11 Nov 2008
التصديق بكرامات الأولياء
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ التَّصْدِيقُ بِكَرَامَاتِ الأَوْلِيَاءِ ، وَمَا يُجْرِي اللهُ عَلَى أَيْدِيهِمْ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ فِي أَنْوَاعِ الْعُلُومِ وَالْمُكَاشَفَاتِ ، وَأَنْوَاعِ القُدْرَةِ وَالتَّأْثِيرَاتِ ، كَالْمَأْثُورِ عَنْ سَالِفِ الأُمَمِ فِي سُورَةِ الكَهْفِ وَغَيْرِهَا ، وَعَنْ صَدْرِ هَذِهِ الأُمَّةِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِرِ قرون الأُمَّةِ ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِيهَا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ).
التنبيهات اللطيفة فيما احتوت عليه الواسطية من المباحث المنيفة لابن سعدي رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (ومن
أصولِ أهلِ السُّنةِ التصديقُ بكراماتِ الأولياء، وما يُجْري اللهُ على
أيديهم من خوارِقِ العاداتِ في أنواعِ العُلومِ والمُكاشفاتِ، وأنواع
القُدْرةِ والتأثيراتِ، كالمأثور عن سالفِ الأممِ في سورة الكهف، وغيرها،
وعن صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين وسائِرِ فِرَقِ الأمة، وهي موجودةٌ
فيها إلى يوم القيامةِ([1]) ).
الشرح:
قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): ( ([1]) تواترت نصوص الكتاب والسُّنة والوقائع قديماً وحديثاً على وقوع كرامات الله لأوليائه المتبعين لأنبيائه، وكرامتهم في الحقيقة تفيد ثلاث قضايا:
أعظمها:
الدلالة على كمال قدرة الله ونفوذ مشيئته، وكما أن لله سنناً وأسباباً
تقتضي مسبباتها الموضوعة لها شرعاً وقدراً، فإن لله أيضاً سنناً أخرى لا
يقع عليها علم البشر، ولا تدركها أعمالهم وأسبابهم، فمعجزات الأنبياء،
وكرامات الأولياء، بل وأيام الله وعقوباته في أعدائه الخارقة للعادة كلها
تدل دلالة واضحة أن الأمر كله لله، والتقدير والتدبير كله لله، وأن لله
سنناً لا يعلمها بشر ولا ملك.
فمن ذلك
قصة أصحاب الكهف، والنوم الذي أوقعه الله بهم تلك المدة العظيمة، وقيّض
أسباباً متنوعة لحفظ دينهم وأبدانهم، كما ذكر الله في قصتهم.
ومنها
ما أكرم الله به مريم بنت عمران، وأنه كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد
عندها رزقاً قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من
يشاء بغير حساب، و
كذلك حملها وولادتها بعيسى على ذلك الوصف الذي ذكر الله، وكلامه في المهد، هذا فيه كرامة لمريم ومعجزة لعيسى عليه السلام.
وكذلك
هبته تعالى الولد لإبراهيم من سارة وهي عجوز عقيم على كبره، كما وهب
لزكريا يحيى على كبره وعقم زوجته، وهذه معجزة للنبي، وكرامة لزوجته.
وقد أطال
المؤلف النفَسَ وبسط الكلام في هذا الموضوع في كتابه (الفرقان بين أولياء
الرحمن وأولياء الشيطان) وذكر قصصاً كثيرة متوافرة تدل على هذه القضية.
القضية الثانية: إن وقوع الكرامات للأولياء في
الحقيقة معجزات للأنبياء، لأن تلك الكرامات لم تحصل لهم إلا ببركة متابعة
نبيهم، الذي نالوا به خيراً كثيراً، من جملتها الكرامات.
القضية الثالثة: أن كرامات الأولياء هي من البُشرى المعجلة في الحياة الدُّنيا كما قال تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا} وهي على قول بعض المفسِّرين كل أمر يدل على ولايتهم، وحسن عاقبتهم ومن ذلك الكرامات،
ولم
تزل الكرامات موجودة لم تنقطع في أي وقت وفي أي زمان وقد رأى الناس منها
العجائب والأمور الكثيرة، ولم ينكرها إلا زنادقة الفلاسفة، وليس غريباً
عليهم، فإنه فرع عن جحودهم وإنكارهم لرب العالمين، ولقضائه وقدره،
وقد
أنكرها أيضاً طائفة من أهل الكلام، ظناً منهم أن في إتيانها إبطال لمعجزات
الأنبياء، وهذا وهم باطل أبطله المؤلف في كتابه (النبوات) وغيره من كتبه،
فأهل السُّنة والجماعة يعترفون بكرامات الله لأوليائه إجمالاً وتفصيلاً،
ويثبتون ذلك على وجه التفصيل، كما ورد عن المعصوم صلى الله عليه وسلم وكما
تحقق وقوعه.
ولكن قد
أدخل الناس في الكرامات أموراً كثيرة اخترعوها وافتروها، وخدعوا بها العوام
والسُّذّج من الناس، وأوهموهم بأنها من الكرامات وليست إلا قسماً من
الخرافات والشّعوذات.
وأهل السُّنة أبعد الناس عن التصديق بالخرافات والأكاذيب المفتراة، وأعرف بالطرق التي يتبين بها كذب الكاذبين، وافتراء المفترين).
تعليقات ابن باز على شرح
السعدي على الواسطية
قال الشيخ عبد العزيز بن عبد الله ابن باز (ت: 1420هـ): (ومن أصولِ أهلِ السُّنةِ التصديقُ بكراماتِ الأولياء، وما يُجْري اللهُ على أيديهم من خوارِقِ العاداتِ في أنواعِ العُلومِ والمُكاشفاتِ، وأنواع القُدْرةِ والتأثيراتِ، والمأثور عن سالفِ الأممِ في سورة الكهف، وغيرها([1])، وعن صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين وسائِرِ فِرَقِ الأمة، وهي موجودةٌ فيها إلى يوم القيامةِ.
([1]) " الفرق بين المعجزة والكرامة والأحوال الشيطانية الخارقة للعادة على يد السَّحرة والمشعوذين:
أن المعجزة:
هي ما يجري الله على أيدي الرسل والأنبياء من خوارق العادات التي يتحدون
بها العباد، ويختبرون بها، ويخبرون بها عن الله لتصديق ما بعثهم به،
ويؤيدهم بها سبحانه كانشقاق القمر، ونزول القرآن، فإن القرآن هو أعظم معجزة
لرسول على الإطلاق وحنين الجذع ونبوع الماء من بين أصابعه، وغير ذلك من
المعجزات الكثيرة.
وأما الكرامة: فهي ما يجرى الله على أيدي
أوليائه المؤمنين من خوارق العادات كالعلم والقدرة وغير ذلك كالظلة التي
وقعت على أسيد بن الحضير حين قراءته القرآن. وكإضاءة النور لعباد بن بشر
وأسيد بن حضير حين انصرفا من عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فلما افترقا
أضاء لكل واحد منهما طرف سوطه.
وشروط كونها كرامة: أن يكون من جرت على يده هذه
الكرامة مستقيما على الإيمان ومتابعة الشريعة، فإن كان خلاف ذلك فالجاري
على يده من الخوارق يكون من الأحوال الشيطانية.
ثم ليعلم أن عدم حصول الكرامة لبعض المسلمين لا يدل على نقص إيمانهم لأن الكرامة إنما تقع لأسباب:
منها: تقوية إيمان العبد وتثبيته، ولهذا لم ير كثير من الصحابة شيئا من الكرامات لقوة إيمانهم، وكمال يقينهم.
ومنها: إقامة الحجة على العدو كما حصل لخالد لمَّا أكل السُّمَّ، وكان قد حاصر حصنا فامتنعوا عليه حتى يأكله فأكله وفتح الحصن.
ومثل ذلك: ما جرى لأبي مسلم الخراساني؛ لما ألقاه الأسود العنسي في النار
فأنجاه الله من ذلك لحاجته إلى تلك الكرامة، وكقصة أم أيمن لما خرجت مهاجرة
واشتد بها العطش سمعت حسَّا من فوقها، فرفعت رأسها فإذا هي بدلو من ماء
فشربت منها ثم رفعت.
وقد تكون الكرامة ابتلاء فيسعد بها قوم ويشقى بها آخرون، وقد يسعد بها صاحبها إن شكر، وقد يهلك إن أعجب ولم يستقم" اهـ).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ مُحمَّد خَليل هَرَّاس رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): ((
ومِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ التَّصْدِيقُ بِكَراماتِ الأوْلِياءِ
ومَا يُجْري اللهُ عَلى أَيْديهِمْ مِنْ خَوارِقِ العَادَاتِ في أَنْواعِ
العُلومِ والمُكاشَفاتِ وأَنْواعِ القُدْرَةِ والتَّأْثيراتِ، [
كالمأْثُوِرِ ] عنْ سَالِفِ الأمَمِ في سُورَةِ الكَهْفِ وغَيْرِها، وعَنْ
صَدْرِ هذهِِ الأُمَّةِ مِنَ الصَّحابَةِ والتَّابِعِينَ وسائِرِ [ فِرَقِ ]
الأُمَّةِ، وهِيَ مَوْجودَةٌ فيها إِلى يَوْمِ القِيامَةِ) (1) ).
الشرح:
قال الشيخ محمد خليل هراس (ت: 1395هـ): ( (1)
وقَدْ تَوَاتَرَتْ نصوصُ الكتابِ والسُّنَّةِ، ودلَّتْ الوَقَائِعُ
قدْيمًا وحديثًا على وقوعِ كَرَامَاتِ اللهِ لأوليائهِ المُتَّبِعِينَ
لِهَدْيِ أنَّبيائِهِمْ.
والكَرَامَةُ أمرٌ خارقٌ للعادِةِ، يجريهِ اللهُ على يدِ وليٍّ مِنْ أوليائِهِ؛ مَعُونَةً لهُ على أمرٍ دِينِيٍّ أوْ دُنْيَوِيٍّ.
ويُفَرَّقُ بينَهَا وبينَ المُعْجِزَةِ بأنَّ المعجزةَ تكونُ مَقْرُونَةً بِدَعْوَى الرِّسالَةِ، بخلافِ الكرامَةِ.
ويَتضمَّنُ وقُوعُ هذهِِ الكراماتِ حِكَمًا ومَصَالِحَ كثيرِةً؛ أهمُّْهَا:
أوَّلاً: أنَّهَا كالمعجزَةِ، تدلُّ أعظمَ
دلالةٍ على كمَالِ قُدْرةِ اللهِ، ونفوذِ مشيئتِهِ، وأنَّهُ فعَّالٌ لما
يريدُ، وأنَّ لهُ فوقَ هذهِِ السُّنَنِ والأسْبَابِ المُعْتَادةِ سننًا
أخرى لا يقعُ عليهَا عِلْمُ البشرِ، ولا تُدْرِكُهَا أعمالُهُمْ.
فمِنْ ذلكَ قصَّةُ أصحابِ الكهْفِ، والنَّومُ الذي أَوْقَعَهُ اللهُ بِهِمْ
في تلكَ المدَّةِ الطَّويلَةِ، مَعَ حِفْظِهِ تعالى لِأَبْدَانِهِمْ مِنَ
التَّحَلُّلِ والفَنَاءِ.
ومنهَا ما أكرمَ اللهُ بهِِ مريمَ بنتَ عِمرْانَ مِنْ إيصالِ الرِّزْقِ
إليهَا وهيَ في المِحْرَابِ، حتَّى عَجِبَ مِنْ ذلكَ زكريَّا عليهِ
السَّلامُ، وسَأَلَهَا: {أَنَّى لَكِ هَذَا}.
وكذلكَ حَمْلُهَا بِعِيسَى بِلا أَبٍ، وَوَلادَتُهَا إيَّاهُ، وكَلامُهُ في المَهْدِ، وغَيْرُ ذلكَ.
ثانيًا: أنَّ وُقُوعَ كراماتِ الأولياءِ هوَ في
الحقيقةِ معجزةٌ للأنبياءِ؛ لأنَّ تلكَ الكراماتِ لمْ تَحْصُلْ لَهُمْ
إلاَّ ببركةِ مُتَابَعَتِهِمْ لِأَنبيائِهِمْ، وسَيْرِهِمْ على هَدْيِهِمْ.
ثالثًا: أنَّ كراماتِ الأولياءِ هيَ البُشْرَى
التَّي عَجَّلَهَا اللهُ لهمْ في الدُّنيا؛ فإنَّ المُرَادَ بِالبُشْرَى
كلُّ أَمْرٍ يَدُلُّ على وَلاَيَتِهِمْ وحُسْنِ عَاقِبَتِهِمْ، ومِنْ
جُمْلَةِ ذلكَ الكراماتُ.
هذا؛ ولمْ تزلِ الكراماتُ موجودةً لمْ تَنْقَطِعْ في هذهِِ الأُمَّةِ إلى يومِ القيامَةِ، والمُشَاهَدَةُ أَكْبَرُ دليلاً.
وأَنْكَرَتِ الفَلاسِفَةُ كراماتِ الأولياءِ كمَا أنْكرُوا معجزاتِ
الأنبياءِ، وأنكرتِ الكراماتِ أيضًا المُعتزِلَةُ، وبعضُ الأشَاعِرَةِ؛
بِدَعْوَى الْتِبَاسِهَا بالمعجزَةِ، وهيَ دعوى باطلَةٌ؛ لأنَّ الكرامةَ –
كمَا قلنَا – لا تقترنُ بِدَعْوَى الرِّسَالَةِ.
لكنْ يَجِبُ التَّنبُّهُ إلى أنَّ ما يقومُ بهِ الدَّجَاجلَةُ
والمُشَعْوِذُونَ مِنْ أَصْحَابِ الطُّرُقِ المُبتدِعَةِ الَّذينَ
يُسَمُّونَ أنفُسَهُمْ بِالْمُتَصَوِّفَةِ مِنْ أعمالٍ ومَخَارِيقَ
شَيْطَانِيَّةٍ؛ كدخولِ النَّارِ، وضربِ أنفُسِهِمْ بِالسِّلاحِ،
والإِِمْسَاكَ بالثَّعَابِينَ، والإِخْبَارِ بالغَيْبِ … إلى غيرِ ذلكَ؛
ليسَ مِنَ الكراماتِ في شيءٍ؛ فإنَّ الكرامةَ إنَّمَا تكونُ لأولياءِ اللهِ
بِحَقٍّ، وهؤلاءِ أوْلَياءُ الشَّيطانِ).
التنبيهات السنية للشيخ: عبد العزيز بن ناصر الرشيد رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): ( (ومِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ التَّصْدِيقُ بِكَراماتِ الأوْلِياءِ،
ومَا يُجْري اللهُ عَلى أَيْديهِمْ مِنْ خَوارِقِ العَادَاتِ في أَنْواعِ
العُلومِ والمُكاشَفاتِ، وأَنْواعِ القُدْرَةِ والتَّأْثيراتِ.(1)
[ والمأْثُوِرِ ] عنْ سَالِفِ الأمَمِ في
سُورَةِ الكَهْفِ وغَيْرِها، وعَنْ صَدْرِ هذهِ الأمَّةِ مِن الصَّحابَةِ
والتَّابِعِينَ وسائِرِ [ فِرَقِ ] الأمَّةِ، وهِيَ مَوْجودَةٌ فيها إِلى
يَوْمِ القِيامَةِ).(2)).
الشرح:
قال الشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد (ت: 1408هـ): ( (1) فَصْلٌ قولُه: (التَّصدِيقُ بكراماتِ الأولياءِ)
إلخ أي: مِن أصولِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعَةِ التَّصديقُ بكراماتِ
أوليائِه، كما دلَّ على ذَلِكَ القرآنُ والأحاديثُ الصَّحيحةُ والآثارُ
المتَواتِرةُ عن الصَّحابةِ والتَّابِعينَ وغيرِهم، وإنَّما أنْكرَها أهلُ
البِدَعِ من الجهميَّةِ والمعتزِلةِ ومَن تابَعُهم، مُحَمَّدٌ إبراهيمُ موسى كَلِيمُه ....... فعِيسى فنُوحٌ هم أُولو العَزْمِ فَاعْلَمِ
والكرامةُ
هُوَ ما يُجرِي اللَّهُ على أيدي أوليائِه مِن المؤمنين مِن خوارقِ
العاداتِ، كما جَرى لأُسيدِ بنِ حُضيرٍ في نُزولِ الظُّلَّةِ عليه
باللَّيلِ فيها مِثلُ السَّرْجِ، فأخبَرَ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ
وسلَّمَ- بِذَلِكَ فقال: ((تِلْكَ الْمَلاَئِكَةُ نَزَلَتْ لِسَمَاعِ قِرَاءَتِكَ))
ومِثلُ ما جرى لسَعدِ بن أبي وقَّاصٍ في القادسِيَّةِ، ومُرورِهم على
الماءِ بجُنودِهم، وقد جرى قبل ذَلِكَ نحوُه للعلاءِ بنِ الحَضْرَمِيِّ.
قولُه: (مِن خوارقِ العاداتِ) إلخ أي: أنَّها
خَرَقَت العادَةَ وخالَفَتْ مُقتضاها، وجاءتْ على خِلافِ مألوفِ
الآدَمِيِّينَ، كإحياءِ ميِّتٍ، وانفجارِ الماءِ مِن بين الأصابعِ.
قولُه: (في العلومِ والمُكاشَفاتِ وأنواعِ القدرةِ والتَّأثيراتِ) إلخ أي: أَنَّ الكرامةَ تَنْقَسِمُ إلى أقسامٍ:
منها ما يكونُ في الكَشْفِ والعِلمِ،
ومنها ما يكونُ في القُدرةِ والتَّأثِيرِ،
فما كان مِن بابِ العِلمِ والَكَشْفِ،
فتارةً يَسمعُ ما لا يَسمَعُه غيرُه، أو يَرى ما لا يَراهُ غيرُه يقظةً أو
مَناماً أو نحوَ ذَلِكَ، ويُسمَّى كَشْفاً، ومشاهداتٍ، ومكاشَفاتٍ،
ومخاطَباتٍ، فالسَّماعُ مخاطَباتٌ، والرُّؤيا مشاهداتٌ، والعِلمُ مكاشَفةٌ،
ويُسمَّى ذَلِكَ كُلُّه كَشْفًا ومكاشَفةً، أي كَشَفَ له عنه وأَطْلَعَه
على ما لم يُطْلِعْ عليه غيرَه، فحَصَلَ لقَلْبِه مِن انكشافِ الحقائقِ
التي لا تَخْطُرُ ببالِ غيرِه ما خصَّهُ اللَّهُ به،
فمِن بابِ
الكَشفِ والعِلمِ للأنبياءِ عليهم السَّلامُ إخبارُ نَبِيِّنا عن أخبارِ
الأنبياءِ المتقدِّمِين وأُمَمِهم، وَكَذَلِكَ عن الأمورِ المستقبَلَةِ
كمَمْلَكةِ أُمَّتِه وزوالِ مملكةِ فارسَ والرُّومِ، وقتِالِ التُّرْكِ
ونحوِ ذَلِكَ ممَّا لا يُحْصَى،
وأمَّا القُدرةُ والتَّأثيرُ
فكانشِقاقِ القَمرِ، وَرَدِّ الشَّمسِ ليُوشعَ بنِ نوٍن، وإسرائِه -صلَّى
اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- من المسجِدِ الحرامِ إلى المسجدِ الأقصى، ونَبْعِ
الماءِ بين أصابِعِه غيرَ مرَّةٍ، إلى غيرِ ذَلِكَ ممَّا لا يُحصى،
وأمَّا الخوارِقُ لغيرِ الأنبياءِ مِن بابِ الكَشفِ والعِلمِ،
فمِثلُ قولِ عُمرَ في قصَّةِ ساريةَ، ومِثلِ إخبارِ عُمرَ بمَن يَخْرُجُ
مِن وَلَدِه فيكونُ عادلاً، وقِصَّةُ صاحِبِ مُوسى في عِلمِه بحالِ
الغُلامِ،
وأمَّا مِن بابِ القُدرةِ والتَّأثيرِ
فمِثلُ قصَّةِ الذي عندَه عِلمٌ مِن الكتابِ، وقصةِ أهلِ الكهفِ وقصةِ
مريمَ ونحو ذَلِكَ، انتهى، مُلخَّصاً مِن كلامِ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميةَ،
وشرْطُ
كونِ الخارِقِ كرامةً : أنْ يكونَ مَن جَرَى على يديْهِ صالِحاً مُتَّبِعا
للسُّنَّةِ، فمَن ادَّعى محبَّةَ اللَّهِ وولايَتِه ولم يَتَّبِعْ محمَّدًا
-صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- فليس مِن أوليائِه، بل مِن أعدائِه
وأولياءِ الشَّيطانِ، كما قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}.
قال الحَسَنُ: ادَّعى قومٌ محبَّةَ اللَّهِ فامتَحَنَهُم اللَّهُ بهذه الآيةِ،
ولهَذَا
اتَّفقَ أئمَّةُ الدِّينِ على أَنَّ الرَّجُلَ لو طارَ في الهواءِ ومَشى
على الماءِ لم يَثْبُتْ له ولايةٌ، بل ولا إسلامٌ حتى يُنْظَرَ وُقُوفُه
عندَ الأمرِ والنَّهْيِ الذي بَعثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَه، فولِيُّ اللَّهِ
هُوَ المؤمِنُ المتَّقِي كما قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ}
وسُمِّي وَلِياًّ لموالاتِه لِطاعةِ اللَّهِ، والوليُّ خلافُ العدوِّ،
وهُوَ مُشتَقٌّ مِن الولاءِ، وهُوَ الدُّنُوُّ والقُربُ، فَوَلِيُّ اللَّهِ
مَن والَى اللَّهَ بموافَقَتِه في محبوباتِه والتَّقرُّبِ إليه بمرضاتِه،
والأولياءُ على قِسمَيْنِ: مقتَصِدُونَ ومُقَرَّبونَ،
فالمقتَصِدُونَ الذين يتقرَّبُون إلى اللَّهِ بالفرائضِ مِن أعمالِ القُلوبِ والجوارحِ،
والسَّابِقُون الذين يَتقرَّبونَ إلى اللَّهِ بالنَّوافِلِ بعدَ الفرائضِ،
وأفضلُ أولياءِ اللَّهِ هم أنبياؤه، وأَفضلُ أنبيائِه هُم المرسَلونُ منهم، وأَفضلُ المرسَلينَ هم أُولو العزْمِ، وهم: إبراهيمُ، ونوحٌ، وموسى، وعيسى، ومحمَّدٌ،
قيل: وأَفْضَلُهم مُحَمَّدٌ، ثم إبراهيمُ، ثم موسى، ثم عيسى، ثم نوحٌ، ونَظَمَهُم بعضُهم على هَذَا التَّرتِيبِ فقال:
وأمَّا ما يُجْري اللَّهُ على أيدي الأنبياءِ والرُّسُلِ مِن خوارقِ
العاداتِ يَدُلُّ بها عبادَه على صِدقِ ما ادَّعَوْه مِن النُّبوَّةِ
والرِّسالَةِ، فيُقالُ له: معجزةٌ،
أمَّا إذا كانتْ حالُ مَن ظَهرَت الخارِقةُ على يَدَيهِ غيرَ مُرْضِيَةٍ
فليست بكرامَةٍ، بل هُوَ استدراجٌ وخيالٌ شَيطانيٌّ، ليس مِن حالِ أولياءِ
اللَّهِ وكرامَتِهم،
فمَن زَعَمَ أنَّه يَصِلُ إلى حدٍّ تَسقُطُ عنه التَّكالِيفُ الشَّرْعيَّةُ
أو زَعَمَ أنَّه يَسَعُه الخروجُ مِن شريعةِ محمَّدٍ، كما وَسِعَ الخَضِرَ
الخروجُ عن شريعةِ موسى، أو زَعَم أنَّه محتاجٌ للنَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ
عليهِ وسلَّمَ- في عِلمِ الظَّاهرِ دُونَ عِلمِ الباطِنِ، أو في عِلمِ
الشَّريعةِ دُونَ عِلمِ الحقيقةِ، فهُوَ كافرٌ باللَّهِ العظيمِ مِن
أولياءِ الشَّيطانِ ليسَ مِن أولياءِ الرَّحمنِ، كما ذَكَرَ ذَلِكَ
الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ وغيرُه، إذ قد أَجمعَ العلماءُ على أنَّ شَرْطَ
الكرامَةِ كونُها على يَدِ متَّبِعٍ للشَّرعِ المُطهَّرِ،
وبهَذَا التَّفصيلِ يَظهَرُ الفَرْقُ بينَ المعجزةِ والكرامةِ والأحوالِ الشَّيطانيَّةِ،
فالثَّلاثُ تَجتمِعُ في كونِها خارقةً للعادةِ،
وتمتازُ المعجزةُ في كونِها على يَدِ مُدَّعِي الرِّسالةِ والنُّبوَّةِ،
فيُؤيِّدُ اللَّهُ الصَّادِقينَ بأنواعِ المعجزاتِ والأخلاقِ والأعمالِ
التي تَدُلُّ على صدقِهم، وقد يكونُ منها ما لا يَستطِيعُ المخلوقُ مِثلَه،
كإنزالِ القرآنِ، ونُبوعِ الماءِ مِن بين أصابِعِه، وإبراءِ الأكمهِ
والأبرصِ، وإحياءِ الموتى في حقِّ عيسى، وكعَصا موسى ويدِه،
أمَّا الكرامةُ فهي الخارِقةُ الحاصِلةُ على يدِ المؤمنِ التَّقيِّ
التَّابعِ لشَرعِ مُحَمَّدٍ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- ودِينِه، إمَّا
لتقويةِ إيمانِه أو لحاجةٍ أو لإقامةِ حُجَّةٍ على خَصْمِه المعارِضِ له في
الحقِّ، كما جَرى لسعيدِ بنِ زيدٍ وسعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ لمَّا دَعَوَا
على مَن رَماهُما بِخلافِ الحقِّ، فأجابَ اللَّهُ دَعْوَتَهما،
والكرامةُ في الحقيقةِ مِن معجزاتِ ذَلِكَ النَّبيِّ الذي اتَّبعَهُ ذَلِكَ
المؤمنُ الذي وقعتْ له تِلكَ الكرامةُ، كما قال بعضُ العلماءِ: كُلُّ
كرامةٍ لوليٍّ فهي معجزةٌ لنَبِيِّه؛ لأنها لم تَقَعْ له إلاَّ بسببِ
اتِّباعِه له،
أمَّا إذا وَقَعت الخارِقةُ على يدٍ مُعرضٍ عن الشَّرعِ صادٍّ عن الحقِّ
مُتلَبِّسٍ بالمعاصي فما وقَعَ مِن الأحوالِ الشَّيطانِيَّةِ التي تَصُدُّ
بها الشَّياطِينُ النَّاسَ عن اتِّباعِ الحقِّ، فإنَّ الشَّياطِينَ تَعملُ
كُلَّ حيلةٍ لإضلالِ النَّاسِ وصَدِّهم عن الحقِّ، وتَدخُلُ الأصنامَ
وتُكَلِّمُ عُبَّادَها وتَحْكُم بينهم، وقد تَقْضِي لأوليائِها بعضَ
الحاجاتِ، وقد تَرفَعُ بعضَهم في الهواءِ ثم تُعيدُه، ولا سيِّما في
الرَّقْصِ واللَّعِبِ، وقد تَنْقُلُ بعضَ عُبَّادِها إلى بلدةٍ بعيدةٍ ثم
تُرْجِعُه، أو إلى عرفاتٍ وقتَ الحجِّ ثم تُعيدُه، كما ذَكَرَ ذَلِكَ شيخُ
الإسلامِ ابنُ تيميةَ في كتابِ الفُرقانِ بين أولياءِ الرَّحمنِ وأولياءِ
الشَّيطانِ.
(2) قولُه: (كالمأثورِ عن سالِفِ الأُمَمِ) أي: كالمنقولِ عن سالفِ الأمَمِ، أي متقدِّمِها،
كما ذَكَرَ اللَّهُ تعالى في كتابِه عن حَمْلِ مَريمَ بلا زوجٍ، ووجودِ فاكهةِ الشِّتاءِ عندَها في الصَّيفِ وبالعكس،
وإحضارِ آصفِ بنِ برخيا عَرشَ بَلقِيسَ في لحظةٍ مِن مسيرةِ شهرٍ،
وكما ذَكَرَ -سُبْحَانَهُ- في سورةِ الكهفِ عن أصحابِ
الكهفِ أنَّهم بَقُوا ثلاثَمائةِ سَنةٍ، فإنَّ بقاءَهُم ثلاثَمائةِ سَنةٍ
بلا آفةٍ مِن أعظمِ الخوارقِ،
وكالمأثورِ عن صَدْرِ هَذِهِ الأُمَّةِ، أي أوَّلِها، وصَدْرُ كُلِّ شيءٍ أوَّلُه، أي أوَّلُ هَذِهِ الأمَّةِ مِن الصَّحابةِ،
كما في قصةِ العلاءِ بنِ الحضرمِيِّ وأصحابِه حين مَشَوْا على الماءِ،
وكرُؤيةِ عُمرَ لجيشِ ساريةَ وهُوَ على المنبرِ في المدينةِ
وندائِه لأميرِ الجيشِ وهُوَ بنَهاوندَ: يا ساريةَ الجبلَ، تحذيراً له مِن
العدوِّ مع بُعدِ المسافةِ،
وكشُربِ خالدِ بنِ الوليدِ السُّمَّ مِن غيرِ أنْ يَحصُلَ له منه تَضرُّرٌ به،
وكجَريانِ النِّيلِ بكتابِ أميرِ المؤمنينَ عُمرَ، إلى غيرِ ذَلِكَ مِن كراماتِ الصَّحابةِ التي لا تُحصى.
قولُه: (مِن الصَّحابةِ والتَّابِعينَ)
التَّابِعُ لُغةً: التَّالي، وفي عُرفِ الفُقهاءِ: مَن اجتمَعَ
بالصَّحابِيِّ، أي أنَّ كَراماتِ الأولياءِ لا تَزالُ موجودةً إلى يومِ
القيامةِ في جَميعِ أصنافِ أمَّةِ مُحَمَّدٍ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-
بِشَرْطِها المتقدِّم،
كما رُوِي أَنَّ الحسَنَ تَغَيَّبَ عن الحجَّاجِ فدَخَلُوا
عليه سِتَّ مَرَّاتٍ فدعا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فلم يَرَوْه، ودعا على
بعضِ الخوارجِ كان يُؤذِيه فخَرَّ ميِّتا،
وصِلةُ بنُ أشيمَ مات فَرَسُه وهُوَ في الغَزْوِ، فقال:
اللَّهُمَّ لا تَجْعَلْ لمخلوقٍ عليَّ مِنَّةً، ودعا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ
فأَحْيا له فَرَسَهُ، فلمَّا وَصلَ إلى بَيْتِه قال: يا بُنَيَّ خُذِ
سَرْجَ الفَرسِ فإنَّه عاريةٌ، فَأَخَذَ سَرْجَه فماتَ الفَرسُ،
وجاعَ مرَّةً بالأحوازِ فدعا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ
واستطعَمَه فوقَعَتْ خَلفَه دُوْخلةُ رُطبٍ في ثوبِ حريرٍ فأكَلَ التَّمَرَ
وبَقِيَ الثَّوبُ عند زَوجتِه زمانًا،
وجاءَه الأسدُ وهُوَ يُصلِّي في غَيضةٍ باللَّيلٍ، فلمَّا
سَلَّمَ قال له اطُلبِ الرِّزْقَ مِن غيرَ هَذَا الموضِعِ، فولَّى الأسد
وله زئيرٌ،
وكان سعيدُ بنُ المسيِّبِ في أيامِ الحرَّةِ يسمعُ الأذانَ
مِن قبرِ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- في أوقاتِ
الصَّلواتِ، وكان المسجدُ قد خَلَى فلم يَبْقَ غيرُه،
ولما ماتَ أُويسٌ القرنيِّ وجدوا في ثيابِه أكفانًا لم
تكُنْ معه قبلُ، ووَجَدوا له قَبرًا محفورًا فيه لحْدٌ في صخرةٍ فدَفَنوهُ
فيه وكفَّنُوه في تلكَ الأثوابِ،
وكان عمرُو بنُ عقبةَ بنِ فَرْقدٍ يصلِّي يومًا في شدَّةِ
الحرِّ فأظلَّتْه غمامةٌ، وكان السَّبعُ يَحمِيه وهُوَ يَرعى ركابَ
أصحابِه؛ لأنَّه كان يَشترِطُ على أصحابِه في الغزوِ أنَّه يَخدُمُهم، و
كان مُطرِّفُ بنُ عبدِ اللَّهِ بنِ الشِّخِّيرِ إذا دخَلَ
بيتَهُ سبَّحتْ معه آنِيتُه، وكان هُوَ وصاحبٌ له يسيرانِ في ظُلمةٍ فأضاء
لهما طَرَفُ السَّوْطِ، إلى غيرِ ذَلِكَ مِن كراماتِ أولياءِ اللَّهِ التي
لا تحصى، ذكر ذَلِكَ الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّين في كتابِه الفرقانُ قال:
وأمَّا ما نَعْرِفُه نحن عَيانًا ونَعرِفُه في هَذَا الزَّمانِ فكثيرٌ.
انتهى.
قولُه: (وسائِرُ) أي:
باقي أو جميعُ فِرَقِ الأمَّةِ، ولا يَخْتَصُّ ذَلِكَ في صِنفٍ مُعيَّنٍ،
بل تُوجَدُ الكراماتِ وخوارقُ العاداتِ في جميعِ أصنافِ أمَّةِ مُحَمَّدٍ
-صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- إذا لم يكونوا مِن أهلِ البِدعِ الظَّاهِرةِ
والفُجورِ، فيُوجدُ ذَلِكَ في أهلِ القرآنِ وأهلِ العِلمِ، وفي أهلِ
الجِهادِ، وفي التُّجَّارِ والصُّنَّاعِ والزُّرَّاعِ وغيرِهم ممَّن كان
صالِحا مُتَّبِعاً لسُنَّةِ مُحَمَّدٍ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (فصل ((ومنْ أصولِ أهلِ السنةِ والجماعةِ)) (1)
((ومِنْ أصولِ أهلِ السنةِ: التصديقَ بكراماتِ الأولياءِ)): (2)
ومَا يُجْرِي اللهُ على أيديهم منْ خَوَارِقِ العَادَاتِ في أنْواعِ
العُلُومِ والمُكَاشَفَاتِ وَأنْواعِ القُدْرةِ والتَّأْثيرَاتِ،
كَالْمَأْثُورِ عنْ سَالفِ الأُمَمِ في سورة الكَهْفِ وَغَيْرِهَا، وَعن
صَدْر هذهِ الأُمَّةِ منَ الصَّحَابَةِ والتَّابعينَ وسائرِ قُرُونِ
الأمَّةِ، وهي مَوُجُودَةُ فيها إلى يَومِ القيامَةِ).
الشرح:
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): ( (1)؛ أيْ: مِنْ أُسِسِ عَقِيدَتِهِمْ.
قَولُهُ: ((سَلَامَةُ قُلُوبِهِمْ
وَأَلْسِنَتِهِمْ لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ)): وَلَمْ يَقُلْ: وَأَفْعَالِهِمْ؛ لِأَنَّ الأَفْعَالَ
مُتَعَذِّرَةٌ بَعْدَ مَوتِ الصَّحَابَةِ، حَتَّى لَوْ فُرِضَ أنَّ أًحَداً
نَبَشَ قُبُورَهَمْ وَأَخْرَجَ جُثَثَهُمْ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُؤذِيهِمْ
وَلَا يَضُرُّهُمْ، لَكِنَّ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ مَوْتِ
الصَّحَابَةِ نَحْوَهُمْ هُوَ مَا يَكُونُ فِي القَلْبِ وَمَا يَنْطِقُ
بِهِ اللِّسَانُ.
فََمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ
سَلَامَةُ قُلُوبِهِمْ وَألسنَتِهِمْ لِأَصْحَابِِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ سَلَامَةُ القَلْبِ مِنَ البُغْضِ وَالغِلِّ
وَالحِقْدِ وَالكَرَاهَةِ، وَسَلَامَةُ أَلْسِنَتِهِمْ مِنْ كُلِّ قَولٍ
لَا يَلِيقُ بِهِمْ.
فَقُلُوبُهُمْ سَالِمَةٌ مِنْ ذَلِكَ، مَمْلُوءةٌ
بِالحُبِّ وَالتَّقْدِيرِ وَالتَّعْظِيمِ لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِمْ.
فَهُمْ يُحِبُّونَ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُفَضِّلُونَهُمْ عَلَى جَمِيعِ الخَلْقِ؛
لِأَنَّ مَحَبَّتَهمْ مِنْ مَحَبَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَمَحَبَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مِنْ مَحَبَّةِ اللهِ، وَأَلْسِنَتُهُمْ أَيْضاً سَالِمَةٌ مِنَ السَّبِّ
وَالشَّتْمِ وَاللَّعْنِ وَالتَّفْسِيقِ وَالتَّكْفِيرِ وَمَا أَشْبَهَ
ذَلِكَ مِمَّا يَأتِي بِهِ أَهْلُ البِدَعِ؛ فَإِذَا سَلِمَتْ مِنْ هَذَا؛
مُلِئَتْ مِنَ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ وَالتَّرَضِّي عَنْهُمْ
وَالتَّرَحُّمِ وَالاسْتِغْفَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَذَلِكَ لِلأُمُورِ
التَّالِيَةِ:
أَوَّلاً: أنَّهُمْ خَيْرُ القُرُونِ فِي جَمِيعِ
الأُمَمِ، كَمَا صرَّحَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ: ((خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِين
يَلونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِين يَلونَهُمْ)).
ثَانِياً: أنَّهُمْ هُم الواسِطَةُ بَيْنَ
رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبَيْنَ أُمَّتِهِ؛
فَمِنْهُمْ تَلَقَّت الأُمَّةُ عَنْهُ الشَّرِيعَةَ.
ثَالِثاً: مَا كَانَ عَلَى أَيْدِيهِمْ مِن الفُتُوحَاتِ الوَاسِعَةِ العَظِيمَةِ.
رَابِعَاً: أنَّهُمْ نَشَرُوا الفَضَائِلَ بَيْنَ
هَذِِهِ الأمَّةِ مِن الصِّدْقِ والنُّصْحِ وَالأَخْلَاقِ وَالآدَابِ
الَّتِي لَا تُوجَدُ عِنْدَ غَيْرِهِمْ، وَلَا يَعْرِفُ هَذَا مَنْ كَانَ
يَقْرَأُ عَنْهُمْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ، بَلْ لَا يَعْرِفُ هَذَا إِلَّا
مَنْ عَاشَ فِي تَارِيخِهِمْ وَعَرَفَ مَنَاقِبَهُمْ وَفَضَائِلَهُمْ
وَإِيثَارَهُمْ وَاسْتِجَابَتَهُمْ للهِ وَلِرَسُولِهِ.
فَنَحْنُ نُشْهِدُ اللهََ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى
مَحَبَّةِ هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةِ، وَنُثنِي عَلَيْهِمْ بِأَلْسِنَتِنَا
بِمَا يَسْتَحِقُّونَ، وَنَبْرَأُ مِنْ طَرِيقَيْنِ ضَالَّيْنِ: طَرِيقُ
الرَّوَافِضِ الَّذِينَ يَسُبُّونَ الصَّحَابَةَ وَيُغْلُونَ فِي آلِ
البَيْتِ، وَمِن طَرِيقِ النَّوَاصِبِ الَّذِينَ يَبْغَضُونَ آلَ البَيْتِ.
وَنَرَى أنَّ لِآلِ البَيْتِ إِذَا كَانُوا
صَحَابَةً ثَلَاثَةَ حُقُوقٍ: حَقُّ الصحْبَةِ، وَحَقُّ الإيمَانِ، وَحَقُّ
القَرَابَةِ مِن رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَولُهُ: ((لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)): سَبَقَ أنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّ مَن اجْتَمَعَ بِهِ مُؤمِنَاً بِهِ وَمَاتَ
عَلَى ذَلِكَ، وَسُمِّيَ صَاحِباً؛ لِأنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ بِالرَّسُولِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُؤمِنَاً بِهِ؛ فَقَدْ التَزَمَ
اتِّبَاعَهُ، وَهَذَا مِنْ خَصَائِصِ صُحْبَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أمَّا غَيْرُ الرَّسُولِ؛ فَلَا يَكُونُ الشَّخْصُ
صَاحِباً لَهُ حَتَّى يُلَازِمَهُ مُلَازَمَةً طَوِيلَةً يَسْتَحِقُّ أَنْ
يَكُونَ بِهَا صَاحِباً.
ثُمَّ اسْتَدَلَّ المُؤلِّفُ رَحِمَهُ اللهُ
لِمَوْقِفِ أَهْلِ السُّنَّةِ بِقَوْلِهِ: ((كَمَا وَصَفَهُم اللهُ بِهِ
فِي قَولِهِ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ
رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ
وَلاَ تََجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا
إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ) [الحَشْر: 10])).
هَذِهِ الآيَةُ بَعْدَ آيَتَينِ سَابِقَتَيْنِ
هُمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجرِينَ الَّذِينَ
أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِن اللهِ
وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُم
الصَّادِقُونَ) [الحَشْر: 8]، وَعَلَى رَأْسِ هَؤُلَاءِ المُهَاجِرِينَ
أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ بنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ
اللهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
فَفِي قَولِهِ: (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِن اللهِ
وَرِضْوَاناً): إِخْلَاصُ النِّيَّةِ، وَفِي قَولِهِ: (وَيَنصُرُونَ اللهَ
وَرَسُولَهُ): تَحْقِيقُ العَمَلِ، وَقَولُهُ: (أُولَئِكَ هُمُ
الصَّادِقُونَ)؛ أَيْ: لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ رِيَاءً وَلَا سُمْعَةً،
وَلَكِنْ عَنْ صِدْقِ نِيَّةٍ.
ثُمَّ قَالَ فِي الأَنْصَارِ: (وَالَّذِين
تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيماَنَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَن هَاجَرَ
إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا
وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) [الحَشْر:
9]؛ فَوَصَفَهُم اللهُ بِأَوْصَافٍ ثَلَاثَةٍ: (يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ
إِلَيْهِمْ)، (وَلاَ يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا)،
(وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ).
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ:
(وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا
وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينِ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ…)) الآيَةُ [الحَشْر:
10]، وَهُم التَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ وَتَابِعُوهُمْ إِلِى يَوْمِ
القِيَامَةِ؛ فَقَدْ أثْنوا عَلَيْهِمْ بِالأُخُوَّةِ، وَبِأَنَّهُمْ
سَبَقُوهُمْ بِالإِيمَانِ، وَسَأَلُوا اللهَ أنْ لَا يَجْعَلَ فِي
قُلُوبِهِمْ غِلّاً لَهُمْ؛ فَكُلُّ مَن خَالَفَ فِي ذَلِكَ وَقَدَحَ
فِيهِمْ وَلَمْ يَعْرِفْ لَهُمْ حَقَّهُمْ؛ فَلَيْسَ مِنْ هَؤُلَاءِ
الَّذِينَ قَالَ اللهُ عَنْهُمْ: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ
يِقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا).
وَلَمَّا سُئِلتَ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُا
عَنْ قَوْمٍ يَسُبُّونَ الصَّحَابَةَ؛ قَالَتْ: لَا تَعْجَبُونَ!
هَؤُلَاءِ قَوْمٌ انْقَطََعَتْ أَعْمَالُهُمْ بِمَوتِهِمْ، فَأَحَبَّ اللهُ
أنْ يُجْرِيَ أَجْرَهُمْ بَعْدَ مَوتِهِمْ!!
وَقَولُهُ: (وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا
غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا)، وَلَمْ يَقُلْ: لِلَّذِينَ سَبَقُونَا
بِالإيمَانِ؛ لِيَشْمَلَ هَؤُلَاءِ السَّابِقِينَ وَغَيْرَهُمْ إِلَى يَومِ
القِيَامَةِ.
(رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ):
وَلِرَأْفَتِكَ وَرَحْمَتِكَ نَسْأَلُكَ المَغْفِرَةَ لَنَا
وِلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ.
قَوْلُهُ: ((وَطَاعَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَولِهِ: ((لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي؛ فَوَالَّذِي
نَفْسِي بِيَدِهِ؛ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَباً؛
مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ)))).
((طَاعَةٌ)): مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ:
((سَلَامَةٌ))؛ أَيْ: مِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ:
طَاعَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ… إلخ.
السَّبُّ: هُوَ القَدْحُ وَالعَيْبُ؛ فَإِنْ كَانَ فِي غَيْبَةِ الإِنْسَانِ؛ فَهُوَ غِيبةٌ.
وَقَوْلُهُ: ((أَصْحَابِي))؛ أَيْ: الَّذِينَ
صَحِبُوهُ، وَصُحْبَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا
شَكَّ أنَّهَا تَخْتَلِفُ: صُحْبَةٌ قَدِيمَةٌ قَبْلَ الفَتْحِ، وَصُحْبَةٌ
مُتَأَخِّرَةٌ بَعْدَ الفَتْحِ.
وَالرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
كَانَ يُخَاطِبُ خَالِدَ بنَ الوَلِيدِ حِينَ حَصَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ مَا حَصَلَ مِن المُشَاجَرَةِ فِي بَنِي
جُذَيمةَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَالِدٍ:
((لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي))، وَالعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ.
وَلَا شَكَّ أنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بنِ عَوفٍ
وَأَمْثَالَهُ أَفْضَلُ مِن خَالِدِ بنِ الوَلِيدِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ
مِنْ حَيْثُ سَبْقِهِمْ إِلَى الإِسْلَامِ؛ لِهَذَا قَالَ: ((لَا تَسُبُّوا
أَصْحَابِي))؛ يُخَاطِبُ خَالِدَ بنَ الوَلِيدِ وَأَمْثَالَهُ.
وَإِذَا كَانَ هَذَا بَالنِّسْبَةِ لِخَالِدِ بِنِ الوَلِيدِ وَأَمْثَالِهِ؛ فَمَا بَالُكَ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ بَعْدَهُمْ.
وَقَولُهُ: ((فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ لَوْ أنَّ أَحَدَكُمْ أنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَباً …)) إلخ.
أَقْسَمَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ، وَهُوَ الصَّادِقُ البَّارُّ بِدُونِ قَسَمٍ: ((لَوْ أَنَّ
أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَباً؛ مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ
وَلاَ نَصِيفَهُ)).
((أُحُدٍ)): جَبَلٌ عَظِيمٌ كَبِيرٌ مَعْرُوفٌ فِي المَدِينَةِ.
وَالمُدُّ: رُبْعُ الصَاعِ.
((وَلَا نَصِيفَهُ))؛ أَيْ: نِصْفُهُ. قَالَ
بَعْضُهُمْ: مِنَ الطَّعَامِ؛ لِأَنَّ الَّذِي يُقَدَّرُ بِالمُدِّ
وَالنَّصِيفِ هُوَ الطَّعَامُ، أَمَّا الذَّهَبُ فَيُوزَنُ، وَقَالَ
بَعْضُهُمْ: مِن الذَّهَبِ؛ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ؛ لِأنَّهُ قَالَ:
((لَوْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَباً؛ مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا
نَصِيفَهُ))؛ يَعْنِي: مِنَ الذَّهَبِ.
وَعَلَى كُلِّ حَالٍ؛ فَإِنْ قُلْنََا: مِن
الطَّعَامِ؛ فَمِنَ الطَّعَامِ، وَإِنْ قُلْنَا: مِنَ الذَّهَبِ؛
فَلْيَكُنْ مِنَ الذَّهَبِ، وَنِسْبَةُ المُدِّ أَوْ نِصْفِ المُدِّ مِن
الذَّهَبِ إِلَى جَبَلِ أُحُدٍ مِن الذَّهَبِ لَا شَيءَ.
فَالصَّحَابةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ إِذَا
أَنْفَقَ الِإنْسَانُ مِنَّا مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَباً؛ مَا بَلَغَ مُدَّ
أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ، وَالإِنْفْاقُ وَاحِدٌ، وَالمُنْفِقُ وَاحِدٌ،
وَالمُنْفَقُ عَلَيْهِ وَاحِدٌ، وَكُلُّهُمْ بَشَرٌ، لَكِنْ لَا يَسْتَوي
البَشَرُ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ؛ فَهَؤلَاءِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ
عَنْهُمْ لَهُمْ مِنَ الفَضَائِلِ وَالمَنَاقِبِ وَالإِخْلَاصِ
وَالاتِّبَاعِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِمْ؛ فَلِإِخْلَاصِِهِم العَظِيمِ،
وَاتِّبَاعِهِم الشَّدِيدِ؛ كَانُوا أَفْضْلَ مِن غَيْرِهِمْ فِيمَا
يُنْفِقُونَ.
وَهَذَا النَّهْيُ يَقْتَضِِي التَّحْرِيمَ؛
فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَسُبَّ الصَّحَابَةَ عَلَى العُمُومِ، وَلَا
أَنْ يَسُبَّ وَاحِداً مِنْهُمْ عَلَى الخُصُوصِ؛ فَإِنْ سَبَّهُمْ عَلَى
العُمُومِ؛ كَانَ كَافِراً، بَلْ لَا شَكَّ فِي كُفْرِ مَنْ شَكَّ فِي
كُفْرِهِ، أمَّا إِنْ سَبَّهُمْ عَلَى سَبِيلِ الخُصُوصِ؛ فَيُنْظَرُ فِي
البَاعِثِ لِذَلِكَ؛ فَقَدْ يَسُبُّهُمْ مِنْ أَجْلِ أَشْيَاءَ خَلْقِيَّةٍ
أَوْ خُلُقِيَّةٍ أَوْ دِينيَّةٍ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِن ذَلِكَ حُكْمُهُ.
قَوْلُهُ: ((وَيَقْبَلُونَ))؛ أيْ: أَهْلُ السُّنَّةِ.
قَوْلُهُ: ((مَا جَاءَ بِهِ الكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالإِجْمَاعُ مِن فَضَائِلِهِمْ وَمَرَاتِبِهِمْ)):
الفَضَائِلُ: جَمْعُ فَضِيلَةٍ، وَهُوَ مَا يَفْضُلُ بِهِ المَرْءُ غَيْرَهُ ويُعَدُّ مَنْقَبَةً لَهُ.
وَالمَرَاتِبُ: الدَّرَجَاتُ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ دَرَجَاتٌ وَمَرَاتِبُ؛ كَمَا سَيَذْكُرُهُم المُؤلِّفُ رَحِمَهُ اللهُ.
فَمَا جَاءَ مِن فَضَائِلِ الصَّحَابةِ وَمَرَاتِبِهِمْ؛ فَإِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ يَقْبَلُونَ ذَلِكَ:
-فَمَثلاً يَقْبَلُونَ مَا جَاءَ عَنْهُمْ مِنْ
كَثْرَةِ صَلَاةٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ صِيَامٍ أَوْ حَجٍ أَوْ جِهَادٍ أَوْ
غَيْرِ ذَلِكَ مِن الفَضَائِلِ.
-وَيَقْبَلُونَ مَثَلاً مَا جَاءَ فِي أَبِي
بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حَثَّ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ بِجَمِيعِ
مَالِهِ، وَهَذِهِ فَضِيلَةٌ.
-وَيَقْبَلُونَ مَا جَاءَ بِهِ الكِتَابُ
وَالسُّنَّةُ مِن أنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَانَ وَحْدَهُ
صَاحِبَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هِجْرَتِهِ فِي
الغَارِ.
-وَيَقْبَلُونَ مَا جَاءَ بِهِ النَّصُّ مِن
قَولِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي أَبِي بِكْرٍ:
((إِنَّ مِن أَمَنِّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي مَالِهِ وَصُحْبَتِهِ أَبُو
بَكْرٍ)).
-وَكَذَلِكَ مَا جَاءَ فِي عُمَرَ وَفِي
عُثْمَانَ وَفِي عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، وَمَا جَاءَ فِي
غَيْرِِهِمْ مِن الصَّحَابَةِ مِن الفَضَائِلِ؛ يَقْبَلُونَ هَذَا كُلَّهُ.
-وَكَذَلِكَ المَرَاتِبُ، فَيَقْبَلُونَ مَا
جَاءَ فِي مَرَاتِبِهِمْ؛ فَالخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ هُم القِمَّةُ فِي
هَذِهِ الأُمَّةِ فِي المَرْتَبَةِ، وَأَعْلَاهُمْ مَرْتَبَةً أَبُو
بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ، ثُمَّ عَلِيٌّ؛ كَمَا سَيَذْكُرُهُ
المؤلِّفُ.
قَولُهُ: ((وَيُفَضِّلُونَ مَن أَنْفَقَ مِن قَبْلِ الفَتْحِ – وَهُوَ صُلْحُ الحُدَيْبِيَةِ – وَقَاتَلَ عَلَى مَن أَنْفَقَ مِنْ بَعْدُ وَقاتَلَ)):
وَدَلِيلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَا
يَسْتَوِى مِنْكُمْ مَن أَََنْفَقَ مِن قَبْلِ الفَتْحِ وَقَاتَلَ
أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِن الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ
وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الحُسْنَى) [الحَدِيد: 10].
فَالَّذِينَ أنْفَقُوا وَقَاتَلُوا قَبْلَ صُلْحِ
الحُدَيْبِيَةِ أَفْضَلُ مِن الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ
وَقَاتَلُوا، وَكَانَ صُلْحُ الحُدَيْبِيَةِ فِي السَّنةِ السَّادِسَةِ مِن
الهِجْرَةِ فِي ذِي القِعْدَةِ؛ فَالَّذِينَ أَسْلَمُوا قَبْلَ ذَلِكَ
وَأَنْفَقُوا وَقَاتَلُوا أَفْضَلُ مِن الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِن بَعْدُ
وَقَاتَلُوا.
فَإِذَا قَالَ قَائِلٌ: كَيْفَ نَعْرِفُ ذَلِكَ؟
فَالجَوَابُ: أنَّ ذَلِكَ يُعْرَفُ بِتَارِيخِ
إِسْلَامِهِمْ؛ كَأَنْ نَرْجِعَ إِلَى ((الإِصَابَةِ فِي تَمْيِيزِ
الصَّحَابَةِ)) لِابنِ حَجَرٍ أَوْ ((الاسْتِيعَابِ فِي مَعْرِفَةِ
الأَصْحَابِ)) لِابنِ عَبْدِ البَرِّ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الكُتُبِ
المُؤلَّفةِ فِي الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، وَيُعْرَفُ أنَّ
هَذَا أَسْلَمَ مِن قَبْلُ أَوْ أَسْلَمَ مِنَ بَعْدُ.
وَقَولُ المُؤلِّفِ: ((وَهُوَ صُلْحُ الحُدَيْبِيَةِ)):
-هَذَا أَحَدُ القَولَيْنِ فِي الآيَةِ، وَهُوَ
الصَّحِيحُ، وَدَلِيلُهُ قِصَّةُ خَالِدٍ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ
عَوْفٍ، وَقَوْلُ البَرَاءِ بنِ عَازِبٍ: تَعُدُّونَ أَنْتُم الفَتْحَ
فَتْحَ مَكَّةَ، وَقَدْ كَانَ فَتْحُ مَكَّةَ فَتْحاً، وَنَحْنُ نَعُدُّ
الفَتْحَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ يَومَ الحُدَيْبِيَةِ. رَوَاهُ
البُخَارِيُّ.
-وَقِيلَ: المُرَادُ فَتْحُ مَكَّةَ، وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنَ المُفَسِّرِينَ أَوْ أَكْثَرِهِمْ.
قَوْلُهُ: ((وَيُقَدِّمُونَ المُهَاجِرِينَ عَلَى الأَنْصَارِ)):
-المُهَاجِرُونَ: هُم الَّذِينَ هَاجُرُوا إِلَى
المَدِينَةِ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ
فَتْحِ مَكَّةَ.
-وَالأَنْصَارُ هُم الَّذِينَ هَاجَرَ إلَيْهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي المَدِينَةِ.
وَأَهْلُ السُّنَّةِ يُقَدِّمُونَ المُهَاجِرِينَ
عَلَى الأَنْصَارِ لِأَنَّ المُهَاجِرِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الهِجْرَةِ
وَالنُّصْرَةِ، وَالأَنْصَارُ أتَوْا بِالنُّصْرَةِ فَقَطْ.
-فَالمُهَاجِرُونَ تَرَكُوا أَهْلَهُمْ
وَأَمْوالَهُمْ، وَتَرَكُوا أَوْطَانَهُمْ وَخَرَجُوا إِلَى أَرْضٍ هُمْ
فِيهَا غُرَبَاءُ؛ كُلُّ ذَلِكَ هِجْرَةٌ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ،
وَنُصْرَةٌ للهِ وَرَسُولِهِ.
-وَالأَنْصَارُ أَتَاهُم النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بِلَادِهِم، وَنَصَرُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ مَنَعُوهُ مِمَّا يَمْنَعُونَ
مِنْهُ أَبْنَاءَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ.
وَدَلِيلُ تَقْدِيمِ المُهَاجِرِينَ: قَوْلُهُ
تَعَالَى: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِن المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ
وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِىَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا
عَنْهُ) [التَّوْبَة: 100]؛ فَقَدَّمَ المُهَاجِرِينَ عَلَى الأَنْصَارِ،
وَقَوْلُهُ: (لَّقَد تَّابَ اللهُ عَلَى النَّبِىِّ وَالمُهَاجِرِينَ
وَالأَنْصَارِ) [التَّوْبَة: 117]؛ فَقَدَّمَ المُهَاجِرِينَ، وَقَولُهُ
فِي الفِيءِ: ((لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن
دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ…) [الحَشْر: 8]، ثُمَّ قَالَ: (وَالَّذِينَ
تَبَوَّءُوا الدَّارَ والإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ) [الحَشْر: 9].
قَوْلُهُ: ((وَيُؤمِنُونَ بِأَنَّ اللهَ قَالَ
لِأَهْلِ بَدْرٍ – وَكَانُوا ثَلَاثَمِائةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ-: اعْمَلُوا
مَا شِئْتُمْ؛ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ)).
أَهْلُ بَدْرٍ مَرْتَبَتُهُمْ مِن أَعْلَى مَرَاتِبِ الصَّحَابَةِ.
وَبَدْرٌ مَكَانٌ مَعْرُوفٌ، كَانَتْ فِيهِ
الغَزْوَةُ المَشْهُورَةُ، وَكَانَتْ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِن
الهِجْرَةِ فِي رَمَضَانَ، وَسَمَّى اللهُ تَعَالَى يَوْمَهَا يَومَ
الفُرْقَانِ.
وَسَبَبُهَا أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ أنَّ أَبَا سُفْيَانَ قَدِمَ بِعِيرٍ مِن
الشَّامِ إِلَى مَكَّةَ، فَنَدَبَ أَصْحَابَهُ مِنْ أَجْلِ هَذِهِ العِيرِ
فَقَطْ، فَانْتَدَبَ مِنْهُمْ ثَلَاثَمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلاً،
مَعَهُمْ سَبْعُونَ بَعِيراً وَفَرَسَانِ، وَخَرَجُوا مِن المَدِينَةِ لَا
يُرِيدُونَ قِتَالاً، لَكِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ بِحِكْمَتِهِ جَمَعَ
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدِوِّهِمْ.
فَلَمَّا سَمِعَ أَبُو سُفْيَانَ بِذَلِكَ،
وَأَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَرَجَ إِلَيْهِ
لتَلَقِّي العِيرِ؛ أَخَذَ بِسَاحِلِ البَحْرِ، وَأَرْسَلَ صَارِخاً إِلَى
أَهْلِ مَكَّةَ يَسْتَنْجِدهُمْ، فَانْتَدَبَ أَهْلُ مَكَّةَ لِذَلِكَ،
وَخَرَجُوا بِأَشْرَافِهِمْ وَكُبَرَائِهِمْ وَزُعَمَائِهِمْ، خَرَجُوا
عَلَى الوَصْفِ الَّذِي ذَكَرَ اللهُ عَزَّ وَجلَّ: (بَطَراً وَرِئَاءَ
النَّاسِ وَيَصُّدُونَ عَن سَبِيلِ اللهِ) [الأَنْفَال: 47].
وَفِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ جَاءَهُمْ الخَبَرُ أَنَّ
أَبَا سُفْيَانَ نَجَا بِالعِيرِ، فَتَآمَرُوا بَيْنَهُمْ فِي الرُّجُوعِ،
لَكِنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ: وَاللهِ؛ لَا نَرْجِعُ حَتَّى نَقْدِمَ
بَدْراً، فَنُقِيمَ فِيهَا نَنْحَرُ الجَزُورَ وَنَسْقِي الخُمُورَ
وَتَضْرِبَ عَلَيْنَا القِيَانُ وَتَسْمَعُ بِنَا العَرَبُ؛ فَلَا
يَزَالُونَ يَهَابُونَنَا أَبَداً!!
وَهَذَا الكَلَامُ يَدُلُّ عَلَى الفَخْرِ وَالخُيَلَاءِ وَالاعْتِزَازِ بِالنَّفْسِ، وَلَكِنْ – وَللهِ الحَمْدُ – كَانَ الأَمْرُ عَلَى عَكْسِ مَا يَقُولُ؛ سَمِعَت العَرَبُ بِهَزِيمَتِِهِم النَّكْرَاءِ، فَهَانُوا فِي نُفُوسِ العَرَبِ!!
قَدِمُوا بَدْراً، وَالتَقَت الطَّائِفَتَانِ،
وَأَوْحَى اللهُ تَعَالَى إِلَى المَلَائِكَةِ: (أَنِّى مَعَكُمْ
فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا
الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ
بَنَانٍ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ
اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ، ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ
وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ) [الأَنْفَال: 12-14].
حَصَلَ اللِّقَاءُ بَيْنَ الطَّائفَتْينِ،
وَكَانَتِ الهَزِيمَةُ –وَللهِ الحَمْدُ- عَلَى المُشْرِكِينَ، وَالنَّصْرُ
المُبِينُ لِلمُؤمِنِِينَ، وَانْتَصَرُوا، وَأَسَرُوا مِنْهُمْ سَبْعِينَ
رَجُلاً، وَقَتَلُوا سَبْعِينَ رَجُلاً، مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ
رَجُلاً مِن كُبَرَائِهِمْ وَصَنَادِيدِهِمْ؛ سُحِبُوا، فأُلْقُوا فِي
قَلِيبٍ من قُلُبِ بَدْرٍ خَبِيثَةٍ قَبِيحَةٍ.
ثُمَّ إنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بَعْدَ انْتِهَاءِ الحَرْبِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ رَكِبَ
نَاقَتَهُ، وَوَقَفَ عَلَيْهِمْ يَدْعُوهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ
آبَائِهِمْ: ((يَا فُلانُ ابنَ فُلانٍ! أَيَسُرُّكُمْ أَنَّكُمْ أَطَعْتُم
اللهَ وَرَسُولَهُ؟ فَإِنَّا قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا
حَقّاً؛ فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقّاً)). فَقَالُوا:
يَا رَسُولَ اللهِ! مَا تُكَلِّمُ مِن أَجْسَادٍ لَا أَرْواحَ لَهَا؟
فَقَالَ: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ مَا أَنْتُم بِأَسْمَعَ لِمَا
أَقُولُ مِنْهُمْ)).
وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
وقَفَ عَلَيْهِمْ تَوْبِيخاً وَتَقْرِيعاً وَتَنْدِيماً، وَهُمْ قَدْ
وَجَدُوا مَا وَعَدَ اللهُ حَقّاً؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: (ذَلِكُمْ
فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ) [الأَنْفَال: 14]؛
فَوَجَدُوا النَّارَ مِن حِينِ مَاتُوا وَعَرَفُوا أنَّ الرَّسُولَ حَقٌٌّ،
وَلَكِنْ أَنىَّ لَهُم التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ.
فَأَهْلُ بَدْرٍ الَّذِينَ جَعَلَ اللهُ عَلَى
أَيْدِيهِمْ هَذَا النَّصْرَ المُبِينَ وَالفُرْقَانَ الَّذِي هَابَ
العَرَبُ بِهِ رَسُولَ اللِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَصْحَابَهُ، وَكَانَ لَهُمْ مَنْزِلَةٌ عَظِيمَةٌ بَعْدَ هَذَا
النَّصْرِ؛ اطَّلَعَ اللهُ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ: ((اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ؛
فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ))؛ فَكُلُّ مَا يَقَعُ مِنْهُمْ مِنْ ذُنُوبٍ؛
فِإِنَّهُ مَغْفُورٌ لَهُمْ، بِسَبَبِ هَذِهِ الحَسَنَةِ العَظِيمَةِ
الكَبِيرَةِ الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ تَعَالَى عَلَى أَيْدِيهِمْ.
وَفِي هَذَا الحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أنَّ مَا يَقَعُ مِنْهُمْ مِنَ الكَبَائِرِ مَهْمَا عَظُمَ؛ فَهُوَ مَغْفُورٌ لَهُمْ.
وَفِيهِ بِشَارَةٌ بِأنَّهُمْ لَنْ يَمُوتُوا عَلَى الكُفْرِ؛ لِأنَّهُمْ مَغْفُورٌ لَهُمْ، وَهَذَا يَقْتَضِِي أَحَدَ أَمْرَيْنِ:
-إِمَّا أنَّهُمْ لَا يُمْكِنُ أنْ يَكْفُرُوا بَعْدَ ذَلِكَ.
-وَإِمَّا أَنَّهُمْ إنْ قُدِّرَ أنَّ أَحَدَهُمْ كَفَرَ؛ فَسَيُوفَّقُ لِلتَّوْبَةِ وَالرُّجُوعِ إِلَى الإِسْلَامِ.
وَأيّاً كَانَ؛ فَفِيهِ بِشَارَةٌ عَظِيمَةٌ لَهُمْ، وَلَمْ نَعْلَمْ أنَّ أحَداً مِنْهُمْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: ((وَبِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ النَّارَ
أَحَدٌ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ؛ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَلْ لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا
عَنْهُ، وَكَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ألْفٍ وَأَرْبَعِمِائةٍ)).
أَصْحَابُ الشَّجَرَةِ هُمْ أَصْحَابُ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ.
وَسَبَبُ هَذِهِ البَيْعَةِ أنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِن المَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ
يُرِيدُ العُمْرَةَ، وَمَعَهُ أَصْحَابُهُ وَالهَدْيُ، وَكَانُوا نَحْوَ
أَلْفٍ وَأَرْبَعِمِائةِ رَجُلٍ، لَا يُرِيدُونَ إِلَّا العُمْرَةَ،
فَلَمَّا بَلَغُوا الحُدَيْبِيَةَ، وَهِيَ مَكَانٌ قُرْبَ مَكَّةَ، فِي
طَرِيقِ جَدَّةَ الآنَ، بَعْضُهَا مِن الحِلِّ وَبَعْضُهَا مِن الحَرَمِ،
وَعَلِمَ بِذَلِكَ المُشْرِكُونَ؛ مَنَعُوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ؛ لِأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أنَّهُمْ
أَهْلُ البَيْتِِ وَحُمَاةُ البَيْتِ، (وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ
أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا المُتَّقُونَ) [الأَنْفَال: 34]، وَجَرَتْ بَيْنَهُمْ
وَبينَهُمْ مُفَاوَضَاتٌ.
وَأََرَى اللهُ تَعَالَى مِن آيَاتِهِ فِي هَذِهِ
الغَزْوَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الأَوْلَى تَنَازُلُ الرَّسُولِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِه لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى
ذَلِكَ مِنَ الخَيْرِ وَالمَصْلَحَةِ؛ فَإِنَّ نَاقَةَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَرَكَتْ وَأبَتْ أنْ تَسِيرَ، حَتَّى قَالُوا:
((خَلَأَت القَصْوَاءُ))؛ يَعْنِي: حَرَنَتْ وَأبَت المَسِيرَ. فَقَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُدَافِعاً عَنْهَا:
((وَاللِهِ؛ مَا خَلَأَت القَصْواءُ، وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ، وَلَكِنْ
حَبَسَهَا حَابِسُ الفِيلِ)). ثُمَّ قَالَ: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛
لَا يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللهِ؛ إِلَّا
أَعْطَيْتُهُمْ إيَّاهُا)).
جَرَى التَّفَاوُضُ، وَأَرْسَلَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُثْمَانَ بنَ عَفَّانَ؛ لِأَِِنَّ لَهُ
رَهَطاً بِمَكَّةَ يَحْمُونَهُ؛ أَرْسَلَهُ إِلَى أَهْلِ مَكََّةَ؛
يَدْعُوهُمْ إِلَى الِإسْلَامِ، وَيُخْبِرُهُمْ أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا جَاءَ مُعْتَمِراً مُعَظِّماً
لِلبَيْتِ، فَشَاعَ الخَبَرُ بِأَنَّ عُثْمَانَ قَدْ قُتِلَ، وَكَبُرَ
ذَلِكَ عَلَى المُسْلِمِينَ، فَدَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِلَى البَيْعَةِ؛ يُبَايِعُ أَصْحَابَهُ عَلَى أَنْ يُقَاتِلُوا
أَهْلَ مَكَّةَ الَّذِينَ قَتَلُوا رَسُولَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكانَتِ الرُّسُلُ لَا تُقْتَلُ، فَبَايَعَ
الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَى أنْ يُقَاتِلُوا وَلَا يَفِرُّوا إِلَى المَوتِ.
وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ تَحْتَ شَجَرَةٍ يُبَايِعُ النَّاسَ؛ يَمُدُّ يَدَهُ
فَيُبَايِعُونَهُ عَلَى هَذِهِ البَيْعَةِ المُبَارَكَةِ الَّتِي قَالَ
اللهُ عَنْهَا: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ
اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهمْ) [الفَتْح: 10]، وَكَانَ عُثْمَانُ
رَضِيَ اللهُ عَنْهُ غَائِباً، فَبَايَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِيَدِهِ عَن يَدِ عُثْمَانَ، وَقَالَ بِيَدِهِ اليُمْنَى:
((هَذِهِ يَدُ عُثْمَانَ)).
ثُمَّ تَبَيَّنَ أنَّ عُثْمَانَ لَمْ يُقْتَلْ،
وَصَارَتِ الرُّسُلُ تَأتِي وَتَرُوحُ بَيْنَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقُرَيشٍ، حَتَّى انْتَهَى الأَمْرُ عَلَى الصُلْحِ
الَّذِي صَارَ فَتْحاً مُبِيناً لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ.
هَؤُلَاءِ الَّذِينَ بَايَعُوا قَالَ اللهُ
عَنْهُمْ: (لَّقَدْ رَضِىَ اللهُ عَن المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ
تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ
عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا، وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً
يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيمًا) [الفَتْح: 18-19].
وَكَانَ مِن جُمْلَةِ المُبَايِعِينَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ.
فَوَصَفَهُم اللهُ تَعَالَى بِالإِيمَانِ،
وَهَذِهِ شهَادَةٌ مِن اللهِ عَزَّ وَجَلَّ بِأَنَّ كُلَّ مَن بَايَعَ
تَحْتَ الشَّجَرَةِ؛ فَهُوَ مُؤمِنٌ مَرْضِيٌّ عَنْهُ، وَالنَّبِيُّ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: ((لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ
بَايَعَ تََحْتَ الشَّجَرَةِ))؛ فَالرِّضَى ثَابِتٌ بِالقُرْآنِ،
وَانْتِفَاءُ دُخُولِ النَّارِ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ.
وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: ((لَا يَدْخِلِ النَّارَ أَحَدٌ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ))؛
قَدْ يَقُولُ قَائِلٌ: كَيْفَ نَجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَينَ قَولِهِ تَعَالَى:
(وَإِنْ مِنْكُمْ إِلََّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا
مَّقْضِيّاً) [مَرْيَم: 71]؟
فَالجَمْعُ مِن أَحَدِ وَجْهَيْنِ:
الأوَّلُ: أنْ يُقَالَ: إنَّ المُفَسِّرِينَ
اخْتَلَفُوا فِي المُرَادِ بِالوُرُودِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ
المُرُورُ عَلَى الصِّراطِ؛ لِأَنَّ هَذَا نَوْعُ وُرُودٍ بِلَا شَكٍّ؛
كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ
عَلَيْهِ أُمَّةً مِن النَّاسِ يَسْقُونَ) [القَصَص: 23]، وَمَعْلُومٌ
أنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ وَسْطَ المَاءِ، بَلْ كَانَ حَوْلَهُ وَقَرِيباً
مِنْهُ، وَبِنَاءً عَلَى هَذَا؛ لَا إِشْكَالَ وَلَا تَعَارُضَ أَصْلاً.
وَالوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ مِن المُفَسِّرِينَ
مَن يَقُولُ: المُرَادُ بِالوُرُودِ الدُّخُولُ، وَأنَّهُ مَا مِن
إِنْسَانٍ إِلَّا وَيَدْخُلُ النَّارَ، وَبِنَاءً عَلَى هَذَا القَولِ؛
فَيُحْمَلُ قَولُهُ: ((لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ بَايعَ تَحْتَ
الشَّجَرَةِ)): لَا يَدْخُلُهَا دُخُولَ عَذَابٍ وَإِهَانَةٍ، وَإِنَّمَا
يَدْخُلُهَا تَنْفِيذاً لِلقَسَمِ: (وَإِنْ مِنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا)،
أوْ يُقَالُ: إِنَّ هَذَا مِن بِابِ العَامِّ المَخْصُوصِ بِأَهْلِ
بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ.
وَقَولُهُ: ((الشَّجَرَةِ)): الشَّجَرَةُ هَذِهِ
شَجَرَةُ سِدْرٍ، وَقِيلَ: شَجَرَةُ سَمَرٍ، وَلَا طَائِلَ تَحْتَ هَذِا
الخِلَافِ، كَانَتْ ذاتَ ظلٍّ، فَجَلَسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ تَحْتَهَا يُبَايِعُ النَّاسَ، وَكَانَتْ مَوْجُودَةً فِي عَهْدِ
الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَعَهْدِ أَبِي بَكْرٍ
رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأوَّلِ خِلَافَةِ عُمَرَ، فَلَمَّا قِِيلَ لَهُ:
إنَّ النَّاسَ يَخْتَلِفُونَ إِلَيْهَا – أَيْ: يَأْتُونَهَا- يُصَلُّونَ
عِنْدَهَا؛ أَمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِقَطْعِهَا، فقُطِعَتْ.
قَالَ فِي ((الفَتْحِ)): ((وَجَدْتُهُ عِنْدَ
ابنِ سَعْدٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، لَكِنْ فِي ((صَحِيحِ البُخَارِيِّ))
عَنِ ابْنِِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا؛ قَالَ: رَجَعْنَا مِن العَامِ
المُقْبِلِ –يَعْنِي: بَعْدَ صُلْحِ الحُدَيْبيةِ- فَمَا اجْتَمَعَ مِنَّا
اثْنَانِ عَلَى الشَّجَرَةِ التِي بَايَعْنا تَحْتَهَا، كَانَتْ رَحْمَةً
مِن اللهِ. وَهَكَذَا قَالَ المُسَيِّبُ وَالِدُ سَعِيدٍ: فَلَمَّا
خَرَجْنَا مِن العَامِ المُقْبِلِ؛ نَسَينَاهَا، فَلَمْ نَقْدِرْ
عَلَيْهَا)).
وَهَذَا لَا يُنَافِي مَا ذَكَرَهُ ابنُ حَجَرٍ
عَنِ ابِنِ سَعْدٍ؛ لِأَنَّ نِسْيَانَهَا لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَهَا وَلَا
عَدَمَ تَذَكُّرِهَا بَعْدُ. وَاللهُ أَعْلَمُ.
وَهَذِهِ مِن حَسَنَاتِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ
رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ لِأَننَّا نَظُنُّ أنَّ هَذِهِ الشَّجَرَةَ لَوْ
كَانََتْ بَاقِيَةً إِلَى الآنَ؛ لَعُبِدَتْ مِن دُونِ اللهِ.
قَوْلُهُ: ((وَيَشْهَدُونَ بِالجَنَّةِ لِمَن
شَهِدَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ كَالعَشَرَةِ،
وَثَابِتِ بنِ قَيْسِ بنِ شَمَّاسٍ، وَغَيْرِهِمْ مِن الصَّحَابَةِ)).
((يَشْهَدُونَ))؛ أيْ: أَهْلُ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ.
وَالشَّهَادَةُ بِالجَنَّةِ نَوْعَانِ: شَهَادَةٌ مُعَلَّقَةٌ بِوَصْفٍ، وَشَهَادَةٌ مُعَلَّقَةٌ بِالشَّخْصِ.
-أمَّا المُعَلَّقَةُ بِالوَصْفِ؛ فَأْنْ
نَشْهَدَ لِكُلِّ مُؤمِنٍ أنَّهُ فِي الجَنَّةِ، وَكُلِّ مُتَّقٍ أنَّهُ
فِي الجَنَّةِ؛ بِدُونِ تَعْيِينِ شَخْصٍ أَوْ أَشْخَاصٍ.
وَهَذِهِ شَهَادَةٌ عَامَّةٌ، يَجِبُ عَلَيْنَا
أَنْ نَشْهَدَ بِهَا؛ لِأَنَّ اللهََ تَعَالَى أخْبَرَ بِهِ، فَقَالَ
تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ
جَنَّاتُ النَّعِيمِ، خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللهِ حَقّاً وَهُوَ
العَزِيزُ الحَكِيمُ) [لُقْمَان: 8-9]، وَقَالَ: (وَسَارِعُوا إِلَى
مَغْفِرَةٍ مِن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالأَرْضُ
أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آلِ عِمْرَان: 133].
-وَأمَّا الشَّهَادَةُ المُعَلَّقَةُ بِشَخْصٍ
مُعَيَّنٍ؛ فَأَنْ نَشْهَدَ لِفُلَانٍ أَوْ لِعَدَدٍ مُعَيَّنٍ أَنهَّمْ
فِي الجَنَّةِ.
وَهِذِهِ شَهَادَةٌ خَاصَّةٌ؛ فَنَشْهَدُ لِمَن
شَهِدَ لَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ سَوَاءٌ شَهِدَ
لِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ وَاحِدٍ أَوْ لِأَشْخَاصٍ مُعَيَّنِينَ.
مَثَالُ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ المُؤلِّفُ
بِقَولِهِ: ((كَالعَشَرَةِ))؛ يَعْنِي بِهِمْ: العَشَرَةَ المُبَشَّرِينَ
بِالجَنَّةِ؛ لُقِّبُوا بِهَذَا الاسْمِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعُهُمْ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ، وَهُمْ: الخُلَفَاءُ
الأَرْبَعَةُ: أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَسَعِيدُ
بنُ زَيْدٍ، وَسَعْدُ بنُ أََبِي وَقَّاصٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ
عَوْفٍ، وَطَلْحَةُ بنُ عُبَيْدِ اللهِ، وَالزُّبَيْرُ بنُ العَوَّامِ،
وَأَبُو عُبَيْدَةَ عَامِرُ بنُ الجَرَّاحِ، وَانْظُرْ تَرَاجِمَهُمْ فِي
المُطَوَّلَاتِ.
وَقَدْ جُمِعَ السِّتَّةُ الزَّائِدُونَ عَن الخُلَفَاءِ الأَرْبَعَةِ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ؛ فَاحْفَظْهُ:
سَعيدٌ وَسَعْدٌ وَابْنُ عَوْفٍ وَطَلْحَةٌ وَعَامِرُ فِهْرٍ وَالزُّبَيْرُ المَمْدُوحُ
هَؤُلَاءِ بَشَّرَهُم النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَسَقٍ وَاحِدٍ، فقَالَ: ((أَبُو بَكْرٍ فِي
الجنَّةِ، وَعُمَرُ فِي الجنَّةِ…))، وَلِهَذَا لُقِّبوا بِهَذَا
اللَّقَبِ؛ فَيَجِبُ أنْ نَشْهَدَ أنَّهُمْ فِي الجَنَّةِ لِشَهَادَةِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ.
قَولُهُ: ((وَثَابِتُ بنُ قَيْسِ بنِ شَمَّاسٍ)):
ثَابِتُ بنُ قَيْسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَحَدُ خُطَبَاءِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ جَهُورِيُّ الصَّوْتِ، فَلَمَّا
نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَأيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَاَ تَرْفَعُوا
أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِىِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالقَوْلِ
كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا
تَشْعُرُونَ) [الحُجُرَات: 2]؛ خَافَ أَنْ يَكُونَ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ
لَا يَشْعُرُ، فَاخْتَفَى فِي بَيْتِهِ، فَفَقَدَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ رَجُلاً يَسْأَلُهُ عَن
اخْتِفَائِهِ فَقَالَ: إِنَّ اللهَ أَنْزَلَ قَوْلَهُ: (يَأَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِىِّ
وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن
تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ)، وَأَنَا الَّذِي
أَرْفَعُ صَوْتِي فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حَبِطَ عَمَلِي، أَنَا مِن أَهْلِ النَّارِ!! فَأَتَى الرَّجُلُ
إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرَهُ بِمَا
قَالَ ثَابِتٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((اذْهَبْ إِلَيْهِ؛ فَقُلْ لَهُ إِنَّكَ لَسْتَ مِن أَهْلِ النَّارِ،
وَلَكِنَّكَ مِن أَهْلِ الجنَّةِ))؛ فَبَشَّرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالجَنَّةِ.
قَوْلُهُ: ((وَغَيْرُهُمْ مِن الصَّحَابَةِ)):
مِثْلُ أُمَّهَاتِ المُؤمِنِينَ؛ لِأَنَّهُنَّ فِي دَرَجَةِ الرَّسُولِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْهُمْ: بِلَالٌ، وَعَبْدُ اللهِ
ابنُ سَلَّامٍ، وَعُكَاشَةُ بنُ مِحْصَنٍ، وَسَعْدُ بنُ مُعَاذٍ؛ رَضِيَ
اللهُ عَنْهُمْ.
قَوْلُهُ: ((وَيُقِرُّونَ بِمَا تَوَاتَرَ بِهِ
النَّقْلُ عَنْ أَمِيرِ المُؤمِنِينَ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ
اللهُ عَنْهُ وَغَيْرِهِ؛ مِن أنَّ خَيْرَ هَذِهِ الأُمَّةِ بَعْدَ
نَبِيَّهَا: أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ)).
التَّوَاتُرُ: خَبَرٌ يُفِيدُ العِلْمَ اليَقِينِيَّ، وَهُوَ الَّذِي نََقَلَهُ طَائِفَةٌ لَا يُمْكِنُ تَوَاطُؤهُمْ عَلَى الكَذِبِ.
فَفِي ((صَحِيحِ البُخَارِيِّ)) وَغَيْرِهِ عَنْ
عَبْدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا؛ قَالَ: كُنَّا نُخَيِّرُ
بَيْنَ النَّاسِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛
فَنُخَيِّرُ أَبَا بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ، ثُمَّ عُثْمَانَ
بَنَ عَفَّانَ.
وَفِي ((صَحِيحِ البُخَارِيِّ)) أَيْضاً أنَّ
مُحَمَّدَ بنَ الحَنَفِيَّةِ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي: أيُّ النَّاسِ خَيْرٌ
بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ: أَبُو
بَكْرٍ. قُلْتُ: ثُمَّ مَن؟ قَالَ: ثُمَّ عُمَرُ. وَخَشيِتُ أَنْ يَقُولَ:
عُثْمَانُ؛ قُلْتُ: ثُمَّ أَنْتَ؟ قَالَ: ما أَنَا إِلَّا رَجُلٌ مِن
المُسْلِمِينَ.
فَإِذَا كَانَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ
يَقُولُ وَهُوَ فِي زَمَنِ خِلَافَتِهِ: إنَّ خَيْرَ هَذِهِ الأُمَّةِ
بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ؛ فَقَد انْدَحَضَتْ حُجَّةُ
الرَّافِضَةِ الَّذِينَ فَضَّلُوهُ عَلَيْهِمَا.
قَوْلُهُ: ((وَغَيْرُهُ))؛ يَعْنِي: غَيْرُ عَلِيٍّ مِن الصَّحَابِةِ وَالتَّابِعِينَ.
وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الأئِمَّةِ.
قَالَ الإِمَامُ مَالِكٌ: مَا رَأَيْتُ أَحَداً يَشُكُّ فِي تَقْدِيمِهِمَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَمْ يَخْتَلِف الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ فِي تَقْدِيمِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ.
ومَن خَرَجَ عَنْ هَذَا الإِجْمَاعِ؛ فَقَد اتبَّعَ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤمِنِينَ.
قَولُهُ: ((وَيُثَلِّثُونَ بِعُثْمَانَ، وَيُرَبِّعُونَ بِعَلِيٍّ؛ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ؛ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الآثَارُ)).
((يُثَلِّثُونَ))؛ يَعْنِي: أَهْلُ السُّنَّةِ؛ أَيْ: يَجْعَلُونَ عُثْمَانَ هُوَ الثَّالِثُ.
((وَيُرَبِّعُونَ بِعَلِيٍّ))؛ أيْ: يَجْعَلُونَ عَلِيّاً هُوَ الرَّابِعُ.
وَعَلَى هَذَا؛ فَأَفْضَلُ هَذِهِ الأُمَّةِ
هَؤُلَاءِ الأَرْبعَةِ: أَبْو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، وَهَذَا
بِالإِجْمَاعِ، ثُمَّ عُثْمَانُ، ثُمَّ عَلِيٌّ.
اسْتَدَلَّ المُؤلِّفُ لِهَذَا التَّرْتِيبِ بِدَلِيلَيْنِ:
الأوَّلُ: قَوْلُهُ: ((كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الآثَارُ)): وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ شَيءٍ مِنْهَا.
وَالثَّانِي: قَولُهُ: ((وَكَمَا أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى تَقْدِيمِ عُثْمَانَ فِي البَيْعَةِ)):
فَصَارَ فِي تَقْدِيمِِ عُثْمَانَ عَلَى عَلِيٍّ
رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا آثارٌ نَقْلِيَّةٌ، وَفِيهِ أَيْضاً دَلِيلٌ
عَقْلِيٌّ، وَهُوَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى تَقْدِيمِِ عُثْمَانَ فِي
البَيْعَةِ؛ فَإِنَّ إِجْمَاعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أنَّ
عُثْمَانَ أَفْضَلُ مِن عَلِيٍّ، وَهُوَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ حِكْمَةَ اللهِ
عَزَّ وَجَلَّ تَأْبَى أنْ يُولِّيَ عَلَى خَيْرِ القُرُونِ رَجُلاً
وَفِيهِ مَن هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ؛ كَمَا جَاءَ فِي الأَثَرِ: ((كَمَا
تَكُونُونَ يُوَلَّى عَلَيْكُمْ))؛ فَخَيْرُ القُرُونِ لَا يُوَلِّي اللهُ
عَلَيْهِمْ إِلَّا مَن هُوَ خَيْرُهُمْ.
قَوْلُهُ: ((مَعَ أنَّ بَعْضَ أَهْلِ السُّنَّةِ
كَانُوا قَد اخْتَلَفُوا فِي عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا
بَعْدَ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى تَقْدِيمِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ؛ أيُّهُمَا
أَفْضَلُ؟ فَقَدَّمَ قَومٌ عُثْمَانَ، وَسَكَتُوا، أَوْ رَبَّعُوا
بِعَلِيٍّ)):
فَيَقُولُونَ: أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ، وَيَسْكُتُونَ، أَوْ يَقُولُونَ: ثُمَّ عَلِيٌّ.
قَالَ المُؤلِّفُ: ((وَقَدَّمَ قَوْمٌ عَليّاً))؛
فَقَالُوا: أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، ثُمَّ عَلِيٌّ، ثُمَّ عُثْمَانُ.
وَهَذَا رَأْيٌ مِن آرَاءِ أَهْلِ السُّنَّةِ.
قَالَ المُؤلِّفُ: ((وَقَوْمٌ تَوَقَّفُوا))؛
فَقَالُوا: أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ. وَتَوَقَّفُوا أيُّهُمَا أَفْضَلُ:
عُثْمَانُ أَوْ عَلِيٌّ؟ وَهَذَا غَيرُ الرَّأيِ الأوَّلِ.
فَالآرَاءُ أَرْبَعَةٌ:
الرَّأيُ المَشْهُورُ: أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ، ثُمَّ عَلِيٌّ.
الرَّأيُ الثَّانِي: أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ، ثُمَّ السُّكُوتُ.
الرَّأيُ الثَّالِثُ: أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، ثُمَّ عَلِيٌّ، ثُمَّ عُثْمَانُ.
الرَّأيُ الرَّابِعُ: أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ
عُمَرُ، ثُمَّ نَتَوَقَّفُ أيُّهُمَا أَفْضَلُ: عُثْمَانُ أَوْ عَلِيٌّ؛
فَهُمْ يَقُولُونَ: لَا نَقُولُ: عُثْمَانُ أَفْضَلُ، وَلَا عَلِيٌّ
أَفْضَلُ، لَكِنْ لَا نَرَى أَحَداً يَتَقَدَّمُ عَلَى عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ
فِي الفَضِيلَةِ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ.
قَالَ المُؤلِّفُ: ((لَكِن اسْتَقَرَّ أَمْرُ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى تَقْدِيمِِ عُثْمَانَ ثُمَّ عَلِيٍّ)):
هَذَا الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ أَمْرُ أَهْلِ
السُّنَّةِ؛ فَقَالُوا: أَفْضَلُ هَذِهِ الأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا:
أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ، ثُمَّ عَلِيٌّ؛ عَلَى
تَرْتيِبِهِمْ فِي الخِلَافَةِِ. وَهُوَ الصَّوَابُ؛ كَمَا سَبَقَ
دَلِيلُهُ.
قَوْلُهُ: ((وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ المَسْأَلَةُ –
مَسْأَلَةُ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ – لَيْسَتْ مِن الأُصُولِ الَّتِي
يُضَلَّلُ المُخَالِفُ فِيهَا عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ السُّنَّةِ)).
يَعْنِي: المُفَاضَلَةَ بَيْنَ عُثْمَانَ
وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا لَيْسَتْ مِن أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ
الَّتِي يُضَلَّلُ فِيهَا المُخَالِفُ؛ فَمَن قَالَ: إِنَّ عَلِيّاً
أَفْضَلُ مِن عُثْمَانَ؛ فَلَا نَقُولُ: إنَّهُ ضَالٌّ، بَلْ نَقُولُ:
هَذَا رَأيٌ مِن آرَاءِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَلَا نَقُولُ فِيْهِ شَيْئاً.
قَوْلُهُ: ((لَكِنَّ الَّتِي يُضَلَّلُ فِيهَا
مَسْأَلَةُ الخِلَافَةِ)): فَيَجِبُ أَنْ نَقُولَ: الخَلِيفَةُ بَعْدَ
نَبِيِّنَا فِي أُمَّتِهِ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ،
ثُمَّ عَلِيٌّ. وَمَن قَالَ: إنَّ الخِلَافَةَ لِعَلِيٍّ دُوْنَ هَؤُلَاءِ
الثَّلَاثَةِ؛ فَهُو ضَالٌّ، وَمَن قَالَ: إِنَّهَا لِعَلِيٍّ بَعْدَ أَبِي
بَكْرٍ وَعُمَرَ؛ فَهُوَ ضَالٌّ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ
الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ.
وَلِهَذَا قَالَ المُؤلِّفُ: (وَذَلِِكَ أنَّهُمْ
يُؤمِنُونَ أَنَّ الخَلِيفَةَ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ، ثُمَّ
عَلِيٌّ)).
وَهَذَا مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ فِي مَسْأَلَةِ الخِلَافَةِ.
قَولُهُ: ((وَمَن طَعَنَ فِي خِلَافَةِ أَحَدٍ مِن هَؤُلَاءِ؛ فَهُو أَضَلُّ مِن حِمَارِ أَهْلِِهِ)).
الَّذِي يَطْعَنُ فِي خِلَافَةِ أَحَدٍ مِن
هَؤُلَاءِ، وَيَقُولُ: إِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الخِلَافَةُ! أََوْ: إنَّهُ
أَحَقُّ مِمَّن سَبَقَهُ! فَهُوَ أَضَلُّ مِن حِمَارِ أَهْلِهِ.
وَعَبَّرَ المُؤلِّفُ بِهَذَا التَّعْبِيرِ؛
لِأنَّهُ تَعْبِيرُ الِإمَامِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللهُ، وَلَا شَكَّ أنَّهُ
أَضَلُّ مِن حِمَارِ أَهْلِهِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ الحِمَارُ؛ لِأَنَّهُ
أَبْلَدُ الحَيَوَانَاتِ عَلَى الإِطْلَاقِ؛ فَهُوَ أَقَلُّ الحَيَوَانَاتِ
فَهْماً؛ فَالطَّعْنُ فِي خِلَافَةِ أَحَدٍ مِن هَؤُلَاءِ أَوْ فِي
تَرْتِيبِهِ طَعْنٌ فِي الصَّحَابَةِ جَمِيعاً.
فَيَجِبُ عَلَينْا أَنْ نَعْتَقِدَ بِأَنَّ
الخَلِيفَةَ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو
بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ، ثُمَّ عَلِيٌّ، وَأنَّهُمْ فِي
أََحَقِّيَّةِ الخِلَافَةِ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ، حَتَّى لَا نَقُولَ:
إِنَّ هُنَاكَ ظُلْماً فِي الخِلَافَةِ؛ كَمَا ادَّعَتْهُ الرَّافِضَةُ
حِينَ زَعَمُوا أنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَالصَّحَابَةَ
كُلَّهُمْ ظَلَمَةٌ؛ لِأَنَّهُمْ ظَلَمُوا عَلِيَّ بنَ أَبِي طَالِبٍ؛
حَيْثُ اغْتَصَبُوا الخِلَافَةَ مِنْهُ.
أَمَّا مَن بَعْدَهُمْ؛ فَإِنَّنَا لَا
نَسْتَطِيعُ أَنْ نَقُولَ: إِنَّ كُلَّ خَلِيفَةٍ اسْتَخْلَفَهُ اللهُ
عَلَى النَّاسِ؛ فَهُوَ أَحَقُّ بِالخِلَافَةِ مِن غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ مَن
بَعْدَهُمْ لَيْسُوا فِي خَيْرِ القُرُونِ، بَلْ حَصَلَ فيِهِمْ مِن
الظُّلْمِ وَالانْحِرَافِ وَالفُسُوقِ مَا اسْتَحَقُّوا بِهِ أَنْ يُوَلَّى
عَلَيْهِمْ مَن لَيْسَ أَحَقَّ بِالخِلَافَةِ مِنْهُمْ؛ كَمَا قَالَ اللهُ
تَعَالَى: (وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا
كَانُوا يَكْسِبُونَ) [الأَنْعَام: 129].
وَاعْلَمْ أنَّ التَّرْتِيبَ فِي الأَفْضَلِيَّةِ
عَلَى مَا سَبَقَ لَا يَعْنِي أَنَّ مَن فَضَلَ غَيْرَهُ؛ فَإِنَّهُ
يَفْضُلُهُ فِي كُلِّ شَيءٍ، بَلْ قَدْ يَكُونُ لِلْمَفْضُولِ فَضِيلَةٌ
لَمْ يُشَارِكْهُ فِيهَا أَحَدٌ، وَتَمَيُّزُ أَحَدِ هَؤُلَاءِ
الأَرْبَعَةِ أَوْ غَيْرِِهِمْ بِمَيْزَةٍ يَفْضُلُ بِهَا غَيْرَهُ لَا
يَدُلُّ عَلَى الأَفْضَلِيَّةِ المُطْلَقَةِ؛ فَيَجِبُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ
الإِطْلَاقِ وَالتَّقيِيدِ.
قَولُهُ: ((وَيُحِبُّونَ أَهْلَ بَيْتِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَتَولَّوْنَهُمْ)).
أَيْ: وَمِن أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ
وَالجَمَاعَةِ أنَّهُمْ يُحِبُّونَ آلَ بَيْتِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ يُحِبُّونَهُمْ لِأَمْرَينِ: لِلإِيمَانِ،
وَلِلْقَرَابَةِ مِن رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا
يَكْرَهُونَهُمْ أَبَداً.
وَلَكِنْ لَا يَقُولُونَ كَمَا قَالَ
الرَّافِضَةُ: كُلُّ مَن أَحَبَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ؛ فَقَدْ أَبْغَضَ
عَلِيّاً!! وَعَلَى هَذَا؛ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ نُحِبَّ عَلِيّاً حَتَّى
نَبْغَضَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ!! وَكَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ
أَعْدَاءٌ لِعَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ!! مَعَ أنَّهُ قَدْ تَوَاتَرَ
النَّقْلُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُثْنِي
عَلَيْهِمَا عَلَى المِنْبَرِ.
فَنَحْنُ نَقُولُ: إِننَّا نُشْهِدُ اللهَ عَلَى
مَحَبَّةِ آلِ بَيْتِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَقَرَابَتِهِ؛ نُحِبُّهُمْ لِمَحَبَّةِ اللهِ وَرَسُولِهِ.
-وَمِن أَهْلِ بَيْتِِهِ أَزْوَاجُهُ بِنَصِّ
القُرْآنِ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: (يَأَيُّهَا النَّبِىُّ قُلْ
لِأََزْواَجِكَ إِنْ كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحَيَاةَ الدُّنْيا وَزِينَتَهَا
فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً، وَإِنْ
كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ
أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً، يَانِسَاءَ
النَّبِىِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفاَحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا
العَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً، وَمَن
يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُّؤْتِهَا
أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيمًا، ياَنِسَاءَ
النَّبِيَّ لَستُنَّ كَأَحَدٍ مِن النِّسَاءِ إِن اتَّقَيتُنَّ فَلَا
تَخْضَعْنَ بِالقَولِ فَيَطْمَعَ الَّذِى فِى قَلبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ
قَوْلاً مَّعرُوفًا وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ
الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَءاَتِينَ الزَّكَاةَ
وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُم
الرِّجْسَ أَهْلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) [الأَحْزَاب: 28 –
33]؛ فَأَهْلُ البَيْتِ هُنَا يَدْخُلُ فِيهَا أَزْوَاجُ الرَّسُولِ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِلَا رَيْبٍ.
وَكَذَلِكَ يَدْخُلُ فِيهِ قَرَابَتُهُ؛
فَاطِمَةُ وَعَلِيٌّ وَالحَسَنُ وَالحُسَينُ وَغَيْرُهُمْ كَالعَبَّاسِ بنِ
عَبْدِ المُطَّلِبِ وَأَبْنَائِهِ.
فَنَحْنُ نُحِبُّهُمْ لِقَرَابَتَهِم مِن رَسُولِ اللهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَلإِيمَانِهِمْ بِاللهِ.
فَإِنْ كَفَرُوا؛ فَإِنَّنَا لَا نُحِبُّهُمْ،
وَلَوْ كَانُوا مِن أَقَارِبِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ؛ فَأَبُو لَهَبٍ عَمُّ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ لَا يَجُوزُ أَنْ نُحِبَّهُ بِأَيِّ حَالٍ مِن الأَحْوَالِ،
بَلْ يَجِبُ أَنْ نَكْرَهَهُ لِكُفْرِهِ وَلِإيذَائِهِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَذلِكَ أبُو طَالِبٍ؛ يَجِبُ عَلَيْنَا أنْ
نَكْرَهَهُ لِكُفْرِهِ، لَكِنْ نُحِبُّ أَفْعَالَهُ الَّتِي أَسْدَاهَا
إِلَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِن الحِمَايَةِ
وَالذَّبِّ عَنْهُ.
قَالَ المُؤلِّفُ: ((وَيَتَولَّونَهُمْ))؛ أَيْ:
يَجْعَلُونَهُمْ مِن أَوْلِيَائِهِمْ، وَالوَلِيُّ: يُطْلَقُ عَلَى عِدَّةِ
مَعَانٍ؛ يُطْلَقُ عَلَى الصَّدِيقِ، وَالقَرِيبِ، وَالمُتَولَّي
لِلأَمْرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِن المُوَالَاةِ وَالنصْرَةِ. وَهُنَا
يَشْمَلُ النُّصْرَةَ وَالصَّدَاقَةَ وَالمَحَبَّةَ.
قَوْلُهُ: ((وَيَحْفَظُونَ فِيهِمْ وَصِيَّةَ
رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ حَيْثُ قَالَ يَومَ
غَدِيرِ خُمٍّ: ((أُذَكِّرُكُمْ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي)) )).
((وَصِيَّةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ))؛ أَيْ: عَهْدُه الَّذِي عَهِدَ بِهِ إِلَى أُمَّتِهِ.
وَ((يَومَ غَدِيرِ خُمٍّ)): هُوَ اليومُ
الثَّامِنَ عَشَرَ مِن ذِي الحِجَّةِ. وَهَذَا الغَدِيرُ يُنْسَبُ إِلَى
رَجُلٍ يُسَمَّى (خُمٌّ)، وَهُوَ فِي الطَّرِيقِ الَّذِي بَيْنَ مَكَّةَ
وَالمَدِينَةِ، قَرِيبٌ مِن الجُحْفَةِ، نَزَلَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيهِ مَنْزِلاً فِي رُجُوعِهِ مِن حَجَّةِ
الوَدَاعِ، وَخَطَبَ النَّاسَ، وَقَالَ: ((أُذَكِّرُكُم اللهَ فِي أَهْلِ
بَيْتِي))؛ ثَلَاثًا؛ يَعْنِي: اذْكرُوا اللهََ؛ اذْكُرُوا خَوْفَهُ
وَانْتِقَامَهُ إِنْ أَضْعْتُمْ حَقَّ آلِ البَيْتِ، وَاذْكُرُوا
رَحْمَتَهُ وَثَوَابَهُ إِنْ قُمْتُمْ فِي حَقِّهِمْ.
قَوْلُهُ: ((وَقَالَ أَيْضاً لِلعَبَّاسِ عَمِهِ
وَقَد اشْتَكَى إِلَيْهِ أَنَّ بَعْضَ قُرَيشٍ يَجْفُو بِنِي هَاشِمٍ؛
فَقَالَ: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ لَا يُؤْمِنُونَ حتَّى
يُحِبُّوكُمْ للهِ وَلِقَرابَتي)))).
((أَيضاً)): مَصْدَرُ آضَ يَئيضُ؛ أيْ: رَجَعَ، وَهُوَ مَصْدَرٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، وَالمَعْنَى: عَوْداً عَلَى مَا سَبَقَ.
((يَجْفُو)): يَتَرَفَّعُ وَيَكْرَهُ.
((هَاشِمٌ)): هُوَ جَدُّ أَبِي الرَّسُولِ صَلَّى اللهَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ.
فَأَقْسَمَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُمْ لَا يُؤمِنُونَ، أَيْ: لَا يَتِمُّ إِيمَانُهُمْ؛ حَتَّى
يُحِبُّوكُمْ للهِ، وَهَذِهِ المَحَبَّةُ يُشَارِكُهُمْ فِيهَا غَيْرُهُمْ
مِن المُؤمِنِينَ؛ لِأَنَّ الوَاجِبَ عَلَى كُلِّ إِنْسَانٍ أَنْ يُحِبَّ
كُلَّ مُؤمِنٍ للهِ.
لَكِنْ قَالَ: ((وَلِقَرَابَتِي)): فَهَذَا حُبٌّ
زَائِدٌ عَلَى المَحَبَّةِ للهِ، وَيَخْتَصُّ بِهِ آلُ البَيْتِ قَرَابَةُ
النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
وَفِي قَوْلِِ العَبَّاسِ: ((إنَّ بَعْضَ قرُيَشٍ
يَجْفُو بَنِي هَاشِمٍ)): دَلِيلٌ عَلَى أَنََّ جَفَاءَ آلِ البَيْتِِ
كَانَ مَوْجُوداً مُنْذُ حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الحَسَدَ مِن طَبَائِعِ البَشَرِ؛ إِلَّا مَن
عَصَمَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَكَانُوا يَحْسُدُونَ آلَ بَيْتِ
الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَا مَنَّ اللهُ بِهِ
عَلَيْهِمْ مِن قَرَابَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَيَجْفُونَهُمْ وَلَا يَقُومُونَ بِحَقِّهِمْ.
قَولُهُ: ((وَقَالَ: إِنَّ اللهَ اصْطَفَى بَنِي
إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى مِن بَنِي إِسْمَاعِيلَ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى
مِن كِنَانَةَ قُرَيْشاً، وَاصْطَفَى مِن قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ،
وَاصْطَفَانِي مِن بَنِي هَاشِمٍ)).
وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أنَّ بَنِي هَاشِمٍ مُصْطَفَونَ عِنْدَ اللهِ، مُخْتَارُونَ مِن خَلْقِهِ.
فَعَقِيدَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ
بِالنِّسْبَةِ لِآلِ البَيْتِ: أَنَّهُم يُحِبُّونَهُمْ،
وَيَتَوَلَّوْنَهُمْ، وَيَحْفَظُونَ فِيهِمْ وَصِيَّةَ الرَّسُولِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّذْكِيرِ بِهِمْ، وَلَا يَنْزِلُونَهُمْ
فَوْقَ مَنْزِلِهِمْ، بَلْ يَتَبَرَّؤُونَ مِمَّن يُغْلُونَ فِيهِمْ،
حَتَّى يُوَصِّلُوهُمْ إِلَى حَدِّ الأُلُوهِيَّةِ؛ كَمَا فَعَلَ عَبْدُ
اللهِ بنُ سَبَأٍ فِي عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ حِينَ قَالَ لَهُ: أنْتَ
اللهُ! وَالقِصَّةُ مَشْهُورَةٌ.
وَ((إِسْمَاعِيلُ)): هُوَ ابنُ إبْرَاهِيمِ
الخَلِيلِ، وَهُوَ الَّذِي أمَرَ اللهُ إبْرَاهِيمَ بِذَبْحِهِ،
وَقِصَّتُهُ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ.
وَ((كِنَانَةَ)): هُوَ الأَبُ الرَّابِعَ عَشَرَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ.
وَ((قُرَيشٌ)): هَوَ الأبُ الحَادِي عَشَرَ
لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ فِهْرُ بنُ
مَالِكٍ، وَقِيلَ:الأبُ الثَّالثَ عَشَرَ، وَهُوَ النَّضْرُ بنُ كِنَانَةَ.
وَ((هَاشِمٌ)): هُوَ الأبُ الثَّالِثُ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَوْلُهُ: ((وَيَتَوَلَّوْنَ أَزْوَاجَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّهَاتِ المُؤمِنِينَ)):
قولُهُ: ((أُمَّهَاتِ المُؤمِنِينَ)): هَذِهِ
صِفَةٌ لِـ ((أَزْوَاج))؛ فَأَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أُمَّهَاتٌ لَنَا فِي الإِكْرَامِ وَالاحْتِرَامِ وَالصِّلَةِ؛
قَالَ تعالَى: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالمُؤمِنينَ مِن أَنفُسِهِمْ
وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) [الأَحْزَاب: 6]؛ فَنَحْنُ نَتَوَلَّاهُنَ
بِالنُّصْرَةِ وَالدِّفَاعِ عَنْهُنَ وَاعْتِقَادِ أنَّهُنَّ أَفْضَلُ
أَزْوَاجِ أَهْلِ الأَرْضِ؛ لِأَنَّهُنَّ زَوْجَاتُ الرَّسُولِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَوْلُهُ: ((وَيُؤمِنُونَ بِأَنَّهُنَّ أَزْوَاجُهُ فِي الآخِرةِ)):
لِأَحَادِيثَ وَرَدَتْ فِي ذَلِكَ، وَلِقَوْلِهِ
تَعَالَى: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ وَمَن حَولَهُ يُسَبِّحُونَ
بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَيُؤمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا
رَبَّنَا وَسِعتَ كُلَّ شَيءٍ رَّحْمَةً وَعَلِماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ
تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجَحِيمِ رَبَّنَا
وَأَدْخِِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِى وَعَدتَّهُمْ وَمَن صَلَحَ مِن
ءاَبَائِهِمْ وَأَزوَاجِهِمْ وَذُرّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ
الحَكِيمُ) [غَافِر: 7-8]، فَقَالَ: (وَأَزوَاجُهُمْ)؛ فَأَثْبَتَ
الزَّوْجِيَّةَ لَهُنَّ بَعْدَ دُخُولِ الجَنَّةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى
أَنَّ زَوْجَةَ الإِنْسَانِ فِي الدُّنْيا تَكُونُ زَوْجَتَهِ فِي
الآخِرَةِ إِذَا كَانَتْ مِن أَهْلِ الجَنَّةِ.
قَولُهُ: ((خُصُوصاً خَدِيجَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُا أُمَّ أَكْثَرِ أَوْلَادِهِ)):
((خُصُوصاً خَدِيجَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُا)): ((خُصُوصاً)): مَصْدَرٌ مَحْذُوفُ العَامِلِ؛ أَيْ: أَخُصُّ خُصُوصاً.
((خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدِ)): تزَوَّجَها
النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلَ مَا تَزَوَّجَ،
وَكَانَ عُمْرُهُ حِينَذَاكَ خَمْساً وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَعُمُرُهَا
أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَكَانَت امْرَأةً عَاقِلَةً، وَانْتَفَعَ بِهَا
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِِ وَسَلَّمَ انْتِفَاعًا كَثِيرًا؛ لِأَنَّهَا
امْرَأةٌ ذَاتَ عَقْلٍ وَذَكَاءٍ، وَلَمْ يَتَزَوَّجْ عَلَيْها أَحَداً.
فَكَانَتْ كَمَا قَالَ المُؤلِّفُ: ((أمَّ
أَكْثَرِ أَوْلَادِهِ)): البَنِينَ وَالبَنَاتِ، وَلَمْ يَقُلْ المُؤلِّفُ:
أمَّ أَوْلَادِهِ؛ لِأَنَّ مِن أَوْلَادِهِ مَن لَيْسَ مِنْهَا، وَهُوَ
إِبْرَاهِيمُ؛ فَإِنَّهُ كَانَ مِن مَارِيَةَ القِبْطِيَّةَ.
وَأَوْلَادُهُ الَّذِينَ مِن خَدِيجَةَ هُم
ابْنَانِ وَأرْبَعُ بَنَاتٍ: القَاسِمُ، ثُمَّ عَبْدُ اللهِ، وَيُقَالُ
لَهُ: الطَّيِّبُ، وَالطَّاهِرُ. وَأَمَّا البَنَاتُ؛ فَهُنَّ: زَيْنَبُ،
ثُمَّ أمُّ كُلْثُومٍ، ثُمَّ فَاطِمَةُ، ثُمَّ رُقَيَّةُ. وَأَكْبَرُ
أَوْلَادِهِ القَاسِمُ، وَأَكْبَرُ بَنَاتِهِ زَيْنَبُ.
قَوْلُهُ: ((وَأَوَّلُ مَن آمَنَ بِهِ
وَعَاضَدَهُ عَلَى أَمْرِهِ)): لَا شَكَّ أَنَّهَا أوَّلُ مَن آمَنَ بِهِ؛
لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا جَاءَهَا
وَأَخْبَرَهَا بِمَا رَأَى فِي غَارِ حِرَاءٍ؛ قَالَتْ: كَلَّا؛ وَاللهِ
لَا يُخْزيِكَ اللهُ أَبَداً. وَآمَنَتْ بِهِ، وَذَهَبَتْ بِهِ إِلَى
وَرَقَةَ بنِ نَوْفَلٍ، وَقَصَّتْ عَلَيْهِ الخَبَرَ، وَقَالَ لَهُ: إِنَّ
هَذَا النَّامُوسَ الَّذِي كَانَ يَنْزِلُ عَلَى مُوسَى.
((النَّامُوسُ)): أَيْ: صَاحِبُ السِّرِّ.
فآمَنَ بِهِ وَرَقَةُ.
وَلِهَذَا نَقُولُ: أَوَّلُ مَن آمَنَ بِهِ مِن النِّسَاءِ خَدِيجَةُ، وَمِن الرِّجَالِ وَرَقَةُ بنُ نَوْفَلٍ.
قَولُهُ: ((وَعَاضَدَهُ عَلَى أَمْرِهِ))؛ أَيْ:
سَاعَدَهُ، وَمَن تَدَبَّرَ السِّيرَةَ؛ وَجَدَ لِأُمِّ المُؤمِنِينَ
خَدِيجَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْها مِن مُعَاضَدَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَمْ يَحْصُلْ لِغَيْرِهَا مِن نِسَائِهِ.
قَوْلُهُ: ((وَكَانَ لَهَا مِنْهُ المَنْزِلَةُ
العَالِيَةُ)): حَتَّى إِنَّهُ كَانَ يَذْكُرُهَا بَعْدَ مَوْتِهَا
صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَيُرْسِلُ بِالشَّيءِ إِلَى
صَدِيقَاتِهَا، وَيَقُولُ: ((إنَّهَا كَانَتْ وَكَانَتْ وَكَانَ لِي
مِنْهَا وَلَدٌ))؛ فَكَانَ يُثْنِي عَلَيْهَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلََى
عِظَمِ مَنْزِلَتِهَا عِنْدَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَوْلُهُ: ((وَالصِّدِّيقةُ بِنْتُ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُا)):
أَمَّا كَوْنُهَا صِدِّيقَةٌ؛ فَلِكَمَالِ
تَصْدِيقِهَا لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَلِكَمَالِ صِدْقِهَا فِي مُعَامَلَتِهِ، وَصَبْرِهِا عَلَى مَا حَصَلَ
مِن الأَذَى فِي قِصَّةِ الإِفْكِ، وَيَدُلُّكَ عَلَى صَدْقِهَا وَصِدْقِ
إِيمَانِهَا بِاللهِ أنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ بَرَاءَتُهَا؛ قَالَتْ: إِنِّي
لَا أَحْمَدُ غَيْرَ اللهِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ إِيمَانِهَا
وَصِدْقِهَا.
وَأمَّا كَوْنُهَا بِنْتُ الصِّدِّيقِ؛
فَكَذَلِكَ أَيْضاً؛ فَإِنَّ أَبَاهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ هُوَ
الصِّدِّيقُ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ، بَلْ صِدِّيقُ الأُمَمِ كُلِّهَا؛
لِأَنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ أَفْضَلُ الأُمَمِ؛ فَإِذَا كَانَ صِدِّيقُ
هَذِهِ الأُمَّةِ؛ فَهُوَ صِدِّيقُ غَيْرِهَا مِن الأُمَمِ.
قَوْلُهُ: ((الَّتِي قَالَ فِيهَا النَّبِيُّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّساءِ
كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ)).
قَوْلُهُ: ((عَلَى النِّسَاءِ)): ظَاهِرُهُ
العُمُومُ؛ أَيْ: عَلَى جَمِيعِ النِّسَاءِ. وَقِيلَ: إِنَّ المُرَادَ:
فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ؛ أيْ: مِن أَزْوَاجِهِ اللَّاتِي عَلَى
قَيْدِ الحَيَاةِ؛ فَلَا تَدْخُلُ فِي ذَلِكَ خَدِيجَةُ.
لَكِنَّ ظَاهِرَ الحَدِيثِ العُمُومُ؛ لِأَنَّ
الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((كَمُلَ مِن
الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِن النِّسِاءِ إِلَّا آسْيَةُ
امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَخَدِيجَةُ بِنْتُ
خُوَيْلِدٍ، وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسِاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ
عَلَى سَائِرِ الطَّعَامَ))، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ بِدُونِ
ذِكْرِ خَدِيجَةَ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا أَفْضَلُ النِّساءِ
مُطْلَقاً.
وَلَكِنْ لَيْسَتْ أَفْضَلَ مِن فَاطِمَةَ بِاعْتِبَارِ النَّسَبِ؛ لِأَنَّ فَاطِمَةَ بِلَا شَكٍّ أَشْرَفُ مِن عَائِشَةَ نَسَباً.
وَأَمَّا مَنْزِلَةٌ فَإِنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ
اللهُ عَنْهُمَا لَهَا مِن الفَضَائِلِ العَظِيمَةِ مَا لَمْ يُدْرِكْهُ
أَحَدٌ غَيْرُهَا مِن النِّساءِ.
وَظَاهِرُ كَلَامِ المُؤلِّفِ رَحِمَهُ اللهُ
أَنَّ هَاتَينِ الزَّوْجَينِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا فِي مَنْزِلَةٍ
وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: ((خُصُوصاً خَدِيجَةَ … وَالصِّدِّيقَةَ))،
وَلَمْ يَقُلْ: ثُمَّ الصِّدِّيقَةَ.
وَالعُلَمَاءُ اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ:
فَقَالَ بَعْضُ العُلَمَاءِ: خَدِيجَةُ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ لَهَا مَزَايَا لَمْ تَلْحَقْهَا عَائِشَةُ فِيهَا.
وَقَالَ بَعْضُ العُلَمَاءِ: بَلْ عَائِشَةُ
أَفْضَلُ؛ لِهَذَا الحَدِيثِ، وَلِأَنَّ لَهَا مَزَايَا لَمْ تَلْحَقْهَا
خَدِيجَةُ فِيهَا.
وَفَصَّلَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ؛ فَقَالَ:
إِنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مَزِيَّةٌ لَمْ تَلْحَقْهَا الأُخْرَى فِيهَا؛
فَفِي أوَّلِ الرِّسَالَةِ لَا شَكٍّ أَنَّ المَزَايا الَّتي حَصَلَتْ
عَلَيْهَا خَدِيجَةُ لَمْ تَلْحَقْهَا فِيهَا عَائِشَةُ، وَلَا يُمْكِنُ
أَنْ تُسَاوِيَهَا، وَبَعْدَ ذَلِكَ، وَبَعْدَ مَوْتِ الرَّسُولِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَصَلَ مِن عَائِشَةَ مِن نَشْرِ العِلْمِ
وَنَشْرِ السُّنَّةِ وَهِدَايَةِ الأُمَّةِ مَا لَمْ يَحْصُلْ لِخَدِيجَةَ؛
فَلَا يَصِحُّ أَنْ تُفَضَّلَ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى تَفْضِيلاً
مُطْلَقاًً، بَلْ نَقُولُ: هَذِهِ أَفْضَلُ مِن وَجْهٍ، وَهَذِهِ أَفْضَلُ
مِن وَجْهٍ، وَنَكُونُ قَدْ سَلَكْنَا مَسْلَكَ العَدْلِ؛ فَلَمْ نُهْدِرْ
مَا لِهَذِهِ مِن المَزِيَّةِ، وَلَا مَا لِهَذِهِ مِن المَزِيَّةِ،
وَعَنْدَ التَّفْصِيلِ يَحْصُلُ التَّحْصِيلُ.
وَهُمَا وَبَقِيَّةُ أَزْوَاجِ الرَّسُولِ فِي الجَنَّةِ مَعَهُ.
قَوْلُهُ: ((وَيَتَبَرَّؤُونَ مِن طَرِيقَةِ الرَّوَافِضِ الَّذِينَ يَبْغَضُونَ الصَّحَابَةَ وَيَسُبُّونَهُمْ)):
الرَّوَافِضُ: طَائِفَةٌ غُلَاةٌ فِي عَلِيِّ بنِ
أَبِي طَالِبٍ وَآلِ البَيْتِ، وَهُمْ مِن أَضَلِّ أَهْلِ البِدَعِ،
وَأَشَدِّهُمْ كُرْهاً لِلصَّحَابةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، وَمَن أَرَادَ
مَعْرِفَةَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِن الضَّلَالِ؛ فَلْيَقْرَأْ فِي كُتُبِهِمْ
وَفِي كُتُبِ مَن ردَّ عَلَيْهِمْ.
وَسُمُّوا رَوَافِضَ لِأَنَّهُمْ رَفَضُوا زَيْدَ
بنَ عَلِيِّ بنِ الحُسَينِ بنِ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ عِنْدَمَا
سَأَلُوه عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَأَثْنَى عَلَيْهِمَا، وَقَالَ:
هُمَا وَزِيرَا جَدِّي.
أَمَّا النَّوَاصِبُ؛ فَهُم الَّذِينَ
يَنْصِبُونَ العَدَاءَ لِآلِ البَيْتِ، وَيَقْدَحُونَ فِيهِمْ،
وَيَسُبُّونَهُمْ؛ فَهُمْ عَلَى النَّقِيضِ مِن الرَّوَافِضِ.
فَالرَّوَافِضُ اعتَدوا عَلَى الصَّحَابَةِ بِالقُلُوبِ وَالأَلْسُنِ.
-فَفِي القُلُوب يُبْغِضُونَ الصَّحَابَةَ
وَيَكْرَهُونَهُمْ؛ إِلَّا مَن جَعَلُوهُمْ وَسِيلَةً لِنَيْلِ مَآرِبِهِمْ
وَغَلَوا فِيهِمْ، وَهُمْ آلُ البَيْتِ.
-وَفِي الأَلْسُنِ يَسُبُّونَهُمْ
فَيَلْعَنُونَهُمْ وَيَقُولُونَ: إِنَّهُمْ ظَلَمَةٌ! وَيَقُولُونَ:
إِنَّهُم ارْتَدُّوا بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِلَّا قَلِيلاً إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِن الأَشْيَاءِ المُعْرُوفَةِ فِي
كُتُبِهِم.
وَفِي الحَقِيقَةِ إنَّ سَبَّ الصَّحَابَةِ
رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ لَيْسَ جَرْحاً فِي الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ
عَنْهُمْ فَقَطْ، بَلْ هُوَ قَدْحٌ فِي الصَّحَابَةِ وَفِي النَّبِيِّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي شَرِيعَةِ اللهِ وَفِي ذَاتِ اللهِ
عَزَّ وَجَلَّ:
-أمَّا كَوْنُهُ قَدْحاً فِي الصَّحَابَةِ؛ فَوَاضِحٌ.
-وَأمَّا كَوْنُهُ قَدْحاً فِي رَسُولِ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَحَيْثُ كَانَ أَصْحَابُهُ وَأُمَنَاؤهُ
وَخُلَفَاؤهُ عَلَى أُمَّتِهِ مِن شِرَارِ الخَلْقِ، وَفِيهِ قَدْحٌ فِي
رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ
تَكْذِيبُهُ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ مِن فَضَائِلِهِمْ وَمَنَاقِبِهِمْ.
-وَأمَّا كَوْنُهُ قَدْحاً فِي شَرِيعَةِ اللهِ؛
فَلِأَنَّ الوَاسِطَةَ بِينَنَا وَبَيْنَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَقْلِ الشَّرِيعَةِ هُم الصَّحَابَةُ، فَإِذَا
سَقَطَتْ عَدَالَتُهُمْ؛ لَمْ يَبْقَ ثِقَةٌ فِيمَا نَقَلُوهُ مِن
الشَّريِعَةِ.
-وَأمَّا كَونُهُ قَدْحاً فِي اللهِ سُبْحَانَهُ؛
فَحَيْثُ بَعَثَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شِرَارِ
الخَلْقِ، وَاخْتَارَهُمْ لِصُحْبَتِهِ وَحَمْلِ شَرِيعَتِهِ وَنَقْلِهَا
لِأُمَّتِهِ!!
فَانْظُرْ مَاذَا يَتَرتَّبُ مِن الطَّوَامِّ الكُبْرَى عَلَى سَبِّ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ.
وَنَحْنُ نَتَبَرَّأُ مِن طَرِيقَةِ هَؤُلَاءِ
الرَّوَافِضِ الَّذِينَ يَسُبُّونَ الصَّحَابَةَ وَيَبْغَضُونَهُمْ،
وَنَعْتَقِدُ أَنَّ مَحَبَّتَهُمْ فَرْضٌ، وَأَنَّ الكَفَّ عَن
مَسَاوِئِهِمْ فَرْضٌ، وَقُلُوبُنَا –وَللهِ الحَمْدُ- مَمْلُوءةٌ مِن
مَحَبَّتِهِمْ؛ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِن الإِيمَانِ وَالتَّقْوى
وَنَشْرِ العِلْمِ وَنُصْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَولُهُ: ((وَطَرِيقَةُ النَّوَاصِبِ الَّذِينَ يُؤذُونَ أَهْلَ البَيْتِِ بِقَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ)).
يَعْنِي: يَتَبَرَّأُ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ مِن طَرِيقَةِ النَّوَاصِبِ.
وَهَؤُلَاءِ عَلَى عَكْسِ الرَّوَافِضِ،
الَّذِينَ يُغْلُونَ فِي آلِ البَيْتِ، حَتَّى يُخْرِجُوهُمْ عَن طَورِ
البَشَرِيَّةِ إِلَى طَورِ العِصْمَةِ وَالوِلَايَةِ.
أَمَّا النَّوَاصِبُ؛ فَقَابَلُوا البِدْعَةَ
بِبِدْعَةٍ، فَلَمَّا رَأَوا الرَّافِضَةَ يُغْلُونَ فِي آلِ البَيْتِِ؛
قَالُوا: إِذاً؛ نَبْغَضُ آلَ البَيْتِ وَنَسُبُّهُمْ؛ مُقَابَلَةً
لِهَؤُلَاءِ فِي الغُلُوٍّ فِي مَحَبَّتِهِمْ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ،
وَدَائِماً يَكُونُ الوَسَطُ هُوَ خَيْرُ الأُمُورِ؛ وَمُقَابَلَةُ
البِدْعَةِ بِبِدْعَةٍ لَا تَزِيدُ البِدْعَةَ إِلَّا قُوَّةً.
قَوْلُهُ: ((وَيُمْسِكُونَ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ))؛ يَعْنِي: عَمَّا وَقَعَ بيَنْهَمْ مِن النِّزَاعِ.
فَالصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وقَعَتْ
بَيْنَهُمْ بَعْدَ مَقْتَلِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ
نِزَاعَاتٌ، وَاشْتَدَّ الأَمْرُ بَعْدَ مَقْتَلِ عُثْمَانَ، فَوَقَعَ
بَيْنَهُمْ مَا وَقَعَ، مِمَّا أَدَّى إِلَى القِتَالِ.
وَهَذِهِ القَضَايَا مَشْهُورَةٌ، وَقَدْ
وَقَعَتْ –بِلَا شَكٍّ- عَنْ تَأْوِيلٍ وَاجْتِهَادٍ، كُلٌّ مِنْهُمْ
يَظُنُّ أنَّهُ عَلَى حَقٍّ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ نَقُولَ: إِنَّ عَائِشَةَ
وَالزُّبَيرَ بنَ العَوَّامِ قَاتَلَا عَليّاً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ
أَجْمَعِينَ وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ عَلَى بَاطِلٍ، وَأَنَّ
عَلِيّاً عَلَى حَقٍّ.
وَاعْتِقَادُهُمْ أنَّهُمْ عَلَى حَقٍّ لَا يَسْتَلْزمُ أَنْ يَكُونُوا قَدْ أَصَابُوا الحَقَّ.
وَلَكِنْ إِذَا كَانُوا مُخْطِئِينَ، وَنَحْنُ
نَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَنْ يُقْدِمُوا عَلَى هَذَا الأَمْرِ إِلَّا عَن
اجْتِهَادٍ؛ فَإِنَّهُ ثَبَتَ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أنَّ: ((إِذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ؛
فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ؛ فَلَهُ
أَجْرٌ))؛ فَنَقُولُ: هُمْ مُخْطِئُونَ مُجْتَهِدُونَ؛ فَلَهُمْ أَجْرٌ
وَاحِدٌ.
فَهَذَا الَّذِي حَصَلَ، مَوقِفُنَا نَحْنُ
مِنْهُ لَهْ جِهَتَانِ: الجِهَةُ الأُولَى: الحُكْمُ عَلَى الفَاعِلِ.
وَالجِهَةُ الثَّانِيَةُ: مَوْقِفُنَا مِن الفَاعِلِ.
-أمَّا الحُكْمُ عَلَى الفَاعِلِ؛ فَقَدْ سَبَقَ،
وَأَنَّ مَا نَدِينُ اللهَ بِهِ أنَّ مَا جَرَى بَيْنَهُمْ؛ فَهُوَ
صَادِرٌ عَن اجْتِهَادٍ، وَالاجْتِهَادُ إِذَا وَقَعَ فِيهِ الخَطَأُ؛
فَصَاحِبُهُ مَعْذُورٌ مَغْفُورٌ لَهُ.
-وَأمَّا مَوقِفُنَا مِن الفَاعِلِ؛ فَالوَاجِبُ
عَلَينَا الإِمْسَاكُ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَهُمْ، لِمَاذَا نَتَّخِذُ مِنْ
فِعْلِ هَؤُلَاءِ مَجَالاً لِلسَّبِّ وَالشَّتْمِ وَالوَقِيعَةِ فِيهِمْ
وَالبَغْضَاءِ بَيْنَنَا؛ وَنَحْنُ فِي فِعْلِنَا هَذَا إِمَّا آثِمُونَ
وَإِمَّا سَالِمُونَ، وَلَسْنَا غَانِمِينَ أَبَداً؟!
فَالوَاجِبُ عَلَيْنا تُجَاهَ هَذِهِ الأُمُورِ
أَنْ نَسْكُتَ عَمَّا جَرَى بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وَأنْ لَا نُطَالِعَ
الأَخْبَارَ أَوْ التَّارِيخَ فِي هَذِهِ الأُمُورِ؛ إِلَّا المُرَاجَعَةَ
لِلضَّرُورَةِ.
قَولُهُ: ((وَيَقُولُونَ: إنَّ هَذِهِ الآثَارِ
المَرْوِيَّةِ فِي مَسَاوِيهِمْ؛ مِنْهَا مَا هُوَ كَذِبٌ، وَمِنْهَا مَا
قَدْ زِيدَ فِيهِ وَنُقِصَ وَغُيِّرَ عَن وَجْهِهِ الصَّرِيحِ)).
قَسَّمَ المُؤلِّفُ الآثَارَ المَرْوِيَّةَ فِي مَسَاوِيهِمْ ثَلَاثةَ أَقْسَامٍ:
-مِنْهَا مَا هُوَ كَذِبٌ مَحْضٌ لَمْ يَقَعْ
مِنْهُمْ، وَهَذَا يُوجَدُ كَثِيراً فِيمَا يَرْوِيهِ النَّوَاصِبُ فِي آلِ
البيتِ وَمَا يَرْوِيهِ الرَّوَافِضُ فِي غَيْرِ آلِ البَيْتِ.
-وَمِنْهَا شَيءٌ لَهُ أَصْلٌ، لَكِنْ زِيدَ فيه ونُقِصَ وغُيِّرَ عَنْ وَجْهِهِ.
وَهَذَانِ القِسْمَانِ كِلَاهُمَا يَجِبُ رَدُّهُ.
-القِسْمُ الثَّالِثُ: مَا هُوَ صَحِيحٌ؛ فَمَاذَا نَقُولُ فِيهِ؟
بَيَّنَهُ المُؤلِّفُ بِقَولِهِ:
((وَالصَّحِيحُ مِنْهُ هُمْ فِيهِ مَعْذُورُونَ: إِمَّا مُجْتَهِدُونَ مُصِيبُونَ، وَإِمَّا مُجْتَهِدُونَ مُخْطِئُونَ)).
وَالمٌجْتَهِدُ إِنْ أَصَابَ؛ فَلَهُ أَجْرَانِ،
وَإِنْ أَخْطَأَ؛ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ؛ لِقَولِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ
أَصَابَ؛ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ؛
فَلَهُ أَجْرٌ)).
فَمَا جَرَى بَيْنَ مُعَاوِيَةَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا صَادِرٌ عَن اجْتِهَادٍ وَتَأوِيلٍ.
لَكِنْ لَا شَكَّ أَنَّ عَليّاً أَقْرَبُ إِلَى
الصَّوَابِ فِيهِ مِن مُعَاوِيةَ، بَلْ قَدْ نَكَادُ نَجْزِمُ بِصَوَابِهِ؛
إِلَّا أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ مُجْتَهِداً.
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَلِيّاً أَقْرَبُ إِلَى
الصَّوَابِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((وَيْحَ عَمَّارٍ! تَقْتُلُهُ الفِئَةُ البَاغِيَةُ))؛ فَكَانَ الَّذِي
قَتَلَهُ أَصْحَابُ مُعَاوِيَةَ، وَبِهَذَا عَرَفْنَا أَنَّهَا فِئَةٌ
بَاغِيَةٌ خَارِجَةٌ عَلَى الإِمَامِ، لَكِنَّهُمْ مَتَأَوِّلُونَ،
وَالصَّوابُ مَعَ عَلِيٍّ إِمَّا قَطْعاً وَإِمَّا ظَنّاً.
-وَهُنَاكَ قِسْمٌ رَابِعٌ، وَهُوَ مَا وَقَعَ مِنْهُمْ مِن سَيِّئَاتٍ حَصَلَتْ لَا عَن اجْتِهَادٍ وَلَا عَنْ تَأْوِيلٍ:
فَبَيَّنَهُ المُؤلِّفُ بِقَولِهِ:
((وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِن الصَّحَابَةِ مَعْصُومٌ عَنْ كَبَائِرِ الإِثْمِ وَصَغَائِرهِ)).
لَا يَعْتَقِدُونَ ذَلِكَ؛ لِقَولِهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلهِ وَسَلَّمَ: ((كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ،
وَخَيْرُ الخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ)).
وَلَكِنَّ العِصْمَةَ فِي إِجْمَاعِهِمْ؛ فَلَا
يُمْكِنُ أَنْ يُجْمِعُوا عَلَى شَيءٍ مِن كَبَائِرِ الذُّنُوبِ
وَصَغَائِرِهَا فَيَسْتَحِلُّوهَا أَوْ يَفْعَلُوهَا.
لَكِنَّ الوَاحِدَ مِنْهُمْ قَدْ يَفْعَلُ
شَيْئاً مِن الكَبَائِرِ؛ كَمَا حَصَلَ مِن مِسْطَحِ بنِ أُثَاثَةَ
وَحَسَّانَ بنِ ثَابِتٍ وَحَمْنَةَ بِنتِ جَحْشٍ فِي قِصَّةِ الإِفْكِ،
وَلَكِنَّ هَذَا الَّذِي حَصَلَ تَطَهَّرُوا مِنْهُ بِإِقَامَةِ الحَدِّ
عَلَيْهِمْ.
قَوْلُهُ: ((بَلْ يَجُوزُ عَلَيْهِمْ الذُّنُوبُ فِي الجُمْلَةِ))؛ يَعْنِي: كَغَيْرِهِمْ مِن البَشَرِ.
لَكِنْ يَمْتَازُونَ عَنْ غَيْرِهِمْ بِمَا قَالَ المؤلِّفُ رَحِمَهُ اللهُ:
((ولَهُمْ مِن السَّوَابِقِ وَالفَضَائِلِ مَا يُوجِبُ مَغْفِرَةَ مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ إِنْْ صَدَرَ)).
هَذَا مِن الأَسْبَابِ الَّتِي يَمْحُو اللهُ
بِهَا عَنْهُمْ مَا فَعَلُوهُ مِن الصَّغَائِرِ أَو الكَبَائِرِ، وَهُوَ
مَا لَهُمْ مِن السَّوابقِ وَالفَضَائِلِ الَّتِي لَمْ يَلْحَقْهُمْ فِيهَا
أَحَدٌ؛ فَهُمْ نَصَرُوا النَّبِيَّ عَلَيْه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ،
وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِِهِمْ، وَبَذَلُوا رِقَابَهُمْ
لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ؛ فَهَذِهِ تُوجِبُ مَغْفِرَةَ مَا صَدَرَ
مِنْهُمْ، وَلَوْ كَانَ مِن أَعْظَمِ الذُّنُوبِ، إِذَا لَمْ يَصِلْ إِلَى
الكُفْرِ.
وَمِن ذَلِكَ قِصَّةُ حَاطِبِ بنِ أَبِي
بَلْتَعَةَ حِينَ أرْسَلَ إِلَى قُرَيشٍ يُخْبِرُهُمْ عَنْ مَسِيرِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيهِمْ، حتَّى أَطْلَعَ
اللهُ نَبِيَّهُ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمْ يَصِلْهُم الخَبَرُ، فَاسْتَأذَنَ
عُمَرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنْ يَضْرِبَ عُنُقَ
حَاطِبٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّهُ
شَهِدَ بَدْراً، وَمَا يُدْرِيكَ؟ لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِِ
بَدْرٍ، فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ؛ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ!)).
قَولُهُ: ((حَتَّى إنَّهُ يُغْفرُ لَهُمْ مِن
السَّيَّئاتِ مَا لَا يُغْفرُ لِمَن بَعْدَهُمْ، لِأَنَّ لَهُمْ مِن
الحَسَنَاتِ الَّتِي تَمْحُو السَّيّئِاتِ مَا لَيْسَ لِمَن بَعْدَهُمْ،
وَقَدْ ثَبَتَ بِقَولِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أنَّهُمْ خَيْرُ القُرُونِ، وَأنَّ المُدَّ مِن أَحَدِهِمْ إِذَا تَصَدَّقَ
بِهِ؛ كَانَ أَفْضَلُ مِن جَبِلِ أُحُدٍ ذَهَباً مِمَّن بَعْدَهُمْ)).
وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: ((خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي))، وَفِي قَوْلِه: ((لَا تَسُبُّوا
أَصْحَابِي؛ فَوَالَّذِي نَفْسِِي بِيَدِهِ؛ لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ
مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَباً؛ مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ)).
قَولُهُ: ((ثُمَّ إِذَا كَانَ قَدْ صَدَرَ مِن أَحَدِهِمْ ذَنْبٌ؛ فَيَكُونُ قَدْ تَابَ مِنْهُ)):
يَعْنِي: وَإِذَا تَابَ مِنْهُ؛ ارْتَفَعَ عَنْهُ
وَبَالُهُ وَمَعَرَّتُهُ؛ لِقَولِهِ تَعَالَى: (والَّذِينَ لَا يَدْعُونَ
مَعَ اللهِ إلهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللهُ
إِلَّا بِالحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ
أَثَاماً…) إِلَى قَوْلِهِ: (إِِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً
صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ
اللهُ غَفُوراً رَّحِِيمًا) [الفُرْقَان: 68-70]، وَمَن تَابَ مِن
الذَّنْبِ كَمَن لَا ذَنْبَ لَهُ؛ فَلَا يُؤثِّرُ عَلَيْهِ.
قَولُهُ: ((أَوْ أَتَى بِحَسَنَاتٍ تَمْحُوهُ))؛ لِقَولِهِ تَعَالَى: (إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيّئاتِ) [هُود: 114].
قَوْلُهُ: ((أَوْ غُفِرَ لَهُ بِفَضْلِ
سَابِقَتِهِ)): لِقَوْلِِهِ تَعَالَى فِي الحَدِيثِ القُدْسِيِّ فِي أَهْلِ
بَدْرٍ: ((اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ؛ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ)).
قَوْلُهُ: ((أَوْ بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي هُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِشَفَاعَتِهِ)).
وَقَدْ سَبَقَ أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْفَعُ فِي أُمَّتِهِ، وَالصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ
عَنْهُمْ أَحَقُّ النَّاسِ فِي ذَلِكَ.
قَولُهُ: ((أَو ابْتُلِيَ بِبَلَاءٍ فِي
الدُّنْيا كُفِّرَ بِهِ عَنْهُ)): فَإِنَّ البَلَاءَ فِي الدُّنْيا
يُكَفِّرُ اللهُ بِهِ السَّيِّئاتِ؛ كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: ((مَا مِن مُسْلِمٍ
يُصِيبُهُ أَذًى مِن مَرَضٍ فَمَا سِِوَاهُ؛ إِلَّا حَطَّ اللهُ بِهِ
سَيِّئاتِهِ؛ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا))، وَالأَحَادِيثُ فِي
هَذَا مَشْهُورَةٌ كَثِيرَةٌ.
قَولُهُ: ((فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الذُّنُوبِ
المُحَقَّقَةِ؛ فَكَيفَ الأُمُورُ الَّتِي كَانُوا فِيهَا مُجْتَهِدِينَ:
إِنْ أَصَابُوا؛ فَلَهُمْ أَجْرَانِ، وَإِنْ أَخْطَؤُوا؛ فَلَهُمْ أَجْرٌ
وَاحِدٌ، وَالخَطَأُ مَغْفُورٌ))، وَسَبَقَ دَلِيلُهُ؛ فَتَكُونُ هَذِِهِ
مِن بَابٍ أَوْلَى أَلَّا تَكُونَ سَبَباً لِلْقَدْحِ فِيهِمْ وَالعَيْبِ.
فَهَذِهِ الأَسْبَابُ الَّتِي ذَكَرَهَا المؤلِّفُ تَرْفَعُ القَدْحَ فِي الصَّحَابَةِ، وَهِيَ قِسْمَانِ:
الأوَّلُ: خَاصٌّ بِهِمْ، وَهُوَ مَا لَهُمْ مِن السَّوَابِقِ وَالفَضَائِلِ.
وَالثَّانِي: عَامُّ، وَهِيَ التَّوبَةُ،
وَالحَسَنَاتُ المَاحِيَةُ، وَشَفَاعَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَالبَلَاءُ.
قَولُهُ: ((ثُمَّ إنَّ القَدْرَ الَّذِي يُنْكَرُ
مِن فِعْلِ بَعْضِهِمْ قَلِيلٌ نَزْرٌ مَغْمُورٌ فِي جَنْبِ فَضَائِلِ
القَوْمِ وَمَحَاسَنِهِمْ)):
القَدْرُ الَّذِي يُنْكَرُ مِن فِعْلِ بَعْضِهِمْ
قَلِيلٌ جِدًّا نَزْرٌ أَقَلُّ القَلِيلِ، وَلِهَذَا قَالَ: ((مَغْمُورٌ
فِي جَنْبِ فَضَائِلِ القَومِ وَمَحَاسِنِهِمْ)).
وَلَا شَكَّ أنَّهُ حَصَلَ مِن بَعْضِهِمْ
سَرِقَةٌ وَشُرْبُ خَمْرٍ وَقَذْفٍ وَزِنَىً بِإِحْصَانٍ وَزِنَىً بِغَيْرِ
إِحْصَانٍ، لَكِنَّ كُلَّ هَذِهِ الأَشْيَاءِ تَكُونُ مَغْمُورَةٌ فِي
جَنْبِ فَضَائِلِ القَومِ وَمَحَاسِنِهِمْ، وَبَعْضُهَا أُقِيمَ فِيهِ
الحُدُودُ، فَيَكُونُ كَفَّارَةً.
ثُمَّ بَيَّنَ المؤلِّفُ رَحِمَهُ اللهُ شَيْئاً مِن فَضَائِلِهِمْ وَمَحَاسِنِهِمْ بِقَوْلِهِ:
((مِِنَ الإِيمَانِ بِاللهِ وَرَسُولِهِ
وَالجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ وَالهِجْرَةِ وَالنُّصْرَةِ وَالعِلْمِ
النَّافِعِِ وَالعَمَلِ الصَّالِحِ)).
فَكُلُّ هَذِه مَنَاقِبُ وَفَضَائِلٌ مَعْلُومَةٌ
مَشْهُورَةٌ، تَغْمُرُ كُلَّ مَا جَاءَ مِنْ مَسَاوِئِ القَومِ
المُحَقَّقَةِ؛ فَكَيْفَ بِالمَسَاوِئِ غَيْرِ المُحَقَّقةِ أَو الَّتِي
كَانُوا فِيهَا مُجْتَهِدِينَ مُتَأَوِّلِينَ.
قَوْلُهُ: ((ومَنْ نَظَرَ فِي سِيرَةِ القَومِ
بِعِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ، وَمَا مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ بِهِ مِنَ
الفَضَائِلِ؛ عَلِمَ يَقيناً أنَّهُمْ خَيْرُ الخَلْقِ بَعْدَ
الأَنْبِيَاءِ)):
هَذَا بِالإِضَافَةِ إِلَى مَا ثَبَتَ عَن
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ مِن قَوْلِهِ:
((خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ
يَلُونَهُمْ)). أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِن حَدِيثِ عَبْدِ
اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.
وَعَلَى هَذَا تَثْبُتُ خَيْرِيَّتُهُمْ عَلَى غَيْرِهِمْ مِن أَتْبَاعِ الأَنْبِيَاءِ بِالنَّصِّ وَالنَّظَرِ فِي أَحْوَالِهِمْ.
فَإِذَا نَظَرْتَ بِعِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ
وَإِنْصَافٍ فِي مَحَاسِنِ القَوْمِ وَمَا أَعْطَاهُم اللهُ مِن
الفَضَائِلِ؛ عَلِمْتَ يَقِيناً أنَّهُمْ خَيْرُ الخَلْقِ بَعْدَ
الأَنْبِيَاءِ؛ فَهُمْ خَيْرٌ مِن الحَوَارِيِينَ أَصْحَابِ عِيسَى،
وَخَيْرٌ مِنَ النُّقَبَاءِ أَصْحَابِ مُوسَى، وَخَيْرٌ مِنَ الَّذِينَ
آمَنُوا مَعَ نُوحٍ وَمَعَ هُودٍ وَغَيْرِهِمْ، لَا يُوجَدُ أَحَدٌ فِي
أَتْبَاعِ الَأنْبِيَاءِ أَفْضَلُ مِن الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ،
وَالأمْرُ فِي هَذَا ظَاهِرٌ مَعْلُومٌ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (كُنتُمْ
خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عِمْرَان: 110]، وَخَيْرُنَا
الصَّحَابَةُ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
خَيْرُ الخَلْقِ؛ فَأَصْحَابُهُ خَيْرُ الأَصْحَابِ بِلَا شَكٍّ.
هَذَا عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ، أمَّا عِنْدَ الرَّافِضَةِ؛ فَهُمْ شَرُّ الخَلْقِ؛ إِلَّا مَن اسْتَثْنَوا مِنْهُمْ.
قَوْلُهُ: ((لَا كَانَ وَلَا يَكُونُ
مِثْلَهُمْ))؛ أَيْ: مَا وُجِدَ وَلَا يُوجَدُ مِثْلُهُمْ؛ لِقَوْلِهِ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ((خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي))؛ فَلَا
يُوجَدُ عَلَى الِإطْلَاقِ مِثْلُهُمْ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ لَا سَابِقاً
وَلَا لَاحِقاً.
قَوْلُهُ: ((وَأنَّهُم الصَّفْوةُ مِنْ قُرُونِ
هَذِهِ الأُمَّةِ، الَّتِي هِيَ خَيْرُ الأُمَمِ وَأَكْرُمُهَا عَلَى اللهِ
عَزَّ وَجَلَّ)):
-أَمَّا كَوْنُ هَذِهِ الأُمَّةِ خَيْرَ
الأُمَمِ؛ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ
لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَن المُنكَرِ
وَتُؤْمِنُونَ باللهِ) [آل عِمْرَان: 110]، وَقَوْلُهُ: (وَكَذَلِكَ
جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)
[البَقَرَة: 143]، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى
آلِهِ وَسَلَّمْ خَيْرُ الرُّسُلِ؛ فَلَا جَرَمَ أَنْ تَكُونَ أُمَّتُهُ
خَيْرَ الأُمَمِ.
-وَأمَّا كَوْنُ الصَّحَابةِ صَفْوَةَ قُرُونِ
الأُمَّةِ؛ فَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((خَيْرُ
النَّاسِ قَرْنِي))، وَفِي لَفْظٍ: ((خَيْرُ أُمَّتِي قَرْنِي))،
وَالمُرَادُ بِقَرْنِهِ: الصَّحَابَةُ، وَبِالَّذِينَ يِلُونَهُمْ:
التَّابِعُونَ، وَبِالَّذِينَ يَلُونَهُمْ: تَابِعُو التَّابِعِينَ.
قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ ابنُ تَيْمِيَةَ:
((وَالاعْتِبَارُ بِالقُرُونِ الثَّلَاثَةِ بِجُمْهُورِ أَهْلِ القَرْنِ،
وَهُمْ وَسَطُهُ، وَجُمْهُورُ الصَّحَابَةِ انْقَرَضُوا بِانْقِرَاضِ
خِلَافةِ الخُلَفَاءِ الأَرْبَعَةِ، حَتَّى إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَقِيَ
مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ إِلَّا نَفَرٌ قَلِيْلٌ، وَجُمْهُورُ التَّابِعِينَ
بِإِحْسَانٍ انْقَرَضُوا فِي أَوَاخِرِ عَصْرِ أَصَاغِرِ الصَّحَابَةِ فِي
إِمَارَةِ ابْنِ الزُّبَيرِ وَعَبْدِ المَلِكِ وَجُمْهُورُ تَابِعِي
التَّابِعِينَ فِي أَوَاخِرِ الدَّوْلَةِ الأُمَوِيَّةِ وَأَوَائِلِ
الدَّوْلَةِ العَبَّاسِيَّةِ)) اهـ.
وَكَانَ آخِرُ الصَّحَابَةِ مَوْتاً أَبُو
الطُّّفَيْلِ عَامِرُ بنُ وَاثِلَةَ اللَّيْثِيُّ سَنَةَ مِائَةٍ مِن
الهِجْرَةِ، وَقِيلَ: مِائَةٍ وَعَشْرٍ.
قَالَ الحَافِظُ ابنُ حَجَرٍ فِي ((الفَتْحِ)):
((واتَّفَقُوا أَنَّ آخِرَ مَنْ كَانَ مِنْ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ
مِمَّنْ يُقْبَلُ قَولُهُ مَنْ عَاشَ إِلَى حُدُودِ العِشْرِينَ
وَمِائَتَينِ)).
فَصْلٌ فِي كَرَامَةِ الأَوْلِيَاءِ
(2) كَرَامَاتُ الأَوْلِيَاءِ مَسْأَلَةٌ هَامَّةٌ يَنْبَغِِي أنْ يُعْرَفَ
الحَقُّ فِيهَا مِن البَاطِلِ؛ هَلْ هِيَ حَقِيقَةٌ ثَابِتَةٌ، أَوْ هِيَ
مِنْ بَابِ التَّخَيُّلَاتِ؟
فَبَيَّنَ المُؤلِّفُ رَحِمَهُ اللهُ قَولَ أَهْلِ السُّنَّةِ فِيهَا بِقَولِهِ:
فَمَن هُم الأَوْلِيَاءُ؟
وَالجَوَابُ: أنَّ اللهَ بَيَّنَهُمْ بِقَوْلِهِ:
(أَلَّا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ
يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) [يُونُس: 62-63].
قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ ابنُ تَيْمِيَةَ رَحِمَهُ اللهُ: ((مَنْ كَانَ مُؤمِناً تَقِيَّاً؛ كَانْ للهِ وَلِيَّاً)).
لَيْسَتِ الوِلَايَةُ بِالدَّعْوَى
وَالتَّمَنِّي، الوِلَايَةُ إنَّمَا هِيَ بِالإيمَانِ وَالتَّقْوَى؛ فَلَوْ
رَأَيْنَا رَجُلاً يَقُولُ: إِنَّهُ وَلِيٌّ! وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُتَّقٍ
للهِ تَعَالَى؛ فَقْوْلُهُ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ.
أَمَّا الكَرَامَاتُ؛ فَهِيَ جَمْعُ كَرَامَةٍ؛
وَالكَرَامَةُ أَمْرٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ، يُجْرِيهِ اللهُ تَعَالَى عَلَى
يَدِ وَلِيٍّ؛ تَأْيِيداً لَهُ، أَوْ إِعَانَةً، أَوْ تَثْبِيتاً، أَوْ
نَصْراً لِلدِّينِ.
-فَالرَّجُلُ الَّذِي أَحْيَا اللهُ تَعَالَى
لَهُ فَرَسَهُ، وَهُوَ صِلَةُ بنُ أَشْيَمَ، بَعْدَ أَنْ مَاتَتْ، حَتَّى
وَصَلَ إِلَى أَهْلِهِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى أَهْلِهِ؛ قَالَ لِابْنِهِ:
أَلْقِ السَّرْجَ عَن الفَرَسِ؛ فَإِنَّهَا عَرِيَّةٌ! فَلَمَّا أَلْقَى
السَّرْجَ عَنْهَا؛ سَقَطَتْ مَيِّتَةً. فَهَذِهِ كَرَامَةٌ لِهَذَا
الرَّجُلِ وَإِعَانَةٌ لَهُ.
-أَمَّا الَّتِي لِنُصْرَةِ الإِسْلَامِ؛
فَمِثْلُ الَّذِي جَرَى لِلعَلَاءِ بنِ الحَضْرَمِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ
فِي عُبُورِ مَاءِ البَحْرِ، وَكَمَا جَرَى لِسَعْدِ بنِ أَبِي وَقَّاصٍ
رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي عُبُورِ نَهْرِ دِجْلَةَ، وَقِصَّتُهُمَا
مَشْهُورَةٌ فِي التَّارِيخِ.
فَالكَرَامَةُ أَمْرٌ خَارِقٌ لِلعَادَةِ.
أَمَّا مَا كَانَ عَلَى وَفْقِ العَادَةِ؛ فلَيْسَ بِكَرَامَةٍ.
وَهَذَا الأَمْرُ إِنَّمَا يُجْرِيهِ اللهُ عَلَى
يَدِ وَلِيٍّ؛ احْتِرَازاً مِن أُمُورِ السَّحْرِ وَالشَّعْوَذَةِ؛
فَإِنَّهَا أُمُورٌ خَارِقةٌ لِلعَادَةِ، لَكِنَّهَا تَجْرِي عَلَى يَدِ
غَيْرِ أَوْلِيَاءِ اللهِ، بَلْ عَلَى يَدِ أَعْدَاءِ اللهِ؛ فَلَا تَكُونُ
هَذِهِ كَرَامَةً.
وَقَدْ كَثُرَتْ هَذِهِ الكَرَامَاتُ الَّتِي
تُدْعَى أنَّهَا كَرَامَاتٌ فِي هَؤُلَاءِ المُشَعْوِذِينَ الَّذِينَ
يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ؛ فَالوَاجِبُ الحَذَرُ مِنْهُمْ وَمِنْ
تَلَاعُبِهِمْ بِعُقُولِ النَّاسِ وَأَفْكَارِهِمْ.
فَالكَرَامَةُ ثَابِتَةٌ بِالقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَالوَاقِعِ سَابِقًا وَلَاحِقاً.
-فَمِن الكَرَامَاتِ الثَّابِتَةِ بِالقُرْآنِ
وَالسُّنَّةِ لِمَنْ سَبَقَ قِصَّةُ أَصْحَابِ الكَهْفِ، الَّذِينَ عَاشُوا
فِي قَوْمٍ مُشْرِكِينَ، وَهُمْ قَدْ آمنُوا باللهِ، وَخَافُوا أنْ
يُغْلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ، فَخَرَجُوا مِن القَرْيَةِ مُهَاجِرِينَ
إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَسَّرَ اللهُ لَهُمْ غَاراً فِي جَبَلٍ،
وَجْهُ هَذَا الغَارِ إِلَى الشَّمَالِ، فَلَا تَدْخُلُ الشَّمسُ
عَلَيْهِمْ فَتُفْسِدَ أَبْدَانَهُمْ وَلَا يُحْرَمُونَ مِنْهَا، إِذَا
طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ اليَمِينِ، وَإِذَا غَرَبَتْ
تُقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ، وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ، وَبَقَوا فِي
هَذَا الكَهْفِ ثَلَاثَ مِائةٍ سِنينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً، وَهُمْ
نَائِمُونَ، يُقَلِّبُهُمْ اللهُ ذَاتَ اليَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ، فِي
الصَّيْفِ وَفِي الشِّتَاءِ، لَمْ يُزْعِجْهُم الحَرُّ، وَلَمْ يُؤلِمُهُم
البَرْدُ، مَا جَاعُوا وَمَا عَطِشُوا وَمَا مَلُّوا مِن النَّومِ.
فَهَذِهِ كَرَامَةٌ بِلَا شَكٍّ، بَقَوا هَكَذَا حَتَّى بَعَثَهْم اللهُ
وَقَدْ زَالَ الشِّرْكُ عَنْ هَذِهِ القَرْيَةِ، فَسَلِمُوا مِنْهُ.
-وَمِن ذَلِكَ قِصَّةُ مَرْيمَ رَضِيَ اللهُ
عَنْهُا، أَكْرَمَهَا اللهُ حَيْثُ أَجَاءَهَا المُخَاضُ إِلَى جِذْعِ
النَّخْلَةِ، وَأَمَرَهَا اللهُ أَنْ تَهُزَّ بِجِذْعِهَا لِتَتَسَاقَطَ
عَلَيْهَا رُطَباً جَنِيّاً.
-وَمِن ذَلِكَ قِصَّةُ الرَّجُلِ الَّذِي
أَمَاتَهُ اللهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ؛ كَرَامَةً لَهُ؛
لِيَتَبَيَّنَ لَهُ قُدْرَةُ اللهِ تعالَى، وَيَزْدَادَ ثَباتاً فِي
إِيمَانِهِ.
-أَمَّا فِي السُّنَّةِ؛ فَالكَرَامَاتُ
كَثِيرَةٌ، وَرَاجِعْ (كِتَابَ الأَنْبِيَاءِ، بَابَ مَا ذُكِرَ عَن بَنِي
إِسْرَائِيلَ) فِي ((صَحِيحِ البُخَارِيِّ))، وَكِتَابَ ((الفُرْقَانِ
بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ)) لِشِيْخِ
الإِسْلَامِ ابنِ تَيْمِيَةَ.
-وَأَمَّا شهَادَةُ الوَاقِعِ بِثُبُوتِ
الكَرَامَاتِ؛ فَظَاهِرٌ، يَعْلَمُ بِهِ المَرْءُ فِي عَصْرِهِ: إِمَّا
بِالمُشَاهَدَةِ، وَإِمَّا بِالأَخْبَارِ الصَّادِقَةِ.
فَمَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ التَّصْدِيقُ بِكَرَامَاتِ الأَوْلِيَاءِ.
وَهُنَاكَ مَذْهَبٌ مُخَالِفٌ لِمَذْهَبِ أَهْلِ
السُّنَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ المُعْتَزِلَةِ وَمَن تَبِعَهُمْ؛ حَيْثُ
إِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ الكَرَامَاتِ، وَيَقُولُونَ: إنَّكَ لَوْ أثبَتَّ
الكَرَامَاتِ؛ لَاشْتَبَهَ السَّاحِرُ بِالوَلِيِّ وَالوَليُّ
بِالنَّبِيِّ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَأتِي بِخَارِقٍ.
فَيُقَالُ: لَا يُمْكِنُ الالتِبَاسُ؛ لِأَنَّ
الكَرَامةَ عَلَى يَدِ وَلِيٍّ، وَالوَلِيُّ لَايُمْكِنُ أَنْ يَدَّعِي
النُّبُوَّةَ، وَلَو ادَّعَاهَا؛ لَمْ يَكُنْ وَلِيّاً. آيَةُ النَّبِيِّ
تَكُونُ عَلَى يَدِ نَبِيٍّ، وَالشَّعْوَذَةُ وَالسِّحْرُ عَلَى يَدِ
عَدُوٍ بَعِيدٍ مِن وِلَايَةِ اللهِ، وَتَكُونُ بِفِعْلِهِ
بِاسْتِعَانَتِهِ بَالشَّيَاطِينِ، فَيَنَالُهَا بِكَسْبِهِ؛ بِخِلَافِ
الكَرَامَةِ؛ فَهِيَ مِن اللهِ تَعَالَى، لَا يَطْلبُهَا الوَلِيُّ
بِكَسْبِهِ.
قَالَ العُلَمَاءُ: كُلُّ كَرَامَةٍ لِوَلِيٍّ؛
فَهِي آيَةٌَ لِلنَّبِيِّ الَّذِي اتَّبَعَهُ؛ لِأَنَّ الكَرَامَةَ
شَهَادَةٌ مِن اللهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ طَرِيقَ هَذَا الوَلِيِّ طَرِيقٌ
صَحِيحٌ.
وَعَلى هَذَا؛ مَا جَرَى مِنَ الكَرَامَاتِ
لِلأَوْلِيَاءِ مِن هَذِهِ الأُمَّةِ؛ فَإِنَّهَا آيَاتٌ لِرَسُولِ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ العُلَمَاءِ: مَا مِن
آيَةٍ لِنَبِيٍّ مِن الأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ؛ إِلَّا وَلِرَسُولِ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُهَا.
-فَأُورِدَ عَلَيْهِمْ أنَّ الرَّسُولَ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُلْقَ فِي النَّارِ فَيَخْرُجُ حَيّاً؛
كَمَا حَصَلَ ذلِكَ لِإِبْرَاهِيمَ.
فَأُجِيبَ بِأَنَّهُ جَرَى ذَلِكَ لِأَتْبَاعِ
الرَّسُولِ عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؛ كَمَا ذَكَرَهُ
المُؤَرِّخُونَ عَن أَبِي مُسْلِمٍ الخَوَلَانِيِّ، وَإِذَا أَُكْرِمَ
أَتْبَاعُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِجِنْسِ هَذَا
الأَمْرِ الخَارِقِ لِلعَادَةِ؛ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أنَّ دِينَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقٌّ؛ لِأنَّهُ مُؤيَّدٌ بِجِنْسِ هَذِهِ
الآيَةِ الَّتِي حَصَلَتْ لِإِبْرَاهِيمَ.
-وَأََوْرَدَ عَلَيْهِمْ أَنَّ البَحْرَ لَمْ يُفْلَقْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ فُلِقَ لِمُوسَى!
فَأُجِيبَ بِأنَّهُ حَصَلَ لِهَذِهِ الأُمَّةِ
فِيمَا يَتَعَلَّقُ فِي البَحْرِ شَيءٌ أَعْظَمُ مِمَّا حَصَلَ لِمُوسَى،
وَهُو المَشْيُ عَلَى المَاءِ؛ كَمَا فِي قِصَّةِ العَلَاءِ ابنِ
الحَضْرَمِيِّ؛ حَيْثُ مَشَوا عَلَى ظَهْرِ المَاءِ، وَهَذَا أَعْظَمُ
مِمَّا حَصَلَ لِمُوسَى؛ لِأَنَّ مُوسَى مَشَى عَلَى أَرْضٍ يَابِسَةٍ.
-وَأُورِدَ عَلَيْهِمْ أَنَّ مِنْ آيَاتِ عِيسَى
إِحْيَاءَ المَوتَى، وَلَمْ يَقَعْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَأُجِيِبَ بِأنَّهُ وَقَعَ لِأَتْبَاعِ
الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؛ كَمَا فِي قِصَّةِ الرَّجُلِ
الَّذِي مَاتَ حِمَارُهُ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ، فَدَعَا اللهَ تعالَى
أَنْ يُحْيِيهِ، فَأَحْيَاهُ اللهُ تَعَالَى.
-وَأَُورِدَ عَلَيْهِمْ إِبْرَاءَ الأَكْمَهِ وَالأَبْرَصِ.
فَأُجِيبَ بِأنَّهُ حَصَلَ مِن النَّبِيِّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّ قَتَادَةَ بنَ النُّعْمَانِ لَمَّا جُرِحَ
فِي أُحُدٍ؛ نَدَرَتْ عَينُهُ حَتَّى صَارَتْ عَلَى خَدِّهِ، فَجَاءَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخَذَهَا بِيَدِهِ،
وَوَضَعَها فِي مَكَانِهَا، فَصَارَتْ أَحْسَنَ عَيْنَيهِ.
فَهَذِهِ مِن أَعْظَمِ الآيَاتِ.
فَالآيَاتُ الَّتِي كَانَتْ لِلأَنْبِيَاءِ
السَّابِقِينَ كَانَ مِنْ جِنْسِهَا لِلنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَوْ لِأُمَّتِهِ، وَمَن أَرَادَ المَزِيدَ مِن ذَلِكَ؛
فَلْيَرْجِعْ إِلَى كِتَابِ ((البِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ فِي
التَّارِيخِ)) لِابْنِ كَثِيرٍ.
تَنْبِيهِ:
الكَرَامَاتُ؛ قُلْنَا: إنَّها تَكُونُ
تَأْيِيداً أَوْ تَثْبِيتاً أَوْ إِعَانَةً لِلشَّخْصِ أَوْ نَصْراً
لِلحَقِّ، وَلِهَذَا كَانَتِ الكَرَامَاتُ فِي التَّابِعِينَ أَكْثَرَ
مِنْهَا فِي الصَّحَابَةِ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ عِنْدَهُمْ مِن
التَّثْبِيتِ وَالتَّأيِيدِ وَالنَّصْرِ مَا يَسْتَغْنُونَ بِهِ عَن
الكَرَامَاتِ؛ فَإِنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ
بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، وَأَمَّا التَّابِعُونَ؛ فإنَّهُمْ دُونَ ذَلِكَ،
وَلِذَلِكَ كَثُرت الكَرَامَاتُ فِي زَمَنِهِمْ تَأْيِيداً لَهَمْ
وَتَثْبِيتاً وَنَصْراً لِلحَقِّ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ.
قَولُهُ: ((وَمَا يَجْرِي اللهُ عَلَى أَيْدِيِهمْ مِن خَوَارقِ العَادَاتِ)): ((خَوَارِقِ)): جَمْعُ خَارِقٍ.
وَ((العَادَاتُ)): جَمْعُ عَادَةٍ.
وَالمُرَادُ بـِ ((خَوَارِقِ العَادَاتِ)): مَا يَأْتِي عَلَى خِلَافِ العَادَةِ الكَوْنِيَّةِ.
وَهَذِهِ الكَرَامَاتُ لَهَا أَرْبَعُ دِلَالَاتٍ:
أَوَّلاً: بَيَانُ كَمَالِ قُدْرَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ حَيْثُ حَصَلَ هَذَا الخَارِقُ لِلْعَادَةِ بِأَمْرِ اللهِ.
ثَانِياً: تَكْذِيبُ القَائِلِينَ بِأَنَّ
الطَّبِيعَةَ هِيَ الَّتِي تَفْعَلُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَت الطَّبِيعَةُ
هِيَ الَّتِي تَفْعَلُ؛ لَكَانَتِ الطَّبِيعَةُ عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ لَا
يَتَغَيَّرُ؛ فَإِذَا تَغَيَّرَت العَادَاتُ وَالطَّبِيعَةُ؛ دَلَّ عَلَى
أنَّ لِلكَوْنِ مُدَبِّراً وَخَالِقاً.
ثَالِثاً: أنَّها آيَةٌ لِلنَّبِيِّ المَتْبُوعِ كَمَا أَسْلَفْنَا قَرِيباً.
رَابِعاً: أَنَّ فِيهَا تَثْبِيتاً وَكَرَامَةً لِهَذَا الوَلِيِّ.
قَولُهُ: ((فِي أَنْوَاعِ العُلُومِ
وَالمُكَاشَفَاتِ وَأَنْوَاعِ القُدْرَةِ وَالتَّأثِيرَاتِ))؛ يَعْنِي:
أَنَّ الكَرَامَةَ تَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَينِ:
قِسْمٌ يَتَعَلَّقُ بِالعُلُومِ وَالمُكَاشَفَاتِ
وَقِسْمٌ آخَرُ يَتَعَلَّقُ بِالقُدْرَةِ وَالتَّأثيرَاتِ.
-أَمَّا العُلُومُ؛ فَأَنْ يَحْصُلَ لِلإِنْسَانِ مِن العُلُومِ مَا لَا يَحْصُلُ لِغَيْرِهِ.
-وَأَمَّا المُكَاشَفَاتُ؛ فَأَنْ يَظْهَرَ لَهُ مِن الأَشْيَاءِ الَّتِي يُكْشَفُ لَهُ عَنْهَا مَا لَا يَحْصُلُ لِغَيْرِهِ.
-مِثَالُ الأَوَّلِ– العُلُومُ -: مَا ذُكِرَ
عَنْ أَبِي بَكْرٍ: أَنَّ اللهَ أَطْلَعَهُ عَلَى مَا فِي بَطْنِ زَوْجتِهِ
–الحَمْلِ-؛ أَعْلَمَهُ اللهُ أنَّهُ أُنْثَى.
-وَمِثَالُ الثَّانِي- المُكَاشَفَاتُ -: مَا
حَصَلَ لِأَمِيرِ المُؤمِنِينَ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ
حِينَ كَانَ يَخْطُبُ النَّاسَ يَومَ الجُمُعَةِ عَلَى المِنْبَرِ،
فَسَمِعُوهُ يَقُولُ: يَا سَارِيَةُ! الجَبَلَ! فتَعَجَّبُوا مِن هَذَا
الكَلَامِ، ثُمَّ سَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: إنَّهُ كُشِفَ لَهُ عَنْ
سَاريةَ بنِ زَنِيمٍ – وَهُو أَحَدُ قُوَّادِهِ فِي العِرَاقِ-، وَأنَّهُ
مَحْصورٌ مِنْ عَدوِّهِ، فَوَجَّهَهُ إِلَى الجَبَلِ، وَقَالَ لَهُ: يَا
سَارِيةُ! الجَبَلَ! فَسَمِعَ ساريةُ صَوتَ عُمَرَ، وَانْحَازَ إِلَى
الجَبَلِ، وَتَحَصَّنَ بِهِ!
هَذِهِ مِنْ أُمُورِ المُكَاشَفَاتِ؛ لِأنَّهُ أَمْرٌ وَاقِعٌ، لَكِنَّهُ بَعِيدٌ.
-أَمَّا القُدْرَةُ وَالتَّأْثِيرَاتُ؛ فَمِثْلُ
مَا وَقَعَ لِمَرْيمَ مِن هَزِّها لجِذْعِ النَخْلِ وَتَسَاقُطِ الرُّطَبِ
عَلَيْهَا. وَمِثْلُ مَا وَقَعَ لِلَّذِي عِنْدَهَ عِلْمٌ مِن الكِتَابِ؛
حَيْثُ قَالَ لِسُلَيْمَانَ: أَنَا آتِيْكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ
إِلَيْكَ طَرْفُكَ.
قَولُهُ: ((وَالمَأْثُورُ عَنْ سَالِفِ الأُمَمِ
فِي سُورَةِ الكَهْفِ وَغَيْرِهَا وَعَنْ صَدْرِ هَذِهِ الأُمَّةِ مِنَ
الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِرِ فِرَقِ الأُمَّةِ)).
الكَرَامَاتُ مَوْجُودَةٌ فِيمَا سَبَقَ مِن
الأُمَمِ، وَمِنْهَا قِصَّةُ أَصْحَابِ الغَارِ الَّذِينَ انْطَبَقَتْ
عَلَيْهم الصَّخْرةُ، وَمَوْجُودَةٌ فِي عَهْدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ كَقِصَّةِ أُسَيْدِ بنِ حُضَيرٍ، وَتَكْثِيرِ
الطَّعَامِ عِنْدَ بَعْضِ الصَّحَابَةِ، وَمَوجُودَةٌ فِي التَّابِعِينَ؛
مِثْلُ قِصَّةِ صِلةَ بنِ أَشْيَمَ الَّذِي أَحْيَا اللهُ لَهُ فَرَسَهُ.
يَقُولُ شَيْخُ الإِسْلَامِ فِي كِتَابِ
((الفُرْقَانِ)): ((وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ، قَدْ بُسِطَ الكَلَامُ عَلَى
كَرَامَاتِ الأَوْلِيَاءِ فِي غَيْرِ هَذَا المَوْضِعِ، وَأَمَّا مَا
نَعْرِفُه نَحْنُ عَيَاناً وَنَعْرِفُهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ؛
فَكَثِيرٌ)).
قَولُهُ: ((وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِيهَا إِلَى يَومِ القِيَامَةِ)).
وَالدَّليلُ عَلَى أَنَّهَا مَوجُودَةٌ إِلَى يَومِ القِيَامَةِ: سَمْعِيٌّ وَعَقْلِيٌّ:
-أمَّا السَّمَعِيُّ؛ فَإِنَّ الرَّسُولَ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخَبَرَ فِي قِصَّةِ الدَّجَّالِ أنَّهُ يَدْعُو
رَجُلاً مِن النَّاسِ مِن الشَّبابِ؛ يَأتِي وَيَقُولُ لَهُ: كَذَبْتَ!
إنَّمَا أَنْتَ المَسِيخُ الدَّجَّالُ الَّذِي أخبَرَنا عَنْكَ رَسُولُ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَأْتِي الدَّجَّالُ،
فَيَقْتُلُهُ قِطْعَتَينِ، فَيَجْعَلُ وَاحِدَةً هُنَا وَوَاحِدَةً هُنَا
رَمْيَةَ الغَرَضِ (يَعْنِي: بَعِيدٌ مَا بَيْنَهُمَا)، وَيَمْشِي
بَيْنَهُمَا، ثُمَّ يَدْعُوهُ، فَيَقُومُ يَتَهَلَّلُ، ثُمَّ يَدْعُوهُ
لِيَقِرَّ لَهُ بِالعُبُودِيَّةِ، فَيَقُولُ الرَّجُلُ: مَا كُنْتُ فِيكَ
أَشَدَّ بَصِيرَةً مِنِّي اليَومَ! فَيُرِيدُ الدَّجَّالُ أَنْ يَقْتُلَهُ؛
فَلَا يُسَلَّطُ عَلَيهِ.
فَهَذِهِ (أَيْ: عَدَمُ تَمَكُّنِ الدَّجَّالِ مِن قَتْلِ ذَلِكَ الشَابِّ) مِن الكَرَامَاتِ بِلَا شَكٍّ.
-وَأمَّا العَقْلِيُّ؛ فَيُقَالَ: مَا دَامَ
سَبَبُ الكَرَامَةِ هِيَ الوِلَايةُ؛ فَالوِلَايَةُ لَا تَزَالُ
مَوْجُودَةً إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ).
الروضة الندية للشيخ: زيد بن
عبد العزيز بن فياض رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (* فصلٌ في كراماتِ الأولياءِ *
(ومِنْ
أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ والجماعة التَّصْدِيقُ بِكَراماتِ الأوْلِياءِ
ومَا يُجْري اللهُ عَلى أَيْديهِمْ مِنْ خَوارِقِ العَادَاتِ في أَنْواعِ
العُلومِ والمُكاشَفاتِ وأَنْواعِ القُدْرَةِ والتَّأْثيراتِ، [
والمأْثُوِرِ ] عنْ سَالِفِ الأمَمِ في سُورَةِ الكَهْفِ وغَيْرِها، وعَنْ
صَدْرِ هذهِ الأمَّةِ مِن الصَّحابَةِ والتَّابِعِينَ وسائِرِ [ فِرَقِ ]
الأمَّةِ، وهِيَ مَوْجودَةٌ فيها إِلى يَوْمِ القِيامَةِ) ).
الشرح:
ومَا أَحْسَن ما قَالَ السَّفارِينيُّ فِي عَقيدَتِه يَذكرُ الكراماتِ:
ومَن نَفَاها مِن ذَوِي الضَّلال ِ فقَدْ أتى فِي ذاكَ بالمُحالِ
لأَنَّهَا شَهِيرةٌ ولم تَزلْ فِي كلِّ عصْرٍ يا شَقَا أهلِ الزَّلَلِ
واسمُ المُعجزةِ يَعُمُّ كلَّ خارِقٍ للعادَةِ
فِي اللُّغةِ، وعُرْفِ الأئِمَّةِ المتَقدِّمينَ كالإِمَامِ أَحْمَدَ بنِ
حنْبلٍ وغيرِه ويَسمُّونها آياتٍ لكنْ كثيرٌ مِن المُتأخِّرين يُفرِّقُ فِي
اللَّفظِ بَينهُما فيجعلُ المُعجِزَةُ للنَّبيِّ والكرامةَ للْوَلِيِّ
وجِماعُها الأمْرُ الخَارِقُ للعادَةِ وذَلِكَ يرجِعُ إِلَى ثلاثةٍ:
الْعِلْمِ والقُدْرةِ والغِنَى.
وهَذِهِ الثَّلاثةُ لا تَصلحُ على الكمالِ إلا
للهِ وحدَه فإِنَّهُ الَّذِي أحاطَ بكلِّ شَيءٍ عِلْماً وهُوَ على كُلِّ
شيءٍ قَديرٌ وهُوَ غَنِيٌّ عَن العَالَمِين. وإنَّمَا يَنالُ العبدُ من
ذَلِكَ الثَّلاثةِ بِقدرِ ما يُعطِيه اللهُ تَعَالَى فيعلمُ مِنه ما
عَلَّمه إيَّاه وَيقدِرُ منه على ما أقْدَرَه اللهُ عَلَيْهِ ويَسْتَغنِي
عَمَّا أغناهُ اللهُ عَنْهُ من الأمورِ المخالِفةِ للعادَةِ المُطَّرِدةِ
أو عادةِ أغلبِ النَّاسِ. فما كَانَ مِن الخَوارِقِ مِن بابِ الْعِلْمِ
فتارةً بأنْ يَسمعَ العبدُ ما لا يَسمعُه غيرُه. وتَارةً بأنْ يَرَى ما لا
يَراهُ غيرُه يَقْظةً وَمَناماً. وتَارةً بأنْ يَعلمَ ما لا يَعلمُ غَيرُه
وَحْياً وَإلْهَاماً أو إنزالَ عِلمٍ ضَروريٍّ أو فَراسةً صَادِقةً
ويُسَمَّى كَشْفاً ومُشاهداتٍ ومُكاشَفاتٍ ومُخاطَباتٍ، فَالسَّماعُ
مُخاطَباتٌ، والرُّؤيةُ مُشاهداتٌ، والْعِلْمُ مُكاشفةٌ ويُسمَّى ذَلِكَ
كُلُّهُ كَشْفاً ومُكاشَفَةً أيْ كُشِفَ لَهُ عَنْهُ.
وما كَانَ مِن بابِ القُدْرةِ فهُوَ التَّأثيرُ،
وقَدْ يكونُ هِمَّةً وصِدْقاً ودَعوةً مُجابةً. وقَدْ يكونُ مِن فِعلِ
اللهِ الَّذِي لا تأثيرَ لَهُ فيه بحالٍ: مِثلِ هلاكِ عَدُوِّه بغيرِ أثَرٍ
منه كقولِهِ: مَنْ عَادَى لِي وَلِياًّ فقَدْ بَارَزَنِي
بِالْمُحَارَبَةِ، وَإِنِّي لأَثْأَرُ لأَوْلِيائِي كَمَا يَثْأَرُ
اللَّيْثُ الْمُجَرَّدُ. وَمِثلِ تَذْليلِ النُّفوسِ لَهُ ومَحَبَّتِها
إيَّاهُ ونحوِ ذَلِكَ، وكذَلِكَ ما كَانَ مِن بابِ الْعِلْمِ، والْكَشفُ
قَدْ يُكشفُ لغَيرِه مِن حالِهِ بعضُ أمورٍ كما قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي المُبشِّراتُ هي الرُّؤيا الصادِقةُ، يراها
الرَّجُلُ الصَّالحُ، أو تُرَى لَهُ. وكما قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الأَرْضِ.
وقَدْ جُمِعَ لِنَبيِّنا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَميعُ أنواعِ الْمُعْجِزَاتِ والخَوارقِ. أمَّا
الْعِلْمُ والأخبارُ الغَيبِيَّةُ والسَّماعُ والرُّؤيةُ فَمِثلُ إخبارِ
نَبِيِّنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن الأنبياءِ المُتقدِّمين
وأُممِهم ومُخاطبَاتِه لهم وأحوالِهِ معهم وغيرِ الأنبياءِ مِن الأولياءِ
وغَيْرِهِمْ بما يُوافقُ ما عندَ أهلِ الكتابِ الَّذِينَ وَرِثُوه
بالتَّواتُرِ أو بِغيرِه مِن غيرِ تَعَلُّمٍ لَهُ مِنْهُمْ. وكذَلِكَ
إخْبارُه عَن أمورِ الرُّبوبِيَّةِ والملائكةِ والجَنَّةِ والنَّارِ بما
يُوافِقُ الأنْبياءَ قَبْلَهُ مِن غيرِ تَعَلُّمٍ منه ويُعلمُ أنَّ ذَلِكَ
موافِقٌ لنُقُولُ الأنبياءِ تَارةً بِما فِي أيدِيهم مِن الكُتبِ
الظَّاهِرةِ ونحوِ ذَلِكَ مِن الكُتُبِ المُتواتِرةِ وتَارةً بِما يَعلمُه
الْخَاصَّةُ مِن عُلمائِهم.
فإخبارُه عَن الأمورِ الغائِبةِ مَاضِيها
وَحاضِرِها هُوَ مِن بابِ الْعِلْمِ الخارقِ. وكذَلِكَ إخبارُه عَن الأمورِ
المُستقبلةِ مثلِ مَملَكةِ أُمَّته، وزوالِ مَملكةِ فارسَ والرُّومِ،
وقتالِ التُّركِ، وألوفِ مُؤلَّفةٍ مِن الأخبارِ التي أخْبرَ بها، وأمَّا
القُدْرةُ والتَّأثيرُ فَكانشقاقِ القَمرِ وكذا مِعراجُه إِلَى
السَّمَاواتِ وكثرةِ الرَّميِ بالنُّجومِ عندَ ظُهُورِه، وكذَلِكَ إسراؤُهُ
مِن المسجدِ الحرامِ إِلَى المسجدِ الأقْصَى، وكاهْتزازِ الجبلِ تحتَهُ
وتكثيرِ الماءِ فِي عينِ تَبوكَ، وعينِ الحُديبيةِ، وَنبعِ الماءِ مِن بينِ
أصَابعِه غيرَ مرَّةٍ، وكذا تكَثيرُه للطَّعامِ غيرَ مرَّةٍ.
وكذَلِكَ مِن بابِ القُدْرةِ عَصَا مُوسَى
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفَلقُ البحرِ والقُمَّلُ والضَّفادعُ
والدَّمُ وناقةُ صالحٍ، وإبراءُ الأكْمَهِ والأبرَصِ، وإحياءُ المَوْتى
لِعيسَى، كما أنَّ مِن بابِ الْعِلْمِ إخبارُهم بما يأكُلونَ وما يدَّخِرون
فِي بُيوتِهم. وأمَّا الْمُعْجِزَاتُ التي لغيرِ الأنبياءِ مِن بابِ
الكَشْفِ والْعِلْمِ فمِثلُ قولِ عُمَرَ فِي قِصَّةِ سَارِيةَ وإخبارِ
أَبِي بَكْرٍ بأنَّ بِبطنِ زوجَته أُنْثى، وإخبارِ عُمَرَ بمَنْ يخرُجُ مِن
ولدِهِ فيكونُ عادِلاً وقِصَّةِ صاحبِ مُوسَى فِي عِلْمِه بحالِ الغُلامِ.
والقُدْرةُ مِثلُ قِصَّةِ الَّذِي عندَه عِلمٌ مِن الكِتابِ، وقِصَّةِ
أهلِ الكهْفِ، وقِصَّةِ مريمَ، وقِصَّةِ خالدِ بنِ الوليدِ، وسفينةِ مولى
رَسُولِ اللهِ وأَبِي مُسْلِمٍ الخَوْلانِيِّ وأشياءَ يطولُ شَرْحُها.
وأمَّا القُدْرةُ التي لم تَتَعلَّقْ بِفعلِهِ فَمِثلُ نصرِ اللهِ لمَنْ
يَنصُرُه وإهلاكِهِ لِمَنْ يَشْتُمُه.
والخارقُ كَشْفاً كَانَ أو تَأْثيراً إنْ حَصَلَ
به فائدةٌ مطلوبةٌ فِي الدِّين كَانَ مِن الأعمالِ الصَّالحةِ المأمُورِ
بها دِيناً وَشَرْعاً إِمَّا واجبٌ وإمَّا مُستحبٌّ، وإنْ حَصَلَ به أمرٌ
مُباحٌ كَانَ مِن نِعمِ اللهِ الدُّنيويَّةِ التي تَقْتضِي شُكراً، وإنْ
كَانَ على وَجْهٍ يَتضمَّنُ ما هُوَ مَنهِيٌّ عَنْهُ نَهْيَ تحـريمٍ أو
نَهْيَ تَنزيهٍ كَانَ سَبباً للعذابِ أو البُغضِ كقِصَّةِ الَّذِي أُوتِيَ
الآياتِ فَانسلَخَ منها: بلعامَ بنِ باعُوراءَ. لكن قَدْ يكونُ صاحِبُها
مَعذوراً لاجتهادٍ أو تَقليدٍ أو نَقْصِ عَقْلٍ أو عِلمٍ أو غلبةِ حالٍ أو
عَجزٍ أو ضَرورةٍ فيكونُ مِن جِنْسِ بَرْحِ العابِدِ. والنَّهْيُ قَدْ
يعودُ إِلَى سببِ الخارقِ وقَدْ يعودُ إِلَى مقصودِه. فالأوَّلُ مِثلُ أنْ
يدعوَ اللهَ دعاءً مَنْهِياًّ عَنْهُ اعتداءً عَلَيْهِ وقَدْ قَالَ
تَعَالَى: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إنَّهُ لاَ يُحِبُّ
الْمُعْتَدِينَ} ومِثلُ الأعمالِ المَنْهِيِّ عَنْهَا إذا أُورِثْتَ كَشفاً
أو تأثِيراً (والثَّانِي) أن يدعوَ على غيرِه بما لا يستحقُّ أو يَدْعو
للظَّالمِ بالإعَانةِ ويُعينُه بِهمَّتِه كخُفراءِ العَدُوِّ وأعوانِ
الظَّلمةِ مِن ذَوِي الأحوالِ.
فَتلخَّصَ أنَّ الخارقَ ثَلاثةُ أقسامٍ: محمودٌ
فِي الدِّينِ ومذمومٌ فِي الدِّينِ ومُباحٌ لا محمودٌ ولا مذمومٌ فِي
الدِّينِ. فإنَّ كُان المُباحُ فيه مَنفعةٌ كَانَ نِعمةً، وإنْ لم يَكُنْ
فيه منفعةٌ كَانَ كسائرِ المُباحاتِ التي لا مَنفعةَ فيها كاللَّعبِ
والعَبثِ.
واعْلمْ أنَّ عدمَ الخوارقِ عِلماً وقُدرةً لا
يَضرُّ المُسْلِمَ فِي دِينِهِ فَمَنْ لم يَنكشِفْ لَهُ شيءٌ مِن
المَغيباتِ ولم يُسخَّرْ لَهُ شيءٌ مِن الكونِيَّاتِ لا يَنقُصهُ ذَلِكَ
فِي مَرتَبتِه عندَ اللهِ بَل قَدْ يكونُ عدمُ ذَلِكَ أنفعَ لَهُ فِي
دِينِه إذا لم يَكُنْ وجودُ ذَلِكَ فِي حقِّهِ مَأمُوراً به أمْرَ إيجابٍ
ولا استحبابٍ، فإنَّ الكشفَ أو التَّأثيرَ إنِ اقْترنَ به الدِّينُ وإلا
هَلكَ صاحِبُه فِي الدُّنْيَا والآخِرةِ ثُمَّ إنَّ الدِّينَ عِلمْاً
وعَملاً إذا صحَّ فلا بُدَّ أنْ يوجِبَ خرْقَ العادةِ إذا احتاجَ إِلَى
ذَلِكَ صاحبِهُ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ
مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} وقَالَ رَسُولُ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ
فإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللهِ. ثُمَّ قَرَأَ قولَهُ تَعَالَى: {إِنَّ
فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ}. والخوارقُ قَدْ تكونُ مَعَ
الدِّينِ، وقَدْ تكونُ مَعَ عَدمِه أو فسادِهِ أو نَقْصِهِ، وأنفعُ
الخوارقِ الخارقُ الدِّينيُّ، وهُوَ حالُ نَبِيِّنا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا مِنْ
نَبِيٍّ إِلاَّ وقَدْ أُعْطِيَ مِنَ الآياتِ مَا آمَنَ عَلَى مِثْلِهِ
الْبَشَرُ. وإنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْياً أَوْحَاهُ اللهُ
إِلَيَّ. فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعاً يَوْمَ القِيامَةِ.
فَظهرَ بذَلِكَ أنَّ الخَوَارِقَ النَّافِعةَ تَابِعةٌ للدِّينِ خادِمةٌ
لَهُ كما أنَّ الرِّياسةَ النافِعةَ هي التَّابعةُ للدِّينِ، وكذَلِكَ
المالُ النَّافعُ كما كَانَ السُلْطَانُ والمالُ بيدِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأَبِي بَكْرٍ وعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما فَمَن
جَعَلَها هي المَقصودةُ وجَعَلَ الدِّينَ تابِعاً لها ووسيلةً إليها لاَ
لأجْلِ الدِّينِ فِي الأصلِ فهُوَ يُشبُه مَن يأكلُ الدُّنْيَا بالدِّينِ
وليستْ حالُهُ كحالِ مَن تَديَّنَ خوفَ العذابِ أو رجَاءَ الجَنَّةِ. فإنَّ
ذَلِكَ مأمورٌ به وهُوَ على سبيلِ نجاةٍ وشريعةٍ صحيحةٍ. والعجبُ أنَّ
كثيراً مِمَّنْ يزعمُ أنَّهُ قَدْ ارتَفَعَ وارْتقَى عَن أنْ يكونَ دِينُه
خوفاً مِن النَّارِ أو طَلباً للجنَّةِ يَجعلُ هَمَّهُ بِدينِهِ أدْنى
خَارقٍ مِن خوارقِ الدُّنْيَا ولعلَّهُ يَجتهدُ اجْتهاداً عظيماً فِي
مِثلِهِ، ولكنْ مِنْهُمْ مَن يكونُ قَصدُه بهَذَا تَثبيتَ قَلْبِه
وطُمأنينَتِه وإيقانَهُ بصحَّةِ طَريقتِه وسلوكِه فهُوَ يطلبُ الآيةَ
علامةً وبُرهاناً على صِحَّةِ ديِنِه، ولهَذَا لمَّا كَانَ الصَّحَابَةُ
رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ مُستغنِين فِي عِلمِهم بِدِينِهم وعَمَلِهم بِه عَن
الآياتِ بما رَأوه مِن حالِ الرَّسولِ ونَالُوه مِن عِلْمٍ صارَ كُلُّ مَن
كَانَ عَنْهُمْ أبعدَ مَعَ صِحَّةِ طريقَتِه يحتاجُ إِلَى ما عِنْدَهُمْ
فِي عِلْمِ ديِنِه وعَملِهِ).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ: صالح بن فوزان الفوزان
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (ومِنْ
أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ التَّصْدِيقُ بِكَراماتِ الأوْلِياءِ ومَا
يُجْري اللهُ عَلى أَيْديهِمْ مِنْ خَوارِقِ العَادَاتِ في أَنْواعِ
العُلومِ والمُكاشَفاتِ وأَنْواعِ القُدْرَةِ والتَّأْثيراتِ، [
والمأْثُورِ ] عنْ سَالِفِ الأمَمِ في سُورَةِ الكَهْفِ وغَيْرِها، وعَنْ
صَدْرِ هذهِ الأمَّةِ مِن الصَّحابَةِ والتَّابِعِينَ وسائِرِ [ فِرَقِ ]
الأمَّةِ، وهِيَ مَوْجودَةٌ فيها إِلى يَوْمِ القِيامَةِ.(1)).
الشرح:
قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: ( (1) قولُه: (ومِن أُصولِ أهلِ السُّنَّةِ) أيْ: مِن أُصولِ عقيدَتِهم (التَّصدِيقُ بكراماتِ الأوْلياءِ) الكراماتُ: جمعُ كرامةٍ وهِيَ (ما يُجرِي اللَّهُ على أيديهم مِن خوارقِ العاداتِ) فالكرامةُ أمرٌ خارِقٌ للعادةِ. أيْ لِمَألوفِ الآدمِيِّين، والأوْلياءُ جمعُ وَلِيٍّ: وَهُوَ المؤمنُ المتَّقِي، كما قال تعالى {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ* الَّذينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}
سُمِّي وَلِياًّ اشتِقاقا مِن الولاءِ وَهُوَ المحبَّةُ والقُربُ، فولِيُّ
اللَّهِ مَن وَالَى اللَّهَ بموافَقتِه في محبوباتِه والتقرُّبِ إليه
بِمَرضاتِه.
وكراماتُ الأوْلياءِ حقٌّ، وقد دلَّ عليها الكِتابُ والسُّنَّةُ والآثارُ المتواتِرةُ عن الصَّحابةِ والتَّابِعينَ. والنَّاسُ في كراماتِ الأوْلياءِ على ثلاثةِ أصنافٍ:
الصِّنفُ الأوَّلُ: مَن يَنفِيها مِن المبتدعةِ
كالمعتزِلةِ، والجَهْميَّةِ، وبعضِ الأشاعِرةِ، وشُبْهَتُهم: أنَّ
الخوارِقَ لو جاز ظُهُورُها على أيدي الأوْلياءِ لالْتَبَسَ النَّبيُّ
بغيرِه؛ إذ الفَرْقُ بَيْنَ النَّبيِّ وغيرِه هُوَ المعجِزةُ التي هِيَ
خرقٌ للعادةِ.
الصِّنفُ الثَّاني: مَن يَغْلُو في إثباتِ
الكرامةِ مِن أصحابِ الطُّرُقِ الصُّوفيَّةِ والقُبوريِّينَ الذين
يُدَجِّلونَ على النَّاسِ، ويأتونَ بخوارِقَ شيطانيَّةٍ كدخُولِ النَّارِ
وضربِ أنفسِهم بالسِّلاحِ، وإمساكِ الثعابِينِ، وغيرِ ذَلِكَ ممَّا
يَدَّعُونَه لأصحابِ القبورِ مِن التَّصرُّفاتِ التي يُسمُّونها كراماتٍ.
الصِّنفُ الثَّالثُ: الذين ذَكَرهم الشَّيخُ
هنا، وهم أهلُ السُّنَّةِ والجَماعةِ، فيؤمِنونَ بكراماتِ الأوْلياءِ
ويُثْبِتُونها على مُقْتَضَى ما جاءَ في الكتابِ والسُّنَّةِ. ويردُّونَ
على مَن نَفاها بِحُجَّةِ منْعِ الاشتِباهِ بَيْنَ النَّبيِّ وغيرِه: بأنَّ
هناك فوارِقَ عظيمةً بَيْنَ الأنبياءِ وغيرِهم غيرَ خوارِقِ العاداتِ.
وأنَّ الولِيَّ لا يدَّعِي النُّبوةَ ولو ادَّعاها لخَرَجَ عن الولايةِ
وصار مُدَّعِياً كذَّاباً، لا ولِياًّ، ومِن سُنَّةِ اللَّهِ أنْ يَفضَحَ
الكاذِبَ، كما حصَلَ لمُسَيْلمةَ الكذَّابِ وغيرِه. ويردُّونَ على مَن غلا
في إثباتِها فادَّعاها للمُشعْوِذينَ والدَّجَّالِينَ بأنَّ هؤلاءِ ليسُوا
أولياءَ اللَّهِ، وإنما هم أولياءُ للشَّيطانِ، وما يجرِي عليهم إمَّا
كذِبٌ وتدجيلٌ أو فِتنةٌ لهم ولغيرِهم واستدراجٌ. واللَّهُ أَعْلمُ.
ولِشَيخِ الإسلامِ ابنِ تيميةَ في هَذَا الموضوعِ كتابٌ جليلٌ اسمُه: (الفُرقانُ بَيْنَ أولياءِ الرَّحمنِ وأولياءِ الشَّيْطانِ ).
وفي قولِه: (في أنواعِ العلومِ والمكاشَفاتِ وأنواعِ القُدرةِ والتَّأثيراتِ) إشارةٌ إلى أنَّ الكرامةَ منها
ما يكونُ مِن بابِ العِلمِ والكَشفِ بأنْ يَسمَعَ العبدُ ما لا يَسمَعُه
غيرُه، أو يَرى ما لا يَراهُ غيرُه يقظةً أو مَناما، أو يَعلَمَ ما لا
يَعلَمُه غيرُه. ومنها ما هُوَ مِن بابِ القُدرةِ والتَّأثيرِ.
مثالُ النَّوعِ الأوَّلِ: قولُ عُمرَ: يا ساريةُ الجبَلَ، وَهُوَ بالمدينةِ وساريةُ في المَشرقِ.
وإخبارُ أبي بكرٍ بأنَّ بِبَطْنِ زوجتِه أُنْثى، وإخبارُ عُمرَ بمن
يَخْرُجُ مِن وَلدِه فيكونُ عادِلا. وقِصَّةُ صاحبِ موسى وعِلمِه بحالِ
الغلامِ.
ومثالُ النَّوعِ الثَّاني: قصَّةُ الذي عَلِمَ
مِن الكتابِ وإتْيانهِ بعرشِ بِلْقِيسَ إلى سليمانَ عليه السَّلامُ.
وقصَّةُ أهلِ الكهفِ، وقصةُ مريمَ، وقصةُ خالدِ بنِ الوليدِ لَمَّا شَرِبَ
السُّمَّ ولم يحصُلْ له منه ضرَرٌ.
وقولُه: (والمأثورُ عن سالِفِ الأُممِ في سورةِ الكهفِ
وغيرِها وعنْ صدْرِ هَذِهِ الأُمَّةِ مِن الصَّحابةِ والتَّابِعينَ وسائرِ
فِرَقِ الأُمَّة) يُشيرُ بذَلِكَ إلى الكراماتِ التي وَقَعتْ
وذُكِرَتْ في القرآنِ الكريمِ وغيرِه مِن النُّقولِ الصَّحيحةِ، فمِمَّا
ذَكَرَهُ اللَّهُ في القرآنِ الكريمِ عن سالِفِ الأُممِ ما ذَكَرَهُ
اللَّهُ عن حَمْلِ مريمَ بلا زوجٍ، وما ذُكِرَ في سورةِ الكهفِ مِن قصةِ
أصحابِ الكهفِ، وقصةِ صاحبِ موسَى، وقصةِ ذي القَرْنَيْنِ.
وكالمأثورِ أي المنقولِ بالسَّنَدِ الصَّحيحِ عن (صدْرِ هَذِهِ الأُمَّةِ)
أيْ أوَّلِها مِن الصَّحابةِ والتَّابِعينَ كرؤيةِ عُمَر لجيشِ ساريةَ
وَهُوَ على مِنْبرِ المدينةِ، وجيشُ ساريةَ بِنَهاوَنْدَ بالمَشرقِ،
وندائِه له: يا ساريةُ الجبلَ، فسَمِعَه ساريةُ وانتَفَع بهَذَا
التَّوجيهِ، وسَلِمَ مِن كيْدِ العدُوِّ. وقولُه: (وهِيَ موجودةٌ فيها إلى يومِ القيامةِ) أي لا تَزالُ الكراماتُ موجودةً في هَذِهِ الأُمَّةِ إلى يومِ القيامةِ ما وُجِدَتْ فيهم الولايةُ بشُروطِها، واللَّهُ أَعْلمُ).