَأوَّلُ: بِاعْتِبَارِهِ فِعْلاً وَاقِعاً مِن اللهِ.
وَالنَّظَرُ الثَّانِي: بِاعْتِبَارِهِ مَفْعُولاً لَهُ.
فَبِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ فِعْلاً مِن اللهِ يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَرْضَى بِهِ، وَأَلَّا نَعْتَرِضَ عَلَى رَبِّنَا بِهِ؛ لِأنَّ هَذَا مِن تَمَامِ الرِّضَى بِاللهِ رَبّاً.
وَأَمَّا بِاعْتِبَارِهِ مَفْعُولاً لَهُ؛ فَهَذَا يُسَنُّ الرِّضَى بِهِ، وَيَجِبُ الصَّبْرُ عَلَيْهِ.
فَالمَرَضُ بِاعْتِبَارِ كَوْنِ اللهِ قَدَّرَهُ - الرِّضَى بِهِ وَاجِبٌ، وَبِاعْتِبَارِ المَرَضِ نَفْسِهِ يُسَنُّ الرِّضَى بِهِ، وَأَمَّا الصَّبْرُ عَلَيْهِ؛ فَهُوَ وَاجِبٌ وَالشُّكْرُ عَلَيْهِ مُسْتَحَبٌّ.
وَلِهَذَا نَقُولُ: المُصَابُونَ لَهُمْ تُجَاهَ المَصَائِبِ أَرْبَعَةُ مَقَامَاتٍ: المَقَامُ الأَوَّلُ: السَّخَطُ، وَالثَّانِي: الصَّبْرُ، وَالثَّالِثُ: الرِّضَى، وَالرَّابِعُ: الشُّكْرُ.
فَأمَّا السَّخَطُ؛ فَحَرَامٌ، بَلْ هُوَ مِن كَبَائِرِ الذُّنُوبِ؛ مِثْلُ أَنَْ يلْطِمَ خَدَّهُ، أَوْ يَنْتِفَ شَعْرَهُ، أَوْ يَشُقَّ ثَوْبَهُ، أَوْ يَقُولَ: وَا ثُبُورَاهُ! أَوْ يَدْعُو عَلَى نَفْسِهِ بِالهَلَاكِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى السَّخَطِ؛ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَيْسَ مِنَّا مَن شَقَّ الجُيُوبَ وَلَطَمَ الخُدُودَ وَدَعَا بِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ)).
الثَّانِي: الصَّبْرُ: بِأَنْ يَحْبِسَ نَفْسَهُ قَلْباً وَلِسَاناً وَجَوَارِحَ عَن التَّسَخُّطِ؛ فَهَذَا وَاجِبٌ.
الثَّالِثُ: الرِّضَى: وَالفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّبْرِ: أَنَّ الصَّابِرَ يَتَجَرَّعُ المُرَّ، لَكِنْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَسَخَّطَ؛ إِلَّا أَنَّ هَذَا الشَّيءَ فِي نَفْسِهِ صَعْبٌ وَمُرٌّ، وَيَتَمَثَّلُ بِقَولِ الشَّاعِرِ:
وَالصَّبْرُ مِثْلُ اسْمِهِ مُرٌّ مَذاقَتُهُ لَكِنْ عَواقِبُهُ أحْلى مِن العَسَلِ
لَكِنَّ الرَّاضِي لَا يَذُوقُ هَذَا مُرّاً، بَلْ هُوَ مُطْمَئِنٌ، وَكَأَنَّ هَذَا الشَّيءَ الَّذِي أَصَابَهُ لَا شَيءَ.
وَجُمْهُورُ العُلَمَاءِ عَلَى أنَّ الرِّضَى بِالمَقْضِيِّ مُسْتَحَبٌّ. وَهُوَ اخْتِيَارُ شَيْخِ الإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَةَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ.
الرَّابِعُ: الشُّكْرُ: وَهُوَ أَنْ يَقُولَ بِلِسَانِهِ وَحَالِهِ:((الحَمْدُ للهِ))، وَيَرَى أَنَّ هَذِهِ المُصِيبَةَ نِعْمَةٌ.لَكِنْ؛ هَذَا المَقَامُ؛ قَدْ يَقُولُ قَائِلٌ: كَيْفَ يَكُونُ؟!
فَنَقُولُ: يَكُونُ لِمَنْ وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى:
فَأَوَّلاً: لِأَنَّهُ إِذَا عَلِمَ أنَّ هَذِهِ المُصِيبَةَ كَفَّارَةٌ لِلذَّنْبِ، وَأنَّ العُقُوبَةَ عَلَى الذَّنْبِ فِي الدُّنْيا أَهْونُ مِن تَأْخِيرِ العُقُوبَةِ فِي الآخِرَةِ؛ صَارَتْ هَذِهِ المُصِيبَةُ عِنْدَهُ نِعْمَةً يَشْكُرُ اللهَ عَلَيْهَا.
وَثَانِياً: أنَّ هَذِهِ المُصِيبَةَ إِذَا صَبَرَ عَلَيْهَا؛ أُثيبَ؛ لِقَولِهِ تَعَالَى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزُّمَر: 10].
فَيَشْكُرُ اللهَ عَلَى هَذِهِ المُصِيبَةِ المُوجِبَةِ لِلأَجْرِ.
وَثَالِثَاً: أنَّ الصَّبْرَ مِنَ المَقَامَاتِ العَالِيَةِ عِنْدَ أَرْبَابِ السُّلُوكِ، لَا يُنَالُ إِلَّا بِوُجُودِ أَسْبَابِهِ، فَيَشْكُرُ اللهَ عَلَى نَيْلِ هَذَا المَقَامِ.
ويُذْكَرُ أَنَّ بَعْضَ العَابِدَاتِ أُصِيبَتْ فِي أَصْبُعِهَا، فَشَكَرَت اللهَ، فَقِيلَ لَهَا فِي ذَلِكَ، فَقَالَتْ: إنَّ حَلَاوَةَ أَجْرِهَا أَنْسَتْنِي مَرَارَةَ صَبْرِهَا.
فَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ رَحِمَهُم اللهُ يَأْمُرُونَ بِالصَّبْرِ عَلَى البَلَاءِ وَالشُّكْرِ عِنْدَ الرَّخَاءِ وَالرِّضَى بِمُّرِ القَضَاءِ.
تَتمةٌ:
القَضَاءُ يُطْلَقُ عَلَى مَعْنَيَينِ:
أَحَدُهُمَا: حُكْمُ اللهِ تَعَالَى الَّذِي هُوَ قَضَاؤهُ وَوَصْفُهُ؛ فَهَذَا يَجِبُ الرِّضَى بِهِ بِكُلِّ حَالٍ، سَواءٌ كَانَ قَضَاءً دِينِيّاً أَمْ قَضَاءً كَونِيّاً؛ لِأنَّهُ حُكْمُ اللهِ تَعَالَى، وَمِنْ تَمَامِ الرِّضَى بِرُبُوبِيَّتِهِ.
-فَمِثَالُ القَضَاءِ الدِّينِيِ قَضَاؤهُ بِالوُجُوبِ وَالتَّحْرِيمِ وَالحِلِّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّاَ تََعْبُدُوا إِلَّا إيَّاهُ) [الإِسْرَاء: 23].
-وَمِثَالُ القَضَاءِ الكَوْنِيِّ: قَضَاؤُهُ بِالرَّخَاءِ وَالشِّدَّةِ وَالغِنَى وَالفَقْرِ وَالصَّلَاحِ وَالفَسَادِ وَالحَيَاةِ وَالمَوتِ، وَمِنْهُ قَولُهُ تَعَالَى: (فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ المَوْتَ) [سَبَأ: 14]، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِى إِسْرَائِيلَ فِى الكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِى الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً) [الإِسْرَاء: 4].
المَعْنَى الثَّانِي: المَقْضِيُّ، وَهُوَ نَوْعَانِ:
الأَوَّلُ: المَقْضِيُّ شَرْعاً، فَيَجِبُ الرِّضَى بِهِ وَقَبُولِهِ، فَيَفْعَلُ المَأْمُورُ بِهِ، وَيَتْرُكُ المَنْهِيَّ عَنْهُ، وَيَتَمَتَّعُ بِالحَلَالِ.
وَالنَّوعُ الثَّانِي: المَقْضِيُّ كَوْناً:
-فَإِنْ كَانَ مِنْ فِعْلِ اللهِ؛ كَالفَقْرِ وَالمَرَضِ وَالجَدْبِ وَالهَلَاكِ وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ فَقَدْ تَقَدَّمَ أنَّ الرِّضَى بِهِ سُنَّةٌ، لَا وَاجِبٌ، عَلَى القَولِ الصَّحِيحِ.
-وَإِنْ كَانَ مِنْ فِعْلِ العَبْدِ؛ جَرَتْ فِيهِ الأَحْكَامُ الخَمْسَةُ؛ فَالرِّضَى بِالوَاجِبِ وَاجِبٌ، وَبِالمَنْدُوبِ مَنْدُوبٌ، وَبِالمُبَاحِ مُبَاحٌ، وَبِالمَكْرُوهِ مَكْرُوهٌ، وَبِِالحَرَامِ حَرَامٌ.
قَولُهُ: ((وَيَدْعُونَ إِلَى مَكَارِمِ الأَخْلَاقِ وَمَحَاسِنِ الأَعْمَالِ)):
((مَكَارِمُ الأَخْلَاقِ))؛ أَيْ: أَطْايبُهَا، وَالكَرِيمُ مِن كُلِّ شَيءٍ هُوَ الطَّيِّبُ مِنْهُ بِحَسَبِ ذَلِكَ الشَّيءِ وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ: ((إِيَّاكَ وَكَرَائِمِ أَمْوَالِهِمْ))؛ حِينَ أَمَرَهُ بِأَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْ أَهْلِ اليَمَنِ.
وَالأَخْلَاقُ: جَمْعُ خُلُقٍ، وَهُوَ الصُّورَةُ البَاطِنَةُ فِي الإِنْسَانِ؛ يَعْنِي: السَّجَايَا وَالطَّبَائِعَ؛ فَهُمْ يَدْعُونَ إِلَى أَنْ يَكُونَ الإِنْسَانُ سَرِيرَتُهُ كَرِيمَةٌ؛ فَيُحِبُّ الكَرَمَ وَالشَّجَاعَةَ وَالتَّحَمُّلَ مِن النَّاسِ وَالصَّبْرَ، وَأَنْ يُلَاقِيَ النَّاسَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ وَصَدْرٍ مُنْشَرِحٍ وَنَفْسٍ مُطْمَئِنَّةٍ؛ كُلُّ هَذِهِ مِن مَكَارِمِ الأَخْلَاقِ.
وَأمَّا ((مَحَاسِنُ الأَعْمَالِ))؛ فَهِي مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالجَوَارِحِ، وَيَشْمَلُ الأَعْمَالَ التَّعَبُّدِيَّةَ وَالأَعْمَالَ غَيْرَ التَّعَبُّدِيَّةِ؛ مِثْلَ البَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالإِجَارَةِ؛ حَيْثُ يَدْعُونَ النَّاسَ إِلَى الصِّدْقِ وَالنُّصْحِ فِي الأَعْمَالِ كُلِّهَا، وَإِلَى تَجَنُّبِ الكَذبِ وَالخِيَانَةِ، وَإِذَا كَانُوا يَدْعُونَ النَّاسَ إِلَى ذَلِكَ؛ فَهُمْ بِفِعْلِهِ أَوْلَى.
قَوْلُهُ: ((وَيَعْتَقِدُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَكْمَلُ المُؤْمِنِينَ إِيمَاناً أَحْسَنُهُمْ خُلُقاً)).
هَذَا الحَدِيثُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ دَائِماً نُصْبَ عَينَي المُؤمِنِ؛ فَأَكْمَلُ المُؤمِنِينَ إِيمَاناً أَحْسَنُهُمْ خُلُقاً مَعَ اللهِ وَمَعَ عِبَادِ اللهِ.
-أمَّا حُسْنُ الخُلُقِ مَعَ اللهِ؛ فَأَنْ تَتَلَقَّى أَوَامِرَهُ بِالقَبُولِ وَالإِذْعَانِ وَالانْشِرَاحِ وَعَدَمِ المَلَلِ وَالضَّجَرِ، وَأَنْ تَتَلَقَّى أَحْكَامَهَ الكَوْنِيَّةَ بِالصَّبْرِ وَالرِّضَى وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
-أمَّا حُسْنُ الخُلُقِِ مَعَ الخَلْقِ؛ فَقِيلَ: هُوَ بَذْلُ النَّدَى، وَكَفُّ الأَذَى، وَطَلَاقَةُ الوَجْهِ.
بَذْلُ النَّدَى؛ يَعْنِي: الكَرَمَ، وَلَيْس خَاصّاً بِالمَالِ، بَلْ بِالمَالِ وَالجَاهِ وَالنَّفْسِ، وَكُلُّ هَذَا مِنْ بَذْلِ النَّدَى.
وَطَلَاقَةُ الوَجْهِ ضِدُّهُ العُبُوسُ.
وَكَذَلِكَ كَفُّ الأَذَى بِأَنْ لَا يُؤذِيَ أَحَداً لَا بِالقَوْلِ وَلَا بِالفِعْلِ.
قَوْلُهُ: ((وَيَنْدُبُونَ إِلَى أنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ، وَتُعْطِِي مَنْ حَرَمَكَ، وَتَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَكَ)):
((يَنْدُبُونَ))؛ أَيْ: يَدْعُونَ.
((أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ)): مِن الأَقَارِبِ مِمَّنْ تَجِبُ صِلَتُهُمْ عَلَيْكَ، إِذَا قَطَعُوكَ؛ فَصِلْهُمْ، لَا تَقُلْ: مَنْ وَصَلَنِي؛ وَصَلْتُهُ! فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِصِلَةٍ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ((لَيْسَ الوَاصِلُ بِالمُكَافِئِ، إِنَّمَا الوَاصِلُ مَنْ إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ؛ وَصَلَهَا))؛ فَالوَاصِلُ هُوَ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ؛ وصَلَهَا.
وَسَألَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! إنّ لِي أَقَارِبَ؛ أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونَنِي، وَأُحْسِنُ إِلَيهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ، وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ! فقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ؛ فَكَأنَّمَا تُسِفُّهُم المَلَّ، وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِن اللهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ)).
((تُسِفُّهُم المَلَّ))؛ أَيْ: كَأَنَّمَا تَضَعُ التُّرابَ أَو الرَّمَادَ الحَارَّ فِي أَفْوَاهِهِمْ.
فَأَهْلُ السُّنَّةِ يَنْدُبُونَ إِلَى أَنْ تَصِلَ مَن قَطَعَكَ، وَأنْ تَصِلَ مَن وصَلَكَ بِالأَوْلَى؛ لِأَنَّ مَن وَصَلَكَ وَهُوَ قَرِيبٌ؛ صَارَ لَهُ حَقَّانِ: حَقُّ القَرَابَةِ، وَحَقُّ المُكَافَأَةِ؛ لِقَولِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ((مَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفاً؛ فَكَافِئُوهُ)).
((وَتُعْطِي مَن حَرَمَكَ))؛ أيْ: مَنْ مَنَعَكَ، وَلَا تَقُلْ: مَنَعَنِي؛ فَلَا أُعْطِيهِ.
((وَتَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَكَ))؛ أيْ: مَن انْتَقَصَكَ حَقَّكَ: إِمَّا بِالعُدْوَانِ، وَإِمَّا بِعَدَمِ القِيَامِ بِالوَاجِبِ.
والظُّلْمُ يَدُورُ عَلَى أَمْرَينِ: اعْتِدَاءٍ وَجُحُودٍ:إِمَّا أنْ يَعْتَدِى عَلَيْكَ بِالضَرْبِ وَأَخْذِ المَالِ وَهَتْكِ العِرْضِ، وَإِمَّا أَنْ يَجْحَدَكَ فَيَمْنَعَكَ حَقَّكَ.
وَكَمَالُ الإِنْسَانِ أَنْ يَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَهُ.
وَلَكِنَّ العَفْوَ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ القُدْرَةِ عَلَى الانْتِقَامِ، فَأَنْتَ تَعْفُو مَع قُدْرَتِكَ عَلَى الانْتِقَامِ.
أَوَّلاً: رَجَاءً لِمَغْفِرَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَرَحْمَتِهِ؛ فَإِنَّ مَن عَفَا وَأَصْلَحَ؛ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ.
ثَانِياً: لِإِصْلَاحِ الوِدِّ بَيْنَكَ وَبَيْنَ صَاحِبِكَ؛ لِأنَّكَ إِذَا قَابَلْتَ إِسَاءتََهُ بِإسَاءَةٍ؛ اسْتَمَرَّت الإِسَاءَةُ بَيْنَكُمَا، وَإِذَا قَابَلْتَ إِسَاءَتَهُ بِإِحْسَانٍ؛ عَادَ إِلَى الإِحْسَانِ إِلَيْكَ، وَخَجِلَ.
قَالَ اللهُ تعالَى: (وَلَا تَسْتَوِى الحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ) [فُصِّلَت: 34].
فَالعَفُو عِنْدَ المَقْدِرَةِ مِنْ سِمَاتِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ، لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ العَفْوُ إِصْلَاحاً؛ فَإِنْ تَضَمَّنَ العَفْوُ إِسَاءَةً؛ فَإِنَّهُمْ لَا يُنْدِبُونَ إِلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ اللهَ اشْتَرَطَ، فَقَالَ: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ) [الشُّورَى: 40]؛ أَيْ: كَانَ فِي عَفْوهِ إِصْلَاحٌ، أمَّا مَنْ كَانَ فِي عَفْوِهِ إِسَاءَةٌ، أَوْ كَانَ سَبَباً لِلإِسَاءَةِ؛ فَهُنَا نَقُولُ: لَا تَعْفُ! مِثْلَ أَنْ يَعْفُوَ عَنْ مُجْرمٍ، وَيَكُونُ عَفْوُهُ هَذَا سَبَباً لِاسْتِمْرَارِ هَذَا المُجْرِمِ فِي إِجْرَامِهِ؛ فَتَرْكُ العَفْوِ هُنَا أَفْضَلُ، وَرُبَّمَا يَجِبُ تَرْكُ العَفْوِ حِينَئذٍ.
قَوْلُهُ: ((وَيَأْمُرُونَ بِبِرِّ الوَالِدَينِ)): وَذَلِكَ لِعِظَمِ حَقِّهِمَا.
وَلَمْ يَجْعَل اللهُ لِأَحَدٍ حَقّاً يَلِي حَقَّهُ وَحَقَّ رَسُولِهِ إِلَّا لِلوَالِدَيْنِ، فَقَالَ: (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانَاً) [النِّسَاء: 36].
وَحَقُّ الرَّسُولِ فِي ضِمْنِ الأَمْرِ بِعِبَادَةِ اللهِ؛ لِأنَّهُ لَا تَتَحَقَّقُ العِبَادَةُ حَتَّى يَقُومَ بِحَقِّ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؛ بِمَحَبَّتِهِ وَاتِّبَاعِ سَبِيلِهِ، وَلِهَذَا كَانَ دَاخِلاً فِي قَولِهِ: (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً)، وَكَيْفَ يَعْبُدُ اللهَ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟!
وَإِذَا عَبَدَ اللهَ عَلَى مُقْتَضَى شَرِيعَةِ الرَّسُولِ؛ فَقَدْ أدَّى حَقَّهُ.
ثُمَّ يَلِي ذَلِكَ حَقُّ الوَالِدَينِ؛ فَالوَالِدَانِ تَعِبَا عَلَى الوَلَدِ، وَلَا سِيَّمَا الأُمُّ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: (وَوَصَّيْنَا الإِِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً) [الأَحْقَاف: 15]، وَفِي آيَةٍ أًخْرَى: (وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ) [لُقْمَان: 14]، وَالأُمُّ تَتْعَبُ فِي الحَمْلِ، وَعَنْدَ الوَضْعِ، وَبَعْدَ الوَضْعِ، وَتَرْحَمُ صَبيَّهَا أَشَدَّ مِن رَحْمَةِ الوَالِدِ لَهُ، وَلِهَذَا كَانَتْ أَحَقَّ النَّاسِ بِحُسْنِ الصُّحْبَةِ وَالبِرِّ، حَتَّى مِن الأَبِّ.
قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ! مَن أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: ((أُمُّكَ)). قَالَ: ثُمَّ مَن؟ قَالَ: ((أُمُّكَ)). قَالَ: ثُمَّ مَن؟ قَالَ: ((أُمُّكَ)). ثُمَّ قَالَ فِي الرَّابِعَةِ: ((ثُمَّ أَبُوكَ)).
وَالأَبُّ أَيضاً يَتْعَبُ فِي أَوْلَادِهِ، وَيَضْجَرُ بِضَجَرِهِمْ، وَيَفْرَحُ لِفَرَحِهِمْ، وَيَسْعَى بِكُلِّ الأَسْبَابِ الَّتِي فِيهَا رَاحَتُهُمْ وَطمَأْنِينَتُهُمْ وَحُسْنُ عَيْشِهِمْ، يَضْرِبُ الفَيِافِي وَالقِفَارَ مِن أَجْلِ تَحْصِيلِ العَيْشِ لَهُ وِلِأَوْلَادِهِ.
فَكُلٌّ مِن الأُمِّ وَالأَبِ لَهُ حَقٌّ؛ مَهْمَا عَمِلْتَ مِن العَمَلِ؛ لَنْ تَقْضِيَ حَقَّهُمَا، وَلِهَذَا قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً) [الإِسْرَاء: 24]؛ فَحَقُّهُمْ سَابِقٌ؛ حَيْثُ رَبَّيَاكَ صَغِيراً حِينَ لَا تَمْلِكُ لِنَفْسِكَ نَفْعاً وَلَا ضَرّاً؛ فَوَاجِبُهُمَا البِرُّ.
وَالبِرُّ فَرْضُ عَيْنٍ بِالإِجْمَاعِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِن النَّاسِ، وَلِهَذَا قَدَّمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الجِهَادِ ِفي سَبِيلِ اللهِ؛ كَمَا فِي حَدِيثِ ابنِ مَسْعُودٍ؛ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! أيُّ العَمَلِ أََحَبُّ إِلَى اللهِ؟ قَالَ: ((الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا)). قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: ((بِرُّ الوَالِدَينِ)). قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: ((الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ)).
وَالوَالِدَانِ هُمَا الأَبُ وَالأُمُّ، أَمَّا الجَدُّ وَالجَدَّةُ؛ فَلَهُمَا بِرٌّ، لَكِنَّهُ لَا يُسَاوِي بِرَّ الأُمِّ وَالأَبِ؛ لِأَنَّ الجَدَّ وَالجَدَّةَ لَمْ يَحْصُلْ لَهُمَا مَا حَصَلَ لِلأُمِّ وَالأَبِ مِنَ التَّعَبِ وَالرِّعَايَةِ وَالمُلَاحَظَةِ؛ فَكَانَ بِرُّهُمَا وَاجِباً مِنْ بَابِ الصِّلَةِ، لَكِنْ هُمَا أَحَقُّ الأَقَارِبِ بِالصِّلَةِ، أمَّا البِرُّ؛ فَإِنَّهُ لِلأُمِّ وَالأَبِ.
لَكِنْ مَا مَعْنَى البِرِّ؟
البِرُّ: إِيصَالُ الخَيْرِ بِقَدْرِ مَا تَسْتَطِيعُ، وَكَفُّ الشَّرِّ.
إِيصَالُ الخَيْرِ بِالمَالِ، إِيصَالُ الخَيْرِ بِالخِدْمَةِ، إِيصَالُ الخَيْرِ بِإِدْخَالِ السُّرُورِ عَلَيْهِمَا؛ مِنْ طَلَاقَةِ الوَجْهِ، وَحُسْنِ المَقَالِ وَالفِعَالِ، وَبِكُلِّ مَا فِيهِ رَاحَتِهِمَا.
وَلِهَذَا كَانَ القَولَ الرَّاجِحَ وُجُوبُ خِدْمَةِ الأَبِ وَالأُمِّ عَلَى الأَوْلَادِ، إِذَا لَمْ يَحْصُلْ عَلَى الوَلَدِ ضَرَرٌ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ ضَرَرٌ؛ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ خِدْمَتُهُمَا، اللَّهُمَّ إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ.
وَلِهَذَا نَقُولُ: إنَّ طَاعَتَهُمَا وَاجِبَةٌ فِيمَا فِيهِ نَفْعٌ لَهُمَا وَلَا ضَرَرَ عَلَى الوَلَدِ فِيهِ، أمَّا مَا فِيهِ ضَرَرٌ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ ضَرَراً دِينيّاً؛ كَأَنْ يَأْمُرَاهُ بِتَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ فِعْلٍ مُحَرَّمٍ؛ فَإِنَّهُ لَا طَاعَةَ لَهُمَا فِي ذَلِكَ، أَوْ كَانَ ضَرَراً بَدَنِيّاً؛ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ طَاعَتُهُمَا. أمَّا المَالُ؛ فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَبِرَّهُمَا بِبَذْلِهِ، وَلَو كَثُرَ، إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ضَرَرٌ، وَلَمْ تَتَعَلَّقْ بِهِ حَاجَتُهُ، وَالأَبُ خَاصّةً لََهُ أنْ يَأْخُذَ مِن مَالِ وَلَدِهِ مَا شَاءَ، مَا لَمْ يَضُرَّ.
وَإِذَا تَأَمَّلْنَا فِي أَحْوَالِ النَّاسِ اليَوْمَ؛ وَجَدْنَا كَثِيرَاً مِنْهُمْ لَا يَبِرُّ بِوَالِدَيْهِ، بَلْ هُوَ عَاقٌّ؛ تَجِدُهُ يُحْسِنُ إِلَى أَصْحَابِهِ، وَلَا يَمَلُّ الجُلُوسَ مَعَهُمْ، لَكِنْ لَوْ يَجْلِسُ إِلَى أَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ سَاعَةً مِن نَهَارٍ؛ لَوَجَدْتَهُ مُتَمَلْمَلاً، كَأَنَّمَا هُوَ عَلَى الجَمْرِ؛ فَهَذَا لَيْسَ بِبَارٍّ، بَلِ البَارُّ مَنْ يَنْشَرِحُ صَدْرُهُ لِأُمِّه وَأَبِيهِ وَيَخْدِمُهُمَا عَلَى أَهْدَابِ عَيْنَيْهِ، وَيَحْرِصُ غَايَةَ الحِرْصِ عَلَى رِضَاهُمَا بِكُلِّ مَا يَسْتَطِيعُ.
وَكَمَا قَالَت العَامَّةُ: ((البِرُّ أسْلَافٌ))؛ فَإِنَّ البِرَّ مَعَ كَوْنِهِ يَحْصُلُ بِهِ البَارُّ عَلَى ثَوابٍ عَظِيمٍ فِي الآخِرَةِ؛ فَإِنَّهُ يُجَازَى بِهِ فِي الدُّنْيا . فَالبِرُّ وَالعُقُوقُ كَمَا يَقُولُ العَوَامُّ: ((أَسْلَافٌ))، أَقْرِضْ؛ تَسْتَوفِ، إِنْ قَدَّمْتَ البِرَّ؛ بَرَّكَ أَوْلَادُكَ، وَإِنْ قَدَّمْتَ العُقُوقَ؛ عَقَّكَ أَوْلَادُكَ…
وَهُنَا حِكَايَاتٌ كَثِيرةٌ فِي أَنَّ مِن النَّاسِ مَن بَرَّ وَالِدَيْهِ فَبَرَّ بِهِ أَوْلَادُهُ، وَكَذَلِكَ العُقُوقُ فِيهِ حكَاياتٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الإِنْسَانَ عَقَّهُ أَوْلَادُهُ كَمَا عَقَّ هُوَ آبَاءَهُ.
فَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ يَأْمُرُونَ بِبِرِّ الوَالِدَيْنِ.
وَكَذَلِكَ يَأْمُرُونَ بِصَلَةِ الأَرْحَامِ.
فَفَرْقٌ بَيْنَ الوَالِدَيْنِ وَالأَقَارِبِ الآخَرِينَ، الأَقَارِبُ لَهُم الصِّلَةُ، وَالوَالِدَانِ لَهُمَا البِرُّ، وَالبِرُّ أَعْلَى مِن الصِّلَةِ؛ لِأَنَّ البِرَّ كَثْرَةُ الخَيْرِ وَالإِحْسَانِ، لَكِنْ الصِّلَةُ أَلَّا يَقْطَعَ، وَلِهَذَا يُقَالُ فِي تَارِكِ البِرِّ: إنَّهُ عَاقٌّ، وَيُقَالُ فِيمَنْ لَمْ يَصِلْ: إِنَّهُ قَاطِعٌ!
فَصِلَةُ الأَرْحَامِ وَاجِبَةٌ، وَقَطْعُهَا سَبَبٌ لِلَّعْنَةِ وَالحِرْمَانِ مِن دُخُولِ الجَنَّةِ.
قَالَ اللهُ تَعَالَى: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إَنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِى الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُم اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) [مُحَمَّد: 22-23].
وَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ((لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَاطِعٌ))؛ أيْ: قَاطِعُ رَحِمٍ.
وَالصِّلَةُ جَاءَتْ فِي القُرْآنِ وَالسُّنَّةِ مُطْلَقَةً.
وَكُلُّ مَا أََتَى وَلَمْ يُحَدَّدِ بِالشَّرْعِ كَالحِرْزِ فَبِالعُرْفِ احْدُدِ
وَعَلَى هَذَا؛ يُرْجَعُ إِلَى العُرْفِ فِيهَا؛ فَمَا سَمَّاهُ النَّاسُ صِلَةً؛ فَهُوَ صِلَةٌ، وَمَا سمَّاهُ قَطِيعَةً؛ فَهُو قَطِيعَةٌ، وَهَذَه تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الأَحْوَالِ وَالأَزْمَانِ وَالأَمْكِنَةِ وَالأُمَمِ.
-إِذَا كَانَ النَّاسُ فِي حَالَةِ فَقْرٍ، وَأَنْتَ غََنِيٌّ، وَأَقَارِبُكَ فُقَرَاءُ؛ فَصَلَتُهُمْ أنْ تُعْطِيَهُمْ بِقَدْرِ حَالِكَ.
-وَإِذَا كَانَ النَّاسُ أَغْنِيَاءَ، وَكُلُّهُمْ فِي خَيْرٍ؛ فَيُمْكِنُ أَنْ يُعَدَّ الذَّهَابُ إِلَيهِمْ فِي الصَّبَاحِ أَوْ المَسَاءِ يُعَدُّ صِلَةً.
وَفِي زَمَانِنِا هَذَا الصِّلَةُ بَيْنَ النَّاسِ قَلِيلَةٌ، وَذَلِكَ لِانْشِغَالِ النَّاسِ فِي حَوَائِجِهِمْ، وَانْشِغَالِ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ، وَالصِّلَةُ التَّامَّةُ أَنْ تَبْحَثَ عَنْ حَالِهِمْ، وَكَيْفَ أَوْلَادُهُمْ، وَتَرَى مَشَاكِلَهُمْ، وَلَكِنْ هَذِهِ مَعَ الأَسَفِ مَفْقُودَةٌ؛ كَمَا أَنَّ البِرَّ التَّامَّ مَفْقُودٌ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ.
قَوْلُهُ: ((وَحُسْنُ الجِوَارِ)):
أَيْ: وَيَأْمُرُونَ؛ يِعْنِي: أَهْلَ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ بِحُسْنِ الجِوَارِ مَعَ الجِيرَانِ، وَالجِيرَانُ هُم الأَقَارِبُ فِي المَنْزِلِ، وَأَدْنَاهُمْ أَوْلَاهُمْ بِالإِحْسَانِ وَالإِكْرَامِ:
قَالَ اللهُ تعالَى: (وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَالجَارِ ذِي القُرْبَى وَالجَارِ الجُنُبِ) [النِّسَاء: 36]، فَأَوْصَى اللهُ بِالإِحْسَانِ إِلَى الجَارِ القَرِيبِ وَالجَارِ البَعِيدِ.
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَن كَانَ يُؤْمِنُ باللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ؛ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ)).
وَقَالَ: ((إِذَا طَبَخْتَ مَرَقَةً؛ فَأَكْثِرْ مَاءَهَا، وَتَعَاهَدْ جِيرَانَكَ)).
وقَالَ: ((مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِِالجَارِ حتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ)).
وقَالَ: ((وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ؛ قِيلَ: وَمَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَارَهُ بَوَائِقَهُ)).
إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى العِنَايَةِ بِالجَارِ وَالإِحْسَانِ إِلَيْهِ وَإِكْرَامِهِ.
وَالجَارُ إِنْ كَانَ مُسْلِماً قَرِيباً؛ كَانَ لَهُ ثَلَاثَةُ حُقُوقٍ: حَقُّ الإِسْلَامِ، وَحَقُّ القَرَابَةِ، وَحَقُّ الجِوَارِ.
وَإنْ كَانَ قَرِيباً جَاراً؛ فَلَهُ حَقَّانِ: حَقُّ القَرَابَةِ، وَحَقُّ الجِوَارِ.
وَإِنْ كَانَ مُسْلِماً غَيْرَ قَرِيبٍ وَهُوَ جَارٌ؛ فلَهُ حَقَّانِ: حَقُّ الإِسْلَامِ، وَحَقُّ الجِوَارِ.
وَإِنْ كَانَ جَاراً كَافِراً بَعِيداً؛ فَلَهُ حَقٌّ وَاحِدٌ، وَهُوَ حَقُّ الجِوَارِ.
فَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ يَأْمُرُونَ بِحُسْنِ الجِوَارِ مُطْلَقاً، أيّاً كَانَ الجِوَارُ، وَمَن كَانَ أَقْرَبَ؛ فَهُوَ أََوْلَى.
ومِن المُؤسِفِ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ اليَوْمَ يُسِيئُونَ إِلَى الجَارِ أَكْثَرَ مِمَّا يُسِيئُونَ إِلَى غَيْرِهِ؛ فَتَجِدُهُ يَعْتَدِي عَلَى جَارِهِ بِالأَخْذِ مِنْ مُلْكِهِ وَإِزْعَاجِهِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الفُقَهَاءُ رَحِمَهُم اللهُ فِي آخِرِ بَابِ الصُّلْحِ فِي الفِقْهِ شَيْئاً مِن أَحْكَامِ الجِوَارِ؛ فَليُرْجَعْ إِلَيْهِ.
قَولُهُ: ((وَالإِحْسَانُ إِلَى اليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ)):
كَذَلِكَ يَأْمُرُونَ؛ أَيْ: أَهْلُ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ بِالإِحْسَانِ إِلَى هَؤلَاءِ الأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ.
اليَتَامَى: جَمْعُ يَتِيمٍ، وَهُو الَّذِي مَاتَ أَبُوهُ قَبْلَ بُلُوغِهِ.
وقَدْ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِالإِحْسَانِ إِلَى اليَتَامَى، وَكَذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَثَّ عَلَيْهِ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ.
وَوَجْهُ ذَلِكَ أنَّ اليَتِيمَ قَد انْكَسَرَ قلْبُهُ بِفَقْدِ أَبِيهِ؛ فَهُوَ فِي حَاجَةٍ إِلَى العِنَايَةِ وَالرِّفْقِ.
وَالإِحْسَانُ إِلَى اليَتَامَى يَكُونُ بِحَسَبِ الحَالِ.
وَالمَسَاكِينُ: هُم الفُقَرَاءُ، وَهُوَ هُنَا شَامِلٌ لِلمَسْكِينِ وَالفَقِيرِ.
فَالإِحْسَانُ إِلَيْهِمْ مِمَّا أَمَرَ بِهِ الشَّرْعُ فِي آيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ مِن القُرْآنِ، وَجَعَلَ لَهُمْ حُقُوقاً خَاصَّةً فِي الفِيءِ وَغَيْرِهِ.
وَوَجْهُ الإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ أَنَّ الفَقْرَ أَسْكَنَهُمْ وَأَضْعَفَهُمْ وَكَسَرَ قُلُوبَهُمْ، فَكَانَ مِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلَامِ أَنْ نُحْسِنَ إِلَيْهِمْ جَبْراً لِمَا حَصَلَ لَهُمْ مِن النَّقْصِ وَالانْكِسَارِ.
وَالإِحْسَانُ إِلَى المَسَاكِينِ يَكُونُ بِحَسَبِ الحَالِ: فَإِذَا كَانَ مُحْتَاجاً إِلَى طَعَامٍ؛ فَالإِحْسَانُ إِلَيْهِ بِأَنْ تُطْعِمَهُ، وَإِذَا كَانَ مُحَتَاجاً إِلَى كِسْوَةٍ؛ فَالإِحْسَانُ إِلَيْهِ بَأَنْ تَكْسُوَهُ، وَإِلَى اعْتِبَارٍ بَأَنْ تُولِيَهُ اعْتِبَاراً، فَإِذَا دَخَلَ المَجْلِسَ؛ تُرَحِّبْ بِهِ، وَتُقَدِّمْهُ لِأَجْلِ أَنْ تَرْفَعَ مِنْ مَعْنَوِيَّتَهِ.
فَمِن أَجْلِ هَذَا النَّقْصِ الَّذِي قَدَّرَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ بِحِكْمَِتِه أَمَرَنَا عَزَّ وَجَلَّ أَنْ نُحْسِنَ إِلَيْهِمْ.
كَذَلِكَ ابْنُ السَّبِيلِ، وَهُوَ المُسَافِرُ، وَهُوَ هُنَا المُسَافِرُ الَّذِي انْقَطَعَ بِهِ السَّفَرُ، أَوْ لَمْ يَنْقَطِعْ؛ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّ المُسَافِرَ غَرِيبٌ، وَالغَرِيبُ مُسْتَوْحشٌ، فَإِذَا آنسْتَهُ بِإِكْرَامِهِ وَالإِحْسَانِ إِلَيْهِ؛ فَإِنَّ هَذَا مِمَّا يَأْمُرُ بِهِ الشَّرْعُ.
فَإِذَا نَزَلَ ابْنُ سَبِيلٍ بِكَ ضَيْفاً؛ فَمِن إِكْرَامِهِ أَنْ تُكْرِمَ ضِيَافَتَهُ.
لَكِنْ قَالَ بَعْضُ العُلَمَاءِ: إِنَّهُ لَا يَجِبُ إِكْرَامُهُ بِضِيَافَتِهِ إِلَّا فِي القُرَى دُونَ الأَمْصَارِ!
وَنَحْنُ نَقُولُ: بَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ فِي القُرَى وَالأَمْصَارِ؛ إِلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ سَبَبٌ؛ كَضِيقِ البَيْتِِ مَثَلاً، أَوْ أَسْبَابٍ أُخْرَى تَمْنَعُ أَنْ تُضِيفَ هَذَا الرَّجُلَ، لَكِنْ عَلَى كُلِّ حَالٍ يَنْبَغِي إِذَا تَعَذَّرَ أَنْ تُحْسِنَ الرَّدَّ.
قَولُهُ: ((وَالرِّفْقُ بِالمَمْلُوكِ))؛ يَعْنِي: أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ يَأْمُرُونَ بِالرِّفْقِ بِالمَمْلُوكِ.
وَهَذَا يَشْمَلُ المَمْلُوكَ الآدَمِيَّ وَالبَهِيمَ:
-فَالرِّفْقُ بِالمَمْلُوكِ الآدَمِيِّ أَنْ تُطْعِمَهُ إِذَا طَعِمْتَ، وَتَكْسُوهُ إِذَا اكْتَسَيْتَ، وَلَا تُكَلِّفُهَ مَا لَا يُطِيقُ.
-وَالرِّفْقُ بِالمَمْلُوكِ مِن البَهَائِمِ سَوَاءٌ كَانَتْ مِمَّا تُرْكَبُ أَوْ تُحْلَبُ أَوْ تُقْتَنَى؛ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ مَا تَحْتَاجُ إلِيهِ؛ فَفِي الشِّتَاءِ تُجْعَلُ فِي الأَمَاكِنِ الدَّافِئَةِ إِذَا كَانَتْ لَا تَتَحَمَّلُ البَرْدَ، وَفِي الصَّيْفِ فِي الأَمَاكِنِِ البَارِدَةِ إِذَا كَانْتَ لَا تَتَحَمَّلُ الحَرَّ، وَيُؤتَى لَهَا بِالطَّعَامِ وَبِالشَّرَابِ إِنْ لَمْ تَحْصُلْ عَلَيْهِ بِنَفْسِها بِالرَّعْيِ، وَإِذَا كَانَتْ مِمَّا تُحَمَّلُ؛ فَلَا تُحَمَّلُ مَا لَا تُطِيقُ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ الشَّرْعِ، وَأنَّهُ لَمْ يَنْسَ حَتَّى البَهَائِمَ، وَعَلَى شُمُولِيَّةِ طَرِيقَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ.
قولُهُ: ((وَيَنْهَوْنَ عَن الفَخْرِ وَالخُيَلَاءِ وَالبَغْيِ وَالاسْتِطَالَةِ عَلَى الخَلْقِ بِحَقٍّ أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ)).
الفَخْرُ بِالقَوْلِ، وَالخُيَلَاءُ بِالفِعْلِ، وَالبَغِيُ العُدْوَانُ، وَالاسْتِطَالَةُ التَّرَفُّعُ وَالاسْتِعْلَاءُ.
فَيَنْهَوْنَ عَن الفَخْرِ: أَنْ يَتَفَاخَرَ الإِنْسَانُ عَلَى غَيْرِهِ بِقَوْلِهِ، فَيَقُولُ: أَنَا العَالِمُ! أَنَا الغَنِيُّ! أَنَا الشُّجَاعُ!
وَإِنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ أَنْ يَسْتَطِيلَ عَلَى الآخَرِينَ وَيِقُولُ: مَاذَا أَنْتُمْ عِنْدِي؟ فَيَكُونُ هَذَا فِيهِ بَغْيٌ وَاسْتِطَالَةٌ عَلَى الخَلْقِ.
وَالخُيَلَاءُ تَكُونُ بِالأَفْعَالِ؛ يَتَخَايَلُ فِي مِشْيَتِهِ وَفِي وَجْهِهِ وَفِي رَفْعِ رَأْسِهِ وَرَقَبَتِهِ إِذَا مَشَى، كَأنَّهُ وَصَلَ إِلَى السَّمَاءِ، وَاللهُ عَزَّ وَجَلَّ وَبَّخَ مَن كَانَ هَذَا فَعْلَهُ، وَقَالَ: (وَلاَ تَمْشِ فِى الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الجِبَالَ طُولاً) [الإِسْرَاء: 37].
فَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ يَنْهَونَ عَنْ هَذَا، وَيَقُولُونَ: كُنْ مُتَوَاضِعاً فِي القَوْلِ وَفِي الفِعْلِ، حَتَّى فِي القَولِ، لَا تُثْنِ عَلَى نَفْسِكَ بِصِفَاتِكَ الحَمِيدَةِ؛ إِلَّا حَيْثُ دَعَت الضَّرُورَةُ أَو الَحاجَةُ إِلَى ذَلِكَ؛ كَقَولِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: ((لَوْ أَعْلَمُ أَحَداً هُوَ أَعْلَمُ مِنِّي بِكِتَابِ اللهِ تَبْلُغُهُ الإِبِلُ؛ لَرَكِبْتُ إِلَيْهِ))؛ فَإِنَّهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَصَدَ بِذَلِكَ أَمْرَينِ:
الأَوّلِ: حَثُّ النَّاسِ عَلى تَعَلُّمِ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى.
وَالثَّانِي: دَعْوَتُهُمْ لِلتَّلَقِي عَنْهُ.
وَالإِنْسَانُ ذُو الصِّفَاتِ الحَمِيدَةِ لَا يَظُنُ أَنَّ النَّاسَ تَخْفَى عَلَيْهِمْ خِصَالُهُ أَبَداً، سَوَاءً ذَكَرَهَا لِلنَّاسِ أَمْ لَمْ يَذْكُرْهَا، بَلْ إنَّ الرَّجُلَ إِذَا صَارَ يُعَدِّدُ صِفَاتِهَ الحَمِيدَةَ أَمَامَ النَّاسِ؛ سَقَطَ مِن أَعْيُنِهِمْ؛ فَاحْذَرْ هَذَا الأَمْرَ.
وَالبَغْيُ: العُدْوَانُ عَلَى الغَيْرِ، وَمُوَاقِعُهُ ثَلَاثَةٌ بَيَّنَهَا الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَولِهِ: ((إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ)).
فَالبَغْيُ عَلَى الخَلْقِ بِالأَمْوَالِ وَالدِّمَاءِ وَالأَعْرَاضِ.
-فِي الأَمْوَالِ؛ مِثْلُ أَنْ يَدَّعيَ مَا لَيْسَ لَهُ، أوْ يُنْكِرَ مَا كَانَ عَلَيْهِ، أَوْ يَأْخُذَ مَا لَيْسَ لَهُ؛ فَهَذَا بَغْيٌ عَلَى الأَمْوَالِ.
-وَفِي الدِّمَاءِ: القَتْلُ فَمَا دُونَهُ؛ يَعْتَدِي عَلَى الإِنْسَانِ بِالجَرْحِ وَالقَتْلِ.
-وَفِي الأَعْرَاضِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الأَعْرَاضُ؛ يعْنِي: السُّمْعَةَ، فَيَعْتَدِي عَلَيْهِ بِالغِيبَةِ الَّتِي يُشَوِّهُ بِهَا سُمْعَتَهُ، وَيُحْتَمَلُ أنْ يُرَادَ بِهَا الزِّنَى وَمَا دُونَهُ، وَالكُلُّ مُحَرَّمٌ؛ فَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ يَنْهَوْنَ عَنِ الاعْتِدَاءِ عَلَى الأَمْوَالِ وَالدِّمَاءِ وَالأَعْرَاضِ.
وَكَذَلِكَ الاسْتِطَالَةُ عَلَى الخَلْقِ؛ يَعْنِي: الاسْتِعْلَاء عَلَيْهِمْ بِحَقٍّ أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ.
فَالاسْتِعْلَاءُ عَلَى الخَلْقِ يَنْهَى عَنْهُ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ، سَوَاءٌ كَانَ بِحَقٌّ أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ، والاسْتِعلَاءُ هُوَ أَنَّ الإِنْسَانَ يَتَرَفَّعُ عَلَى غَيْرِهِ.
وَحَقِيقَةُ الأَمْرِ أَنَّ مِن شُكْرِ نِعْمَةِ اللهِ عَلَيْكَ أَنَّ اللهَ إِذَا مَنَّ عَلَيْكَ بِفَضْلٍ عَلَى غَيْرِكَ مِنْ مَالٍ أَوْ جَاهٍ أَوْ سِيَادَةٍ أَوْ عِلْمٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ تَزْدَادَ تَوَاضُعاً، حَتَّى تُضِيفَ إِلَى الحُسْنِ حُسناً؛ لِأَنَّ الَّذِي يَتَوَاضَعُ فِي مَوْضِعِ الرِّفْعَةِ هُوَ المُتَوَاضِعُ حَقِيقَةً.
وَمَعْنَى قَولِهِ: ((بِحَقٍّ))؛ أَيْ: حَتَّى لَوْ كَانَ لَهُ الحَقُّ فِي بَيَانِ أنَّهُ عَالٍ مُتَرَفِعٌ؛ فَإِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ يَنْهَوْنَ عَن الاسْتِعْلَاءِ وَالتَّرَفُّعِ.
أوْ يُقَالُ: إِنَّ مَعْنَى قَولِهِ: ((الاسْتِطَالَةُ بِحَقٍّ)): أنْ يَكُونَ أَصْلُ اسْتِطَالَتِهِ حَقّاً؛ بِأَنْ يَكُونَ قَد اعْتَدَى عَلَيْهِ إِنْسَانٌ، فَيَعْتَدِي عَلَيْهِ أَكْثَرَ.
فَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ رَحِمَهُم اللهُ يَنْهَوْنَ عَن الاسْتِطَالَةِ وَالاسْتِعْلَاءِ عَلَى الخَلْقِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِحَقٍّ أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ.
قَولُهُ: ((وَيَأْمُرونُ بِمَعَالِي الأَخْلَاقِ)).
أَيْ: مَا كَانَ عَالِياً مِنْهَا؛ كَالصدْقِ وَالعَفَافِ وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
((وَيَنْهَونَ عَن سَفَسافِهَا))؛ أَيْ: رَدِيئِهَا؛ كَالكَذِبِ وَالخِيَانَةِ وَالفَوَاحِشِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: ((وَكُلُّ مَا يَقُولُونَهُ وَيَفْعَلُونَهُ مِنْ هَذَا وَغَيْرِهِ؛ فَإِنَّمَا هُمْ فِيهِ مُتَّبِعُونَ لِلكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَطَرِيَقَتُهُمْ هِيَ دِينُ الإِسْلَامِ، الَّذِي بَعَثَ اللهُ بِهِ مُحَمَّداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)).
((كُلُّ مَا يَقُولُونَهُ))؛ أَيْ: أَهْلُ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ.
((وَيَفْعَلُونهُ)): مِنْ هَذَا وَغَيْرِهِ.
((فَإِنَّمَا هُمْ فِيهِ مُتَّبِِعُونَ لِلكِتَابِ وَالسُّنَّةِ)): وَهَذِهِ حَالٌ يَنْبَغِي أَنْ يُتَنَبَّهَ لَهَا، وَهُوَ أَنَّنَا كُلُّ مَا نَقُولُهُ وَكُلُّ مَا نَفْعَلُهُ نَشْعُرُ حَالَ قَوْلِهِ أَوْ فِعْلِهِ أَنَّنَا نَتَّبِعُ فِيهِ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، مَعَ الإِخْلَاصِ للهِ؛ لِتَكُونَ أَقْوَالُنَا وَأَفْعَالُنَا كُلُّهَا عِبَادَاتٌ للهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلِهَذَا يُقَالُ: إِنَّ عِبَادَاتِ الغَافِلِينَ عَادَاتٌ، وَعَادَاتُ المُنْتَبِهِينَ عِبَادَاتٌ.
فَالإِنْسَانُ المُوَفَّقُ يُمْكِنُ أَنْ يُحَوِّلَ العَادَاتِ إِلَى عِبَادَاتٍ، وَالإِنْسَانُ الغَافِلُ يَجْعَلُ عِبَادَاتِهِ عَادَاتٍ.
فَلْيَحْرِصْ المُؤمِنُ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ أَقْوَالَه وَأَفْعَالَه كُلَّهَا تَبَعاً لِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِيَنَالَ بِذَلِكَ الأَجْرَ، وَيَحْصِّلَ بِهِ كَمَالَ الإِيمَانِ وَالإِنَابَةِ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ).

هيئة الإشراف

#7

28 Dec 2008

الروضة الندية للشيخ: زيد بن عبد العزيز بن فياض رحمه الله


قال الشيخ زيد بن عبد العزيز بن فياض (ت: 1416هـ): (ويأمرونَ بالصَّبرِ عندَ البلاءِ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} ((وقَدْ ذَكرَ اللهُ الصَّبرَ فِي القُرآنِ فِي نحوِ تِسعينَ مَوضِعاً مَرّةً أمَرَ به، ومَرَّةً أثْنَى عَلَى أهلِهِ ؛ ومَرَّةً أمَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنْ يُبشِّرَ أهلَهُ، ومَرةً جعلَهُ شرْطاً فِي حصولِ النَّصرِ وَالكفايةِ، ومَرّةً أخبرَ اللهُ أنَّهُ مَعَ أهلِهِ ؛ وأثْنَى به عَلَى صَفوتِه مِن العَالَمينَ. وهم أَنْبياؤُه. وقَدْ وَرَدَ فِي السُنَّةِ فِي غيرِ مَوضعٍ ذِكْرُ الصَّبرِ. وعَن سعدِ بنِ أَبِي وقَّاصٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَاعَجَباً لِلمُؤْمِنِ إنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ حَمِدَ اللهَ وَشَكَرَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ حَمِدَ اللهَ وَصَبرَ فالْمُؤْمِنُ يُؤْجَرُ فِي كُلِّ شَيءٍ حَتَّى يُؤْجَرَ فِي اللُّقْمَةِ يَرْفَعُهَا إِلَى فِيِّ امْرأَتِهِ. وفِي الصَّحِيحَيْنِ ما أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْراً وَأَوْسَعَ مِن الصَّبْرِ. وقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: وَجَدْنا خيرَ عَيشِنا بالصَّبْرِ. وقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: إنَّ الصَّبْرَ مِن الإيمانِ بمنزلةِ الرَّأسِ مِن الجسدِ ثُمَّ رَفعَ صَوتَه فقَالَ: ألا إنَّهُ لا إيمانَ لِمنْ لا صبْرَ لَهُ))
وأصلُ هَذِهِ الكَلمةُ هُوَ المنعُ والحبسُ فالصَّبْرُ حبْسُ النَّفسِ عَن الجَزَعِ ؛ واللِّسانِ عَن التَّشَكِّي، والجوارحِ عَن لطْمِ الخُدودِ وَشَقِّ الجيوبِ ونحوِهما)) ((والصَّبْرُ فِي اللُّغَةِ الحبسُ والكفُّ. ومنه قُتِلَ فلانٌ صَـبراً إذا أُمْسِكَ وَحُبِسَ. ومنه قَولُهُ تَعَالَى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} أي احْبِسْ نفسَك معهم. فالصَّبْرُ حبسُ النَّفسِ عَن الجزعِ والتَّسخُّطِ، وحبسُ اللِّسانِ عَن الشَّكوى، وحبسُ الجوارحِ عَن التَّشويشِ. وهُوَ ثلاثةُ أنواعٍ: صَبْرٌ عَلَى طاعةِ اللهِ، وصبرٌ عَلَى معصيةِ اللهِ، وصبرٌ عَلَى امتحانِ اللهِ.
فالأوَّلانِ صبرٌ عَلَى ما يَتعلَّقُ بالكسبِ والثَّالِثُ صبرٌ عَلَى ما لا كسبَ للعبدِ فيه. وكَانَ شيخُ الإسْلاَمِ ابنُ تيميةَ - قدَّسَ اللهُ روحَهُ - يقولُ: الصَّبْرُ عَلَى أداءِ الطاعاتِ أكملُ مِن الصَّبْرِ عَلَى اجتنابِ المُحرَّماتِ وأفضلُ فإنَّ مصلحةَ فِعلِ الطَّاعةِ أحبُّ إِلَى الشَّارعِ مِن مصلحةِ تَرْكِ المعصيةِ، ومفسدةُ عدمُ الطَّاعةِ أبغضُ إِلَيْهِ وأكرهُ مِن مفسدةِ وُجودِ المعصيةِ)) فالصَّبْرُ عَلَى طاعتِهِ والصَّبْرُ عَن مَعصيتِه أكملُ مِن الصَّبْرِ عَلَى أقدارِهِ))
((والصَّبْرُ عَن المَصائبِ واجبٌ باتِّفاقِ الأئمَّةِ. ولا يلزمُ الرِّضا بمرضٍ وفقرٍ وعاهةٍ وهُوَ الصَّحِيحُ مِن المَذْهَبِ)) ((والمصائبُ نعمةٌ لأنَّهَا مُكفِّراتٌ للذُّنوبِ وتَدْعو إِلَى الصَّبْرِ فيُثابُ عَلَيْهَا وتَقتضِي الإنابةَ إِلَى اللهِ والذلِّ لَهُ والإعراضِ عَن الخلْقِ إِلَى غيرِ ذَلِكَ مِن المصالحِ العظيمةِ فنفسُ البلاءِ يُكفِّرُ اللهُ به الذُّنوبَ والخَطَايا. وهَذَا مِن أعظمِ النِّعمِ فالمصائبُ رَحمةٌ ونِعمةٌ فِي حقِّ عمومِ الخلْقِ إلا أنْ يدْخُلَ صاحِبُها بِسبِبها فِي معاصٍ أعظمَ مِمَّا كَانَ قبلَ ذَلِكَ فيكونُ شَراًّ عَلَيْهِ مِن جهةِ ما أصابَهُ فِي ديِنه فإنَّ مِن النَّاسِ مَن إذا ابْتُلِي بِفقرٍ أو مرضٍ أو رَجْعٍ حصلَ لَهُ مِن النِّفاقِ وَجَزعِ القلبِ ومرضِهِ والكُفْرِ الظَّاهرِ وترْكِِ بعضِ الواجباتِ وفِعلِ بعضِ المُحرَّماتِ ما يوجِبُ لَهُ الضَّررَ فِي ديِنِه.
فهَذَا كَانَتِ العافِيةُ خيراً لَهُ مِن جهةِ ما أوَرثَتْه مِن المعصيةِ لا مِن جهةِ نفسِ المُصيبةِ كما أنَّ مَن أوْجَبَتْ لَهُ المُصيبةُ صبراً وطاعةً كَانَتْ فِي حقِّه نِعمةً دِينيَّةٍ فهي بعَينِها فِعْلُ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ ورحمةٌ للخلْقِ، واللهُ تَعَالَى محمودٌ عَلَيْهَا فَمَن ابْتلِيَ فُرُزِقَ الصَّبْرَ كَانَ الصَّبْرُ عَلَيْهِ نِعمةً فِي دِيِنه وحصلَ لَهُ بعدُ ما كَفَّرَ مِن خَطاياه رحْمةً وحصل لَهُ بِثَنائِه عَلَى رَبِّه صلاةُ ربِّه عَلَيْهِ قَالَ تَعَالَى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} وحَصلَ لَهُ غُفرانُ السَّيِّئاتِ ورَفعُ الدَّرجاتِ فمَنْ قَامَ بالصَّبْرِ الواجبِ حَصلَ لَهُ ذَلِكَ))
وفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ قَالَ: أَشَدُّ النَّاسِ بَلاَءً الأنْبِياءُ ثُمَّ الأمْثَلُ فَالأَمْثَلُ يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِيِنِه فإنْ كَانَ فِي دِيِنِه صَلاَبَةٌ ابْتُلِيَ عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ، وإنْ كَانَ فيه رِقَّةٌ هَوَّنَ عَلَيْهِ فَمَا يَزَالُ الْبَلاَءُ بالرَّجُلِ حَتَّى يَدَعَهُ يَمْشِي عَلَى الأرْضِ ولَيْسَ عَلَيْهِ خَطِيئةٌ.
وسُئلَ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ: أيُّما أفضلُ للرَّجُلِ أن يُمكَّنَ أو يُبْتلى؟ فقَالَ: لا حَتَّى يُبتَلى فإنِ اللهَ ابْتَلَى نُوحاً وإبراهيمَ ومُوسَى وعِيسى ومُحمَّداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلمَّا صَبرُوا مَكَّنهم فلا تَظنَّ أنَّ أحداً يَخلصُ مِن البلاءِ البتَّةَ.
وفِي الصَّحِيحَيْنِ أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى. وقَدْ اخْتُلِفَ فِي الصَّبْرِ عَلَى الطَّاعةِ والصَّبْرِ عَن المَعْصيةِ أيهما أفضلُ ((وَفَصْلُ النِّزاعِ فِي ذَلِكَ أنَّ هَذَا يختلفُ باختلافِ الطَّاعةِ والمعصيةِ فالصَّبْرُ عَلَى الطَّاعةِ المُعَظَّمةِ أفضلُ مِن الصَّبْرِ عَن المعصيةِ الصَّغيرةِ الدَّنِيَّةِ والصَّبْرُ عَن المعصيةِ الكبيرةِ أفضلُ مِن الصَّبْرِ عَلَى الطَّاعةِ الصَّغِيرةِ.
وصبرُ العبدِ عَلَى الجهادِ - مثلاً - أفضلُ وأعظمُ مِن صبْرِه عَلَى كثيرٍ مِن الصَّغائرِ، وصبرُه عَن كبائرِ الإثْمِ والفواحشِ أعظمُ مِن صَبرِه عَلَى رَكعتَي صلاةِ الصُّبحِ وصومِ يومٍ تَطوُّعاً ونحوِه فهَذَا فصلُ النِّزاعِ فِي المَسْأَلةِ))
((والصَّبْرُ واجبٌ باتِّفَاقِ العُلَمَـاءِ وأعَلَى مِن ذَلِكَ الرِّضـا بحُكمِ اللهِ والرِّضـا قِيلَ إِنَّهُ واجبٌ، وقِيلَ هُوَ مُستحبٌّ، وهُوَ الصَّحِيحُ. وأعَلَى مِن ذَلِكَ أنْ يشكُـرَ اللهَ عَلَى المُصِيبَـةِ لِمَا يرى مِن إنْعـامِ اللهِ عَلَيْهِ بها حيثُ جعلها سبَباً لتكْفِـيرِ خَطاياه ورَفْـعِ دَرجـاتِه وإِنَابتِه وتَضَرُّعِه إِلَيْهِ وإخـلاصِه لَهُ فِي التـوَكُلِّ عَلَيْهِ ورَجـائِه دونَ المَخْلُوقـينَ)) وكَانَ مِن دُعاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَسْأَلُكَ الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ. وقَالَ ابنُ مسعودٍ: إنَّ اللهَ بِقسطِه وعَدْلِهِ جعلَ الرُّوحَ والفَرَحَ فِي اليقينِ والرِّضا وجعلَ الهَمَّ والحزَنَ فِي الشَّكِّ والسَّخطِ. وقَالَ ابنُ القيِّمِ فِي الرِّضَا.
وقَدْ أجمَعَ العُلَمَاءُ عَلَى أنَّهُ مُستحبٌّ مُؤكَّدٌ استحْبابُه. واختلفوا فِي وجوبِه عَلَى قوليْنِ: وسَمِعْتُ شيخَ الإسْلَامِ ابنَ تيميةَ قدَّسَ اللهُ روحَهُ - يحَكِيهما قَوليْنِ لأصحابِ أَحْمَدَ وكَانَ يذَهَبُ إِلَى القولِ باستحْبابِه. قَالَ ولم يَجِئِ الأمْرُ به كما جَاءَ الأمرُ بالصَّبْرِ وإنَّمَا جَاءَ الثَّناءُ عَلَى أصْحابِه ومَدْحِهم. واخْتُلِفَ فيه هَل هُوَ مُكتسَبٌ أو مَوهوبٌ. والتَّحقيقُ فِي المَسْأَلةِ أنَّ الرِّضَا كسبٌ باعتبارِ سَببِه مَوهَبِيٍّ باعتبارِ حقيقَتِه. فيمكِنُ أن يُقَالَ بالكسبِ لأسبابِه فإذا تَمكَّنَ فِي أسبابِه وغَرْسِ شَجَرتِه اجْتَنَى منها ثَمرةَ الرِّضَا فإنَّ الرَّضَا آخِرُ التَّوَكُّلِ فَمَنْ رَسَّخَ قَدَمَهُ فِي التَّوَكُّلِ والتَّسليمِ والتَّفويضِ حَصَلَ لَهُ الرِّضَا ولا بُدَّ ولكن لعِزَّتِه وعدمِ إجابةِ أكثرِ النُّفوسِ لَهُ وصُعوبتِه عَلَيْهَا لم يُوجِبْه اللهُ عَلَى خلْقِه رحمةً بهم وتخفيفاً عَنْهُمْ لكن نَدَبَهم إِلَيْهِ وأثْنَى عَلَى أهلِهِ وأخبْرَ أنَّ ثَوابَه رِضَاه عَنْهُمُ الَّذِي هُوَ أعظمُ وأكبرُ وأجلُّ مِن الجِنانِ وما فيها. فَمَن رَضِيَ عَن ربِّهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. بَل رِضا العبدِ عَن اللهِ مِن نتائجِ رِضَا اللهِ عَنْهُ فهُوَ محْفوفٌ بِنوعينِ مِن رِضَاه عَن عبدِه رِضاً قَبْلَهُ أوجبَ لَهُ أنْ يَرْضَى عَنْهُ ورِضاً بعدَه وهُوَ ثمرةُ رِضاه عَنْهُ.
ولَيْسَ مِن شرْطِ الرِّضَا أنْ لا يُحسَ بالألَمِ والمَكارِه بَل ألَّا يَعترضَ عَلَى الحُكْمِ ولا يَتسخَّطُه ؛ ولهَذَا أَشكلَ عَلَى بعضِ النَّاسِ الرِّضَا بالمَكْرُوه وطَعنوا فيه. وقَالَ: هَذَا مِمتنِعٌ عَلَى الطَّبيعةِ وإنَّمَا هُوَ الصَّبْرُ وإلا فكيفَ يجتمِعُ الرِّضَا والكراهةُ وهما ضِدَّانِ والصَّوابُ أنَّهُ لا تَناقُضَ بينهما وأنَّ وجودَ التَّأَلُّمِ وكراهةِ النَّفسِ لَهُ لا يُنافِي الرِّضَا كَرِضَى المريضِ بُشربِ الدَّواءِ الكَرِيهِ ورِضَى الصَّائمِ فِي اليومِ الشَّديدِ الحَرِّ بما يَنالُهُ مِن ألمِ الجوعِ والظَّمأِ وَرِضَى المُجاهدِ بما يحصلُ لَهُ فِي سبيلِ اللهِ مِن ألمِ الجِراحِ وغيرِها. اهـ
والصَّوابُ التَّفْصيلُ فِي مَسْأَلةِ الرِّضَا بالقضاءِ وأنَّ الفِعلَ غيرُ المفعولِ والقضاءَ غيرُ المُقتِضِى وأنَّ اللهَ لم يأمرْ عِبادَه بالرِّضَا بكلِّ ما خَلَقَه وشَاءَهُ ((فالرِّضَا بالقضاءِ الدِّينيِّ الشَّرعيِّ واجبٌ وهُوَ أساسُ الإسْلَامِ وقاعدةُ الإيمانِ فيجبُ عَلَى العبدِ أن يكونَ رَاضياً به بلا حرجٍ ولا مُنازعةٍ ولا مُعارضةٍ ولا اعتراضٍ قَالَ تَعَالَى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً}.
والرِّضَا بالقضاءِ الكونيِّ القدَريِّ الموافِقُ لِمحبَّةِ العبدِ وإرادَتِه ورِضاه مِن الصِّحَّةِ والغِنىَ والعافيةِ واللَّذةِ أمرٌ لازمٌ بِمقتَضى الطَّبيعةِ ؛ لأنَّهُ مُلائِمٌ للعبدِِ محْبوبٌ لَهُ فلَيْسَ فِي الرِّضَا به عُبوديةٌّ بَل العبوديَّةُ فِي مُقابلتِه بالشُّكرِ والاعترافِ بالمِنَّةِ وَوضعِ النِّعمةِ مَواضِعها التي يُحبُّ اللهُ أنْ تُوضعَ فيها وأنْ لا يُعصى المُنْعِمُ بها وأنْ يَرى التَّقصيرَ فِي جميعِ ذَلِكَ.
والرِّضَا بالقضاءِ الكونيِّ القدَريِّ الجَارِي عَلَى خلافِ مُرادِ العبدِ ومحَبَّتِه مِمَّا لا يُلائِمُه ولا يدخلُ تحتَ اختيارِه مُستحبٌّ وهُوَ مِن مقاماتِ أهلِ الإيمانِ. وفِي وجوبِه قولانِ وهَذَا كالمرضِ والفقرِ وأذَى الخلْقِ لَهُ والحَرِّ والبرْدِ والآلاَمِ ونحوِ ذَلِكَ.
والرِّضَا بالقدَرِ الجَارِي عَلَيْهِ باختيارِه مِمَّا يَكرهُه اللهُ ويَسخطُه ويَنْهى عَنْهُ كأنواعِ الظُّلمِ والفُسوقِ والعِصيانِ حرامٌ يُعاقِبُ عَلَيْهِ. وهُوَ مخالفةٌ لرَبِّه تَعَالَى فإنَّ اللهَ لا يَرْضى بذَلِكَ ولا يُحِبُّهُ. فكيفَ تَتَّفِقُ المَحبَّةُ وَرِضَى ما يَسخطُه الحبيبُ ويَبغضُه فعليك بالتَّفصيلِ فِي مَسْأَلةِ الرِّضَا بالقضَاءِ اهـ.
ويأمرُ أهلُ السُنَّةِ بالشُّكـرِ عندَ الرَّخاءِ كما قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}
((فمَنزلِةُ الشُّكرِ مِن أعَلَى المنازلِ وهي فوقَ منزلةِ الرِّضَا وزيادةٌ. فالرِّضَا مندَرِجٌ فِي الشُّكرِ إذ يَستحيلُ وجودُ الشُّكرِ بدونِه وهُوَ نِصفُ الإيمانِ فإنَّ الإيمانَ نِصفانِ:
نِصفُ شُكرٍ ونِصفُ صَبرٍ. وقَدْ أمرَ اللهُ به ونَهَى عَن ضِدِّه وأثْنَى عَلَى أهلِهِ وَوصَفَ به خَواصَّ خلْقِه وجعلَهُ غايةَ خلْقِه وأمْرِه ووَعَدَ أهلَهُ بأحسنِ جَزائِه وجعلَهُ سَبباً للمَزيدِ مِن فضْلِهِ وَحارِساً وحافِظاً لنِعْمتِه.
وأخبرَ أنَّ أهلَهُ هم المُنتفِعون بآياتِه واشْتقَّ لهم اسماً مِن أسمائِه فإِنَّهُ سُبحَانَهُ هُوَ الشَّكورُ وهُوَ يُوصلُ الشَّاكرَ إِلَى مشكورِه بَل يُعيدُ الشَّاكرَ مَشكوراً وهُوَ غايةُ الربِّ مِن عبدِه، وأهلُهُ هم القليلُ مِن عِبادِه. وسَمَّى نَفسَه شَاكِراً وشَكوراً. وسمَّى الشَّاكرِين بهذين الاسْمينِ فَأعطَاهم مِن وصْفِه وسمَّاهم باسْمِه. وحَسبُك بهَذَا مَحبَّةً للشَّاكرِين وفَضلاً: وإعادَتُه للشَّاكرِ مَشكوراً كَقَولِهِ: {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً} ورِضَى الرَّبِّ عَن عبدِه كَقَولِهِ: {وَإِنْ تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ} وقِلَّةُ أهلِهُِ فِي العالَمِين تدلُّ عَلَى أنَّهُمْ خَواصُّه كَقَولِهِ: {وَقَلِيلٌ مِن عِبَادِيَ الشَّكُورُ}
وفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ قامَ حَتَّى تَورَّمت قدَماه فقِيلَ لَهُ َتفعلُ هَذَا وقَدْ غَفرَ اللهُ لك ما تقدَّمَ مِن ذَنبِك وما تَأَخَّرَ؟ فقَالَ: أَفَلاَ أَكُونُ عَبْداً شَكُوراً. وأصلُ ((الشًُّكْرِ)) فِي وضعِ اللِّسانِ: ظهورُ أثرِ الغِذاءِ فِي أبدانِ الحيوانِ ظُهوراً بَيِّناً يُقَالُ شَكَرَتَ الدَّابةُ تَشكرُ شُكراً عَلَى وزْنِ سَمنَتْ تَسمنُ سِمناً، إذا ظَهرَ عَلَيْهَا أثرُ العَلفَ، ودابَّةٌ شكورٌ: إذا ظَهرَ عَلَيْهَا مِن السِّمنِ فوقَ ما تأكلُ وتُعطى مِن العلفِ.
وفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: حَتَّى إنَّ الدَّوابَّ لَتشكرُ مِن لحومِهم. أي لَتسمَنُ مِن كثرةِ ما تَأكلُ منها وكذَلِكَ حقيقَتُه فِي العبوديَّةِ وهُوَ ظهورُ أثرِ نعمةِ اللهِ عَلَى لسانِ عبدِه ثناءً أو اعْترافاً وعَلَى قلبِه شُهوداً ومحبةً وعَلَى جوارِحِه انقياداً وطاعةً.
والشُّكرُ مبَنِيٌّ عَلَى خمسِ قواعِدَ: خضوعُ الشَّاكرِ للمشْكورِ، وحُبُّه لَهُ واعترافُهُ بنعمَتِه، وثناؤُه عَلَيْهِ بها. وأَنْ لا يستعمِلَها فيما يَكرُه. فهَذِهِ الخَمسُ هي أساسُ الشُّكْرِ وبناؤُه عَلَيْهَا فمَتى عَدمَ واحدةً منها اختَلَّ مِن قواعدِ الشُّكْرِ قاعدةٌ. وَكُلُّ مَن تَكلَّمَ فِي الشُّكْرِ وحدَه فكلامُه إليها يَرجعُ وعَلَيْهَا يَدورُ))
ولَلشُّكرِ يكونُ فِي مقابَلةِ نعمةٍ ويكونُ باليدِ واللِّسانِ والقلبِ كما قَالَ الشاعرُ:

أَفادَتْكُم النَّعماءُ مِنِّي ثلاثة ً يدِي ولِسانِي والضَّميرَ المُحَجَّبَا

((ومَذْهَبُ أهلِ السُنَّةِ: أنَّ الشُّكْرَ يكونُ بالاعتقادِ والقولِ والعملِ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {اعْمَلُواْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً} وقَدْ صرَّحَ مَن شَاءَ اللهُ مِن العُلَمَاءِ المعرُوفينَ بالسُنَّةِ: أنَّ الشُّكْرَ يكونُ بالاعتقادِ والقولِ والعملِ وقَدْ دلَّ عَلَى ذَلِكَ الكتابُ والسُنَّةُ. ومَن قَالَ: إنَّ الشُّكْرَ يكونُ بالاعتقادِ فقطْ ونَسَبَه إِلَى أهلِ السُنَّةِ فقَدْ أخْطَأَ والنَّقلُ عَن أهلِ السُنَّة خَطأٌ. فإنَّ القولَ إذا تَبيَّنَ ضَعفُه كيفَ يُنسبُ إِلَى أهلِ الحقِّ))
((وتَكلَّمَ النَّاسُ فِي الفرقِ بينَ الحمْدِ والشُّكْرِ أيُّهما أعَلَى وأفضلُ؟ وفِي الْحَدِيثِ: الْحَمْدُ رَأْسُ الشُّكْرِ فَمَنْ لَمْ يَحْمَدِ اللهَ لم يَشْكُرْهُ. والفرقُ بينهما: أنَّ الشُّكْرَ أعمُّ مِن جهةِ أنواعِهِ وأسبابِهِ وأخصُّ مِن جهةِ مُتعلِّقاتِه.
والحمدُ أعمُّ من جِهةِ المُتعلِّقاتِ وأخصُّ مِن جهةِ الأسبابِ. ومعنى هَذَا أنَّ الشُّكْرَ يكونُ بالقلبِ خُضوعاً واسْتكانةً وباللِّسانِ ثناءً واعْترافاً وبالجوارِحِ طاعةً وانْقياداً ومُتعلَّقُه النِّعمُ دونَ الأوصافِ الذَّاتيَّةِ فلا يُقَالُ: شَكرْنا اللهَ عَلَى حياتِهِ وسَمْعِه وبَصرِه وعِلْمِه وهُوَ المحمودُ عَلَيْهَا كما هُوَ محمودٌ عَلَى إحسانِهِ وعدْلِهِ. والشُّكْرُ يكونُ عَلَى الإحسانِ والنِّعمِ.
فكلُّ ما يَتعلَّقُ به الشُّكْرُ يَتعلَّقُ به الحمدُ مِن غيرِ عَكسٍ، وَكُلُّ ما يقعُ به الحمدُ يقعُ به الشُّكْرُ مِن غيرِ عَكسٍ، فإنَّ الشُّكْرَ يقعُ بالجَوارِحِ والحمدَ يقعُ بالقلبِ واللِّسانِ))
((وقَدْ تنازعَ النَّاسُ أيُّما أفضلُ الفقيرُ الصَّابرُ أو الغَنيُّ الشَّاكرُ؟ والصَّحِيحُ أن أفْضلَهما أتْقاهُما للهِ فإنِ اسْتويَا فِي التَّقوى اسْتويَا فِي الدَّرجةِ فإنَّ الفُقراءَ يَسبقونَ الأغنياءَ إِلَى الجَنَّةِ لخِفَّةِ الحسابِ. ثُمَّ إذا دَخلَ الأغنياءُ الجَنَّةَ، فكلُّ واحدٍ يكونُ فِي مَنزلتِه عَلَى قدْرِ حسناتِهِ وأعمَالِهِ))
وكذَلِكَ أهلُ السُنَّةِ يدعونَ إِلَى مكارمِ الأخلاقِ لقَولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَكْمَلُ الْمُؤْمِنينَ إيمَاناً أحْسَنُهُمْ خُلُقاً. رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ وأبو دَاوُدَ والتِّرْمِذِيُّ وقَالَ: حسنٌ صَحِيحٌ مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وتمامُهُ وَخِيارُكُمْ خِيارُكُمْ لِنِسائِهِمْ واقتصرَ أبو دَاوُدَ عَلَى قَولِهِ أكملُ الْمُؤْمِنينَ إيماناً أَحسنُهم خُلقاً. ورَوَاهُ ابنُ حِبَّانَ.
وقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ أثْقَلُ ما يُوضَعُ فِي المِيزَانِ وإنَّ صَاحِبَهُ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللهِ وأقَرَبُهُمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مَجْلِساً.
وأخْرجَ ابنُ حِبَّانَ فِي صحيحِهِ عَن عبدِ اللهِ بنِ عمْرٍو مرفوعاً: ألاَ أُخْبرُكُمْ بِأَحَبِّكُمْ إِلَى اللهِ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِساً يَوْمَ الْقِيامَةِ قَالُوا بلى، قَالَ: أَحْسَنُكُمْ خُلُقاً. ولأَحْمَدَ والتِّرْمِذِيِّ وصحَّحَهُ عَن أَبِي ذَرِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ واتْبَعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا وَخالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ.
((فقَدْ جَمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينَ تَقوى اللهِ وحُسنِ الخُلقِ فتَقْوى اللهِ تُصلِحُ ما بينَ العبدِ وربِّه، وحُسنُ الخُلقِ يُصلحُ ما بينَه وبينَ خَلْقِه. فتقْوَى اللهِ تُوجِبُ لَهُ محبَّةَ اللهِ، وحُسنُ الخُلقِ يَدْعو النَّاسَ إِلَى مَحبَّتِه))
وروى البَيْهقِيُّ عَن ابنِ عبَّاسٍ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ قَالَ: بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ. وفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عبدِ اللهِ بنِ عمْرِو بنِ العاصِ قَالَ: لم يَكُنْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحِشاً ولا مُتفحِّشاً وكَانَ يقولُ: إنَّ مِن خيارِكم أَحْسنُكم أخْلَاقاً.
قَولُهُ ((أَحْسنُهمْ خُلقاً)) أي ألْينُهم وألْطفُهم وأَجملُهم. والخُلُقُ بضمِّ الخَاءِ واللَّامِ بمعنى طَبيعةِ الإنسانِ وسَجيَّتِه قَالَ الجَوهريُّ: الخُلقُ والخَلْقُ السَّجِيَّةُ وفلانُ يَتخلَّقُ بغيرِ خُلقِه أيْ يتكَلَّفُ قَالَ الشَّاعرُ:

يا أيُّها المُتحلِّي غَيرَ شِيمتِه إنَّ التَّخلُّقَ يأتي دونَه الخَلْقُ

وفِي نهايةِ ابنِ الأثيرِ: الخُلقُ بضمَّ اللَّامِ وسُكونِها الدِّينُ والطَّبعُ والسَّجيَّةُ وحقيقتُهُ أنَّهُ لَصورةُ الإنسانِ الباطنةُ وهي نفْسُه وأوصَافُها ومَعانِيها المُختصَّةُ بها بمنزلةِ الخَلْقِ لصورتِه الظَّاهرةِ وأوصافِها ومعانِيها ولها أوصافٌ حَسَنَةٌ وقَبيحةٌ والثَّوابُ والعقابُ يَتعلَّقانِ بأوصافِ الصُّورةِ الباطنةِ أكثرُ مِمَّا يتعلَّقانِ بأوصافِ الصُّورةِ الظَّاهرةِ: ولذا تَكَرَّرتِ الأحاديثُ فِي مدحِ حُسنِ الخُلُقِ وذمِّ سُوئِه اهـ)) قَالَ الحسنُ وقَدْ سُئلَ ما أحسنُ الخلُقِ؟ قَالَ بذلُ النَّدى وكَفُّ الأذَى وطلاقَةُ الوَجْهِ. وقَالَ مرةً: حُسنُ الخلُقِ: الكرَمُ والبذْلُ والاحتِمالُ.
قَولُهُ ويَندبونَ إِلَى أنْ تَصلَ مَن قَطَعَك إلخ. قَالَ فِي المِصباحِ المُنيرِ: نَدبْتُه إِلَى الأمرِ نَدباً مِن بابِ قَتَلَ، دَعوْتُه والفاعلُ تَأَدَّبَ والمفعولُ مَندوبٌ والأمرُ مندوبٌ إِلَيْهِ والاسمُ النُّدبةُ مِثل غُرْفةٍ. ومنه المَندوبُ فِي الشَّرعِ والأصلُ المَندوبُ إِلَيْهِ لكنْ حُذفِت الصِّلةُ مِنْهُمْ لفَهْمِ المَعْنى ونَدَبْتُه للأمْرِ فانْتَدبَ يُستعمَلُ لَازماً ومُتعدِّياً اهـ.
وفِي الْبُخَارِيِّ مِن حَدِيثِ عبدِ اللهِ بنِ عمْرٍو عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَيْسَ الْواصِلُ بالْمُكافِئِ ولَكِنَّ الْواصِلَ الَّذِي إذا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا. وفِي المُسْندِ عَن معاذِ بنِ أنسٍ الجُهَنيِّ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَفْضَلُ الْفَضائِلِ أنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ وَتُعْطِيَ مَنْ حَـرَمَكَ وَتَصْفَحَ عَمَّنْ شَتَمَكَ. وروى ابنُ جريرٍ وابنُ أَبِي حـاتمٍ عَن أُبَيٍّ قَالَ: لمَّا أنزلَ اللهُ عَلَى نَبيِّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَن الْجَاهِلِينَ} قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا هَذَا يا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: أنْ تَصلَ مَن قَطَعَك وتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ.
ورَوَى نحوَ ذَلِكَ مِن حَدِيثِ عَلِيٍّ وأَبِي هُرَيْرَةَ وأُمِّ سلمةَ وجَابِرٍ وعُقبةَ بنِ عامرٍ وقيسِ بنِ سعدِ بنِ عُبادةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ. وقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَاعْبُدُواْ اللهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالدِّين إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً} والفَخارُ هُوَ الافتخارُ وعَدُّ المآثِرِ القديمَةِ تَعظُّماً قَالَ فِي المِصباحِ: المُفاخرةُ: المُباهاةُ بالمَكارمِ والمَناقبِ مِن حَسبٍ ونَسبٍ وغيرِ ذَلِكَ إمَّا فِي المتَكلِّمِ أو فِي آبائِهِ اهـ والخُيلاءُ بضمِّ الخاءِ المُعجمةِ وفتْحِ الياءِ مَمدوداً هُوَ:
الكِبرُ والإعجابُ واحتقارُ النَّاسِ.
والبَغْيُ العُدوانُ والظُّلمُ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا نَهَى اللهُ ورسولُهُ عَنْهُ كما قَالَ تَعَالَى (وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً) وفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ قَالَ: الْكِبْرُ بَطْرُ الحقِّ وَغمطُ النَّاسِ. وفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أيضاً عَن عِياضِ بنِ حمارٍ المُجاشعيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّهُ أُوحِيَ إليَّ أنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لاَ يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، ولَا يَبْغِي أَحَدٌ عَلَى أَحدٍ. ((فَنَهى سُبحَانَهُ عَلَى لسانِ رسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن نَوْعِي الاستطالةِ عَلَى الخلْقِ وهي الفخرُ والبَغْيُ ؛ لأنَّ المُستطِيلَ إنِ استطَالَ بحقٍّ فقَدْ افْتخرَ وإنْ كَانَ بغيرِ حقٍّ فقَدْ بَغَى فلا يَحلُّ لا هَذَا ولا هَذَا))
((وأمورُ النَّاسِ تَستقيمُ فِي الدُّنْيَا مَعَ العدلِ الَّذِي فيه الاشتراكُ فِي أنواعِ الإِثْمِ أكثرَ مِمَّا تستقيمُ مَعَ الظُّلمِ فِي الحقوقِ وإنْ لم تَشتركْ فِي إثْمٍ. ولهَذَا قِيلَ: إنَّ اللهَ يُقيمُ الدَّولةَ العادِلةَ وإنْ كَانَتْ كافرِةً. ولا يُقيمُ الظَّالمةَ وإنْ كَانَتْ مُسلِمةً. ويُقَالُ: الدُّنْيَا تدومُ مَعَ العدلِ والكُفْرِ، ولا تدومُ مَعَ الظُّلمِ والإسْلَامِ. وقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ ذَنبٌ أسْرعَ عقوبةً مِن البغْيِ وقطيعةِ الرَّحمِ. فالباغِي يُصرعُ فِي الدُّنْيَا وإن كَانَ مَغفوراً لَهُ ؛ مَرحوماً فِي الآخِرةِ. وذَلِكَ أنَّ العدلَ: نظامُ كلِّ شيءٍ. فإذا أُقيمَ أمرُ الدُّنْيَا بعدلٍ قامتْ وإنْ لم يَكُنْ لِصاحِبها فِي الآخرةِ مِن خلاقٍ. ومتى لم تَقمْ بعدلٍ لم تقمْ وإن كَانَ لِصاحبِها مِن الإيمانِ ما يُجزَى به فِي الآخرةِ)).
ورَوَى الخلاَّلُ عَن سهلِ بنِ سعدٍ مَرفوعاً: إنَّ اللهَ كَريمٌ يُحِبُّ الكريمَ ومعاليَ الأخلاقِ ويكرَهُ سَفْسافَها. قَالَ ابنُ الأثيرِ فِي النِّهايةِ: السَّفْسافُ الأمرُ الحقيرُ والرَّدِيءُ مِن كلِّ شيءٍ وهُوَ ضدُّ العالِي. وفيه إنَّ اللهَ يُحبُّ مَعالِيَ الأخلاقِ ويَبغضُ سَفْسافَها. وأصلُهُ ما يَطيرُ مِن غُبارِ الدَّقيقِ إذا نُخِلَ والتُّرابِ إِذَا اهـ.
((وكُلُّ مَا يَقُولونَهُ وَيَفْعَلونَهُ مِنْ هذا وَغَيْرِهِ؛ فإِنَّما هُمْ فيهِ مُتَّبِعونَ للكِتابِ والسُّنَّةِ، وطريقتُهُمْ هِيَ دينُ الإِسْلامِ الَّذي بَعَثَ اللهُ بهِ مُحَمَّداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لكِنْ لَمَّا أَخْبَرَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أُمَّتَهُ ستَفْتَرِقُ على ثَلاثٍ وسَبعينَ فِرقةً، كُلُّها في النَّارِ ؛ إلا واحدةٌ، وهيَ الجَماعَةُ. وفي حَديثٍ عنهُ أَنَّهُ قَالَ:((هُمْ مَنْ كَانَ على مِثْلِ مَا أَنا عَلَيْهِ اليَوْمَ وأَصْحابي)) ؛ صارَ المتمسِّكونَ بالإِسلامِ المَحْضِ الخالِصِ عَنِ الشَّوْبِ هُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ والجَماعَةِ.
وفيهِمُ الصِّدِّيقونَ؛ والشُّهَداءُ، والصَّالِحونَ؛ ومنهُمْ أَعلامُ الهُدَى، ومَصابيحُ الدُّجَى، أُولو المَناقِبِ المَأْثُورَةِ، والفَضائِلِ المَذْكورَةِ، وفيهِمُ الأبْدالُ، وفيهِم [ أَئِمَّةُ الدِّينِ ]، الَّذينَ أَجْمَعَ المُسْلِمونَ على هِدايَتِهِمْ [ ودِرايَتِهم ]، وهُمُ الطَّائِفَةُ المَنْصورَةُ الَّذينَ قالَ فيهمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:((لا تَزالُ طائِفةٌ مِنْ أُمَّتي عَلى الحَقِّ مَنْصورَةً، لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ، ولا مَنْ خَذَلَهُمْ، حَتَّى تَقومَ السَّاعَةُ)).
نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنا مِنْهُمْ وأَنْ لا يُزيغَ قُلوبَنَا بعْدَ إِذْ هَدَانا، وأَنْ يَهَبَ لَنا مِنْ لَدُنْهُ رَحْمَةً إِنَّهُ هُوَ الوَهَّابُ.
واللهُ أَعْلَمُ.
وصلَّى اللهُ على مُحَمَّدٍ وآلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ تَسْلِيماً كَثِيراً
اعِلْمْ أنَّ أهلَ السُنَّةِ والجَمَاعَةِ هم أهلُ الإسْلَامِ والتَّوحيدِ المُتمسِّكونَ بالسُّنَنِ الثَّابتةِ عَن رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي العقائدِ والنِّحلِ والعِباداتِ البَاطنةِ والظَّّاهرةِ الَّذِينَ لم يَشوبُوها بِبدعِ أهلِ الأهواءِ وأهلِ الكلامِ فِي أبوابِ الْعِلْمِ والاعتقاداتِ ولم يَخرجوا عَنْهَا فِي بابِ العملِ والإراداتِ كما عَلَيْهِ جُهَّالِ أهلِ الطَّرائقِ والعِباداتِ فإنَّ السُنَّةَ فِي الأصلِ تَقعُ عَلَى ما كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ وما سَنَّه أوْ أَمَرَ به مِن أصولِ الدِّينِ وفروعِه حَتَّى الهُدَى والسَّمتِ ثُمَّ خُصَّت فِي بعضِ الإطْلاقاتِ بما كَانَ عَلَيْهِ أهلُ السُنَّةِ مِن إثباتِ الأسْماءِ والصِّفاتِ خِلافاً للجَهْمِيَّةِ المُعطِّلةِ النُّفاةِ وخُصتْ بإثباتِ القَدَرِ ونَفْيِ الجبْرِ خِلافاً للقَدرِيَّةِ النُّفاةِ وللقدَريَّةِ الجَبْريةِ للعُصاةِ وتُطلقُ أيضاً عَلَى ما كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالحُ فِي مسائلِ الإِمَامةِ والتَّفضيلِ والكَفِّ عمَّا شَجَرَ بينَ أصحابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهَذَا مِن إطلاقِ الاسمِ عَلَى بعضِ مُسمَّياتِه، وهم يُريدونَ بِمثلِ هَذَا الإطلاقِ التَّنْبيهَ عَلَى أنَّ المُسمَّى رُكنٌ أعظمُ وشَرطٌ أكبرُ كَقَولِهِ ((الْحَجُّ عَرَفةُ)) أو لأنَّهُ الوصفُ الفارِقُ بَيْنَهُمْ وبينَ غَيْرِهِمْ. ولذَلِكَ سَمَّى العُلَمَاءُ كُتبَهُم فِي هَذِهِ الأصولِ كُتبَ السُنَّةِ ككتابِ السُنَّةِ لِلاَّلكَائِيِّ والسُنَّةِ لأَبِي بَكْرٍ الأثْرمِ والسُنَّةِ للخَلاَّلِ والسُنَّةِ لابنِ خُزيمةَ، والسُنَّةِ لعبدِ اللهِ بنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ ومِنهاجِ السُنَّةِ لشيخِ الإسْلاَمِ ابنِ تيميةَ وغَيْرِهِمْ)) ).