الدروس
course cover
التبرؤ من طريقة الروافض والنواصب
11 Nov 2008
11 Nov 2008

2790

0

0

course cover
العقيدة الواسطية

القسم العاشر

التبرؤ من طريقة الروافض والنواصب
11 Nov 2008
11 Nov 2008

11 Nov 2008

2790

0

0


0

0

0

0

0

التبرؤ من طريقة الروافض والنواصب

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وَيَتَبَرَّءُونَ مِنْ طَرِيقةِ الرَّوَافِضِِ الَّذِينَ يُبْغِضُونَ الصَّحَابَةَ وَيَسُبُّونَهُمْ ، وَطَرِيقَةِ النَّوَاصِبِ الَّذِينَ يُؤْذُونَ أَهْلَ البَيْتِ بِقَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ ، وَيُمْسِكُونَ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ ، وَيَقُولُونَ : إِنَّ هَذِهِ الآثَارَ المَرْوِيَّةَ فِي مَسَاوِيهِمْ مِنْهَا مَا هُوَ كَذِبٌ ، وَمِنْهَا مَا قَدْ زِيدَ فِيهِ وَنُقِصَ ، وَغُيِّرَ عَنْ وَجْهِهِ ، وَالصَّحِيحُ مِنْهُ هُمْ فِيهِ مَعْذُورُونَ : إِمَّا مُجْتَهِدُونَ مُصِيبُونَ ، وَإمَّا مُجْتَهِدُونَ مُخْطِئُون .
وَهُمْ - مَعَ ذَلِكَ - لاَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِن الصَّحَابَةِ مَعْصُومٌ عَنْ كَبَائِرِ الإِثْمِ وَصَغَائِرِه ، بَلْ يَجُوزُ عَلَيْهِم الذُّنُوبُ فِي الْجُمْلَة ، وَلَهُمْ مِن السَّوَابِقِ وَالفَضَائِلِ مَا يُوجِبُ مَغْفِرَةَ مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ إِنْ صَدَرَ ، حَتَّى إِنَّهُ يُغْفَرُ لَهُمْ مِن السَّيِّئَاتِِ مَا لاَ يُغفرُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ ؛ لأَنَّ لَهُمْ مِن الْحَسَنَاتِ الَّتِي تَمْحُو السَّيِّئَاتِ مَا لَيْسَ لِمَنْ بَعْدَهُمْ ، وَقَدْ ثَبَتَ بِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُمْ خَيْرُ القُرُونِ ، وَأَنَّ المُدَّ مِنْ أَحَدِهِمْ إِذَا تَصَدَّقَ بِهِ كَانَ أَفْضَلََ مِنْ جَبَلِ أُحُدٍ ذَهَبًا مِمَّنْ بَعْدَهُمْ ، ثُمَّ إِذَا كَانَ قَدْ صَدَرَ عَنْ أَحَدِهِمْ ذَنْبٌ فَيَكُونُ قَدْ تَابَ مِنْهُ ، أَوْ أَتَى بِحَسَنَاتٍ تَمْحُوهُ ، أَوْ غُفِرَ لَهُ بِفَضْلِ سَابِقَتِه ، أَوْ بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم الَّذِي هُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِشَفَاعَتِهِ ، أَو ابْتُلِيَ بِبَلاَءٍ فِي الدُّنْيَا كُفِّرَ بِهِ عَنْهُ .
فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الذُّنُوبِ الْمُحَقَّقَةِ فَكَيْفَ بِالأُمُورِ الَّتِي كَانُوا فِيهَا مُجْتَهِدِينَ : إِنْ أَصَابُوا فَلَهُمْ أَجْرَانِ ، وَإِنْ أَخْطَأُوا فَلَهُمْ أَجْرٌ وَاحِدٌ ، وَالْخَطَأُ مَغْفُورٌ؟
ثُمَّ القَدْرُ الَّذِي يُنْكَرُ مِنْ فِعْلِ بَعْضِِهِمْ قَلِيلٌ نَزْرٌ مَغْمُورٌ فِي جَنْبِ فَضَائِلِ القَوْمِ وَمَحَاسِنِهِمْ مِن الإِيمَانِ بِاللهِ وَرَسُولِهِ ، وَالِجهَادِ فِي سَبيِلِهِ ، وَالْهِجْرَةِِ ، وَالنُّصْرةِ ، وَالْعِلْمِ النَّافِعِ ، وَالعَمَلِ الصَّالِحِِ . وَمَنْ نَظَرَ فِي سِيرَةِ الْقَوْمِ بِعِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ , وَمَا مَنَّ اللهُ بِهِ عَلَيْهِمْ مِن الفَضَائِلِ ، عَلِمَ يَقِينًا أَنَّهُمْ خَيْرُ الْخَلْقِ بَعْدَ الأَنْبِيَاءِ ، لاَ كَانَ وَلاَ يَكُونُ مِثْلُهُمْ ، وَأَنَّهُم هم الصَّفْوَةُ مِنْ قُرُونِ هَذِهِ الأُمَّةِ الَّتِي هِيَ خَيْرُ الأُمَمِ وَأَكْرَمُهَا عَلَى الله تعالى
).

هيئة الإشراف

#2

27 Dec 2008

التنبيهات اللطيفة فيما احتوت عليه الواسطية من المباحث المنيفة لابن سعدي رحمه الله

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (ويتبرؤون من طريقةِ الروافضِ الذي يُبْغضون الصحابةَ ويَسُبُّونهم، وطريقةِ النّواصِبِ الذين يُؤْذونَ أهل البيت بقول أو عمل ([1])، ويُمسكونَ عما شَجَرَ بين الصحابة، ويقولون إن هذه الآثارَ المَرْوِيَّةِ في مساويهم منها ما هو كَذِبٌ، ومنها ما قد زيد فيه ونُقِصَ، وغُيِّرَ عن وجهه، والصحيح منه هم فيه معذورون: إما مجتهدون مُصيبون، وإما مجتهدون مُخطئون.
وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كلَّ واحدٍ من الصّحابة معصومٌ عن كبائرِ الإثمِ وصغائِرِه، بل تجوزُ عليهم الذنوبُ في الجملةِ، ولهم من السّوابق والفضائل ما يُوجِبُ مغفرة ما يصدرُ منهم إن صدر، حتى إنهم يُغْفَرُ لهم من السيئاتِ ما لا يُغفرُ لِمَنْ بَعدَهُم، لأن لهم من الحسناتِ التي تمحو السيئاتِ ما ليس لمن بعدهم، وقد ثبَتَ بقولِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنهم خير القرونِ، وأن المُدَّ من أحدِهم إذا تصدَّقَ به كان أفضلَ من جبلِ أُحُدٍ ذهباً مِمَّنْ بعدَهم ([2])، ثم إذا كان قد صدر عن أَحدهم ذنب فيكون قد تاب منه، أو أتى بحسناتٍ تمحوه، أو غُفِرَ له بفضلِ سابِقَتِه، أو بشفاعةِ محمّد صلى الله عليه وسلم الذي هم أحقُّ الناسِ بشفاعَتِه، أو ابتُلِيَ ببلاء في الدُّنيا كُفِّرَ به عنه.
فإذا كان هذا في الذنوب ا لمُحَقَّقَةِ فكيف الأمورُ التي كانوا فيها مجتهدين: إن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطأوا فلهم أجرٌ واحدٌ، والخطأ مغفور.
ثم إن القَدْرَ الذي يُنكَرُ من فعلِ بعضِهم قليلٌ نَزْرٌ مغمورٌ في جنب فضائل القومِ ومحاسنهم من الإيمان بالله ورسوله، والجهادِ في سبيلِه، والهجرةِ والنُّصرةِ، والعلمِ النافعِ والعملِ الصالحِ. ومَن نظر في سيرةِ القومِ بعلمٍ وبصيرةٍ، وما مَنَّ الله عليهم به من الفضائل، عَلِمَ يقيناً أنهم خير الخلق بعد الأنبياء، لا كان ولا يكونُ مِثلُهم، وأنهم الصفوةُ من قرونِ هذه الأمةِ التي هي خيرُ الأممِ وأكرَمُها على الله ([3])
).

الشرح:

قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): ( ([1]) وأول من سمى الروافض بهذا اللقب زيد بن علي، الذي خرج في أوائل دولة بني العباس، وبايعه كثير من الشيعة، ولما ناظروه في أبي بكر وعمر، وطلبوا منه أن يتبرأ منهما فأبى رحمه الله تفرّقوا عنه فقال: رفضتموني فمن يؤمئذ قيل لهم الرافضة، وكانوا فرقاً كثيرة. منهم الغالية، ومنهم من هم دون ذلك، وفرقهم معروفة.
وأما النواصب فهم الذين نصبوا العداوة والأذية لأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وكان لهم وجود في صدر هذه الأمة، لأسباب وأمور سياسية معروفة، ومن زمن طويل ليس لهم وجود والحمد لله.
([2]) أي وهذه الأمور إذا قوبلت بالمساوئ على فرض أن هناك مساوئ اضمحلّت تلك المساوئ معها، ولا يقاربهم أحد في شيء من ذلك رضي الله عنهم.
([3]) وهذا كلام نفيس في غاية التحقيق والإبداع، ولا زيادة عليه في إقامة البرهان على كمال فضل الصحابة رضي الله عنهم، لا يحتاج إلى شرح أو بيان).

هيئة الإشراف

#3

27 Dec 2008

شرح العقيدة الواسطية للشيخ مُحمَّد خَليل هَرَّاس رحمه الله

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): ( (وَيَتَبَرَّؤونَ مِنْ طَريقَةِ الرَّوافِضِ الَّذينَ يُبْغِضُونَ الصَّحابَةَ ويَسُبُّونَهُمْ.
وطَريقَةِ النَّوَاصِبِ الَّذينَ يُؤذُونَ أَهْلَ البَيْتِ بِقَوْلٍ [ أَوْ ] عَمَلٍ.
ويُمْسِكُونَ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحابَةِ، ويَقُولونَ: إِنَّ هذهِ الآثارَ المَرْويَّةَ في مَساويِهِمْ مِنْها مَا هُوَ كَذِبٌ، ومِنْها مَا قَدْ زِيْدِ فيهِ ونُقِصَ وغُيِّرَ عَنْ وَجْهِهِ، والصَّحِيْحُ مِنْهُ هُمْ فِيهِ مَعْذُورونَ: إِمَّا مُجتَهِدُونَ مُصِيْبُونَ، وإِمَّا مُجْتَهِدُونَ مُخْطِئونَ.
وهُمْ مَعَ ذلكَ لا يَعْتَقِدونَ أَنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنَ الصَّحابَةِ مَعْصومٌ عَنْ كَبَائِرِ الإِثْمِ وصَغَائِرِهِ، بَلْ يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الذُّنُوبُ في الجُمْلَةِ.
ولَهُمْ مِنَ السَّوابِقِ والفَضائِلِ مَا يُوجِبُ مَغْفِرَةَ مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ – إِنْ صَدَرَ -، [ حَتَّى إِنَّهُمْ ] يُغْفَرُ لَهُمْ مِنَ السَّيِّئاتِ مَا لاَ يُغْفَرُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ؛ لأنَّ لَهُمْ مِنَ الحَسَنَاتِ الَّتي تَمْحُو السَّيِّئاتِ مَا لَيْسَ لِمَنْ بَعْدَهُمْ.
وَقَدْ ثَبَتَ بِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ خَيْرُ القُرونِ، وأَنَّ المُدَّ مِنْ أَحَدِهِمْ إِذا تَصَدَّقَ بهِ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ جَبَلِ أُحُدٍ ذَهَبًا مِمَّنْ بَعْدَهُمْ.
ثُمَّ إِذا كَانَ قَدْ صَدَرَ مِنْ أَحَدِهِمْ ذَنْبٌ؛ فَيَكونُ قَدْ تَابَ منهُ، أَو أَتَى بحَسَناتٍ تَمْحُوهُ، أَو غُفِرَ لَهُ؛ بِفَضْلِ سابِقَتِهِ، أَو بِشفاعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذي هُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِشَفاعَتِهِ، أَو ابْتُلِيَ بِبَلاءٍ في الدُّنْيا كُفِّرَ بهِ عَنْهُ.
فإَذا كَانَ هذا في الذُّنُوبِ المُحَقَّقَةِ؛ فَكَيْفَ [ الأمُورُ ] الَّتي كَانُوا فِيها مُجْتهِدينَ: إِنْ أَصابُوا؛ فَلَهُمْ أَجْرانِ، وإِنْ أَخْطَؤوا؛ فَلَهُمْ أَجْرٌ واحِدٌ، والخَطَأُ مَغْفُورٌ.
ثُمَّ إِنَّ القَدْرَ الَّذي يُنْكَرُ مِنْ فِعْلِ بَعْضِهِمْ قَليلٌ نَزْرٌ [ مَغْفُورٌ ] في جَنْبِ فَضائِلِ القَوْمِ ومَحاسِنِهِمْ؛ مِنَ الإِيْمانِ باللهِ، ورَسُولِهِ، والجِهَادِ في سَبيلِهِ، والهِجْرَةِ، والنُّصْرَةِ، والعِلْمِ النَّافعِ، والعَمَلِ الصَّالِحِ.
ومَنْ نَظَرَ في سيرةِ القَوْمِ بِعلْمٍ وبَصيرةٍ، ومَا مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ بهِ مِنَ الفَضائِلِ؛ عَلِمَ يَقينًا أَنَّهُمْ خَيْرُ الخَلْقِ بعدَ الأنبياءِ، لا كَانَ ولا يَكونُ مِثْلُهُم، وأَنَّهُمُ الصَّفْوَةُ مِنْ قُرونِ هذهِِ الأُمَّةِ التَّي هِيَ خَيْرُ الأمَمِ وأَكْرَمُها عَلى اللهِ )(1)
).

الشرح:

قال الشيخ محمد خليل هراس (ت: 1395هـ): ( (1) يريدُ أنَّ أهلَ السُّنَّةِ والجماعةِ يَتَبَرَّؤُونَ مِنْ طريقةِ الرَّوَافِضِ التَّي هيَ الغُلُوُّ في عَلِيٍّ وأهلِ بيتِهِ، وبُغْضُ مَنْ عَدَاهُ مِنْ كبارِ الصَّحابَةِ، وسَبُّهُمْ، وتَكْفِيرُهُمْ.
وأوَّلُ مَنْ سَمَّاهُمْ بذلكَ زيدُ بنُ عليٍّ رَحِمَهُ اللُهُ لأنَّهُمْ لَمَّا طَلَبُوا منهُ أنَّ يتبرأَ مِنْ إِمَامَةِ الشَّيخينِ أبي بكرٍ وعمرَ لِيُبَايِعُوهُ أَبَى ذلكَ، فَتَفَرَّقُوا عنهُ، فقالَ: رَفَضْتُمُونِي، فَمِنْ يومئذٍ قيلَ لهُمْ: رافضِةٌ.
وهمْ فِرَقٌ كثيرةٌ: مِنْهُمْ الغاليَةُ، ومِنْهُمْ دونُ ذلكَ.
ويَتَبَرَّؤُونَ كذلكَ مِنْ طريقةِ النَّواصبِ الَّذينَ ناصَبُوا أهلَ بيتِ النُّبُوَّةِ العدَاءَ لأسبابٍ وأمورٍ سياسيَّةٍ معروفَةٍ، ولمْ يَعُدْ لِهَؤلاءِ وجودٌ الآنَ.
ويُمْسِكُ أهلُ السُّنَّةِِ والجماعةِ عَنِ الخَوْضِ فيمَا وَقَعَ مِنْ نزاعٍ بينَ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، لا سِيَّمَا مَا وَقَعَ بينَ عليٍّ وطلحةَ والزُّبيرِ بعدَ مَقْتَلِ عثمانَ، ومَا وَقَعَ بعدَ ذلكَ بينَ عليٍّ ومعاويةَ وعمرِو بنِ العاصِ وغيرهِمْ، ويَرَوْنَ أنَّ الآثارَ المرويَّةَ في مَسَاوِئِهِمْ أكثرُهَا كَذِبٌ أو مُحَرَّفٌ عن وَجْهِهِ، وأَمَّا الصَّحيحُ منهَا؛ فَيَعْذُرُونَهُمْ فيهِِ، ويقولونَ: إنَّهمْ مُتَأَوِّلُونَ مُجْتَهِدُونَ.
وهُمْ معَ ذلكَ لا يَدَّعُونَ لَهُمُ العِصْمَةَ مِنْ كِبَارِ الذُّنُوبِ وصِغَارِهَا، ولكنْ مَا لَهُمْ مِنَ السَّوابقِ والفضائلِ وصُحْبَةِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلمَ والجهَادِ مَعَهُ قدْ يُوْجِبُ مَغْفِرَةَ ما يَصْدُرُ مِنْهُمْ مِنْ زلاَّتٍ، فَهُمْ بِشَهَادةِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلمَ خيرُ القُرُونِ، وأفضلُهَا، ومُدُّ أَحَدِهِمْ أوْ نَصِِيفُهُ أفضلُ مِنْ جَبَلِ أُحُدٍ ذَهَبًا يَتَصَدَّقُ بهِِ مَنْ بَعْدَهُمْ، فَسَيِّئَاتُهمْ مَغْفُورةٌ إلى جانبِ حسناتِهِمُ الكثيرَةِ.
يريدُ المُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللهُ أنْ يَنْفِي عنِ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أنْ يكونَ أحدُهُمْ قدْ ماتَ مُصِرًّا على مَا يُوجِبُ سَخَطَ اللهِ عليهِ مِنَ الذُّنُوبِ، بلْ إذَا كانَ قدْ صدرَ الذَّنْبُ مِنْ أحدِهِمْ فعلاً؛ فَلا يَخْلُو عَنْ أَحَدِ هذهِِ الأمورِ التَّي ذَكَرَهَا، فإِمَّا أنْ يكونَ قَدْ تَابَ مِنْهُ قبلَ الموْتِ، أوْ أَتَى بحسناتٍ تذهبهُ ِوتَمْحُوهُ، أوْ غُفِرَ لهُ بفضْلِ سَالفَتِهِ في الإِسلامِ؛ كمَا غُفِرَ لأهلِ بَدْرٍ وأصحابِ الشَّجرَةِ، أوْ بشفاعةِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلمَ، وهُمْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِهِ، وأحقُّهُمْ بِهَا، أوْ ابْتُلِيَ بِبَلاَءٍ في الدُّنْيَا في نَفْسِهِ أوْ مالهِ أو ولدِهِ فَكُفِّرَ عنهُ بهِ.
فإذَا كانَ هذا هوَ ما يجبُ اعتقادُهُ فيهمْ بالنِّسبةِ إلى مَا ارْتَكَبُوهُ مِنَ الذُّنُوبِ المُحَقَّقَةِ؛ فكيفَ في الأمورِ التَّي هيَ موضعُ اجتهَادٍ والخطأُ فيهَا ِمَغْفُورٌ.
ثمَّ إذَا قِيسَ هذا الذي أخْطَؤُوا فيهِ إلى جانبِ ما لَهُمْ مِنْ محاسنَ وفضائِلَ؛ لمْ يَعْدُ أنْ يكونَ قَطْرَةً في بَحْرٍ.
فاللهُ الذي اختارَ نبيَّهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلمَ هوَ الذي اختارَ لهُ هؤلاءِِ الأصحابَ، فَهُمْ خيرُ الخَلْقِ بعدَ الأنبياءِ، والصَّفْوَةُ المختارةُ مِنْ هذهِِ الأُمَّةِ التَّي هيَ أفضلُ الأُمَمِ.
ومَنْ تأمَّلَ كلامَ المُؤَلِّفِ رَحِمَهُ اللهُ في شأنِ الصَّحابةِ عَجِبَ أشدَّ العَجَبِ مِمَّا يَرْمِيهِ بهِ الجهلةُ المُتَعَصِّبونَ، وادِّعَائِهِمْ عليهِِ أَنَّهُ يَتَهَجَّمُ على أَقْدَارِهِمْ، ويَغَضُّ مِنْ شَأْنِهِمْ، ويَخْرِقُ إِجْمَاعَهُمْ … إلى آخِرِ ما قالُوهُ مِنْ مَزَاعِمَ ومُفْتَرَيَاتٍ).

هيئة الإشراف

#4

27 Dec 2008

شرح العقيدة الواسطية للشيخ: صالح بن فوزان الفوزان

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وَيَتَبَرَّؤونَ مِن طَريقَةِ الرَّوافِضِ الَّذينَ يُبْغِضُونَ الصَّحابَةَ ويَسُبُّونَهُمْ.وطَريقَةِ النَّوَاصِبِ الَّذينَ يُؤذُونَ أَهْلَ البَيْتِ بِقَوْلٍ [ أَوْ ] عَمَلٍ.
ويُمْسِكُونَ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحابَةِ، ويَقُولونَ: إِنَّ هذه الآثارَ المَرْويَّةَ في مَساوِيِهم مِنْها مَا هُو كَذِبٌ، ومِنْها مَا قَدْ زِيدَ فيهِ ونُقِصَ وغُيِّرَ عَنْ وَجْهِهِ، والصَّحِيحُ مِنْهُ هُمْ فِيهِ مَعْذُورونَ: إِمَّا مُجتَهِدُونَ مُصِيبُونَ، وإِمَّا مُجْتَهِدُونَ مُخْطِئونَ.
وهُمْ مَعَ ذلكَ لا يَعْتَقِدونَ أَنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنَ الصَّحابَةِ مَعْصومٌ عَنْ كَبَائِرِ الإِثْمِ وصَغَائِرِهِ، بَلْ يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الذُّنُوبُ في الجُمْلَةِ.
ولَهُمْ مِنَ السَّوابِقِ والفَضائِلِ مَا يُوجِبُ مَغْفِرَةَ مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ – إِنْ صَدَرَ -، [ حَتَّى إِنَّهُمْ ] يُغْفَرُ لَهُمْ مِنَ السَّيِّئاتِ مَا لاَ يُغْفَرُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ؛ لأنَّ لَهُمْ مِنَ الحَسَنَاتِ الَّتي تَمْحُو السَّيِّئاتِ مَا لَيْسَ لِمَنْ بَعْدَهُمْ.
وَقَدْ ثَبَتَ بِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ خَيْرُ القُرونِ، وأَنَّ المُدَّ مِنْ أَحَدِهِمْ إِذا تَصَدَّقَ بهِ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ جَبَلِ أُحُدٍ ذَهَباً مِمَّنْ بَعْدَهُمْ.
ثُمَّ إِذا كَانَ قَدْ صَدَرَ مِنْ أَحَدِهِمْ ذَنْبٌ؛ فَيَكونُ قَدْ تَابَ منهُ، أَو أَتَى بحَسَناتٍ تَمْحُوهُ، أَو غُفِرَ لَهُ؛ بِفَضْلِ سابِقَتِهِ، أَو بِشفاعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذي هُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِشَفاعَتِهِ، أَو ابْتُلِيَ بِبَلاءٍ في الدُّنْيا كُفِّرَ بهِ عَنْهُ.فإَذا كَانَ هذا في الذُّنُوبِ المُحَقَّقَةِ؛ فَكَيْفَ [ الأمُورُ ] الَّتي كَانُوا فِيها مُجْتهِدينَ: إِنْ أَصابُوا؛ فَلَهُمْ أَجْرانِ، وإِنْ أَخْطَؤوا؛ فَلَهُمْ أَجْرٌ واحِدٌ، والخَطَأُ مَغْفُورٌ.
ثُمَّ إِنَّ القَدْرَ الَّذي يُنْكَرُ مِنْ فِعْلهم قَليلٌ نَزْرٌ [ مَغْمورٌ ] في جَنْبِ فَضائِلِ القَوْمِ ومَحاسِنِهِمْ؛ مِن الإِيمانِ باللهِ، ورَسُولِهِ، والجِهَادِ في سَبيلِهِ، والهِجْرَةِ، والنُّصْرَةِ، والعِلْمِ النَّافعِ، والعَمَلِ الصَّالِحِ.
ومَنْ نَظَرَ في سيرةِ القَوْمِ بِعلْمٍ وبَصيرةٍ، ومَا مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ بهِ مِن الفَضائِلِ؛ عَلِمَ يَقيناً أَنَّهُم خَيْرُ الخَلْقِ بعدَ الأنبياءِ، لا كَانَ ولا يَكونُ مِثْلُهُم، وأَنَّهُم الصَّفْوَةُ مِن قُرونِ هذهِ الأمَّةِ الَّتِي هِيَ خَيْرُ الأمَمِ وأَكْرَمُها عَلى اللهِ.(1)
).

الشرح:

قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: ((1) بَيَّنَ الشَّيخُ رَحِمَهُ اللَّهُ في هذا:
أوَّلا: موقِفَ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ من الصَّحابةِ وأهلِ البيتِ، وأَنَّهُ موقفُ الاعتدالِ والوَسَطِ بَيْنَ الإفراطِ والتَّفريطِ والغُلُوِّ والجفاءِ، يتوَلَّوْن جميعَ المؤمنينَ لا سِيَّما السَّابِقِينَ الأوَّلينَ مِن المهاجِرينَ والأنصارِ والذين اتَّبَعوهُم بإحسانٍ، ويتَوَلَّوْنَ أهلَ البيتِ. يَعرِفون قَدرَ الصَّحابةِ وفَضْلَهُم، ومناقِبَهم، ويَرْعَوْن حقوقَ أهلِ البيتِ التي شَرَعها اللَّهُ لهم.
(ويَتَبرَّءُونَ مِن طريقةِ الرَّوافِضِ) الذين يَسُبُّونَ الصَّحابةَ، ويَطعنونَ فيهم. ويَغلُونَ في حقِّ عليِّ بنِ أبي طالبٍ وأهلِ البيتِ.

(ومِن طريقةِ النَّواصِبِ) الذين يَنصِبونَ العدواةَ لأهلِ البيتِ ويُكَفِّرونهم ويَطعنونَ فيهم، وقد سبَقَ بيانُ مذهبِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ في الصَّحابةِ وأهلِ البيتِ، ولكنَّ الغَرَضَ مِن ذِكْرِه هنا مقارَنَتُه بالمذاهبِ المنحَرِفةِ المخالِفةِ له.
ثانيا: بَيَّنَ الشَّيخُ رَحِمَهُ اللَّهُ موقِفَ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ مِن الاختلافِ الذي وقع بَيْنَ الصَّحابةِ في وقتِ الفِتنةِ والحروبِ التي حصَلَتْ بينهم. وموقِفَهم مما يُنْسَبُ إلى الصَّحابةِ مِن مساوئَ ومثالِبَ اتَّخَذها أعداءُ اللَّهِ سَبباً للوَقِيعةِ فيهم، والنَّيْلِ منهم كما حصَلَ مِن بعض المتأخِّرينَ والكُتَّابِ العَصْريِّينَ الذين جَعَلوا أنْفُسَهم حَكَماً بَيْنَ أصحابِ رسولِ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم فَصَوَّبوا وخَطَّئوا بلا دليلٍ، بل باتِّباعِ الهَوى وتَقليدِ المُغْرِضِينَ الذين يحاولونَ الدَّسَّ على المُسلِمِينَ بتَشكيكِهم بتارِيخهم المَجيدِ وسلَفِهم الصَّالِحِ الذين هم خيرُ القُرونِ، ليَنفُذوا مِن ذَلِكَ إلى الطَّعنِ في الإسلامِ وتفريقِ كلمةِ المسلمينَ.
وما أحسَنَ ما ذَكَره الشَّيخُ هنا مِن تجلِيَةِ الحقِّ وإيضاحِ الحقيقةِ، فقد ذَكَرَ أنَّ مَوقِفَ أهلِ السُّنَّةِ مما نُسِبَ إلى الصَّحابةِ، وما شَجَرَ بينهم ـ أي تَنازَعوا فيه ـ يَتلَخَّصُ في أمرَيْنِ:
الأمرُ الأوَّلُ: أنَّهم (يُمسِكون عمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحابةِ) أي يَكُفُّون عن البحثِ فيه، ولا يَخُوضونَ فيه، لِما في الخَوْضِ في ذَلِكَ مِن توليدِ الإِحَنِ والحِقْدِ على أصحابِ رسولِ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم، وذَلِكَ مِن أَعْظمِ الذُّنوبِ فطريقُ السَّلامةِ هُوَ السُّكوتُ عن ذَلِكَ وعَدمُ التَّحدُّثِ به.
الأمرُ الثَّاني: الاعتذارُ عن الآثارِ المَرْوِيَّةِ في مَساوِيهم؛ لأنَّ في ذَلِكَ دِفاعاً عنهم ورداًّ لِكَيْدِ أعدائِهم، وقد ذَكَر أنَّ جُملةَ الاعتذاراتِ تَتلَخَّصُ فيما يلي:
1- (هَذِهِ الآثارُ المرويَّةُ في مَساوِيهم منها ما هُوَ كَذِبٌ) قد افْتَراهُ أعداؤُهم ليُشَوِّهوا سُمْعَتَهم كما تَفعَلُه الرَّافِضةُ قَبَّحَهُم اللَّهُ، والكَذِبُ لا يُلتفَتُ إليه.
2- هَذِهِ المساوِئُ المرويَّةُ (منها ما قد زِيدَ فيه ونُقِصَ وغُيِّرَ عن وَجْهِه الصَّحيحِ) ودَخَلَهُ الكَذِبُ فَهُوَ محرَّفٌ لا يُعتمَدُ عليه؛ لأنَّ فضْلَ الصَّحابةِ مَعلومٌ وعَدالَتَهم متَيقَّنَةٌ فلا يُتْرَكُ المعلومُ المُتَيَقَّنُ لأمرٍ محرَّفٍ مشكوكٍ فيه.
3- (والصَّحيحُ منه) أي من هَذِهِ الآثارِ المرويَّةِ (هم فيه مَعْذُورون إمَّا مجتهِدونَ مُصِيبونَ، وإمَّا مجتهدونَ مُخطِئونَ) فَهُوَ مِن موارِدِ الاجتهادِ التي إنْ أصابَ المجتهدُ فيها فلَه أجرانِ وإنْ أخطَأَ فلَه أجرٌ واحدٌ؛ لما في الصَّحيحَيْنِ عن أبي هريرةَ وعمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: ((إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرانِ، وَإِنِ اجْتَهَدَ وَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ)).
4- أنَّهمْ بَشَرٌ يجوزُ على أفرادِهم ما يجوزُ على البَشرِ مِن الخطأِ، فأهلُ السُّنَّةِ: (لا يَعتقدونَ أنَّ كُلَّ واحدٍ مِن الصَّحابةِ مَعصومٌ عن كبائرِ الإثمِ وصغائِرِه بل يجوزُ عليه الذُّنوبُ في الجملةِ) لكنْ ما يَقعُ منه مِن ذَلِكَ فلَه مُكفِّراتٌ عديدةٌ منها:-
أ‌- أنَّ (لهم مِن السَّوابِقِ والفضائلِ ما يُوجِبُ مغفرةَ ما يَصْدُرُ منهم إنْ صَدَرَ) فما يَقعُ مِن أحدِهم يُغتَفرُ بجانبِ ما لَهُ مِن الحسناتِ العظيمةِ، كما في قِصَّةِ حاطِبٍ لَمَّا وَقَعَ منه ما وَقَعَ في غزوةِ الفتحِ غُفِرَ له بشُهودِه وقعةَ بدرٍ (حتى إنهم يُغفَرُ لهم مِن السَّيِّئاتِ ما لا يُغفَرُ لمَنْ بعدَهم لأنَّ لهم مِن الحسناتِ التي تَمْحُو السَّيِّئاتِ ما ليس لمَن بعدَهم) وقد قال اللَّهُ تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}.
ب‌- أنَّهم تُضاعَفُ لهم الحسناتُ أكثرَ مِن غيرِهم، ولا يُساوِيهِمْ أحدٌ في الفَضْلِ، (وقدْ ثبتَ بقولِ رَسولِ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم أنَّهُم خَيرُ القُرونِ. وأنَّ المُدَّ مِنْ أَحَدِهم إذا تَصَدَّق به كانَ أفْضلَ مِن جبلِ أُحُدٍ ذَهبًا ممَّن بعدَهم) أخرَجَهُ الشَّيْخانِ وغيرُهما أحاديثَ عن أبي هريرةَ وابنِ مسعودٍ وعِمرانَ بنِ حُصينٍ: (( خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ )) الحديثَ. والقُرونُ جمعُ قَرْنٍ، والقَرنُ أهلُ زمانٍ واحدٍ متقارِبٍ اشتَركُوا في أمرٍ مِن الأمورِ المقصودةِ، ويُطْلَقُ القَرْنُ على المُدَّةِ مِن الزَّمانِ.
ج- كثرةُ مكفِّراتِ الذُّنوبِ لديهم فإنَّهم يتوفَّرُ لهم مِن المكفِّراتِ ما لم يَتوفَّرْ لغيرِهم (فإذا كان قد صدَرَ مِن أحدِهم ذنبٌ فيكونُ قد تابَ منه أو أَتى بحسناتٍ تَمحوه أو غُفِرَ له بفضْلِ سابقتِه) أيْ الأعمالِ الصَّالحةِ التي أسْبَقَها قَبلَه (أو بشفاعةِ مُحَمَّدٍ صلى اللهُ عليه وسلم الذي هُم أحقُّ النَّاسِ بشفاعتِه، أو ابتُلِي ببلاءٍ في الدُّنيا كُفِّرَ به عنه) أي امتُحِنَ وأُصِيبَ بمصيبةٍ مُحِيَ عنه ذَلِكَ الذَّنْبُ بسببِها؛ كما في الصَّحيحِ أنَّ رسولَ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم قال: (( مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ وَلاَ نَصَبٍ وَلاَ غَمٍّ وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حَزَنٍ حَتَّى الشَّوْكَةَ يُشَاكُهَا إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ )) متَّفقٌ عليه، والصَّحابةُ أولى النَّاسِ بذلك.
قال: (فإذا كان هَذَا في الذُّنوبِ المحقَّقَةِ) أي الواقعةِ منهم فِعلاً، وأنَّ لَدَيْهم رَصِيدا مِن الأعمالِ الصَّالِحَةِ التي تكفِّرها (فكَيْفَ بالأمورِ التي كانوا فيها مجتهِدِينَ) الاجتهادُ: هُوَ بذلُ الطَّاقةِ في معرفةِ الحُكمِ الشَّرعيِّ (إنْ أصابوا فلهم أجْرانِ، وإنْ أخْطَئُوا فلهم أجْرٌ واحدٌ، والخطأُ مغفورٌ) ـ كما سبَقَ بيانُ دليلِ ذَلِكَ قريباً ـ وإذاً فما يَصدُرُ مِن الصَّحابيِّ مِن خطأٍ على قِلَّتِه هُوَ بَيْنَ أمرَيْنِ:

الأوَّلُ: أنْ يكونَ صدَر عن اجتهادٍ وَهُوَ فيه مأجورٌ وخطَؤُه مغفورٌ.
والثَّاني: أنْ يكونَ صدَر عن غيرِ اجتهادٍ وعندَه مِن الأعمالِ والفضائلِ والسَّوابقِ الخيِّرَةِ ما يكفِّرُه ويَمحوه.
وقولُه: (ثم القَدْرُ الذي يُنْكَرُ مِن فِعلِ بعضِهم) إلخ هُوَ كالتَّلخيصِ لما سَبقَ، وبيانِ فضائلِ الصَّحابةِ إجمالاً وهي:
1- الإيمانُ باللَّهِ ورسولِه، وَهُوَ أفضلُ الأعمالِ.
2- الجهادُ في سبيلِ اللَّهِ لإعلاءِ كلمةِ اللَّهِ، وَهُوَ ذُرْوَةُ سَنامِ الإسلامِ.
3- الهجرةُ في سبيلِ اللَّهِ، وهِيَ مِن أفضلِ الأعمالِ.
4- النُّصْرةُ لدِينِ اللَّهِ، قال تعالى فيهم {وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أَولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}.
5- العِلمُ النَّافِعُ والعَملُ الصَّالِحُ.
6- أنَّهم خيرُ الخَلقِ بعدَ الأنبياءِ، فأُمَّةُ مُحَمَّدٍ صلى اللهُ عليه وسلم خيرُ الأُمَمِ كما قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} وخيرُ هَذِهِ الأُمَّةِ صحابةُ رسولِ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم لقولِه عليه الصلاة السلام ((خَيْرُكُمْ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ)) الحديثَ.
7- أنَّهم الصَّفْوةُ مِن قُرونِ هَذِهِ الأُمَّة التي هِيَ خيرُ الأُممِ وأكْرَمُها على اللَّهِ كما في الحديثِ الذي رواه الإمامُ أحمدُ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: ((أَنْتُمْ تُوفُونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ )) ورواه التِّرْمِذِيُّ وابنُ ماجَهْ والحاكِمُ في مُستَدْرَكِه).

هيئة الإشراف

#5

27 Dec 2008

التنبيهات السنية للشيخ: عبد العزيز بن ناصر الرشيد رحمه الله

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): ( (وَيَتَبَرَّؤونَ مِن طَريقَةِ الرَّوافِضِ الَّذينَ يُبْغِضُونَ الصَّحابَةَ ويَسُبُّونَهُمْ. (1)
وطَريقَةِ النَّوَاصِبِ الَّذينَ يُؤذُونَ أَهْلَ البَيْتِ بِقَوْلٍ [ أَوْ ] عَمَلٍ. (2)
ويُمْسِكُونَ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحابَةِ، (3)
ويَقُولونَ: إِنَّ هذه الآثارَ المَرْويَّةَ في مَساويِهْم مِنْها مَا هُو كَذِبٌ، ومِنْها مَا قَدْ زِيْدِ فيهِ ونُقِصَ وغُيِّرَ عَنْ وَجْهِهِ، والصَّحِيْحُ مِنْهُ هُمْ فِيهِ مَعْذُورونَ: إِمَّا مُجتَهِدُونَ مُصِيْبُونَ، وإِمَّا مُجْتَهِدُونَ مُخْطِئونَ. (4)
وهُمْ مَعَ ذلكَ لا يَعْتَقِدونَ أَنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنَ الصَّحابَةِ مَعْصومٌ عَنْ كَبَائِرِ الإِثْمِ وصَغَائِرِهِ، بَلْ يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الذُّنُوبُ في الجُمْلَةِ. (5)
ولَهُمْ مِنَ السَّوابِقِ والفَضائِلِ مَا يُوجِبُ مَغْفِرَةَ مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ – إِنْ صَدَرَ -، [ حَتَّى إِنَّهُمْ ] يُغْفَرُ لَهُمْ مِنَ السَّيِّئاتِ مَا لاَ يُغْفَرُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ؛ لأنَّ لَهُمْ مِنَ الحَسَنَاتِ الَّتي تَمْحُو السَّيِّئاتِ مَا لَيْسَ لِمَنْ بَعْدَهُمْ. (6)
وَقَدْ ثَبَتَ بِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن ((خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)). (7)
وأَنَّ المُدَّ مِنْ أَحَدِهِمْ إِذا تَصَدَّقَ بهِ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ جَبَلِ أُحُدٍ ذَهَباً مِمَّنْ بَعْدَهُمْ، ثُمَّ إِذا كَانَ قَدْ صَدَرَ مِنْ أَحَدِهِمْ ذَنْبٌ؛ فَيَكونُ قَدْ تَابَ منهُ، أَو أَتَى بحَسَناتٍ تَمْحُوهُ، أَو غُفِرَ لَهُ؛ بِفَضْلِ سابِقَتِهِ، أَو بِشفاعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذي هُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِشَفاعَتِهِ، أَو ابْتُلِيَ بِبَلاءٍ في الدُّنْيا كُفِّرَ بهِ عَنْهُ.
(8)
فإَذا كَانَ هذا في الذُّنُوبِ المُحَقَّقَةِ؛ فَكَيْفَ [ الأمُورُ ] الَّتي كَانُوا فِيها مُجْتهِدينَ: إِنْ أَصابُوا؛ فَلَهُمْ أَجْرانِ، وإِنْ أَخْطَؤوا؛ فَلَهُمْ أَجْرٌ واحِدٌ، والخَطَأُ مَغْفُورٌ.
ثُمَّ إِنَّ القَدْرَ الَّذي يُنْكَرُ مِنْ فَعْلِ بَعْضِهِمْ قَليلٌ نَزْرٌ [ مَغْفُورٌ ] في جَنْبِ فَضائِلِ القَوْمِ ومَحاسِنِهِمْ؛ مِن الإِيْمانِ باللهِ، ورَسُولِهِ، والجِهَادِ في سَبيلِهِ، والهِجْرَةِ، والنُّصْرَةِ، والعِلْمِ النَّافعِ، والعَمَلِ الصَّالِحِ. (9)
ومَنْ نَظَرَ في سيرةِ القَوْمِ بِعلْمٍ وبَصيرةٍ، ومَا مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ بهِ مِن الفَضائِلِ عَلِمَ يَقيناً أَنَّهُم خَيْرُ الخَلْقِ بعدَ الأنبياءِ، لا كَانَ ولا يَكونُ مِثْلُهُم، وأَنَّهُم الصَّفْوَةُ مِن قُرونِ هذهِ الأمَّةِ التَّي هِيَ خَيْرُ الأمَمِ وأَكْرَمُها عَلى اللهِ ). (10)
).


الشرح:

قال الشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد (ت: 1408هـ): ( (1) قولُه: (ويتبرَّءُونَ مِن طريقةِ الرَّوافِضِ) إلخ أي: أنَّ أهلَ السُّنَّةِ والجَماعَةِ وسَطٌ في أصحابِ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-، ويتَرضَّوْنَ عنهم جميعًا، ويُحبُّونَهم ويتبرَّءُونَ مِن طريقةِ الرَّافِضةِ الذين يَسبُّونَ الصَّحابةَ ويَطْعَنونَ فيهم، ويَزْعُمونَ أنَّهم عَصَوُا الرَّسولَ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- وارْتَدُّوا بعدَه إلا بضعةَ عَشَرَ منهم، ويُغلُونَ في عليِّ بنِ أبي طالبٍ وأهلِ البيتِ، فالرَّافِضةُ يَنقسِمون إلى ثلاثةِ أقسامٍ:
قِسمٌ غُلاةٌ غُلُواًّ في عليِّ بن أبي طالِبٍ -رضي اللَّهُ عنه- حتى زَعَموا أنَّه إِلهٌ، أوْ أَنَّ اللَّهَ حَلَّ فيه، أو أنَّه الرَّسولُ، ولكنَّ جبريلَ غَلِطَ، أو أَخْطأَ في إعطاءِ الرِّسالةِ إلى مُحَمَّدٍ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- إلى غيرِ ذَلِكَ من أنواعِ الغُلُوِّ،
وقِسمٌ مُفضِّلةٌ، يُفضِّلونَ علياًّ على أبي بكرٍ وعمرَ وغيرِهما مِن الصَّحابةِ،
والقِسمُ الثَّالثُ سبَّابَةٌ يَسبُّون أبا بكرٍ وعمرَ وغيرَهما مِن الصَّحابةِ، ويَزْعُمون أنَّ علياًّ هُوَ الوَصِيُّ، وأَنَّ الصَّحابةَ غَصَبُوه حقَّهُ وظَلَموه بتقديمِ أبى بكرٍ وعُمرَ.
قال الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: فعاقَبَ أميرُ المؤمِنينَ عليُّ بنُ أبي طالبٍ -رضي اللَّهُ عنه- الطَّوائِفَ الثَّلاثَ،

فأَمَرَ بإحراقِ أولئكَ الذين ادَّعَوْا فيه الإِلَهِيَّةَ، فإنَّه خَرجَ ذاتَ يومٍ فسَجدُوا له، فقال لهم: ما هَذَا؟ فقالوا: أنتَ هُوَ، قال: مَنْ أَنَا؟ قالوا: أنتَ اللَّهُ الذي لا إلهَ إلا هُوَ، فقال: وَيْحَكُمْ هَذَا كفرٌ ارْجِعوا عنه وإلاَّ ضَرَبْتُ أعناقَكُم، فصَنَعُوا بِهِ في اليومِ الثَّاني والثَّالِثِ، وأخَّرَهُم ثلاثةَ أيامٍ؛ لأَنَّ المُرتَدَّ يُستتابُ ثلاثةَ أيامٍ، فلمَّا لم يَرجِعوا أَمَرَ بأخادِيدَ مِن نارٍ فحَدَثَ أنَّه قال:

لما رأيتُ الأمرَ أمْراً مُنْكراً ....... أجَّجْتُ ناري ودَعَوْتُ قنبرا

وقَتلُ هؤلاءِ واجبٌ بالاتِّفاقِ، لكن في جَوازِ تَحريقِهم نِزاعٌ،
وأمَّا السَّبَّابةُ الذين يَسبُّون أبا بكرٍ وعمرَ، فإنَّ علياًّ -رضي اللَّهُ عنه- لما بَلَغَه ذَلِكَ طَلَب ابنَ السَّوداءِ الذي بَلَغَه ذَلِكَ عنه، وقيل إنَّه أَرادَ قَتلَه فهَربَ منه إلى قرقيسا.
وأمَّا المفضِّلةُ الذين يُفضِّلونَه على أبي بكرٍ وعمرَ فرُوِي عنه أنَّه قال: لا أُوتَى بأحدٍ يُفضِّلُني على أبي بكرٍ وعُمرَ إلاَّ ضَرَبْتُه حدَّ المفترِي، وقد تَواتَرَ عنه أنَّه كان يقولُ على مِنبرِ الكوفةِ: خيرُ هَذِهِ الأمَّةِ بعد نبِيِّها أبو بكرٍ ثم عمرُ، ورُوِيَ عنه هَذَا مِن أكثرَ مِن ثمانين وجْها، ورواهُ البخاريُّ وغيرُه، انتهى مِن كلامِ الشَّيخِ باختصارٍ.
(2) قولُه: (وطريقةُ النَّواصِبِ) جمعُ ناصبٍ، يقالُ: نَاصَبَه مناصَبةً، أي عاداه وقاوَمَه، وهم الذين يَنْصبُونَ العداوةَ لعليِّ بنِ أبي طالبٍ وأهلِ البيتِ ويَتبرَّءون منهم ولا يُحبِّونَهم، بل يكفِّرونَهم أو يُفسِّقونهم كالخوارجِ،
قال الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ بعدَ كلامٍ: فأهلُ السُّنَّةِ وسطٌ في جميعِ أُمورِهم، فهم في عليٍّ وسَطٌ بين الخوارجِ والرَّوافضِ، وفي عُثمانَ وَسَطٌ بين المَرْوانيَّةِ والزَّيدِيَّةِ، وفي سائرِ الصَّحابةِ بين الغُلاةِ فيهم والطَّاعِنينَ عليهم،
وقال أيضًا: والرَّوافِضُ شرٌّ مِن النَّواصِبِ، وأمَّا أهلُ السُّنَّةِ فيتولَّوْن جميعَ المؤمنينَ، ويتكلَّمون فيهم بعِلمٍ وعَدلٍ، ليسوا مِن أهلِ الجهلِ ولا مِن أهلِ الأهواءِ، ويَتبرَّءُون مِن طريقةِ الرَّوافِضِ والنَّواصِبِ جميعا، ويتولَّون السَّابِقينَ الأوَّلين كُلَّهم، ويعرِفون قدْرَ الصَّحابةِ وفضْلَهم ومناقِبَهم، ويَرْعَوْن حقوقَ أهلِ البيتِ التي شَرعها اللَّهُ لهم، ولا يَرضونَ بما فعَلَه المختارُ ونحوه مِن الكذَّابِينَ، ولا ما فَعَلَه الحجَّاجُ ونحوُه مِن الظَّالِمينَ، ويعلمون مِن هَذَا مِراتبَ السَّابِقينَ الأوَّلين، ويعرِفون ما لأبي بكرٍ وعمرَ مِن التَّقدُّمِ والفضائلِ ما لم يُشارِكْهما فيها أحدٌ مِن الصَّحابةِ، لا عثمانُ ولا عليٌّ ولا غيرُهما، كان هَذَا متَّفقاً عليه في الصَّدرِ الأوَّلِ، إلاَّ أنْ يكونَ خلافٌ شاذٌّ لا يُعبأُ بِهِ، حتى إَنَّ الشِّيعةَ الأولى مِن أصحابِ عليٍّ لم يكونوا يَرتابون في تقديمِ أبي بكرٍ وعمرَ، كَيْفَ وقد ثَبَتَ عنه مِن وجوهٍ متواترةٍ أنَّه كان يقول: خيرُ هَذِهِ الأمَّةِ بعدَ نبِيِّها أبو بكرٍ وعمرُ، انتهى.
ومِن كَذِبِ الرَّافِضةِ وضَلالِهم تسمِيتُهم أهلَ السُّنَّةِ ناصبةً حَيْثُ لم يُوافِقوهم على بِدْعتِهم وظُلمِهم، فإنَّ الرَّافِضةَ يزعمون أنَّ مَن تولَّى الصَّحابةَ لم يتولَّ القَرابةَ، ويقولون: لا ولاءَ إلا ببراءٍ، فمَن لم يتبرَّأْ مِن الصَّحابةِ لم يتولَّ القرابةَ،
ويُقابِلُهم الخوارجُ وأشباهُهم مِن النَّواصبِ الذين يزعمون أَنَّ الرَّفضَ هُوَ محبَّةُ أهلِ البيتِ، ويذُمُّون الرَّفضَ بهَذَا المعنى،
وهَذَا كُلُّه كَذِبٌ وضَلالٌ، فلا دليلَ على ذمِّ النَّصْبِ بالتَّفسيرِ الذي زَعَمه الرَّافِضةُ، كما لا دليلَ على ذمِّ الرَّفضِ بمعنى موالاةِ أهلِ البيتِ،
ولكنَّ المبتَدِعةَ يُلقِّبونَ أهلَ السُّنَّةِ بألقابٍ يَتَنقَّصون بها، فيُسمُّونهم رافضةً وناصِبةً، فهم كما قيل: (رَمَتْنِي بِدَائِهَا وَانْسَلَّتِ)، وقد تقدَّمَ أنَّ أهلَ السُّنَّةِ رضوانُ اللَّهِ عليهم يُوالُون جميعَ الصَّحابةِ والقَرابةِ، ويَترضَّوْن عنهم، ويُنْزِلُونهم منازِلهم التي يستحِقُّونها، فلا يَغْمطُونَهُم حَقَّهم، ولا يُغلونَ فيهم، وقد قال الإمامُ الشَّافِعيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- على النَّاصِبةِ:

يا راكِباً قِفْ بالمحصِّبِ مِن مِنًى ....... واهْتِفْ بقاعدِ خَيْفِها والنَّاهِضِ

إنْ كان رَفْضا حُبُّ آلِ مُحَمَّدٍ ....... فليَشْهدِ الثَّقلانِ أنِّيَ رافِض

وقال غيره:

إنْ كان نَصْبا حُبُّ صَحْبِ مُحَمَّدٍ ....... فَليشْهَد الثَّقلانِ أنِّيَ ناصِبي

وقال غيره:

إنْ كان نَصْبٌ وَلاءَ الصِّحابِ ....... فإنِّي كما زَعَموا ناصِبي
وإنْ كان رَفْضا وَلاءُ الجميعِ ....... فلا بَرَحَ الرَّفضُ مِن جانِبي

(3) قولُه: (ويُمْسِكون عمَّا شَجَرَ بين الصَّحابةِ) أي: يَقِفون عن الخَوْضِ عمَّا وَقَع بين الصَّحابةِ مِن اختلافٍ ومنازَعةٍ، مِثلُ ما وقع بين عليٍّ ومعاويةَ، وما وقع بين طلحةَ والزُّبيرِ وعليٍّ وغيرِ ذَلِكَ.

قولُه: (شَجَرَ) أي: اضْطَرَب، واختلَفَ الأمرُ بينهم، واشْتَجَرَ القومُ وتَشاجَرُوا: تَنازَعوا، والمُشاجرةُ المنازَعةُ، فمذهبُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعَةِ الكَفُّ عمَّا جرى بين أصحابِ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-، والإمساكُ عمَّا شَجَرَ بينهم، لما في الخَوْضِ في ذَلِكَ مِن توليدِ الإِحَنِ والحزازاتِ والحِقدِ علي أصحابِ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-، وَذَلِكَ مِن أعظمِ الذُّنوبِ، فإنَّهم خيرُ القُرونِ والسَّابقونَ الأوَّلونَ، فتجِبُ محبَّتُهم جميعاً والتَّرضِّي عنهم، والكَفُّ عمَّا جرى بينهم ممَّا لَعلَّه لم يَصِحَّ، وما صَحَّ فله تأويلاتٌ سائغةٌ، ثم هُوَ قليلٌ مغمورٌ في جانبِ فضائِلِهم.

قال ابنُ حمدانَ مِن أصحابِنا في نهايةِ المبتدئِين: يَجِبُ حبُّ كُلِّ الصَّحابةِ والكَفُّ عمَّا جرى بينهم كتابةً وقراءةً وإقراءً وسَماعاً وإِسْماعا، ويَجِبُ ذِكْرُ محاسِنِهم، والتَّرضِّي عنهم، والمحبَّةُ لهم، وتَرْكُ التَّحامُلِ عليهم، واعتقادُ العُذْرِ لهم، وأنَّهم فَعلَوا ما فَعلَوا باجتهادٍ سائغٍ لا يُوجِبُ كُفراً ولا فِسْقاً، بل ربَّما يُثابُون عليه لأنَّه اجتهادٌ سائغٌ. انتهى.

وأمَّا الحروبُ التي كانت بينهم فكانتْ لكُلِّ طائفةٍ شُبهةٌ اعتقدَتْ تَصويبَ أنْفُسِها بِسَببِها، وكُلُّهم عدولٌ ومتأوِّلُون في حُروبِهم وغيرِها، ولم يُخْرِجْ شيءٌ مِن ذَلِكَ أحدًا منهم عن العَدالةِ؛ لأنَّهم مجتهِدُونَ اختلَفُوا في مسائلَ مِن مَحَلِّ الاجتهادِ كما يَخْتلِفُ المجتهِدُونَ، ولا يلزَمُ مِن ذَلِكَ نَقصُ أحدٍ منهم، بل يَجِبُ التَّرضِّي عنهم واعتقادُ عَدالَتِهم، وأنَّ ما وقعَ منهم هم فيه مَعذُورون ومأْجُورون، وأمَّا معاويةُ -رضي اللَّهُ عنه- فهُوَ مِن العُدولِ الفُضلاءِ، وهُوَ مجتهِدٌ مخطِئٌ، والحقُّ في جانبِ عليٍّ، وعليٌّ هُوَ الخليفةُ في وَقْتِه بالإجماعِ لا خِلافةَ لغيرِه، وقد تقدَّمَ الكلامُ على ذَلِكَ، والنَّاسُ انْقَسَمُوا في ذَلِكَ الزَّمانِ إلى ثلاثةِ أقسامٍ:

قِسمٌ: رأى الحقَّ مع أحدِ الطَّرَفَيْنِ، فوجبَ عليه اتِّباعُه بُموجِبِ اعتقادِه والقتالُ معه.

وقِسمٌ: توقَّفَ ولم يَظْهَرْ له شيءٌ فاعْتزلَ، وهَذَا هُوَ الواجِبُ عليه، وكُلُّهم مَعذورون ومَأجورون، رضوانُ اللَّهِ عليهم أجمعينَ.

قال الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ في المنهاجِ: وأمَّا الصَّحابةُ فجُمهورُهم وجمهورُ أفاضِلِهم لم يَدْخُلوا في فتنةٍ، ثم ساقَ عن ابنِ سيرينَ قال: هَاجَت الفِتنةُ وأصحابُ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- عَشْرةُ آلافٍ، فما حَضَرَها منهم مائةٌ، بل لم يَبْلُغوا ثلاثين، وهَذَا أصحُّ إسنادٍ على وجْهِ الأرضِ، وساق كَلاماً طويلاً يَدُلُّ على أنَّ أكثرَ الصَّحابةِ اعْتَزَلَ الفَرِيقَيْنِ،

إذا عرَفْتَ ما تقدَّمَ عَلمْتَ أنَّ طريقَ السَّلامةِ هُوَ الكفُّ عمَّا شَجرَ بينهم، والتَّرضِّي عن الجميعِ، ونقولُ كما قال اللَّهُ تعالى عن التَّابِعينَ بإحسانٍ: إنهم يقولون: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنواْ رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} وما شَجَرَ بينهم وتَنازَعوا فيه أمْرُه إلى اللَّهِ لا تَسألْ عن ذَلِكَ، قال تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وما أحسَنَ ما روى عن عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ -رضي اللَّهُ عنه- أنَّه قال: لمَّا سُئِلَ عمَّا وقع بين الصَّحابةِ: تِلْكَ دماءٌ طَهَّرَ اللَّهُ مِنها يَدِي فلا أُحِبُّ أنْ أُخَضِّبَ بها لِساني.

(4) قولُه: (ويقولونَ إنَّ هَذِهِ الآثارَ المَرْوِيَّةَ) إلخ أي: أنَّ أهلَ السُّنَّةِ متَّفِقون على محبَّةِ الصَّحابةِ والتَّرضِّي عنهم؛ وأنَّهم خيرُ الأمَّةِ بعد نَبيِّهم لِما تَواتَرَ مِن الأدِلَّةِ في فَضْلِهم، ولِما اشْتُهِرَ عنهم مِن الأعمالِ الفَاضِلَةِ ومُسابَقَتِهم إلى طاعةِ اللَّهِ وطاعةِ رسولِه، وبَذْلِ نُفُوسِهم وأموالِهم في سبيلِ اللَّهِ،

كما أنَّهم متَّفِقون على أَنَّ الصَّحابةَ كُلَّهم عُدولٌ ثِقاتٌ لا يُفتَّشُ عن عدالةِ أحدٍ منهم، فلا يُتْرَكُ هَذَا العلمُ المتيقَّنُ المتحقِّقُ الثَّابِتُ لِمَشْكوكٍ فيه، بل مقطوعٍ بكَذِبِه، فما يُرْوى في حقِّهم مِن المثالِبِ إمَّا أنْ يكونَ كَذِبا محْضاً، وإمَّا أنْ يكونَ مُحرَّفاً قد دَخلَه مِن الزِّيادةِ والنُّقصانِ ما يُخْرِجُه إلى الذَّمِّ والطَّعنِ،

والصَّحيحُ مِن ذَلِكَ هُوَ مِن مواردِ الاجتهادِ التي إنْ أصابَ المجتهِدُ فله أَجْرانِ، وإنْ أخطأَ فله أَجْرٌ واحِدٌ، كما في "الصَّحيحَيْنِ" مِن حديثِ أبي هريرةَ وعمرِو بنِ العاصِ أنَّ رسولَ اللَّهِ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِنِ اجْتَهَدَ وَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ)) فما وَقَع منهم -رضي اللَّهُ عنهم- إنْ ثَبَتَ فهُوَ عَن اجتهادٍ، فَهُم مَعذورون ومأجورون على كِلا الحالَيْنِ،

ولهَذَا اتَّفقَ أهلُ الحقِّ ممَّن يُعتَدُّ بِهِ في الإجماعِ على قَبولِ شهادَتِهم ورِوايَتِهم وثبوتِ عدالَتِهم، وأنَّه يَجِبُ تَزكِيةُ جَمِيعِهم، ويَحْرُمُ الطَّعنُ فيهم، ويَجِبُ اعتقادُ أنَّهم أَفْضَلُ جميعِ الأمَّةِ بعدَ النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال أبو زُرعةَ: إذا رأيتَ الرَّجُلَ يَنتقِصُ أحداً مِن أصحابِ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- فاعلم أنَّه زِنديقٌ، وَذَلِكَ أَنَّ القرآنَ حقٌّ والرسولُ حقٌّ، وما جاء بِهِ حقٌّ، وما أدى ذَلِكَ النَّبأَ كُلَّه إلاَّ الصَّحابةُ، فمَن جَرحَهم فإنَّما أراد إبطالَ الكِتابِ والسُّنَّةِ. اهـ.

قال الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ في المنهاجِ بعد كلامٍ: ما يُنقَلُ عن الصَّحابةِ مِن المثالبِ فهُوَ نوعانِ:

أحدُهما: ما هُوَ كَذِبٌ كُلُّه، وإمَّا محرَّفٌ قد دخَلَه مِن الزِّيادةِ والنُّقصانِ ما يُخرِجُه إلى الذَّمِّ والطَعْنِ، وأكثرُ المنقولِ مِن المطاعِنِ الصَّريحةِ هُوَ من هَذَا البابِ، يَرويها الكَذَّابونَ المَعرُوفون بالكَذِبِ، مِثلُ أبي مِخْنَفٍ لوطُ بنُ يحيى، ومِثلُ هِشامِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ السَّائبِ الكَلْبِيِّ، وأمثالُهما مِن الكذَّابينَ،

والنَّوعُ الثَّاني: ما هُوَ صِدقٌ، وأكثرُ هَذِهِ الأمورِ لهم فيها معاذِيرُ تُخرِجُها مِن أنْ تكونَ ذُنوبًا، وتَجعلُها مِن مواردِ الاجتهادِ التي إنْ أصابَ المجتهِدُ فيها فَلَه أجْرانِ، وإنْ أخطأَ فله أجرٌ واحدٌ، وعامَّةُ المنقولِ الثَّابتِ عن الخلفاءِ الرَّاشدينَ مِن هَذَا البابِ،

وما قُدِّرَ مِن هَذِهِ الأمورِ ذَنباً محقَّقاً، فإنَّ ذَلِكَ لا يَقدَحُ فيما عُلِمَ مِن فضائلِهم وسوابِقهم، وكونِهم أهلَ الجَنَّةِ؛ لأَنَّ الذَّنْبَ المحقَّقَ يرتفعُ عقابُه في الآخرةِ بأسبابٍ متعدِّدةٍ:

منها: التَّوبةُ والحسناتُ الماحيةُ،

ومنها: المصائبُ المكفِّرةُ،

ومنها: دُعاءُ المؤمنين بعضِهم لبعضٍ، وشفاعةُ نبِيِّهم،

فما مِن سببٍ يسَقُطُ بِهِ الذَّمُّ والعقابُ عن أحدٍ مِن الأمَّةِ إلاَّ والصَّحابةُ أحقُّ بِذَلِكَ، فهم أحقُّ بكُلِّ مدْحٍ، ونَفْيِّ كُلِّ ذَمٍّ ممَّن بعدهم مِن الأمَّة.

(5) قولُه: (مَعصومٌ) مِن العِصْمَةِ وهي: الحمايةُ والحِفظُ. قولُه: (بل يَجوزُ) أي: يُمْكِنُ، أي أنَّ أهلَ السُّنَّةِ يعرِفون قَدْرَ أصحابِ النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- وقَرابَتِه، فيُنْزِلُونَهم مَنازِلَهم، كما وَردَ في الحديثِ: ((وَنَزِّلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ)) فلا يَغلُون فيهم بحَيْثُ يَرْفَعُونَهم عن مَنْزِلَتِهم التي أَنْزَلَهُم اللَّهُ بها، فلا يَعتقدُونَ أنَّهم مَعصومُون عَن الذُّنوبِ والخطايا، بل يَجوزُ عليهم ما يَجوزُ على غيرِهم مِن الذُّنوبِ والخطايا، وفي الحديثِ أَنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ)) وفي حديثِ أبي ذرٍّ: ((إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنوبَ جَمِيعاً فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ)).

وقالَ الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ: ولم يَقُلْ أحدٌ يُعتدُّ بِهِ: إنَّ الصَّحابةَ -رضي اللَّهُ عنهم- أو غيرُهم مِن الأولياءِ أو القَرابةِ مَعصومٌ مِن كبائرِ الذُّنوبِ أو مِن الصَّغائِرِ، بل يجوزُ عليه وُقوعُ الذَّنْبِ، واللَّهُ يَغْفِرُ لهم، وقِصَّةُ حاطِبٍ في الصَّحيحِ، فقد غَفَرَ له الذَّنْبَ العظيمَ بِشُهودِه بَدْرا. اهـ.

فأهلُ السُّنَّةِ والجَماعَةِ لا يَرَوْنَ عصمةَ أحدٍ لا مِن الصَّحابةِ ولا مِن القرابةِ، ولا يُؤَثِّمُونهم باجتهادِهم، بخلافِ أهلِ البِدَعِ الذين غَلَوْا مِن الجانِبَيْنِ:

طائفةٌ عَصَّمَتْهم، وطائفةٌ أَثَّمَتْهُم.

قال الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ بنُ تيميةَ: ولم يَقُلْ أَحدٌ مِن الأئمَّة إلاَّ الإماميَّةُ والإسماعيليَّةُ. وقولُ بعضِهم: إنَّ النَّبيَّ معصومٌ، والوَلِيَّ محفوظٌ، إنْ أرادَ بالحِفظِ ما يُشْبِهُ العِصمةَ فباطِلٌ. انتهى.

أمَّا الأنبياءُ عليهم السَّلامُ فاتَّفَقَ العلماءُ على أنَّهم مَعصومُون في تبليغِ الرِّسالةِ، لا يَجوزُ أنْ يَستقِرَّ في ذَلِكَ شيءٌ مِن الخطأِ، وَكَذَلِكَ معصومونَ مِن الكبائرِ، أمَّا الصَّغائرُ فقد تَقَعُ منهم ولكنْ لا يُقِرُّونَ عليها،

قال الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ -رَحِمَهُ اللَّهُ- بعد كلامٍ: فالعلماءُ متَّفِقونَ على أنَّهم لا يُقِرُّون على خطأٍ في الدِّين أَصٍلا، ولا على فِسْقٍ أو كذبٍ في الجملةِ، كُلُّ ما يَقدَحُ في نُبُوَّتِهم وتَبْلِيغِهم عن اللَّهِ فَهُم متَّفِقون على تَنْزِيهِهم عنه، وعامَّةُ الجمهورِ الذين يُجَوِّزُون عليهم الصَّغائرَ يقولون: إنَّهم مَعصومُون مِن الإقرارِ عليها، فلا يَصْدُرُ منهم ما يَضرُّهُم، كما جاء في الأثرِ: كان دَاودُ بعدَ التَّوبةِ خيرًا منه قبلَ الخطيئةِ، واللَّهُ -سُبْحَانَهُ- يُحِبُّ التَّوابِينَ، ويُحِبُّ المتطَهِّرين، وإنَّ العبدَ يفعلُ السِّيِّئَةَ يَدخُلُ بها الجَنَّةَ، وأمَّا النِّسيانُ والسَّهْوُ في الصَّلاةِ فذَلِكَ واقِعٌ منهم، وفي وقوعِه حِكمةُ اسْتِنانِ المسلِمِينَ بهم، كما رُوِيَ في موطأِ مالِكٍ: إِنَّمَا أَنْسَى أَوْ أُنْسَى لأَسُنَّ. اهـ.

(6) قولُه: (ولهم مِن السَّوابِقِ والفضائِلِ) إلخ أي: حَدَثَ، فما يَقعُ منهم -رضي اللَّهُ عنهم- يُغْتَفَرُ في جانِبِ ما لهم مِن الحسناتِ العظيمةِ، كما في قِصَّةِ حاطبٍ: فقد غُفِرَ له الذَّنْبُ العظيمُ بِشُهودِه بدراً {وَكُـلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى}.

وفي جامعِ الترمذيِّ أَنَّ النَّبيَّ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال لَمَّا جاءَهُ عثمانُ لِتَجْهيزِ جَيشِ العُسْرَةِ: ((مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ)) مَرَّتَيْنِ، رواه الترمذيُّ وقال: حديثٌ حسنٌ،

وروى أحمدُ وأبو داودَ والترمذيُّ عن جابرٍ أنَّ رسولَ اللَّهِ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((لاَ يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ))،

وأَخْرَجَ أحمدُ بِسَندٍ رجالُه ثِقاتٌ عن أبي سعيدٍ الخدريِّ أَنَّ النَّبيَّ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال لأهلِ الحديبيةِ: ((لاَ يُدْرِكَنَّ قَوْمٌ بَعْدَكُمْ صَاعَكُمْ وَلاَ مُدَّكُمْ)).

قولُه: (حتى إنَّهم يُغفَرُ لهم مِن السَّيِّئاتِ) إلخ: وَذَلِكَ لما لهم مِن الفَضائِلِ والسَّوابقِ والوَعْدِ بالمغفرةِ، قال تعالى: {وَكُـلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} فلأصحابِ رسولِ اللَّهِ من الحسناتِ والأسبابِ التي تَمْحُو السَّيِّئاتِ أعظمُ نَصيبٍ، قال: {لِيُكَـفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الذي عَمِلُواْ} والحبيبُ يسامِحُ بما لا يُسامِحُ بِهِ غيرُه؛ لأَنَّ المحبَّةَ أكبرُ شُفعائِه ،كما قِيلَ:

وإذا الحَبِيبُ أَتى بِذَنْبٍ واحدٍ ....... جاءتْ محاسِنُه بألْفِ شَفيعِ

فلِمَقامَاِتهم العظيمةِ وجهادِهم في اللَّهِ أعداءَه حقَّ الجهادِ يُحتمَلُ لهم ما لا يُحتَمَلُ لغيرِهم، وذَكَر ابنُ القيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ- في المدارجِ في أثناءِ كلامٍ له: أِنَّه يُعفَى للمحِبِّ ولِصاحِبِ الإحسانِ العظيمِ ما لا يُعْفَى لغيرِه، ويُسامَحُ بما لا يُسامَحُ بِهِ غيرُه،

قال: وقد استدلَّ الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّين -رَحِمَهُ اللَّهُ- على ذَلِكَ بقصَّةِ سليمانَ حين أَلْهَتْهُ الخيلُ عن صلاةِ العصرِ، فأَتْلَفَها فعوَّضَه اللَّهُ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- الرِّيحَ، وَكَذَلِكَ لَطَم مُوسى عَيْنَ مَلَكِ الموتِ فَفَقأَها ولم يَعْتَبْ عليه رَبُّه، وفي ليلةِ الإسراءِ عاتَبَ رَبَّهِ في النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- أنَّه رُفِعَ فوقَه، ولم يُعاتِبْهُ اللَّهُ على ذَلِكَ، لِما له مِن المقاماتِ العظيمةِ. وكان شديدَ الغضبِ لرَبِّه، فاحتَمَلَ له مالم يَحتَمِلْه لغيرِه، وذو النُّونِ لمَّا لم يكُنْ له هَذَا المقامَ سَجَنَهُ في بطنِ الحوتِ مِن أجلِ غَضَبِه {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا}. انتهى بتصرُّفٍ.

(7) قولُه: (وقد ثَبَتَ بقولِ الرَّسولِ) -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- إلخ: أَخرجَه مسلمٌ في الفضائلِ مِن حديثِ أبي هريرةَ، وأَخرَجَه أبو داودَ مِن حديثِ ابنِ مسعودٍ، وأَخرجَه البُخاريُّ ومِسلمٌ والنَّسائيُّ مِن حديثِ عمرانَ بنِ حُصَينٍ -رضي اللَّهُ عنه- أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ)) قال عِمرانُ بنُ حصينٍ: (فلا أَدْرِي أَذَكَر بعدَ قَرْنِه مَرَّتِين أو ثلاثًا)، وعنِ ابنِ مسعودٍ -رضي اللَّهُ عنه- أَنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ قَومٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ)).

قولُه: ((قَرْنِي)) القَرْنُ أهلُ زمانٍ واحدٍ متقارِبٍ اشتركُوا في أمرٍ مِن الأمورِ المقصودةِ، ويُطلَقُ القَرْنُ على مُدَّةٍ من الزَّمانِ اختلفوا في تَحديدِها، ووقع في حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ بُسرٍ عندَ مُسلِمٍ ما يَدلُّ على أَنَّ القرنَ مائةُ عامٍ، وهُوَ المشهورُ، انتهي مِن فتحِ الباري، والمرادُ بقَرْنِه -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: الصَّحابةُ، واتَّفقَ العلماءُ على أنَّ خيرَ القُرونِ قَرْنُه.

قولُه: ((ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ)) يعني التَّابِعينَ ((ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ)) يعني أَتْباعَ التَّابِعينَ، واقْتضَى هَذَا الحديثُ أنْ تكونَ الصَّحابةُ أَفْضلَ مِن التَّابِعِينَ، والتَّابِعينَ أَفْضلَ مِن أَتباعِ التَّابِعينَ، واستُدِلَّ بهَذَا على تعديلِ القرونِ الثَّلاثة وإنْ تَفاوتَتْ منازِلُهم في الفَضْلِ، واستُدِلَّ على جوازِ المفاضَلَةِ بين الصَّحابةِ رضوانُ اللَّهِ عليهم.

(8) قولُه: (وإنَّ المُدَّ مِن أحدِهم). إلخ: كما في "الصَّحيحَيْنِ" عن أبي سعيدٍ الخدريِّ -رضي اللَّهُ عنه- أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَوْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَباً مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلاَ نَصِيفَهُ))، وقد تقدَّم الكلامُ عن هَذَا الحديثِ.

قولُه: (ثم إذا كان قد صَدَرَ) إلخ: والتَّوبةُ تَجُبُّ ما قَبلَها، كما في الحديثِ: ((التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لاَ ذَنْبَ لَهُ)) والتَّوبةُ مَقبولةٌ مِن جميعِ الذُّنوبِ،

قال تعالى: {إِلاَّ مَنْ تَابَ}،

وقال: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ}،

وقال: {أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} وقد أخبَرَ اللَّهُ في كتابِه عن تَوبةِ أنبيائِهِ ودُعائِهم بالتَّوبةِ،

قال تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}

وقال عن موسى -عليه السَّلامُ- إنَّه قال: {تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} إلى غيرِ ذَلِكَ من الآياتِ،

وأمَّا المأثورُ عنِ النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- فكثيرٌ جِداًّ، وأصحابُه كانوا أفْضَلَ قُرونِ الأمَّة، فهم أعْرَفُ القرونِ باللَّهِ، وأشدُّهم له خَشْيةً، وقد وَقَع مِن بعضِهم أشياءُ نَدِمُوا عليها وتابوا منها، وهَذَا مشهورٌ.

قولُه: (أو أَتَى بحسناتٍ تَمْحُوه) قال اللَّهُ تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيَّئَاتِ} وقال النَّبيُّ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((وَأَتْبِعِ السِّيَّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا))

وقال –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- للرَّجُلِ الذي قال أصبتُ حداًّ فَأَقِمْه عليَّ، فقال: ((هَلْ صَلَّيْتَ مَعَنَا هَذِهِ الصَّلاةَ؟)) قال: نَعَمْ، قال: ((اذْهَبْ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ حَدَّكَ)) الحديثَ،

والحسناتُ تَتَفاضَلُ بحسَبِ ما في القُلوبِ مِن الإيمانِ والتَّقوى، وحينئذٍ فيُعرَفُ أنَّ مَن هُوَ دُونَ الصَّحابةِ قد تكونُ له حسناتٌ تَمْحُو ما يُذَمُّ مِن أحدِهم، فكَيْفَ بالصَّحابَةِ -رضي اللَّهُ عنهم-.

قولُه: (أو غُفِرَ له لفَضلِ سابِقَتِه) كما تقدَّمَ مِن الأدِلَّةِ على ذَلِكَ،

ومنها قولُه -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ))،

وكما في قِصَّةِ حاطِب بنِ أبي بَلْتَعَةَ فقد غَفَرَ له ذَلِكَ الذَّنْبَ العظيمَ بشُهودِه بَدْرا،

وقد بَرِئَ النَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- مما صَنَعَ خَالِدٌ ببني جذيمةَ وقال: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مَمَّا صَنَعَ خَالِدٌ)) ولم يُؤاخِذْه له لِحُسْنِ بلائِه ونَصْرِه للإسلامِ، إلى غيرِ ذَلِكَ مِن الأدِلَّةِ الكثيرةِ.

قولُه: (أو بِشفاعةِ محمَّدٍ) إلخ: فإنَّهم أخَصُّ النَّاسِ بِدُعائِه وشَفاعَتِه.

قولُه: (أو ابْتُلِيَ بِبَلاءٍ في الدُّنْيَا كُفِّرَ بِهِ عنه) أي: امْتُحِنَ وَأُصِيبَ بمُصيبةٍ كَفَّرَ اللَّهُ بها عنه، أي مُحِيَ عنه ذَلِكَ الذَّنْبُ، لأنها تُكَفِّرُ الذَّنْبَ، كما في الصَّحيحِ أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ وَلاَ نَصَبْ وَلاَ غَمٍّ وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حَزَنٍ حَتَّى الشَّوْكَةَ يُشَاكُهَا إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ)) متَّفقٌ عليه،

ذَكَرَ المصنِّفُ هنا بعضَ الأسبابِ المسقِطةِ للعقوبةِ، وقد استَوْفاها في المنهاجِ وشَرَحَها شَرْحاً وافِياً، ثم قال: فَهِذِهِ الأسبابُ لا تفوتُ كُلُّها من المؤمنين إلاَّ القليلَ، فكَيْفَ بالصَّحابةِ رضوانُ اللَّهِ عليهم الذين هم خيرُ قُرونِ هَذِهِ الأمَّةِ، فإذا كان الذَّنْبُ الُمحَقَّقُ تَسقُطُ عقوبَتُه بِعدَّةِ أسبابٍ في حقِّ آحادِ النَّاسِ فكَيْفَ في أصحابِ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-، فما مِن ذنبٍ يَسقطُ بِهِ الذَّمُّ والعقابُ عن أحدٍ مِن الأمَّةِ إلاَّ والصَّحابةُ أحقُّ بِذَلِكَ، فَهُم أحقُّ بكُلِّ مدحٍ ونَفْيِ كُلِّ ذَمٍّ ممَّن بعدَهم مِن الأمَّة. انتهى.

(9) قولُه: (فإذا كان هَذَا في الذُّنوبِ المحققَّةِ) تَسقُطُ عقوبَتُها عن آحادِ الأمَّةِ بأسبابٍ عديدةٍ فكَيْفَ بأصحابِ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- فهم أحَقُّ بِذَلِكَ لِما لهم مِن الفَضائِلِ والسَّوابِقِ والوَعْدِ بالمغفرةِ، إلي غيرِ ذَلِكَ ممَّا لا يُمْكِنُ أنْ يَلْحَقَهُم فيه مَن بَعْدَهم، فإذا كان ما تَقدَّمَ في الذُّنوبِ المحققَّةِ (فكَيْفَ بالأمورُ التي كانوا فيها مُجْتَهِدِين؛ إنْ أصابوا فلَهُم أَجْرَانِ وإنْ أَخْطَئُوا فَلَهُم أجرٌ واحدٌ، والخطأُ مَغفورٌ)، فَهُم مأجورونَ على كِلا الحالَيْن، كما في "الصَّحيحَيْنِ" مِن حديثِ أبي هريرةَ وعمرِو بنِ العاصِ أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ))، وقد تقدَّمَ، فما صدَرَ منهم فَهُم فيه مَعذورون ومأجورونَ، ولم يُخرِجْ ذَلِكَ أحدًا منهم عن العَدالةِ؛ لأنَّهم مجتهدُونَ اختلَفوا في مسائِلَ مِن مَحَلِّ الاجتهادِ كما يَختلِفُ المجتهِدونَ.

قولُه: (ثم القَدْرُ) إلخ: ثم حرفُ عطفٍ. قولُه: (جَانِبِ) أي: جِهَةٍ وناحيةٍ.

قولُه: (نَزْرٌ) أي: قليلٌ تَافِهٌ. قولُه: (مغمورٌ) أي: مُغطًّى مِن غَمَره إذا غطَّاهُ، وعَلاه أي: إِنَّ ما أَتَوْا بِهِ مِن الحسناتِ وما لَهُم مِن الفضائلِ والسَّوابِقِ غَمَرَ ما وقع منهم وغطَّاه وجَعَلَه كَلا شَيْءٍ، أو كقَطْرةِ نجاسةٍ وقَعَتْ في بحرٍ، هَذَا على فَرضِ ثبوتِ ذَلِكَ عنهم ووقُوعِه منهم، وإلاَّ فغالِبُ ما يُنقَلُ عنهم مِن المساوئِ إمَّا كَذِبٌ محْضٌ، وإمَّا محرَّفٌ كما تقدَّمَ؛ لأنَّ غالِبَ ما ذُكِرَ عنهم ذَكَرَهُ المؤرِّخون الذين يَكثُرُ الكَذِبُ فيما يَرْوونَه، وقَلَّ أنْ يَسْلَمَ نَقْلُهُم مِن الزِّيادةِ والنُّقصانِ، وأيضًا إذا ثَبَتَ صدُورُه عنهم فهُوَ صادِرٌ عن اجتهادٍ سائغٍ هُم مأجورونَ فيه على كِلا الحالَيْنِ.

قال الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: ومَن عَلِمَ ما دلَّ عليه القرآنُ والسُّنَّةُ مِن الثَّناءِ على القومِ -رضي اللَّهُ عنهم- واستحقاقَهُم الجَنَّةَ؛ وأنَّهم خيرُ هَذِهِ الأمَّةِ التي أُخرِجَتْ للنَّاسِ لم يُعارِضْ هَذَا المتيقَّنَ المعلومَ بأمورٍ مُشتَبِهَةٍ، منها ما لا يُعلمُ صحَّتُه، ومنها ما يَتَبَيَّنُ كذِبُه، ومنها ما لا يُعلمُ كَيْفَ وَقَعَ، ومنها ما يُعلمُ عُذرُ القومِ فيه، ومنها ما يُعلمُ تُوبَتُهم منه، ومنها ما يُعْلَمُ أنَّ له مِن الحسناتِ ما يَغْمُرُه، فمَن سَلَكَ سبيلَ أهلِ السُّنَّةِ استقام قولُه، وكان مِن أهلِ الحقِّ والاستقامةِ والاعتدالِ، وإلاَّ حَصلَ في جهلٍ ونقصٍ وتناقُضٍ كحالِ هؤلاء الرَّفَضةِ الضُّلاَّلِ.

(10) قولُه: (ومَن نَظَرَ) أي: تدبَّرَ وتفكَّرَ فيها، قولُه: (في سيرةِ القومِ) أي: خِطَّتِهم وعادَتِهم، وما كانوا عليه مِن الأحوالِ الفاضِلةِ والسِّيرةِ العادِلةِ، وجُمعُها سِيَرٌ، وهُوَ ما يعامَلُ بِهِ النَّاسُ مِن خيرٍ وشرٍّ، وأصلُ السِّيرةِ: هيئةُ فِعلِ السَّيْرِ وسَيْرُ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- هيئةُ أفعالِه حَيْثُ كانت.

قولُه: (بِعِلمٍ) العِلمُ هُوَ حصولُ صورةِ المعلومِ في الذِّهْنِ. قولُه: (وبصيرةٍ) أي: معرفةٍ ويَقِينٍ، والبصيرةُ للقلبِ والبَصَرُ للعينِ، قال ابنُ القيِّمِ في المدارجِ بعد كلامٍ على قولِه: {قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} قال: يريدُ أنْ تَصِلَ باستدلالِكَ إلى أعلى درجاتِ العِلمِ، وَهِيَ البصيرةُ التي تكونُ نسبةُ المعلومِ فيها إلى القلبِ كنِسْبةِ المرئيِّ إلى البَصرِ، وَهَذِهِ الخِصِّيصةُ التي اختُصَّ بها الصَّحابةُ عن سائرِ الأمَّةِ، وَهِيَ أعلا درجاتِ العلماءِ. انتهى.

قولُه: (عَلِمَ يَقِيناً) أي: عِلماً لازماً لا يَدخُلُه شَكٌّ ولا شبهةٌ، فاليَقِينُ لغةً، طُمَأنِينَةُ القَلْبِ على حَقِيقةِ الشَّيءِ، يقالُ: يَقَنَ الماءُ في الحوضِ إذا استقرَّ فيه واصِطلاحًا هو: اعتقادٌ جازمٌ لا يَقْبَلُ التَّغييرَ، ومراتبُ اليقينِ ثلاثةٌ:

حقُّ اليَقينِ، وعِلمُ اليَقينِ، وعَينُ اليَقينِ،

فعِلمُ اليقينِ هُوَ التَّصديقُ التَّامُّ بِهِ بحَيْثُ لا يَعرِضُ له شكٌّ ولا شبهةٌ تَقدَحُ في تَصديقِه،

وعينُ اليقينِ هي مرتبةُ الرُّؤْيَةِ والمشَّاهَدَةِ،

وحقُّ اليقينِ هي مباشرةُ الشَّيءِ والإحساسُ به، قولُه: (لا كان ولا يكونُ مِثْلُهم) كان تامَّةٌ.

قولُه: (الصَّفوةُ) أي: الخيارُ، والصَّفوةُ مِن كُلِّ شيءٍ خالِصُه وخيارُه، فأصحابُ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- همُ خيرُ الخلقِ بعدَ الأنبياءِ،

ومَن نَظَرَ في سِيرتِهم وتأمَّلَ أحوالَهم وما هم عليه مِن الدَّعوةِ إلى اللَّهِ والجهادِ في سبيلِه وبَذْلِ النَّفْسِ والنَّفِيسِ في سبيلِ إعلاءِ كلمتِه مع ما هم عليه مِن الصِّدقِ مع اللَّهِ والمسارَعةِ إلى الخيرِ مع العِلمِ النَّافِعِ – إلى غيرِ ذَلِكَ مِن صفاتِهم الفاضِلةِ عَلِمَ يقيناً أنَّهم خَيرُ الخَلقِ بعد الأنبياءِ، وأنَّهم أَكْملُ هَذِهِ الأمَّةِ عقلاً وعِلماً ودِيناً، كما قال فيهم عبدُ اللَّهِ بنُ مسعودٍ: مَن كان منكم مُسْتَناًّ فَليَسْتَنَّ بمَن قد مات، فإنَّ الحيَّ لا تؤمَنُ عليه الفتنةُ، أولئكَ أصحابُ مُحَمَّدٍ كانوا خيرَ هَذِهِ الأمَّةِ، وأَبَرَّها قُلُوبًا وأعْمَقَها عِلماً وأقَلَّها تَكلُّفا، قومٌ اختارَهم اللَّهُ لنَبِيِّه وإقامةِ دِينِه، فاعْرِفوا لهم فَضْلَهم واتَّبِعُوهم في آثارِهم، وتَمسَّكُوا بما استطعْتُم مِن أخلاقِهم ودينِهم، فإنَّهم كانوا على الهُدى المستقيمِ، رواه غيرُ واحدٍ، منهم ابنُ بطَّةَ عن قتادةَ،

وروى هُوَ وغيرُه بالأسانيدِ إلى زِرِّ بنِ حُبيشٍ قال: قال عبدُ اللَّهِ بنُ مسعودٍ -رضي اللَّهُ عنه-: (إنَّ اللَّهَ -سُبْحَانَهُ- نَظَرَ في قلوبِ العِبادِ بعد قلبِ مُحَمَّدٍ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- فوجَدَ قلوبَ أصحابِه خيرَ قلوبِ العِبادِ، فجَعلهَم وراءَ نِبيِّه يقاتِلون على دِينِه، فما رآه المسلمونَ حَسَناً فهُوَ عندَ اللَّهِ حسَنٌ، وما رآه المسلمونَ سيِّئاً فهُوَ عندَ اللَّهِ سيِّئٌ) رواه أحمدُ وأبو داودَ الطَّيالسيُّ،

وما قال عبدُ اللَّهِ بنُ مسعودٍ -رضي اللَّهُ عنه- فيهم حقٌّ، كما تواتَرَتْ بِذَلِكَ الأحاديثُ عن النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- أنَّه قال: ((خَيْرُ القُرونِ قَرْنِي)) الحديثَ،

وهُمْ أفضلُ الأمَّةِ الوسَطِ الشُّهداءِ على النَّاسِ،

وهم الصَّفوةُ مِن قرونِ هَذِهِ الأمَّةِ وأَكْرَمِها على اللَّهِ -سُبْحَانَهُ- قال تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} قال طائفةٌ مِن السَّلَفِ: هُم أصحابُ مُحَمَّدٍ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-، ولا رَيْبَ أنَّهم أفضلُ المُصْطَفَيْنَ مِن هَذِهِ الأمَّةِ التي قال اللَّهُ فيها: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لَّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مَّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذُنِ اللَّهِ} فأمَّةُ مُحَمَّدٍ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- الذين أُورِثوا الكتابَ بعدَ الأمَّتَيْنِ قَبلَهم اليهودُ والنَّصارى، وقد أخبَرَ أنَّهم الذين اصْطَفى، فأصحابُ مُحَمَّدٍ هم المصطفَيْنَ مِن المصطفَيْنَ مِن عِبادِ اللَّهِ، فهم صَفوةُ الصَّفوةِ، رضوانُ اللَّهِ عليهم أجمعين، فأُمَّةُ مُحَمَّدٍ خيرُ الأممِ وأكْرَمُها على اللَّهِ كما قال -سُبْحَانَهُ-: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} وروى الإمامُ أحمدُ عن حكيمِ بنِ معاويةَ عن أبيه -رضي اللَّهُ عنه- أَنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((أَنْتُمْ تُوَفُّونَ سَبْعِينَ أُمَّةً، أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ -سُبْحَانَهُ-)) رواه الترمذيُّ وابنُ ماجهْ والحاكِمُ في مستدرَكِه، وأصحابُ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- خيرُ هَذِهِ الأمَّةِ، فهُمْ أفضلُ الخلقِ على الإطلاقِ بعد النَّبِيِّينَ والمُرْسَلِينَ).

هيئة الإشراف

#6

27 Dec 2008

الروضة الندية للشيخ: زيد بن عبد العزيز بن فياض رحمه الله

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (* قول أهل السنة في الصحابة *

(وَيَتَبَرَّءُونَ مِن طَريقَةِ الرَّوافِضِ الَّذينَ يُبْغِضُونَ الصَّحابَةَ ويَسُبُّونَهُمْ).
وطَريقَةِ النَّوَاصِبِ الَّذينَ يُؤذُونَ أَهْلَ البَيْتِ بِقَوْلٍ [ أَوْ ] عَمَلٍ.
ويُمْسِكُونَ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحابَةِ، ويَقُولونَ: إِنَّ هذه الآثارَ المَرْويَّةَ في مَساويِهْم مِنْها مَا هُو كَذِبٌ، ومِنْها مَا قَدْ زِيْدِ فيهِ ونُقِصَ وغُيِّرَ عَنْ وَجْهِهِ، والصَّحِيْحُ مِنْهُ هُمْ فِيهِ مَعْذُورونَ: إِمَّا مُجتَهِدُونَ مُصِيْبُونَ، وإِمَّا مُجْتَهِدُونَ مُخْطِئونَ.
وهُمْ مَعَ ذلكَ لا يَعْتَقِدونَ أَنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنَ الصَّحابَةِ مَعْصومٌ عَنْ كَبَائِرِ الإِثْمِ وصَغَائِرِهِ، بَلْ يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الذُّنُوبُ في الجُمْلَةِ.
ولَهُمْ مِنَ السَّوابِقِ والفَضائِلِ مَا يُوجِبُ مَغْفِرَةَ مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ - إِنْ صَدَرَ -، [حَتَّى إِنَّهُمْ ] يُغْفَرُ لَهُمْ مِنَ السَّيِّئاتِ مَا لاَ يُغْفَرُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ ؛ وَقَدْ ثَبَتَ بِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ خَيْرُ القُرونِ، وأَنَّ المُدَّ مِنْ أَحَدِهِمْ إِذا تَصَدَّقَ بهِ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ جَبَلِ أُحُدٍ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ.
ثُمَّ إِذا كَانَ قَدْ صَدَرَ مِنْ أَحَدِهِمْ ذَنْبٌ ؛ فَيَكونُ قَدْ تَابَ منهُ، أَو أَتَى بحَسَناتٍ تَمْحُوهُ، أَو غُفِرَ لَهُ ؛ بِفَضْلِ سابِقَتِهِ، أَو بِشفاعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذي هُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِشَفاعَتِهِ، أَو ابْتُلِيَ بِبَلاءٍ في الدُّنْيا كُفِّرَ بهِ عَنْهُ.
فإَذا كَانَ هذا في الذُّنُوبِ المُحَقَّقَةِ ؛ فَكَيْفَ [ الأمُورُ ] الَّتي كَانُوا فِيها مُجْتهِدينَ: إِنْ أَصابُوا ؛ فَلَهُمْ أَجْرانِ، وإِنْ أَخْطَأوا ؛ فَلَهُمْ أَجْرٌ واحِدٌ، والخَطَأُ مَغْفُورٌ.
ثُمَّ إِنَّ القَدْرَ الَّذي يُنْكَرُ مِنْ فَعْلِ بَعْضِهِمْ قَليلٌ نَزْرٌ [ مَغْفُورٌ ] في جَنْبِ فَضائِلِ القَوْمِ ومَحاسِنِهِمْ ؛ مِن الإِيْمانِ باللهِ، ورَسُولِهِ، والجِهَادِ في سَبيلِهِ، والهِجْرَةِ، والنُّصْرَةِ، والعِلْمِ النَّافعِ، والعَمَلِ الصَّالِحِ.
ومَنْ نَظَرَ في سيرةِ القَوْمِ بِعلْمٍ وبَصيرةٍ، ومَا مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ بهِ مِن الفَضائِلِ ؛ عَلِمَ يَقيناً أَنَّهُم خَيْرُ الخَلْقِ بعدَ الأنبياءِ، لا كَانَ ولا يَكونُ مِثْلُهُم – رضى الله عنهم - وأَنَّهُم الصَّفْوَةُ مِن قُرونِ هذهِ الأمَّةِ التَّي هِيَ خَيْرُ الأمَمِ وأَكْرَمُها عَلى اللهِ) ).

الشرح:

قال الشيخ زيد بن عبد العزيز بن فياض (ت: 1416هـ): (فأهلُ السُّنَّةِ وسَطٌ بينَ النَّواصبِ الَّذِينَ يَنصبِونَ العداوَةَ لأهلِ البيتِ، ويُكفِّرونَ ويَطعنونَ فِيهِمْ، وكذَلِكَ الخَوارِجُ والمعتزِلةُ الَّذِينَ يُكفِّرونَ كَثِيرينَ مِن الصَّحَابَةِ ويُفسِّقونهم، وبينَ الرَّوافِضِ الَّذِينَ يُغلِّون فِي أهلِ البيتِ ويُكفِّرون جمهورَ الصَّحَابَةِ.
وأمَّا أهلُ السُّنَّةِ فيتَولُّون جميعَ الْمُؤْمِنينَ، ويتكَلَّمونَ بعِلمٍ وعدْلٍ ليسوا مِن أهلِ الجهْلِ، ولا مِن أهلِ الأهواءِ، وَيتبَرَّأُونَ مِن طريقةِ الرَّوافِضِ والنَّواصبِ جميعاً، ويتولَّونَ السَّابِقِينَ الأوَّلِينَ كلَّهم، ويعْرِفونَ قدْرَ الصَّحَابَةِ وفَضْلَهم ومَناقِبَهم، ويَرْعونَ حُقوقَ أهلِ البيتِ التي شَرَعها اللهُ لهم، ولا يَرضونَ بِما فَعلَهُ المُختارُ ونحوُه مِن الكَذَّابِينَ، ولا ما فَعَلَ الحَجَّاجُ ونحوُهُ مِن الظَّالمينَ ؛ ويُمسكُونَ عَمَّا شَجرَ بينَ الصَّحَابَةِ. أي ما وقعَ بَيْنَهُمْ مِن اختلافٍ ومُنازعةٍ.
قَالَ ابنُ الأثيرِ فيه: إيَّاكم وما شَجَرَ بينَ أصْحَابِي أيْ ما وقَعَ بَيْنَهُمْ مِن الاختلافِ يُقَالُ: شَجَرَ الأمرُ يَشجُرُ شُجوراً إذا اخْتلَطَ، واشْتَجَرَ القومُ وَتَشاجَرُوا إذا تَنازَعُوا واخْتلفُوا اهـ.
وذَلِكَ مِثلُ ما وقَعَ بينَ عَلِيٍّ ومُعاوِيَةَ. كما حَصلَ فِي مَوقِعتيِ الجمَلِ وصِفِّينَ.
فإنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لمَّا قُتلَ كَثُرَ الكَذِبُ والافْتراءُ على عُثْمَانَ وعَلِيٍّ، وكَانَ بالمدينةِ مِن أكابرِ الصَّحَابَةِ كعَلِيٍّ وطَلْحَةَ والزُّبَيْرِ، وعَظُمتِ الشُّبهةُ عندَ مَن لم يَعرفِ الحالَ، وقَويَتِ الشَّهوةُ فِي نفوسِ ذَوِي الأهواءِ والأغراضِ مِمَّنْ بَعُدتْ دارُه مِن أهلِ الشَّامِ، وكَانَ فِي عَسكرِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِن أولئك الخَوارِجِ الَّذِينَ قَتلوا عُثْمَانَ مَن لم يُعرفْ بِعينِهِ، ومَن تَنتَصرُ لَهُ قَبيلتُهُ، ومَن لم يَقمْ عَلَيْهِ حُجَّةٌ بما فَعلَهُ، ومَن فِي قلبِه نِفاقٌ لم يَتَمَكَّنْ مِن إظهارِه كُلِّهِ، وَرَأى طَلْحَةَ والزُّبَيْرَ أنَّهُ إنْ لم يَنتصرْ للشَّهيدِ المظْلومِ، ويَقمعَ أهلَ الفسادِ والعُدوانِ، وإلا اسْتَوْجبوا غضَبَ اللهِ وعِقابَهُ. فَجَرَتْ فِتنةُ الجَملِ على غيرِ اخْتيارٍ مِن عَلِيٍّ، ولا مِن طَلْحَةَ والزُّبَيْرِ، وإنَّمَا أثارَها المُفسدونَ بغيرِ اختيارِ السَّابِقِينَ. ثُمَّ جَرَتْ فِتنةُ صِفِّينَ لِرأْيٍ: وهُوَ أنَّ أهلَ الشَّامِ لم يُعْدَلْ عليهم، أوْ لا يُتمكَّنْ مِن العدْلِ عليهم وهم كافُونَ حَتَّى تجتمعَ الأُمَّةُ، وأنَّهُمْ يخافُونَ طُغيانَ مَن فِي المُعسكَرِ كما طَغَوْا على الشَّهيدِ المظلومِ، وعَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ هُوَ الخليفةُ الرَّاشِدُ المَهْدِيُّ الَّذِي تَجبُ طاعَتُه.
ويجبُ أنْ يَكونوا مُجتمِعينَ عَلَيْهِ. فَاعْتَقَدَ أنَّهُ يحصلُ به أداءُ الواجبِ، ولم يَعتَقِدْ أنَّ التَّأليفَ لهم كَتأليفِ المُؤَلَّفةِ قُلوبُهم على عهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والخَلِيفتينِ مِن بعدِه مِمَّا يَسوغُ. فَحَملَهُ ما رآه مِن أنَّ الدِّينَ إقامةُ الحدِّ عليهم ومَنْعُهم مِن الإثَارةِ دونَ تَأليفِهم على القِتالِ، وَقَعَدَ عَن القتالِ أكثرُ الأكابِرِ لِما سَمِعوه مِن النُّصُوصِ فِي الأمرِ بالقُعودِ فِي الفِتْنةِ، ولِمَا رَأوْهُ مِن الفتنةِ التي تَربو مَفسدُتها على مَصلحَتِها.
قولُهُ ويَقُولونَ: إنَّ هَذِهِ الآثارَ المرويَّةَ فِي مَساوِيهم منها ما هُوَ كَذِبٌ. المَسَاوِي هي المَعَائِبُ والنَّقائِصُ.
قولُهُ: وقَدْ ثَبَتَ بقَولِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّهُمْ خيرُ القُرونِ كما فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عِمرانَ بنِ حُصينٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَيْرُ أُمَّتِي قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهَمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ. قَالَ عِمرانُ: فلا أَدْري أَذَكَرَ بعدَ قرْنِه مَرَّتين أو ثلاثةً، ثُمَّ يَظْهَـرُ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ ولا يَسْتَشْهَدُونَ، ويَخُونُونَ ولا يُؤْمَنُونَ، ويُنْذِرُونَ ولا يُوفُونَ، ويَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ.
وهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ رُوِيَ مِن حَدِيثِ عِمرانَ بنِ حُصينٍ، وعبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ، وأَبِي هُرَيْرَةَ وعَائِشَةَ والنُّعمانِ بنِ بشيرٍ والقرنُ أهلُ زمانٍ واحدٍ مُتقاربٍ، اشْترَكوا فِي أمرٍ مِن الأمورِ المَقصُودةِ. ويُقَالُ: إنَّ ذَلِكَ مَخصوصٌ بما إذا اجْتمعُوا فِي زمنِ نَبِيٍّ أو رَئيسٍ يَجمعُهم على مِلَّةٍ واحدةٍ أو مَذْهَبٍ أُعْمِلَ، ويُطلقُ القرنُ على مُدَّةٍ مِن الزَّمانِ، واخْتلَفوا فِي تَحدِيدِها مِن عشَرةِ أعوَامٍ إِلَى مائةٍ وعِشرينَ. لكن لَم أرَ مَن صَرَّحَ بالسَّبعِينَ، ولا بمائةٍ وعَشَرةٍ، وما عدا ذَلِكَ فقَدْ قَالَ به قائِلٌ، وَذكَرَ الجَوْهرِيُّ بينَ الثَّلاثينَ والثَّمانينَ، ووقَعَ فِي حَدِيثِ عبدِ اللهِ بنِ بُسرٍ ما يدُلُّ على أنَّ القرنَ مائةٌ وهُوَ المَشهورُ. وقَالَ صاحبُ المَطالعِ: القرنُ أُمَّةٌ هَلكتْ فلم يَبْقَ مِنْهُمْ أحدٌ. وثَبَتَتِ المائةُ فِي حَدِيثِ عبدِ اللهِ بنِ بُسرٍ عندَ مُسْلِمٍ، وهي ما عندَ أكثرِ أهلِ العراقِ، ولم يَذكرْ صاحبُ المُحكمِ الخَمسينَ، وذَكَرَ مِن عَشْرٍ إِلَى سَبعينَ. ثُمَّ قَالَ: هَذَا هُوَ القَدْرُ المُتوسِّطُ مِن أعمارِ أهلِ كلِّ زمانٍ. وهَذَا أعدلُ الأقوالِ، وبه صرَّحَ ابنُ الأعْرابِيِّ، وقَالَ: إنَّهُ مأخوذٌ مِن الأقْرانِ ويُمكنُ أنْ يُحملَ عَلَيْهِ المُخْتلِفُ مِن الأقوالِ المُتقدِّمةِ مِمَّنْ قَالَ: إن‍َّ القرنَ أربعونَ فَصاعِداً. أمَّا مَن قَالَ: إنَّهُ دونَ ذَلِكَ فلا يَلْتَئِمُ على هَذَا القولِ واللهُ أعلمُ، والمُرادُ بقرنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحَابَةُ.
وقَدْ ظَهَرَ أنَّ الَّذِي بينَ البَعْثةِ وآخِرِ مَن ماتَ مِن الصَّحَابَةِ مائةٌ وعِشرونَ سَنةً أو دُونَها أو فَوْقَها بقليلٍ على الاختلافِ فِي وفاةِ أَبِي الطُّفيلِ، وإنِ اعْتُبرَ ذَلِكَ مِن بعدِ وفاتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيكونُ مائةَ سَنةٍ أو تِسعينَ أو سبعةً وتِسعينَ، واقتضَى هَذَا الْحَدِيثُ أنْ تكونَ الصَّحَابَةُ أفضلَ مِن التَّابِعينَ، والتَّابعونَ أفضلَ مِن التَّابِعينَ، لكنْ هَذِهِ الأفضليَّةُ بالنِّسبةِ إِلَى المجموعِ أو الأفْرادِ؟ مَحَلُّ بحثِ. والأوَّلُ قولُ ابنِ عبدِ البَرِّ والثَّانِي قولُ الجمهورِ ؛ والظَّاهِرُ أنَّ مَن قَاتَلَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو فِي زَمَانِهِ بأمْرِه، أوْ أنفَقَ شيئاً مِن مالِهِ بِسبَبِه ِلا يَعْدلُهُ فِي الفضلِ أحدٌ بعدَه كَائناً مَن كَانَ، وأمَّا مَن لم يقعْ لَهُ ذَلِكَ فهُوَ مَحلُّ البَحْثِ.
واستدلَّ ابنُ عبدِ البَرِّ بحَدِيثِ: أُمَّتِي مِثْلُ الْمَطَرِ لاَ يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ؟ وهُوَ حَدِيثٌ حسنٌ لَهُ طُرقٌ قَدْ يَرتقِي بها إِلَى الصِّحَّةِ ؛ وروى أبو دَاوُدَ والتِّرْمِـذِيُّ مِن حَدِيثِ أَبِي ثَعلبةَ رَفَعَهُ: يأتي أيَّامٌ لِلْعامِلِ فِيهنَّ أجْرُ خَمْسينَ قِيلَ: مِنْهُمْ أو مِنَّا؟ قَالَ: بَلْ مِنْكُمْ، وهُوَ شاهِدٌ لحَدِيثِ " مَثَلُ أُمَّتِي مَثَلُ الْمَطَرِ "، واحتجَّ ابنُ عبدِ البَرِّ أيضاً بحَدِيثِ عُمَرَ رَفَعَهُ: أَفْضَلُ الْخَلْقِ إِيمَاناً قَوْمٌ فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ يُؤْمِنونَ بِي وَلَمْ يَرَوْنِي. أخرَجهُ الطَّيَالِسيُّ وغيرُه. لكنْ إسنادُه ضَعيفٌ فلا حُجَّةَ فيه.
وروى أَحْمَدُ والطَّبرانِيُّ والدَّارِميُّ من حَدِيثِ أَبِي جُمعةَ قَالَ: قَالَ أبو عُبَيْدَةَ: يا رَسُولَ اللهِ، أَحدٌ خيرٌ مِنَا؟ أَسْلَمْنا معكَ وجَاهَدْنا معكَ؟ قَالَ: قَوْمٌ يَكُونُونَ مِنْ بَعْدِكُمْ يُؤمِنُونَ بي ولَمْ يَرَوْنِي، وإسنادُه حسنٌ، وقَدْ صَحَّحَهُ الحاكمُ، واحتجَّ أيضاً بأنَّ السَّببَ فِي كونِ القرونِ الأُولى خيرَ القرونِ أنَّهُمْ كانوا غُرباءَ فِي إيمَانِهِمْ لِكثرةِ الكُفَّارِ حينئذٍ، وَصَبْرِهِم على أَذاهُم وتَمسُّكِهم بِدينِهم. قَالَ: وكذَلِكَ أواخِرُهم إذا أقَاموا الدين وتَمَسَّكُوا به وَصَبَروا على الطَّاعةِ عِندَ ظُهورِ المَعاصِي والفِتَنِ كانوا أيضاً عندَ ذَلِكَ غُرباءَ، وَزَكَت أعمالُهم فِي ذَلِكَ الزَّمانِ كما زَكَت أعمالُ أولئك.
ويَشْهدُ لَهُ ما رَوَى مُسْلِمٌ عَن أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعه: بَدَأَ الإسْلاَمُ غَرِيباً وَسَيعُودُ غَرِيباً كَمَا بَدَأَ فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ، وقَدْ تَعَقَّبَ ابْنُ عَبدِ البَرِّ بِأنَّ مُقتَضى كلامِه أنْ يكونَ فيمَنْ يأتِي بعدَ الصَّحَابَةِ مَن يكونُ أفضلَ مِن بعضِ الصَّحَابَةِ، وبذَلِكَ صرَّح القُرطُبِيُّ لكنْ كلامُ ابنِ عبدِ البَرِّ لَيْسَ على الإطْلاقِ فِي حقِّ جَميعِ الصَّحَابَةِ فإِنَّهُ صرَّحَ فِي كلامِه باستثناءِ أهلِ بدْرِ والحُديبيةِ مِنْهُمْ، والَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الجمهورُ أنَّ فَضيلةَ الصُّحبةِ لا يُعدُّ لها عملٌ لِمُشاهدةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأمَّا مَن اتَّفقَ لَهُ الذَّبُّ عَنْهُ والسَّبْقُ إِلَيْهِ بالهجْرَةِ أو النُّصرةِ وضَبْطِ الشَّرعِ المُتَلَقَّى عَنْهُ وَتَبْليغِه لِمَن بَعْدَه فإِنَّهُ لا يعدِلُهُ أحدٌ مِمَّنْ يأتي بعدَه ؛ لأنَّهُ عَمِلَ بها مِن بعدِهِ. فَظَهَرَ فَضْلُهم. ومحلُّ النِّزاعِ يَتمحَّضُ فيمَن لم يحصلْ لَهُ إلا مُجرَّدُ المُشاهدةِ كما تقَدَّمَ. فإنْ جُمِعَ بينَ مختلَفِ الأحاديثِ المذكورةِ كَانَ مُتَّجهاً على أنَّ الْحَدِيثَ: لِلْعَامِلِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ ؛ لا يدُلُّ على أفضليَّةِ غيرِ الصَّحَابَةِ ؛ لأنَّ مُجرَّدَ زيادَةِ الأجْـرِ لا يَستلزِمُ ثبوتَ الأفضليَّةِ المُطلَقةِ، وأيضاً فالأجرُ إنَّمَا يقعُ تفاضُلُهُ بالنِّسبةِ إِلَى ما يُماثِلُهُ فِي هَذَا العملِ، فأمَّا مَا فَازَ به مَن شَاهدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن زيادةِ فَضيلةِ المُشاهدةِ فلا يَعدِلُهُ فيها أحدٌ، فبهَذَا الطَّريقِ يُمكنُ تأويلُ الأحاديثِ المُتقدِّمةِ.
وقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَدَأَ الإِسْلاَمُ غَرِيباً ثُمَّ يَعُودُ غَرِيباً كَمَا بَدَأَ. وَيحتَمِلُ شَيئيْنِ: (أَحَدَهُما) أنَّهُ فِي أمكنةٍ وأزْمِنةٍ يعودُ غَريباً بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَظهرُ كما كَانَ فِي أوَّلِ الأمرِ غَريباً ثُمَّ ظَهَرَ، ولهَذَا قَالَ ((سيعودُ غَريباً كمَا بَدَأَ)) وهُوَ لَمَّا بَدَأَ كَانَ غَرِيباً لا يُعرَفُ، ثُمَّ ظَهَرَ وعُرِفَ فكذَلِكَ يعودُ حَتَّى لا يُعرفَ ثُمَّ يَظهرَ ويُعرفَ فَيقِلَّ مَن يَعرفُه فِي أثناءِ الأمرِ كما كَانَ مَن يَعرفُه أوَّلاً. ويحتملُ أنَّهُ فِي آخِرِ الدُّنيا لا يبْقَى مُسلماً إلا قَلِيلٌ.
وهَذَا إنَّمَا يكونُ بعدَ الدَّجَّالِ ويأجوجَ ومأجوجَ عندَ قُربِ السَّاعةِ ؛ وحينئذٍ يَبعثُ اللهُ رِيحاً تَقْبِضُ رُوحَ كلِّ مؤمِنٍ ومُؤمنةٍ ثُمَّ تقومُ القيامةُ، وأمَّا قبلَ ذَلِكَ فقَدْ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ وَلاَ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعُةُ، وهَذَا الْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ ومِثلُهُ مِن عدَّةِ أوْجُهٍ.
فقَدْ أخْبرَ الصَّادِقُ المَصْدُوقُ أنَّهُ لا تَزالُ طَائِفَةٌ مُمْتنعةً مِن أُمَّتِهِ على الحقِّ أَعِزَّاءَ لا يَضُّرُهم المُخالِفُ، ولا خلافُ الخَاذِلِ. فأمَّا بَقاءُ الإسْلاَمِ غَريباً ذَليلاً فِي الأرضِ كُلِّها قبلَ السّاعةِ فلا يكونُ هَذَا.
وقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَمَا بَدَأَ أَعْظَمَ مَا تَكُونُ غُرْبَتُهُ إِذَا ارْتَدَّ الدَّاخِلُونَ فيه عَنْهُ، وقَدْ قَالَ تَعَالَى: {مَنْ يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} فهؤلاء يُقيمُونه إذا ارْتَدَّ عَنْهُ أولئك. وكذَلِكَ بَدأَ غَريباً ولم يَزَلْ يَقْوى حَتَّى انتَشَرَ فهكذا يَتَقَرَّبُ فِي كثيرٍ مِن الأمْكنةِ والأزْمنةِ، ثُمَّ يَظهرُ حَتَّى يُقيمَهُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ كما كَانَ عُمَرُ بنُ عبدِ العزيزِ لَمَّا وَلِيَ، قَدْ تَغَرَّبَ كَثيرٌ مِن الإسْلاَمِ على كثيرٍ مِن النَّاسِ حَتَّى كَانَ مِنْهُمْ مَن لا يَعرفُ تَحريمَ الخَمْرِ. فَأظْهَرَ اللهُ به الإسْلاَمَ ما كَانَ غَريباً.
وفِي السُّننِ: إنَّ اللهَ يَبعثُ لهَذِهِ الأُمَّةِ فِي رأسِ كلِّ مائةِ سنةٍ مَن يُجدِّدُ لها دِينَها، والتَّجْديدُ إنَّمَا يكونُ بعدَ الدروسِ، وذاك هُوَ غُربةُ الإسْلاَمِ، وقَدْ تكونُ الغُربةُ فِي بعضِ شَرائِعهِ، وقَدْ يكونُ ذَلِكَ فِي بعضِ الأمْكِنةِ. ففِي كثيرٍ مِن الأمكنةِ يَخْفى عليهم مِن شَرائِعِه ما يَصيرُ غَريباً بَيْنَهُمْ لا يَعرفُه مِنْهُمْ إلا الواحدُ بعدَ الواحدِ.
ومَعَ هَذَا فَطُوبى لِمَن تَمَسَّكَ بتلك الشَّرِيعةِ كما أمَرَ اللهُ ورسولُهُ. فإنَّ إظْهارَه والأمرَ به والإنكارَ على مَن خَالفَه هي بِحَسبِ القُوَّةِ والأعوانِ، وقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَراً فَلْيُغَيِّرْهُ بِيدِهِ. فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ. فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ. لَيْسَ وراءَ ذَلِكَ مِن الإيمانِ حَبَّةُ خَردلٍ، والمقصودُ أنَّ للصَّحابةِ مِن الفضائلِ ما لَيْسَ لِمَن بَعدَهم. وأهلُ السُّنَّةِ يَقُولونَ: إنَّ أهلَ الجَنَّةِ لَيْسَ مِن شَرطِهم سَلَامتُهم عَن الخَطأِ، بَل ولا عَن الذَّنبِ. بَل يجوزُ أنْ يُذنبَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ ذَنباً صَغيراً أو كَبيراً ويتوبَ منه، وهَذَا مُتَّفقٌ عَلَيْهِ بينَ المُسْلِمِينَ ولو لم يَتبْ مِنه فالصَّغائرُ تُمْحَى باجتنابِ الكبائرِ عندَ جماهيرِهم، وعندَ الأكثرِين مِنْهُمْ أنَّ الكبائرَ تُمْحى بالحسناتِ التي هي أعظمُ منها وبالمصائبِ المُكَفِّرةِ وغيرِ ذَلِكَ.
وإذا كَانَ هَذَا أصلَهم فيَقُولونَ: ما ذُكِرَ عَن الصَّحَابَةِ مِن السَّيِّئاتِ كثيرٌ منه كَذبٌ، وكثيرٌ منه كانوا مُجتهدِين
فيه، ولكنْ لا يَعرِفُ كثيرٌ مِن النَّاسِ وَجْهَ اجْتهادِهم، وما قُدِّرَ أنَّهُ كَانَ فيه ذَنبٌ مِن الذُّنوبِ لهم فهُوَ مَغفورٌ لهم إِمَّا بِتوبةٍ، وإمَّا بحسناتٍ ماحِيةٍ، وإمَّا بِمصائبَ مُكفِّرةٍ، وإمَّا بِغيرِ ذَلِكَ فإنَّهُ قَدْ قامَ الدَّلِيلُ الَّذِي يَجبُ القولُ بِموجَبِه أنَّهُمْ من أهلِ الجَنَّةِ فامْتَنعَ أنْ يَفعلُوا ما يُوجبُ النَّارَ لا مَحالةَ، وإذا لَم يَمتْ أَحدُهم على مُوجَبِ النَّارِ لم يَقدحْ ما سِوَى ذَلِكَ فِي استحْقاقِهم لِلجَنَّةِ، ونحن قَدْ عَلِمنا أنَّهُمْ من أهلِ الجَنَّةِ، ولو لم يُعلمْ أنَّ أولئك المُعيَّنينَ فِي الجَنَّةِ لم يَجزْ لنا أنْ نَقدحَ فِي استحْقاقِهم للجَنَّةِ بأمورٍ لا نَعلمُ أنَّهَا تُوجِبُ النَّارَ. فإنَّ هَذَا لا يَجوزُ فِي آحَادِ الْمُؤْمِنينَ الَّذِينَ لم يُعلمْ أنَّهُمْ يَدخلونَ الجَنَّةَ، ولَيْسَ لنا أنْ نَشهدَ لأحدٍ مِنْهُمْ بالنَّارِ لأُمورٍ مُحتملَةٍ لا تدُلُّ على ذَلِكَ. فكيفَ يجوزُ ذَلِكَ فِي خيارِ الْمُؤْمِنينَ؟ ! والْعِلْمُ بتفاصيلِ أحوالِ كُلِّ واحدٍ مِنْهُمْ بَاطناً وظَاهراً، وحَسناتِه وسيِّئاتِه واجْتهاداتِه أمْرٌ يَتعذَّرُ علينا معْرِفتُه. فكَانَ كلامُنا فِي ذَلِكَ كَلاماً فيما لا نَعلَمُه، والكلامُ بِلا عِلمٍ حَرامٌ لو لم يَكُنْ فيه هَوًى ومُعارضةُ الحقِّ المعلومِ. فكيفَ إذا كَانَ كثيرٌ مِن الخوْضِ فِي ذَلِكَ أو أكْثرُه كَلاماً بلا عِلمٍ.

وهَذَا حرامٌ فلهَذَا كَانَ الإمساكُ عَمَّا شَجَرَ بينَ الصَّحَابَةِ خيراً مِن الخوْضِ فِي ذَلِكَ بغيرِ عِلمٍ بِحقيقةِ الأحوالِ. إذ كَانَ كثيرٌ مِن الخوضِ فِي ذَلِكَ أو أكْثرُه كَلاماً بلا عِلمٍ، وهَذَا حرامٌ لو لم يَكُنْ فيه هَوًى ومُعارضةُ الحقِّ المعلومِ فكيفَ إذا كَانَ كَلاماً لِهَوًى يُطلبُ فيه دَفعُ الحقِّ المعلومِ؟ وقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: قَاضِيانِ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ. رَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ وَقَضَى بِهِ. فهُوَ فِي الْجَنَّةِ، ورَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ وَقَضَى بِخِلَافِهِ فهُوَ فِي النَّارِ، ورَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فهُوَ فِي النَّارِ. فإذا كَانَ هَذَا فِي قضاءٍ بينَ اثْنينِ فِي قليلِ المَالِ أو كَثيرِه فكيفَ القضاءُ بينَ الصَّحَابَةِ فِي أمورٍ كثيرةٍ؟ فمَنْ تكَلَّمَ فِي هَذَا البابِ بِجهلٍ أو بِخلافِ ما يَعلمُ كَانَ مُستوجِباً للوعِيدِ. ولو تَكَلَّمَ بحقٍّ لِقصدِ الهَوى لا لوَجْهِ اللهِ تَعَالَى أو يُعارضُ به حقاًّ آخرَ لكَانَ أيضاً مُتوجِّباً للذَّمِ والعِقابِ.
ومَن عَلِم ما دلَّ عَلَيْهِ القرآنُ والسُّنَّةُ مِن الثَّناءِ على القومِ ورِضَا اللهِ عَنْهُمْ، واستحْقاقِهم الجَنَّةَ، وأنَّهُمْ خيرُ هَذِهِ الأُمَّةِ التي هي خيرُ أُمَّةٍ أُخرِجَت للنَّاسِ لم يُعارضْ هَذَا المُتيقَّنَ المعلومَ بأمورٍ مُشتبِهةٍ منها: ما لَا يُعلمُ صِحَّتُه، ومنها ما يَتَبيَّنُ كَذِبُه، ومِنها ما لاَ يُعلمُ كيفَ وَقَعَ، ومنها ما يُعلمُ عُذرُ القومِ فيه، ومنها ما يُعلمُ تَوبتُهم منه، ومنها ما يُعلمُ أنَّ لهم مِن الحسناتِ ما يَغمرُه، فَمَن سَلَكَ سَبِيلَ أهلِ السُّنَّةِ اسْتقامَ قولُهُ وكَانَ مِن أهلِ الحقِّ والاستقامةِ والاعتدالِ، وإلاَّ حَصلَ فِي جَهْلٍ ونَقْصٍ وتَناقُضِ حالِ كهؤلاء (الرَّوافِضِ) الضُلَّالِ. فإنَّ الذُّنوبَ مُطلقاً من جميعِ الْمُؤْمِنينَ هي سببُ العذابِ، لكنَّ العُقوبةَ بها فِي الآخِرةِ تَندفِعُ عَشرةَ أسبابٍ:
(الأوَّلُ) التَّوبَةُ. فإنَّ التَّائبَ مِن الذَّنْبِ كَمن لا ذَنْبَ لَهُ، والتَّوبَةُ مَقبولةٌ مِن جَمِيعِ الذُّنوبِ، وعُثْمَانُ بنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ تابَ توبةً ظَاهرةً مِن الأمورِ التي صَاروا يُنكرِونها ويَظهرُ لَهُ أنَّهَا مُنكرٌ، وهَذَا مأثورٌ مَشهورٌ عَنْهُ، وكذَلِكَ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا نَدِمت على مَسيرِها إِلَى البَصْرةِ، وكَانَتْ إذا ذَكَرَتْه تَبْكي حَتَّى تَبلَّ خِمارَها، وكذَلِكَ طَلْحَةُ نَدِم على ما ظَنَّ مِن تَفْريطِه فِي نَصْرِ عُثْمَانَ وعَلَى غيرِ ذَلِكَ، والزُّبَيْرُ نَدِم على مسيرةِ يومِ الجَملِ، وعَلِيُّ بْنُ أَبِي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ نَدِم على أمورٍ فَعَلَها مِن القتالِ وغيرِه وكَانَ يقولُ:

قَدْ عَجَزْت عَجزةً لا أعْتَذِرُ سوفَ أُكيسُ بَعدَها وَأسْتمِرْ

وأجمعُ الرَّأْيَ الشَّتِيتَ المُنْتشِرْ

وكَانَ يقولُ ليالِيَ صِفِّينَ: للهِ دَرُّ مَقامٍ قَامَه عبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ وسعدُ بنُ مالكٍ إنْ كَانَ بَراًّ إنَّ أجرَه لَعَظيمٌ، وإنْ كَانَ آثِماً إنَّ خَطرَه لَيسِيرٌ وكَانَ يقولُ: يا حْسِنْ يَا حَسَنُ ما ظَنَّ أبوك أنَّ الأمرَ يَبلغُ إِلَى هَذَا، وَدَّ أبوك لو مَاتَ قبلَ هَذَا بِعشرينَ سَنَةً، ولَمَّا رَجعَ مِن صِفِّينَ تَغيَّرَ كلامُه وكَانَ يقولُ: لا تَكْرَهوا إمَارةَ مُعاوِيَةَ فلو قَدْ فَقَدْتموه لَرأيتُم الرُّؤوسَ تَتطايرُ عَن كَواهِلِها، وَتَواترتِ الآثارُ بِكراهتِهِ الأحوالَ فِي آخِرِ الأمْرِ ورؤيتِهِ اختلافَ النَّاسِ وتَفرُّقِهم وكثرةِ الشَّرِّ الَّذِي أوجبَ أنَّهُ لو اسْتقبلَ مِن أمْرِه ما اسْتدبَرَ ما فَعَل ما فَعلَ.

وبالجُمْلةِ لَيْسَ علينا أنْ نَعرفَ أنَّ كُلَّ واحدٍ تَابَ ولكنْ نعلَمُ أنَّ التَّوبَةَ مَشروعةٌ لكلِّ عَبدٍ للأنبياءِ ولِمَنْ دونَهم وأنَّ اللهَ سُبحَانَهُ يَرفعُ عَبدَهُ بالتَّوبَةِ وإذا ابْتلاهُ مِمَّا يَتوبُ منه فالمقصودُ كمالُ النهايةِ لا نقصُ البدايةِ.

(الثَّانِي) الاستغفارُ فإنَّ الاستغفارَ هُوَ طلبُ المغفرةِ وهُوَ مِن جِنسِ الدُّعاءِ والسُّؤالِ وهُوَ مقرونٌ بالتَّوبَةِ فِي الغالبِ ومأمورٌ به لكنْ قَدْ يتوبُ الإنسانُ ولا يَدْعو وقَدْ يَدْعو ولا يَتوبُ. والتَّوبَةُ تَمحُو جميعَ السَّيِّئاتِ ولَيْسَ شيءٌ يَغفِرُ جميعَ الذُّنوبِ إلا التَّوبَةُ، وأمَّا الاستغفارُ بدونِ التَّوبَةِ فهَذَا لا يَستلزمُ المغفرةَ ولكنْ هُوَ سببٌ مِن الأسبابِ.

(الثَّالِثُ) الأعمالُ الصَّالحةُ. فإنَّ اللهَ تَعَالَى يقولُ: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ} وفِي الصَّحِيحِ عنْهُ أنَّهُ قَالَ: الصَّلَواتُ الْخَمْسُ وَالْجُمُعةُ إِلَى الْجُمُعُةِ وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ. ولَيْسَ كلُّ حسنةِ تَمحُو كُلَّ سَيِّئةٍ بَل المحوُ يكونُ للصَّغائرِ تَارةً، ويكونُ للكَبائرِ تَارةً باعتبارِ الموازَنةِ، والنَّوعُ الواحدُ مِن العملِ قَدْ يَفعلُهُ الإنسانُ على وَجْهٍ يكْمُلُ فيه إخْلاصُه وعُبودِيَّتِه للهِ فَيغفرُ لَهُ به كبائرَ. والمقصودُ هنا أنَّ اللهَ سُبحَانَهُ مِمَّا يَمْحو به السَّيِّئاتِ الحسناتِ، وإنَّ الحسناتِ تَتفاضلُ بِحسبِ ما فِي قلبِ صاحبِهَا مِن الإيمانِ والتَّقْوى وحينئذٍ فَيُعرفُ أنَّ مَن هُوَ دونَ الصَّحَابَةِ قَدْ تكونُ لَهُ حسناتٌ تَمحو مِثلَ ما يُذَمُّ مِن أحدِهِم. فكيفَ الصَّحَابَةُ؟

(الرَّابعُ) الدُّعاءُ للمُؤْمِنين فإنَّ صلاةَ الْمُؤْمِنينَ ودُعاءَهم لَهُ مِن أسبابِ المغفرةِ وكذَلِكَ دُعاؤُهم واستغفارُهُم فِي غيرِ صلاةِ الجنازةِ، والصَّحَابَةُ ما زالَ المُسْلِمونَ يَدْعون لهم.

(الخَامِسُ) دعاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واستغفارُه فِي حياتِه وبعدَ مماتِه كَشفاعَتِه يومَ القيامةِ فإِنَّهُم أخصُّ النَّاسِ بِدعائِه وشَفاعَتِه فِي مَحْياه ومَماتِه.

(السَّادِسُ) ما يُفعلُ بعدَ الموتِ مِن عملٍ صالحٍ يُهْدَى لَهُ مِثلَ مَن يَتصدَّقُ عَنْهُ ويَحُجَّ عَنْهُ ويصومَ عَنْهُ فقَدْ ثَبَتَ فِي الأحاديثِ الصَّحِيحَةِ أنَّ ذَلِكَ يَصلُ إِلَى الميِّتِ ويَنفعُه. وهَذَا غيرُ دعاءِ وَلدِه فإنَّ ذَلِكَ مِن عَملِهِ ؛ بخلافِ دُعاءِ غيرِ الولدِ فإنَّهُ لَيْسَ مَحسوباً مِن عملِهِ واللهُ ينفعُه به.

(السَّابِعُ) المْصائِبُ الدُّنيويِّةُ التي يُكفِّرُ اللهُ بها الخطَايا ؛ كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ قَالَ: الْمُؤْمِنُ مَنْ وَصَبَ وَلاَ نَصَبَ ولاَ غَمَّ وَلاَ حَزَنَ ولا أذَى حَتَّى الشَّوْكَةُ يُشاكَها إلاَّ كَفَّرَ اللهُ بها مِن خَطايَاه.

وهَذَا المْعَنى مُتواترٌ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أحاديثَ كثيرةٍ والصَّحَابَةُ رُضْوانُ اللهِ عليهم كانوا يُبْتلونَ بالمصائِبِ الخَاصَّةِ وابْتُلوا بِمصائبَ مُشتركةٍ كالمَصائبِ التي حَصَلَتْ فِي الفِتَنِ ولو لم يَكُنْ إلا أنَّ كَثيراً مِنْهُمْ قُتِلوا والأحياءَ أُصِيبوا بِأَهلِيهم وأقَارِبِهم وهَذَا أُصيبَ فِي مالِهِ وهَذَا أُصيبَ بِجراحَتِه وهَذَا أُصيبَ بِذَهَابِ وِلايتِه وعِزِّه إِلَى غيرِ ذَلِكَ فهَذِهِ كُلُّها مِمَّا يُكفِّرُ اللهُ بها ذُنوبَ الْمُؤْمِنينَ مِن غيرِ الصَّحَابَةِ فكيفَ الصَّحَابَةُ؟ وهَذَا مِمَّا لا بُدَّ منه والمقصودُ أنَّ الفِتنَ التي بينَ الأُمَّةِ والذُّنوبَ التي لها بعدَ الصَّحَابَةِ أكْثرُ وأعظمُ ومَعَ هَذَا فُمُكفِّراتُ الذُّنوبِ مَوجودةٌ لهم. وأمَّا الصَّحَابَةُ فَجُمهورُهم وجمهورُ أفَاضِلِهم ما دَخَلُوا فِي الفِتنةِ. قَالَ مُحَمَّدُ بنُ سِيرينَ: هَاجَتِ الفِتنةُ وأصْحابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشرةُ آلافٍ ما حَضَرَ مِنْهُمْ مائةٌ بَل لم يَبْلُغوا ثَلاثِينَ.

(الثَّامِن) ما يُبتَلى به المُؤمِنُ فِي قبْرِه مِن الضَّغْطَةِ وفِتْنةِ المَلَكَيْنِ.

(التَّاسِعُ) ما يَحصلُ فِي الآخِرَةِ مِن أهوالِ يومِ القيامةِ.

(العَاشرُ) ما ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: أنَّ الْمُؤْمِنينَ إذا عَبَروا الصِّراطَ وَقَفوا على قَنْطرةٍ بينَ الجَنَّةِ والنَّارِ فُيقتَصُّ لِبَعْضِهمْ مِن بعضٍ. فإذا هُذِّبوا وَنُقُّوا أُذِنَ لهم فِي دخولِ الجَنَّةِ.

فهَذِهِ الأسبابُ لا تفوتُ كُلُّها مِن الْمُؤْمِنينَ إلا القليلَ فكيفَ بالصَّحَابَةِ رُضوانُ اللهِ عليهم الَّذِينَ هم خيرُ قرونِ الأُمَّةِ؟! وهَذَا فِي الذُّنوبِ المُحَقَّقةِ فكيفَ بما يَكذِبُ عليهم؟ ! فكيفَ بِما يُجعلُ مِن سَيِّئاتِهم وهُوَ مِن حَسَناتِهم، وهَذَا كما ثَبَت فِي الصَّحِيحِ أنَّ رَجُلاً أرادَ أنْ يَطعَنَ فِي عُثْمَانَ عندَ ابنِ عُمَرَ فقَالَ: إنَّهُ فَرَّ يومَ أُحُدٍ ولم يَشهدْ بَدراً، ولم يَشهدْ بَيعةَ الرُّضوانِ فقَالَ ابنُ عُمَرَ:

أمَّا يومُ أُحُدٍ فإنَّ اللهَ عَفا عَنْهُ، وفِي لفظٍ: فَرَّ يومَ أُحدٍ فعَفَا اللهُ عَنْهُ وأذْنبَ عندَكم فلم تَعْفـوا عَنْهُ، وأمَّا يومُ بدرٍ: فإنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتخلَفَه على ابنَتِه وضَربَ لَهُ بِسهمِه. وأمَّا بيعةُ الرُّضـوانِ: فإنَّمَا كَانَتْ بسببِ عُثْمَانَ فإنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعثه إِلَى مكَّةَ وبَايعَ عَنْهُ بيدِه، ويدُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خيرٌ مِن يدِ عُثْمَانَ.

فقَدْ أجابَ ابنُ عُمَرَ: بأن ما تَجعلُونَه عَيْباً فقَدْ عَفا اللهُ عَنْهُ، والباقِي لَيْسَ بِعيبٍ بَل هُوَ مِن الحسناتِ، وهكذا عامَّةُ ما يُعابُ به الصَّحَابَةُ هُوَ إمَّا حَسنةٌ وإمَّا مَعفوٌّ عَنْهُ.

وفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عمرِو بنِ العاصِ أنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ: إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ. وفِيهما مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ونحوُه:((والنَّاسُ مُتنازِعونَ هَل يُقَالُ: كلُّ مُجتهدٍ مُصِيبٌ؟ أمِ المُصِيبُ واحدٌ؟ وفَصلُ الخِطَابِ أنَّهُ إنْ أُريدَ بالمُصِيبِ المُطيعُ للهِ ورسولِهِ فكلُّ مُجتهدٍ اتَّقَى اللهَ ما استطاعَ فهُوَ مُطيعٌ للهِ ورسولِهِ. فإنَّ اللهَ لا يُكلِّفُ نَفساً إلا وُسعَها، وهَذَا عاجِزٌ عَن مَعرفةِ الحقِّ فِي نفسِ الأمرِ فَسَقَطَ عَنْهُ. وإنْ عُنِيَ بالمُصِيبِ العَالِمُ بحُكْمِ اللهِ فِي نفسِ الأمرِ فالمُصِيبُ لَيْسَ إلا واحِداً فإنَّ الحقَّ فِي نفسِ الأمرِ واحدٌ وهَذَا كالمُجتهدِين فِي القِبْلةِ إذا أفضَى اجتهادُ كلِّ واحدٍ مِنْهُمْ إِلَى جهةٍ فكلٌّ مِنْهُمْ مُطيعٌ للهِ ورسولِهِ، والفَرضُ سَاقِطٌ عَنْهُ بصلاتِه إِلَى الجِهةِ التي اعتقَدَ أنَّهَا الكعبةُ ولكنَّ العالِمَ بالكعبةِ المُصَلِّي إليها فِي نفسِ الأمْرِ واحدٌ، وهَذَا قَدْ فَضَّلَهُ اللهُ بالْعِلْمِ والقُدْرةِ على معرفةِ الصَّوابِ والعملِ به فَأجْرُه أعظمُ.

كما أنَّ الْمُؤْمِنَ القَوِيَّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِِ، وَفِِي كُلٍّ خَيْرٌ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِه عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهكذا يُقَالُ فيما شَجَرَ بينَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ فكُلُّهم مُجتهِدونَ مُثابونَ على اجتهادِهم).