11 Nov 2008
المحافظة على الجماعة وبذل النصيحة
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وَيُحَافِظُونَ عَلَى الْجَمَاعَاتِ ، وَيَدِينُونَ بِالنَّصِيحَةِ لِلأُمَّةِ ، وَيَعْتَقِدُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: ((الْمُؤْمنُ لِلْمُؤْمنِ كَالبُنْيانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا)) وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ صلى الله عليه وسلم. وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: ((مَثَلُ المؤمِنِينَ فِي تَوادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِم وتَعَاطُفِهِم كَمَثَلِ الجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تََدَاعَى لَهُ سَائرُ الجَسَدِ بِالحُمّى والسَّهَرِ)) ).
التنبيهات اللطيفة فيما احتوت عليه الواسطية من المباحث المنيفة لابن سعدي رحمه الله
قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): (وهذا كلام جامع واضح نادر جمعه في موضع واحد، لا يحتاج إلى شرح ولا إلى مزيد من الإيضاح).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ مُحمَّد خَليل هَرَّاس رحمه الله
قال الشيخ محمد خليل هراس (ت: 1395هـ): (قولُهُ: (( ثمَّ هُمْ معَ هذهِِ الأُصولِ … ))
إلخ. جَمَعَ المُؤَلِّفُ في هذا الفصلِ جمَاعَ مَكَارِمِ الأَخْلاقِ،
التَّي يَتَخَلَّقُ بهَا أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ؛ من الأمْرِ
بالمَعْرُوفِ، وهوَ مَا عُرِفَ حُسْنُهُ بالشَّرْعِ والَعَقْلِ، والنَّهيِ
عنِ المُنْكَرِ، وهوَ كلُّ قبيحٍ عَقْلاً وشَرْعًا، على حَسَبِ ما تُوجبُهُ
الشَّرِيعَةُ مِنْ تلكَ الفريضَةِ؛ كمَا يُفْهَمُ مِنْ قولِهِ عليهِ
السَّلامُ: (( مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا؛
فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ؛ فَبِلِسَانِهِ، فإنْ لَمْ
يَسْتَطِعْ؛ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ )).
ومِنْ شُهُودِ الجُمَعِ والجَمَاعَاتِ والحَجِّ والجِهَادِ معَ الأُمَراءِ أيًّا كانُوا؛ لقولِهِ عليهِ السَّلام: (( صَلُّوا خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ )).
ومِنَ النُّصْحِ لكلِّ مُسْلِمٍ؛ لقولِهِِ عليهِ السَّلامُ: (( الدِّينُ النَّصِيحَةُ )).
ومِنْ فَهْمٍ صَحِيحٍ لِمَا تُوجِبُهُ الأُخُوَّةُ الإِيمَانِيَّةُ مِنْ
تَعَاطُفٍ وتَوَادٍّ وتَنَاصُرٍ؛ كمَا في هذهِِ الأحاديثِ التَّي يُشَبِّهُ
فيهَا الرَّسُولُ المؤمنينَ بِالبُنْيَانِ الْمَرْصُوصِ المُتَمَاسِكِ
اللَّبِنَاتِ، أوْ بِالْجَسَدِ الْمُتَرَابِطِ الأعْضَاءِ مِنْ دعوةٍ إلى
الخيرِ، وإلى مكارمِ الأخلاقِ، فَهُمْ يَدْعُونَ إلى الصَّبْرِ على
المَصَائِبِ، والشَّكْرِ على النَّعْمَاءِ، والرِّضَا بِقَضَاءِ اللهِ
وقَدَرِهِ … إلى غيرِ ذلكَ مِمَّا ذَكَرَهُ.
(الشرح مكرر مع الجزئية السابقة) ).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ: صالح بن فوزان الفوزان
قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: (وقولُه: (ويُحافِظونَ على الجَماعاتِ)
أيْ: ومِن صفاتِ أهلِ السُّنَّةِ أنَّهم يُحافِظونَ على حُضورِ صلاةِ
الفريضةِ مع الجماعةِ جُمعةً أو غيرَها؛ لأنَّ ذَلِكَ مِن أعظمِ شعائِرِ
الإسلامِ وطاعةً لِلَّهِ ورسولِه في ذَلِكَ، خِلافاً للشِّيعةِ الذين لا
يَرَوْن الصَّلاةَ إلاَّ مع الإمامِ المعصومِ. وخِلافا للمُنافِقِين الذين
يتخلَّفونَ عن صلاةِ الجماعةِ. وقد وَرَدتْ أحاديثُ في فضْلِ صلاةِ
الجماعةِ، والأمرِ بها، والنَّهْيِ عن تَرْكِها ليس هَذَا موضعَ ذِكْرِها.
قولُه: (ويَدِينونَ بالنَّصيحةِ للأمَّةِ)
أي يَرَوْنها مِن الدِّينِ. وأصلُ النُّصحِ في اللُّغةِ: الخُلوصُ،
وشَرْعاً: هِيَ إرادةُ الخيرِ للمَنصوحِ له، وإرشادُه إلى مَصالِحِه، فأهلُ
السُّنَّةِ يُريدُونَ الخيرَ للأمَّةِ ويُرشِدُونها إلى ما فيه صَلاحُها.
ومِن صفاتِ أهلِ السُّنَّةِ التَّعاوُنُ على الخيِر، والتَّألُّمُ لأَلَمِ
المُصابِينَ منهم، فهُم (يَعتقِدونَ معنى قولِه صلى اللهُ عليه وسلم (( الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضاً وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ )) رواه البخاريُّ ومسلمٌ، وقولُه صلى اللهُ عليه وسلم: ((
مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ
كَمَثَلِ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ
الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ )) رواه البُخاريُّ ومسلمٌ وغيرُهما.
فالحديثانِ يُمثِّلانِ ما ينبغي أنْ يكونَ عليه المسلِمونَ مِن تعاوُنٍ وتراحُمٍ. وأهلُ السُّنَّةِ يَعملونَ بمُقتضاهُما، وقولُه: ((الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ)) وقولُه: ((مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ)) المرادُ بالإيمانِ هنا الإيمانُ الكاملُ ((كَالْبُنْيَانِ)) هَذَا التَّمْثيلُ يُقصَدُ منه التَّقريبُ للفَهْمِ ((يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضاً)) بيانٌ لوَجهِ الشَّبَهِ (وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ) تمثيلٌ آخرُ يُقصَدُ منه التَّقريبُ للفَهْم. قولُه: ((كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ)) أيْ: بالنِّسبةِ إلى جميعِ أعضائِهِ مِن حَيْثُ الشُّعورُ بالرَّاحةِ أو التَّعَبِ ((تَوَادِّهِمْ)) أيْ: محبَّةِ بعضِهم لبعضٍ ((تَعَاطُفِهِمْ)) أيْ: عَطْفِ بعضِهم على بعضٍ ((إِذَا اشْتَكَى)) تَأَلَّمَ ((تَدَاعَى)) شارَكَ بعضُه البعضَ الآخَرَ في الأَلَمِ ((سَائِرُ الجَسَدِ)) باقِيه ((بِالْحُمَّى)) ما ينشأُ عن الألمِ مِن حرارةِ الجِسمِ ((السَّهَرِ)) عدمُ النَّومِ.
وهَذَا الحديثُ خبرٌ معناه الأمرُ أيْ: كما أَنَّهُ
إذا تأَلَّمَ بعضُ جَسَدِه سَرَى ذَلِكَ الألَمُ إلى جميعِ جَسَدِه، فكذا
المؤمِنونَ ليكونوا كنَفْسٍ واحدةٍ إذا أصابَ أحدَهم مصيبةٌ يغْتَمُّ
جميعُهم ويَعملون على إزالَتِها، وفي هَذَا التَّشبِيهِ تقريبٌ للفَهْمِ
وإظهارُ المعاني في الصُّوَرِ المَرئيَّةِ).
التنبيهات السنية للشيخ: عبد العزيز بن ناصر الرشيد رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (ويُحافِظونَ عَلى الجُمَعِ الجَماعاتِ.(1)
ويَدِينُونَ بالنَّصِيحَةِ للأمَّةِ.(2)
ويَعْتَقِدونَ معنى قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( المُؤْمِنُ لِلْمُؤِمِنِ كَالبُنْيانِ المَرْصوصِ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضاً))، وشَبكَ بينَ أَصابِعِهِ.(3)
وقوْلِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَثَلُ
المُؤْمِنينَ في تَوَادِّهِمْ وَتَراحُمِهِمْ وتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ
الجَسَدِ: إِذا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ؛ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ
بِالحُمَّى وَالسَّهَرِ)).(4)).
الشرح:
قال الشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد (ت: 1408هـ): ((1) قولُه: (وَيحافِظُون على الجُمَعِ والجَماعَاتِ) لأنَّها مِن أَوْكَدِ العِباداتِ، ومِن أجلِّ الطَّاعاتِ، ومِن أَعظمِ شَعائرِ الإسلامِ الظَّاهرةِ،
وقد
تكاثَرَت الأدِلَّةُ في الحثِّ على حُضورِ الجُمعُ والجماعاتِ والتَّرغيبِ
في ذَلِكَ؛ وتحريمِ التَّخلُّفِ عنهما إلاَّ لِعذُرٍ، هَذَا ما عليه أهلُ
السُّنَّةِ خِلافًا للمبتدِعَةِ مِن الرَّافِضةِ وغيرِهم، الذين لا يَرَوْن
الجهادَ ولا حضورَ الجماعةِ إلاَّ مع الإمامِ المعصومِ، وإمامُهم هَذَا
الذي يَزْعُمون هُوَ معدومٌ، وهم يَنْتَظِرونه مِن مدَّةٍ طويلةٍ، ولم
يَقِفُوا على عَينٍ ولا أَثرٍ، إنْ هي إلا مجرَّدُ أوهامٍ وأمانيَّ وظُنونٍ
كاذبةٍ، وإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي عن الحقِّ شيئًا {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ}.
قال الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: ومَن ظَنَّ أنَّ صلاتَه
وَحْدَه أفضلُ مِن أجْلِ خَلوتِه، أو غيرِ ذَلِكَ فهُوَ مُخطِئٌ ضالٌّ،
وأضلُّ مِنه مَن لم يَرَ الجماعةَ إلاَّ خَلفَ معصومٍ، فعطَّلَ المساجِدَ
وعَمَّرَ المشَّاهِدَ. انتهى. وصلاةُ الجماعةِ فَرْضُ عَيْنٍ، وهَذَا هُوَ
المشهورُ عن أحمدَ وغيرِه مِن أئمَّةِ السَّلَفِ وعلماءِ الحديثِ،
وقال بعضُ العلماءِ: إنَّ صلاةَ الجماعةِ شرطٌ لحديثِ ((لا صَلاَةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إِلاَّ فِي الْمَسْجِدِ)) واختارَهُ الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ وابنُ عقيلٍ وغيرُهم،
وقال
الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: ومَن قال لا تَجوزُ خَلْفَ
مَن لا تُعرفُ عقيدَتُه، وما هُوَ عليه فَهُوَ قولٌ لم يَقُلْه أحدٌ مِن
المسلِمِينَ، فإنَّ أهلَ الحديثِ والسُّنَّةِ كالشَّافِعيِّ وأحمدَ وإسحاقَ
وغيرِهم متَّفِقون على أنَّ صلاةَ الجمعةِ تُصلَّى خَلفَ البَرِّ
والفاجِرِ، حتى إنَّ أَكْثَرَ أهلِ البِدَعِ كالجهميَّةِ الذين يَقولون
بخَلْقِ القُرآنِ، وأَنَّ اللَّهَ لا يُرى في الآخرةِ، ومع أنَّ أحمدَ
ابْتُلِي بهم وهُوَ أشهرُ الأئمَّةِ بالإمامةِ في السُّنَّةِ، ومع هَذَا لم
تَخْتَلِفْ نُصوصُه أنَّه تُصلَّى الجمعةُ خَلفَ الجهميِّ والقدَريِّ
والرَّافِضيِّ، وليس لأحدٍ أنْ يَدَعَ الجمعةَ لبِدعةٍ في الإمامِ، لكن
تَنازَعوا هل تُعادُ؟ على قولَيْنِ: هما روايتانِ عن الإمامِ أحمَد، قيل: تُعادُ خَلفَ الفاسِقِ، ومذهبُ الشَّافِعيِّ وأبي حنيفةَ لا تُعادُ. اهـ.
وهَذَا هُوَ الصَّحيحُ فإنَّ الصَّحابةَ كانوا يُصَلُّونَ الجمعةَ
والجماعةَ خَلْفَ الأئمَّةِ والفُجَّارِ ولا يُعيدونَ، كما كان عبدُ
اللَّهِ بنُ عمرَ يُصلِّي خَلْفَ الحجَّاجِ بنِ يوسفَ، وَكَذَلِكَ أنسٌ
وَكَذَلِكَ عبدُ اللَّهِ بنُ مسعودٍ -رضي اللَّهُ عنهم-، وغيرُهم يُصلُّونَ
خلفَ الوليدِ بنِ عقبةَ بنِ أبي مُعَيطٍ، وكان يَشربُ الخمرَ.
وأخرجَ الدَّارقُطنيُّ مِن حديثِ أبي هريرةَ -رضي اللَّهُ عنه- مرفوعًا: ((صَلُّوا خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وفاجِرٍ))، وقال: لم يَلْقَ مَكحولٌ أبا هريرةَ، وفي إسنادِه معاويةُ بنُ صالِحٍ مُتكلَّمٌ فيه، وقد احتجَّ بِهِ مُسلمٌ في "صحيحِه"،
وخرَّجَ
الدَّارقُطنيُّ أيضًا وأبو داودَ عن مكحولٍ عن أبي هريرةَ -رضي اللَّهُ
عنه- قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((الصَّلاةُ
وَاجِبَةٌ عَلَيْكُمْ مَعَ كُلِّ مُسْلِمٍ بَراًّ كَانَ أَوْ فَاجِراً،
وَإِنْ عَمِلَ بِالْكَبَائِرِ، وَالْجِهَادُ وَاجِبٌ عَلَيْكُمْ مَعَ كُلِّ
أَمِيرٍ بَراًّ كَانَ أَوْ فَاجِراً وَإِنْ عَمِلَ بِالْكَبَائِرِ)) انتهى.
(2) قولُه: (ويَدِينونَ بالنَّصيحَةِ للأمَّةِ)
أي: يَتعبَّدُونَ، يقالُ: دانَ بالإسلامِ دِينا بالكسْرِ تعبَّدَ بِهِ،
وتَدَّينَ بِهِ كذَلِكَ، أي أنَّ أهلَ السُّنَّةِ يَدِينونَ أي يتعبَّدُونَ
بالنَّصيحةِ لجميعِ الأُمَّةِ، كما تكاثَرَت الأخبارُ في الحثِّ عليها
والتَّرغيبِ فيها، ولأنَّ عليها مَدارَ الدِّينِ كما في "الصَّحيحَيْنِ"
مِن حديثِ تميمٍ الدَّاريِّ أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ
وسلَّمَ- قال: ((الدِّينُ النَّصِيحَةُ، الدِّينُ النَّصِيحَةُ، الدِّينُ النَّصِيحَةُ))، قالها ثلاثًا، قُلنا: لمَنْ يا رسولَ اللَّهِ؟ قال: ((لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِكِتَابِهِ وَلأَئِمَّةِ المسلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ)) فقد حَصرَ الدِّينَ فيها.
قال الخطَّابيُّ: النَّصيحةُ كلمةٌ جامعةٌ، معناها حِيازةُ الحظِّ للمَنْصوحِ له،
وقال ابنُ
بَطَّالٍ: والنَّصيحةُ تُسمَّى دِيناً وإسلامًا، والدِّينُ يَقعُ على
العَملِ، كما يَقَعُ على القولِ، وقال: وَهِيَ فَرْضُ كفايةٍ يُجزئُ فيه
مَن قام بِهِ ويَسْقُطُ عن البَاقِينَ، وقال: والنَّصيحةُ لازِمةٌ على
قَدْرِ الطَّاقةِ إذا عَلِمَ النَّاصِحُ أنَّه يَقْبَلُ منه، وأَمِنَ على
نَفسِه المكروهَ، فإنْ خَشِيَ على نَفْسِه أذًى فهُوَ في سَعةٍ. انتهى.
وأَخرجَ الطَّبرانيُّ مِن حديثِ حذيفةَ بنِ اليمانِ عن النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- أنَّه قال: ((مَنْ
لَمْ يَهْتَمَّ بِأَمْرِ المسلِمِينَ فَلَيْسَ مِنْهُمْ، وَمَنْ لَمْ
يُمْسِ وَيُصْبِحْ نَاصِحًا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِكِتَابِهِ
وَلإِمَامِهِ وَلِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ مِنْهُمْ)).
قال
الخطَّابيُّ: فمعنى النَّصيحةِ لِلَّهِ: صحَّةُ الاعتقادِ في وحدانِيَّتِه،
وإخلاصُ النِيَّةِ في عبادتِه، والنَّصيحةُ لكتابِه الإيمانُ بِهِ والعملُ
بما فيه، والنَّصيحةُ لِرَسولِه التَّصديقُ بنبوَّتِه وبذلُ الطَّاعةِ
فيما أَمَرَ بِهِ ونَهى، والنَّصيحةُ لعامَّةِ المسلِمِينَ إرِشادُهم إلى
مصالِحِهم.
وفي صحيحِ مسلمٍ عن النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ
وسلَّمَ- مِن حديثِ أبي هريرةَ -رضي اللَّهُ عنه- قال: قال رسولُ اللَّهِ
-صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((حَقُّ الْمُؤْمِنِ عَلَى الْمُؤْمِنِ سِتٌّ)) فذَكَر منها: ((وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ))،
وفي المسنَدِ عن حكيمِ بنِ أبي يَزيدَ عن أبيه عن النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((إِذَا اسْتَنْصَحَ أَحَدَكُمْ أَخَاهُ فَلْيَنْصَحْ لَهُ)).
(3) قولُه: (ويَعتقِدُونَ معنى قولِه -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-) إلخ: هَذَا الحديثُ رواهُ البُخاريُّ ومسلمٌ مِن حديثِ أبي موسى الأشعريِّ.
قولُه: ((الْمُؤمِنُ لِلْمُؤْمِنِ))
الحديثَ أي: المؤمنُ الإيمانَ الكامِلَ، في هَذَا الحديثِ الحثُّ على
التَّناصُرِ والتَّناصُحِ والتَّعاوُنِ، وقد تكاثَرَت الأحاديثُ بمعنى
هَذَا الحديثِ،
وقال
القاضي -رَحِمَهُ اللَّهُ-: هُوَ تمثيلٌ وتقريبٌ للفَهْمِ، يُريدُ الحثَّ
على التَّعاوُنِ والتَّناصُرِ، فيَجِبُ امتثالُ ما حثَّ عليه،
وقال ابنُ بطَّالٍ: والمعاوَنةُ في أمورِ الآخرةِ، وكذا في الأمورِ المباحَةِ مِن الدُّنْيَا مَندوبٌ إليها،
وقد ثَبتَ في حديثِ أبي هريرةَ أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((واللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ)).
قولُه: (وَشَبَّكَ بين أصابِعِه)
يُستفادُ منه أَنَّ الذي يُريدُ المبالغةَ في بيانِ أقوالِه يُمثِّلُها في
حركاتِه، وليكونَ أَوْقَع في النَّفْسِ. ذَكَره في الفَتحِ.
(4) قولُه: ((مَثلُ المؤمنينَ)) هَذَا الحديثُ أَخرجَهُ البخاريُّ ومسلمٌ وغيرُهما مِن حديثِ النُّعمانِ بنِ بَشيرٍ، وفي روايةٍ لمسلمٍ: ((الْمُسْلِمُونَ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ إِذَا اشْتَكَى عَيْنُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ، وَإِذَا اشْتَكَى رَأْسُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ))، والمرادُ بـ ((المؤمنين)) الإيمانَ الكامِلَ.
قولُه: ((كمَثلِ الجسَدِ الواحِدِ)) أي: بالنِّسبةِ إلى جميعِ أعضائِه، ووَجْهُ التَّشبِيهِ فيه: التَّوافُقُ في التَّعبِ والرَّاحةِ.
قولُه: ((في تَوادِّهِم)) بتشديدِ الدَّالِ، مَصْدرُ تَوادَدَ أي تَحابَبَ وتَراحَمَ، أي تَلاطُفِهم.
قولُه: ((تعاطُفِهم)) عَطفُ بعضِهم على بعضٍ.
قولُه: ((إذا اشْتَكى)) أي: تَأَلَّمَ عُضوٌ مِن أعضاءِ جسَدِه ((تداعى)) أي دَعَى بعضُه بعضاً إلى المشارَكَةِ في الأَلَمِ.
قولُه: ((سائِرُ)) أي: باقي ((والحمَّى)) هي المرَضُ المعروفُ ((والسَّهَرِ)) عَدمُ النَّومِ في اللَّيلِ، قاله في القاموسِ،
فهَذَانِ
الحديثانِ دَلاَّ على أنَّ مِن صفاتِ المؤمنينَ التَّعاطُفُ فيما بينهم
والتَّراحُمُ، ومحبَّةُ بعضِهم لبعضٍ الخيَر، وفي حديثِ أبي هريرةَ عن
النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ، الْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ يَكُفُّ عَنْهُ ضَيْعَتَهُ، وَيَحُوطُهُ مِنْ وَرَائِهِ)).
رواه أبو داودَ، وخَرَّجَه الترمذيُّ بلفظِ: ((إِنَّ أَحَدَكُمْ مِرَآةُ أَخِيهِ، فَمَنْ رَأَى بِهِ أَذًى فَلْيُمِطْهُ عَنْهَ)).
وفيهما
دليلٌ على أَنَّ المؤمِنَ يَسُرُّه ما يَسُرُّ أخاه المؤمنَ، ويَسُوؤهُ ما
يَسوؤُه، ويُحِبُّ له ما يُحِبُّ لنَفْسِه مِن الخيرِ، وهَذَا كُلُّه ممَّا
يدلُّ على سلامةِ القلبِ مِن الغِشِّ والحَسَدِ والحِقْدِ،
وفيها أنَّ مِن صفاتِ المؤمنينَ الاجتماعُ والاتِّفاقُ والتَّعاضُدُ ومُساندَةُ بعضِهم لبعضٍ في غيرِ إثمٍ ولا مكروهٍ،
قال
النَّوويُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: هَذِهِ الأحاديثُ صريحةٌ في تعظيمِ حقوقِ
المسلِمِينَ بعضِهم على بعضٍ، وحثِّهِم على التَّراحُمِ والملاطَفةِ
والتَّعاضُدِ في غيرِ إثمٍ ولا مكروهٍ، وفيه جوازُ التَّشبِيهِ وضَرْبُ
الأمثالِ لتقريبِ المعاني إلى الأفهامِ).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (ويُحَافِظُونَ
على الجَمَاعَاتِ، ويَدِينُونَ بالنَّصِيحَةِ للأُمَّةِ. ويَعْتَقِدُونَ
مَعْنَى قوْلِهِ صلى اللهُ عليه وسلم: ((المؤمنُ للمُؤمن كالبُنْيَانِ
المرصُوصِ يَشُدُّ بعَضُهُ بَعْضاً)). وشِبَّكَ بيْنَ أَصَابعِهِ صلى الله
عليه وسلم.
وقولِهِ صلى الله عليه وسلم: ((مَثَلُ
المُؤمنينَ في تَوَادِّهِمْ وترَاحُمِهمْ وتَعَاطُفِهمَ كمثَلِ الجسدِ إذا
اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بالحُمَّى
والسَّهرِ)). (1) ).
الشرح:
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): ( (1) قَولُهُ: ((وَيُحافِظُونَ عَلَى الجَمَاعَاتِ)).
أيْ: يُحَافظُ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ
عَلَى الجَمَاعَاتِ؛ أَيْ: عَلَى إِقَامَةِ الجَمَاعَةِ فِي الصَّلَوَاتِ
الخَمْسِ؛ يُحَافِظُون عَلَيْهَا مُحَافَظَةً تَامَّةً؛ بِحَيْثُ إِذَا
سَمِعُوا النِّدَاءَ؛ أَجَابُوا وَصَلُّوا مَعَ المُسْلِمِينَ؛ فَمَنْ لَمْ
يُحَافِظْ عَلَى الصَّلَوَاتِ الخَمْسِ؛ فَقَدْ فَاتَهُ مِنْ صِفَاتِ
أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ مَا فَاتَهُ مِنْ هَذِهِ الجَمَاعَاتِ.
وَرُبَّمَا يَدْخُلُ فِي الجَمَاعَاتِ
الاجْتِمَاعُ عَلَى الرَّأي وَعَدَمِ النِّزَاعِ فِيهِ؛ فَإِنَّ هَذَا مَا
أَوْصَى بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ
مُعَاذَ بنَ جَبَلٍ وَأَبَا مُوسَى حِينَ بَعثَهُمَا إِلَى اليَمَنِ،
فَقَالَ: ((يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلا تُنَفِّرَا،
وَتَطَاوَعَا وَلاَ تَخْتَلِفَا)). رَوُاهُ البُخَارِيُّ.
قَوْلُهُ: ((وَيَدِينُونَ بِالنَّصِيحَةِ لِلأُمَّةِ)):
((يَدِينُونَ))؛ أَيْ: يَتَعَبَّدُونَ للهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالنَّصِيحَةِ لِلأُمَّةِ، وَيَعْتَقِدُونَ ذَلِكَ دِيناً.
وَالنُّصْحُ لِلأُمَّةِ قَدْ يَكُونُ الحَامِلَ
عَلَيْهِ غَيْرَ التَّعَبُّدِ للهِ؛ فَقَدْ يَكُونُ الحَامِلَ عَلَيْهِ
الغِيْرَةُ، وَقَدْ يَكُونُ الحَامِلَ عَلَيْهِ الخَوْفُ مِن العُقُوبَاتِ،
وَقَدْ يَكُونُ الحَامِلَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَخَلَّقَ بِالأَخْلَاقِ
الفَاضِلَةِ الَّتِي يُرِيدُ بِهَا نَفْعَ المُسْلِمِينَ… إِلَى غَيْرِ
ذَلِكَ مِن الأَسْبَابِ.
لَكِنْ هَؤُلَاءِ يَنْصَحُونَ لِلأُمَّةِ طَاعَةً
للهِ تَعَالَى وَتَدَيُّناً لَهُ؛ لِقَوْلِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ تَمِيمِ بنِ أَوْسٍ الدَّارِيِّ:
((الدِّينُ النَّصِيحَةُ، الدِّينُ النَّصِيحَةُ)). قَالُوا: لِمَنْ يَا
رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: ((للهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلأَئِمَّةِ
المُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ)).
-فَالنَّصِيحَةُ للهِ صِدْقُ الطَّلَبِ فِي الوُصُولِ إِلَيهِ.
-وَالنَّصِيحَةُ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ صِدْقُ الاتِّبَاعِ لَهُ، وَيَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ الذَّوْدَ
عَنْ دِينِ اللهِ عزَّ وجلَّ، الَّذِي جَاءَ بِهِ رَسُولُهُ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِهَذَا قَالَ: ((وَلِكِتَابِهِ)).
-فَيَنْصَحُ لِلقُرْآنِ بِبَيَانِ أنَّهُ كَلَامُ
اللهِ، وَأنَّهُ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَأنَّهُ يَجِبُ تَصْدِيقُ
خَبَرِهِ وَامْتِثَالِ أَحْكَامِهِ، وَهُوَ كَذَلِكَ يَعْتَقِدُهُ فِي
نَفْسِهِ.
-وَأَئِمَّةُ المُسْلِمِينَ كُلُّ مَن وَلَّاهُ
اللهُ أَمْراً مِن أُمُورِ المُسْلِمِينَ؛ فَهُوَ إِمَامٌ فِي ذَلِكَ
الأَمْرِ؛ فَهُنَاكَ إِمَامٌ عَامٌّ كَرَئيِسِ الدَّوْلَةِ، وَهُنَاكَ
إِمَامٌ خَاصٌّ؛ كَالأَمِيرِ وَالوَزِيرِ وَالمُدِيرِ وَالرَّئِيسِ
وَأئِمَّةِ المَسَاجِدِ وَغَيْرِهِمْ.
-وَعَامَّتُهُمْ؛ يَعْنِي: عَامَّةَ المُسْلِمِينَ، وَهُم التَّابِعُونُ لِلأَئِمَّةِ.
-وَمِن أَعْظَمِ أَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ
العُلَمَاءُ، وَالنَّصِيحَةُ لِعُلَمَاءِ المُسْلِمِينَ هِيَ نَشْرُ
مَحَاسِنِهِمْ، وَالكَفُّ عَن مَسَاوئِهِمْ، وَالحِرْصُ عَلَى إِصَابَتِهِم
الصَّوابَ؛ بِحَيْثُ يُرْشِدُهُمْ إِذَا أَخْطَؤُوا، وَيُبَيِّنُ لَهُم
الخَطَأََ عَلَى وَجْهٍ لَا يَخْدِشُ كَرَامَتَهُمْ، وَلَا يَحُطُّ مِنْ
قَدْرِهِمْ؛ لِأَنَّ تَخْطِئَةَ العُلَمَاءِ عَلَى وَجْهٍ يَحُطُّ مِنْ
قَدْرِهِمْ ضَرَرٌ عَلَى عُمُومِ الإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ العَامَّةَ إِذَا
رَأَوْا العُلَمَاءَ يُضَلِّلُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً؛ سَقَطُوا مِن
أَعْيُنِهِمْ، وَقَالُوا: كُلُّ هَؤُلَاءِ رَادٌّ وَمَرْدُودٌ عَلَيْهِ؛
فَلَا نَدْرِي مَن الصَّوابُ مَعَهُ! فَلَا يَأْخُذُونَ بِقَوْلِ أَيِّ
وَاحِدٍ مِنْهُمْ، لَكِنْ إِذَا احْتَرَمَ العُلَمَاءُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً،
وَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ يُرْشِدُ أَخَاهُ سِرّاً إِذَا أَخْطَأََ،
وَيُعْلِنُ لِلنَّاسِ القَولَ الصَّحِيحَ؛ فَإِنَّ هَذَا مِن أَعْظَمِ
النَّصِيحَةِ لِعُلَمَاءِ المُسْلِمِينَ.
وَقَوْلُ المؤلِّفُ: ((لِلأُمَّةِ)): يَشْمَلُ
الأَئِمَّةَ وَالعَامَّةَ؛ فَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ يَدِينُونَ
بِالنَّصِيحَةِ لِلأُمَّةِ؛ أَئِمَّتِِهِمْ وَعَامَّتِهِمْ.
وَكَانَ مِمَّا يُبَايِعُ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَصْحَابَهُ: ((وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ)).
فَإِذَا قَالَ قَائِلٌ: مَا هُوَ مِيزَانُ النَّصِيحَةِ لِلأُمَّةِ؟
فَالمِيزَانُ هُوَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ
النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؛ بِقَوْلِهِ: ((لَا يُؤْمِنُ
أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ))؛ فَإِذَا
عَامَلْتَ النَّاسَ هَذِِهِ المُعَامَلَةَ؛ فَهَذَا هُوَ تَمَامُ
النَّصِيحَةِ.
فقَبْلَ أَنْ تُعَامِلَ صَاحِبَكَ بِنَوعٍ مِن
المُعَامَلَةِ فَكِّرْ؛ هَلْ تَرْضَى أَنْ يُعَامِلَكَ شَخْصٌ بِهَا؟
فَإِنْ كُنْتَ لَا تَرْضَى؛ فَلَا تُعَامِلْهُ!!
قَولُهُ: ((وَيَعْتَقِدُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((المُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالبُنْيَانِ
المَرْصُوصِ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضاً))، وَشَبَّكَ بَيْنَ
أَصَابِعِهِ)).
شَبَّهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهٌ عَلَيْهِ
وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ المُؤمِنَ لِأَخِيهِ المُؤمِنِ بِالبُنْيَانِ
الَّذِي يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضَاً، حَتَّى يَكُونَ بِنَاءً مُحْكَماً
مُتَمَاسِكاً يَشُدُ بَعْضُهُ بَعْضاً، وَيَقْوَى بِهِ، ثُمَّ قَرَّبَ
هَذَا وَأَكَّدَهُ، فَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ.
فَالأَصَابِعُ المُتَفَرِّقَةُ فِيهَا ضَعْفٌ؛
فَإِذَا اشْتَبَكَتْ؛ قَوَّى بَعْضُهَا بَعْضاً؛ فَالمُؤمِنُ لِلمُؤمِنِ
كَالبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضاً؛ فَالبُنْيَانُ يَمْسِكُ بَعْضُهُ
بَعْضَاً، كَذَلِكَ المُؤمِنُ مَعَ أَخِيهِ إِذَا صَارَ فِي أَخِيهِ
نَقْصٌ؛ فَإِنَّ هَذَا يُكَمِّلُهُ؛ فَهُو مِرْآةُ أَخِِيهِ إِذَا وَجَدَ
فِيهِ النَّقْصَ؛ كَمَّلََهُ إِذَا احْتَاجَ أَخُوهُ؛ سَاعَدَهُ، إِذَا
مَرِضَ أَخُوهُ؛ عَادَهُ… وَهَكَذَا فِي كُلِّ الأَحْوَالِ.
فَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ يَعْتَقِدُونَ هَذَا المَعْنَى وَيُطَبِّقُونَهُ عَمَلاً.
قَولُهُ: ((وَقَولُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: ((مَثَلُ المُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ
وَتَعَاطُفِهِمْ؛ كَمَثَلِ الجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ؛
تَدَاعى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بِالحُمَّى وَالسَّهَرِ)))).
((قَولُهُ)) هُنَا مَعْطُوفٌ عَلَى ((قَوْلِهِ)) فِي الحَدِيثِ السَّابِقِ.
((مَثَلُ المُؤمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ))؛ أَيْ: مَوَدَّةِ بَعْضِِهِمْ بَعْضاً.
((وَتَرَاحُمِهِمْ)): أَيْ رَحْمَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضاً.
((وَتَعَاطُفِهِمْ)): أَيْ عَطْفِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ.
((كَالجَسَدِ الوَاحِدِ))؛ أيْ: أَنَّهُمْ
يَشْتَرِكُونَ فِي الآمَالِ وَالآلَامِ، فَيَرْحَمُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً،
فَإِذَا احْتَاجَ؛ أَزَالَ حَاجَتَهُ، وَيَعْطِفُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ
بِاللَِينِ وَالرِّفْقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ… وَيَودُّ بَعْضُهُمْ بَعْضاً،
حَتَّى إِنَّ الوَاحِدَ مِنْهُمْ إِذَا رَأَى فِي قَلْبِهِ بَغْضَاءَ
لِأَحَدٍ مِن إِخْوَانِهِ المُسْلِمِينَ؛ حَاوَلَ أَنْ يُزِيلَهُ وَأَنْ
يَذْكُرَ مِن مَحَاسِنِهِ مَا يُوجِبُ زَوَالَ هَذِهِ البَغْضَاءِ.
فَالجَسَدُ الوَاحِدُ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ
عُضْوٌ، وَلَوْ مِنْ أَصْغَرِ الأَعْضَاءِ؛ تَدَاعَى لَهْ سَائِرُ
الجَسَدِ؛ فَإِذَا أَوْجَعَكَ أُصْبُعُكَ الخِنْصَرُ الَّذِي هُوَ مِن
أَصْغرِ الأَعْضَاءِ؛ فَإِنَّ الجَسَدَ كُلَّهُ يَتَأَلَّمُ… إِذَا
أَوْجَعَتْكَ الأُذُنُ؛ تَأَلَّمَ الجَسَدُ كُلُّهُ… وَإِذَا أَوْجَعَتْكَ
العَيْنُ؛ تَأَلَّمَ الجَسَدُ كُلُّهُ… وَغَيْرُ ذَلِكَ؛
فَهَذَا المَثَلُ الَّذِي ضَرَبَهُ النَّبِيُّ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَثَلٌ مُصَوِّرٌ لِلْمَعْنَى
وَمُقَرِّبٌ لِهُ غَايَةَ التَّقْرِيبِ).
الروضة الندية للشيخ: زيد بن
عبد العزيز بن فياض رحمه الله
قال الشيخ زيد بن عبد العزيز بن فياض (ت: 1416هـ): (وطريقةُ
أهلِ السُنَّةِ أنَّهُمْ يَدينونَ بالنَّصيحةِ للأمَّةِ لقَولِهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الدِّينُ النَّصِيحَةُ قَالُوا لِمَنْ يا
رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: للهِ ولِكِتابِهِ ولِرَسُولِهِ، وَلِأَئِمَّةِ
المُسْلِمِينَ وَعامَّتِهِمْ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَن أنسِ بنِ مالكٍ أنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ثلاثٌ لَا يُغَلُّ
عَلَيْهِنَّ قَلْبُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِخْلَاصُ الْعَمَلِ للهِ
وَمُنَاصَحَةُ وُلَاةِ الْأُمُورِ وَلُزومُ جَمَاعَةِ المُسْلِمِينَ. وفِي
الصَّحِيحَيْنِ عَن مَعقلِ بنِ يسارٍ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً ثُمَّ
لَمْ يُحِطْهَا بِنَصِيحَتِهِ إِلَّا لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ. قَالَ
الْخَطَّابِيُّ: النَّصيحةُ كَلمةٌ يُعَبَّرُ بها عَن جُملةٍ: هي إرادةُ
الخيرِ للمَنْصوحِ لَهُ.
قَالَ: وأصلُ النُّصحِ فِي اللُّغةِ الخُلوصُ
يُقَالُ: نَصَحْتُ الْعَسَلَ إذا خَلَّصْتُه مِن الشَّمعِ، والنَّصِيحةُ
لعَامَّةِ المُسْلِمِينَ إرْشادُهم إِلَى مَصالحِهم اهـ. وفِي
الصَّحِيحَيْنِ عَن أَبِي مُوسَى الأشْعرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنَ كِالْبُنْيانِ
يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضاً وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ - وفِي آخِرِه.
وكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالساً إذ جَاءهُ
رَجُلٌ يَسألُ حاجَةً أو يَطلبُ حاجَةً أقبلَ علينا بوَجْهِه فقَالَ:
اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا وَيَقْضِي اللهُ عَلَى لِسانِ رسولِهِ مَا شَاءَ.
((قَولُهُ: الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ
كَالْبُنْيَانِ. اللاَّمُ فيه للجِنْسِ والمُرادُ بعضُ الْمُؤْمِنينَ
لِبعضٍ وقَوْلُهُ: يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضاً. بَيانٌ لِوَجْهِ التَّشبِيهِ.
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: والمُعاونةُ فِي أمورِ الآخرةِ وكذا فِي الأمورِ
المُباحةِ مِن الدُّنْيَا مندوبٌ إليها. وقَدْ ثَبتَ حَدِيثُ أَبِي
هُرَيْرَةَ واللهُ فِي عونِ العبدِ ما دامَ العبدُ فِي عونِ أخِيه. قَولُهُ
ثُمَّ شَبَّكَ بينَ أصابِعه هُوَ بيانٌ لوَجْهِ التَّشبيهِ أيضاً - أي
يَشدُّ بَعْضُهُمْ بَعضاً مِثلَ هَذَا الشَّدِّ.
وفِي الْحَدِيثِ الحضُّ عَلَى الخيرِ بالفعلِ
وبالتَّسبُّبِ إِلَيْهِ بكِلِّ وَجْهٍ والشَّفاعةِ إِلَى الكِبيرِ فِي
كَشفِ كُربةٍ ومعونةِ ضعيفٍ. إذ لَيْسَ كلُّ أحدٍ يَقدرُ عَلَى الوصولِ
إِلَى الرَّئيسِ ولا التَّمكُّنِ منه لِيلِحَّ عَلَيْهِ أو يُوضِّحَ لَهُ
مُرادَهُ لِيعرفَ حالَهُ عَلَى وَجْهِه إلا فقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يَحتجِبُ.
وقَالَ الْقُرطُبيُّ: هَذَا تَمثيلٌ يُفيدُ
الحضَّ عَلَى معاونةِ الْمُؤْمِنِ ونُصرتِه. وأنَّ ذَلِكَ أمْرٌ مُتأكَّدٌ
فإنَّ البِناءَ لا يَتِمُّ ولا تَحْصُلُ فائدَتُه إلا بأنْ يكونَ بَعْضُه
يُمسِكُ بَعضاً ويُقوِّيه. وإنْ لم يَكُنْ ذَلِكَ انْحطَّتْ أجْزاؤه
وخَرِبَ بِناؤه وكذَلِكَ الْمُؤْمِنُ لا يَستقِلُّ بِأمْرِ دُنياهِ وديِنه
إلا بمُعاونةِ أخِيه ومُعاضَدِتِه ومُناصرتِه فإنْ لم يَكُنْ ذَلِكَ عَجَزا
عَن القيامِ بكلِّ مَصالحِه وعَن مُقاومَةِ مُضادِّه فحينئذٍ لا يَتِمُّ
انْتظامُ دُنياه ولا ديِنُه ولا آخِرتُه))
وفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن النُّعمانِ بنِ بشيرٍ
أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَثَلُ
الْمُؤْمِنينَ فِي تَوادِّهِمْ وَتَراحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ
الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ
بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى. وفِي رِوايَةٍ لمُسْلِمٍ: المُسْلِمونَ كرَجُلٍ
وَاحِدٍ إِنِ اشْتَكَى عَيْنهِ اشْتَكَى كُلُّهُ وَإِنِ اشْتَكَى رَأْسُهُ
اشْتَكَى كُلُّهُ.)