11 Nov 2008
معنى أهل السنة والجماعة
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (ثُمَّ مِنْ طَرِيقَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ اتِّبَاعُ آثَارِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَاطِنًا وَظَاهِرًا ، وَاتِّبَاعُ سَبِيلِ السَّابِقِيَن الأَوَّلِينَ مِن الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ ، وَاتِّبَاعُ وَصِيَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ قَالَ : ((عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلفاءِ الرَّاشدينَ مِنْ بَعْدِي ، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْها بِالنَّواجِذِ، وإِيّاكُمْ ومُحْدَثاتِ الأُمورِ ، فَإنّ كُلَّ محدث بِدْعَةٌ وكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالةٌ)) ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّ أَصْدَقَ الكَلاَمِ كَلامُ اللهِ ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَيُؤْثِرُونَ كَلاَمَ اللهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ كَلاَمِ أَصْنَافِ النَّاسِ ، وَيُقَدِّمُونَ هَدْيَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم عَلَى هَدْيِ كُلِّ أَحَدٍ ، وَبِهَذَا سُمُّوا أَهْلَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَسُمُّوا أَهْلَ الْجَمَاعَةِ ؛ لأَنَّ الْجَمَاعَةَ هِيَ الاجْتِمَاعُ ، وَضِدُّهَا الفُرْقةُ ، وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْجَمَاعَةِ قَدْ صَارَ اسْمًا لِنَفْسِ الْقَوْمِ المُجْتَمِعينَ).
تعليقات ابن باز على شرح
السعدي على الواسطية
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (فضل اتباعُ آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً([1])
ثم من طريقةِ أهلِ السُّنةِ والجماعةِ اتباعُ آثارِ
رسول صلى الله عليه وسلم باطناً وظاهراً، واتباعُ سبيل السابقين الأولين من
المهاجرين والأنصار، واتباع وصيةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: ((عَلَيْكُمْ
بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلفاء الرَّاشدينَ المَهْديين مِنْ بَعْدِي،
تَمَسَّكُوا بِها، وَعَضُّوا عَلَيْها بِالنَّواجِذِ، وإِيّاكُمْ
ومُحْدَثاتِ الأُمورِ، فَإنّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالةٍ)) ويَعلمون أن
أصدق الكلام كلامُ الله، وخيرَ الهدْي هدْيُ محمّد صلى الله عليه وسلم.
ويُؤثِرونَ كلامَ الله على غيره من كلام أصناف الناس، ويُقَدِّمون هديَ
محمدٍ صلى الله عليه وسلم على هدْي كل أحدٍ، ولهذا سُمُّوا أهلَ الكتابِ
والسُّنَّةِ، وسُمُّوا أهلَ الجماعةِ لأن الجماعةَ هي الاجتماعُ، وضدها
الفُرقةُ، وإن كان لفظُ الجماعةِ قد صارَ اسماً لنفسِ القومِ المُجْتَمِعين).
الشرح:
قال الشيخ عبد العزيز بن عبد الله ابن باز (ت: 1420هـ): ( ([1])
مراد المصنف بذلك: اتباع ما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من قول، أو
عمل، أو تقرير وذلك هو اتباع السنة والتمسك بها، وأوجهه ثلاثة: قول وعمل
وتقرير.
وأما آثاره الحسية كموضع جلوسه، وما هو عليه، وما وطئه بقدمه الشريفة، أو
استند إليه أو اضطجع عليه ونحو ذلك، فلا يُشرع اتباعه في ذلك. بل تتبُّع
هذه الآثار وسائل الغلو فيه.
وقد أنكر بعض أعيان الصحابة على ابن عمر ذلك.
وقطع عمر الشجرة التي بويع النبي تحتها؛ لما علم أن
الناس يقصدونها خوفاً من الفتنة، ولما بلغه أن ناسا يقصدون مسجداً صلى فيه
النبي -r- في الطريق أنكر، وقال ما معناه: " إنما أهلك من كان قبلكم مثل
هذا، كانوا يتتبعون آثار أنبيائهم، فمن أدركته الصلاة في شيء من هذه
المساجد فليصل ومن لا فليمض ولا يقصدها ".
وأما ما صلى فيه صلوات التشريع،
فالصلاة فيه مشروعة كمسجده -صلى الله عليه وسلم-، والكعبة، ومسجد قباء،
والموضع الذي صلى فيه في بيت عثمان كما طلب منه ذلك ليتخذه مصلى فأجابه
-صلى الله عليه وسلم- على ذلك.
وهكذا التبرك بشعره -صلى الله
عليه وسلم- وريقه وما ماس جلده فكله لا بأس به، لأن السنة قد صحت بذلك، وقد
قسم -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع بين الناس شعر رأسه لما قد جعل
الله فيه من البركة، وليس هذا من الغلو الممنوع، وإنما الغلو الممنوع هو أن
يعتقد فيه -صلى الله عليه وسلم- ما لا يجوز، أو يصرف له شيئا من العبادة.
وأما التبرك بغيره -صلى الله عليه وسلم-: فالصحيح منعه لأمرين:
أحدهما: أن غيره لا يقاس به؛ لما جعل الله فيه من الخير والبركة بخلاف غيره فلا يتحقق فيه ذلك.
الأمر الثاني: أن ذلك ربما يُوقع في الغلو وأنواع الشرك، فوجب سدُّ الذرائع بالمنع من ذلك، وإنما جاز في حق النبي لمجيء النصِّ به.
وهناك أمر ثالث أيضا: وهو أن الصحابة لم يفعلوا مثل ذلك مع غير النبي -صلى الله عليه وسلم- لا مع الصديق ولا مع عمر ولا مع غيرهما.
ولو كان ذلك سائغا أو قربة لسبقونا إليه، ولم
يجمعوا على تركه، فلما تركوه علم أن الحق ترك ذلك، وعدم إلحاق غير النبي به
في ذلك".اهـ).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ مُحمَّد خَليل هَرَّاس رحمه الله
قال الشيخ محمد خليل هراس (ت: 1395هـ): (قولُهُ: (( ثُمَّ مِنْ طَرِيقَةِ أهلِ السُّنَّةِ … ))
إلخ. هذا بيانُ المنهجِ لأهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ في اسْتِنْبَاطِ
الأحكامِ الدِّينِيَّةِ كُلِّهَا، أُصُولِهَا وفُرُوعِهَا، بعدَ
طَرِيقَتِهِمْ في مسائلِ الأصولِ، وهذا المنهجُ يقومُ على أصولٍ ثلاثَةٍ:
أوَّلُهَا: كتابُ اللهِ عزَّ وجلَّ، الذي هوَ خيرُ الكلامِ وأَصْدَقُهُ، فَهُمْ لا يُقَدِّمُونَ على كَلامِ اللهِ كلامَ أحدٍ مِنَ النَّاسَ.
وثانِيهَا: سُنَّةُ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ
عليهِ وَسَلمَ، وما أُثِرَ عَنْهُ مِنْ هَدْيٍ وطريقَةٍ، لا يُقَدِّمُونَ
على ذلكَ هَدْيَ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ.
وثالثُهَا: ما وَقَعَ عليهِ إجماعُ الصَّدْرِ الأوَّلِ مِنْ هذهِِ الأُمَّةِ قبلَ التَّفرُّقِ والانْتِشَارِ وظهورِ البدعةِ والمقالاَتِ.
ومَا جاءَهُمْ بعدَ ذلكَ مِمَّا قالَهُ النَّاسُ وذهبُوا إليهِ مِنَ
المَقَالاَتِ وَزَنُوهَا بهذهِِ الأُصولِ الثَّلاثةِ التَّي هيَ الكتابُ،
والسُّنَّةُ، والإِجماعُ، فإنْ وَافَقَهَا قَبِلُوهُ، وإنْ خَالَفَهَا
ردُّوهُ؛ أيًّا كانَ قائِلُهُ.
وهذا هوَ المنهجُ الوسَطُ، والصِّرَاطُ المُسْتَقِيمُ، الذي لا يَضِلُّ
سَالِكُهُ، ولا يَشْقَى مَنِ اتَّبَعَهُ، وَسَطٌ بينَ مَنْ يَتَلاَعَبُ
بالنُّصُوصِ، فَيَتَأَوَّلُ الكتابَ، وينكرُ الأحاديثَ الصَّحِيحَةَ، ولا
يَعْبَأُ بإجماعِ السَّلَفِ، وبينَ مَنْ يَخْبِطُ خَبْطَ عَشْوَاءَ،
فَيَتَقَبَّلُ كُلََّ رَأْيٍ، ويأخذُ بكلِّ قَوْلٍ، لا يُفَرِّقُ في ذلكَ
بينَ غَثٍّ وسَمِينٍ، وصَحَيحٍ وسَقِيمٍٍ).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ: صالح بن فوزان الفوزان
قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: (لمَّا
ذَكَرَ الشَّيخُ طريقةَ أهلِ السُّنَّةِ في مَسائِلِ العقيدةِ ذَكَرَ في
هَذَا الفصْلِ والذي بعدَه طريقَتَهُم في عمومِ الدِّينِ؛ أُصولِه وفروعِه،
وأوصافَهم التي تَميَّزُوا بها عن أهلِ البِدَعِ والمخالَفاتِ، فمِن صِفاتِهم:
1- (اتِّباعُ آثارِ النَّبيِّ صلى اللهُ عليه وسلم باطِناً وظاهِراً) أيْ: سُلوكُ طريقِهِ والسَّيرُ على مِنهاجِه (باطِناً وظاهِراً)
بخلافِ المنافِقينَ الذين يتَّبِعونه في الظَّاهِر دونَ الباطِنِ ـ وآثارُ
الرَّسولِ صلى اللهُ عليه وسلم سُنَّتُه، وهِيَ ما رُوِي عنه، وأُثِرَ
عنه، مِن قولٍ أو فِعلٍ أو تقريرٍ. لا آثارُه الحسِّيَّةُ كمواضِع جُلوسِه
ونومِه ونحوِ ذَلِكَ؛ لأنَّ تَتبُّعَ ذَلِكَ سَببٌ للوُقوعِ في الشِّرْكِ.
كما حصَلَ في الأُممِ السَّابقةِ.
2- ومِن صفاتِ أهلِ السُّنَّةِ (اتِّباعُ سبيلِ السَّابقِينَ الأوَّلِينَ مِن المهاجِرين والأنصارِ)
لِمَا خصَّهُم اللَّهُ به مِن العِلمِ والفِقهِ، فقد شاهَدُوا
التَّنْزِيلَ وسَمِعوا التَّأويلَ وتَلَقَّوْا عن الرَّسولِ صلى اللهُ عليه
وسلم بدونِ واسِطةٍ، فهم أقربُ إلى الصَّوابِ، وأحقُّ بالاتِّباعِ بعدَ
الرَّسولِ صلى اللهُ عليه وسلم. فاتِّباعُهم يأتي بالدَّرجةِ الثَّانيةِ
بعدَ اتِّباعِ الرَّسولِ صلى اللهُ عليه وسلم، فأقوالُ الصَّحابةِ حُجَّةٌ
يَجِبُ اتِّباعُها إذا لم يُوجَدْ نصٌّ عن النَّبيِّ صلى اللهُ عليه وسلم؛
لأنَّ طريقَهم أَسْلَمُ وأَعْلَمُ وأَحْكمُ، لا كما يقولُ بعضُ
المتأخِّرينَ: إنَّ طريقةَ السَّلَفِ أَسْلَمُ وطريقةَ الخلَفِ أَعْلَمُ
وأَحْكمُ، فيتَّبِعون طريقةَ الخَلَفِ ويَتركونَ طريقةَ السَّلَفِ.
3- ومِن صفاتِ أهلِ السُّنَّةِ (اتِّباعُ وصيَّةِ رسولِ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم حَيْثُ قال: ((
عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ
الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي، تَمَسَّكُوا بِها، وَعضُّوا عَلَيْهَا
بِالنَّواجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمورِ، فِإنَّ كُلَّ
بِدْعَةٍ ضَلاَلةٌ ))) رواهُ الإمامُ أحمدُ وأبو داودَ والتِّرْمِذيُّ وابنُ ماجه. وقال التِّرمذيُّ: حَسَنٌ صحيحٌ.
وغرضُ الشَّيخِ أنْ يُبَيِّنَ أنَّ أهلَ السُّنَّةِ والجَماعةِ يتَّبِعونَ
طريقةَ الخلفاءِ الرَّاشدِينَ على الخُصوصِ بعدَ اتِّباعِهم لطريقةِ
السَّابِقِينَ الأوَّلِينَ مِن المهاجِرين والأنصارِ على وجهِ العُمومِ؛
لأنَّ النَّبيَّ صلى اللهُ عليه وسلم أوْصَى باتِّباعِ طريقةِ الخلفاءِ
الرَّاشدِينَ وصيةً خاصَّةً في هَذَا الحديثِ، ففيه قَرَنَ سُنَّةَ
الخلفاءِ الرَّاشدِينَ بسُنَّتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، فدلَّ على
أنَّ ما سَنَّهُ الخُلفاءُ الرَّاشِدونَ أو أَحَدُهم لا يَجوزُ العُدولُ
عنه.
((والخُلفاءُ الرَّاشِدونَ)) هم الخلفاءُ
الأربعةُ: أبو بكرٍ وعمرُ وعثمانُ وعليٌّ، وَوُصِفُوا بالرَّاشدِينَ؛
لأنَّهم عرَفوا الحقَّ واتَّبَعوه، فالرَّاشِدُ هُوَ مَن عرَف الحقَّ
وعَمِلَ به، وضِدُّه الغاوِي وَهُوَ مَن عرَف الحقَّ ولم يَعْمَلْ به.
وقولُه: ((الْمَهْدِيِّينَ)) أي الذين هَداهُم اللَّهُ إلى الحقِّ ((تَمَسَّكُوا بِهَا)) أيْ: الْزَمُوها ((وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ)) كنايةٌ عن شِدَّةِ التَّمسُّكِ بها، والنَّواجِذُ آخِرُ الأضراسِ. و ((مُحْدَثَاتِ الأُمُورِ)) هِيَ البِدعُ ((فإنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ))
والبِدْعةُ لغةً: ما ليس له مِثالٌ سابِقٌ، وشَرْعاً: ما لم يدلَّ عليه
دليلٌ شَرْعيٌّ. فكُلُّ مَن أَحْدَثَ شيئاً ونَسَبَه إلى الدِّينِ ولم
يكُنْ له دليلٌ فَهُوَ بدعةٌ وضلالةٌ، سواءٌ في العقيدةِ أو في الأقوالِ أو
الأفعالِ.
4- ومِن
صفاتِ أهلِ السُّنَّةِ أنَّهم يُعظِّمُونَ كتابَ اللَّهِ وسُنَّةَ رسولِه
ويُجِلُّونَهما ويُقدِّمُونَهما في الاستدلالِ بهما والاقتداءِ بهما على
أقوالِ النَّاسِ وأعمالِهم؛ لأنَّهم: (يَعلمُونَ أنَّ أصْدَقَ الكلامِ كلامُ اللَّهِ) قال اللَّهُ تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً}. {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} ويَعلمونَ: ((أنَّ خيرَ الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ))
الهَدْيُ بفتحِ الهاءِ وسكونِ الدَّالِ: السَّمْتُ والطَّريقةُ والسِّيرةُ
ـ وقُرِئَ بضمِّ الهاءِ وفَتحِ الدَّالِ ـ أي الدَّلالةُ والإرشادُ.
(ويُؤثِرون كلامَ اللَّهِ على غيرِه مِن كلامِ أصنافِ النَّاسِ) أيْ: يُقدِّمونَه ويأخُذونَ به ويَتركونَ ما عارَضَه مِن كلامِ الخَلقِ أياًّ كانوا رؤساءَ أو علماءَ أو عُبَّاداً.
(ويُقدِّمونَ هَدْيَ مُحَمَّدٍ صلى اللهُ عليه وسلم) أي سُنَّتَه وسيرتَه وتعليمَه وإرشادَه (على هَدْيِ كُلِّ أَحدٍ)
مِن الخَلقِ مَهْما عَظُمَتْ مكانَتُه، إذا كان هَدْيُه يُعارِضُ هَدْيَ
رسولِ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم. وذَلِكَ عَمَلاً بقولِه تعالى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ
وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ
إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ} الآيةَ.
وقولُه: (ولهَذَا سُمُّوا أهلَ الكِتابِ والسُّنَّةِ)
أي لأجْلِ تَمَسُّكِهم بكتابِ اللَّهِ وإيثارِهم لكَلامِه على كلامِ كُلِّ
واحدٍ، وتَمَسُّكِهم بِهَدْيِ رسولِ اللَّهِ وتقدِيمِه على هَدْيِ كُلِّ
أَحدٍ سُمُّوا أهلَ الكِتابِ والسُّنَّةِ لأجْلِ ذَلِكَ لُقِّبُوا بهَذَا
اللَّقَبِ الشَّريفِ الذي يُفِيدُ اختصاصَهم بهما دُونَ غيرِهم ممَّن حادَ
عن الكِتابِ والسُّنَّةِ مِن فِرَقِ أهلِ الضَّلالِ كالمعتزِلة والخوارِجِ
والرَّوافِضِ ومَن وافَقَهم في أقوالِهم أو في بعضِها.
وقولُه: (وسُمُّوا أهلَ الجماعةِ) أيْ: كما سُمُّوا أهلَ الكِتابِ والسُّنَّةِ سُمُّوا (أهلَ الجماعةِ) والجماعةُ ضِدُّ الفُرْقةِ؛ لأنَّ التَّمَسُّكَ بالكِتابِ والسُّنَّةِ يُفيدُ الاجتماعَ والائتلافَ، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا} فالجماعةُ هنا هُم المجتمِعون على الحقِّ.
5- فمِن
صفاتِ أهلِ السُّنَّةِ الاجتماعُ على الأخْذِ بالكِتابِ والسُّنَّةِ
والاتِّفاقِ على الحقِّ والتَّعاوُنِ على البِرِّ والتَّقْوى، وقد أثْمَرَ
هَذَا وجودَ الإجماعِ (والإجماعُ هُوَ الأصلُ الثَّالِثُ الذي يُعتَمدُ عليه في العِلمِ والدِّينِ)
وقد عَرَّفَ الأصوليونَ الإجماعَ بأنَّه: اتِّفاقُ علماءِ العَصْرِ على
أمْرٍ دِينيٍّ وَهُوَ حُجَّةٌ قاطعةٌ يَجِبُ العَملُ به. وقولُه (وَهُوَ الأصلُ الثَّالِثُ) أي بعدَ الأصْلَيْنِ الأوَّلَيْنِ وهُما الكتابُ والسُّنَّةُ).
التنبيهات السنية للشيخ: عبد العزيز بن ناصر الرشيد رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): ( (فَصْلٌ: ثُمَّ مِنْ طَريقةِ أَهْلِ السُّنَّةِ والجَماعَةِ اتِّباعُ آثارِ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(1)
باطِناً وظاهِراً، واتِّباعُ سَبِيلِ السَّابِقينَ الأوَّلِينَ مِنَ المُهَاجِرينَ والأنْصارِ.(2)
واتِّباعُ وَصِيَّةِ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حيثُ قال: ((
عَلَيْكُمْ بِسُنَّتي وَسُنَّةِ الخُلَفاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِيِّينَ
مِنْ بَعْدي، تَمَسَّكُوا بِها، وَعَضُّوا عَلَيها بِالنَّواجِذِ،
وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثاتِ الأُمُورِ؛ فإِنَّ كُلَّ [مُحْدَثٍ بِدْعَةٌ،
وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ ])).(3)
ويَعْلَمونَ أَنَّ أَصْدَقَ الكَلامِ كَلامُ اللهِ، وخَيْرَ الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(4)
ويُؤثِرونَ كَلامَ اللهِ على غَيْرِهِ مِن كَلامِ أَصنافِ النَّاسِ.(5)
ويُقَدِّمونَ هَدْيَ محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على هَدْيِ
كُلِّ أَحَدٍ، ولهذا سُمُّوا أَهْلَ الكِتابِ والسُّنَّةِ، وسُمُّوا أَهْلَ
الجَماعَةِ؛ لأنَّ الجَماعَةَ هِيَ [ الإِجماعُ ]، وضِدُّها الفُرْقَةُ،
وإِنْ كَانَ لفظُ الجَماعَةِ قَدْ صارَ اسماً لَنفْسِ القَوْمِ
المُجْتَمِعينَ.(6) ).
الشرح:
قال الشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد (ت: 1408هـ): ((1) فَصْلٌ، قولُه: (طريقةِ) أي: سبيلٌ ومنهاجٌ.
قولُه: (السُّنَّةِ) لغةً: الطَّريقةُ.
وشَرْعا: هي أقوالُ النَّبيِّ وأفعالُه وتقريراتُه، وقد تقدَّمَ، وهَذَا معناها باعتبارِ العُرفِ الخاصِّ،
وأمَّا
معناها باعتبارِ العُرفِ العامِّ فهُوَ ما نُقِلَ عن النَّبيِّ -صلَّى
اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- أو عن السَّلَفِ مِن الصَّحابةِ والتَّابِعينَ
وغيرِهم مِن الأئمَّةِ المُقتَدى بهم،
قال ابنُ
رجبٍ: وكثيرٌ مِن المتأخِّرينَ يَخصُّون السُّنَّةَ بما يَتعلَّقُ
بالاعتقادِ؛ لأنَّها أصلُ الدِّينِ، والمُخالِفُ فيها على خَطرٍ عظيمٍ،
انتهى،
وقد
اتَّفقَ مَن يُعتدُّ بِهِ مِن أهلِ العِلمِ على أَنَّ السُّنَّةَ
المُطَهَّرةَ مُستقِلَّةٌ بتشريعِ الأحكامِ، وأنَّها كالقرآنِ في
التَّحليلِ والتَّحريمِ وغيرِ ذَلِكَ، وقد ثَبَتَ عنه –صلَّى اللَّهُ عليهِ
وسلَّمَ- أنَّه قال: ((أَلاَ وَإِنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ))،
وما رُوِي
مِن الأمرِ بعَرْضِ الأحاديثِ على القرآنِ، فقال يحيى بنُ مَعينٍ: إنَّه
موضوعٌ وَضَعَتْهُ الزَّنادِقةُ، وهُوَ مخالِفٌ لقولِه تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ} الآيةَ، وقد تقدَّمَ الكلامُ على هَذَا الحديثِ بأكملَ مِن هَذَا فارجِعْ إليه.
قولُه: (اتِّباعُ آثارِ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-)
أي: سُلوكُ طريقِهِ والسَّيْرُ على مِنهاجِهِ، قال ابنُ القيِّمِ
-رَحِمَهُ اللَّهُ-: الاتِّباعُ سُلوكُ طَريقِ المتَّبَعِ والإتيانُ بمِثلِ
ما أتى به. انتهى.
قال اللَّهُ تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسول فَخُذُوهُ}،
وقال: {فَلاَ
وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ
ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مَّمَّا قَضَيْتَ
وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}،
وقال: {وَمَا
كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ
أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}.
وعن أنسٍ أَنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعاً لِمَ جِئْتُ بِهِ))،
إلى غيرِ ذَلِكَ مِن الآياتِ والأحاديثِ التي فيها الأمرُ باتِّباعِ
الرَّسولِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- والوعيدِ الشَّديدِ في الإعراضِ
عن هَدْيِهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-،
فاتِّباعُه
-صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- وامتثالُ أمْرِه مِن أعظمِ الفُروضِ، بل
كُلُّ قولٍ أو عَملٍ يُخالِفُ ما عليه النَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ
وسلَّمَ- وأصحابُه فهُوَ باطلٌ مردودٌ على فاعلِه كائِناً مَن كان،
كما في الصَّحيحِ مِن حديثِ عائشةَ -رضي اللَّهُ عنها- أَنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ)).
فاتِّباعُ الرَّسولِ شَرطٌ لصحَّةِ العملِ، كما قال تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ}،
وقال: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} قال الفُضيلُ بنُ عياضٍ: أي: أَخْلُصَهُ وأَصْوَبُه، قيل: يا أبا عليٍّ ما أخْلَصُه وأصوبُه؟ قال: إنَّ
العَملَ إذا كان خَالِصاً ولم يكُنْ صَواباً لم يُقبلْ، وإذا كان صَواباً
ولم يكُنْ خالِصاً لم يُقْبلْ، حتى يكونَ خالِصاً صواباً، والخالِصُ أنْ
يكونَ لِلَّهِ، والصَّوابُ أنْ يكونَ على سُنَّةِ رسولِ اللَّهِ –صلَّى
اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-،
وقد
اتَّفقَ المسلمونَ على أنَّ حُبَّ الرَّسولِ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-
فرضٌ بل لا يَتِمُّ الإيمانُ والإسلامُ إلا بكونِه أحبَّ إلى العبدِ مِن
نَفْسِه فَضْلا عن غيرِه، واتَّفقوا على أنَّ حبَّه لا يتحقَّقُ إلاَّ
باتِّباعِ آثارِه، والتَّسليمِ لما جاء به، والعملِ على سُنَّتِه وتَرْكِ
ما خَالَفَ قوْلَه، كما قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}، وقال: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ …} الآيةَ،
فمَن
زعَمَ أنَّ أدلَّةَ القرآنِ والسُّنَّةِ لا تُفيدُ اليقينَ، وأنَّ أحاديثَ
الأسماءِ والصِّفاتِ أخبارُ آحادٍ لا تُفيدُ العِلمَ فهُوَ بعيدٌ عن هَذَا
التَّحكيمِ،
فيَجِبُ
اعتقادُ أنَّه –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- الواسِطةُ في التَّبليغِ عن
اللَّهِ شَرْعَهُ ودِينَهُ، فاللَّهُ –سُبْحَانَهُ- المشرِّعُ ورسولُه
المبلِّغُ، فالحلالُ ما أحلَّه اللَّهُ، والحرامُ ما حرَّمَه، والدِّيُن ما
شَرَعَه، فاتِّخاذُ الواسطةِ ينقسمُ إلى قسمَيْنِ:
الأوَّلُ:
اتِّخاذُ واسطةٍ بينكَ وبين اللَّهِ على أنَّها تَنفعُ وتضُرُّ،
فاتِّخاذُ هَذِهِ الواسطةِ شِرْكٌ وكُفرٌ بالإجماعِ، كما ذكر ذَلِكَ
الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ بنُ تيميةَ،
الثَّاني:
اتِّخاذُ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ واسطةً في التَّبليغِ عن اللَّهِ
شَرْعَهُ ودِينَهُ، فإسقاطُ هَذِهِ الواسطةِ كُفرٌ باللَّهِ، فمَنْ زعم
أنَّه يَأخُذُ عن اللَّهِ بدُونِ واسطةِ رُسلِه وأنبيائِه فهُوَ كافرٌ، أو
زعم أنَّه يَصِلُ إلى حدٍّ تَسقُطُ عنه التَّكاليفُ الشَّرعيَّةُ، أو أنَّه
يَسَعُه الخروجُ عن شريعةِ مُحَمَّدٍ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- كما
وَسِعَ الخَضِرَ الخروجُ عن شريعةِ موسى، أو أنَّه مُحتاجٌ إلى مُحَمَّدٍ
-صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- في عِلمِ الظَّاهرِ دُونَ عِلمِ الباطنِ، أو
في عِلمِ الشَّريعةِ دُونَ عِلمِ الحقيقةِ، أو أنَّ هَدْيَ غيرِ مُحَمَّدٍ
أحْسنُ مَن هَدْيهِ فهُوَ كافرٌ باللَّهِ العظيمِ.
قولُه: (آثارِ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-)
أي: ما أُثِرَ عنه ورُوِي عنه مِن قولٍ أو فعلٍ أو تقريرٍ، وليس المرادُ
آثارُه الحسِّيَّةُ كمواضعِ نومِهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- وجُلوسِه
وقيامِه ونحوِ ذَلِكَ، فلا ينبغي تَتَبُّعُ ذَلِكَ؛ لأنَّه وسيلةٌ إلى
الفِتنةِ بتِلكَ المواضعِ، وربما آلَ إلى جَعلِها مَعَابِدَ،
ولذَلِكَ
قَطعَ عمرُ بنُ الخطابِ الشَّجرَةَ التي بايعَ النَّبيُّ –صلَّى اللَّهُ
عليهِ وسلَّمَ- تحتها الصَّحابةَ لمَّا بَلَغَه أنَّ أُناسًا يَذْهَبون إلى
شجرةٍ فيُصلُّون تحتَها، ونَهَى عن اتِّباعِ آثارِه الحسِّيَّةِ، وقال: إنَّما هَلَكَ مَن كان قَبلَكُم باتِّباعِ آثَارِ أنبيائِهم،
وأمَّا ما
كان يَفعلُه ابنُ عمرَ مِن تَتبُّعِ آثارِ رسولِ اللَّهِ –صلَّى اللَّهُ
عليهِ وسلَّمَ- حتى إنَّه بَالَ في الموضِعِ الذي بالَ فيه رسولُ اللَّهِ،
فقد خَالَفُه أبوه وجمهورُ الصَّحابةِ، والصَّوابُ معهم حَسْما لموادِّ
الشِّرْكِ، وسَداًّ للذَّرائِعِ التي تُوصِلُ إليه، والإسلامُ مَبْنِيٌّ على أصْلَيْنِ: أنْ لا نَعبُدَ إلاَّ اللَّهَ، وأنْ نعبدَه بما شَرَعَ لا نَعبدُه بالبِدَعِ، وقد تقدَّمَ ذِكرُ ذَلِكَ.
(2) قوله: (باطِناً وظاهرًا)
إشارةٌ إلى أنَّه لا بدَّ مِن الإخلاصِ في العَملِ، وأنَّ كُلَّ عملٍ لا
يُرادُ بهِ وجْهُ اللَّهِ فليس لعامِلِه فيه ثوابٌ، كما أنَّ كُلَّ عَملٍ
لا يكونُ عليهِ أمرُ اللَّهِ ورسولِه فهو مردودٌ على عامِلِه.
قوله: (واتِّباعُ سبيلِ السَّابِقينَ) إلخ أي: سلوكُ طريقِهم والسَّيْرُ على منهاجِهم، والسَّبيلُ في الأصلِ: الطَّريقُ،
فمِن
أصولِ أهلِ السُّنَّةِ اتِّباعُ سبيلِ السَّابِقينَ، وذلك لما خَصَّهُم
اللَّهُ بِهِ مِن العِلمِ والفَضلِ والفِقهِ عن اللَّهِ ورسولِه، فقد
شَاهدوا التَّنـزيلَ وسَمِعوا التَّأويلَ وتَلَقَّوْا عن الرَّسولِ -صلَّى
اللهُ عليهِ وسلَّمَ- بلا واسطةِ أحدٍ، فهم أحقُّ بإصابةِ الصَّوابِ
وأَجْدَرُ باتِّباعِ السُّنَّةِ والكتابِ.
قال ابنُ القيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ- في أعلامِ
الموقِّعين: ومِن المُحالِ أنْ يكونَ الصَّوابُ في غيرِ طريقِ مَن سَبَقَ
إلى كُلِّ خيرٍ على الإطلاقِ، انتهى،
قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ
الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ
اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ}
وَذَلِكَ مُتَناوِلٌ لكُلِّ مَن اتَّبعَهم إلى يومِ القيامةِ، كما ذَكرَ
ذَلِكَ أهلُ العِلمِ، قال الشَّاطِبِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: للصَّحابةِ
سُنَّةُ يُعملُ عليها ويُرجَعُ إليها، ومِن الدَّليلِ على ذَلِكَ أمورٌ، ثم
ساقَها،
وقال عبدُ اللَّهِ بنُ مسعودٍ: مَن
كان منكم مُسْتناً فَلْيَسْتَنَّ بمَن قد ماتَ فإنَّ الحيَّ لا تُؤمَنُ
عليه الفتنةُ، أولئكَ أصحابُ مُحَمَّدٍ أَبَرُّ هَذِهِ الأمَّةِ قُلوباً
وأَعْمقُها عِلْماً وأقَلُّها تَكلُّفا، قومٌ اختارَهُم اللَّهُ لصُحبةِ
نبِّيِه وإقامةِ دِينِهِ، فاعْرِفُوا لهم حقَّهم وتَمسَّكُوا بِهَدْيِهِم،
فإنَّهم كانوا على الهُدى المستقيمِ، انتهى.
فخيرُ
قلوبِ العِبادِ أحقُّ الخَلقِ بإصابةِ الصَّوابِ، فكُلُّ خيرٍ وإصابةٍ
ومعارِفَ ومكارِمَ إنَّما عُرِفَت فَوَصَلتْ إلينا منهم -رضي اللَّهُ
عنهم-.
وقال الإمامُ أحمدُ: أصولُ السُّنَّةِ عندنا
التَّمَسُكُ بما كان عليه أصحابُ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ
وسلَّمَ- ولهَذَا كانَ اعتقادُ الفِرقةِ النَّاجيةِ هُوَ ما كان عليه رسولُ
اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- كما شَهِدَ لهم بِذَلِكَ في قولِه:
((مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي)).
وأكثرُ
العلماءِ على أنَّ أقوالَ الصَّحابةِ حُجَّةٌ يَجِبُ اتِّباعُها، ويَحرُمُ
الخُروجُ عليها حَيْثُ لا نَصَّ نَبويٌّ، وقد غَلِطَ مَن زَعَم أنَّ طريقةَ
السَّلَفِ أَسْلَمُ وطَريقةُ الخلَفِ أَعْلمُ وأَحْكمُ، فإنَّ هَذَا
القائلَ لم يَعْرِفْ قَدرَ السَّلَفِ، بل ولا عَرفَ اللَّهَ ورسولَه
والمؤمنين حقَّ المعرفةِ،
كَيْفَ
يكونُ هؤلاء الْمَحْجُوبونَ الْمَنْقُوصونَ الحَيَارى أَعْلَمَ باللَّهِ
وأسمائِه وصِفاتِه وأحكامِه مِن السَّابِقينَ الأوَّلين والأنصارِ، والذين
اتَّبعُوهم بإحسانٍ مِن وَرَثةِ الأنبياءِ الذين وَهَبهُم اللَّهُ عِلمَ
الكِتابِ والحكمةِ وأَحاطوا مِن حقائِقِه ومعارِفه ما عَجَزَ أولئكَ عَن
فَهْمِ مَعانِيه وإدراكِه،
ثم كَيْفَ
يكونُ خيرُ قرونِ هَذِهِ الأمَّةِ أَنْقَصَ في العِلمِ والحكمةِ لا سيَّما
العِلمُ باللَّهِ وأحكامِ أسمائِه وصفاتِه وآياتِه مِن هؤلاء الأصاغرِ
المنقُوصِين الحيَارى المتَهَوِّكِين؟! ولا شكَّ أنَّ هَذَا القولَ إذا
تدبَّرَه الإنسانُ وجَدَه في غايةِ الجهالةِ، بل في غايةِ الضَّلالةِ.
(3) قولُه: (حَيْثُ قال) أي: في حديثِ العِرباضِ بنِ ساريةَ -رضي اللَّهُ عنه- أَنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ …))
الحديثُ رواهُ الإمامُ أحمدُ، وأبو داودَ، والتِّرمذيُّ، وابنُ ماجهْ،
وقال الترمذيُّ: حسنٌ صحيحٌ، وقال الحافظُ أبو نُعيمٍ: جيِّدٌ صحيحٌ،
وفي هَذَا الحديثِ: الحثُّ على التَّمَسُّكِ بسُنَّةِ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- ووجوبُ اتِّباعِها،
وفيه: قَرْنُ سُنَّةِ الخلفاءِ الرَّاشدينَ بِسُنَّتِه، ووجوبُ اتِّباعِها مع عَدمِ وجودِ سُنَّتِه،
وفيه: أنَّ للخلفاءِ سُنَّةً، وأَنَّ الأخْذَ بها واتِّباعَها رشادٌ وهٌدًى،
وفيه: أنَّ ما سَنَّهُ الخلفاءُ الرَّاشِدُونَ أوْ أحَدُهُم حُجَّةٌ لا يَجوزُ العُدولُ عنها، بخلافِ غيرِهم مِن ولاةِ الأمورِ، ولحديثِ: ((اقْتَدُوا بِاللَّذِينَ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ)) ولو لم تَقُم الحُجَّةُ بقولِهم لَمَا أُمِرْنَا باتِّباعِهم، وهَذَا القولُ هُوَ الحقُّ.
قولُه: ((وسُنَّةِ الخلفاءِ الرَّاشدِينَ)) وهم الخلفاءُ الأربعةُ: أبو بكرٍ، وعمرُ، وعثمانُ، وعليٌّ، كما في حديثِ سَفينةَ: ((الْخِلاَفَةُ بَعْدِي ثَلاَثُونَ سَنَةً ثُمَّ يَكُونُ مُلْكاً)) رواه أحمدُ وصحَّحهُ ورواه غيرُه،
وإنَّما
وُصِفَ الخلفاءُ بالرَّاشدِينَ؛ لأنَّهم عَرَفوا الحقَّ وقَضَوْا به،
والرَّاشِدُ ضِدُّ الغاوي، والغاوي مَن عَرَفَ الحقَّ وعَمِلَ بِخِلافِه.
قولُه: ((المَهْدِيِّينَ)) يعني أَنَّ اللَّهَ -سُبْحَانَهُ- يَهدِيهم إلى الحقِّ ولا يُضِلُّهُم عنه، فالأقسامُ ثلاثةٌ: رَاشِدٌ وغاوٍ وضالٌّ،
فالرَّاشِدُ عَرَف الحقَّ واتَّبعَه، والغاوي عَرَفه ولم يَتَّبِعْه، والضَّالُّ لم يَعْرِفْه بالكُلِّيَّةِ، انتهى مِن كلامِ ابنِ رجبٍ.
قولُه: ((تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ)) هَذَا كنايةٌ عن شِدَّةِ التَّمَسُّكِ بها، والنَّواجِذُ: آخِرُ الأضراسِ.
قولُه: ((مُحْدَثَاتِ)) بضمِّ الميمِ وسكونِ الحاءِ جمعُ مُحْدَثةٍ، والمرادُ بها البِدعُ،
والبِدعةُ لغةً: كُلُّ شيءٍ عُمِلَ على غيرِ مِثالٍ سابِقٍ،
وأمَّا البِدعةُ الشَّرعِيَّةُ فهي ما لم يَدُلَّ عليه دليلٌ شرعيٌّ، فلفظُ البدعةِ في اللُّغةِ أعمُّ مِن لفظِ البدعةِ في الشَّريعةِ،
وهَذَا الحديثُ دلَّ على التَّحذيرِ مِن البدعِ، والرَّدِ على مَن زَعَم تقسيمَ البدعةِ إلى حسنةٍ وقبيحةٍ، وأما قولُ عُمرَ: (نِعْمَتْ البِدْعَةُ)
فالمرادُ بها البدعةُ اللُّغويةُ؛ إذْ أَصْلُ صلاةِ التَّراويحِ مشروعةٌ؛
فقد صَلاَّهَا الرَّسولُ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- بأصحابِه ثم
تَرَكَها لمَّا خَشِيَ أنْ تُفْرَضَ عليهم، وتَنقسِمُ البدعةُ إلى قسمَيْنِ:
بدعةُ اعتقادٍ، وهُوَ اعتقادُ خلافِ ما أخبَرَ بِهِ الرَّسولُ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- كقولُه: ((سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثِلاَثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلاَّ وَاحِدَةٌ)) قالوا: مَن هي يا رسولَ اللَّهِ؟ قال: ((مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي)).
الثَّانيةُ: بدعةٌ عمليَّةٌ،
وهُوَ التَّعبُّدُ بغيرِ ما شَرعَ اللَّهُ ورسولُه، فمَن تَعبَّدَ بغيرِ
الشَّرعِ أو حَرَّمَ ما لم يُحرِّمْه الشَّارِعُ فهُوَ مبتدِعٌ،
والبِدعتانِ غالباً متلازِمتانِ، قلَّ أنْ تَنفكَّ إحداهما عن الأُخرى.
قال ابنُ دقيقِ العِيدِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: اعلمْ أَنَّ المُحْدَثَ على قسمين:
مُحْدَثٌ ليس له أصلٌ مِن الشَّريعةِ فهَذَا باطلٌ مذمومٌ،
ومُحْدَثٌ يَحْمِلُ النَّظِيرَ على النَّظِيرِ فهَذَا ليس بمذمومٍ؛
لأنَّ
البِدعةَ ولفظَ المُحْدَثِ لا يُذَّمانِ لمجرَّدِ الاسمِ، بل لمعنى
مخالَفةِ السُّنَّةِ، والدَّاعي إلى الضَّلالةِ، ولا يُذَّمُ ذَلِكَ
مُطلَقا، فقد قال -سُبْحَانَهُ-: {مَا يَأْتِيهِمْ مِن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُحْدَثٍ} الآيةَ، وقال عُمرُ: نِعْمَت البِدعةُ هَذِهِ – يعني التَّراويحَ.
قالَ الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ بنُ تيميةَ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: وأَصْلُ ضَلالِ أهلِ الأرضِ إنَّما تَنْشَأُ مِن هذين:
إمَّا اتِّخاذُ دِينٍ لم يُشَرِّعْه اللَّهُ،
أو تَحريمُ مالم يُحَرِّمْه اللَّهُ،
ولهَذَا
كان الأصلُ الذي بَنَى عليه الإمامُ أحمدُ وغيرُه مِن الأئمَّةِ
مَذَاهِبَهم أنَّ أعمالَ الخَلقِ تَنقسِمُ إلى عِباداتٍ يتَّخِذُونها، وإلى
عاداتٍ يَنْتَفِعون بها في معائِشِهم، فالأصلُ في العباداتِ أنْ لا
يُشْرَعَ إلا ما شَرَعَه اللَّه ورسولُه، والأصلُ في العاداتِ أنْ لا
يُحْظَرَ منها إلاَّ ما حَظَرَه اللَّهُ اهـ.
قال العلماءُ رَحِمَهُم اللَّهُ: العباداتُ مَبناهَا
على التَّوقِيفِ والاتِّباعِ لا على الاختراعِ والابتداعِ، فالأصلُ في
العباداتِ التَّحريمُ إلاَّ ما شَرَعَه اللَّهُ ورسولُه، ولهَذَا يُشترَطُ للعبادةِ شَرطانِ: الإخلاصُ والمتابعةُ، كما في الصَّحيحِ مِن حديثِ عائشةَ -رضي اللَّهُ عنها- عن النَّبيِّ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ)) أيْ: مَرْدُودٌ كائِنا ما كان،
وفي صحيحِ مسلمٍ عن جابرٍ -رضي اللَّهُ عنه- أنَّه كان يقولُ في خُطبتِه: ((إِنَّ
خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الهَدْي هَدْيُ مُحَمَّدٍ
–صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وكُلَّ
بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ)) وفي روايةِ النَّسائيِّ: ((وكُلَّ ضَلاَلَةٍ في النَّارِ))
وقال عبدُ اللَّهِ بنُ مسعودٍ -رضي اللَّهُ عنه-: (اتَّبِعُوا ولا تَبْتَدِعوا فقد كُفِيتُم)،
وقال الأَوْزَاعِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: (عليكَ بآثارِ مَن سَلَفَ وإنْ رَفَضَكَ النَّاسُ، وإيَّاكَ وآراءَ الرِّجالِ وإنْ زَخْرَفُوه لكَ بالقولِ) إلى غيرِ ذَلِكَ من الأدِلَّةِ على تحذيرِ الأمَّةِ مِن اتِّباعِ الأمورِ المُحْدَثةِ المبتدَعَةِ،
وتقدَّمَ
أَنَّ المرادَ بالبِدعةِ ما أُحدِثَ ممَّا لا أصلَ له مِن الشَّرعِ يدلُّ
عليه، وأمَّا ما كان له أصلٌ مِن الشَّرعِ يدلُّ عليه فليس ببدعةٍ شَرعا،
وإنْ كان بدعةً لغةً.
(4) قولُه: (ويَعلمون أنَّ أصْدَقَ)
إلخ: فلا أحدٌ أَصْدقُ منه قُولا ولا خَبَرا، فكُلُّ ما أَخْبَرَ بِهِ
-سُبْحَانَهُ- فهُوَ صِدقٌ وحَقٌّ لا مِرْيةَ فيه ولا شكَّ، قال تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً}، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا}، وقال: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً}،
وعن جابرٍ
-رضي اللَّهُ عنه- قال: كان رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-
إذا خَطبَ احمرَّتْ عيناهُ وعلا صَوتُه واشتدَّ غَضَبُه حتى كأنَّه مُنذِرُ
جيشٍ يقولُ: ((صبَّحَكُمْ
وَمَسَّاكُمْ، ويقولُ: أَمَّا بَعْدُ فِإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ
اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صلَّى اللَّهُ عليهِ
وسلَّمَ-، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ)) رواه مسلمٌ.
قولُه: ((وخيرَ الهدْيِ هَدْيُ محمَّدٍ)) الهَدْيُ بفتحِ الهاءِ وسُكونِ الدَّالِ: السَّمتُ والطريقةُ والسِّيرةُ، وقُرِئَ بالضَّمِّ أي: الدلالةُ والإرشادُ،
والمرادُ
تفضيلُ دِينِه وسُنَّتِه على سائرِ الأديانِ والسُّنَنِ، فدِينُه -صلَّى
اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- أَكْملُ الأديانِ على الإطلاقِ، وشريعَتُه أفضلُ
الشَّرائعِ اختارَها اللَّهُ لخِيرتِه مِن خَلقِه، ولأُمَّتِه خيرِ أُمَّةٍ
أُخْرِجَتْ للنَّاسِ، وجَعلَها حُجَّةً باقيةً إلى يومِ القيامةِ، لا
يَتطرَّقُ إليها النَّسخُ، ولا يَعْترِيها التَّبدِيلُ والتَّغييرُ الذي
وَقَعَ في الشرائعِ قَبْلَها،
ولهَذَا
المعنى الذي ذَكَرْناهُ كان كُلُّ عاقلٍ مِن اليهودِ والنَّصارى -كما قال
شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ- يَعترِفُ بأنَّ دِينَ الإسلامِ حقٌّ، وأنَّ
محمَّداً رسولُ اللَّهِ، وأنَّ مَن أطاعَه منهم دخَلَ الجَنَّةَ، بل كثيرٌ
منهم يَعترِفون بأنَّ دِينَ الإسلامِ خيرٌ مِن دِينِهم كما أطبقَتْ على
ذَلِكَ الفلاسفةُ، كما قال ابنُ سِينا: أَجْمعَ فلاسِفةُ العالِمِ على
أنَّه لم يَطْرُق العالَمَ ناموسٌ أَعْظمُ مِن هَذَا النَّاموسِ،
ولا شكَّ
أنَّ هَذِهِ الشَّريعةَ العظيمةَ الكامِلةَ مِن دلائلِ نُبوَّتِه -صلَّى
اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-، وَكَذَلِكَ أخلاقُه وأقوالُه وأفعالُه وسِيرتُه
-صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- كُلُّها مِن آياتِه ودلائلِ نبوَّتِه، كما
أشار إلى ذَلِكَ الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-، فقد
جَبَلَه اللَّهُ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- على أجملِ الأخلاقِ وأَزْكاها،
واختارَ له أَفْضَلَها وأَوْلاَها،
وأخلاقُه مُقتَبَسةٌ مِن القرآنِ، كما قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} قال العَوفيُّ عن ابنِ عبَّاسٍ: وإنَّكَ لعَلَى دِينٍ عظيمٍ وهُوَ دينُ الإسلامِ،
وفي صحيحِ
مسلمٍ عن سعيدِ بنِ هشامٍ قال: (سَأَلْتُ عَائِشَةَ -رَضِيُ اللَّهُ
عَنْهَا- عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-
فَقَالَتْ: أَمَا تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قُلْتُ: بَلَى، فَقَالَتْ: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنُ).
ومعنى
هَذَا أنَّه –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- مَهْمَا أَمَرَهُ اللَّهِ بِهِ
في القرآنِ امْتَثَلَه، ومَهْمَا نَهَاهُ عنه اجْتَنَبَه، هَذَا ما جَبَلَه
اللَّهُ –سُبْحَانَهُ- عليه مِن الأخلاقِ الجِبِلِّيَّةِ الأصليَّةِ
العظيمةِ، التي لم يكُنْ أحدٌ مِن البشرِ ولا يكونُ على أجملَ منها، فكانَ
فيه –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- مِن الحياءِ والكَرَمِ، والشَّجاعةِ،
والحِلْمِ، والصَّفِحِ، وسائرِ الأخلاقِ الكاملةِ ما لا يُحَدُّ ولا
يُمكِنُ وَصْفُه، وقد خرَّجَ الإمامُ أحمدُ في مسنَدِه مِن حديثِ أبي
هريرةَ -رضي اللَّهُ عنه- أنَّ رسولَ اللَّهِ –صلَّى اللَّهُ عليهِ
وسلَّمَ- قال: ((بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاَقِ)).
(5) قولُه: (ويُؤْثِرونَ كلامَ اللَّهِ)
إلخ أي: يُقدِّمونَ كلامَ اللَّهِ على كلامِ غيرِه مِن خَلقِه كائِنا مَن
كان، ولا يَعدِلون عنه ولا يُعارِضُونه بمعقولٍ ولا قولِ فلانٍ،
فإنَّه
الفُرْقانُ، المفَرِّقُ بين الحقِّ والباطِلِ، والنَّافعِ والضَّارِّ،
وهُوَ الإمامُ الذي يَجِبُ اتِّباعُه والرُّجوعُ إليه عند التَّنازُعِ؛ إذْ
لا سعادةَ في الدُّنْيَا والآخرةِ إلاَّ بالاعتصامِ بحَبْلِ اللَّهِ، ولا
نجاةَ إلاَّ بالتَّمَسُّكِ بما جاء في كتابِه، فإنَّه الشِّفاءُ والنُّورُ
والحياةُ الحقيقيَّةُ، قال اللَّهُ تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ}، قال قتادةُ والسُّدِّيُّ وكثيرٌ مِن أهلِ التَّفسيرِ: هُوَ القرآنُ،
وقال عبدُ اللَّهِ بنُ مسعودٍ عن النَّبيِّ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-:
إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هُوَ حَبْلُ اللَّهِ، وَهُوَ النُّورُ الْمُبِينُ،
وَالشِّفَاءُ النَّافِعُ، وَعِصْمَةٌ لِمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ، وَنَجَاةٌ
لِمَنِ اتَّبَعَهَ،
وقال عليُّ بنُ أبي طالبٍ عن النَّبيِّ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- في القرآنِ: هُوَ
حَبلُ اللَّهِ المَتِينُ، وهُوَ الذِّكرُ الحكيمُ، وهُوَ الصِّراطُ
المستقيمُ، وهُوَ الذي لا تَزِيغُ بِهِ الأهواءُ، ولا تَختلِفُ بِهِ
الألسِنةُ، ولا يَشبَعُ منه العُلماءُ، ولا يَخْلَقُ عن كثرةِ الرَّدِّ،
ولا تَنْقضِي عجائِبُه، مَن قال بِهِ صَدَقَ، ومَن عَمِلَ بِهِ أُجِرَ،
ومَن حَكمَ بِهِ عَدَلَ، ومَن دَعى إليه هُدِي إلى صراطٍ مستقيمٍ،
وعن عبدِ اللَّهِ بنِ عبَّاسٍ -رضي اللَّهُ عنهما- قال: جَمعَ اللَّهُ في هَذَا الكتابِ عِلمَ الأوَّلِين والآخِرين، وعِلمَ ما كان، وعِلمَ ما يكونُ، والعِلمَ بالخالِقِ أمْرَه وخَلْقَه. أَخرَجَه ابنُ رزينٍ، انتهى،
وقد سمَّاه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- رُوحًا لتَوَقُّفِ الحياةِ الحقيقيَّةِ عليه، ونُوراً لِتوقُّفِ الهدايةِ عليه، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا
الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَـكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ
مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىصِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ}،
وقال: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنواْ هُدًى وَشِفَاءٌ}،
وقال: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ}،
وقال: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}، والرَّدُ إليه: هُوَ الرَّدُ إلى كتابِه، والرَّدُ إلى الرَّسولِ: هُوَ الرَّدُ إليه في حياتِه، والرُّجوعُ إلى سُنَّتِه بعد وفاتِه، هَذَا معناهُ بإجماعِ المفسِّرين،
فيجِبُ
الرُّجوعُ إلى كتابِ اللَّهِ وسُنَّةِ رسولِه، ولا يجوزُ العُدولُ عنهما
ولا مُعارَضتُها ولا الاعتراضُ عليهما، ففيهما غايةُ البُغيَةِ وفَصْلُ
النِّزاعِ، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ}.
(6) قولُه: (ويُقدِّمونَ هَدْيَ مُحَمَّدٍ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-) إلخ أي: يقدِّمونَ شَرْعَه ودِينَه، فدينُه أكملُ الأديانِ على الإطلاقِ، وشريعتُه أفضلُ الشَّرائعِ،
فمَنِ
ادَّعى أنَّ هَدْي غيرِ مُحَمَّدٍ أَفْضلُ مِن هدْيهِ، أو ادَّعى غِناهُ عن
الرِّسالةِ بمُكاشفةٍ أو مخاطَبةٍ أو عِصمةٍ، سواءٌ ادَّعى ذَلِكَ
لنَفْسِه أو لغيرِه فهُوَ مِن أضلِّ النَّاسِ، بل مَن اعتقد أنَّه يَجوزُ
له أن يَخرُجَ عن طاعةِ الرَّسولِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- وتصديقِه
في شيءٍ مِن أمورِه الباطِنةِ والظَّاهرةِ فإنَّه يَجِبُ أنْ يُستتابَ،
فإنْ تَابَ وإلاَّ قُتِلَ، كائناً مَن كان.
ذَكرَ ذَلِكَ شيخُ الإسلامِ تَقِيُّ الدِّينِ في
كِتابِه الفُرقانُ، وَكَذَلِكَ مَن زَعَمَ أَنَّ الشَّريعةَ قاصِرةٌ،
وأنَّها لا تُسايِرُ الزَّمَنَ، وأنَّه يُسَوَّغُ له سَنُّ النُّظُمِ
والتَّعليماتِ لكُلِّ زمانٍ بما يُناسِبُه على زَعْمِه، أو زعَمِ أَنَّ
النُّظُمَ الأفرنجيَّةَ أَحْسَنُ مِن نظامِ الشَّريعةِ، أو نحوِ ذَلِكَ مِن
الأقوالِ فهُوَ زِنديقٌ.
قولُه: (ولهَذَا سُمُّوا أهلَ الكِتابِ والسُّنَّةِ)
وَذَلِكَ لاتِّباعِهم للكتابِ والسُّنَّةِ الثَّابتةِ عن نَبِيِّهم في
الأصولِ والفُروعِ، والأخْذِ بهما وتَحكِيمِهما في القليلِ والكثيرِ،
والاستغناءِ بهما، وتقديمِهما على قولِ كُلِّ أحدٍ كائنا مَن كان،
بخلافِ
الخوارجِ والمعتزِلةِ والرَّوافضِ ومَن وافَقَهم في بعضِ أقوالِهم، فإنَّهم
لا يَتَّبِعونَ الأحاديثَ التي رَواها الثِّقاتُ عن النَّبيِّ -صلَّى
اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-،
فالمعتزِلَة يقولون هَذِهِ أخبارُ آحادٍ،
والرَّافِضةُ يَطعَنونَ في الصَّحابةِ ونَقْلِهم،
والخوارجُ يقولُ قائِلُهم: اعْدِلْ يا مُحَمَّدُ فِإنَّكَ لم تَعدِلْ، فيُجوِّزون على النَّبيِّ أنَّه يَظْلِمُ،
قال
الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّين -رَحِمَهُ اللَّهُ-: السُّنَّةُ ما كان عليه
رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- وأصْحَابُه في عَهدِه ممَّا
أَمَرَهم بِهِ أو أَقَرَّهُم عليه أو فَعلَه هو.
قولُه: (وسُمُّوا أهلَ الجماعةِ) إلخ: لاجتماعِهم على آثارِ الرَّسولِ، والاستضاءةِ بأنوارِه وتَحكِيمِه في القليلِ والكثيرِ،
فالجماعةُ
هم المجتمِعون الذين ما فَرَّقُوا دِينَهم وكانوا شِيعا، والذين فَرَّقُوا
دِينَهم خارِجون عن الفِرقةِ النَّاجِيةِ، وقد برَّأَ اللَّهُ نبِيَّه
منهم، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} الآيةَ،
قال في
المِرقاةِ: المرادُ بالجماعةِ أهلُ الفِقهِ والعِلمِ الذين اجتمَعُوا على
اتِّباعِ آثارِه -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- في النَّقِيرِ والقِطْميرِ،
ولم يَبتدِعوا بالتَّحريفِ والتَّغييرِ،
وقال بعضُ
العلماءِ: المرادُ بالجماعةِ مَن كان على الحقِّ وَلَوْ واحدًا، وَذَلِكَ
لأنَّ الحقَّ هُوَ ما كان عليه الجماعةُ في الصَّدْرِ الأوَّلِ،
وقد تكاثَرَت الأدِلَّةُ في الحثِّ على الاجتماعِ والنَّهْيِ عن التَّفرُّقِ والاختلافِ، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ}،
وقال: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ}،
وقال تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ}، قال ابنُ عبَّاسٍ: تَبيضُّ وجوهُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعَةِ، وتَسودُّ وجوهُ أهلِ البِدعةِ والفُرقةِ،
وروى الإمامُ أحمدُ عن مُعاذِ بنِ جبلٍ -رضي اللَّهُ عنه- أَنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((إِنَّ
ذِئْبَ الإِنْسَانِ كِذِئْبِ الْغَنَمِ، يَأْخُذُ الشَّارِدَةَ
الْقَاصِيَةَ، فَإِيَّاكُمْ وَالشِّعَابَ، وَعَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ
وَالْعَامَّةِ وَالْمَسْجِدِ))
وورَدَ: ((الجَماعةُ رحمةٌ والفُرقةُ عذابٌ))
وورَدَ عن ابنِ مسعودٍ أنَّه قال: (الخِلافُ شَرٌّ)
وحديثُ: ((إِنَّ
أَهْلَ الْكِتَابِ افْتَرَقُوا عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً،
وَإِنَّ هَذِهِ الأمَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلاَثَةٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً
…))، يعني: الأهواءَ كُلَّها في النَّارِ
إلا واحدةً، وَهِيَ الجماعةُ، إلى غيرِ ذَلِكَ من الأدِلَّةِ في الحثِّ على
الاجتماعِ وذمِّ الاختلافِ والتَّفرُّقِ، وينقسمُ الاختلافُ إلى قسمين:
اختلافُ تَنَوُّعٍ، واخِتلافُ تضادٍّ،
فالأوَّلُ
هُوَ ما يكونُ القَوْلانِ أو الفِعْلانِ مَشْروعينِ كما في أَنواعِ
الاستفتاحاتِ، وأنواعِ القِراءاتِ، والأذانِ، ونحوِ ذَلِكَ ممَّا قد شُرِعَ
جَميعُه،
وأمَّا اختلافُ التَّضادِّ فهما القولانِ المتنافِيانِ إمَّا في الأصولِ أو في الفُروعِ).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (فصل ((ثُمَّ مِنْ طريقةِ أهلِ السنةِ والجماعةِ اتبِّاعُ آثارِ الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باطناً وظاهراً)) (1) واتِّباعُ سبيلِ السَّابقينَ الأوَّلينَ من المهاجرينَ والأنصَارِ، واتِّبَاعُ وصيَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حيثُ قال: ((عليْكُمْ بُسنَّتي وسُنَّةِ الخلفَاءِ الرَّاشِدينَ المهْدِيِّينَ مِنْ بْعدِي تَّمَسَّكُوا بَها وعَضُّوا عَلَيْها بالنَّوَاجذِ، وإيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فإنَّ كلَّ محدَثَةٍ بدْعَةٌ وكلَّ بدْعَةٍ ضَلالَةٌ)). ويَعْلَمُونَ أنَّ أصْدَقَ الكَلامِ كلامُ اللهِ وخيرَ الهَدْي هَدْيُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ويُؤْثِرُونَ كلامَ اللهِ على كلامِ غيرِهِ من كلامِ أصْنَافِ النَّاس. وَيُقَدِّمُونَ هَدْيَ مُحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم علَى هَدْيٍ كلِّ أحدٍ، وَلِهذا سُمُّوا: أَهْلَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وسُمُّوا: أَهْلَ الجمَاعَةِ، لأن الجماعةَ في الاجْتماعِ، وضِدُّهَا الفُرْقةُ. وإنْ كانَ لفظُ الجماعةِ قَدْ صَارَ اسْماً لِنَفْسِ القوْمِ المجتمعينَ).
الشرح:
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): ( (1) فَصْلٌ فِي طَرِيقَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ العَمَلِيَّةِ
لَمَّا
فَرَغَ المُؤلِّفُ مِمَّا يُرِيدُ ذِكْرَهُ مِن طَرِيقَةِ أَهْلِ
السُّنَّةِ العَقَدِيَّةِ؛ شَرَعَ فِي ذِكْرِ طَرِيقَتِهِمْ العَمَلِيَّةِ:
قَولُهُ: ((اتَّبِاعُ الآثَارِ)): لَا اتَّبَاعَ
إِلَّا بِعِلْمٍ؛ إِذاً فَهُمْ حَرِيصُونَ عَلَى طَلَبِ العِلْمِ؛
لِيَعْرِفُوا آثَارَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ثُمَّ
يَتَّبِعُوهَا.
فَهُمْ يَتَّبِعُونَ آثَارَ الرَّسُولِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي العَقِيدَةِ وَالعِبَادَةِ وَالأَخْلَاقِ
وَالدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى؛ يَدْعُونَ عِبَادَ اللهِ إِلَى
شَرِيعَةِ اللهِ فِي كُلِّ مُنَاسَبَةٍ، وَكُلَّمَا اقْتَضَت الحِكْمَةُ
أَنْ يَدْعُوا إِلَى اللهِ؛ دَعَوا إِلَى اللهِ، وَلَكِنَّهُمْ لَا
يَخْبِطُونَ خَبْطَ عَشَوَاءَ، وَإِنَّمَا يَدْعُونَ بِالحِكْمَةِ؛
يَتَّبِعُونَ آثَارَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي
الأَخْلَاقِ الحَمِيدَةِ فِي مُعَامَلَةِ النَّاسِ بِاللُّطْفِ وَاللِّينِ،
وَتَنْزِيلِ كُلِّ إِنْسَانٍ مَنْزِلَتَهُ؛ يَتَّبِعُونَهُ أيضاً فِي
أَخْلَاقِهِ مَعَ أهْلِهِ، فَتَجِدُهُمْ يَحْرِصُونَ عَلَى أَنْ يَكُونُوا
أَحْسَنَ النَّاسِ لِأَهْلِيهِمْ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا
خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي)).
وَنَحْنُ لَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَحْصُرَ آثَارَ
الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَلَكِنْ نَقُولُ عَلَى
سَبِيلِ الإِجْمَالِ فِي العَقِيدَةِ وَالعِبَادَةِ وَالخُلُقِ
وَالدَّعْوَةِ: فِي العِبَادَةِ لَا يَتَشَدَّدُونَ وَلَا يَتَهَاوَنُونَ
وَيَتبَّعِونَ مَا هُوَ أَفْضَلُ.
وَرُبَّمَا يَشْتَغِلُونَ عَن العِبَادَةِ
بِمُعَامَلَةِ الخَلْقِ لِلْمَصْلَحةِ؛ كَمَا كَانَ الرَّسُولُ يَأْتِيهِ
الوُفُودُ يُشْغَلُونَهُ عَن الصَّلَاةِ؛ فَيَقْضِِيهَا فِيمَا بَعْدُ.
قَولُهُ: ((ظَاهِراً وَبَاطِناً)): الظُّهُورُ
وَالبُطُونُ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ: ظَاهِراً فِيمَا يَظْهَرُ لِلنَّاسِ،
وَبَاطِناً فِيمَا يُسِرُّونَهُ بِأَنْفُسِِهِمْ. ظَاهِراً فِي الأَعْمَالِ
الظَّاهِرَةِ، وَبَاطِناً فِي أَعْمَالِ القُلُوبِ…
فَمَثلاً؛ التَّوَكُّلُ وَالخَوْفُ وَالرَّجَاءُ
وَالإِنَابَةُ وَالمَحَبَّةُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ هَذِهِ مِنْ أَعْمَالِ
القُلُوبِ؛ يَقُومُونَ بِهَا عَلَى الوَجْهِ المَطْلُوبِ، وَالصَّلَاةُ
فِيهَا القِيَامُ وَالقُعُودُ وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ وَالصَّدَقةُ
وَالحَجُّ وَالصِّيَامُ، وَهَذِهِ مِنْ أَعْمَالِ الجَوَارِحِ؛ فَهِيَ
ظَاهِرَةٌ.
ثُمَّ اعلَمْ أنَّ آثَارَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ أَوْ أَكْثَرَ:
أَوَّلاً: مَا فَعَلَهُ عَلَى سَبِيلِ
التَّعَبُّدِ؛ فَهَذَا لَا شَكَّ أَنَّنَا مَأْمُورُونَ بِاتِّبَاعِهِ؛
لِقَوْلِهِ تَعالَى: (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ
حَسَنَةٌ) [الأَحْزَاب: 21]؛ فَكُلُّ شَيءٍ لَا يَظْهَرُ فِيهِ أنَّهُ
فَعَلَهُ تَأَثُّراً بِعَادَةٍ أَوْ بِمُقْتَضَى جِبِلَّةٍ وَفِطْرَةٍ أَوْ
حَصَلَ اتِّفَاقاً؛ فَإنَّهُ عَلَى سَبِيلِ التَّعبُّدِ، وَنَحْنُ
مَأْمُورُونَ بِهِ.
ثَانِياً: مَا فَعَلَهُ اتِّفَاقاً؛ فَهَذَا لَا
يَشْرُعُ لَنَا التَّأَسِّي فِيهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ؛ كَمَا لَوْ
قَالَ قَائِلٌ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قُدُومُنَا إِلَى مَكَّّةَ فِي
الحَجِّ فِي اليَوْمِ الرَّابِعِ مِنْ ذِي الحِجَّةِ! لِأَنَّ الرَّسُولَ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ مَكَّةَ فِي اليَومِ الرَّابِعِ
مِنْ ذِي الحِجَّةِ. فَنَقُولُ: هَذَا غَيْرُ مَشْرُوعٍ؛ لِأَنَّ قُدُومَهُ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا اليَومِ وَقَعَ اتِّفَاقاً.
وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: يَنْبَغِي إِذَا دَفَعْنَا
مِن عَرَفةَ وَوَصَلنا إِلَى الشِّعْبِ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَالَ أَنْ نَنْزِلَ وَنَبُولَ وَنَتَوَضَّأَ
وُضُوءاً خَفِيفاً كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ! فَنَقُولُ: هَذَا لَا يشْرُعُ.
وَكَذَلِكَ غَيْرُهَا مِنَ الأُمُورِ الَّتِي
وَقَعَت اتِّفاقاً؛ فإنَّهُ لَا يشْرُعُ التَّأَسِي فِيهِ بِذلِكَ؛
لِأنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهُ لَا عَلَى سَبِيلِ
القَصْدِ لِلتَّعَبُّدِ، وَالتَّأَسِّي بِهِ تَعَبُّدٌ.
ثَالِثاً: ما فَعَلَهُ بِمُقْتَضَى العَادَةِ؛ فَهَلْ يشْرُعُ لَنَا التَّأسِّي بِهِ؟
الجَوَابُ: نَعَمْ؛ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَأَسَّى بِهِ، لَكِنْ بِجِنْسِهِ لَا بِنَوْعِهِ.
وَهَذِهِ المَسْأَلةُ قَلَّ مَنْ يَتَفَطَّنُ
لَهَا مِن النَّاسِ؛ يَظُنُّونَ أَنَّ التَّأَسِّيَ بِهِ فِيمَا هُوَ عَلَى
سَبِيلِ العَادَةِ باِلنَّوعِ، ثُمَّ يَنْفُون التَّأَسِّي بهِ في ذلِكَ.
وَنَحْنُ نَقُولُ: نتأَسَّى بِهِ، لَكِنْ
بِاعْتِبَارِ الجِنْسِ؛ بِمَعْنَى أَنْ نَفْعَلَ مَا تَقْتَضِيهِ العَادَةُ
الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا النَّاسُ؛ إِلَّا أَنْ يَمْنَعَ ذَلِكَ مَانِعٌ
شَرْعِيٌّ.
رَابِعاً: مَا فَعَلَهُ بِمُقْتَضَى
الجِِبِلَّةِ؛ فَهَذَا لَيْسَ مِن العِبَادَاتِ قَطْعاً، لَكنْ قَدْ
يَكُونُ عِبَادَةً مِنْ وَجْهٍ؛ بِأَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ عَلَى صِفَةٍ
مُعَيَّنَةٍ عِبَادَةً: كَالنَّومِ؛ فَإِنَّهُ بِمُقْتَضَى الجِبِلَّةِ،
لَكِنْ يُسَنُّ أَنْ يَكُونَ عَلَى اليَمِينِ، وَالأَكْلُ وَالشُّرْبُ
جِبِلَّةٌ وَطَبِيعَةٌ، وَلَكِنْ قَدْ يَكُونُ عِبَادَةً مِنْ جِهَةٍ
أُخْرَى، إِذَا قَصَدَ بِهِ الإِنْسَانُ امْتِثَالَ أَمْرِ اللهِ
وَالتَّنَعُّمَ بِنعَمِهِ وَالقُوَّةَ عَلَى عِبَادَتِهِ وَحِفْظَ
البَدَنِ، ثُمَّ إنَّ صِفَتَهُ أيضاً تَكُونُ عِبَادَةً كَالأَكْلِ
بِاليَمِينِ، وَالبَسْمَلَةِ عند البُداءَةِ، وَالحَمْدَلَةِ عِنْدَ
الانْتِهَاءِ.
وَهُنَا نَسْأَلُ: هَل اتِّخَاذُ الشَّعْرِ عَادَةً أَوْ عِبَادَةً؟
يَرَى بَعْضُ العُلَماءِ أنَّهُ عِبَادَةٌ، وَأَنَّه يُسَنُّ لِلإِنْسَانِ اتِّخَاذُ الشَّعْرِ.
وَيَرَى آخَرُونَ أنَّ هَذَا مِن الأُمُورِ
العَادِيَّةِ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِلَّذِي رَآهُ قَدْ حَلَقَ بَعْضَ رَأسِهِ وَتَرَكَ بَعْضَهُ؛
فَنَهَاهُمْ عَن ذَلِكَ، وَقَالَ: ((احْلِقُوا كُلَّهُ أَوْ ذَرُوا
كُلَّهُ))، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اتِّخَاذَ الشَّعْرِ لَيْسَ
بِعِبَادَةٍ، وَإِلَّا لَقَالَ: أَبْقِهِ، وَلَا تَحْلِقْ مِنْهُ شَيْئاً!
وَهَذِهِ المَسْأَلةُ يَنْبَغِي التَّثَبُّتُ
فِيهَا، وَلَا يُحْكَمُ عَلَى شَيءٍ بِأَنَّهُ عِبَادَةً؛ إِلَّا
بِدَلِيلٍ؛ لِأَنَّ الأَصْلَ فِي العِبَادَاتِ المَنْعُ؛ إِلَّا مَا قَامَ
الدَّلِيلُ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ.
قَوْلُهُ: ((وَاتِّبَاعُ سَبِيلِ السابِقِينَ
الأَوَّلِينَ مِن المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ))؛ أَيْ: وَمِنْ طَرِيقَةِ
أَهْلِ السُّنَّةِ اتِّبَاعٌ… إلخ؛ فَهِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى ((اتِّبَاعِ
الآثَارِ)).
قَوْلُهُ: ((السَّابِقِينَ))؛ يَعْنِي: إِلَى الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ.
وَقَولُهُ: ((الأَوَّلِينَ))؛ يَعْنِي: مِن هَذِهِ الأُمَّةِ.
وَالمُهَاجِرِينَ: مَنْ هَاجَرُوا إِلَى المَدِينَةِ.
وَالأَنْصَارُ: أَهْلُ المَدِينَةِ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَإنَّمَا كَانَ اتِّبَاعُ سَبِيلِهِمْ مِن
مَنْهَجِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ؛ لِأَنَّهُمْ أَقْرَبُ إِلَى
الصَّوَابِ وَالحَقِّ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ، وَكُلَّمَا بَعُدَ النَّاسُ عَن
عَهْدِ النُّبُوَّةِ؛ بَعُدُوا مِن الحَقِّ، وَكُلَّمَا قَرُبَ النَّاسُ
مِن عَهْدِ النُّبُوَّةِ؛ قَربُوا مِن الحَقِّ، وَكُلَّمَا كَانَ
الإِنْسَانُ أَحْرَصَ عَلَى مَعْرِفَةِ سِيرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ؛ كَانَ أَقْرَبَ إِلَى
الحِقِّ.
وَلِهَذَا تَرَى اخْتِلَافَ الأُمَّةِ بَعْدَ
زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَكْثَرَ انْتِشَاراً وَأَشْمَلَ
لِجَمِيعِ الأُمُورِ، لَكِنَّ الخِلَافَ فِي عَهْدِهِمْ كَانَ مَحْصُوراً.
فَمِن طَرِيقَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ
أَنْ يَنْظُرُوا فِي سَبِيلِ السَّابِقِينَ الأَوَّلِينَ مِنَ
المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، فَيَتَّبِعُوهَا؛ لِأَنَّ اتِّبَاعَهَا
يُؤدِي إِلَى مَحَبَّتِهِمْ مَعَ كَوْنِهِمْ أَقْرَبَ إِلَى الصَّوَابِ
وَالحَقِّ؛ خِلَافاً لِمَنْ زَهَدَ فِي هَذِهِ الطَّرِيقَةِ، وَصَارَ
يَقُولُ: هُمْ رِجَالٌ وَنَحْنُ رِجَالٌ! وَلَا يُبَالِي بِخِلَافِهِمْ!!
وَكَأَنَّ قَوْلَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ كَقَوْلِ
فُلَانٍ وَفُلَانٍ مِن أَوَاخِرِ هَذِهِ الأُمَّةِ!! وَهَذَا خَطَأٌ
وَضَلَالٌ؛ فَالصَّحَابَةُ أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ، وَقَوْلُهُمْ
مُقَدَّمٌ عَلَى قَوْلِ غَيْرِهِمْ مِن أَجْلِ مَا عِنْدَهُمْ مِن
الإِيمَانِ وَالعِلْمِ، وَمَا عِنْدَهُمْ مِن الفَهْمِ السَّلِيمِ
وَالتَّقْوَى وَالأَمَانَةِ، وَمَا لَهُمْ مِن صُحْبَةِ الرَّسُولِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَولُهُ: ((وَاتِّباعُ وَصِيَّةِ رَسُولِ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)): حَيْثُ قَالَ: ((عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي
وَسُنَّةِ الخُلُفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِيينَ مِن بَعْدِي،
تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ
وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ بِدْعةٍ ضَلالَةٌ)).
((اتِّبَاعُ)): مَعْطُوفَةٌ عَلَى ((اتِّبَاعُ الآثَارِِ)).
وَالوَصِيَّةُ: العَهْدُ إِلِى غَيْرِهِ بِأَمْرٍ هَامٍّ.
وَمَعْنَى: ((عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي…)) إلخ:
الحَثُّ عَلَى التَّمَسُّكِ بِهَا، وَأَكَّدَ هَذَا بِقَوْلِهِ:
((وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ))، وَهِيَ أَقْصَى الأَضْرَاسِ،
فَأَمَرَ باِلتَّمَسُّكِ بِهَا بِاليَدِ وَالعَضِّ عَلَيْهَا بِالأَضْرَاسِ
مُبَالَغَةً فِي التَّمَسُّكِ بِهَا.
وَالسُّنَّةُ: هِيَ الطَّرِيقَةُ ظَاهِراً وَبَاطِناً.
وَالخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ: هُم الَّذِينَ
خَلَفُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أُمَّتِهِ
عِلْماً وَعَمَلاً وَدَعْوَةً.
وَأوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ فِي هَذَا الوَصْفِ
وَأَوْلَى مَن يَدْخُلُ فِيهِ: الخُلَفَاءُ الأَرْبَعَةُ: أَبُو بَكْرٍ،
وعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ.
ثُمَّ يَأْتِي رَجُلٌ فِي هَذَا العَصْرِ، لَيْسَ
عِنْدَهُ مِنَ العِلْمِ شَيءٌ، وَيَقُولُ: أَذَانُ الجُمُعَةِ الأَوَّلُ
بِدْعَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَعْرُوفاً عَلَى عَهْدِ الرَّسُولِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَجِبُ أَنَْ نَقْتَصِرَ عَلَى الأَذَانِ
الثَّانِي فَقَطْ!
فَنَقُولُ لَهُ: إِنَّ سُنَّةَ عُثْمَانَ رَضِيَ
اللهُ عَنْهُ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ إِذَا لَمْ تُخَالِفْ سُنَّةَ رَسُولِ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَقُمْ أَحَدٌ مِن
الصَّحَابَةِ الَّذِينَ هُمْ أَعْلَمُ مِنْكَ وَأَغْيَرُ عَلَى دِينِ اللهِ
بِمُعَارَضَتِهِ، وَهُوَ مِن الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِِيينَ،
الَّذِينَ أمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
باتِّباعِهِمْ.
ثُمَّ إنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ
اعْتَمَدَ عَلَى أَصْلٍ، وَهُو أَنَّ بِلَالاً يُؤذِّنُ قَبْلَ الفَجْرِ
فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا لِصَلَاةِ
الفَجْرِ، وَلَكِنْ لِيُرْجِعَ القَائِمَ وَيُوقِظَ النَّائِمَ؛ كَمَا
قَالَ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأَمَرَ
عُثْمَانُ بِالأَذَانِِ الأوَّلِ يَومَ الُجُمُعَةِ، لَا لِحُضُورِ
الإِمَامِ، وَلَكِنْ لِحُضُورِ النَّاسِ؛ لِأَنَّ المَدِينَةَ كَبُرَتْ
وَاتَّسَعَتْ وَاحْتَاجَ النَّاسُ أَنْ يَعْلَمُوا بِقُرْبِ الجُمُعَةِ
قَبْلَ حُضُورِ الإِمَامِ؛ مِن أَجْلِ أَنْ يَكُونَ حُضُورُهُمْ قَبْلَ
حُضُورِ الإِمَامِ.
فَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ يَتَّبِعُونَ
مَا أَوْصَى بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ
وَسَلَّمَ مِنَ الحَثِّ عَلَى التَّمَسُّكِ بِسُنَّتِهِ وَسُنَّةِ
الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِيينَ مِن بَعْدِهِ وَعَلَى رَأْسِهِمْ
الخُلَفَاءُ الأَرْبَعَةُ: أَبْو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ؛
إِلَّا إِذَا خَالَفَ كَلَامَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مُخَالَفَةً صَرِيحَةً؛ فَالوَاجِبُ عَلَينَا أَنْ نَأْخُذَ
بِكَلَامِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنعتذِرُ عَنْ
هَذَا الصّحَابِِيِّ، وَنَقُولُ: هَذَا مِنْ بَابِ الاجْتِهَادِ
المَعْذُورِ فِيهِ.
قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: ((وَإيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ)): ((إِيَّاكُمْ)):
هَذِهِ لِلتَّحْذِيرِ؛ أَيْ: أُحَذِّرُكُمْ.
وَ((الأُمُورُ)): بِمَعْنَى: الشُّؤُونِ،
وَالمُرَادُ بِهَا أُمُورُ الدِّينِ، أَمَّا أُمُورُ الدُّنْيا ؛ فَلَا
تَدْخُلُ فِي هَذَا الحَدِيثِ؛ لِأَنَّ الأَصْلَ فِي أُمُورِ الدُّنْيا
الحِلُّ؛ فَمَا ابْتُدِعَ مِنْهَا؛ فَهُو حَلَالٌ؛ إِلَّا أَنْ يَدُلَّ
الدَّلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِهِ. لَكِنَّ أُمُورَ الدِّينِ الأَصْلُ فِيهَا
الحَظْرُ؛ فَمَا ابْتُدِعَ مِنْهَا؛ فَهُوَ حَرَامٌ بِدْعَةٌ؛ إِلَّا
بِدَلِيلٍ مِن الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ.
قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ: ((فَإِنَّ كُلَّ بَدْعَةٍ ضَلَالَةٌ)): الجُمْلَةُ
مُفَرَّعَةٌ عَلَى الجُمْلَةِ التَّحْذِيرِيَّةِ، فَيَكُونُ المُرَادُ
بِهَا هُنَا تَوْكِيدُ التَّحْذِيرِ وَبَيَانُ حُكْمِ البدْعَةِ.
((كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ)): هَذَا كَلَامٌ
عَامٌّ مُسَوَّرٌ بِأَقْوَى لَفْظٍ دَالٍّ عَلَى العُمُومِ، وَهُوَ لَفْظُ
(كُلُّ)؛ فَهُوَ تَعْمِيمٌ مُحْكَمٌ صَدَرَ مِن الرَّسولِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
أعْلَمُ الخَلْقِ بِشَرِيعَةِ اللهِ، وَأَنْصَحُ الخَلْقِ لِعِبَادِ اللهِ،
وَأَفْصَحُ الخَلْقِ بَيَاناً، وَأَصْدَقُهم خَبَراً؛ فَاجْتَمَعَتْ فِي
حَقِّهِ أَرْبَعةُ أُمُورٍ: عِلْمٌ وَنُصْحٌ وَفَصَاحَةٌ وَصِدْقٌ، نَطَقَ
بِقَوْلِهِ: ((كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ)).
فَعَلَى هَذَا: كُلُّ مَن تَعَبَّدَ للهِ بِعَقِيدَةٍ أَوْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ لَمْ يَكُنْ شَرِيعَةَ اللهِ؛ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ.
-فَالجَهْمِيَّةُ يَتَعَبَّدُونَ
بِعَقِيدَتِهِمْ، وَيَعْتَقِدُونَ أنَّهُمْ مُنَزِّهُونَ للهِ.
وَالمُعْتَزِلَةُ كَذَلِكَ. وَالأَشَاعِرَةُ يَتَعَبَّدُونَ بِمَا هُم
عَلَيْهِ مِن عَقِيدَةٍ بَاطِلَةٍ.
-وَالَّذِينَ أَحْدَثُوا أَذْكَاراً مُعَيَّنَةً يَتَعَبَّدُونَ للهِ بِذَلِكَ، وَيَعْتَقِدُونَ أنَّهُمْ مَأْجُورُونَ عَلَى هَذَا.
-وَالَّذِينَ أَحْدَثُوا أَفْعَالاً يَتَعَبَّدُونَ للهِ بِهَا وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ مَأْجُورُونَ عَلَى هَذَا.
كُلُّ هَذِهِ الأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ
ابْتَدَعُوا فِي العَقِيدَةِ أَوْ فِي الأَقْوَالِ أَوْ فِي الأَفْعَالِ؛
كُلُّ بِدْعَةٍ مِن بِدَعِهِمْ؛ فَهِيَ ضَلَالَةٌ، وَوَصَفَهَا الرَّسُولُ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالضَّلَالَةِ؛ لِأَنَّهَا مَركبٌ،
وَلِأَنَّهَا انْحِرَافٌ عَن الحَقِّ.
وَالبِدْعَةُ تَسْتَلْزِمُ مَحَاذِيرَ فَاسِدَةً:
فَأَوَّلاً: تَسْتَلْزِمُ تَكْذِيبَ قَوْلِ اللهِ
تَعَالَى: ((اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) [المَائِدَة: 3]؛
لِأنَّهُ إِذَا جَاءَ بِبِدْعَةٍ جَدِيدَةٍ يَعْتِبِرُهَا دِيناً؛
فَمُقْتَضَاهُ أَنَّ الدَّينَ لَمْ يَكْمُلْ.
ثَانِياً: تَسْتَلْزِمُ القَدْحَ فِي الشَّرِيعَةِ، وَأَنَّهَا نَاقِصَةٌ، فَأَكْمَلَهَا هَذَا المُبْتَدِعُ.
ثَالِثاً: تَسْتَلْزِمُ القَدْحَ فِي
المُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَمْ يَأتُوا بِهَا؛ فَكُلُّ مَن سَبَقَ هَذِهِ
البِدَعَ مِن النَّاسِ دِينُهُمْ نَاقِصٌ! وَهَذَا خَطِيرٌ!!
رَابِعاً: مِن لُوازمِ هَذِهِ البِدْعَةِ أَنَّ
الغَالِبَ أَنَّ مَن اشْتَغَلَ بِبِدْعَةٍ؛ انْشَغَلَ عَنْ سُنَّةٍ؛ كَمَا
قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: ((مَا أَحْدَثَ قَوْمٌ بِدْعَةً؛ إِلَّا هَدَمُوا
مِثْلَهَا مِن السُّنَّةِ)).
خَامِساً: أَنَّ هَذِهِ البِدَعَ تُوجِبُ
تَفَرُّقَ الأُمَّةِ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ المُبْتَدِعَةَ يَعْتَقِدُونَ
أنَّهُمْ هُمْ أَصْحَابُ الحَقِّ، وَمَن سِواهُمْ عَلَى ضَلَالٍ!! وَأَهْلُ
الحَقِّ يَقُولُونَ: أَنْتُم الَّذِينَ عَلَى ضَلَالٍ! فَتَتَفَرَّقُ
قُلُوبُهُمْ.
فَهَذِهِ مَفَاسِدُ عَظِيمَةٌ، كُلُّهَا
تَتَرَتَّبُ عَلَى البِدْعَةِ مِن حَيْثُ هِيَ بِدْعَةٌ، مَعَ أنَّهُ
يَتَّصِلُ بِهَذِهِ البِدْعَةِ سَفَهٌ فِي العَقْلِ وَخَلَلٌ فِي الدِّينِ.
وَبِهَذَا نَعْرِفُ أَنَّ مَنْ قَسَّمَ
البِدْعَةَ إِلَى أَقْسَامٍ ثَلَاثَةٍ أَوْ خَمْسَةٍ أَوْ سِتَّةٍ؛ فَقَدْ
أَخْطَأََ، وَخَطَؤُهُ مِن أَحَدِ وَجْهَيْنِ:
-إِمَّا أَنْ لَا يَنْطَبِقَ شَرْعاً وَصْفُ البِدْعَةِ عَلَى مَا سَمَّاهُ بِدْعَةً.
-وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ حُسْناً كَمَا زَعَمَ.
فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: ((كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ))؛ فَقَالَ: ((كُلَّ))؛ فَمَا الَّذِي
يُخْرِجُنَا مِنْ هَذَا السُّورِ العَظِيمِ حَتَّى نُقَسِّمَ البِدَعَ
إِلَى أَقْسَامٍ؟
فَإِنْ قُلْتَ: مَا تَقُولُ فِي قَوْلِ أَمِيرِ
المُؤمِنِينَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حِينَ خَرَجَ إِلَى النَّاسِ
وهُمْ يُصَلُّونَ بِإِمَامِهِمْ فِي رَمَضَانَ، فَقَالَ: نِعْمَت
البِدْعَةُ هَذِهِ. فَأَثْنَى عَلَيْهَا، وَسَمَّاهَا بِدْعَةً؟!
فَالجَوَابُ أَنْ نَقُولَ: نَنْظُرُ إِلَى هَذِهِ
البِدْعَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا؛ هَلْ يَنْطَبِقُ عَلَيْهَا وَصْفُ
البِدْعَةِ الشَّرْعيَّةِ أَوْ لَا.
فَإِذَا نَظَرْنَا ذَلِكَ؛ وَجَدْنَا أنَّهُ لَا
يَنْطَبِقُ عَلَيْهَا وَصْفُ البِدْعَةِ الشَّرْعيَّةِ؛ فَقَدْ ثَبَتَ أنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ فِي
رَمَضَانَ ثَلَاثَ لَيَالٍ، ثُمَّ تَرَكَهُ خَوْفاً مِن أَنْ تُفْرَضَ
عَلَِيْهُمْ، فَثَبَتَ أَصْلُ المَشْرُوعِيَّةِ، وَانْتَفَى أَنْ تَكُونَ
بِدْعَةً شَرْعِيَّةً، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ نَقُولَ: إِنَّهَا بِدْعَةٌ،
وَالرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ صَلَّاها!!
وَإِنَّمَا سَمَّاهَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ
بِدْعَةً؛ لِأَنَّ النَّاسَ تَرَكُوهَا، وَصَارُوا لَا يُصَلُّون
جَمَاعَةً بِإِمَامٍ وَاحِدٍ، بَلْ أَوْزَاعاً؛ الرَّجُلُ وَحْدَهُ
وَالرَّجُلَان وَالثَّلَاثَةُ وَالرَّهَطُ، فَلَمَّا جَمَعَهُمْ عَلَى
إِمَامٍ وَاحِدٍ؛ صَارَ اجْتِمَاعُهُمْ بِدْعَةً بِالنِّسْبَةِ لِمَا
كَانُوا عَلَيْهِ أَوَّلًا مِنْ هَذَا التَّفَرُّقِ.
فَإِنَّهُ خَرَجَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ذَاتَ
لَيْلَةٍ، فَقَالَ: لَوْ أَنِي جَمَعْتُ النَّاسَ عَلَى إِمَامٍ وَاحِدٍ؛
لَكَانَ أَحْسَنَ، فَأَمَرَ أُبَيَّ بنَ كَعْبٍ وَتَمِيماً الدَّارِيَّ
أَنْ يَقُومَا لِلنَّاسِ بِإِحْدَى عَشَرَةَ رَكْعَةً، فَقَامَا لِلنَّاسِ
بِإِحْدَى عَشَرَةَ رَكْعَةً، فَخَرَجَ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَالنَّاسُ
يُصَلُّونَ بِإِمَامِهِمْ، فَقَالَ: نِعْمَت البِدْعَةُ هَذِهِ.
إِذاً هِيَ بِدْعَةٌ نِسْبِيَّةٌ؛ بِاعْتِبَارِ أنَّها تُرِكَتْ ثُمَّ أُنشِئَتْ مَرَّةً أُخْرَى.
فَهَذَا وَجْهُ تَسْمِيتِها بِبِدْعَةٍ.
وَأمَّا أنَّهَا بِدْعَةٌ شَرْعِيَّةٌ، وَيُثْنِي عَلَيْهَا عُمَرُ فَكلاَّ.
وَبِهَذَا نَعْرِفُ أَنَّ كَلَامَ رَسُولِ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُعَارِضُهُ كَلَامُ عُمَرَ رَضِيَ
اللهُ عَنْهُ.
فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ تَجْمَعُ بَيْنَ هَذَا
وَبَيْنَ قَوْلِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ سَنَّ
فِي الإِسْلامِ سُنَّةً حَسَنَةً؛ فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ
بِهَا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ))؛ فَأَثْبَتَ أَنَّ الإِنْسَانَ يَسُنُّ
سُنَّةً حَسَنَةً فِي الإِسْلَامِ؟
فَنَقُولُ: كَلَامُ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضاً، وَلَا يَتَنَاقَضُ؛
فَيُرِيدُ بِالسُّنَّةِ الحَسَنَةِ السُّنَّةَ المَشْرُوعَةَ، وَيَكُونُ
المُرَادُ بِسَنِّهَا المُبَادَرَةُ إِلَى فِعْلِها.
يُعْرَفُ هَذَا بِبَيَانِ سَبَبِ الحَدِيثِ،
وَهُو أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ حِينَ
جَاءَ أَحَدُ الأَنْصَارِ بِصُرَّةٍ (يَعْنِي: مِن الدَّرَاهِمِ)،
وَوَضَعَها بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
حِينَ دَعَا أَصْحَابَهَ أَنْ يَتَبَرَّعُوا لِلرَّهَطِ الذِينَ قَدِمُوا
مِن مُضَرَ مُجْتَابِي النِّمَارِ، وَهُمْ مِنْ كِبَارِ العَرَبِ،
فَتَمَعَّرَ وَجْهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا رَأى
مِن حَالِهِمْ، فَدَعَا إِلَى التَّبَرُّعِ لَهُمْ، فَجَاءَ هَذَا
الرَّجُلُ أَوَّلَ مَا جَاءَ بِهَذِهِ الصُّرَّةِ، فَقَالَ: ((مَنْ سَنَّ
فِي الإِسْلامِ سُنَّةً حَسَنَةً؛ فَلَهُ أَجْرُها وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ
بِهَا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ)).
أَوْ يُقََالُ: المُرَادُ بِالسُّنَّةِ
الحَسَنَةِ مَا أُحْدِثَ لِيَكُونَ وَسِيلَةً إِلَى مَا ثَبَتَتْ
مَشْرُوعِيَّتُهُ؛ كَتَصْنِيفِ الكُتُبِ وَبِنَاءِ المَدَارِسِ وَنَحْوِ
ذَلِكَ.
وَبِهَذَا نَعْرِفُ أَنَّ كَلَامَ الرَّسُولِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُنَاقِضُ بَعْضُهُ بَعْضاً، بَلْ
هُوَ مُتَّفَقٌ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يَنْطِقُ
عَن الهَوَى.
قَوْلُهُ: ((وَيَعْلَمُونَ أَنَّ أَصْدَقَ الكَلَامِ كَلَامُ اللهِ)):
هَذَا عِلْمُنَا وَاعْتِقَادُنَا، وَأنْ لَيْسَ
فِي كَلَامِ اللهِ مِنْ كَذِبٍ، بَلْ هُوَ أَصْدَقُ الكَلَامِ؛ فَإِذَا
أَخْبَرَ اللهُ عَنْ شَيءٍ بِأنَّهُ كَائِنٌ؛ فَهُوَ كَائِنٌ، وَإِذَا
أَخْبَرَ عَنْ شَيءٍ بِأنَّهُ سَيَكُونُ؛ فَإِنَّهُ سَيِكُونُ، وَإِذَا
أَخْبَرَ عَنْ شَيءٍ بِأَنَّ صِفَتَهُ كَذَا وَكَذَا؛ فَإِنَّ صِفََتَهُ
كَذَا وَكَذَا.
فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَغَيَّرَ الأَمْرُ عَمَّا
أخْبَرَ اللهُ بِهِ، ومَنْ ظَنَّ التَّغَيُّرَ، فَإِنَّمَا ظَنُّهُ
خَطَأٌ؛ لِقُصُورِهِ أَوْ تَقْصِيرِهِ.
مِثَالُ ذَلِكَ لَوْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّ اللهَ
عَزَّ وَجَلَّ أَخْبَرَ أَنَّ الأَرْضَّ قَدْ سُطِحَتْ، فَقَالَ: (وَإِلَى
الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) [الغَاشِيَة: 20]، وَنَحْنُ نُشَاهِدُ أَنَّ
الأَرْضَ مُكَوَّرَةٌ؛ فَكَيْفَ يَكُونُ خَبَرُهُ خِلَافَ الوَاقِعِ؟
فَجَوَابُهُ أَنَّ الآيَةَ لَا تُخَالِفُ
الوَاقِعَ، وَلَكِنَّ فهْمَهُ خَاطِئٌ إِمَّا لِقُصُورِهِ أَوْ
تَقْصِيرِهِ؛ فَالأَرْضُ مُكَوَّرَةٌ مُسَطَّحَةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا
مُسْتَدِيرَةٌ، وَلَكِنْ لِكِبَرِ حَجْمِهَا لَا تَظْهَرُ اسْتِدَارَتُهَا
إِلَّا فِي مِسَاحَةٍ وَاسِعَةٍ تَكُونُ بِهَا مُسَطَّحَةً، وَحِينَئذٍ
يَكُونُ الخَطَأُ فِي فَهْمِهِ؛ حَيْثُ ظَنَّ أَنَّ كَوْنَهَا قَدْ
سُطِحَتْ مُخَالِفٌ لِكَوْنِهَا كُرَوِيَّةً.
فَإِذَا كُنَّا نُؤمِنُ أنَّ أَصْدَقَ الكَلَامِ
كَلَامُ اللهِ؛ فَلَازِمُ ذَلِكَ أنَّهُ يَجِبُ عَلَيْنا أَنْ نُصَدِّقَ
بِكُلِّ مَا أخْبَرَ اللهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ، سَوَاءً كَانَ ذَلِكَ عَنْ
نَفْسِهِ أَوْ عَنْ مَخْلُوقَاتِهِ.
قَوْلُهُ: ((وَخَيْرُ الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)):
((الهَدْي)): هُوَ الطَّرِيقُ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا السَّالِكُ.
وَالطُّرُقُ شَتَّى، لَكِنَّ خَيْرَهَا طَرِيقُ
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَنَحْنُ نَعْلَمُ ذَلِكَ
وَنُؤمِنُ بِهِ، نَعْلَمُ أَنَّ خَيْرَ الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي العَقَائِدِ وَالعِبَادَاتِ وَالأَخْلَاقِ
وَالمُعَامَلَاتِ، وَأنَّ هَدْيَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَيْسَ بِقَاصِرٍ؛ لَا فِي حُسْنِهِ وَتَمَامِهِ وَانْتِظَامِهِ
وَمُوَافَقَتِهِ لِمَصَالِحِ الخَلْقِ، وَلَا فِي أَحْكَامِ الحَوَادِثِ
الَّتِي لَمْ تَزَلْ وَلَا تَزَالُ تَقَعُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ؛
فَإِنَّ هَدْيَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَامِلٌ تَامٌّ؛
فَهُوَ خَيْرُ الهَدْيِ؛ أَهْدَى مِن شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ
وَالإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَصُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَجَمِيعِ الهَدْيِ.
فَإِذَا كُنَّا نَعْتَقِدُ ذَلِكَ؛ فَوَاللهِ؛ لَا نَبْغِي بِهِ بَدِيلاً.
وَبِنَاءً عَلَى هَذِهِ العَقِيدَةِ لَا
نُعَارِضُ قَوْلَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِ
أَحَدٍ مِن النَّاسِ، كَائِناً مَن كَانَ، حَتَّى لَوْ جَاءَنَا قَوْلٌ
لِأَبِي بَكْرٍ، وَهُوَ خَيْرُ الأُمَّةِ، وَقَولٌ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ أَخَذْنََا بِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ بَنَوا هَذَا الاعْتِقَادَ عَلَى الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ:
-قَالَ اللهُ تَعَالَى: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِن اللهِ حَدِيثاً) [النِّسَاء: 87].
-وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَهُوَ يَخْطُبُ النَّاسَ عَلَى المِنْبَرِ: ((خَيْرُ الحَدِيثِ
كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرُ الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ)).
وَلِهَذَا تَجِدُ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي
الهَدْيِ وَخَالَفُوا فِيهِ: إِمَّا مُقَصِّرِينَ عَن شَرِيعَةِ الرَّسُولِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِمَّا غَالِينَ فِيهَا؛ بَيْنَ
مُتَشَدِّدِينَ وَبَيْنَ مُتَهَاوِنِينَ، بَيْنَ مُفَرِّطٍ ومُفْرِطٍ،
وَهَدْيُ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكُونُ بَيْنَ هَذَا
وَهَذَا.
قَوْلُهُ: ((وَيُؤثِرُونَ كَلَامَ اللهِ عَلَى كَلَامِ غَيْرِهِ مِن كَلَامِ أَصْنَافِ النَّاسِ)):
((يُؤثِرُونَ))؛ أَيْ: يُقَدِّمُونَ.
((كَلَامَ اللهِ عَلَى كَلَامِ غَيْرِهِ)): مِن
سَائِرِ أَصْنَافِ النَّاسِ فِي الخَبَرِ وَالحُكْمِ؛ فَأَخْبَارُ اللهِ
عِنْدَهُمْ مُقَدَّمَةٌ عَلَى خَبَرِ كُلِّ أَحَدٍ.
فَإِذَا جَاءْتنَا أَخْبَارٌ عَنْ أُمَمٍ مَضَتْ وَصَارَ القُرْآنُ يُكَذِّبُهَا؛ فَإِنَّنَا نُكَذِّبُهَا.
مِثَالُ ذَلِكَ: اشْتُهِرَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِن
المُؤرِّخِينَ أَنَّ إِدْرِيسَ قَبْلَ نُوحٍ، وَهَذَا كَذِبٌ؛ لِأَنَّ
القُرْآنَ يُكَذِّبُهُ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا
إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ)
[النِّسَاء: 163]، وَإِدْرِيسُ مِن النَّبِيِّينَ؛ كَمَا قَالَ اللهُ
تَعَالَى: (وَاذْكُرْ فِى الكِتَابِ إِدْريِسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً
نَّبِيَّاً…) [مَرْيَم: 56] إِلَى أَنْ قَالَ: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ
أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِن النَّبيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ
وَمِمَّن حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ) [مَرْيَم: 58]، وَقَالَ تَعَالَى:
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْراَهِيمَ وَجَعَلْنَا فِى
ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالكِتَابَ) [الحَدِيد: 26]؛ فَلَا نَبِيَّ
قَبْلَ نُوحٍ إِلَّا آدَمُ فَقَطْ.
قَولُهُ: ((وَيُقَدِّمُونَ هَدْيَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَدْي كُلِّ أَحَدٍ)):
((يُقَدِّمُونَ هَدْيَهُ))؛ أَيْ: طَرِيقَتَهُ وَسنَّتَهُ الَّتِي عَلَيْهَا.
((عَلَى هَدْي كُلِّ أَحَدٍ)): فِي العَقَائِدِ
وَالعِبَادَاتِ وَالأَخْلَاقِ وَالمُعَامَلَاتِ وَالأَحْوَالِ وَفِي كُلِّ
شَيءٍ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِى مَسْتَقِيماً
فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن
سَبِيلِهِ) [الأَنْعَام: 153]، وَقَوْلُهُ: (قُلْ إِنْ كُنتُمْ تُحِبُّونَ
اللهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ
وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [آلِ عِمْرَان: 31].
قَوْلُهُ: ((وَلِهَذَا)): اللَّامُ فِي قَوْلِهِ:
((وَلِهَذَا)) لِلتَّعْلِيلِ؛ أَيْ: وَمِن أَجْلِ إِيثَارِهِمْ كَلَامَ
اللهِ وَتَقْدِيمِ هَدْيِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
((سُمُّوا أَهْلَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ)):
لِتَصْدِيقِهِمَا وَالتِزَامِهِمَا وَإِيثَارِهِمَا عَلَى غَيْرِهِمَا.
وَمَن خَالَفَ الكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، وَادَّعَى أنَّهُ مِن أَهْلِ
الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ فَهُوَ كَاذِبٌ؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ
شَيءٍ لَا بُدَّ أَنْ يَلْزَمَهُ وَيَلْتَزِمَ بِهِ.
قَوْلُهُ: ((وَسُمُّوا أَهْلَ الجَمَاعَةِ؛
لِأَنَّ الجَمَاعَةَ هِيَ الاجْتِمَاعُ، وَضِدُّهَا الفُرْقَةُ))؛
فَالجَمَاعَةُ اسْمُ مَصْدَرِ اجْتَمَعَ يَجْتَمِعُ اجْتِمَاعاً
وَجَمَاعَةٌ؛ فَالجَمَاعَةُ هِيَ الاجْتِمَاعُ؛ فَمَعْنَى أَهْلِ
الجَمَاعَةِ أَهْلُ الاجْتِمَاعِ؛ لِأَنَّهَمْ مُجْتَمِعُونَ عَلَى
السُّنَّةِ، مَتَآلِفُونَ فِيهَا، لَا يُضَلِّلُ بَعْضُهْمَ بَعْضاً، وَلَا
يُبَدِّعُ بَعْضُهْمْ بَعْضاً؛ بِخِلَافِ أَهْلِ البِدَعِ.
قَولُهُ: ((وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الجَمَاعَةِ قَدْ
صَارَ اسْماً لِنَفْسِ القَوْمِ المُجْتَمِعِينَ)): هَذَا فِي
اسْتِعْمَالٍ ثَانٍ؛ حَيْثُ صَارَ لَفْظُ (الجَمَاعَةِ) عُرْفاً: اسْماً
لِلقَومِ المُجْتَمِعِينَ.
وَعَلَى مَا قَرَّرهُ المُؤلِّفُ تَكُونُ
(الجَمَاعَة) فِي قَوْلِنَا: ((أَهْلُ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ)):
مَعْطُوفَةٌ عَلَى (السُّنَّةِ)، وَلِهَذَا عَبَّرَ المُؤلِّفُ بِقََولِهِ:
((سُمُّوا أَهْلَ الجَمَاعَةِ))، وَلَمْ يَقُلْ: سُمُّوا جَمَاعَةً؛
فَكَيْفَ يَكُونُونَ أَهْلَ الجَمَاعَةِ وَهُمْ جَمَاعَةٌ؟!
نَقُولُ: الجَمَاعَةُ فِي الأَصْلِ:
الاجْتِمَاعُ؛ فَأَهْلُ الجَمَاعَةِ؛ يَعْنِي: أَهْلَ الاجْتِمَاعِ، لَكِنْ
نُقِلَ اسْمُ الجَمَاعَةِ إِلَى القَومِ المُجْتَمِعِينَ نَقْلاً
عُرْفيّاً).
الروضة الندية للشيخ: زيد بن
عبد العزيز بن فياض رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (* فصلٌ في طريقةِ أهلِ السنَّةِ والجماعةِ *
(فَصْلٌ:
ثُمَّ مِنْ طَريقةِ أَهْلِ السُّنَّةِ والجَماعَةِ اتِّباعُ آثارِ رَسولِ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باطِناً وظاهِراً، واتِّباعُ
سَبِيلِ السَّابِقينَ الأوَّلِينَ مِنَ المُهَاجِرينَ والأنْصارِ،
واتِّباعُ وَصِيَّةِ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حيثُ
قال:((عَلَيْكُمْ بِسُنَّتي وَسُنَّةِ الخُلَفاءِ الرَّاشِدِينَ
المَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدي، تَمَسَّكُوا بِها، وَعَضُّوا عَلَيها
بِالنَّواجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثاتِ الأُمُورِ ؛ فإِنَّ كُلَّ
بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ)).
ويَعْلَمونَ أَنَّ أَصْدَقَ الكَلامِ كَلامُ
اللهِ، وخَيْرَ الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، ويُؤثِرونَ كَلامَ اللهِ على غَيْرِهِ مِن كَلامِ أَصنافِ
النَّاسِ، ويُقَدِّمونَ هَدْيَ محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
على هَدْيِ كُلِّ أَحَدٍ.
ولهذا سُمُّوا أَهْلَ الكِتابِ والسُّنَّةِ،
وسُمُّوا أَهْلَ الجَماعَةِ؛ لأنَّ الجَماعَةَ هِيَ [ الاجْتِمَاعُ ]،
وضِدُّها الفُرْقَةُ، وإِنْ كَانَ لفظُ الجَماعَةِ قَدْ صارَ اسماً لَنفْسِ
القَوْمِ المُجْتَمِعينَ.
والإِجْماعُ هُو الأصْلُ الثَّالِثُ الَّذي يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ في العِلْمِ والدِّيِن.
وهُمْ يَزِنُونَ بهذه الأصولِ الثَّلاثَةِ جَميعَ
ما عليهِ النَّاسُ مِنْ أَقْوالٍ وأَعْمالٍ باطنةٍ أَوْ ظاهِرَةٍ مِمَّا
لَهُ تعلُّقٌ بالدِّينِ.
والإِجماعُ الَّذي يَنْضَبِطُ هُو مَا كانَ
عَلَيْه السَّلَفُ الصَّالحُ، إِذْ بَعْدَهُم كَثُرَ الاخْتِلافُ، [
وانْتَشَرَت في الأمَّةِ ]) ).
الشرح:
وفِي رِوايَةٍ فَتمَسَّكوا بِعَهْدِ ابْنِ أُمِّ
عَبْدٍ وَاهْتَدُوا بِهَدْيِ عَمَّارٍ. وعَن العِرباضِ ابنِ سَاريةَ قَالَ
صلى بِنا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذاتَ يومٍ ثُمَّ
أقبلَ عليْنا فَوعَظنا موعِظةً بَليغةً ذَرفتْ مِنها العيونُ ووَجلتْ مِنها
القلوبُ فقَالَ قائلٌ: يا رَسُولَ اللهِ: كَأنَّ هَذِهِ مَوعظةُ مُودِّعٍ
فَماذا تَعْهدُ إلينا؟ فقَالَ: أُوصِيكُمْ بِتقْوَى اللهِ والسَّمعِ
والطَّاعَةِ وإنْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ
فَسَيَرَى اخْتِلَافاً كَثِيراً فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ
الْخُلفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا
عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمورِ فَإِنَّ
كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ. رَوَاهُ أَحْمَدُ
والتِّرْمِذِيُّ وصحَّحَهُ ورَوَاهُ ابنُ مَاجَةَ وزادَ فقَدْ تَرَكْتُكُمْ
عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لاَ يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي
إِلاَّ هَالِكٌ.
وقَالَ عبدُ اللهِ بنُ مَسْعودٍ: اتَّبِعوا ولا
تَبْتَدِعوا فقَدْ كُفِيتمْ، وقَالَ ابنُ المَاجِشونِ: سَمِعْتُ مالِكاً
يقولُ: مَن ابْتدعَ فِي الإسْلاَمِ بِدعةً يَراها حسنةً فقَدْ زَعمَ أنَّ
مُحمَّداً خَانَ الرِّسالةَ ؛ لأنَّ اللهَ يقولُ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ
لَكُمْ دِينَكُمْ} فما لم يَكُنْ يومئذٍ دِيناً لا يكونُ اليومَ دِيناً.
وقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَن اسْتحَسَنَ- يَعْني - بِدعةً فقَدْ شَرَّعَ،
فأمرَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلزومِ سُنَّتِه وسُنَّةِ
الخُلفَاءِ الرَّاشِدينَ عندَ وقوعِ الاختلافِ فِي الأُمَّةِ فِي أصولِ
الدِّينِ وفُروعِه.
والسُّنَّةُ هي الطَّريقُ المَسلوكُ فَيشملُ
ذَلِكَ التَّمَسُّكَ بما كَانَ عَلَيْهِ هُوَ وخُلفاؤه الرَّاشِدونَ مِن
الاعتقاداتِ والأعمالِ والأقوالِ وهَذِهِ هي السُّنَّةُ الكاملةُ. ولهَذَا
كَانَ السَّلَفُ قديماً لا يُطلقونَ اسمَ السُّنَّةِ إلا على ما يَشملُ
ذَلِكَ كُلَّهُ. وكثيرٌ مِن المُتأخِّرين يَخصُّ اسمَ السُّنَّةِ بِما
يَتعلَّقُ بالاعتقادِ لأنَّهَا أصلُ الدِّينِ والمُخالِفُ فيها على خطرٍ
عظيمٍ.
وفِي أمْرِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
باتِّباعِ سُنَّتِه وَسُنَّةِ الخُلفَاءِ الرَّاشِدينَ مِن بعدِه وَأمْرِه
بالسَّمعِ والطَّاعةِ لوُلاةِ الأمورِ عُموماً دليلٌ على أنَّ سُنَّةَ
الخُلفَاءِ الرَّاشِدينَ مُتبعةٌ كاتِّبَاعِ السُنَّةِ بخلافِ غَيْرِهِمْ
مِن ولاةِ الأمورِ.
والخُلفَاءُ الرَّاشِـدونَ الَّذِينَ أمَرَنا
بالاقتداءِ بهم هُم أَبُو بَكْرٍ وعُمَرُ وعُثْمَانُ وعَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ
عَنْهُمْ فإنَّ فِي حَدِيثِ سفينةَ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: الْخِلاَفَةُ ثَلاَثُونَ سَنَةً ثُمَّ تَكُونُ مُلْكاً، وقَدْ
صحَّحَهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ واحتجَّ به الأئِمَّةُ الأربعةُ ونصَّ كثيرٌ
مِن الأئِمَّةِ على أنَّ عُمَرَ بنَ عبدِ العزيزِ خَليفةٌ رَاشِدٌ أيضاً،
وقَدِ اخْتلفَ العُلَمَاءُ فِي اجتماعِ الخُلفَاءِ الأربعةِ: هَل هُوَ
إجماعٌ أو هُوَ حُجَّةٌ مَعَ مُخالفةِ غَيْرِهِمْ مِن الصَّحَابَةِ أم لا؟
وفيه رِوايتانِ عَن الإِمَامِ أَحْمَدَ. ولو خالفَ أحدُ الخُلفَاءِ غيرَهُ
مِن الصَّحَابَةِ فهل يُقدَّمُ قَولُهُ على قولِ غيرِه فيه أيضاً قولانَ
للعُلَمَاءِ، والمنصوصُ عَن الإِمَامِ أَحْمَدَ أنَّهُ يُقدَّمُ قَولُهُ
على قولِ غَيْرِهِ مِن الصَّحَابَةِ وكلامُ أكثرِ السَّلَفِ يدلُّ على
ذَلِكَ.
وإنَّمَا وُصِفَ الخُلفَاءُ بالرَّاشِدينَ
لأنَّهُمْ عرفوا الحقَّ وقَضَوْا به. والرَّاشِدُ ضِدُّ الغَاوِي،
والغَاوِي مَن عرفَ الحقَّ وَعَمِلَ بِخلافه، وفِي رِوايَةِ المَهْدِيِّينَ
يعني أنَّ اللهَ يَهديهم للحقِّ ولا يُضلُّهم عَنْهُ، والضَّالُّ الَّذِي
لم يَعرفِ الْحقَّ بالكُلِّيَّةِ.
فالأقسامُ ثلاثةٌ: راشِدٌ وغَاوٍ وضَالٌّ، وكلُّ
راشدٍ فهُوَ مُهتدٍ، وكلُّ مُهتدٍ هَدايةً تَامَّةً فهُوَ راشدٌ ؛ لأنَّ
الهدَايةَ إنَّمَا تَتمُّ بمعرفةِ الحقِّ والعملِ به أيضاً، قَولُهُ:
عَضُّوا عَلَيْهَا بالنَّواجِذِ. كنايةٌ عَن شدِّةِ التَّمَسُّكِ بها،
والنَّواجذُ: الأضراسُ، قَولُهُ: وإيَّاكُمْ وَمُحدَثاتِ الأُمُورِ. تحذيرٌ
للأُمَّةِ مِن اتِّبَاعِ المُبتدعةِ وأكَّدَ ذَلِكَ بقَولِهِ: كُلُّ
بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ، والمُرادُ بالبِدْعَةِ ما أُحدِثَ مِمَّا لا أصلَ لَهُ
فِي الشَّرِيعَةِ يَدلُّ عَلَيْهِ، وأمَّا ما كَانَ لَهُ أصلٌ مِن الشَّرعِ
يدُلُّ عَلَيْهِ فلَيْسَ ببِدْعَةٍ شَرعاً وإنْ كَانَ بِدْعَةً لُغةً.
فكلُّ مَن أحْدثَ شَيئاً وَنَسبهُ إِلَى
الدِّينِ ولم يَكُنْ لَهُ أصلٌ مِن الدِّينِ يَرجعُ إِلَيْهِ فهُوَ ضلالةٌ
والدِّينٌ بَريءٌ منه، وسواءٌ فِي ذَلِكَ مَسائلُ الاعتقاداتِ أو الأعمالِ
أو الأقوالِ الظَّاهرةِ والبَاطنةِ.
وأمَّا ما وقَعَ مِن استحسانِ بعضِ البِدعِ
فإنَّمَا ذَلِكَ فِي البِدعِ اللُّغويَّةِ لا الشَّرعِيَّةِ فمِن ذَلِكَ
قولُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لَمَّا جمعَ النَّاسَ فِي قيامِ رمضانَ
على إمامٍ واحدٍ فِي المسجدِ وخرَجَ ورآهم يُصلُّون كذَلِكَ قَالَ:
نِعْمَتِ البِدْعَةُ هَذِهِ، ورُوِيَ أنَّ أُبَيَّ بنَ كعبٍ قَالَ لَهُ:
إنَّ هَذَا لم يَكُنْ فقَالَ عُمَرُ: قَدْ عَلِمتُ ولكنًَّه حسنٌ ومُرادُه
أنَّ هَذَا الفِعلَ لم يَكُنْ على هَذَا الوَجْهِ قبلَ هَذَا الوقتِ ولكن
لَهُ أصلٌ فِي الشَّرِيعَةِ يُرجَعُ إليها.
وروى ابنُ حُميدٍ عَن مالكٍ قَالَ: لم يَكُنْ
شيءٌ مِن هَذِهِ الأهواءِ فِي عهدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وأَبِي بَكْرٍ وعُمَرَ وعُثْمَانَ. وكَانَ مَالِكاً يُشيرُ
بالأهواءِ إِلَى ما حَدَثَ مِن التَّفَرُّقِ فِي أصولِ الدِّياناتِ مِن
أمورِ الخَوارِجِ والرَّوافِضِ والمُرجِئةِ ونحوِهم مِمَّنْ يتكلَّمُ فِي
تكْفيرِ المُسْلِمِينَ واستباحةِ دِمائِهم وأموالِهم أو فِي تخليدِهِم فِي
النَّارِ أو فِي تَفسيقِ خَواصِّ هَذِهِ الأُمَّةِ أو عَكسِ ذَلِكَ مَن
زعَمَ أنَّ المعاصِيَ لا تُضرُّ أهلَها، وأنَّهُ لا يدخلُ النَّارَ مِن أهل
التوحيدِ أحدٌ. وأصعبُ مِن ذَلِكَ ما أُحْدِثَ مِن الكلامِ فِي أفعالِ
اللهِ تَعَالَى فِي قضائِه وَقَدَرِه، وقَدْ كَذَبَ بذَلِكَ مَن كَذَبَ
وَزَعم أنَّهُ نَزَّه اللهَ بذَلِكَ عَن الظُّلمِ، وأصعبُ مِن ذَلِكَ ما
حَدَثَ مِن الكلامِ فِي ذاتِ اللهِ وصفاتِه مِمَّا سَكَت عَنْهُ النَّبِيُّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والصَّحَابَةُ والتَّابعون، والكلامُ فِي
الحلالِ والحرامِ بُمجرَّدِ الرَّأيِ وَرَدَ كثيرٌ مِمَّا وَرَدتْ به
السُنَّةُ فِي ذَلِكَ لِمُخالفتِه الرَّأيَ والأقْيِسَةَ العَقْليَّةَ.
ومِمَّا حَدَثَ بعدَ ذَلِكَ الكلامِ فِي الحقيقةِ
بالذَّوقِ والكَشفِ، وزَعَم أنَّ الحقيقةَ تُنافِي الشَّرِيعَةَ، وأنَّ
المعرفةَ وحدَها تَكفِي مَعَ المَحبَّةِ ؛ وأنَّهُ لا حاجةَ إِلَى الأعمالِ
وأنَّهَا حِجابٌ وأنَّ الشَّرِيعَةَ وإنَّمَا يَحتاجُ إليها العَوامُّ
وربَّما انضمَّ إِلَى ذَلِكَ الكلامُ فِي الذَّاتِ والصِّفاتِ مِمَّا
يُعْلَمُ قَطْعاً مُخالفتُه الكتابَ والسُنَّةِ وإجماعَ سلفِ الأُمَّةِ.
وروى مُسْلِمٌ فِي صَحيحِه عَن جَابِرِ بنِ عبدِ
اللهِ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا
خَطَبَ احمَرَّتْ عَيناهُ وعَلا صوتُه واشتَدَّ غَضبُه حَتَّى كأنَّهُ
مُنذِرُ جيشٍ يقولُ: صَبَّحكم ومَسَّاكم ويقولُ: أمَّا بَعْدُ فإنَّ خَيْرَ
الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلَّ
مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ. وفِي رِوايَةٍ لَهُ: مَنْ
يَهْدِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ.
وللنَّسائِيِّ: وَكُلُّ ضَلاَلَةٍ فِي النَّارِ. والْهَدْيُ بفتحِ الهاءِ
وسكونِ الدَّالِ: السَّمْتُ والطريقةُ والهيئةُ.
أيْ أَحسنُ الطُّرقِ طَرِيقَتُه وسَمْتُه
وسِيرتُه مِن ((هَدَى هَدْيَهَ سَارَ بِسِيرتِه)) وَجَرى على طريقتِه.
ويُقَالُ: فلانٌ حسنُ الهدْيِ. أي الطَّريقةِ والمذْهَبِ ومنه خبرُ:
اهْتَدُوا بِهَدْيِ عَمَّارٍ. وبضمٍّ فَفتحٍ فيهما. وهُوَ بمعنى الدُّعاءِ
والرَّشادِ. وقَالَ القاضي: هُوَ مِن تَهادَت المرأةُ فِي مِشيتِها إذا
تَبَخْترتْ. ولا يكادُ يُطلقُ إلا على طريقةٍ حَسَنَةٍ وسُنَّةٍ
مَرْضِيَّةٍ. ولَامُه للاستغراقِ لأنَّ أفعلَ التَّفضيلِ لا يُضافُ إلا
إِلَى مُتعدِّدٍ وهُوَ داخلٌ فيه ؛ ولأنَّهُ لو لم يَكُنْ للاستغراقِ لم
يَفِدِ المعنى المقصودَ وهُوَ تفضيلُ ديِنِه وسُنَّتِه على جميعِ السُّننِ
والأدْيانِ).