11 Nov 2008
أهل السنة لا يسلبون الفاسق المِلِّيِّ اسم الإيمان بالكلية
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وَلاَ يَسْلِبُونَ الْفَاسِقَ الْمِلِّي اسْمَ الإِيمَانِ بِالْكُلِّيَّةِ ، وَلاَ يُخَلِّدُونَهُ فِي النَّارِ كَمَا تَقُولُهُ الْمُعتْزَلِةُ ، بَل الْفَاسِقُ يَدْخُلُ فِي اسْمِ الإِيمَانِ كَمَا فِي مثل قَوْلِِهِ تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النِّسَاءِ: 92]، وَقَدْ لا َيَدْخُلُ فِي اسْمِ الإِيمَانِ المُطْلَقِ كَمَا فِي قَوْلِهِ – تَعَالَى- : {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}[الأَنْفَالِ: 2] ، وقولِ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ((لاَ يَزْنِي الزَّاني حِينَ يَزْني وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، وَلاَ يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وهو مؤمِنٌ ، وَلاَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُها وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، وَلاَ يَنْتَهِبُ نُهْبَةً ذَاتَ شَرَفٍ يَرْفَعُ النَّاسُ إِلِيْهِ فِِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ)) وَيقولون : هُوَ مُؤْمِنٌ نَاقِصُ الإِيمَانِ ، أَوْ مُؤْمِنٌ بِإِيمَانِهِ ، فَاسِقٌ بِكَبِيرَتِهِ ، فَلاَ يُعْطَى الاسْمَ الْمُطْلَقَ ، وَلاَ يُسْلَبُ مُطْلَقَ الاسْمِ).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ مُحمَّد خَليل هَرَّاس رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): ( (وَلاَ يَسْلُبُونَ الفَاسِقَ المِلِّيَّ [ الإِسْلاَمَ ] بالكُلِّيَّةِ،
ولا يُخَلِّدونَهُ في النَّارِ؛ كَما تَقُولُ المُعْتَزِلَةُ.
بَلِ الفَاسِقُ يَدْخُلُ في اسْمِ الإِيمانِ؛ كَما في قَوْلِهِ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمنَةٍ}.
وَقَدْ لاَ يَدْخُلُ في اسْمِ الإِيمانِ المُطْلَقِ؛ كَمَا في قَولِهِ تَعالى: {إِنَّمَا المُؤمِنُونَ الَّذينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتَهُمْ إِيْمانًا}، وقولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لاَ
يَزْني الزَّاني حينَ يَزْني وهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَسْرِقُ السَّارِقُ
حينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَشْرَبُ الخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا
وَهُوَ مُؤْمِنٌ، ولا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً ذَاتَ شَرَفٍ يَرْفَعُ النَّاسُ
إِليهِ فِيها أَبْصارَهُمْ حِيْنَ يَنْتَهِبُها وَهُوَ مُؤمِنٌ)).
[ ونقولُ ]: هو مؤمِنٌ ناقِصُ الإِيمانِ، أَو
مؤمِنٌ بإِيمانِهِ فَاسِقٌ بِكَبيرَتِهِ، فَلاَ يُعْطَى الاسْمَ
المُطْلَقَ، ولا يُسْلَبُ مُطْلَقَ الاسمِ)(1) ).
الشرح:
قال الشيخ محمد خليل هراس (ت: 1395هـ): ( (1)
وأَمَّا الفاسِقُ المِلِّيُّ الذي يرتكبُ بعضَ الكبائرِ معَ اعتقادِهِ
حُرْمَتَهَا؛ فأهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ لا يَسْلِبُونَ عنهُ اسمَ
الإِيمانِ بالكُلِّّيَّةِ، ولا يُخَلِّدُونَهُ في النَّارِ؛ كمَا تقولُ
المُعتزِلَةُ والخوارِجُ، بلْ هوَ عندَهُمْ مؤمنٌ ناقصُ الإِيمانِ، قدْ
نَقَصَ مِنْ إيمانِهِ بقدْرِ معصيتِهِ، أوْ هُوَ مُؤْمِنٌ فاسِقٌ، فلا
يُعْطونَهُ اسمَ الإِيمانِ المُطْلَقِ، ولا يَسْلُبُونَهُ مُطْلَقَ
الإِيمانِ.
وأدلَّةُ الكتابِ والسُّنَّةِ دالَّةٌ على ما
ذَكَرَهُ المُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللهُ مِنْ ثُبُوتِ مُطْلَقِ الإِيمانِ مَعَ
المعصيةِ؛ قالَ تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنْوا لا تتَّخِذوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أوَّلياءَ }. فَنَادَاهُمْ باسمِ الإِيمانِ، مَعَ وجودِ المعصيَةِ، وهيَ مَوَالاَةُ الكُفَّارِ مِنْهُمْ … إلخ.
فائِدَةٌ:
الإِيمانُ والإِسلامُ الشَّرعيَّانِ مُتَلاِزِمَانِ
في الوجودِ، فلا يُوجَدُ أحدُهُمَا بدونِ الآخَرِ، بَلْ كُلََّمَا وُجِدَ
إيمانٌ صحيحٌ مُعْتَدٌّ بهِ؛ وُجِدَ معهُ إسلامٌ، وكذلكَ الْعَكْسُ، ولهذا
قدْ يُسْتَغْنى بِذِكْرِ أَحَدِهِمَا عَنِ الآخَرِ؛ لأنَّ أَحَدَهُمَا إذَا
أُفرِدَ بالذِّكْرِ؛ دَخَلَ فيهِ الآخرُ، وأَمَّا إذَا ذُكِرَا معًا
مُقْتَرِنَيْنِ؛ أُريدَ بالإِيمانِ التَّصديقُ والاعتقادُ، وأُريدَ
بالإِسلامِ الانقيادُ الظَّاهِرِيُّ مِنَ الإِقرار باللِّسانِ وعَمَلِ
الجَوَارِحِ.
ولكنْ هذا بالنَّسبةِ إلى مُطْلَقِ الإِيمانِ،
أَمَّا الإِيمانُ الْمُطْلَقُ؛ فهوَ أخصُّ مُطْلَقًا مِنَ الإِسلامِ، وقَدْ
يوجدُ الإِسلامُ بدونِهِ؛ كمَا في قولِهِ تعالَى: {قالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولوا أَسْلَمْنَا}، فأخبرَ بإسلامِهِمْ مَعَ نَفْيِ الإِيمانِ عنهُمْ. وفي حديثِ جبريلَ ذِكْرُ المراتبِ الثَّلاَثِ: الإِسلامُ، والإِيمانُ، والإِحسانُ، فَدَلَّ على أنَّ كلاً منهَا أخصُّ مِمَّا قبلَهُ).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ: صالح بن فوزان الفوزان
قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: (وقولُه: (وَلا يَسلُبونَ الفاسِقَ الملِّيَّ الإسلامَ بالكُلِّيَّةِ، ولا يُخلِّدُونه في النَّارِ كما تقولُه المعتزلِةُ) أيْ: ومِن أصولِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ أنَّهم (لا يَسلُبون) أيْ: لا يَنْفُونَ عن (الفاسِقِ)
الفِسقُ: هُوَ الخروجُ عن طاعةِ اللَّهِ، والمرادُ بالفاسِقِ هنا الذي
يَرتكِبُ بعضَ الكبائِرِ كشُربِ الخمرِ والزِّنا والسَّرِقةِ مع اعتقادِ
حُرمةِ ذَلِكَ. (الملِّيِّ) أيْ: الذي على
مِلَّةِ الإسلامِ، ولم يَرتكِبْ مِن الذُّنوبِ ما يُوجِبُ كُفرَه، فأهلُ
السُّنَّةِ والجَماعةِ لا يَسلُبونَه الإسلامَ بالكلِّيَّةِ، فيَحكمونَ
عليه بالكفرِ كما تقولُه الخوارجُ في الدُّنيا (ولا يُخَلِّدُونَه في النَّارِ) أيْ: يَحكمونَ عليه بالخُلودِ في النَّارِ في الآخرةِ، وعدمِ خروجِه منها إذا دخَلَها (كما تقولُه المعتزِلةُ)
والخوارِجُ، فالمعتزلِةُ يَروْنَ أنَّ الفاسِقَ لا يُسمَّى مسلِماً ولا
كافِراً بل هُوَ عندهم بالمَنْزِلةِ بَيْنَ المَنْزِلَتَيْنِ هَذَا حُكمُه
عندهم في الدُّنيا، وأمَّا حُكمُه عندهم في الآخرةِ فَهُوَ مخلَّدٌ في
النَّارِ. والأدلَّةُ على بُطلانِ هَذَا المذهبِ كثيرةٌ، وقد مَرَّ بعضُها،
وسيأتي ذِكْرُ بَقِيَّتِها.
ثم بيَّنَ الشَّيخُ رَحِمَهُ اللَّهُ الحُكمَ الصَّحيحَ الذي يَنطبِقُ على
الفاسِقِ الملِّيِّ مؤيَّداً بأدِلَّتِه مِن الكِتابِ والسُّنَّةِ، فقال: (بل الفاسِقُ يدخُلُ في اسمِ الإيمانِ المطلَقِ) أيْ: مطلَقِ الإيمانِ الذي يدخُلُ فيه الإيمانُ الكامِلُ والإيمانُ النَّاقِصُ، كما في قولِه: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمنَةٍ}
فإنَّ مَن أعتَقَ رقبةً مؤمنةً، وإنْ كان المُعْتَقُ فاسِقا، فيما
يُشترَطُ فيه إيمانُ الرَّقبةِ المعتَقةِ, ككفَّارةِ الظِّهارِ والقتلِ،
أجْزَأه ذَلِكَ العِتقُ باتِّفاقِ العُلماءِ؛ لأنَّ ذَلِكَ يدْخُلُ في
عمومِ الآيةِ، وإنْ لم يكُنْ المُعتِقُ مِن أهلِ الإيمانِ الكامِلِ.
وقولُه: (وقد لا يدخُلُ) أيْ: الفاسِقُ الملِّيُّ (في اسمِ الإيمانِ المطلَقِ) أي إذا أُريدَ بالإيمانِ الإيمانُ الكامِلُ، كما في قولِه تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}
الآيةَ؛ لأنَّ المرادَ بالإيمانِ المذكورِ في الآيةِ الكريمةِ الإيمانُ
الكاملُ، فلا يدخُلُ فيه الفاسقُ؛ لأنَّ إيمانَه ناقصٌ. ولنَرْجِعْ إلى
تفسيرِ الآيةِ الكريمةِ: {إنما} أداةُ حَصْرٍ تُثْبتُ الحُكمَ للمَذكورِ وتَنفِيه عمَّا سِواه {الْمُؤْمِنُونَ} أي الإيمانَ الكاملَ {إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ} أيْ: ذُكِرَتْ عظمَتُه وقُدرَتُه وما خوَّفَ به مَن عَصاهُ {وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} أي: خافَتْ {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ} أيْ: قُرئَتْ آياتُه المنزَّلَةُ أو ذُكِرَتْ آياتُه الكونيَّةُ {زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} أي زادَ إيمانُهم بسببِ ذَلِكَ {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أيْ: يُفَوِّضونَ جميعَ أمُورِهم إليه لا إلى غيرِه.
ثم ذَكَرَ الشَّيخُ دليلاً مِن السُّنَّةِ على أنَّ الفاسِقَ المِلِّيَّ لا
يدخُلُ في اسمِ الإيمانِ الكاملِ، وَهُوَ قولُه صلى اللهُ عليه وسلم ((لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ.. الخ))
أيْ كامِلُ الإيمانِ، فالمَنفِيُّ هنا عن الزَّانِي والسَّارِقِ
والشَّارِبِ هُوَ كمالُ الإيمانِ لا جميعُ الإيمانِ، بدليلِ الإجماعِ على
تَورِيثِ الزَّاني والسَّارِقِ وشَارِبِ الخمرِ. فقد دَلَّ الحديثُ على
أنَّ هؤلاءِ حين فِعلِهم المعصيةَ قد انْتَفى الإيمانُ الكاملُ عنهم، وقد
دلَّت النُّصوصُ الكثيرةُ مِن الكِتابِ والسُّنَّةِ على أنَّهم غيرُ
مرتَدِّينَ بذَلِكَ، فعُلِمَ أنَّ الإيمانَ المنفِيَّ في هَذَا الحديثِ
إنَّما هُوَ كمالُ الإيمانِ الواجِبِ.
وقولُه: ((وَلاَ يَنْتَهِبُ نُهْبَةً ذَاتَ شَرَفٍ..الخ)) النُّهْبَةُ بضَمِّ النُّونِ هِيَ الشَّيءُ المَنْهوبُ ـ والنَّهْبُ: أخذُ المالِ بالغلَبةِ والقهْرِ ((ذَاتَ شَرَفٍ)) أي قَدْرٍ، وقيل: ذاتَ استِشرافٍ يَستشرِفُ النَّاسُ إليها ناظرِينَ إليها رافِعينَ أبصارَهم.
ثم إنَّ الشَّيخَ رَحِمَهُ اللَّهُ ذَكَرَ النَّتيجةَ للبحثِ السَّابقِ، واستخلَصَ الحُكمَ بقولِه في حقِّ الفاسِقِ المِلِّيِّ: (ونقولُ: هُوَ مؤمنٌ ناقصُ الإيمانِ أو مؤمنٌ بإيمانِه فاسقٌ بكَبيرَتِه) وهَذَا هُوَ الحُكمُ العادِلُ جَمْعاً بَيْنَ النُّصوصِ التي نَفَتِ الإيمانَ عنه كحديثِ: ((لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ)) والنُّصوصِ التي أَثبتَت الإيمانَ له؛ كآيةِ القِصاصِ، وآيةِ حُكمِ البُغاةِ السَّابِقتَيْنِ، وبِناءً على ذَلِكَ (فلا يُعطَى الاسمَ المطْلَقَ) أي، اسمَ الإيمانِ الكاملِ (ولا يُسلَبُ مطلَقَ الاسمِ)
أي: الإيمانَ النَّاقِصَ. فيُحكمُ عليه بالخروجِ مِن الإيمانِ كما تقولُه
المعتزِلةُ والخوارجُ. واللَّهُ أَعْلَمُ. فالإيمانُ المطلَقُ هُوَ
الإيمانُ الكاملُ. ومُطلَقُ الإيمانِ هُوَ الإيمانُ النَّاقِصُ).
التنبيهات السنية للشيخ: عبد العزيز بن ناصر الرشيد رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): ( (وَلاَ يَسْلُبُونَ الفَاسِقَ المِلِّيَّ [ الإِسْلاَمَ ] بالكُلِّيَّةِ،
ولا يُخَلِّدونَهُ في النَّارِ؛ كَما تَقُولُ المُعْتَزِلَةُ.(1)
بَلِ الفَاسِقُ يَدْخُلُ في اسْمِ الإِيمانِ المطلق؛ كَما في قَوْلِهِ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمنَةٍ} وَقَدْ لاَ يَدْخُلُ في اسْمِ الإِيمانِ المُطْلَقِ؛ كَمَا في قَولِهِ تَعالى: {إِنَّمَا المُؤمِنُونَ الَّذينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتَهُمْ إِيْماناً}.( 2)
وقولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( لاَ
يَزْني الزَّاني حينَ يَزْني وهُو مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَسْرِقُ السَّارِقُ
حينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَشْرَبُ الخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا
وَهُوَ مُؤْمِنٌ، (3) ولا يَنْتَهِبُ نَهْبَةً ذَاتَ شَرَفٍ يَرْفَعُ النَّاسُ إِليهِ فِيها أَبْصارَهُمْ حِيْنَ يَنْتَهِبُها وَهُوَ مُؤمِنٌ )).
[ ونقولُ ]: هو مؤمِنٌ ناقِصُ الإِيمانِ، أَو مؤمِنٌ بإِيمانِهِ فَاسِقٌ
بِكَبيرَتِهِ، فَلاَ يُعْطَى الاسْمَ المُطْلَقَ، ولا يُسْلَبُ مُطْلَقَ
الاسمِ).(4)).
الشرح:
قال الشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد (ت: 1408هـ): ((1) قولُه: (الفاسِقَ)
الفِسقُ لغةً: الخروجُ عن الاستقامةِ والجَوْرُ، وبِهِ سُمِّيَ الفاسِقُ
فاسِقاً، وشَرْعا: الفاسِقُ مَن فَعَلَ كبيرةً أوْ أَصرَّ على صغيرةٍ ويَنْقَسِمُ إلى قسمَيْنِ:
الأوَّلُ: فِسقُ اعتقادٍ كالرَّفضِ والاعتزالِ ونحوِهما.
الثَّاني: فِسقُ عملٍ كالزِّنا واللُّواطِ وشُربِ الخمرِ ونحوِ ذَلِكَ.
قولُه: (المِلِّيَّ) أي:
الذي على مِلَّةِ الإسلامِ ولم يرتكِبْ مِن الذُّنوبِ ما يُوجِبُ كُفرَه،
فأهلُ السُّنَّةِ والجَماعَةِ متَّفِقون كُلُّهم على أنَّ مرتكِبَ الكبيرةِ
لا يُكفَّرُ كُفْراً يَنْقُلُ عن المِلَّةِ بالكُلِّيَّةِ، وعلى أنَّه لا
يَخرُجُ مِن الإيمانِ والإسلامِ، ويَدخُلُ في الكُفرِ، ومتَّفِقون على
أنَّه لا يستحِقُّ الخلودَ مع الكافرين، وأنَّ مَن ماتَ على التَّوحيدِ فلا
بدَّ له مِن دخولِ الجَنَّةِ، خِلافًا للخَوارِجِ والمعتزِلةِ، فإنَّ
الخوارجَ أَخرجوهم مِن الإيمانِ وحَكموا عليهم بالخلودِ في النَّارِ،
والمعتزِلةُ وافَقوا الخوارجَ في الحُكمِ عليهم في الآخرةِ دُونَ
الدُّنْيَا، فلم يَستَحِلُّوا منهم ما استحَلَّتْه الخوارجُ، وأمَّا في
الأسماءِ فأَحدَثوا المنـزلةَ بين المنـزلتَيْنِ، وَهَذِهِ خاصيَّةُ
المعتزِلةِ التي انْفَرَدوا بها، وسائرُ أقوالِهم قد شارَكهم فيها غيرُهم،
وهَذَا الخلافُ فيما ذُكِرَ أوَّلُ خلافٍ حَدَثَ في المِلَّةِ.
قال ابنُ عبدِ الهادي في مَناقِبِ الشَّيخ تَقيِّ
الدِّينِ: أوَّلُ خلافٍ حَدَثَ في المِلَّةِ في الفاسِقِ المِلِّيِّ هَلْ
هُوَ كافرٌ أو مؤمنٌ، فقالت الخوارجُ: إنه كافرٌ، وقالت الجماعةُ: إنَّه
مؤمنٌ، وقالت طائفةُ المعتزِلةِ: هُوَ لا مؤمنٌ ولا كافرٌ، منْزِلةٌ بين
المَنْزِلتَيْنِ وخلَّدُوه في النَّارِ، واعتزلوا حَلْقةَ الحسَنِ
البَصْريِّ فسُمُّوا معتزلةً. اهـ.
والأدِلَّةُ على بطلانِ مذهبِ الخوارجِ والمعتزِلةِ كثيرةٌ جِداًّ، وقد تقدَّمَ ذِكرُ بعضِها كقولِه تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ}، وكقولِه: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ}
فسمَّاهُم مؤمِنيَن مع وجودِ القتلِ والاقتتالِ، وسمَّاهم إخوةً مع وجودِ
ذَلِكَ، والمرادُ إخوةُ الدِّينِ كما تقدَّمَ، وقد تقدَّمَ ذِكرُ انقسامِ
المؤمنينَ إلى ثلاثةِ أقسامٍ سابِقِينَ ومقتَصِدِينَ وظالِمينَ لأنْفُسِهم.
وقد تواتَرَ في الأحاديثِ: ((أَخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَفِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ))، وحديثِ ((الإِيمَانُ
بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً فَأَعْلاهَا قَوْلُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ
اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ
شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ))، فعُلِمَ أَنَّ الإيمانَ يَقبلُ
التَّبعِيضَ والتَّجزِئةَ، وأنَّ قليلَه يَخرُجُ بِهِ صاحبُه مِن النَّارِ
إنْ دَخَلَها، وأيضاً فلو كانَ العاصِي كافِراً كفراً يَنْقُلُ عن الملَّةِ
بالكُلِّيَّةِ لكان مُرتداًّ ولا يُقبلُ عَفْوُ وليِّ القِصاصِ، ولا تُجرى
الحُدودُ في الزِّنا وَالسَّرِقَةِ وشُربِ الخمرِ، وهَذَا القولُ معلومٌ
بطلانُه وفسادُه بالضَّرورةِ مِن دينِ الإسلامِ، ونُصوصُ الكِتابِ
والسُّنَّةِ والإجماعِ تدلُّ على أَنَّ الزَّانِيَ والسَّارِقَ وشارِبَ
الخمرِ والقاذِفَ لايُقتلُ بل يُقامُ عليه الحدُّ، فدلَّ على أنَّه ليس
بمرتَدٍّ.
وقال ابنُ القيِّمِ في المدارِجِ: والفُسوقُ أيضًا يَنْقسِمُ إلى قسمَيْنِ: فُسوقٌ مِن جهةِ العملِ وفِسقٌ مِن جهةِ الاعتقادِ
– إلى أنْ قال – وفِسقُ الاعتقادِ كفِسقِ أهلِ البِدَعِ الذين يؤمنون
باللَّهِ ورسولِه ويُحرِّمونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ ورسولُه ويُوجِبون ما
أوجَبَه ولكنْ يَنْفُون كثيرًا ممَّا أَثْبَت اللَّهُ ورسولُه جَهْلاً
وتأويلاً وتَقْليدًا للشُّيوخِ، ويُثبِتون ما لم يُثْبِتْه اللَّهُ ورسولُه
كذَلِكَ، وهؤلاء كالخوارجِ المارقةِ وكثيرٍ مِن الرَّوافضِ والقدَريَّةِ
والمعتزِلةِ، وكثيرٍ من الجهميَّةِ الذين ليسوا غُلاةً في التَّجهُّمِ.
وأمَّا غَاليةُ الجهميَّةِ وغُلاةُ الرَّافِضةِ فليس
للطَّائفتَيْنِ في الإسلامِ نَصيبٌ، ولذَلِكَ أَخْرجَهُم جماعةٌ مِن
السَّلَفِ مِن الثِّنْتَيْنِ والسَّبعِيَن فِرقةً، وقالوا: هم مُبايِنونَ
للمِلَّةِ، فالتَّوبةُ مِن هَذَا الفُسوقِ بإثباتِ ما أَثْبَتَه اللَّهُ
ورسولُه مِن غيرِ تَشبيهٍ ولا تعطيلٍ، وتَنْزيهُه عمَّا نَزَّهَ بِهِ
نَفْسَه ونَزَّهَه بِهِ رسولُه مِن غير تشبيهٍ ولا تعطيلٍ، وتَلَقِّي
الإثباتِ والنَّفْيِ من مِشكاةِ الوحيِ لا مِن آراءِ الرِّجالِ ونتائجِ
أفكارِهم، فتوبةُ هؤلاء الفُسَّاقِ مِن جهةِ الاعتقاداتِ الفاسدةِ بمحْضِ
اتِّباعِ السُّنَّةِ، ولا يُكتفى أيضًا منهم حتى يُبَيِّنُوا فسادَ ما
كانوا عليه مِن البِدعةِ.
(2) قولُه: (بل الفاسِقُ يَدخُلُ)
… إلخ فإنْ أَعْتقَ رقبةً مؤمنةً فيما يُشترَطُ في العِتقِ إيمانُ
الرَّقبةِ، أَجْزأَت الرَّقبةُ الفاسقةُ، فقد دخَلَتْ في اسمِ الإيمانِ
المطلَقِ، وإنْ لم تكن مِن أهلِ الإيمانِ الكاملِ، فالفاسِقُ يَدخُلُ في
جملةِ أهلِ الإيمانِ على سَبيلِ إطلاقِ أهلِ الإيمانِ، وقد لا يَدخُلُ في
اسمِ الإيمانِ المطلَقِ، كما في قولِه: {إِنَّمَا المُؤمِنُونَ الَّذينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}
الآيةَ، فالفاسِقُ لا يُسلَبُ عنه اسمُ الإيمانِ على الإطلاقِ ولا يُثبَتُ
له على الإطلاقِ، بل يقالُ مؤمنٌ ناقِصُ الإيمانِ، أو مؤمنٌ بإيمانِه
فاسِقٌ بكبيرتِه، وحقيقةُ الأمرِ أنَّ مَن لم يكُنْ مِن المؤمِنيَن حقاًّ
يقالُ فيه إنَّه مسلمٌ ومعه إيمانٌ يَمنَعُه مِن الخلودِ في النَّارِ.
قولُه: {إِنَّمَا} أداةُ حصرٍ تُثْبِتُ المذكورَ وتَنْفى ما عَداهُ.
قولُه: {المُؤمِنُونَ} أي: الإيمانَ الكاملَ المأمورَ به.
قولُه: {وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} أي: خافَتْ.
قولُه: {زَادَتْهُمْ إِيْمانًا} فيها دليلٌ على أَنَّ الإيمانَ يَزيدُ ويَنْقُصُ.
قولُه: {يَتوكَّلُون}
أي: يُفوِّضون أمْرَهم إلى اللَّهِ، ففيها فَضْلُ التَّوكُّلِ، وأنَّه مِن
أجلِّ أعمالِ القلوبِ، وفيها دليلٌ على أَنَّ الأعمالَ الظَّاهِرةَ
والباطنةَ داخلةٌ في مسمَّى الإيمانِ شَرْعا، فكُلُّ ما نَقَصَ مِن
الأعمالِ التي لا يُخرِجُ نَقْصُها مِن الإسلامِ فهُوَ نَقْصٌ في كمالِ
الإيمانِ الواجِبِ، كما في حديثِ أبي هريرةَ المتَّفَقِ عليه: ((لا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وهُوَ مُؤْمِنٌ))
الحديثَ، فالمنفيُّ في هَذَا الحديثِ كمالُ الإيمانِ الواجبِ، فلا يُطلَقُ
الإيمانُ على مِثلِ أهلِ هَذِهِ الأعمالِ إلاَّ مقيَّدًا بالمعصيةِ أو
الفسوقِ، فيقالُ مؤمنٌ بإيمانِه فاسِقٌ بكبيرتِه، فيكونُ معه مِن الإيمانِ
بقَدْرِ ما معه مِن الأعمالِ الباطنةِ والظَّاهرةِ، فيَدخُلُ في أهلِ
الإيمانِ على سبيلِ إطلاقِ أهلِ الإيمانِ، كما تقدَّمَ في قولِه: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمنَةٍ}.
وأمَّا المؤمِنُ الإيمانَ المطلَقَ الذي لا
يَتقَيَّدُ بمعصيةٍ ولا فسوقٍ ونحوِ ذَلِكَ فهُوَ الذي أَتَى بما
يَستطِيعُه مِن الواجِباتِ مَع تَرْكِه لجميعِ المحرَّماتِ، فهُوَ الذي
يُطْلَقُ عليه اسْمُ الإيمانِ مِن غيرِ تَقْييدٍ، فهَذَا هُوَ الفَرْقُ بين
مُطلَقِ الإيمانِ والإيمانِ المطلَقِ.
الثَّاني: هُوَ الذي لا يُصِرُّ صاحبُه على ذَنْبٍ، والأوَّل:
هُوَ المُصِرُّ على بعضِ الذُّنوبِ، فمُطلَقُ الإيمانِ هُوَ وَصْفُ
المسلمِ الذي معه أصلُ الإيمانِ الذي لا يَتِمُّ الإسلامُ إلاَّ بِهِ فلا
يَصِحُّ إلاَّ به.
والمرتبةُ الثَّانيةُ:
مرتبةُ أهلِ الإيمانِ المطلَقِ الذين كَمُلَ إسلامُهم وإيمانُهم بإتيانِهم
بما وَجَبَ عليهم، وتَرْكِهم ما حرَّمَ اللَّهُ عليهم، وعَدَمِ إصرارِهم
على الذُّنوبِ، فَهِذِهِ المرتبةُ الثَّانيةُ الذي وعدَ اللَّهُ أهلَها
بدخولِ الجَنَّةِ والنَّجاةِ مِن النَّارِ. انتهى.
(3) وفي قولِه -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((لا يَزْنِى الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ))
الحديثُ دليلٌ على دخولِ الأعمالِ في مسمَّى الإيمانِ، فلولا أنَّ تَرْكَ
هَذِهِ الكبائرِ مِن مسمَّى الإيمانِ لَمَا انْتَفَى اسمُ الإيمانِ عن
مرتكِبِ شيءٍ منها؛ لأَنَّ الاسمَ لا يَنْتَفِى إلا بانتفاءِ بعضِ أركانِ
المسمَّى أو واجباتِه، والمرادُ بنَفْيِ الإيمانِ نَفْيُ بلوغِ حقيقتِه
ونهايتِه، وفي هَذَا الحديثِ الرَّدُّ على المُرْجِئةِ والجهميَّةِ ومَن
اتَّبَعَهم الذين يقولون إنَّ مرتكِبَ الكبيرةِ مؤمنٌ كاملُ الإيمانِ،
ويَزْعُمون أَنَّ الإيمانَ لا يَتفاضَلُ، وهُوَ إمَّا أنْ يَزُولَ
بالكُلِّيَّةِ أو يَبْقَى كامِلا، وقولُهم ظاهرُ البطلانِ، فقد دلَّ
الحديثُ على أَنَّ الزَّانِيَ وشارِبَ الخمرِ ونحوَهم حين فِعلِهم المعصيةَ
قد انْتَفَى الإيمانُ عنهم، وقد دلَّت النُّصوصُ الكثيرةُ مِن الكِتابِ
والسُّنَّةِ على أنَّهمْ غيرُ مُرْتَدِّين بِذَلِكَ، فعُلِمَ أَنَّ
الإيمانَ المَنْفِيَّ في هَذَا الحديثِ وغيرِه إنَّما هُوَ كمالُ الإيمانِ
الواجِبِ، فإنَّ اللَّهَ ورسولَه لا يَنْفِي اسْمَ مُسمًّى شَرْعيٍّ إلاَّ
بانتفاءِ بعضِ أركانِه أو واجباتِه.
(4) قولُه: ((نُهبةً)) بضمِّ النُّونِ هُوَ ما يُنْهَبُ، والمرادُ: المأخوذُ جَهْراً قَهْرا.
قولُه: ((ذاتَ شَرَفٍ)) أي: ذاتَ قدْرٍ عظيمٍ.
قولُه: ((يَرفَعُ النَّاسُ إليها أبصارَهم)) أي: يَنْظُرونها لعِظَمِ قدْرِها.
قولُه: (ونقولُ هُوَ مؤمنٌ ناقِصُ الإيمانِ) فإنَّ اللَّهَ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- أطْلَقَ عليه الإيمانَ، كما تقدَّمَ مِن قولِه: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} الآيةَ، وقولُه: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ}
الآيةَ، وَكَذَلِكَ الرَّسولُ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- أَطلَقَ عليه
الإيمانَ، كما ثَبَتَ في الصَّحيحِ أَنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ
وسلَّمَ- قال: ((مَنْ كَانَتْ لَهُ عِنْدَ أَخِيهِ
مَظْلِمَةٌ فَلْيَتَحَلَّلْ مِنْهُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ لاَ يَكُونَ
دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ …))، الحديثَ إلى غيرِ ذَلِكَ مِن الأدِلَّةِ الدَّالَّةِ على إطلاقِ الإيمانِ على الفاسِقِ.
قولُه: (ونقولُ هُوَ مؤمنٌ ناقِصُ الإيمانِ)
إلخ: خِلافاً للمُرجِئَةِ والجهميَّةِ ومَن اتَّبعَهم، فإنَّ الإيمانَ
عندهم لا يَقْبَلُ الزِّيادةَ والنُّقصانَ، بل هُوَ شيءٌ واحدٌ يَستوي فيه
جميعُ المؤمنينَ مِن الملائكةِ والمقتَصِدِينَ والمقرَّبِينَ والظالِمينَ،
وقد سَبَقَ ذِكْرُ مَذهبِهم والرَّدُّ عليه.
قولُه: (فلا يُعْطَى الاسمَ المطلَقَ)
أي: لا يُعْطَى الفاسِقَ اسمَ الإيمانِ المطلَقِ، أي الكامِلِ الذي
صاحِبُه يَستحِقُّ عليه دخولَ الجَنَّة والنَّجاةَ مِن النَّارِ، وهُوَ
فِعلُ الواجباتِ وتَرْكُ المحرَّماتِ، وهُوَ الذي يُطلَقُ على مَن كان
كذَلِكَ بلا قَيْدٍ فلا يُطلَقُ على الفاسِقِ: الإيمانُ إلاَّ مُقيَّدا،
فيقالُ: مؤمنٌ بإيمانِه فاسقٌ بكبيرتِه، أو يقالُ: مؤمنٌ ناقِصُ الإيمانِ،
فلا يُسمَّى مؤمِنا إلا بِقَيْدٍ، وهَذَا الذي يُسمِّيهِ العلماءُ مُطلَقَ
الإيمانِ.
وقال الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-:
والتَّحقيقُ أنْ يقالَ: إنَّه مؤمنٌ ناقِصُ الإيمانِ، مؤمنٌ بإيمانِه
فاسقٌ بكبيرتِه، فلا يُعْطَى الاسمَ المطلَقَ، فإنَّ الكِتابَ والسُّنَّةَ
نَفَيَا عنه الاسمَ المطلَقَ، واسمَ الإيمانِ يتناولُه فيما أَمَرَ اللَّهُ
بِهِ ورسولُه؛ لأنَّ ذَلِكَ إيجابٌ عليه وتحريمٌ عليه، وهُوَ لازمٌ له كما
يَلزَمُ غيرَه، وإنَّما الكلامُ في المدحِ المطلَقِ. اهـ.
قولُه: (ولا يُسْلَبُ مُطْلَقَ الاسمِ)
كما تقدَّمَ إطلاقُ الإيمانِ في الآياتِ عليه، وَكَذَلِكَ رسولُه،
فيُطلِقُ عليه الإيمانُ مُقيَّداً كما تقدَّمَ، فيُقالُ: مؤمنٌ بإيمانِه
فاسقٌ بكبيرتِه، ويقالُ: مؤمنٌ ناقِصُ الإيمانِ، وعلى هَذَا يَدُلُّ
الكِتابُ والسُّنَّةُ وإجماعُ سَلَفِ الأمَّةِ خِلافا للخَوارجِ
والمعتزِلةِ. أمَّا ما جاءَ في بعضِ الأحاديثِ مِن نَفْيِ الإيمانِ عن بعضِ
العُصاةِ فالمرادُ بِهِ نَفْيُ الإيمانِ المُطْلَقِ لاَ مُطلَقَ الإيمانِ
كما تقدَّمَ.
قال الشَّيخ تَقِيُّ الدِّينِ في كتابِ الإيمانِ:
الإيمانُ إذا أُطْلِقَ في كلامِ اللَّهِ ورسولِه يَتَناوَلُ فِعلَ
الواجباتِ وتَرْكَ المحرَّماتِ، ومَنْ نَفَى اللَّهُ ورسولُه عنه الإيمانَ
فلا بدَّ أنْ يكونَ تَرَكَ واجِباً أو فَعَلَ محرَّما، فلا يَدخُلُ في
الاسمِ الذي يستحِقُّ أهلُه الوَعْدَ دُونَ الوعيدِ. انتهى.
قال ابنُ القيِّم -رَحِمَهُ اللَّهُ- في بدائعِ
الفوائدِ: الإيمانُ المطلَقُ لا يُطلَقُ إلا على الكامِلِ الكَمالَ
المأمورَ به، ومُطلَقُ الإيمانِ يُطلَقُ على الكامِلِ والنَّاقِصِ، ولهَذَا
نُفِيَ الإيمانُ المطلَقُ عن الزَّانِي وشاربِ الخمرِ والسَّارِقِ، ولم
يُنْفَ عنه مُطلَقُ الإيمانِ، لئلا يَدخُلَ في قولِه: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} ولا في قولِه: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} ولا في قولِه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} الآية، ويَدخُلُ في قولِه: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} وفي قولِه: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ} الآيةَ، فلهَذَا كان قولُه: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا}
نَفْيا للإيمانِ المطلَقِ لا لمطلَقِ الإيمانِ لوُجوهٍ ساقَها، فالإيمانُ
المطلَقُ يَمنَعُ دخولَ النَّارِ، ومُطلَقُ الإيمانِ يَمنعُ الخلودَ فيها،
فإذا قيل الفاسِقُ: مؤمنٌ فهُوَ على هَذَا التَّفصيلِ. انتهى).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (ولا يَسْلُبَونَ الفاسِقَ المِلِّيَّ الإسْلامَ بالكُلِّيَّةِ، ولا يُخَلِّدونَهُ في النَّارِ كَما تقولُ المعتزلة. بَلْ الفَاسقُ يَدْخُلُ في اسْم الإيمانِ المُطْلقِ كما في قولهِ تعالى: (فتحرير رَقبةٍ مؤْمنَةِ). وقد لا يدَخلُ في أسم الإيمان المطلقِ كَما في قولِهِ تعالى: (إنما المؤمنون الذين إذا ذَكروا الله وَجلتْ قُلُوبُهُمْ وإذَا تُليَتْ عليهمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إيمَاناً) وقولهِ صلى الله عليهم وسلم: ((لا يزْني الزَّاني حينَ يزْني وَهُوَ مؤمِنُ، ولا يَسْرِقُ السَّارق حينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤمنُ، ولا يشَربُ الخمر حين يشربُها وهوَ مؤمنٌ، ولا ينتهبُ نهْبَة ذاتَ شرَفٍ يرْفَعُ النَّاسُ إليهِ فيهَا أبْصَارَهُمْ حينَ ينتهبهَا وهوَ مؤمنُ)). ويقولون هوَ مؤْمِنُ ناقصُ الإيمانِ، أو مؤمِنٌ بإيمانِهِ فَاسِقٌ بكبيرته، فلا يُعْطَى الاسمَ المطلَقَ ولا يسلب مطلق الاسم.(1) ).
الشرح:
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): ( (1) قَوْلُهُ: ((وَلَا يُسْلِبُونَ الفَاسِقَ المِلِّيَّ الإِسْلَامَ بِالكُلِّيَّةِ)):
((الفَاسِقُ)): هُوَ الخَارِجُ عَنْ الطَّاعَةِ.
وَالفِسْقُ –كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ سَابِقاً-
يَنْقَسِمُ إِلَى فِسْقٍ أَكْبَرَ مُخِرِجٍ عَن الإِسْلَامِ، وَمِنْهُ
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ)
[السَّجْدَة: 20]، وَفِسْقٌ أَصْغَرُ لَيْسَ مُخْرِجاً عَن الإِسْلَامِ؛
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ
فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالةٍ)
[الحُجُرَات: 6].
وَالفَاسِقُ الَّذِي لَا يَخْرُجُ مِن الإسْلَامِ
هُوَ الفَاسِقُ الِملِّيُّ، وَهُوَ مَنْ فَعَلَ كَبِيرةً، أَوْ أَصَرَّ
عَلَى صَغِيرَةٍ.
وَلِهَذَا قَالَ المؤلِّفُ: ((المِلِّيُّ))؛ يَعْنِي: المُنْتَسِبُ إِلَى الِملَّةِ الَّذِي لَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا.
فَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ لَا
يُسْلِبُونَ الفَاسِقَ المِلِّيَّ الإِسْلَامَ بِالكُلِّيَّةِ؛ فَلَا
يُمْكِنُ أنْ يَقُولُوا: إنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُسْلِمٍ، لَكِنْ يُمْكِنُ
أَنْ يَقُولُوا: إِنَّ هَذَا نَاقِصُ الإِسْلَامِ أوْ نَاقِصُ الإيمَانِ.
قَولُهُ: ((وَلَا يُخَلِّدُونَهُ فِي النَّارِ)):
مَعْطُوفٌ عَلَى قَولِهِ: ((وَلَا يُسْلِبُونَ)): وَعَلَى هَذَا يَكُونُ
قَوْلُهُ: ((كَمَا تَقُولُ المُعْتَزِلَةُ)): عَائِداً لِلأمْرَينِ؛
لِأَنَّ المُعْتَزِلَةَ يُسْلِبُونَهُ الإِسْلَامَ وَيُخَلِّدُونَهُ في
النَّارِ، وَإِنْ كَانُوا لَا يُطْلِقُونَ عَلَيْهِ الكُفْرَ.
قَوْلُهُ: ((بَلِ الفَاسِقُ يَدْخُلُ في اسمِ
الإيمَانِ المُطْلَقِ)): مُرَادُ المؤلِّفِ بـِ ((المُطْلَقِ)) هُنَا؛
يَعْنِي: إِذَا أُطلِقُ الإيمانُ؛ فَالوَصْفُ يَعُودُ إِلَى الاسْمِ لَا
إِلَى الإيمَانِ؛ كَمَا سَيَتَبيَّنُ مِن كَلَامِ المؤلِّفِ رَحِمَهُ
اللهُ؛ فَيَكُونُ المُرَادُ بِهِ مُطْلَقَ الإِيمَانِ الشَّامِلِ
لِلفَاسِقِ وَالعَدْلِ.
قَولُهُ: ((كَمَا فِي قَولِهِ: (فَتَحْرِيرُ
رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ) [النِّسَاء: 92]))؛ فَإِنَّ المَؤمِنَةَ هُنَا
يَدْخُلُ فِيهِ الفَاسِقُ.
فَلَوْ أنَّ إِنسَاناً اشْتَرَى رَقِيقاً
فَاسِقاً وَأَعْتَقَهُ فِي كَفَّارَةٍ؛ أَجْزَأََهُ؛ مَعَ أنَّ اللهَ
قَالَ: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ)؛ فَكَلِمَةُ (مُّؤْمِنَةٍ)
تَشْمَلُ الفَاسِقَ وَغَيْرَهُ.
قَولُهُ: ((وَقَدْ لَا يَدْخُلُ فِي اسْمِ الإيمَانِ المُطْلَقِ))؛ أيْ: فِي مُطْلَقِ اسْمِ الإيمَانِ.
قَولُهُ ((كَمَا في قَولِهِ تَعَالَى: (إِنَّمَا
المُؤْمِنُونَ الَّذِين إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ
وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً)
[الأَنْفَال: 2]))؛ فـَ(إِنَّمَا) أداةُ حَصْرٍ؛ يَعْنِي: مَا
المُؤمِنُونَ إِلَّا هَؤُلَاءِ، وَالمُرَادُ بِالمُؤمِنِينَ؛ يَعْنِي:
ذَوِي الإِيمَانِ المُطْلَقِ الكَامِلِ.
فَلَا يَدْخُلُ فِي المُؤمِنِينَ هُنَا
الفُسَّاقُ؛ لِأنَّ الفَاسِقَ لَوْ تَلَوْتَ عَلَيهِ آيَاتِ اللهِ؛ مَا
زَادَتْهُ إيمَاناً، وَلَوْ ذَكَرْتَ اللهَ لَهُ؛ لَمْ يَوْجَلْ قَلْبُهُ.
فَبَيَّنَ المُؤلِّفُ أنَّ الإيمَانَ قَدْ يُرَادُ بِهِ مُطْلَقُ الإيمَانِ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الإيمَانُ المُطْلَقُ.
فَإِذَا رَأَيَنْا رَجُلاً: إِذَا ذُكِرَ اللهُ؛
لَمْ يَوْجَلْ قَلبُهُ، وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيهِ آيَاتُهُ؛ لَمْ يَزْدَدْ
إيمَاناً؛ فَيَصِحُّ أَنْ نَقُولَ: إنَّهُ مُؤمِنٌ، وَيَصِحُّ أَنْ
نَقُولَ: لَيْسَ بِمُؤمِنٍ؛ فَنَقُولُ: مُؤمِنٌ؛ أيْ: مَعْهُ مُطْلَقُ
الإيمَانِ؛ يَعْنِي: أَصْلُهُ، وَلَيْسَ بِمُؤمِنٍ، أيْ: لَيْسَ مَعَهُ
الإيمَانُ الكَامِلُ.
هَذَا مِثَالٌ ثَانٍ لِلإيمَانِ الَّذِي يُرَادُ
بِهِ الإيمَانُ المُطْلَقُ، أيْ الكَامِلُ قَوْلُهُ: ((وَقولُهُ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ
مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ،
وَلَا يَشْرَبُ الخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا
يَنتَهِبُ نَهْبَةً ذَاتَ شَرَفٍ يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا
أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ)).
وَهَذَا مِثَالٌ ثَانٍ للإِيمَانِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الإيمَانُ المُطْلَقُ؛ أيْ: الكَامِلُ.
قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَا
يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤمِنٌ)): هُنَا نَفَى عَنْهُ
الإيمَانَ الكَامِلَ حِينَ زِنَاهُ، أَمَّا بَعْدَ أنْ يَفْرُغَ مِنَ
الزِّنَى؛ فَقَدْ يُؤمِنُ؛ فَقَدْ يَلْحَقُهُ الخَوفُ مِنَ اللهِ بَعْدَ
أنْ يُتِمَّ الزِّنى فَيَتُوبُ، لَكِنْ حِينَ إِقْدَامِهِ عَلَى الزِّنى
لَوْ كَانَ عِنْدَهُ إيمَانٌ كَامِلٌ؛ مَا أقدَمَ عَلَيهِ، بَلْ إيمَانُهُ
ضَعِيفٌ جِدًّا حِينَ أَقْدَمَ عَلَيهِ.
وَتَأَمَّلْ قَولَهُ: ((حِينَ يَزْنِي)):
احْتِرَازاً مِنْ أنَّهُ قَبْلَ الزِّنى وَبَعْدَهُ تَخْتَلِفُ حَالُهُ؛
لِأَنَّ الإِنْسَانَ مَا دَامَ لَمْ يَفْعَل الفَاحِشَةَ، وَلَو هَمَّ
بِهَا؛ فَهُوَ عَلَى أَمَلِ ألَّا يُقْدِمَ عَلَيْهَا.
وَقَولُهُ: ((وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ
يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤمِنٌ))؛ أَيْ: كَامِلُ الإيمَانِ؛ لِأَنَّ الإِيمَانَ
يَرْدَعُهُ عَنْ سِرْقَتِهِ.
وَقَولُهُ: ((وَلَا يَشْرَبُ الخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤمِنٌ))؛ أيْ: كَامِلُ الإيمَانِ.
((وَلَا يَنْتَهِبُ نَهْبَةً ذَاتَ شَرَفٍ
يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ)): ((ذَاتَ شَرَفٍ))؛
أَيْ: ذَاتَ قِيمَةٍ عِنْدَ النَّاسِ، وَلِهَذَا يَرْفَعُونَ إِليهِ
أَبْصَارَهُمْ؛ فَلَا يَنْتَهِبُهَا حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤمِنٌ؛
أيْ: كَامِلُ الإيمَانِ.
هَذِهِ أَرْبَعُةُ أَشْيَاءَ: الزِّنى (وَهُوَ
الجِمَاعُ فِي فَرْجٍ حَرَامٍ)، وَالسَّرِقَةُ (وَهِيَ أَخْذُ المَالِ
المُحْتَرَمِ عَلَى وَجْهِ الخُفْيَةِ مِنْ حِرْزٍ مِثْلِهِ)، وَشُرْبُ
الخَمْرِ (وَالمُرَادُ تَنَاوُلُهُ بِأَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ، وَالخَمْرُ كُلُّ
مَا أَسْكَرَ عَلَى وَجْهِ اللَّذَّةِ وَالطَّرَبِ)، وَالنَّهْبَةُ
الَّتِي لَهَا شَرَفٌ وَقِيمَةٌ عِنْدَ النَّاسِ (قِيلَ: الانْتِهَابُ:
أَخْذُ المَالِ عَلَى وَجْهِ الغَنِيمَةِ)؛ لَا يَفْعَلُ هَذِهِ
الأَشْيَاءَ الأَرْبَعَةَ أَحَدٌ وَهُوَ مُؤمِنٌ بِاللهِ حِينَ فِعْلِهِ
لَهَا.
فَالمُرَادُ بِنَفْي الإيمَانِ هُنَا: نَفْيُ تَمَامِ الإيمَانِ.
قَوْلُ المُؤلِّفِ: ((وَنَقُولُ: هُوَ مُؤمِنٌ
نَاقِصُ الإيمَانِ أَوْ مُؤمِنٌ بِإِيمَانِهِ فَاسِقٌ بِكَبِيرَتِهِ؛ فَلَا
يُعْطَى الاسْمَ المُطْلَقَ، وَلَا يُسْلَبُ مُطْلَقَ الاسْمِ)).
هَذَا بَيَانٌ لِلوصْفِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ الفَاسِقُ المِلِّيُّ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ.
وَالفَرْقُ بَيْنَ مُطْلَقِ الشَّيءِ وَالشَّيءِ
المُطْلَقِ: أنَّ الشَّيءَ المُطْلَقَ هُوَ الشَّيءُ الكَامِلُ،
وَمُطْلَقُ الشَّيءِ؛ يَعْنِي: أَصْلَ الشَّيءِ، وَإِنْ كَانَ نَاقِصَاً.
فَالفَاسِقُ المِلِّيُّ لَا يُعْطَى الاسْمَ
المُطْلَقَ فِي الإيمَانِ، وَهُوَ الاسْمُ الكَامِلُ، وَلَا يُسْلَبُ
مُطْلَقَ الاسْمِ؛ فَلَا نَقُولُ: لَيْسَ بِمُؤمِنٍ، بَلْ نَقُولُ: مُؤمِنٌ
نَاقِصُ الإيمَانِ، أَوْ: مُؤمِنٌ بِإيمَانِهِ فَاسِقٌ بِكَبِيرَتِهِ.
هَذَا هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ، وَهُوَ المَذْهَبُ العَدْلُ الوَسَطُ.
وَخَالَفَهُمْ فَي ذَلِكَ طَوَائِفُ:
-المُرْجِئَةُ؛ يَقُولُونَ: مُؤمِنٌ كَامِلُ الإيمَانِ.
-وَالخَوَارِجُ؛ يَقُولُونَ: كَافِرٌ.
-وَالمُعْتَزِلَةُ؛ يَقُولُونَ: فِي مَنْزِلَةٍ بَيْنَ مَنْزِلَتَيْنِ).
الروضة الندية للشيخ: زيد بن
عبد العزيز بن فياض رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وَلا يَسْلُبُونَ الفَاسِقَ المِليَّ [ الإِسْلامَ ] بِالكُليَّةِ، وَلا يُخَلِّدُونَهُ فِي النَّارِ كَمَا تَقُولُ المُعْتَزِلَةُ.
بَل الفَاسِقُ يَدْخُلُ فِي اسْمِ الإِيمَانِ كَمَا فِي قَوْلهِ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}.
وَقَدْ لا يَدْخُلُ فِي اسْمِ الإِيمَانِ
المُطْلَقِ كَمَا فِي قَوْلهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الذين
إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُليَتْ عَلَيْهِمْ
آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيْماناً} وَقَوْلهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "لا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا
يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَشْرَبُ
الخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً
ذَاتَ شَرَفٍ يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِيْنَ
يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ ".
[ وَنَقُولُ ]: هُوَ مُؤْمِنٌ نَاقِصُ
الإِيمَانِ، أَوْ مُؤْمِنٌ بِإِيمَانِهِ فَاسِقٌ بِكَبِيرَتِهِ، فَلا
يُعْطَى الاسْمَ المُطْلَقَ، وَلا يُسْلَبُ مُطْلَقَ الاسْمِ بكبيرَتِهِ).
الشرح:
قال الشيخ زيد بن عبد العزيز بن فياض (ت: 1416هـ): (الإِيمَانُ لُغَةً التَّصْدِيقُ وَمِنْهُ {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} أَيْ بِمُصَدِّقٍ لنَا.
وشرعاً تَصْدِيقٌ خَاصٌّ. وَقَدْ تَنَوَّعَتْ عِبَارَاتُ السَّلَفِ فِيهِ فَتَارَةً يَقُولُونَ: هُوَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَنِيَّةٌ وَاتِّبَاعُ السُّنَّةِ، وَتَارَةً يَقُولُونَ: قَوْلٌ بِاللِّسَانِ وَاعْتِقَادٌ بِالجِنَانِ وَعَمَلٌ بِالجَوَارِحِ، وَتَارَةً يَقُولُونَ: هُوَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَنِيَّة ٌ، وَتَارَةً يَقُولُونَ: هُوَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ. وَكُلُّ هَذَا صَحِيحٌ فَإِذَا قَالُوا: هُوَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِي القَوْلِ قَوْلُ القَلْبِ وَاللسَانِ جميعاً. وَهَذَا هُوَ المَفْهُومُ مِن لفْظِ القَوْلِ وَالكَلامِ وَنَحْوِ ذَلكَ إِذَا أَطْلَقَ. فَإِنَّ الذي عَلَيْهِ السَّلَفُ وَالفُقَهَاءُ وَالجُمْهُورُ يَتَنَاوَلُ اللَّفْظَ وَالمَعْنَى جميعاً فَمَنْ قَالَ مِن السَّلَفِ: الإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ أَرَادَ قَوْلَ القَلْبِ وَاللسَانِ وَعَمَلَ القَلْبِ وَالجَوَارِحِ، وَمَن أَرَادَ الاعْتِقَادَ أَيْ: أَنَّ لفْظَ القَوْلِ لا يُفْهَمُ مِنْهُ إِلا القَوْلُ الظَّاهِرُ أَوْ خَافَ ذَلكَ فَزَادَ الاعْتِقَادَ بِالقَلْبِ.
وَمَنْ قَالَ " قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَنِيَّةٌ قَالَ: القَوْلُ يَتَنَاوَلُ الاعْتِقَادَ وَقَوْلَ اللسَانِ. وَأَمَّا العَمَلُ فَقدْ لا يُفْهَمُ مِنْهُ النِّيَّةُ فَزَادُوا ذَلكَ. وَمَن زَادَ اتِّبَاعَ السُّنَّةِ فَلأَنَّ ذَلكَ كُلَّهُ لا يَكُونُ محبوباً للَّهِ إِلا بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَأُولَئِكَ لمْ يُرِيدُوا كُلَّ قَوْلٍ وَعَمَلٍ إِنَّمَا أَرَادُوا ما كَانَ مشروعاً مِن الأَقْوَالِ وَالأَعْمَالِ وَلَكِنْ كَانَ مَقْصُودُهُمُ الرَّدَّ عَلَى المُرْجِئَةِ الذين جعُلُوهُ قولاً فَقَطْ فَقَالُوا: بَل هُوَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ. وَالذين جعُلُوهُ أَرْبَعَةً فَسَرَّوْا مُرَادَهمْ كَمَا سُئِلَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتَرِيُّ عَن الإِيمَانِ مَا هُوَ؟ فَقَالَ: قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَنِيَّةٌ وَسُنَّةٌ لأَنَّ الإِيمَانَ إِذَا كَانَ قولاً بِلا عَمَلٍ فَهُوَ كُفْرٌ، وَإِذَا كَانَ قولاً وعملاً بِلا نِيَّةٍ فَهُوَ نِفَاقٌ. وَإِذَا كَانَ قولاً وعملاً وَنِيَّةٌ بِلا سُنَّةٍ فَهُوَ بِدْعَةٌ.
وَهُنَا أَصْلٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ حَقِيقَةَ الإِيمَانِ مُرَكَّبَةٌ مِن قَوْلٍ وَعَمَلٍ، وَالقَوْلُ قِسْمَانِ قَوْلُ القَلْبِ وَهُوَ الاعْتِقَادُ وَقَوْلُ اللسَانِ وَهُوَ التَكلُّمُ بِكَلمَةِ الإِسْلامِ. وَالعَمَلُ قِسْمَانِ: عَمَلُ القَلْبِ وَهُوَ نِيَّةٌ وَإِخْلاصٌ. وَعَمَلٌ بِالجَوَارِحِ فَإِذَا زَالَتْ هَذِهِ الأَرْبَعَةُ زَالَ الإِيمَانُ بِكَمَالِهِ وَإِذَا زَالَ تَصْدِيقُ القَلْبِ لمْ تَنْفَعْ بَقِيَّةُ الأَجْزَاءِ. فَإِنِّ تَصْدِيقَ القَلْبِ شَرْطٌ فِي اعْتِقَادِهَا وَكَوْنِهَا نَافِعَةً. وَإِذَا زَالَ عَمَلُ القَلْبِ مَعَ اعْتِقَادِ المُصَدِّقِ فَهَذَا مَوْضِعُ المَعْرَكَةِ بَيْنَ المُرْجِئَةِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ. فَأَهْلُ السُّنَّةِ مُجْمِعُونَ عَلَى زَوَالِ الإِيمَانِ وَأَنَّهُ لا يَنْفَعُ التَّصْدِيقُ مَعَ انْتِفَاءِ عَمَلِ القَلْبِ وَهُوَ مَحَبَّتُهُ وَاعْتِقَادُهُ كَمَا لمْ يَنْفَعْ إِبْليسَ وَفِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ وَاليَهُودَ وَالمُشْرِكِينَ الذين كَانُوا يَعْتَقِدُونَ صِدْقَ الرَّسُولِ بَلْ وَيُقِرُّونَ بِهِ سرًّا وجهراً وَيَقُولُونَ: ليْسَ بِكَاذِبٍ وَلَكِنْ لا نَتَّبِعُهُ وَلا نُؤْمِنُ بِهِ.
وَإِذَا كَانَ الإِيمَانُ يَزُولُ بِزَوَالِ عَمَلِ القَلْبِ فَغَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ أَنْ يَزُولَ بِزَوَالِ أَعْمَالِ الجَوَارِحِ وَلا سِيَّمَا إِذَا كَانَ مَلْزُوماً لِعَدَمِ مَحَبَّةِ القَلْبِ وَانْقِيَادِهِ الذي هُوَ مَلْزُومٌ لعَدَمِ التَّصْدِيقِ الجَازِمِ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ عَدَمُ طَاعَةِ الجَوَارِحِ. وَيَلْزَمُ مِن عَدَمِ طَاعَتِهِ وَانْقِيَادِهِ عَدَمُ التَّصْدِيقِ وَإِنَّمَا هُوَ التَّصْدِيقُ المُسْتَلْزِمُ للطَّاعَةِ وَالانْقِيَادِ.
وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ لفْظَ الإِيمَانِ حَيْثُ أُطْلِقَ فِي الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ دَخَلَ فِيهِ الأَعْمَالُ وَإِنَّمَا يُدَّعَى خُرُوجُهَا مِنْهُ عِنْدَ التَّقْيِيدِ " فَإِذَا قُيِّدَ الإِيمَانُ فَقُرِنَ بِالإِسْلامِ أَوْ بِالعَمَلِ الصَّالحِ فَإِنَّهُ قَدْ يُرَادُ بِهِ مَا فِي القَلْبِ مِن الإِيمَانِ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ، وَهَلْ يُرَادُ بِهِ أيضاً المَعْطُوفُ عَلَيْهِ وَيَكُونُ مِن بَابِ عَطْفِ الخَـاصِّ عَلَى العَامِّ؟ أَوَّلاً يَكُونُ الاقْتِرَانُ داخلاً فِي مُسَمَّاهُ. بَلْ يَكُونُ لازماً لهُ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَوْ لا يَكُونُ بعضاً وَلا لازماً؟ هَذَا فِيهِ ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ للنَّاسِ. وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي عَامَّةِ الأَسْمَاءِ يَتَنَوَّعُ مُسَمَّاهُ بِالإِطْلاقِ وَالتَّقْيِيدِ.
وَالإِيمَانُ أَصْلُهُ الإِيمَانُ الذي فِي القَلْبِ وَلا بُدَّ فِيهِ مِن شَيْئَيْنِ تَصْدِيقُ القَلْبِ وَإِقْرَارُهُ وَمَعْرِفَتُهُ وَيُقَالُ لهَذَا: قَوْلُ القَلْبِ قَالَ الجُنَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ: التَّوْحِيدُ قَوْلُ القَلْبِ، والتّوَكُلُّ عَمَلُ القَلْبِ فَلا بُدَّ فِيهِ مِن قَوْلِ القَلْبِ وَعَمَلِهِ ثُمَّ قَوْلِ البَدَنِ وَعَمَلِهِ وَلا بُدَّ فِيهِ مِن عَمَلِ القَلْبِ مِثْلَ حُبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَخَشْيَةِ اللَّهِ وَحُبِّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَبُغْضِ مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَإِخْلاصِ العَمَلِ للَّهِ وَحْدَهُ وتوَكُلِّ القَلْبِ عَلَى اللَّهِ وَحْدَهُ وَغَيْرِ ذَلكَ مِن أَعْمَالِ القُلُوبِ الَّتِي أَوْجَبَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَجَعَلَهَا مِن الإِيمَانِ، ثُمَّ القَلْبُ هُوَ الأَصْلُ فَإِذَا كَانَ فِيهِ مَعْرِفَةٌ وَإِرَادَةٌ سَرَى ذَلكَ إِلَى البَدَنِ بِالضَّرُورَةِ لا يُمْكِنُ أَنْ يَتَخَلَّفُ البَدَنُ عَمَّا يُرِيدُ القَلْبُ فَإِذَا كَانَ صالحاً بِمَا فِيهِ مِن الإِيمَانِ عِلْماً وعملاً قلْبِيًّا لزِمَ ضَرُورَةَ صَلاحِ الجَسَدِ بِالقَوْلِ الظَّاهِرِ وَالعَمَلِ، فَالإِيمَانُ المُطْلَقُ كَمَا قَالَ أَهْلُ الحَدِيثِ: قَوْلٌ وَعَمَلٌ قَوْلٌ بَاطِنٌ وَظَاهِرٌ وَعَمَلٌ بَاطِنٌ وَظَاهِرٌ. وَالظَّاهِرُ تَابِعٌ للْبَاطِنِ لازِمٌ لهُ فَمَتَى صَلَحَ البَاطِنُ صَلَحَ الظَّاهِرُ وَإِذَا فَسَدَ فَسَدَ.
وَمِن هُنَا يَظْهَرُ خَطَأُ قَوْلِ جَهْمٍ وَمَن اتَّبَعَهُ حَيْثُ ظَنُّوا أَنَّ الإِيمَانَ مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ وَلَمْ يَجْعَلُوا أَعْمَالَ القَلْبِ مِن الإِيمَانِ، فَالكُفْرُ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الجَهْلُ، وَالإِيمَانُ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَهُوَ العِلْمُ أَوْ تَكْذِيبُ القَلْبِ وَتَصْدِيقُهُ فَإِنَّهُمْ مُتَنَازِعُونَ: هَلْ تَصْدِيقُ القَلْبِ شَيْءٌ غَيْرُ العِلْمِ أَوْ هُوَ هُوَ؟
وَهَذَا القَوْلُ مَعَ أَنَّهُ أَفْسَدَ قَوْلٍ قِيلَ فِي الإِيمَانِ فَقَدْ ذَهَبَ إِلَيْهِ كَثِيرٌ مِن أَهْلِ الكَلامِ مِن المُرْجِئَة.
وَقَدْ ذَكَرَ السَّلْفَ كَوَكِيعِ بْنِ الجَرَّاحِ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَبِي عُبَيْدَةَ وَغَيْرِهِمْ مَن يَقُولُ: بِهَذَا القَوْلِ وَقَالُوا: فَإِبْلِيسَ كَافِرٌ بِنَصِّ القُـرْآنِ وَإِنَّمَا كَفَـرَ بِاسْتِكْبَارِهِ وَامْتِنَاعِهِ عَن السُّجُـودِ لآدَمَ لا لكَوْنِهِ كَذَّبَ خبراً وَكَذَلكَ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا} وَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ لفِرْعَوْنَ: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَـؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُوراً} بَعْدَ قَوْلهِ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً} فَدَلَّ عَلَى أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ عالِماً بَأَنَّ اللَّهِ أَنْزَلَ هَذِهِ الآيَاتِ وَهُوَ مِن أَكْبَرِ خَلْقِ اللَّهِ عِناداً وبغْياً لفَسَادِ إِرَادَتِهِ وَقَصْدِهِ لا لعَدَمِ عِلْمِهِ، وَكَذَلكَ اليَهُودُ الذين قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ} وَكَذَلكَ كَثِيرٌ مِن المُشْرِكِينَ الذين قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ}.
" وَهَلْ يَسْتَلْزِمُ الإِسْلامُ الإِيمَانَ؟ هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ، وَالوَعْدُ الذي فِي القُرْآنِ بِالجَنَّةِ وَبِالنَّجَاةِ مِن العَذَابِ وَإِنَّمَا هُوَ مُعَلَّقٌ بَاسِمِ الإِيمَانِ. وَأَمَّا اسْمُ الإِسْلامِ مجرَّداً فَمَا عُلِّقَ بِهِ فِي القُرْآنِ دُخُولُ الجَنَّةِ لكِنْ فَرَضَهُ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ دِينُهُ الذي لا يَقْبَلُ مِن أَحَدٍ سِوَاهُ. وَبِالإِسْلامِ بَعَثَ اللَّهُ جَمِيعَ النَّبِيِّينَ.
وَحَقِيقَةُ الفَرْقِ: إِنَّ الإِسْلامَ دِينٌ، وَالدِّينُ مَصْدَرُ دَانَ يَدِينُ دَيْناً إِذَا خَضَعَ وَذَلَّ. وَدِينُ الإِسْلامِ الذي ارْتَضَاهُ اللَّهُ وَبَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ هُوَ الاسْتِسْلامُ للَّهِ وَحْدَهُ.
وَأَصْلُهُ فِي القَلْبِ هُوَ الخُضُوعُ للَّهِ وَحْدَهُ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ دُونَ مَا سِوَاهُ فَمَنْ عَبَدَهُ وَعَبَدَ مَعَهُ إلهاً آخَرَ لمْ يَكُنْ مُسلماً، وَمَن لمْ يَعْبُدْهُ بَلْ اسْتَكْبَرَ عَن عِبَادَتِهِ لمْ يَكُنْ مُسلماً. وَالإِسْلامُ هُوَ الاسْتِسْلاَمُ للَّهِ وَهُوَ الخُضُوعُ لهُ وَالعُبُودِيَّةُ. هَكَذَا قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: أَسْلَمَ الرَّجُلُ إِذَا اسْتَسْلَمَ فَالإِسْلامُ فِي الأَصْلِ مِن بَابِ العَمَلِ عَمَلِ القَلْبِ وَالجَوَارِحِ.
وَأَمَّا الإِيمَانُ فَأَصْلُهُ تَصْدِيقٌ وَأَقْوَالٌ وَمَعْرِفَةٌ فَهُوَ مِن بَابِ قَوْلِ القَلْبِ المُتَضَمِّنِ عَمَلَ القَلْبِ وَالأَصْلُ فِيهِ التَّصْدِيقُ وَالعَمَلُ تَابِعٌ لهُ. فَلهَذَا فَسَّرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِيمَانِ القَلْبِ وَبِخُضُوعِهِ.
وَهُوَ الإِيمَانُ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَفَسْرُ الإِسْلامِ بِالاسْتِسْلامِ مَخْصُوصٌ وَهُوَ المَبَانِي الخَمْسُ وَهَكَذَا فِي سَائِرِ كَلامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُفَسِّرُ الإِيمَانَ بِذَلكَ النَّوْعِ وَيُفَسِّرُ الإِسْلامَ بِهَذَا.
وَذَاكَ النَّوْعُ أَعَلا وَكُلُّ مُؤْمِنٍ لا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُسلماً فَإِنَّ الإِيمَانَ يَسْتَلْزِمُ الأَعْمَالَ وَلَيْسَ كُلُّ مُسْلمٍ مؤمناً هَذَا الإِيمَانُ المُطْلَقُ لأَنَّ الاسْتِسْلامَ للَّهِ وَالعَمَلَ لا يَتَوَقَّفُ عَلَى هَذَا الإِيمَانِ الخَاصِّ. وَهَذَا الفَرْقُ يَجِدُهُ الإِنْسَانُ مِن نَفْسِهِ وَيَعْرِفُهُ مِن غَيْرِهِ. فَعَامَّةُ النَّاسِ إِذَا سَلَّمُوا بَعْدَ كُفْرٍ وَوُلِدُوا عَلَى الإِسْلامِ والْتَزَمُوا شَرَائِعَهُ وَكَانُوا مِن أَهْلِ الطَّاعَةِ للَّهِ وَرَسُولِهِ فَهُمْ مُسْلمُونَ وَمَعَهُمْ إِيمَانٌ مُجْمَلٌ وَلَكِنْ حَقِيقَةُ الإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ إِنَّمَا يَحْصُلُ شَيْئاً فشَيْئاً. إِنْ أَعْطَاهُمُ اللَّهُ ذَلكَ وَإِلا فَكَثِيرٌ مِن النَّاسِ لا يَصِلُونَ لا إِلَى اليَقِينِ وَلا إِلَى الجِهَادِ وَلَوْ شُكِّكُوا لشَكُّوا وَلَوْ أُمِرُوا بِالجِهَادِ لَمَا جَاهَدُوا.
وَلَيْسُوا كفاراً وَلا مُنَافِقِينَ ليْسَ عِنْدَهُمْ مِن عِلْمِ القَلْبِ وَمَعْرِفَتِهِ وَيَقِينِهِ مَا يَدْرَأُ الرَّيْبَ، وَلا عِنْدَهُمْ مِن قُوَّةِ الحُبِّ للَّهِ وَلرَسُولِهِ مَا يُقَدِّمُونَهُ عَلَى الأَهْلِ وَالمَالِ، وَهَؤُلاءِ إِنْ عُوفُوا مِن المِحْنَةِ وَمَاتُوا دَخَلُوا الجَنَّةَ وَإِنِ ابْتُلُوا بِمَنْ يُورِدُ عَلَيْهِمْ شُبَهَاتٍ تُوجِبُ رَيْبَهُمْ فَإِنْ لمْ يُنْعِمِ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِمَا يُزِيلُ الرَّيْبَ وَإِلاَّ صَارُوا مُرْتَابِينَ وَانْتَقَلُوا إِلَى نَوْعٍ مِن النِّفَاقِ وَكَذَلكَ إِذَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِمُ الجِهَادُ وَلَمْ يُجَاهِدُوا كَانُوا مِن أَهْلِ الوَعِيدِ.
وَكُلُّ مَا تَقُولُهُ الخَوَارِجُ وَالمُرْجِئَةُ فِي مَعْنَى الإِيمَانِ يُعْلَمُ بالاضْطِرَارِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ للرَّسُولِ وَيُعْلَمُ بالاضْطِرَارِ أَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِن تَمَامِ الإِيمَانِ وَأَنَّهُ لمْ يَكُنْ يَجْعَلُ كُلَّ مَن أَذْنَبَ ذَنْباً كافراً.
وَلَيْسَ لفْظُ الإِيمَـانِ مُرادفاً للتَّصْدِيقِ فَإِنَّهُ يُقَالُ للْمُخْبِرِ إِذَا صَدَّقْتَهُ صَدَّقَهُ وَلا يُقَالُ آمَنَهُ وَآمَنَ بِهِ بَلْ يُقَالُ آمَـنَ لهُ كَمَا قَالَ: {فَآمَنَ لهُ لُوطٌ} وَلا يُقَالُ: صَدَّقْتُ لهُ.
وَهَذَا بِخِلافِ لفْظِ الإِيمَانِ فَإِنَّهُ تَعَدَّى إِلَى الجَرِّ بِاللاَّمِ دائماً لا يُقَالُ آمَنْتُهُ قَطُّ وَإنَّمَا يُقَالُ: آمَنْتُ لهُ كَمَا يُقَالُ أَقْرَرْتُ فَكَانَ تَفْسِيرُهُ بِلَفْظِ الإِقْرَارِ أَقْرَبَ مِن تَفْسِيرِهِ بِلَفْظِ التَّصْدِيقِ مَعَ أَنَّ بَيْنَهُمَا فرقاً وَلَيْسَ مُرادفاً للَفْظِ التَّصْدِيقِ فِي المَعْنَى فَإِنَّ كُلَّ مُخْبِرٍ عَن مُشَاهَدَةٍ أَوْ غَيْبٍ يُقَالُ لهُ فِي اللُّغَةِ صَدَقْتَ كَمَا يُقَالُ: كَذَبْتَ فَمَنْ قَالَ: السَّمَاءُ فَوْقَنَا قِيلَ لهُ صِدْقٌ كَمَا يُقَالُ لهُ كَذِبٌ.
وَأَمَّا لفْظُ الإِيمَانِ فَلا يُسْتَعْمَلُ إِلا فِي الخَبْرِ عَن غَائِبٍ لمْ يُوجَدْ فِي الكَلامِ أَنَّ مَن أَخْبَرَ عَن مُشَاهَدَةٍ كَقَوْلهِ طَلَعَتِ الشَّمْسُ وَغَرَبَتْ أَنْ يُقَالُ آمَنَّا لهُ كَمَا يُقَالُ صَدَّقْنَاهُ. وَلهَذَا المُحَدِّثُونَ وَالشُّهُـودُ وَنَحْوُهُمْ يُقَالُ: صَدَّقْنَاهُمْ وَلا يُقَالُ آمَنَّا لهُمْ فَإِنَّ الإِيمَانَ مُشْتَقٌّ مِن الأَمْنِ وَإِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي خَبَرٍ يُؤْتَمَنُ عَلَيْهِ المُخْبِرُ كَالأَمْرِ الغَائِبِ الذي يُؤْتَمَنُ عَلَيْهِ المُخْبِرُ.
وَلهَذَا لمْ يُوجَدْ قَطُّ فِي القُرْآنِ وَغَيْرِهِ لفَـظُ آمَنَ لهُ إِلا فِي هَذَا النَّوْعِ وَالاثْنَانِ إِذَا اشْتَرَكَا فِي مَعْرِفَةِ الشَّيْءِ يُقَالُ صَدَّقَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ وَلا يُقَالُ آمَنَ لهُ؛ لأَنَّهُ لمْ يَكُنْ غائِباً عَن شَيْءٍ ائْتَمَنَهُ عَلَيْهِ.
فَاللَّفْظُ يَتَضَمَّنُ مَعَ التَّصْدِيقِ مَعْنَى الائْتِمَانِ وَالأَمَانَةِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الاسْتِعْمَالُ والاشْتِقَاقُ، وَلَفْظُ الإِيمَانِ فِي اللُّغَةِ لمْ يُقَابَلْ بِالتَّكْذِيبِ فَلا يُقَالُ أَنْتَ مُؤْمِنٌ لهُ أَوْ مُكَذِّبٌ لهُ بَل المَعْرُوفُ فِي مُقَابَلَةِ الإِيمَانِ لفْظُ الكُفْرِ يُقَالُ هُوَ مُؤْمِنٌ أَوْ كَافِرٌ وَالكُفْرُ لا يَخْتَصُّ بِالتَّكْذِيبِ.
وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ أَكْثَرَ التَّنَازُعِ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ هُوَ نِزَاعٌ لفْظِيٌّ. وَإِلاَّ فَالقَائِلُونَ بِأَنَّ الإِيمَانَ قَوْلٌ مِن الفُقَهَاءِ: كَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَهُوَ أَوَّلُ مَن قَالَ ذَلكَ وَمَن اتَّبَعَهُ مِن أَهْلِ الكُوفَةِ وَغَيْرِهِمْ - مُتَّفِقُونَ مَعَ جَمِيعِ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ أَصْحَابَ الذُّنُوبِ دَاخِلُونَ تَحْتَ الذَّمِّ وَالوَعِيدِ. وَيَقُولُونَ أيضاً بِأَنَّ مِن أَهْلِ الكَبَائِرِ مَن يَدْخُلُ النَّارَ كَمَا تَقُولُهُ الجَمَاعَةُ، وَالذين يَنْفُونَ عَن الفَاسِقِ اسْمَ الإِيمَانِ مِن أَهْلِ السُّنَّةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ فَلَيْسَ بَيْنَ فُقَهَاءِ المِلَّةِ نِزَاعٌ فِي أَصْحَابِ الذُّنُوبِ إِذَا كَانُوا مُقِرِّينَ باطناً وظاهراً بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَمَا تَوَاتَرَ عَنْهُ أَنَّهُمْ مِن أَهْلِ الوَعِيدِ وَأَنَّهُ يَدْخُلُ النَّارَ مَن أَخْبَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِدُخُولِهِ إِيَّاهَا وَلا يُخَلَّدُ مِنْهُمْ فِيهَا أَحَدٌ وَلا يَكُونُونَ مُرْتَدِّينَ مُبَاحِي الدِّمَاءِ، وَلَكِنْ إِلا قَوْلَ المُنْحَرِفَةِ قَوْلَ مَن يَقُولُ بِتَخْليدِهِمْ فِي النَّارِ كَالخَوَارِجِ وَالمُعْتَزِلَةِ وَقَوْلَ غُلاةِ المُرْجِئَةِ الذين يَقُولُونَ: مَا نَعْلَمُ أَنَّ أحداً مِنْهُمْ يَدْخُلُ النَّارَ بَلْ نَقِفُ فِي هَذَا كُلِّهِ. وَحُكِيَ عَن بَعْضِ غُلاةِ المُرْجِئَةِ الجَزْمُ بِالنَّفْيِ العَامِّ.
وَيُقَالُ للْخَوَارِجِ: الذي نَفىَ عَن السَّارِقِ وَالزَّانِي وَالشَّارِبِ وَغَيْرِهِمُ الإِيمَانَ هُوَ لمْ يَجْعَلْهُمْ مُرْتَدِّينَ عَن الإِسْلامِ بَل عَاقَبَ هَذَا بِالجِلْدِ وَهَذَا بِالقَطْعِ وَلَمْ يَقْتُلْ أحداً إِلا الزَّانِيَ المُحْصَنَ وَلَمْ يُقْتَلْ قَتْلَ المُرْتَدِّ فَإِنَّ المُرْتَدَّ يُقْتَلُ بِالسَّيْفِ بَعْدَ الاسْتِتَابَةِ وَهَذَا يُرْجَمُ بِالحِجَارَةِ بِلا اسْتِتَابَةٍ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ وَإِنْ نُفِيَ عَنْهُمُ الإِيمَانُ فَلَيْسُوا عِنْدَهُ مُرْتَدِّينَ عَن الإِسْلامِ مَعَ ظُهُورِ ذُنُوبِهِمْ.
وَسَبَبُ الكَلامِ فِي مَسْأَلَةِ الإِيمَانِ تَنَازُعُ النَّاسِ هَلْ فِي اللُّغَةِ أَسْمَاءٌ شَرْعِيَّةٌ نَقَلَهَا الشَّارِعُ عَن مُسَمَّاهَا فِي اللُّغَةِ أَوْ أَنَّهَا بَاقِيَةٌ فِي الشَّرْعِ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي اللُّغَةِ؟. فَذَهَبَتِ الخَوَارِجُ وَالمُعْتَزِلَةُ إِلَى أَنَّهَا مَنْقُولَةٌ. وَذَهَبَتِ المُرْجِئَةُ إِلَى أَنَّهَا بَاقِيَةٌ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي اللُّغَةِ لكِنَّ الشَّارِعَ زَادَ فِي أَحْكَامِهَا لا فِي مَعْنَى الأَسْمَاءِ، مَقْصُودُهُمْ أَنَّ الإِيمَانَ هُوَ مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ وَذَلكَ يَحْصُلُ بِالقَلْبِ وَاللسَانِ، وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ إِلَى أَنَّ الشَّارِعَ تَصَرَّفَ فِيهَا تَصَرُّفَ أَهْلِ العُرْفِ فَهِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللُّغَةِ مَجَازٌ وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى عُرْفِ الشَّارِعِ حَقِيقَةٌ.
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الشَّارِعَ لمْ يَنْقُلْهَا وَلَمْ يُغَيِّرْهَا لكِنْ اسْتَعْمَلَهَا مُقَيَّدَةً لا مُطْلَقَةً كَمَا يَسْتَعْمَلُ نَظَائِرَهَا. وَالمَقْصُودُ أَنَّ مَن نَفَى عَنْهُ الرَّسُولُ اسْمَ الإِيمَانِ وَالإِسْلامِ فَلا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَرَكَ بَعْضَ الوَاجِبَاتِ وَإِنْ بَقِيَ بَعْضُهَا.
وَلهَذَا كَانَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ عَلَى أَنَّهُ يَتَفَاضَلُ وَجُمْهُورُهُمْ يَقُولُونَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ. وَمِنْهُمْ مَن يَقُولُ يَزِيدُ وَلا يَنْقُصُ. وَقَدْ ثَبَتَ لَفْظُ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ عَن الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُعْرَفْ فِيهِ مُخَالِفٌ مِن الصَّحَابَةِ فَعَنْ عُمَيْرِ بْنِ حَبِيبٍ الخَطْمِيِّ قَالَ: الإِيمَانُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ قِيلَ: وَمَا زِيَادَتُهُ وَمَا نُقْصَانُهُ؟ قَالَ: إِذَا ذَكَرْنَا اللَّهُ وَحَمِدْنَاهُ وَسَبَّحْنَاهُ فَتِلْكَ زِيَادَتُهُ وَإِذَا غَفَلْنَاهُ وَنَسِينَاهُ فَتِلْكَ نُقْصَانُهُ. وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: الإِيمَانُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ وَقَالَ إنَّ مِن فِقْهِ الرَّجُلِ أنْ يَتَعَاهَدَ إِيمَانَهُ وَمَا نَقَصَ منْهُ وَمِن فِقْهِ العَبْدِ أنْ يَعْلَمَ أَيُزَادُ هُوَ؟ أَمْ يَنْقُصُ؟ وَإِنَّ مَنْ فِقْهِ الرَّجُلِ أَنْ يَعْلَمَ نَزَعَاتِ الشَّيْطَانِ أَيْنَ تَأْتِيهِ؟
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: الإِيمَانُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ. وَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِن الصَّحَابَةِ.
وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ أَثْبَتَهَا الصَّحَابَةُ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُزُولِ القُرْآنِ كُلِّهِ.
وَالزِّيَادَةُ قَدْ نَطَقَ بِهَا القُرْآنُ فِي عِدَّةِ آيَاتٍ كَقَوْلهِ: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُليَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيْمَـاناً} وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ إِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمُ الآيَاتُ أَيْ: وَقْتَ تُلِيَتْ، ليْسَ هُوَ تَصْدِيقُهُمْ بِهَا عِنْدَ النُّزُولِ وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} فَهَذِهِ الزِّيَادَةُ عِنْدَ تَخْوِيفِهِمْ بِالعَدُوِّ.
وَقَالَ: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ}.
وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ ليْسَتْ مُجَرَّدَ التَّصْدِيقِ بَأَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهَا بَل زَادَتْهُمْ إيماناً بِحَسَبِ مُقْتَضَاهَا فَإِنْ كَانَتْ أمراً بِالجِهَادِ أَوْ غَيْرِهِ ازْدَادُوا رَغْبَةً وَإِنْ كَانَتْ نهياً عَن شَيْءٍٍ انْتَهَوْا عَنْهُ فَكَرِهُوهُ. وَقَالَ: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُواْ إِيمَاناً} وَقَالَ: {ليَزْدَادُواْ إِيْمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} وَقَالَ: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} وَقَالَ: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى}.
قَوْلُهُ: وَلا يُكَفِّرُونَ أَهْلَ القِبْلَةِ بِمُطْلَقِ المَعَاصِي وَالكَبَائِرِ. إِلَخْ
فَالكَبَائِرُ دُونَ الكُفْرِ وَالشِّرْكِ لا يَخْرُجُ مُرْتَكِبُهَا مِن المِلَّةِ كَمَا قَالَ المُؤَلِّفُ، وَلا يَسْلُبُونَ الفَاسِقَ الْمِلِّيَّ أَيِ: المُنْتَسِبَ للْمِلَّةِ الإِسْلامِيَّةِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ مَا يُوجِبُ رِدَّتَهُ.
وَمَسْأَلَةُ التَّكْفِيرِ مِن أَكْبَرِ المَسَائِلِ الَّتِي حَصَلَ فِيهَا الاخْتِلافُ فِي الأُمَّةِ وَتَفَرَّقُوا فِيهَا شِيَعاً " وَكَانَ النَّاسُ فِي قَدِيمِ الزَّمَانِ قَدِ اخْتَلَفُوا فِي الفَاسِقِ الْمِلِّيِّ وَهُوَ مِن أَوَّلِ اخْتِلافِ حَدَثَ فِي المِلَّةِ هَلْ هُوَ مُؤْمِنٌ أَوْ كَافِرٌ؟ فَقَالَتِ الخَوَارِجُ: إِنَّهُ كَافِرٌ. وَقَالَتِ الجَمَاعَةُ إِنَّهُ مُؤْمِنٌ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: نَقُولُ هُوَ فَاسِقٌ لا مُؤْمِنٌ وَلا كَافِرٌ نُنَزِّلُهُ مَنْزِلَةً بَيْنَ المَنْزِلَتَيْنِ وَخَلَّدُوهُ فِي النَّارِ وَاعْتَزَلُوا حَلْقَةَ الحَسَنِ البَصْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَصْحَابِهِ فَسُمُّوا مُعْتَزِلَةً.
فَأَوَّلُ بِدْعَةِ المُعْتَزِلَةِ تَكلُّمُهُمْ فِي مَسَائِلِ الأَحْكَامِ وَالوَعِيدِ.
وَالأَدِلَّةُ مِن القُرْآنِ وَالسُّنَّةِ صَرِيحَةٌ فِي إِبْطَالِ قَوْلِ الخَوَارِجِ وَالمُعْتَزِلَةِ كَمَا فِي قَوْلهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِن المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} إِلَى قَوْلهِ: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} فَسَمَّاهُمْ إِخْوَةً مَعَ تَقَاتُلِهِمْ. وَكَذَلكَ قَوْله {فَمَنْ عُفِيَ لهُ مِن أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالمَعْرُوفِ} فَسَمَّى القَاتِلَ أخاً للْمَقْتُولِ. وَهِيَ الإِخُوَّةُ الإِيمَانِيَّةُ مَعَ قَوْلهِ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مُرْتَكِبَ الكَبِيرَةِ مُتَوَعَّدٌ بِالعِقَابِ إِذَا لمْ يَتُبْ وَأَنَّهُ لا يَخْرُجُ مِن الإِسْلامِ مَا لمْ يَرْتَكِبْ مَا يَقْتَضِي كُفْرَهُ.
وَلا يَجُوزُ تَكْفِيرُ المُسْلمِ بِذَنْبٍ فَعَلَهُ وَلا بِخَطَإٍ أَخْطَأَ فِيهِ كَالمَسَائِلِ الَّتِي تَنَازَعَ فِيهَا أَهْلُ القِبْلَةِ. وَالخَوَارِجُ المَارِقُونَ الذين أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِتَالِهِمْ قَاتَلَهُمْ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَليُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَحَدُ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ.
وَاتَّفَقَ عَلَى قِتَالِهِمْ أَئِمَّةُ الدِّينِ مِن الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَن بَعْدَهُمْ. وَلَمْ يُكَفِّرْهُمْ عَليُّ بْنُ أَبِي طَالبٍ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَغَيْرُهُمَا مِن الصَّحَابَةِ، بَلْ جَعَلُوهُمْ مُسْلمِينَ مَعَ قِتَالِهِمْ وَلَمْ يُقَاتِلْهُمْ عَلِيٌّ حَتَّى سَفَكُوا الدَّمَ الحَرَامَ وَأَغَارُوا عَلَى أَمْوَالِ المُسْلمِينَ فَقَاتَلَهُمْ لدَفْعِ ظُلْمِهِمْ وَبَغْيِهِمْ، لا لأَنَّهُمْ كُفَّارٌ. وَلهَذَا لمْ يَسْبِ حَرِيمَهُمْ وَلَمْ يَغْنَمْ أَمْوَالَهُمْ.
وَإِذَا كَانَ هَؤُلاءِ الذين ثَبَتَ ضَلالُهُمْ بِالنَّصِّ وَالإِجْمَاعِ لمْ يَكْفُرُوا مَعَ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِتَالِهِمْ فَكَيْفَ بِالطَّوَائِفِ المُخْتَلفِينَ الذين اشْتَبَهَ عَلَيْهِمُ الحَقُّ فِي مَسَائِلَ غَلَطَ فِيهَا مَن هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ فَلا يَحِلُّ لإِحْدَى هَذِهِ الطَّوَائِفِ أَنْ تُكَفِّرَ الأُخْرَى وَلا تَسْتَحِلُّ دَمَهَا وَمَالَهَا وَإِنْ كَانَتْ فِيهَا بِدْعَةٌ مُحَقَّقَةٌ فَكَيْفَ إِذَا كَانَتِ المُكَفِّرَةُ لهَا مُبْتَدِعَةً أيضاً؟ وَقَدْ تَكُونُ بِدْعَةُ هَؤُلاءِ أَغْلَظَ.
وَالغَالبُ أَنَّهُمْ جميعاً جُهَّالٌ بِحَقَائِقِ مَا يَخْتَلفُونَ فِيهِ. وَالأَصْلُ أَنَّ دِمَاء المسلمين وأَمْوالَهمْ وأعْراضَهمْ مُحَرَّمَةٌ مِن بعضِهم عَلَى بعضٍ لاَ تَحِلُّ إلاَّ بإذْنِ اللهِ ورسولِهِ.
وَإذَا كانَ المسلمُ مُتَأوِّلاً فِي القتالِ أو التكَّفـيِر لمْ يُكَفَّرْ بذلك كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِحَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا المُنَافِقِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْراً وَمَا يُدْرِيكَ لعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لكُمْ ".
وَهَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَفِيهِمَا أيضاً مِن حَدِيثِ الإِفْكِ أَنَّ أُسَيْدَ بْنَ الْحُضَيْرِ قَالَ لسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ:" إِنَّك مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَن المُنَافِقِينَ وَاخْتَصَمَ الفَرِيقَانِ فَأَصْلَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمْ فَهَؤُلاءِ البَدْرِيُّونَ فِيهِمْ مَن قَالَ لآخَرَ مِنْهُمْ إِنَّك مُنَافِقٌ وَلَمْ يُكَفِّرِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا هَذَا وَلا هَذَا، بَلْ شَهِدَ للْجَمِيعِ بِالجَنَّةِ.
فَهَكَذَا السَّلَفُ قَاتَلَ بَعْضُهُمْ بعضاً مِن أَهْلِ الجَمَلِ وَصِفِّينَ ونَحْوِهِمْ وَكُلُّهُمْ مُسْلمُونَ مُؤْمِنُونَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُواْ الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالعَدْلِ وَأَقْسِطُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} فَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ مَعَ اقْتِتَالِهِمْ وَبَغِيِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ إِخْوَةٌ مُؤْمِنُونَ وَأَمَرَ بِالإِصْلاحِ بَيْنَهُمْ بِالعَدْلِ. وَلهَذَا كَانَ السَّلَفُ مَعَ الاقْتِتَالِ يُوَالي بَعْضُهُمْ بعضاً مُوَالاةَ الدِّينِ لا يُعَادَوْنَ كَمُعَادَاةِ الكُفَّارِ فَيَقْبَلُ بَعْضُهُمْ شَهَادَةَ بَعْضٍ وَيَأْخُذُ بَعْضُهُمُ العِلْمَ مِن بَعْضٍ،وَيَتَوَارَثُونَ ويَتَنَاكَحُونَ وَيَتَعَامَلُونَ بِمُعَامَلَةِ المُسْلمِينَ بَعْضَهُمْ مَعَ بَعْضٍ مَعَ مَا كَانَ بَيْنَهُمْ مِن القِتَالِ وَالتَّلاعُنِ وَغَيْرِ ذَلكَ.
وَالنَّاسُ مُضْطَرُّونَ فِي تَكْفِيرِ أَهْلِ الأَهْوَاءِ وَقَدْ حُكِيَ عَن مَالكٍ فِيهَا رِوَايَتَانِ وَعَن الشَّافِعِيِّ فِيهَا قَوْلانِ، وَعَن الإِمَامِ أَحْمَدَ أيضاً فِيهَا رِوَايَتَانِ، وَكَذَلكَ أَهَّلُ الكَلامِ فَذَكَرُوا للأَشْعَرِيِّ فِيهَا قَوْلَيْنِ، وَغَالبُ مَذَاهِبِ الأَئِمَّةِ فِيهَا تَفْصِيلٌ، وَحَقِيقَةُ الأَمْرِ فِي ذَلكَ أَنَّ القَوْلَ قَدْ يَكُونُ كُفْراً فَيُطْلَقُ القَوْلُ بِتَكْفِيرِ صَاحَبِهِ وَيُقَالُ: مَن قَالَ هَذَا فَهُوَ كَافِرٌ.
لَكِنَّ الشَّخْصَ المُعِيَّنَ الذي قَالَهُ: لا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ حَتَّى تَقُومَ عَلَيْهِ الحُجَّةُ الَّتِي يَكْفُرُ تَارِكُهَا، وَهَذَا كَمَا فِي نُصُوصِ الوَعِيدِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} فَهَذَا وَنَحْوُهُ مِن نُصُوصِ الوَعِيدِ حَقٌّ لكِنَّ الشَّخْصَ المُعَيَّنَ لا يُشْهَدُ عَلَيْهِ بِالوَعِيدِ فَلا يُشْهَدُ عَلَى مُعَيَّنٍ مِن أَهْلِ القِبْلَةِ بِالنَّارِ لجَوَازِ أَنْ لا يَلْحَقَهُ الوَعِيدُ لفَوَاتِ شَرْطٍ أَوْ ثُبُوتِ مَانِعٍ فَقَدْ لا يَكُونُ التَّحْرِيمُ بَلَغَهُ، وَقَدْ يَتُوبُ مِن فِعْلِ المُحَرَّمِ وَقَدْ تَكُونُ لهُ حَسَنَاتٌ عَظِيمَةٌ تَمْحُوَ عُقُوبَةَ ذَلكَ المُحَرَّمِ.
وَقَدْ يُبْتَلَى بِمَصَائِبَ تُكَفِّرُ عَنْهُ وَقَدْ يَشْفَعُ فِيهِ شَفِيعٌ مُطَاعٌ. وَهَكَذَا الأَقْوَالُ الَّتِي تُكَفِّرُ قَائِلَهَا قَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ لمْ تَبْلُغْهُ النُّصُوصُ المُوجِبَةُ لمَعْرِفَةِ الحَقِّ، وَقَدْ يَكُونُ بَلَغَهُ وَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ أَوْ لمْ يَتَمَكَّنْ مِن فَهْمِهَا، وَقَدْ يَكُونُ عَـرَضَتْ لهُ شُبَهَاتٌ يَعْذُرُهُ اللَّهُ بِهَا فَمَنْ كَانَ مِن المُؤْمِنِينَ مُجْتَهِداً فِي طَلَبِ الحَقِّ وَأَخْطَأَ، فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لهُ خَطَأَهُ كائناً مَا كَانَ سَوَاءٌ كَانَ فِي المَسَائِلِ النَّظَرِيَّةِ وَالعِلْمِيَّةِ أَوِ المَسَائِلِ الْفُرُوعِيَّةِ العَمَليَّةِ، هَذَا الذي عَلَيْهِ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَمَاهِيرُ أَئِمَّةِ الإِسْلامِ.
وَأَمَّا تَفْرِيقُ المَسَائِلِ إِلَى مَسَائِلِ أُصُولٍ يَكْفُرُ بِإِنْكَارِهَا وَمَسَائِلِ فُرُوعٍ لا يَكْفُرُ بِإِنْكَارِهَا، فَهَذَا التَّفْـرِيقُ ليْسَ لهُ أَصْلٌ عَن الصَّحَابَةِ وَلا عَن التَّابِعِينَ لهُمْ بِإِحْسَانٍ وَلا أَئِمَّةِ الإِسْلامِ وَإِنَّمَا هُوَ مَأْخُوذٌ عَن المُعْتَزِلَةِ وَأَمْثَالِهِمْ مِن أَهْلِ البِدَعِ وَعَنْهُمْ تَلَقاهُ مَنْ ذَكَرَهُ مِن الفُقَهَاءِ فِي كُتُبِهِمْ وَهُوَ تَفْرِيقٌ مُتَنَاقِضٌ، فَإِنَّهُ يُقَالُ لِمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ: مَا حَدُّ مَسَائِلِ الأُصُولِ الَّتِي يَكْفُرُ المُخْطِئُ فِيهَا؟ وَمَا الفَاصِلُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَسَائِلِ الفُرُوعِ؟ فَإِنْ قَالَ: مَسَائِلُ الأُصُولِ هِيَ مَسَائِلُ الاعْتِقَادِ،وَالفُرُوعُ مسـائلُ العَمَلِ قِيلَ له: فتَنَازَعَ النَّاسُ في محمَّدٍ صلَّى اللهُ علَيهِ وسلَّمَ هل رَأَى ربَّه أمْ لاَ؟ وفِي أنَّ عُثْمَانَ أفضلُ أمْ عَلِيٌّ أفضلُ؟ وفِي كثيٍر مِن مَعَانِي القرآنِ وتَصْحِيحِ بعضِ الأحاديثِ هِيِ من المَسَائِلِ الاعْتِقَادِيَّةِ لا العِلْمِيَّةِ وَلا كُفْرَ فِيهَا بِالاتِّفَاقِ، وَوُجُوبُ الصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالحَجِّ وَتَحْرِيمُ الفَوَاحِشِ وَالخَمْرِ هِيَ مَسَائِلُ عَمَليَّةٌ وَالمُنْكِرُ لهَا يَكْفُرُ بِالاتِّفَاقِ وَإِنْ قَالَ الأُصُولَ هِيَ المَسَائِلُ القَطْعِيَّةُ؟ قِيـلَ لهُ: كَثِير مِن مَسَائِلِ العَمَلِ قَطْعِيَّةٌ وَكَثِيرٌ مِن مَسَائِلِ النَّظَرِ ليْسَتْ قَطْعِيَّةً، وَكَوْنُ المَسْأَلَةِ قَطْعِيَّةً أَوْ ظَنِّيَّةً هُوَ مِن الأُمُورِ الإِضَافِيَّةِ وَقَدْ تَكُونُ المَسْأَلَةُ عِنْدَ رِجْلٍ قَطْعِيَّةً لظُهُورِ الدَّليلِ القَاطِعِ لهُ كَمَنْ يَسْمَعُ النَّصَّ مِن رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَيَقَّنَ مُرَادُهُ مِنْهُ، وَعِنْدَ رَجُلٍ لا تَكُونُ ظَنِّيَّةً فضلاً عَن أَنْ تَكُونَ قَطْعِيَّةً لعَدَمِ بُلُوغِ النَّصِّ إِيَّاهُ، أَوْ لعَدَمِ ثُبُوتِهِ عِنْدَهُ أَوْ لعَدَمِ تَمَكُّنِهِ مِن العِلْمِ بِدَلاَلَتِهِ.
وَمَذَاهِبُ الأَئِمَّةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ بَيْنَ النَّوْعِ وَالعَيْنِ، وَلهَذَا حَكَى طَائِفَةٌ عَنْهُمُ الخِلافَ فِي ذَلكَ وَلَمْ يَفْهَمُوا أَغْوَارَهُمْ فَطَائِفَةٌ تَحْكِي عَن أَحْمَدَ فِي تَكْفِيرِ أَهْلِ البِدَعِ رِوَايَتَيْنِ مطلقاً حَتَّى تَجْعَلَ الخِلافَ فِي تَكْفِيرِ المُرْجِئَةِ وَالشِّيعَةِ المُفَضِّلَةِ لِعَلِيٍّ وَرُبَّمَا رَجَّحَتِ التَّكْفِيرَ وَالتَّخْليدَ.
وَلَيْسَ هَذَا مَذْهَبُ أَحْمَدَ وَلا غَيْرِهِ مِن أَئِمَّةِ الإِسْلامِ بَلْ لا يَخْتَلِفُ قَوْلُهُ أَنَّهُ لا يُكَفِّرُ المُرْجِئَةَ الذين يَقُولُونَ: الإِيمَانُ قَوْلٌ بِلا عَمَلٍ وَلا يُكَفِّرُ مَن فَضَّلَ عَلِيًّا عَلَى عُثْمَانَ بَلْ نُصُوصُهُ صَرِيحَةُ بالامْتِنَاعِ مِن تَكْفِيرِ الخَوَارِجِ، وَالقَدَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ وَإِنَّمَا كَانَ يُكَفِّرُ الجَهْمِيَّةَ المُنْكِرِينَ لأَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ لأَنَّ مُنَاقَضَةَ أَقْوَالِهِمْ لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظَاهِرَةٌ بَيِّنَةٌ ؛ وَلأَنَّ حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ تَعْطِيلُ الخَالِقِ.
وَكَانَ قَدِ ابْتُلِيَ بِهِمْ حَتَّى عَرَفَ حَقِيقَةَ أَمْرِهِمْ وَأَنَّهُ يَدُورُ عَلَى التَّعْطِيلِ. وَتَكْفِيرُ الجَهْمِيّةِ مَشْهُورٌ عَن السَّلَفِ وَالأَئِمَّةِ، لكِنْ مَا كَانَ يُكَفِّرُ أَعْيَانَهُمْ فَإِنَّ الذي يَدْعُو إِلَى القَوْلِ أَعْظَمُ مِن الذي يَقُولُ بِهِ وَالذي يُعَاقَبُ مُخَالَفَةً أَعْظَمُ مِن الذي يَدْعُو فَقَطْ وَالذي يَكْفُرُ مُخَالَفَةً أَعْظَمُ مِن الذي يُعَاقِبُهُ.
وَمَعَ هَذَا فَالذين كَانُوا مِن وُلاةِ الأُمُورِ يَقُولُونَ بِقَوْلِ الجَهْمِيِّةِ: إِنَّ القُرْآنَ مَخْلُوقٌ. وَأَنَّ اللَّهَ لا يُرَى فِي الآخِرَةِ وَغَيْرِ ذَلكَ وَيَدْعُونَ النَّاسَ إِلَى ذَلكَ وَيَمْتَحِنُونَهُمْ وَيُعَاقِبُونَهُمْ إِذَا لمْ يُجِيبُوهُمْ وَيُكَفِّرُونَ مَن لمْ يُجِبْهُمْ حَتَّى إِنَّهُمْ إِذَا افْتَكُّوا الأَسِيرَ لا يُطْلِقُونَهُ حَتَّى يُقِرَّ بِقَوْلِ الجَهْمِيِّةِ أَنَّ القُرْآنَ مَخْلُوقٌ وَغَيْرِ ذَلكَ وَلا يُولُونَ مُتولِّياً وَلا يُعْطُونَ رزقاً مِن بَيْتِ المَالِ إِلا لمَنْ يَقُولُ ذَلكَ، وَمَعَ هَذَا فَالإِمَامُ أَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَرَحَّمَ عَلَيْهِمْ وَاسْتَغْفَرَ لهُمْ لعِلْمِهِ بِأَنَّهُ لمْ يَتَبَيَّنْ لهُمْ أَنَّهُمْ مُكَذِّبُونَ للرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلا جَاحِدُونَ لِمَا جَاءَ بِهِ لكِنْ تَأَوَّلُوا فَأَخْطَأُوا وَقَلَّدُوا مَن قَالَ لهُمْ ذَلكَ.
وَكَذَلكَ الشَّافِعِيُّ لمَا قَالَ لِحفْصٍ الفَرْدِ حِينَ قَالَ: القُـرْآنُ مَخْلُوقٌ كَفَرْتَ بِاللَّهِ العَظِيمِ بَيَّنَ لهُ أَنَّ هَذَا القَوْلَ كُفْرٌ وَلَمْ يَحْكُمْ بِرِدَّةِ حَفْصٍ بِمُجَرَّدِ ذَلكَ ؛ لأَنَّهُ لمْ يَتَبَيَّنْ لهُ بَعْدُ الحُجَّةُ الَّتِي يَكْفُرُ بِهَا وَلَوْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ مُرْتَدٌّ لسَعَى فِي قَتْلِهِ وَقَدْ صَرَّحَ فِي كُتُبِهِ بِقَبُولِ شَهَادَةِ أَهْلِ الأَهْوَاءِ وَالصَّلاةِ خَلْفَهُمْ.
وَكَذَلكَ قَالَ مَالكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي الْقَدَرِيِّ إِنْ جَحَدَ عِلْمَ اللَّهِ كَفَرَ، وَلَفْظُ بَعْضِهِمْ: نَاظِرُوا القَدَرِيَّةَ بِالعِلْمِ فَإِنْ أَقَرُّوا بِهِ خَصَمُوا وَإِنْ جَحَدُوهُ كَفَرُوا وَسُئِلَ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَن الْقَدَرِيِّ هَلْ يَكْفُرُ؟ قَالَ إِنْ جَحَدَ العِلْمَ كَفَرَ وَحِينَئِذٍ فَجَاحِدُ العِلْمِ هُوَ مِن جِنْسِ الجَهْمِيِّةِ.
وَأَمَّا قَتْلُ الدَّاعِيَةِ إِلَى البِدَعِ فَقَدْ يُقْتَلُ لكَفِّ ضَرَرِهِ عَن النَّاسِ كَمَا يُقْتَلُ المُحَارِبُ وَإِنْ لمْ يَكُنْ فِي نَفْسِ الأَمْرِ كافراً فَلَيْسَ كُلُّ مَن أُمِرَ بِقَتْلِهِ يَكُونُ قَتْلُهُ لرِدَّتِهِ.
وَعَلَى هَذَا قُتِلَ غَيْلانُ القَدَرِيُّ وَغَيْرُهُ قَدْ يَكُونُ عَلَى هَذَا الوَجْهِ.
وَأَمَّا الرَّافِضَةُ وَتَفْصِيلُ القَوْلِ فِيهِمْ " فَمَنْ اقْتَرَنَ بِسَبِّهِ دَعْوَى أَنَّ عَلِيًّا إِلَهٌ أَوْ أَنَّهُ هُوَ النَّبِيُّ وَإِنَّمَا غَلَطَ جِبْرِيلُ فِي الرِّسَالَةِ فَهَذَا لا شَكَّ فِي كُفْرِهِ بَلْ لا شَكَّ فِي كُفْرِ مَن تَوَقَّفَ فِي تَكْفِيرِهِ، وَكَذَلكَ مَن زَعَمَ مِنْهُمْ أَنَّ القُرْآنَ نَقَصَ مِنْهُ آيَاتٌ وَكُتِمَتْ أَوْ زَعَـمَ أَنَّ لهُ تَأْوِيلاتٍ بَاطِنَةً تُسْقِطُ الأَعْمَالَ المَشْرُوعَةَ وَنَحْوَ هَذَا، وَهَؤُلاءِ يُسَمَّوْنَ القَرَامِطَةَ وَالبَاطِنِيَّةَ وَمِنْهُمُ التَّنَاسُخِيَّةُ وَهَؤُلاءِ لا خِلافَ فِي كُفْرِهِمْ.
وَأَمَّا مَن سَبَّهُمْ سبًّا لا يَقْدَحُ عَدَالَتَهُمْ وَلا فِي دِينِهِمْ مِثْلَ وَصْفِ بَعْضِهِمْ بِالبُخْلِ أَوِ الجُبْنِ أَوْ قِلَّةِ العِلْمِ أَوْ عَدَمِ الزَّاهِدِ وَنَحْوِ ذَلكَ فَهَذَا هُوَ الذي يَسْتَحِقُّ التَّأْدِيبَ وَالتَّعْزِيزَ وَلا نَحْكُمُ بِكُفْرِهِ بِمُجَرَّدِ ذَلكَ.
وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ كَلامُ مَن لمْ يُكَفِّرْهُمْ مِن أَهْلِ العِلْمِ. وَأَمَّا مَن لَعَنَ وَقَبَّحَ مُطلقاً فَهَذَا مَحَلُّ الخِلافِ فِيهِمْ لتَرَدُّدِ الأَمْرِ بَيْنَ لعْنِ الغَيْظِ وَلَعْن الاعْتِقَادِ.
وَأَمَّا مَن جَاوَزَ ذَلكَ إِلَى أَنْ زَعَمَ أَنَّهُمْ ارْتَدُّوا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلا نَفَراً قليلاً لا يَبْلُغُونَ بِضْعَةَ عَشَرَ نفساً أَوْ أَنَّهُمْ فَسَّقُوا عَامَّتَهُمْ.
فَهَذَا لا رَيْبَ أيضاً فِي كُفْرِهِ؛ لأَنَّهُ مُكَذِّبٌ لِمَا نَصَّهُ القُرْآنُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِن الرِّضَا عَنْهُمْ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ. بَل مَن يَشُكُّ فِي كُفْرٍ مِثْلِ هَذَا فَإِنَّ كُفْرَهُ مُتَعَيَّنٌ. فَإِنَّ مَضْمُونَ هَذِهِ المَقَالَةِ أَنَّ نَقَلَةَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كُفَّارٌ، أَوْ فُسَّاقٌ.
وَأَنَّ هَذِهِ الآيَةَ الَّتِي هِيَ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ للنَّاسِ} وَخَيْرُهَا هُوَ القَرْنُ الأَوَّلُ كَانَ عَامَّتُهُمْ كُفَّاراً أَوْ فُسَّاقاً. وَمَضْمُونُهَا أَنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ شَرُّ الأُمَمِ وَأَنَّ سَابِقِي هَذِهِ الأُمَّةِ هُمْ شِرَارُهَا.
وَكُفْرُ هَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بِالاضْطِرَارِ مِن دِينِ الإِسْلامِ. وَلهَذَا نَجِدُ عَامَّةَ مَن ظَهَرَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِن هَذِهِ الأَقْوَالِ فَإِنَّهُ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ زِنْدِيقٌ وَعَامَّةُ الزَّنَادِقَةِ إِنَّمَا يَسْتَتِرُونَ بِمَذْهَبِهِمْ وَقَدْ ظَهَرَتْ فِيهِمْ مُثُلاتٌ.
وَتَوَاتَرَ النَّقْلُ بِأَنَّ وُجُوهَهُمْ تُمْسَخُ خَنَازِيرَ فِي المَحْيَا وَالمَمَاتِ. وَجَمَعَ العُلَمَاءُ مَا بَلَغَهُمْ فِي ذَلكَ وَبِالجُمْلَةِ فَمِن أَصْنَافِ السَّابَّةِ مَن لا رَيْبَ فِي كُفْرِهِ، وَمِنْهُمْ مَن تَرَدَّدَ.
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لا يَزِنِّي الزَّانِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ " إِلَخْ هَذَا الحَدِيثُ خَرَّجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَفِي آخِرِهِ: " وَالتَّوْبَةُ مَعْرُوضَةٌ بَعْدُ ".
وَزَادَ مُسْلمٌ وَلا: " يَغُلُّ حِينَ يَغُلُّ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَإِيَّاكُمْ إِيَّاكُمْ " وَزَادَ أَبُو بَكْرٍ البَزَّارُ فِي المُسْنَدِ: " مِنْهُ يُنْزَعُ الإِيمَانُ مِنْ قَلْبِهِ فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ ".
فَهَذَا الحَدِيثُ يَرُدُّ قَوْلَ المُرْجِئَةِ والجَهْمِيِّةِ وَمَن اتَّبَعَهُمْ مِن الكَرَّامِيَّةِ والأَشْعَرِبَّةِ الذين يَقُولُونَ: إِنَّ مُرْتَكِبَ الكَبِيرَةِ مُؤْمِنٌ كَامِلُ الإِيمَانِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ الإِيمَانَ لا يُتَفَاضَلُ، وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَزُولَ بِالكُليَّةِ أَوْ يَبْقَى كاملاً. وَقَوْلُهُمْ ظَاهِرُ البُطْلانِ.
فَقَدْ دَلَّ الحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الزَّانِيَ وَالسَّارِقَ وَشَارِبَ الخَمْرِ حِينَ فِعْلِهِمُ المَعْصِيَةَ فَقَدْ انْتَفَى الإِيمَانُ عَنْهُمْ. وَقَدْ دَلَّتِ النُّصُوصُ الكَثِيرَةُ مِن الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى أَنَّهُمْ غَيْرُ مُرْتَدِّينَ بِذَلكَ فَعُلِمَ أَنَّ الإِيمَانَ المَنْفِيَّ فِي هَذَا الحَدِيثِ وَغَيْرِهِ إِنَّمَا هُوَ كَمَا الإِيمَانُ الوَاجِبُ.
" فَإِنَّ أَصْلَ الإِيمَانِ التَّصْدِيقُ وَالانْقِيَادُ. فَهَذَا أَصْلُ الإِيمَانِ الذي مَن لمْ يَأْتِ بِهِ فَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ. وَقَدْ تَوَاتَرَ فِي الأَحَادِيثِ: " أَخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٌ وَالإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ أَوْ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً أَعْلاهَا قَوْلُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ وَالحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الإِيمَانِ "
فَعُلِمَ أَنَّ الإِيمَانَ يَقْبَلُ التَّبْعِيضَ وَالتَّجْزِئَةَ وَأَنَّ قَليلَهُ يَخْرُجُ بِهِ صَاحِبُهُ مِن النَّارِ وَإِنْ دَخَلَهَا، وَلَيْسَ كَمَا يَقُولُهُ الخَارِجُونَ عَن مَقَالَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُ لا يَقْبَلُ التَّبْعِيضَ وَالتَّجْزِئَةَ بَلْ هُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ إِمَّا أَنْ يَحْصُلَ كُلَّهُ وَإِمَّا أَنْ لا يَحْصُلَ مِنْهُ شَيْءٌ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ " الحَدِيثَ فَفِي الإِيمَانِ الوَاجِبِ عَنْهُ الذي يَسْتَحِقُّ بِهِ الجَنَّةَ وَلا يَسْتَلْزِمُ ذَلكَ نَفْيَ أَصْلِ الإِيمَانِ وَسَائِرِ أَجْزَائِهِ وَشُعَبِهِ هَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ: نَفْيُ كَمَالِ الإِيمَانِ.
وَحَقِيقَةُ ذَلك أنَّ الكَمَالَ الوَاجِبَ ليْسَ هُوَ الكَمَالَ المُسْتَحَبَ المذكورَ فِي قَوْلِ الفقهاءِ الغُسْلَُ كاملٌ ومُجْزِئٌ. ومِنه قولُه عليهِ السَّلامُ: مَن غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا ليسَ المرادُ به أنَّه كافِرٌ كمَا تَأَوَّلتْه الخوارجُ ولا أنَّه ليسَ مِن خِيارِنَا كما تَأَوَّلَتْهُ المُرْجِئَةُ وَلَكِنَّ المُضْمَرَ يُطَابِقُ الْمُظْهَرَ وَالْمُظْهَرُ هُمْ المُؤْمِنُونَ المُسْتَحِقُّونَ للثَّوَابِ السَّالِمُونَ مِن العَذَابِ وَالفَاسِقُ ليْسَ مِنَّا ؛ لأَنَّهُ مُتَعَرِّضٌ لعَذَابِ اللَّهِ وَسَخطِهِ. " فَإِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَنْفِي اسْمَ أَمْرٍ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ إِلا إِذَا تَرَكَ وَاجِبَاتِهِ كَقَوْلِهِ: " لا صَلاةَ إِلا بِأُمِّ القُرْآنِ " وَقَوْلُهُ:" لاَ إِيْمَانَ لِمَنْ لاَ أَمَانَةَ لهُ وَلاَ دِينَ لِمَنْ لاَ عَهْـدَ لهُ ". وَنَحْوُ ذَلكَ فَأَمَّا إِذَا كَانَ الفِعْلُ مُسْتَحَبًّا فِي العِبَادَةِ لمْ يَنْفِهَا الانْتِفَاءُ المُسْتَحَبُّ فَإِنَّ هَذَا لوْ جَازَ لجَازَ أَنْ يُنْفَى مِن جُمْهُورِ المُؤْمِنِينَ اسْمُ الإِيمَانِ وَالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ ؛ لأَنَّهُ مَا مِن عَمَلٍ إِلا وَغَيْرُهُ أَفْضَلَ مِنْهُ.
وَلَيْسَ أَحَدٌ يَفْعَلُ أَفْعَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ وَلا أَبُو بَكْرٍ وَلا عُمَرُ فَلَوْ كَانَ مَن لمْ يَأْتِ بِكَمَالِهَا المُسْتَحَبِّ يَجُوزُ نَفْيُهَا عَنْهُ لجَازَ أَنْ يُنْفَى عَن جُمْهُورِ المُسْلمِينَ مِن الأَوَّلينَ وَالآخِرِينَ.
وَهَذَا لا يَقُولُهُ عَاقِلٌ فَمَنْ قَالَ: إِنَّ المَنْفِيَّ هُوَ الكَمَالُ فَإِنْ أَرَادَ الكَمَالَ الذي يُذَمُّ تَارِكُهُ وَيَتَعَرَّضُ للْعُقُوبَةِ فَقَدْ صَدَقَ.
وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ نَفْيُ الكَمَالِ المُسْتَحَبِّ فَهَذَا لمْ يَقَعْ قَطُّ فِي كَلامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ فَإِنَّ مَن فَعَلَ الوَاجِبَ كَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَنْتَقِصْ مِن وَاجِبِهِ شَيْئاً لمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ: مَا فَعَلْتُهُ لا حَقِيقَةً وَلا مجازاً فَاسْمُ الإِيمَانِ إِذَا أُطْلِقَ فِي كَلامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَنَى الإِيمَانَ فَلا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَرَكَ واجباً أَوْ فَعَلَ مُحَرَّماً فَلا يَدْخُلُ فِي الاسْمِ الذي يَسْتَحِقُّ أَهْلُهُ الوَعْدَ دُونَ الوَعِيدِ، بَلْ يَكُونُ مِن أَهْلِ الوَعِيدِ.
" وَالخَوَارِجُ وَمَن يَذْهَبُ مَذْهَبَهُمْ مِمَّنْ يُكَفِّرُ المُسْلمِينَ بِالذُّنُوبِ يَحْتَجُّونَ بِالحَدِيثِ وَيَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهِ. وَتَأْوِيلُهُ عِنْدَ العُلَمَاءِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
(أَحَدُهُمَا) أَنَّ مَعْنَاهُ النَّهْيُ وَإِنْ كَانَتْ صُورَتُهُ صُورَةَ الخَبَرِ يُرِيدُ: لا يَزْنِ الزَّانِي بِحَذْفِ اليَاءِ: وَلا يَسْرِقِ السَّارِقُ بِكَسْرِ القَافِ عَلَى مَعْنَى النَّهْيِ يَقُولُ: إِذْ هُوَ مُؤْمِنٌ لا يَزْنِي وَلا يَسْرِقُ وَلا يَشْرَبُ الخَمْرَ فَإِنَّ هَذِهِ الأَفْعَالَ لا تَليقُ بِالمُؤْمِنِينَ وَلا تُشْبِهُ أَوْصَافهمْ.
(وَالْوَجْهُ الآخَرُ) إِنَّ هَذَا كَلامُ وَعِيدٍ لا يُرَادُ بِهِ الإِيقَاعُ وَإِنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ الرَّدْعُ وَالزَّجْرُ كَقَـوْلهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ". هَذَا كُلُّهُ عَلَى مَعْنَى الزَّجْرِ وَالوَعِيدِ أَوْ نَفْيِ الفَضِيلَةِ وَسَلْبِ الكَمَالِ دُونَ الحَقِيقَةِ فِي رَفْعِ الإِيمَانِ وَإِبْطَالِهِ.
قَوْلُهُ:" وَلا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً ذَاتَ شَرَفٍ " إِلَخْ " النُّهْبَةُ بِضَمِّ النُّونِ المَنْهُوبُ وَقَوْلُهِ: ذَاتَ شَرَفٍ بِالشِّينِ المُعْجَمَةِ قَالَ النَّوَوِيُّ: وَمَعْنَاهُ: ذَاتَ قَدْرٍ عَظِيمٍ. وَقِيلَ: ذَاتَ اسْتِشْرَافٍ يَسْتَشْرِفُ النَّاسُ لهَا نَاظِرِينَ إِلَيْهَا رَافِعِينَ أَبْصَارَهُمْ.
قَالَ عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ: وَرَوَاهُ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ بِالسِّينِ المُهْمَلَةِ، وَكَذَا قَيَّدَهُ بَعْضُهُمْ فِي كِتَابِ مُسْلمٍ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أيضاً ذَاتَ قَدْرٍ عَظِيمٍ فَالرِّوَايَتَانِ حِينَئِذٍ بِمَعْنًى وَاحِدٍ " بَل الفَاسِقُ يَدْخُلُ فِي اسْمِ الإِيمَانِ المُطْلَقِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ}
وَقَدْ لا يَدْخُلُ فِي اسْمِ الإِيمَانِ المُطْلَقِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} الآيَةَ.
فَإِنَّ مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً وَإِنْ كَانَ المُعَتِقُ فاسقاً فِيمَا يُشْتَرَطُ فِي العِتْقِ فِيهِ إِيمَانُ الرَّقَبَةِ كَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالقَتْلِ وَاليَمِينِ أَجَزَّأَتْ بِاتِّفَاقِ العُلَمَاءِ.
فَقَدْ دَخَلَتْ فِي اسْمِ الإِيمَانِ المُطْلَقِ وَإِنْ لمْ تَكُنْ مِن أَهْلِ الإِيمَانِ الكَامِلِ الذي يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ الثَّنَاءَ وَالمَدْحَ وَهُمُ المُؤْمِنُونَ حقاً.
فَالفَاسِقُ ليْسَ مِن المُؤْمِنِينَ الذين وُصِفُوا بِأَنَّهُمْ: {إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُليَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً}.
" وَاخْتُلِفَ فِي مُرْتَكِبِ الكَبِيرَةِ قَوْلانِ لأَهْلِ السُّنَّةِ هَلْ يُسَمَّى مؤمناً نَاقِصَ الإِيمَانِ؟ أَوْ يُقَالُ: ليْسَ بِمُؤْمِنٍ لكِنَّهُ مُسْلمٌ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَن أَحْمَدَ. " وَحَقِيقَةُ الأَمْرِ أَنَّ مَن لمْ يَكُنْ مِن المُؤْمِنِينَ حقاً يُقَالُ فِيهِ أَنَّهُ مُسْلِمٌ وَمَعَهُ إِيمَانٌ يَمْنَعُهُ الخُلُودَ فِي النَّارِ.
وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ لكِنْ هَلْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الإِيمَانِ؟ هَذَا هُوَ الذي تَنَازَعُوا فِيهِ فَقِيلَ: يُقَالُ: مُسْلمٌ وَلا يُقَالُ: مُؤْمِنٌ، وَقِيلَ: بَلْ يُقَالُ: مُؤْمِنٌ.
وَالتَّحْقِيقُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ مُؤْمِنٌ نَاقِصُ الإِيمَانِ مُؤْمِنٌ بِإِيمَانِهِ فَاسِقٌ بِكَبِيرَتِهِ وَلا يُعْطَى الاسْمَ المُطْلَقَ فَإِنَّ الكِتَابَ وَالسُّنَّةَ نَفَيَا عَنْهُ الاسْمَ المُطْلَقَ، وَاسْمُ الإِيمَانِ يَتَنَاوَلُهُ فِيمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُه لأَنَّ ذَلكَ إِيجَابٌ عَلَيْهِ وَتَحْرِيمٌ عَلَيْهِ وَهُوَ لازِمٌ لهُ كَمَا يُلْزِمُ غَيْرَهُ وَإِنَّمَا الكَلامُ فِي المَدْحِ المُطْلَقِ وَعَلَى هَذَا فَالخِطَابُ بِالإِيمَانِ يَدْخُلُ فِيهِ ثَلاثُ طَوَائِفَ، فَيَدْخُلُ فِيهِ المُؤْمِنُ حقًّا، وَيَدْخُلُ فِيهِ المُنَافِقُ فِي أَحْكَامِهِ الظَّاهِرَةِ، وَإِنْ كَانُوا فِي الآخِرَةِ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِن النَّارِ وَهُوَ فِي البَاطِنِ يُنْفَى عَنْهُ الإِسْلامُ وَالإِيمَـانُ وَفِي الظَّاهِرِ يَثْبُتُ لهُ الإِسْلامُ وَالإِيمَانُ الظَّاهِرُ وَيَدْخُلُ فِيهِ الذين أَسْلَمُوا وَلَمْ تَدْخُلْ حَقِيقَةُ الإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ لكِنْ مَعَهُمْ جُزْءٌ مِن الإِيمَانِ وَإِسْلامٌ يُثَابُونَ عَلَيْهِ.
ثُمَّ قَدْ يَكُونُونَ مُفْرِطِينَ فِيمَا فُرِضَ عَلَيْهِمْ. وَلَيْسَ مَعَهُمْ مِن الكَبَائِرِ مَا يُعَاقَبُونَ عَلَيْهِ كَأَهْلِ الكَبَائِرِ لكِنْ يُعَاقَبُونَ عَلَى تَرْكِ المَفْرُوضَاتِ. وَهَؤُلاءِ كَالأَعْرَابِ المَذْكُورِينَ فِي الآيَةِ وَغَيْرِهِمْ فَإِنَّهُمْ قَالُوا آمَنَّا مِن غَيْرِ قِيَامٍ مِنْهُمْ بِمَا أُمِرُوا بِهِ باطناً وظاهراً. فَلا دَخَلَتْ حَقِيقَةُ الإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ وَلا جَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَكَانَ قَدْ دَعَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الجِهَادِ.
وَقَدْ يَكُونُونَ مِن أَهْلِ الكَبَائِرِ المُعَرَّضِينَ للْوَعِيدِ كَالذينِ يُصَلُّونَ وَيَذْكُرُونَ وَيُجَاهِدُونَ وَيَأْتُونَ الكَبَائِرَ وَهَؤُلاءِ لا يَخْرُجُونَ مِن الإِسْلامِ بَلْ هُمْ مُسْلمُونَ وَلَكِنْ بَيْنَهُمْ نِزَاعٌ لفْظِيٌّ هَلْ يُقَالُ إِنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ؟
وَأَمَّا الخَوَارِجُ وَالمُعْتَزِلَةُ فَيُخْرِجُونَهُمْ مِن اسْمِ الإِيمَانِ وَالإِسْلامِ فَإِنَّ الإِسْلامَ وَالإِيمَانَ عِنْدَهُمْ وَاحِدٌ فَإِذَا خَرَجُوا مِن الإِيمَانِ خَرَجُوا مِن الإِسْلامِ عِنْدَهُمْ لكِنَّ الخَوَارِجَ تَقُولُ: هُمْ كُفَّارٌ، وَالمُعْتَزِلَةُ تَقُولُ: لا مُسْلمُونَ وَلا كُفَّارٌ يُنْزِلُونَهُمْ مَنْزِلَةً بَيْنَ المَنْزِلَتَيْنِ).