11 Nov 2008
2- المشيئة والخلق
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وَأَمَّا
الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: فَهو مَشِيئَةُ اللهُ النَّافِذَةُ،
وَقُدْرَتُهُ الشَّامِلَةُ، وَهُوَ الإِيمَانُ بِأَنَّ مَا شَاءَ اللهُ
كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَأَنَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضِ مِنْ حَرَكَةٍ، وَلاَ سُكُونٍ، إِلاَّ بِمَشِيئَةِ اللهِ
سُبْحَانَهُ، لاَ يَكُونُ فِي مُلْكِهِ إلاَ ما يُرِيدُ، وَأَنَّهُ
سُبْحَانَهُ وتعالى عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مِن الْمَوْجُودَاتِ
وَالْمَعْدُومَاتِ.
فَمَا مِنْ مَخْلُوقٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ إِلاَّ اللهُّ
خَالِقُهُ، سُبْحَانَهُ، لاَ خَالِقَ غَيَرُهُ، وَلاَ رَبَّ سِوَاهُ.
وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ أَمَرَ العِبَادَ بِطَاعَتِهِ، وَطَاعَةِ رُسُلِهِ،
وَنَهَاهُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ، وَهُوَ -سُبْحَانَهُ- يُحِبُّ
الْمُتَّقِينَ وَالْمُحْسِنِينَ وَالْمُقْسِطِينَ، وَيَرْضَى عَن الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، وَلاَ يُحِبُّ الكَافِرِينَ، وَلاَ
يَرْضَى عَن الْقَوْمِ الفَاسِقِينَ، وَلاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ، وَلاَ
يَرْضَى لِعِبَادِهِ الكُفْرَ، وَلاَ يُحِبُّ الفَسَادَ.
وَالْعِبَادُ فَاعِلُونَ حَقِيقَةً، وَاللهُ خَالِقُ أَفْعَالِهِمْ. وَ
الْعَبْدُ هُوَ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ، وَالْبَرُّ وَالْفَاجِرُ،
وَالْمُصَلِّي وَالصَّائِمُ. وَلِلْعِبَادِ قُدْرَةٌ عَلَى أَعْمَالِهِمْ،
وَإِرَادَةٌ، وَاللهُ خَالِقُهُمْ وَخَالِقُ قُدْرَتِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ،
كَمَا قَالَ –تَعَالَى-: {لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التَّكْوِيرِ: 28-29]،
وهَذِهِ الدَّرَجَةُ مِن القَدَرِ يُكَذِّبُ بِهَا عَامَّةُ القَدَرِيَّةِ
الَّذِينَ سَمَّاهُم النَّبِي صلى الله عليه وسلم مَجُوسَ هَذِهِ
الأُمَّةِ، وَيَغْلُو فِيهَا قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الإِثْبَاتِِ حَتَّى
يسلبوا الْعَبْدَ قُدْرَتَهُ وَاخْتِيَارَهُ، وَيُخْرِجُونَ عَنْ أَفْعَالِ
اللهِ وَأَحْكَامِهِ حِكَمَهَا وَمَصَالِحَهَا).
التنبيهات اللطيفة فيما احتوت عليه الواسطية من المباحث المنيفة لابن سعدي رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وأما
الدرجةُ الثانية: فهي مشيئة الله النافذة، وقدرته الشاملة، وهو الإيمان
بأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه ما في السماوات وما في
الأرضِ من حركةٍ، ولا سكون، إلا بمشيئة الله سبحانه، لا يكون في مُلكِهِ ما
لا يريد، وأنه سبحانه على كلِّ شيءٍ قديرٍ من الموجوداتِ والمعدومات. فما
من مخلوقٍ في الأرض ولا في السماءِ إلا الله خالقُه سبحانه، لا خالقَ غيره،
ولا ربَّ سواه. ومع ذلك فقد أمر العبادَ بطاعته، وطاعةِ رسلِهِ، ونهاهم عن
معصيته، وهو سبحانه يُحبُّ المتقين والمحسنين والمقسطين، ويرضى عن الذين
آمنوا وعملوا الصّالحات، ولا يُحبُّ الكافرين، ولا يَرضى عن القومِ
الفاسقين، ولا يأمرُ بالفحشاء، ولا يرضى لعبادِه الكُفْرَ، ولا يحبّ
الفساد.
أفعال العباد:
والعباد
فاعلون حقيقة، والله خالق أفعالهم. و العبد هو المؤمن والكافر، والبرُّ
والفاجر، والمُصلِّي والصّائم. وللعباد قُدرةٌ على أعمالهم، ولهم إرادة،
والله خالقهم وخالق قدرتهم وإرادتهم، كما قال تعالى: {لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 28-29].
وهذه الدرجة من القَدَرِ يُكَذِّبُ بها عامةُ
القَدَرِيَّةِ الذين سماهم النبي صلى الله عليه وسلم مجوس هذه الأمة، ويغلو
فيها قوم من أهل الإثباتِ حتى سلبوا العبدَ قُدْرَتَهُ واختيارَهُ؛
ويُخرجونَ عن أفعال الله وأحكامِه حِكَمها ومصالِحَها([1]).
الشرح:
قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): ( ([1]) أقسام القدر أربعة:
الأول:
التقدير العام؛ وهو تقدير الرَّب لجميع الأشياء بمعنى علمه بها وكتابته لها
ومشيئته وخلقه لما كان منها. ويدل على هذا النوع دلائل كثيرة منها: قوله
تعالى: {ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب} [الحج: 70]. وقوله: {لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما} [الطلاق: 12]. وقوله: {ولو شاء الله ما اقتتلوا} [البقرة: 253]، وقوله: {إن الله يفعل ما يشاء} [الحج: 18]، وقوله: {الله خالق كل شيء} [الزمر: 62].
وفي صحيح مسلم عن عبدالله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماء والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء)).
القسم الثاني: تقدير
عمري، وهو تقدير كل ما يجرى على العبد في حياته إلى نهاية أجله، وكتابة
شقاوته وسعادته، وقد دل عليه حديث ابن مسعود المخرج في الصحيحين مرفوعاً: ((إن
أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم
يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الله الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات:
بكتابة رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد..)). الحديث.
الثالث: التقدير السنوي، وذلك يكون في ليلة القدر. ويدل عليه قوله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4].
وقوله تعالى: {تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر * سلام هي حتى مطلع الفجر} [القدر: 4-5].
قيل: يكتب في هذه الليلة ما يحدث في السنة من موت وعز وذل وغير ذلك، روي
هذا عن ابن عمر ومجاهد وأبي مالك والضحاك وغير واحد من السلف.
الرابع: التقدير اليومي؛ ويدل عليه قوله تعالى: {كل يوم هو في شأن} [الرحمن: 29]، ولأثر عن ابن عباس: "إن
لله لوحا محفوظاً من درة بيضاء، دفتاه ياقوته حمراء، قلمه نور، وكتابه نور
وعرضه ما بين السماء والأرض ينظر فيه كل يوم كذا وكذا نظرة، يخلق في كل
نظرة، ويحيى ويميت ويُعز ويُذل ما يشاء" أخرجه ابن جرير. وفي إسناده
أبو حمزة الثمالي وهو ضعيف، ورمي بالرفض فلا يعتمد عليه. وأخرج ابن جرير
عن مُنيب بن عبدالله الأزدي عن أبيه وابن أبي حاتم عن أبي الدرداء عن النبي
صلى الله عليه وسلم في تفسير: {كل يوم هو في شأن} [الرحمن: 29]. قال: ((من شأنه أن يغفر ذنباً ويفرج كَرْبًا، ويرفع قوما ويَضع آخرين)). علقه البخاري عن أبي الدرداء موقوفا. اهـ.
تعليقات ابن باز على شرح
السعدي على الواسطية
قال الشيخ عبد العزيز بن عبد الله ابن باز (ت: 1420هـ): (وأما
الدرجةُ الثانية: فهي مشيئة الله النافذة، ومقدرته الشاملة، وهو الإيمان
بأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه ما في السماوات وما في
الأرضِ من حركةٍ، ولا سكون، إلا بمشيئة الله سبحانه، ولا يكون في مُلكِهِ
إلا ما يريد، وأنه سبحانه على كلِّ شيءٍ قديرٌ من الموجوداتِ والمعدومات.
فما من مخلوقٍ في الأرض ولا في السماءِ إلا الله خالقُه سبحانه، لا خالقَ
غيره، ولا ربَّ سواه. ومع ذلك فقد أمر العبادَ بطاعته، وطاعةِ رُسُلِهِ،
ونهاهم عن معصيته، وهو سبحانه يُحبُّ المتقين والمحسنين والمقسطين، ويرضى
عن الذين آمنوا وعملوا الصّالحات، ولا يُحبُّ الكافرين، ولا يَرضى عن
القومِ الفاسقين، ولا يأمرُ بالفحشاء، ولا يرضى لعبادِه الكُفْرَ، ولا يحبّ
الفساد([1]).
أفعال العباد
والعباد فاعلون حقيقة، والله خالق أفعالهم[2].
والعبد هو المؤمن والكافر، والبرُّ والفاجر، والمُصلِّي والصّائم. وللعباد
قُدرةٌ على أعمالهم، ولهم إرادة، والله خالقهم وخالق قدرتهم وإرادتهم، كما
قال تعالى: {لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 28-29].
وهذه الدرجة من القَدَرِ يُكَذِّبُ بها عامةُ
القَدَرِيَّةِ الذين سماهم النبي صلى الله عليه وسلم مجوس هذه الأمة، ويغلو
فيها قوم من أهل الإثباتِ حتى سلبوا العبدَ قُدْرَتَهُ واختيارَهُ؛
ويُخرجونَ عن أفعال الله وأحكامِه حِكَمها ومصالِحَها.
([1])
اعلم أن الإيمان بالقَدَر أمره عظيم، وشأنه مهم جدا،ً وهو أحد أركان
الإيمان الستة، وقد انحرف فيه طوائف من أهل البدع والضلال، فضلاً عن
المنكرين من الملحدين وغيرهم، وقد فصله الشيخ في هذا الفصل بهذا الكلام
الجامع النفيس، الذي لا يوجد له نظير في تحقيقه وتفصيله وجمعه وتوضيحه، وهو
مجموع من نصوص الكتاب والسُّنة، ومن العقيدة السلفية الخالصة. فذكر أنه لا
يتم الإيمان بالقدر إلا بتحقيق هذه الأمور الأربعة، التي يفتقر كل منها
إلى البقية، وقد ارتبط بعضها ببعض ارتباطاً وثيقاً، لا ينفصم إلا بالانحراف
إلى الأقوال المنحرفة. وذلك أنه ثبت في نصوص الكتاب والسنّة إحاطة علم
الله بجميع الموجودات السابقة والحاضرة والمستقبلة من أعيان وأوصاف وأفعال
للمكلفين وغيرهم، وتُثبت النصوص أيضاً أن الله أثبت علمه بالكائنات
والموجودات دقيقها وجليلها باللوح المحفوظ في نصوص لا يمكن إحصاؤها، وتثبت
النصوص أيضاً أن مشيئة الله عامة، وإرادته القدرية شاملة، لا يخرج عنها
حادث صغير ولا كبير، ولا عين ولا فعل ولا وصف، وأنه ما شاء الله كان وما لم
يشأ لم يكن. والنصوص على شمول قدرة الله ومشيئته لكل حادث لا تحصى. وتُثبت
النصوص أيضاً أن العباد مختارون غير مجبورين على أفعالهم، وأن أعمالهم
خيرها وشرّها واقعة بمشيئتهم وقدرتهم، التي خلقها الله لهم، وخالق السبب
التام خالق للمسبب. وبهذا ينحلّ عن العبد الإشكال ويتسع قلبه للجمع بين
إثبات عموم مشيئته وقدرته، وشمولهما لأفعال العباد مع وقوعها شرعاً وحساً
وعقلاً باختيارهم.
فمتى جمع العبد هذه المراتب الأربع وآمن بها
إيماناً صحيحاً كان هو المؤمن بالقدر حقاً، الذي يعلم أن الله بكل شيء عليم
وعلمه بالحوادث قد أودعها في اللوح المحفوظ، والحوادث كلها تجري على ما
علمه الله وكتبه وتقع بأسباب ربطها العزيز الحكيم بمسبباتها والأسباب
والمُسَبِّبات من قضاء الله وقدره، ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم
لأصحابه: ((ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة أو النار)) فقالوا: يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ قال: ((اعملوا فكلٌّ مُيسَّر لما خُلِق له، أما أهل السعادة فييَسَّرون لعمل أهل السعادة وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة)). ثم قرأ صلى الله عليه وسلم: {فَأَمَّا
مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ
لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى *
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}. متفق عليه.
([2]) وتوضيح ذلك أن
العبد إذا صلى وصام وعمل الخير أو فعل شيئاً من المعاصي، كان هو الفاعل
لذلك العمل الصالح، وذلك العمل السيّئ، وفعله المذكور بلا ريب واقع
باختياره وهو يحسّ ضرورة أنه غير مجبور على الفعل أو الترك، وأنه لو شاء لم
يفعل، وكما أن هذا هو الواقع فهو الذي نصّ الله عليه في كتابه ونصّ عليه
رسوله، حيث أضاف الأعمال صالحها وسيئها إلى العباد، وأخبر أنهم الفاعلون
لها وأنهم محمودون عليها إن كانت صالحة ومثابون عليها، ومذمومون إن كانت
سيئة ومعاقبون عليها، فقد تبيّن بهذا واتضح أنها واقعة منهم وباختيارهم،
وأنهم إن شاءوا فعلوا وإن شاءوا تركوا، وأن هذا الأمر ثابت عقلاً وحسّاً
وشرعاً ومشاهدة.
ومع ذلك فإذا أردت أن تعرف أنها كذلك واقعة منهم واعترض معترض وقال
كيف تكون داخلة في القدر وكيف تشملها المشيئة؟ فيقال: بأي شيء وقعت هذه
الأعمال الصادرة من العباد خيرها وشرّها فهي بقدرتهم وإرادتهم وهذا يعترف
به كل أحد، ويقال أيضاً: إن الله خلق قدرتهم وإرادتهم، وهو الذي خلق ما به
تقع الأفعال، كما أنه الخالق للأفعال، وهذا هو الذي يحلّ الأشكال ويتمكن
العبد أن يعقل بقلبه اجتماع القدر والقضاء والاختيار.
ومع ذلك فهو تعالى أمدّ المؤمنين بأسباب وألطاف وإعانات متنوعة، وصرف عنهم الموانع، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((أما من كان من أهل السعادة))
فييسر لعمل أهل السعادة، وكذلك خذل الفاسقين، ووكلهم إلى أنفسهم، ولم
يعنهم، لأنهم لم يؤمنوا به ولم يتوكلوا عليه، فولاهم ما تولوه لأنفسهم.
ولما ضاق تحقيق هذا المقام على قلوب الكثير من الخلق انحرفت هنا طائفتان من الناس:
طائفة يقال لهم الجبرية
غلوا في إثبات القدر، وتوهموا أن العبد ليس له فعل حقيقة، وأنه لا يمكن أن
يثبت للعبد عموم المشيئة، ويثبت له أيضاً عموم الاختيار.
والطائفة الأخرى القدرية قابلتهم فشهدت وقوع أفعالهم بقدرتهم واختيارهم، وتوهموا أنه لا يمكن مع ذلك أن يدخل ذلك في قضاء الله وقدره.
ولم تتسع قلوب الجبرية والقدرية للجمع بين الأمرين فردَّ كل منهما قسماً
كبيراً من نصوص الكتاب والسّنة المؤيدة للقول الصحيح، وهدى الله أهل
السُّنة والجماعة فآمنوا بجميع الكتاب والسُّنة وآمنوا بقضائه وقدره،
وشمولهما لكل موجود، وبشرعه وأمره، وأن العباد فاعلون حقيقة مختارون؛
فإيمانهم بعموم القدر يوجب لهم الاستعانة التامة بربهم، لعلمهم أنه ما شاء
الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأن له في عباده المؤمنين ألطافاً وتيسيراً،
لا يناله أحدٌ منهم إلا بقوة الإيمان والتوكُّل، وأوجب لهم إيمانهم بالشرع
والأمر والنّهي والأسباب وأنها مرتبطة بمسبباتها شرعاً وقدرا الجدِّ
والاجتهاد في فعل الأسباب النافعة، وبذلك تعرف أن الإيمان الصحيح سبب لكل
خير.
ومن فوائد الإيمان بالقضاء والقدر:
- أنه يوجب للعبد سكون القلب وطمأنينته، وقوته وشجاعته لعلمه أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
- كما أنه يسلي العبد عن المصائب، ويوجب له الصبر والتسليم والقناعة بما رزقه الله، قال تعالى: {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} قال بعض السلف: هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم.
- ومن فوائده أنه يوجب للعبد شهود منة الله
عليه فيما يمنّ به عليه من فعل الخيرات، وأنواع الطاعات، فلا يُعجب بنفسه
ولا يُدلي بعمله، لعلمه أنه تعالى هو الذي تفضّل عليه بالتوفيق والإعانة،
وصرف الموانع والعوائق، وأنه لو وكل إلى نفسه لضعف وعجز عن العمل.
كما أنه سبب لشكر نعم الله بما ينعم عليه من نعم
الدين والدنيا، فإنه يعلم أنه ما بالعبد من نعمة إلا من الله، وأن الله هو
الدافع لكل مكروه ونقمة).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ مُحمَّد خَليل هَرَّاس رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): ( (وأَمَّا
الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ؛ فَهِيَ مَشيئةُ اللهِ النَّافِذَةُ،
وقُدْرَتُهُ الشَّامِلَةُ، وهُو: الإِيمانُ بأَنَّ مَا شَاءَ اللهُ كَانَ،
وما لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وأَنَّهُ ما في السَّماواتِ ومَا في الأرْضِ
مِنْ حَرَكَةٍ ولا سُكونٍ؛ إِلا بِمشيئَةِ اللهِ سُبْحانَهُ، [لا يَكونُ في
مُلْكِهِ مَا لاَ يُريدُ]، وأنَّهُ سُبحانَهُ عَلى كُلِّ شيءٍ قَديرٌ مِنَ
المُوْجودَاتِ والمَعْدوماتِ، فمَا مِنْ مَخْلوقٍ في الأرْضِ ولا في
السَّماءِ إِلا اللهُ خَالِقُهُ سبحانَهُ، لا خَالِقَ غيرُهُ، ولا رَبَّ
سِواهُ.
ومَعَ ذلك؛ فقدْ أَمَرَ العِبَادَ بطاعَتِهِ وطاعَةِ رُسُلِهِ، ونَهاهُمْ عنْ مَعْصِيَتِهِ.
وهُوَ سُبحانَهُ يُحِبُّ المُتَّقينَ والمُحْسِنينَ والمُقْسِطينَ،
ويَرْضى عَنِ الَّذينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، ولا يُحِبُّ
الكَافِرينَ، ولا يَرْضى عَنِ القَوْمِ الفَاسِقينَ، ولا يَأْمُرُ
بالفَحْشاءِ، ولا يَرْضى لِعِبادِهِ الكُفْرَ، ولا يُحِبُّ الفَسادَ) (1).
(والعِبَادُ فاعِلُونَ حَقيقةً، واللهُ [خَلَقَ] أَفْعالَهُمْ.
والعَبْدُ هُو: المُؤِمنُ، والكافِرُ، والبَرُّ، والفاجِرُ، والمُصلِّي، والصَّائِمُ.
ولِلْعِبادِ قُدْرَةٌ على أَعْمالِهِمْ، [ولَهُمْ إِرَادَةٌ، واللهُ خَالِقُهُمْ وقُدْرَتَهُمْ وإِرادَتَهُمْ]؛ كَما قالَ تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقيمَ. ومَا تَشاؤونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ العَالَمينَ}(2).
(وهذهِِ الدَّرَجَةُ مِنَ القدَرِ يُكَذِّبُ بها عَامَّةُ القَدَرِيَّةِ
الَّذينَ سَمَّاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَجُوسَ
هذهِِ الأُمَّةِ، ويَغْلُو فيها قومٌ مِنْ أَهْلِ الإِثْباتِ، حَتَّى
سَلَبُوا العَبْدَ قُدْرَتَهُ واخْتِيارَهُ، ويُخْرِجُونَ عَنْ أَفْعَالِ
اللهِ وأَحْكامِهِ حُكْمَهَا ومَصالِحَها) (3) ).
الشرح:
قال الشيخ محمد خليل هراس (ت: 1395هـ): ((1) قولُهُ: (وأَمَّا الدَّرَجةُ الثانيةُ مِنَ القَدَرِ...) إلخ. فهيَ تتضمَّنُ شيئينِ أيضًا:
أوَّلُهمَا: الإِيمانُ بعمومِ مشيئتِهِ تعالى،
وأنَّ ما شاءَ كانَ ومَا لمْ يَشَأْ لمْ يكنْ، وأنَّهُ لا يقعُ في مُلْكِهِ
ما لا يريدُ، وأنَّ أفعالَ العبادِ مِنَ الطَّاعاتِ والمعاصي واقعةٌ بتلكَ
المشيئةِ العامَّةِ التَّي لا يخرجُ عنها كائنٌ؛ سواءٌ كانَ مِمَّا
يُحِبُّهُ اللهُ ويرضاهُ أمْ لاَ.
وثانيهمَا: الإِيمانُ بأنَّ جميعَ الأشياءِ
واقعةٌ بِقُدْرَةِ اللهِ تعالى، وأنَّهَا مخلوقةٌ لهُ، لا خالقَ لهَا
سِواهُ، لا فرقَ في ذلكَ بينَ أفعالِ العِبادِ وغيرِهَا؛ كمَا قالَ تعالى: {وَاللهُ خَلَقَكُمْ ومَا تَعْمَلُونَ}.
ويجبُ الإِيمانُ بالأمرِ الشَّرعيِّ، وأنَّ اللهَ تعالى كلَّّفَ العبادَ،
فَأَمَرَهُمْ بطاعتِهِ وطاعةِ رسلِهِ، ونَهَاهُمْ عن معصيتِهِ.
ولا مُنَافَاةَ أصلاً بينَ ما ثَبَتَ مِنْ عُمُومِ مشيئتِهِ سبحانَهُ
لجميعِ الأشياءِ وبينَ تَكْلِيفِهِ العبدَ بِمَا شاءَ مِنْ أَمْرٍ ونَهْيٍ؛
فإنَّ تلكَ المشيئةَ لا تُنَافِي حُرِّيَّةَ العبدِ واختيارَهُ للفعْلِ،
ولِهَذَا جَمَعَ اللهُ بينَ المشيئتينِ بقولِهِ: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ}.
كمَا أنَّهُ لا تَلاَزُمَ بينَ تلكَ المشيئةِ وبينَ الأمرِ الشَّرعيِّ المُتَعَلِّقِ بِمَا يُحِبُّهُ اللهُ ويرضاهُ، فقَدْ يشاءُ اللهُ ما لا يُحِبُّهُ، ويُحِبُّ مَا لا يشاءُ كَوْنَهُ:
فالأوَّلُ: كمشيئتِهِ وجودَ إبليسَ وجنودِهِ.
والثَّانِي: كمحبَّة إيمانِ الكُفَّارِ، وطاعاتِ
الفُجَّارِ، وعَدْلِ الظَّالِمِينَ، وتَوْبَةِ الفاسقينَ، ولوْ شاءَ ذلكَ؛
لَوُجِدَ كُلَّهُ؛ فإنَّهُ مَا شاءَ كانَ، وما لمْ يَشَأْ لمْ يَكُنْ.
(2) وكذلكَ لا
مُنَافَاةَ بينَ عمومِ خلقِهِ تعالى لجميعِ الأشياءِ وبينَ كَوْنِ العبدِ
فاعلاً لِفِعْلِهِ، فالعبدُ هوَ الذي يُوصَفُ بِفِعْلِهِ، فهوَ المؤمنُ
والكافرُ، والبَرُّ والفاجرُ، والمُصَلِّي والصَّائمُ، واللهُ خالقُهُ،
وخالقُ فعلِهُ؛ لأنَّهُ هوَ الذي خَلَقَ فيهِ القدْرةَ والإِرادةَ اللتينِ
بِهِمَْا يفعلُ.
يقولُ الْعَلاَّمَةُ الشَّيخُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ
بنُ نَاصِرٍ آلُ سَعْدِي غَفَرَ اللهُ لهُ وأجزلَ مَثُوبتَهُ: "إِنَّ
العبدَ إذَا صلَّى، وصامَ، وفعلَ الخيْرَ، أوْ عَمِلَ شيئًا مِنَ المعاصِي؛
كانَ هوَ الفاعلُ لذلكَ العملِ الصَّالحِ، وذلكَ العملِ السَّيِّئ،
وفِعْلُهُ المذكورُ بِلاَ رَيْبٍ قدْ وَقَعَ باختيارِهِ، وهوَ يحسُّ ضرورةً
أنَّهُ غيرُ مَجْبُورٍ على الفعلِ أو التَّرْكِ، وأنَّهُ لوْ شاءَ لمْ
يفعلْ، وكانَ هذا هوَ الواقعُ، فهوَ الذي نَصَّ اللهُ عليهِ في كتابِهِ،
ونصَّ عليهِ رسولُهُ، حيثُ أضافَ الأعمال؛َ صالحَهَا وسَيِّئَهَا إلى
العبادِ، وأخبرَ أنَّهمْ الفاعلونَ لهَا، وأَنَّهُمْ مَمْدُوحُونَ عليهَا
–إن كانَتْ صالحةً– ومُثَابُونَ، ومَلُومُونَ عليهَا –إنْ كانَتْ
سَيِّئَةً- ومُعَاقَبُونَ عليهَا.
فقَدْ تبيَّنَ بلا ريبٍ أنَّهَا واقعةٌ مِنْهُمْ
باختيارهِمْ، وأَنَّهُمْ إذَا شَاءُوا فعلُوا، وإذَا شَاءُوا تَرَكُوا،
وأنَّ هذا الأمرَ ثابتٌ عَقْلاً وحِسًّا وشَرْعًا ومُشَاهَدَةً.
ومَعَ ذلكَ؛ إذَا أَرَدْتَ أنْ تعرفَ أنَّهَا وإنْ
كانَتْ كذلكَ واقعةً مِنْهُمْ كيفَ تكونُ داخلةً في القَدَرِ وكيفَ
تَشْمَلُهَا الْمَشِيئَةُ؟! فَيُقَالُ: بأيِّ شيءٍ وَقَعَتْ هذهِِ الأعمالُ
الصَّادرةُ مِنَ العبادِ خيرِهَا وشرِّهَا؟ فَيُقَالُ: بقدْرتِهِمْ
وإرادتِهِمْ. هذا يعترفُ بهِ كلُّ أحَدٍ. فَيُقَالُ: ومَنْ خَلَقَ
قدْرتَهُمْ وإرادتَهُمْ ومشيئتَهُمْ؟ فالجوابُ الذي يعترفُ بهِ كلُّ أحدٍ
أنَّ اللهَ هوَ الذي خَلَقَ قُدْرَتَهُمْ وَإِرَادَتَهُمْ، والذي خَلَقَ ما
بهِ تقعُ الأفعالُ هوَ الخالقُ للأفعالِ.
فهذا هوَ الذي يَحُلُّ الإِشْكَالَ، ويتمكَّنُ العبدُ أنْ يعقلَ بقلبِهِ اجتماعَ القَدَرِ والْقَضَاءِ والاختيارِ.
ومعَ ذلكَ فهوَ تعالى أمدَّ المؤمنينَ بأسبابٍ
وأَلْطَافٍ وإعاناتٍ مُتَنَوِّعَةٍ، وصَرَفَ عَنْهُمُ المَوَانِعَ؛ كمَا
قالَ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلمَ: ((أَمَّا مَنْ كَانَ مِن أَهْلِ السَّعَادَةِ؛ فَسَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ)).
وكذلكَ خَذَلَ الفاسقينَ، وَوَكَلَهُمْ إلى
أَنْفُسِهِمْ؛ لأنَّهمْ لمْ يُؤْمِنُوا بهِ، ولمْ يتوكَّلوا عليهِ،
فَوَلاَّهُمْ مَا تولَّوا لِأَنْفُسِهِمْ".اهـ.
وَخُلاَصَةُ مَذْهَبِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ في
القَدَرِ وأفعالِ العبادِ ما دلَّتْ عليهِ نصوصُ الكتابِ والسُّنَّةِ مِنْ
أنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ هُوَ الخالقُ لكلِّ شِيْءٍ مِنَ الْأَعْيَانِ
والْأَوْصَافِ والأفعالِ وغيرِهَا، وأنَّ مشيئَتَهُ تعالى عامَّةٌ شاملةٌ
لجميعِ الكائناتِ، فلا يقعُ منهَا شيءٌ إلاَّ بتلكَ المشيئةِ، وأنَّ
خَلْقَهُ سبحانَهُ الأشياءَ بمشيئتهِ إنَّمَا يكونُ وِفْقًا لِمَا عَلِمَهُ
منهَا بِعِلْمِهِ القدْيمِ، ولِمَا كَتَبَهُ وقَدَّرَهُ في اللَّوْحِ
المحفوظِ، وأنَّ لِلعبادِ قُدْرَةً وإرادةً تقعُ بهَا أفعالُهُمْ،
وأَنَّهُم الفاعلونَ حقيقةً لهذهِِ الأفعالِ بِمَحْضِ اختيارِهِمْ،
وأَنَّهُمْ لهذا يَسْتَحِقُّونَ عليهَا الجزاءَ: إِمَّا بالمَدْحِ
والمَثُوبَةِ، وإمَّا بالذَّمِّ والعقوبةِ، وأنَّ نسبةَ هذهِ الأفعالِ إلى
العبادِ فعلاً لا يُنَافِي نِسْبَتَهَا إلى اللهِ إيجادًا وخَلْقًا؛
لأنَّهُ هوَ الخَالقُ لجميعِ الأسبابِ التَّي وَقَعَتْ بهَا.
(3) وضلَّ في القَدَرِ طائفتانِ؛ كمَا تقدَّمَ:
الطَّائفةُ الأُولى:
القَدَرِيَّةُ نُفَاةُ القَدَرِ، الَّذينَ هُمْ مَجُوسُ هذهِِ الأُمَّةِ؛
كمَا وردَ ذلكَ في بعضِ الأحاديثِ مَرْفُوعًا ومَوْقُوفًا، وهؤلاءِ ضَلُّوا
بالتَّفريطِ وإِنْكَارِ القَدَرِ، وزَعَمُوا أنَّهُ لا يُمْكِنُ الجَمْعُ
بينَ ما هُوَ ثابتٌ بالضَّرورةِ مِنِ اختيارِ العبدِ في فِعْلِهِ
ومَسْؤُولِيَّتِهِ عنهُ، وبينَ ما دلَّتْ عليهِ النُّصوصُ مِنْ عُمُومِ
خَلْقِهِ تعالى ومشيئتِهِ؛ لأنَّ ذلكَ العمومَ في زَعْمِهِمْ إبطالٌ
لِمَسْؤُولِيَّةِ العبدِ عنْ فِعْلِهِ، وهَدْمٌ لِلتَّكَاليفِ، فَرَجَّحُوا
جانبَ الأمْرِ والنَّهْيِ، وخصَّصُوا النُّصُوصَ الدالَّةَ على عُمُومِ
الخَلْقِ والمشيئةِ بما عدا أفعالَ العبادِ، وأثبتُوا أنَّ العبدَ خالقٌ
لِفِعْلِهِ بِقُدْرَتِهِ وإِرَادَتِهِ، فَأَثْبَتُوا خَالِقَيْنِ غيرَ
اللهِ، ولهذا سُمُّوا مَجُوسَ هذهِِ الأُمَّةِ؛ لأنَّ الْمَجُوسَ يزعمونَ
أنَّ الشَّيطانَ يخلقُ الشَّرَّ والأشياءَ المُؤْذِيَةَ، فجعلوهُ خالقًا
مَعَ اللهِ، فكذلكَ هؤلاءِ جَعَلُوا العبادَ خَالِقِينَ مَعَ اللهِ.
والطَّائفةُ الثَّانِيةُ:
يُقالَ لهَا: الْجَبْرِيَّةُ، وهؤلاءِ غَلَوْا في إثباتِ القَدَرِ، حتَّى
أنْكرُوا أنْ يكونَ للعبدِ فِعْلٌ حقيقَةً، بلْ هوَ في زَعْمِهِمْ لا
حُرِّيَّةَ لهُ، ولا اختيارَ، ولا فِعْلَ؛ كَالرِّيشَةِ في مَهَبِّ
الرِّيَاحِ، وإنَّمَا تُسْنَدُ الأفعالُ إليهِ مَجَازًا، فَيُقَالُ:
صَلَّى، وصامَ، وقتَلَ، وسَرَقَ؛ كمَا يُقالُ: طَلَعَتِ الشَّمْسُ، وجَرَتِ
الرِّيحُ، ونَزَلَ المطَرُ، فَاتَّهَمُوا رَبَّهُمْ بالظُّلْمِ وتكليفِ
العبادِ بِمَا لا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَيْهِ، ومُجَازَاتِهِمْ على ما ليسَ
مِنْ فِعْلِهِمْ، واتَّهَمُوهُ بِالْعَبَثِ في تَكْلِيفِ العبادِ،
وأَبْطَلُوا الحكمةَ مِنَ الأمرِ والنَّهْيِ، {أَلاَ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ: صالح بن فوزان الفوزان
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وأَمَّا
الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ؛ فَهِيَ مَشيئةُ اللهِ النَّافِذَةُ،
وقُدْرَتُهُ الشَّامِلَةُ، وهُو: الإِيمانُ بأَنَّ مَا شَاءَ اللهُ كَانَ،
وما لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وأَنَّهُ ما في السَّماواتِ ومَا في الأرْض
مِنْ حَرَكَةٍ ولا سُكونٍ؛ إِلا بِمشيئَةِ اللهِ سُبْحانَهُ، [لا يَكونُ في
مُلْكِهِ مَا لاَ يُريدُ]، وأنَّهُ سُبحانَهُ عَلى كُلِّ شيءٍ قَديرٌ مِنَ
الموجودَاتِ والمَعْدوماتِ، فمَا مِنْ مَخْلوقٍ في الأرْضِ ولا في
السَّماءِ إِلا اللهُ خَالِقُهُ سبحانَهُ، لا خَالِقَ غيرُهُ، ولا رَبَّ
سِواهُ.(1)
1، 2 لا تعارض بين القدر والشرع ولا بين تقديره للمعاصي وبغضه لها
ومَعَ ذلك؛ فقدْ أَمَرَ العِبَادَ بطاعَتِهِ وطاعَةِ رُسُلِهِ، ونَهاهُمْ عن مَعْصِيَتِهِ.وهُو سُبحانَهُ يُحِبُّ المُتَّقينَ والمُحْسِنينَ والمُقْسِطينَ، ويَرْضى عَنِ الَّذينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، ولا يُحِبُّ الكَافِرينَ، ولا يَرْضى عَنِ القَوْمِ الفَاسِقينَ، ولا يَأْمُرُ بالفَحْشاءِ، ولا يَرْضى لِعِبادِهِ الكُفْرَ، ولا يُحِبُّ الفَسادَ.(2).
لا تنافي بين إثبات القدر وإسناد أفعال العباد إليهم حقيقة وأنهم يفعلونها باختيارهم
والعِبَادُ
فاعِلُونَ حَقيقةً، واللهُ [خَلَقَ] أَفْعالَهُمْ.والعَبْدُ هُو:
المُؤِمنُ، والكافِرُ، والبَرُّ، والفاجِرُ، والمُصلِّي، والصَّائِمُ.
ولِلْعِباد قُدْرَةٌ على أَعْمالِهِمْ، [ولَهُمْ إِرَادَةٌ، واللهُ
خَالِقُهُم وقُدْرَتَهُم وإِرادَتَهُم]؛ كَما قالَ تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقيمَ. ومَا تَشاؤونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ العَالَمينَ}.
وهذه الدَّرَجَةُ مِنَ القدَرِ يُكَذِّبُ بها عَامَّةُ القَدَرِيَّةِ
الَّذينَ سَمَّاهُم النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَجُوسَ
هذه الأمَّةِ، ويَغْلُو فيها قومٌ مِنْ أَهْلِ الإِثْباتِ، حَتَّى سَلَبُوا
العَبْدَ قُدْرَتَهُ واخْتِيارَهُ، ويُخْرِجُونَ عَنْ أَفْعَالِ اللهِ
وأَحْكامِهِ حِكَمَهَا ومَصالِحَها.(3) ).
الشرح:
قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: ( (1) هَذَا بيانٌ للمَرتبةِ الثَّالثةِ والمَرتبةِ الرَّابعةِ مِن مَراتبِ القدَرِ. أشار إلى الثَّالثةِ بقولِه: (فهِيَ مشيئةُ اللَّهِ النَّافِذةُ، وقُدرتُه الشَّامِلةُ) والنَّافذةُ هِيَ الماضيةُ التي لا رادَّ لها، والشَّاملةُ هِيَ العامَّةُ لكُلِّ شيءٍ مِن الموجوداتِ والمعدوماتِ.
وقولُه: (وَهُوَ الإيمانُ) أيْ: ومعنى الإيمانِ بهَذِهِ المرتبةِ اعتقادُ: (أنَّ ما شاءَ اللَّهُ كانَ) أيْ: وُجِدَ (وما لم يَشَأْ لم يَكُنْ) أيْ: لم يُوجَدْ (وأَنَّهُ ما في السَّماواتِ مِن حرَكةٍ ولا سُكونٍ إلاَّ بمشيئةِ اللَّهِ) أيْ: لا يحصُلُ شيءٌ مِن ذَلِكَ إلاَّ وقد شاءَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ (لا يكونُ في مُلْكِه ما لا يُريدُ) وقوعَه كَوْنا وقدَراً (وأَنَّهُ سُبْحَانَهُ على كُلِّ شيءٍ قديرٌ مِن الموجوداتِ والمعدوماتِ) لدُخولِها تَحْتَ عُمومِ (كُلِّ شيءٍ) فاللَّهُ قد أخبَرَ في آياتٍ كثيرةٍ أَنَّهُ على كُلِّ شيءٍ قديرٌ.
وقولُه: (فما مِن مخلوقٍ في الأرضِ ولا في السَّماءِ إلاَّ اللَّهُ خالِقُه سبحانَه)
هَذَا فيهِ إشارةٌ إلى المرتبةِ الرَّابعةِ وهِيَ مرتبةُ الخَلقِ
والإيجادِ، فكُلُّ ما سِوَى اللَّهِ فَهُوَ مخلوقٌ، وكُلُّ الأفعالِ
خَيْرِها وشرِّها صادرةٌ عن خَلقِه وإحداثِه لها (لا خِالقَ غيرُه ولا رَبَّ سِواهُ ).
ولمَّا فَرَغَ الشَّيخُ مِن ذِكْرِ مراتبِ القدَرِ نبَّهَ على مسائلَ تتعلَّقُ بهَذَا الموضوعِ.
المسألةُ الأولى: أَنَّهُ لا تعارُضَ بَيْنَ القدَرِ والشَّرْعِ.
المسألةُ الثَّانيةُ: لا تعارُضَ بَيْنَ تقديرِ اللَّهِ وقوعَ المعاصِي وبُغْضِه لها.
المسألةُ الثَّالثةُ: لا تعارُض بَيْنَ تقديرِ اللَّهِ لأفعالِ العِبادِ وكَوْنِهم يفعلونَها باختيارِهم.
(2) لمَّا قَرَّرَ
الشَّيخُ رَحِمَهُ اللَّهُ القدَرَ بمراتِبِه الأربعِ: العِلمُ، والكتابةُ،
والمشيئةُ والإرادةُ، والخَلقُ والإيجادُ، وأَنَّهُ ما مِن شيءٍ يَحْدُثُ
إلاَّ وقد عَلِمَه اللَّهُ وكتَبَه وشاءَه وأرادَه وأَوْجَدَه بَيَّنَ هنا
أَنَّهُ لا تعارُضَ بَيْنَ ذَلِكَ وبَيْنَ كَوْنِه أمَرَ العِبادَ بطاعَتِه
ونَهاهُم عن معصيَتِه، ولا بَيْنَ تقديرِه وقوعَ المعصيةِ وبُغضِه لها.
فقولُه: (ومع ذَلِكَ) أيْ: مع كَوْنه سُبْحَانَهُ هُوَ الذي عَلِمَ الأشياءَ وقدَّرَها وكتَبَها وأرادَها وأَوْجدَها (فقد أمَرَ العِبادَ بطاعتِه وطاعةِ رسولِه ونَهاهُم عن معصيَتِه)
كما دَلَّتْ على ذَلِكَ أدلَّةٌ كثيرةٌ مِن الكِتابِ والسُّنَّةِ أمَرَ
فيها بالطَّاعةِ ونَهَى عن المعصيةِ، ولا تعارُضَ في ذَلِكَ بَيْنَ شَرْعِه
وقدَرِه كما يَظُنُّه بعضُ الضُّلاَّلِ الذين يُعارِضونَ بَيْنَ الشَّرْعِ
والقَدرِ.
يقولُ الشَّيخُ رَحِمَهُ اللَّهُ في هَذَا الموضوعِ في رسالَتِه التَّدْمُرِيَّةِ: وأهلُ الضَّلالِ انقَسَموا إلى ثلاثِ فِرقٍ: مجوسيَّةٌ، ومُشرِكيَّةٌ، وإبْليسِيَّةٌ.
فالمجوسيَّةُ:
الذين كذَّبُوا بقَدرِ اللَّهِ، وإنْ آمَنوا بأمْرِه ونَهْيِه، فغُلاتُهم
أنْكَروا العِلمَ والكتابَ، ومقتَصِدُوهُم أنْكَروا عمومَ مشيئتِه وخَلقِه
وقُدرتِه، وهؤلاء هم المعتزِلةُ ومَن وافَقَهم.
والفرقةُ الثَّانيةُ المُشركيَّةُ الذين أقَرُّوا بالقضاءِ والقدَرِ، وأَنْكروا الأمْرَ والنَّهْيَ، قال تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 148]، فمَن احْتَجَّ على تعطيلِ الأمرِ والنَّهْيِ فَهُوَ مِن هؤلاءِ.
والفِرقةُ الثَّالثةُ وهُم الإبليسيَّةُ
الذين أقَرُّوا بالأمْرَيْنِ لكنْ جَعَلُوا هَذَا تناقُضاً مِن الرَّبِّ
سُبْحَانَهُ وتعالى، وطَعَنوا في حِكمتِه وعَدْلِه، كما يُذْكَرُ ذَلِكَ عن
إبليسَ مقدَّمِهم.
والمقصودُ أنَّ هَذَا مما تَقَوَّلَهُ أهلُ
الضَّلالِ، وأمَّا أهلُ الهُدى والفَلاحِ فيُؤمِنونَ بهَذَا وَهَذَا.
ويؤمِنونَ بأنَّ اللَّهَ خالِقُ كُلِّ شيءٍ ورَبُّه ومَلِيكُه، وما شاء
كان، وما لم يَشَأْ لم يَكُنْ، وَهُوَ على كُلِّ شيءٍ قديرٌ، وأحاطَ
بكُلِّ شيءٍ عِلما، وكُلُّ شيءٍ أحصاهُ في إمامٍ مُبِينٍ. اهـ.
وقولُه: (وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ المُتَّقِينَ والمُحْسِنِينَ والمُقْسِطينَ) أيْ: يُحِبُّ مَن اتَّصفَ بالصِّفاتِ الحميدةِ كالتَّقْوى والإحسانِ والقِسْطِ (ويَرْضَى عن الذين آمَنُوا وعَمِلوا الصَّالحاتِ) كما أخبَرَ بذَلِكَ في آياتٍ كثيرةٍ لِمَا اتَّصَفوا به مِن الإيمانِ والعَملِ الصَّالحِ (ولا يُحِبُّ الكافرينَ، ولا يَرضَى عن القومِ الفاسِقينَ) أيْ: لا يَرضَى عمَّن اتَّصَفَ بالصِّفاتِ التي يُبْغِضُها كالكُفرِ والفُسوقِ وسائرِ الصِّفاتِ الذَّميمةِ (ولا يأمُرُ بالفحشاءِ) وهِيَ مَا تَنَاهَى قُبْحُه مِن الأقوالِ والأفعالِ (ولا يَرضى لعِبادِه الكُفرَ ولا يُحِبُّ الفسادَ) لقُبحِهِما ولِمَا فيهما مِن المَضرَّةِ على العِبادِ والبلادِ.
ويريدُ الشَّيخُ رَحِمَهُ اللَّهُ بهَذَا الكلامِ
الردَّ على مَن زَعَم أنَّ الإرادةَ والمحبَّةَ بينهما تلازُمٌ فإذا أرادَ
اللَّهُ شيئاً فقد أَحَبَّه، وإذا شاء شيئا فقد أحَبَّه. وهَذَا قولٌ
باطلٌ، والقولُ الحقُّ أَنَّهُ لا تلازُمَ بَيْنَ الإرادةِ والمحبَّةِ، أو
بَيْنَ المشيئةِ والمحبَّةِ -أعني الإرادةَ والمشيئةَ الكَوْنيَّةَ- فقد يَشاءُ اللَّهُ ما لا يُحِبُّه، وقد يُحِبُّ ما لا يَشاءُ وُجودَه. مثالُ الأوَّلِ: مشيئةُ وجودِ إبليسَ وجنودِه، ومشيئتُه العامَّةُ لِمَا في الكونِ مع بُغْضِه لبَعضِه. ومِثالُ الثَّاني: محبَّتُه لإيمانِ الكُفارِ وطاعاتِ الكفَّارِ، ولم يَشأْ وُجودَ ذَلِكَ منهم ولو شاءه لوُجِدَ.
(3)
أرادَ الشَّيخُ رَحِمَهُ اللَّهُ بهَذَا الكلامِ أنْ يُبَيِّنَ أَنَّهُ لا
تنافِيَ بَيْنَ إثباتِ القدَرِ بجميعِ مراتبِه السَّابقةِ وبَيْنَ كونِ
العبادِ يفعلونَ باختيارِهم ويعملونَ بإرادتِهم، وقصْدُه بهَذَا الردُّ على
مَن زَعَمَ أنَّ إثباتَ ذَلِكَ يَلزَمُ منه التَّناقُضُ، ومِن ثَمَّ ذهبتْ طائفةٌ منهم إلى الغُلُوِّ في إثباتِ القدَرِ حتى سَلَبوا العبدَ قُدرتَه واختيارَه، وذهبت الطَّائفةُ الثَّانيةُ
إلى الغُلُوِّ في إثباتِ أفعالِ العِبادِ واختيارِهم حتى جَعَلُوهم هُم
الخالِقينَ لها، ولا تعلُّقَ لها بمشيئةِ اللَّهِ ولا تدخُلُ تَحْتَ
قُدرتِه.
ويقالُ للطَّائفةِ الأولى: الجَبْريَّةُ؛ لأنَّهم يقولونَ إنَّ العبدَ مُجْبَرٌ على ما يَصدُرُ منه لا اختيارَ له فيه، ويقالُ للطَّائفةِ الثَّانيةِ القَدَريَّةُ النُّفاةُ؛ لأنَّهم يَنْفُون القَدَرَ.
فقولُ الشَّيخِ رَحِمَهُ اللَّهُ: (والعبادُ فاعِلونَ حقيقةً)
ردٌّ على الطَّائفةِ الأولى وهُم الجبريَّةُ؛ لأنَّهم يقولون: إنَّ
العبادَ ليسوا فاعِلينَ حقيقةً، وإسنادُ الأفعالِ إليهم مِن بابِ المجازِ.
وقولُه: (واللَّهُ خالِقُهم وخالِقُ أفعالِهم)
ردٌّ على الطَّائفةِ الثَّانيةِ القدَريَّةِ النُّفاةِ؛ لأنَّهم يقولون:
إنَّ اللَّهَ لم يَخلُقْ أفعالَ العِبادِ، وإنما هُم خَلَقُوها استِقلالاً
دُونَ مشيئةِ اللَّهِ وتقديرِه لها.
وقولُه: (والعبدُ هُوَ: المؤمِنُ، والكافرُ، والبَرُّ، والفاجِرُ، والمُصلِّي، والصائمُ، وللعِبادِ قُدرةٌ على أعمالِهم ولهم إرادةٌ)
رَدٌّ على الجبريَّةِ، أيْ: ليس العِبادُ بمُجبَرِينَ على تِلْكَ
الأعمالِ؛ لأَنَّهُ لو كان كذَلِكَ لَمَا صحَّ وصْفُهم بها؛ لأنَّ فِعلَ
المُجْبَرِ لا يُنسَبُ إليه ولا يُوصَفُ به، ولا يَستحِقُّ عليه الثَّوابَ
أو العقابَ.
وقولُه: (واللَّهُ خالِقُهم وخالِقُ قُدرَتِهم)
رَدٌّ على القَدَريَّةِ النُّفاةِ، حَيْثُ زَعَموا أنَّ العِبادَ يَخلُقون
أفعالَهم بدُونِ إرادةِ اللَّهِ ومشيئَتِه كما سبَقَ. ثم استدلَّ الشَّيخُ
في الردِّ على الطائفتَيْنِ بقولِه تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ العَالَمِينَ}. فقولُه تعالى: {لَمِنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} فيه الردُّ على الجبريَّةِ؛ لأَنَّهُ أَثبتَ للعِبادِ مشيئةً وهم يقولون لا مَشِيئةَ لهم. وقولُه: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ العَالَمِينَ}
فيه الردُّ على القَدَريَّةِ القائِلينَ بأنَّ مشيئةَ العبدِ مستقِلَّةٌ
بإيجادِ الفِعلِ مِن غيرِ توقُّفٍ على مشيئةِ اللَّهِ، وهَذَا باطلٌ؛ لأنَّ
اللَّهَ علَّقَ مشيئةَ العِبادِ على مَشيئَتِه سُبْحَانَهُ ورَبَطَها بها.
قولُه: (وَهَذِهِ الدَّرجةُ مِن القَدَرِ)
وهِيَ عمومُ مشيئَتِه وإرادَتِه لكُلِّ شيءٍ، وعمومُ خَلقِه لكُلِّ شيءٍ،
وأنَّ العِبادَ فاعِلونَ حقيقةً، واللَّهُ خالِقُهم وخالِقُ أفعالِهم (يُكذِّبُ بها عامَّةُ القدَريَّةِ) النُّفاةِ حَيْثُ يَزْعُمونَ أنَّ العبدَ يَخلُقُ فِعلَ نَفْسِه بدونِ مشيئةِ اللَّهِ وإرادَتِه (الذين سمَّاهُم النَّبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم مَجُوسَ هَذِهِ الأُمَّةِ) لمُشابَهَتِهم المَجُوسَ الذين يُثبِتون خالِقَيْنِ: هما النُّورُ، والظُّلْمةُ،
فيقولونَ: إنَّ الخيرَ مِن فِعلِ النُّورِ، والشَّرَّ مِن فِعلِ
الظُّلمةِ، فصاروا ثَنويَّةً. وكذَلِكَ هؤلاءِ القدَريَّةُ جَعَلوا خالِقا
مع اللَّهِ، حَيْثُ زَعَموا أنَّ العِبادَ يَخلقُون أفعالَهم بدون إرادةِ
اللَّهِ ومَشيئَتِه، بل يَستقِلُّونَ بَخَلقِها، ولم يَثبُتْ أنَّ
النَّبيَّ صلى اللهُ عليه وسلم سمَّاهُم مجوسَ هَذِهِ الأُمَّةِ لتَأخُّرِ
ظُهورِهم عن وقتِ النَّبيِّ صلى اللهُ عليه وسلم فأكْثَرُ ما يجيءُ مِن
ذمِّهم إنما هُوَ موقوفٌ على الصَّحابةِ.
وقولُه: (ويَغْلُو فيها) أيْ: هَذِهِ الدَّرجةِ مِن القدَرِ. والغُلُوُّ: هُوَ الزيادةُ في الشَّيءِ عن الحدِّ المطلوبِ (قومٌ مِن أهلِ الإثباتِ) فاعِلُ يَغْلُو، والمرادُ بهم الجبريَّةُ الذين قالوا: إنَّ العبدَ مجبَرٌ على فِعلِه (حتى سَلبوا العبدَ قُدرتَه واختيارَه ).
فالأوَّلونَ غَلَوْا في الإثباتِ لأفعالِ العِبادِ
حتى أخرَجُوها عن مشيئةِ اللَّهِ، وهؤلاء غَلَوْا في نَفْيِ أفعالِ
العِبادِ حتى سَلبُوهُم القُدرةَ والاختيارَ. وقولُه (ويُخْرِجُونَ عن أفعالِ اللَّهِ وأحكامِه حِكَمَها ومصالِحَها)
جمعَ: حكمةٍ ومصلحةٍ، أيْ: إنَّ الجَبريَّةَ في مَذهبِهم هَذَا حينما
نَفَوْا أفعالَ العِبادِ وسَلبُوهم القُدرةَ والاختيارَ نَفَوْا حِكمةَ
اللَّهِ في أمْرِه ونَهْيِه وثوابِه وعقابِه، فقالوا: إنَّهُ يُثيبُ أو
يُعاقِبُ العِبادَ على ما ليس مِن فِعلِهم، ويأمُرهم بما لا يَقْدِرونَ
عليه، فاتَّهموا اللَّهَ بالظُّلمِ والعَبثِ، تعالى اللَّهُ عمَّا يقولونَ
عُلُواًّ كبيراً).
الروضة الندية للشيخ: زيد بن عبد العزيز بن فياض رحمه الله
قال الشيخ زيد بن عبد العزيز بن فياض (ت: 1416هـ): (المَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ:
مَرْتَبَةُ المَشِيئَةِ وَهِيَ إِثْبَاتُ مَشِيئَةِ اللَّهِ النَّافِذَةِ
وَقُدْرَتِهِ الشَّامِلَةِ. وَالنَّافِذَةُ المَاضِيَةُ الَّتِي لا رَادَّ
لهَا مِن نَفَذَ السَّهْمُ نُفُوذاً وَنَفَاذاً: خَرَقَ الرَّمِيَّةَ
وَخَرَجَ مِنْهَا،وَنَفَذَ الأَمْرُ: مَضَى، وَأَمْرُهُ نَافِذٌ أَيْ:
مُطَاوِعٌ، وَنَفَذَ العِتْقُ: مَضَى، وَكَأَنَّهُ مُسْتَعَارٌ مِن نُفُوذِ
السَّهْمِ فَإِنَّهُ لا مُرَادَ لهُ إِلخْ.أَفَادَهُ المِصْبَاحُ.
وَهَذِهِ المَرْتَبَةُ مِن مَرَاتِبِ القَدَرِ: قَدْ دَلَّ عَلَيْهَا
إِجْمَاعُ الرُّسُلِ مِن أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ،وَجَمِيعُ الكُتُبِ
الْمُنَزَّلَةِ مِن عِنْدِ اللَّهِ، وَالفِطْرَةُ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ
عَلَيْهَا خَلْقَهُ، وَأَدِلَّةُ العُقُولِ وَالعِيَانِ، وَلَيْسَ فِي
الوُجُودِ مُوجِبٌ وَمُقْتَضٍ إِلا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ فَمَا
شَاءَ كَانَ وَمَا لمْ يَشَأْ لمْ يَكُنْ.
هَذَا عُمُومُ التَّوْحِيدِ الذي لا يَقُومُ إِلا بِهِ، وَالمُسْلمُونَ مِن
أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّهُ مَا شَاءَ اللَّهُ
كَانَ وَمَا لمْ يَشَأْ لمْ يَكُنْ، وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلكَ مَن ليْسَ
مِنْهُمْ فِي هَذَا المَوْضِعِ، وَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ
فَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ فِي الوُجُودِ مَا لا يَشَاءُ اللَّهُ وَأَنْ
يَشَاءَ مَا لا يَكُونُ.
المَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ: مَرْتَبَةُ الخَلْقِ وَالإِيجَادِ، فَكُلُّ مَا
سِوَى اللَّهِ فَهُوَ مَخْلُوقٌ مُوجَدٌ مِن العَدَمِ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ
لمْ يَكُنْ. وَالعِبَادُ وَأَعْمَالُهُمْ مَخْلُوقُونَ مَرْبُوبُونَ.
فَهَذِهِ المَرْتَبَةُ مِن مَرَاتِبِ القَدَرِ، وَهِيَ مَرْتَبَةُ خَلْقِ
اللَّهِ سُبْحَانَهُ الأَعْمَالَ وَتَكْوِينِهِ وَإِيجَادِهِ لِهَا.
وَهَذَا أَمْرٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الرُّسُلِ صَلَّى اللَّهُ
تَعَالَى عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ.
وَعَلَيْهِ اتَّفَقَتِ الكُتُبُ الإِلَهِيَّةُ وَالفِطَرُ وَالعُقُولُ
وَالاعْتِبَارُ، وَخَالَفَ فِي ذَلكَ مَجُوسُ الأُمَّةِ فَأَخْرَجَتْ
طَاعَاتِ مَلائِكَتِهِ وَأَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ وَعِبَادِهِ
المُؤْمِنِينَ وَهِيَ أَشْرَفُ مَا فِي العَالَمِ عَن رُبُوبِيَّتِهِ
وَتَكْوِينِهِ وَمَشِيئَتِهِ، بَلْ جَعَلُوهُمْ هُمُ الخَالقِينَ لهَا وَلا
تَعَلُّقَ لهَا بِمَشِيئَتِهِ،وَلا تَدْخُّلَ تَحْتَ قُدْرَتِهِ.
وَكَذَلكَ قَالُوا فِي جَمِيعِ أَفْعَالِ الحَيَوَانَاتِ الاخْتِيَارِيَّةِ
فَعِنْدَهُمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لا يَقْدِرُ أَنْ يَهْدِي ضالاً وَلا
يُضِلَّ مُهتدياً، وَلا يَقْدِرُ أَنْ يَجْعَلَ المُسْلِمَ مُسلماً
وَالكَافِرَ كافراً وَالمُصَلِّيَ مُصلياً، وَإِنَّمَا ذَلكَ يَجْعَلُهُمْ
أَنْفُسَهُمْ كَذَلكَ لا يَجْعَلُهُ تَعَالَى.
وَقَدْ نَادَى القُرْآنُ بَل الكُتُبُ السَّمَاوِيَّةُ كُلُّهَا
وَالسُّنَّةُ وَأَدِلَّةُ التَّوْحِيدِ وَالعُقُولُ عَلَى بُطْلانِ
قَوْلِهِمْ، وَصَاحَ بِهِمْ أَهْلُ العِلْمِ وَالإِيمَانِ مِن أَقْطَارِ
الأَرْضِ، وَصَنَّفُوا التَّصَانِيفَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ
يَزَلِ السَّلَفُ وَأَئِمَّةُ السُّنَّةِ يَرُدُّونَ بَاطِلَهُمْ بِالحَقِّ
المَحْضِ إِلَى أَنْ نَبَغَتْ نَابِغَةٌ رَدُّوا بِدْعَتَهُمْ بِبِدْعَةٍ
تُقَابِلُهَا، وَقَابَلُوا بَاطِلَهُمْ بِبَاطِلٍ مِن جِنْسِهِ.
وَقَالُوا: العَبْدُ مَجْبُورٌ عَلَى أَفْعَالِهِ، مَقْهُورٌ عَلَيْهَا، لا
تَأْثِيرَلهُ فِي وُجُودِهَا البَتَّةَ، وَلا هِيَ وَاقِعَةٌ
بِإِرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ، وَغَلا غُلاَتُهمْ فَقَالُوا: بَلْ هِيَ
عَيْنُ أَفْعَالِ اللَّهِ، وَلا يُنْسَبُ إِلَى العَبْدِ إِلا عَلَى
المَجَازِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ يَلُومُ العَبْدَ وَيُعَاقِبُهُ
وَيُخَلِّدُهُ فِي النَّارِ عَلَى مَا لمْ يَكُنْ للْعَبْدِ فِيهِ صُنْعٌ
وَلا هُوَ فِعْلُهُ، بَلْ هُوَ مَحْضُ فِعْلِ اللَّهِ.
وَهَذَا قَوْلُ الجَبْرِيَّةِ،وَهُوَ إِنْ لمْ يَكُنْ شرًّا مِن قَوْلِ القَدَرِيَّةِ فَلَيْسَ هُوَ بِدُونِهِ فِي البُطْلانِ.
وَإِجْمَاعُ الرُّسُلِ وَاتِّفَاقُ الكُتُبِ الإِلَهِيَّةِ، وَأَدِلَّةُ
العُقُولِ وَالفِطَرِ وَالعِيَانِ يُكَذِّبُ هَذَا القَوْلَ وَيَرُدُّهُ،
وَالطَّائِفَتَانِ فِي عَمًى عَن الحَقِّ.
وَكُلُّ دَليلٍ صَحِيحٍ للْجَبْرِيَّةِ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِ
قُدْرَةِ الرَّبِّ تَعَالَى وَمَشِيئَتِهِ، وَأَنَّهُ لا خَالقَ غَيْرُهُ،
وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لا يُسْتَثْنَى مِن هَذَا العُمُومِ
فَرْدٌ مِن أَفْرَادِ المُمْكِنَاتِ. وَهَذَا حَقٌّ. وَلَيْسَ مَعَهُمْ
دَليلٌ صَحِيحٌ يَنْفِي أَنْ يَكُونَ العَبْدُ قادراً مُريداً فاعلاً
بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَإِنَّهُ هُوَ الفَاعِلُ حَقِيقَةً،
وَأَفْعَالُهُ قأئِمَّةٌ بِهِ وَأَنَّهَا فِعْلٌ لهُ، لا للَّهِ،
وَأَنَّهَا قأئِمَّةٌ بِهِ لا بِاللَّهِ.
وَكُلُّ دَليلٍ صَحِيحٍ يُقِيَمُهُ القَدَرِيَّةُ فَإِنَّمَا يَدُلُّ أَنَّ
أَفْعَالَ العِبَادِ فِعْلٌ لهُمْ قَائِمٌ بِهِمْ وَوَاقِعٌ
بِقُدْرَتِهِمْ وَمَشِيئَتِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ، وَأَنَّهُمْ مُخْتَارُونَ
لهَا غَيْرُ مُضْطَرِّينَ وَلا مَجْبُورِينَ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ دَليلٌ
صَحِيحٌ يَنْفِي أَنْ يَكُونَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ قَادِراً عَلَى
أَفْعَالِهِمْ وَهُوَ الذي جَعَلَهُمْ فَاعِلينَ.
فَأَدِلَّةُ الجَبْرِيَّةِ مُتَضَافِرَةٌ صَحِيحَةٌ عَلَى مَن نَفَى
قُدْرَةَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِن الأَعْيَانِ
وَالأَفْعَالِ وَنَفَى عُمُومَ مَشِيئَتِهِ وَخَلْقِهِ. وَأَدِلَّةُ
القَدَرِيَّةِ مُتَضَافِرَةٌ صَحِيحَةٌ عَلَى مَن نَفَى فِعْلَ العَبْدِ
وَقُدْرَتَهُ وَمَشِيئَتَهُ وَاخْتِيَارَهُ وَقَالَ: إِنَّهُ ليْسَ
بِفَاعِلٍ شَيْئاً يُعَاقِبُهُ عَلَى مَا يَفْعَلُهُ،وَلا لهُ قُدْرَةٌ
عَلَيْهِ، بَلْ هُوَ مُضْطَرٌّ إِلَيْهِ مَجْبُورٌ عَلَيْهِ.
وَأَهْلُ السُّنَّةِ أَسْعَدُ بِالحَقِّ مِن جَمِيعِ الطَّوَائِفِ
فَإِنَّهُمْ يُثْبِتُونَ قُدْرَةَ اللَّهِ عَلَى جَمِيعِ المَوْجُودَاتِ
مِن الأَعْيَانِ وَالأَفْعَالِ وَمَشِيئَتِهِ العَامَّةِ، وَيُنَزِّهُونَهُ
أَنْ يَكُونَ فِي مُلْكِهِ مَا لا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَلا هُوَ وَاقِعٌ
تَحْتَ مَشِيئَتِهِ، وَيُثْبِتُونَ القَدَرَ السَّابِقَ، وَأَنَّ العِبَادَ
يَعْمَلُونَ عَلَى مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ وَقَضَاهُ وَفَرَغَ مِنْهُ،
وَأَنَّهُ لا يَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، وَلا يَفْعَلُونَ إِلا
مِن بَعْدِ مَشِيئَتِهِ،وَأَنَّهُ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لمْ
يَشَأْ لمْ يَكُنْ.
وَيُثْبِتُونَ مَعَ ذَلكَ قُدْرَةَ العَبْدِ وَإِرَادَتَهُ وَاخْتِيَارَهُ
وَفِعْلَهُ حَقِيقَةً لا مَجَازاً،وَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ
الفِعْلَ غَيْرُ المَفْعُولِ كَمَا حَكَاهُ البَغْوِيُّ وَغَيْرُهُ.
فَحَرَكَاتُهُمْ وَاعْتِقَادَاتُهُمْ أَفْعَالٌ لهُمْ حَقِيقَةً وَهِيَ
مَفْعُولَةٌ للَّهِ سُبْحَـانَهُ مَخْلُوقَةٌ لهُ حَقِيقَةً، وَالذي قَامَ
بِالرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ عِلْمُهُ وَقُدْرَتُهُ وَمَشِيئَتُهُ
وَتَكْوِينُهُ، وَالذي قَامَ بِهِمْ هُوَ فِعْلُهُمْ وَكَسْبُهُمْ
وَحَرَكَاتُهُمْ وَسَكَنَاتُهُمْ، فَهُمُ المُسْلمُونَ المُصَلُّونَ
القَائِمُونَ القَاعِدُونَ حَقِيقَةً، وَهُوَ سُبْحَانَهُ هُوَ المُقَدِّرُ
لهُمْ عَلَى ذَلكَ القَادِرُ عَلَيْهِ الذي شَاءَهُ وَخَلَقَهُ لهُمْ،
وَمَشِيئَتُهُمْ وَفِعْلُهُمْ بَعْدَ مَشِيئَتِهِ فَمَا يَشَاءُونَ إِلا
أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، وَمَا يَفْعَلُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ.
وَالجُمْهُورُ مِن المُسْلمِينَ وَغَيْرِهِمْ كَأَئِمَّةِ المَذَاهِبِ
الأَرْبَعَةِ، وَغَيْرِهِمْ مِن السَّلَفِ وَالعُلَمَاءِ يُثْبِتُونَ
للَّهِ حِكْمَةً فَلا يَنْفُونَهَا كَمَا نَفَاهَا الأَشْعَرِيَّةُ
وَنَحْوُهُمُ الذينَ يُثْبِتُونَ إِرَادَةً بِلا رَحْمَةٍ وَلا مَحَبَّةٍ
وَلا رِضاً،وَجَعَلُوا جَمِيعَ المَخْلُوقَاتِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ
سَوَاءً،لا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الإِرَادَةِ وَالمَحَبَّةِ وَالرِّضَا بَل
مَا وَقَعَ مِن الكُفْرِ وَالفُسُوقِ وَالعِصْيَانِ قَالُوا: إِنَّهُ
يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ. كَمَا يُرِيدُهُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ القَوْلِ}
فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لا يَرْضَاهُ مَعَ أَنَّهُ قَدَّرَهُ وَقَضَاهُ، وَلا
يُوَافِقُونَ المُعْتَزِلَةَ عَلَى إِنْكَارِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَعُمُومِ
مَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَلا يُشَبِّهُونَهُ بِخَلْقِهِ فِيمَا يُوجِبُ
وَيُحَرِّمُ كَمَا فَعَلَ هَؤُلاءِ، وَيُلْبِسُونَهُ مَا وَصَفَ بِهِ
نَفْسَهُ مِن الصِّفَاتِ وَالأَفْعَالِ.
وَقَابَلَ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مِن العُلَمَاءِ وَالعُبَّادِ وَأَهْلِ الكَلامِ
وَالتَّصَوُّفِ فَأَثْبَتُوا القَدَرَ وَآمَنُوا بَأَنَّ اللَّهَ رَبُّ
كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لمْ يَشَأْ لمْ
يَكُنْ، لكِنَّهُمْ قَصَّرُوا فِي الأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالوَعْدِ
وَالوَعِيدِ، وَأَفْرَطُوا حَتَّى غَلا بَعْضُهُمْ إِلَى الإِلْحَادِ،
فَصَارُوا مِن جِنْسِ المُشْرِكِينَ الذين قَالُوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ}
فَأُولَئِكَ القَدَرِيَّةُ وَإِنْ كَانُوا يُشْبِهُونَ المَجُوسَ مِن
حَيْثُ إِنَّهُمْ أَثْبَتُوا فاعلاً لَمَّا اعْتَقَدُوهُ شراً غَيْرَ
اللَّهِ.
فَهَؤُلاءِ شَابَهُوا المُشْرِكِينَ الذين قَالُوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ}
فَالمُشْرِكُونَ شَرٌّ مِن المَجُوسِ، وَالمَقْصُودُ أَنَّ مَن أَثْبِتَ
القَدْرَ وَاحْتَجَّ بِهِ عَلَى الأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَهُوَ شَرٌّ مِمَّنْ
أَثْبَتَ الأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَلَمْ يُثْبِتِ القَدَرَ، وَهَذَا
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ المُسْلمِينَ وَغَيْرِهِمْ مِن أَهْلِ المِلَلِ
بَلْ مِن جَمِيعِ المَخْلُوقَاتِ، فَإِنَّ مَن احْتَجَّ بِالقَدَرِ
وَشَهِدَ بِالرُّبُوبِيَّةِ العَامَّةِ لجَمِيعِ المَخْلُوقَاتِ وَلَمْ
يُفَرِّقْ بَيْنَ المَأْمُورِ وَالمَحْظُورِ وَالمُؤْمِنِ وَالكَافِرِ
وَأَهْلِ الطَّاعَةِ وَأَهْلِ المَعْصِيَةِ لمْ يُؤْمِنْ بِأَحَدٍ مِن
الرُّسُلِ وَلا بِشَيْءٍ مِن الكُتُبِ وَكَانَ عِنْدَهُ آدَمُ وَإِبْليسُ
سَوَاءً، وَنُوحٌ وَقَوْمُهُ سَوَاءً، وَمُوسَى وَفِرْعَوْنُ سَوَاءً،
وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ وَالكَافِرُونَ سَوَاءً.
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي ذَمِّ اللَّهِ مِن القَدَرِيَّةِ مَن
يَحْتَجُّ بِهِ عَلَى إِسْقَاطِ الأَمْرِ وَالنَّهْيِ أَعْظَمُ مِمَّا
يَدْخُلُ فِيهِ المُنْكِرُ لهُ؛ فَإِنَّ ضَلالَ هَذَا أَعْظَمُ؛ وَلهَذَا
قُرِنَتِ القَدَرِيَّةُ بِالمُرْجِئَةُ فِي كَلامٍ غَيْرِ وَاحِدٍ مِن
السَّلَفِ، وَرُوِيَ فِي ذَلكَ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ؛ لأَنَّ كُلاًّ مِن
هَاتَيْنِ البِدْعَتَيْنِ تُفْسِدُ الأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالوَعْدَ
وَالوَعِيدَ، فَالإِرْجَاءُ يُضْعِفُ الإِيمَانَ بِالوَعِيدِ،وَيُهَوِّنُ
أَمْرَ الفَرَائِضِ وَالمَحَارِمِ.
وَالْقَدَرِيُّ إِنِ احْتَجَّ بِهِ كَانَ عَوْناً للْمُرْجِئِ، وَإِنْ
كَذَّبَ بِهِ كَانَ هُوَ وَالمُرْجِئُ قَدْ تَقَابَلا، هَذَا يُبَالِغُ فِي
التَّشْدِيدِ حَتَّى لا يَجْعَلَ العَبْدَ يَسْتَعِينُ بِاللَّهِ عَلَى
فِعْلِ ما أَمَرَ بِهِ، وَتَرْكِ مَا نَهَى عَنْهُ،وَهَذَا يُبَالِغُ فِي
النَّاحِيَةِ الأُخْرَى،وَمِن المَعْلُومِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرْسَلَ
الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ الكُتُبَ لِتُصَدِّقَ الرُّسُلَ فِيمَا أَخْبَرَتْ
وَتُطَاعَ فِيمَا أَمَرَتْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} وَالإِيمَانُ بِالقَدَرِ مِن تَمَامِ ذَلكَ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَن أَسْقَطَ الأَمْرَ وَالنَّهْيَ الذي بَعَثَ اللَّهُ
بِهِ رُسُلَهُ فَهُوَ كَافِرٌ بِاتِّفَاقِ المُسْلمِينَ وَاليَهُودِ
وَالنَّصَارَى، بَلْ هَؤُلاءِ قَوْلُهُمْ مُتَنَاقِضٌ لا يُمَكِّنُ أَحَداً
مِنْهُمْ أَنْ يَعِيشَ بِهِ، وَلا تَقُومُ بِهِ مُصْلحَةُ أَحَدٍ مِن
الخَلْقِ وَلا يَتَعَاشَرُ عَلَيْهِ اثْنَانِ، فَإِنَّ القَدَرَ إِنْ كَانَ
حُجَّةً فَهُوَ لكُلِّ أَحَدٍ وَإِلا فَلَيْسَ حُجَّةً لأَحَدٍ.
قَوْلُهُ وَالعَبْدُ هُوَ المُؤْمِنُ وَالكَافِرُ وَالبَرُّ وَالفَاجِرُ
إِلخ " العَبْدُ تَارَةً يَعْنِي بِهِ المُعَبَّدَ فَيَعُمُّ الخَلْقَ
كُلَّ الخَلْقِ كَمَا فِي قَوْلهِ: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرّحْمَـنِ عَبْداً}
وَتَارَةً يَعْنِي بِهِ العَابِدَ فَيَخُصُّ، ثُمَّ يَخْتَلِفُونَ: فَمَنْ
كَانَ أَعْبَدَ علماً وحالاً كَانَتْ عُبُودِيَّتُهُ أَكْمَلَ فَكَانَتِ
الإِضَافَةُ فِي حَقِّهِ أَكْمَلَ مَعَ أَنَّهَا حَقِيقَةٌ فِي جَمِيعِ
المَوَاضِعِ.
وَالعُبُـودِيَّةُ نَوْعَـانِ: عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ:
فَالعُبُودِيَّةُ العَامَّةُ عُبُودِيَّةُ
أَهْلِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلِّهمْ بَرِّهِمْ وفَاجِرِهِمْ
مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ. فَهَذِهِ عُبُودِيَّةُ القَهْرِ وَالمُلْكِ.
قَالَ تَعَالَى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرّحْمَـنِ عَبْداً} فَهَذَا يَدْخُلُ فِيهِمْ مُؤْمِنُهُمْ وَكَافِرُهُمْ. وَقَالَ: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ}
فَسَمَّاهُمْ عِبَادَهُ مَعَ ضَلالِهِمْ لكِنْ تَسْمِيَةٌ مُقَيَّدَةٌ
بِالإِشَارَةِ. وَأَمَّا المُطْلَقَةُ فَلَمْ تَجِئْ إِلا لأَهْلِ
النَّوْعِ الثَّانِي وَقَالَ: {إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ العِبَادِ}، {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً للْعِبَادِ} فَهَذَا يَتَنَاوَلُ العُبُودِيَّةَ الخَاصَّةَ وَالعَامَّةَ.
وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي فَعُبُـودِيَّةُ الطَّاعَةِ وَالمَحَبَّةِ وَاتِّبَاعِ الأَوَامِرِ قَالَ تَعَالَى: {ياعِبَادِ
لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} {فَبَشِّرْ
عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَـتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}
فَالخَلْقُ كُلُّهُمْ عَبِيدُ رُبُوبِيَّتِهِ. وَأَهَّلُ طَاعَتِهِ
وَوِلايَتِهِ هُمْ عَبِيدُ إِلَهِيَّتِهِ. وَلا يَجِيءُ فِي القُرْآنِ
إِضَافَةُ العِبَادِ إِلَيْهِ مطلقاً إِلا لهَؤُلاءِ.
وَإِنَّمَا انْقَسَمَتِ العُبُودِيَّةُ إِلَى خَاصَّةٍ وَعَامَّةٍ، لأَنَّ
أَصْلَ مَعْنَى اللَّفْظَةِ الذُّلُّ وَالخُضُوعُ. يُقَالُ: طَرِيقٌ
مُعَبَّدٌ إِذَا كَانَ مُذَلَّلاً بِوَطْءِ الأَقْدَامِ، وَفُلانٌ
عَبَّدَهُ الحُبُّ إِذَا ذَلَّهُ، لكِنَّ أَوْليَاءَهُ خَضَعُـوا لهُ
وَذَلُّوا طَوْعاً واختياراً وانقياداً لأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ.
وَأَعْدَاؤُهُ خَضَعُوا لهُ قَهْراً ورَغْماً.
وَأَشَارَ المُؤَلِّفُ بِقَوله: (وَالعَبْدُ هُوَ المُؤْمِنُ وَالكَافِرُ) إِلَى قَوْلهِ: (وَللْعِبَادِ قُدْرَةٌ عَلَى أَعْمَالِهِمْ وَلَهُمْ إِرَادَةٌ)
إِلَى الرَّدِّ عَلَى الجَبْرِيَّةِ الذين يَقُولُونَ: إِنَّ العَبْدَ لا
قُدْرَةَ وَلا إِرَادَةَ وَإِنْهُ مَجْبُورٌ عَلَى أَعْمَالِهِ لا
اخْتِيَارَ لهُ.
وَأَشَارَ بِقَولِهِ: (وَاللَّهُ خَالِقٌ قُدْرَتَهُمْ وَإِرَادَتَهُمْ)
إِلَى الرَّدِّ عَلَى القَدَرِيَّةِ النُّفَاةِ الذين يَقُولُونَ: إِنَّ
العَبْدَ هُوَ الذي يَخَلُقُ فِعْلَهُ. وَكَذَّبَ عَامَّةُ الْقَدَرِيَّةِ
بِهَذِهِ الدَّرَجَةِ مِن القَدَرِ. وَلذَا سُمُّوا مَجُوسَ هَذِهِ
الأُمَّةِ.
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَن ابْنِ عُمَرَ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((القَدَرِيَّةُ مَجُوسُ هَذِهِ الأُمَّةِ إِنْ مَرِضُوا فَلاَ تَعُودُوهُمْ وَإِنْ مَاتُوا فَلا تَشْهَدُوهُمْ)).
قَالَ المُنْذِرِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ مُنْقَطِعٌ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا
الحَدِيثُ مِن طُرُقٍ عَن ابْنِ عُمَرَ ليْسَ فِيهَا شَيْءٌ يَثْبُتُ اهـ.
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ أيضاً عَن حُذَيْفَةَ بْنِ اليَمَانِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لِكُلِّ
أُمَّةٍ مَجُوسٌ وَمَجُوسُ هَذِهِ الأُمَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لا
قَدَرَ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ فَلا تَشْهَدُوا جِنَازَتَهُ، وَمَنْ مَرِضَ
مِنْهُمْ فَلاَ تَعُودُوهُمْ، وَهُمْ شِيعَةُ الدَّجَّالِ، وَحَقٌّ عَلَى
اللَّهِ أَنْ يُلْحِقَهُمْ بِالدَّجَّالِ)). وَهُوَ حَدِيثٌ
ضَعِيفٌ، وَرُوِيَ مِن طَرِيقٍ أُخْرَى وَلا يَثْبُتُ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا
المَعْنَى عَن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وعَبْدِ
اللهِ بْنِ عًمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَرَافِعِ بنِ خَدِيجٍ.
وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَمِّ القَدَرِيَّةِ أَحَادِيثُ أُخَرُ تَكَلَّمَ أَهْلُ
الحَدِيثِ فِي صِحَّةِ رَفْعِهَا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا مَوْقُوفَةٌ،
وَالذي صَحَّ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَمُّهُمْ
مِن أَهْلِ البِدَعِ هُمُ الخَوَارِجُ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِيهِمُ
الحَدِيثُ مِن وُجُوهٍ كُلُّهَا صِحَاحٌ لأَنَّ مَقَالَتَهُمْ حَدَثَتْ فِي
زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَلَّمَهُ
رَئِيسُهُمْ.
وَأَمَّا الإِرْجَاءُ وَالرَّفْضُ وَالقَدَرُ وَالتَّجَهُّمُ وَالحُلُولُ
وَغَيْرُهَا مِن البِدَعِ فَإِنَّهَا حَدَثَتْ بَعْدَ انْقِرَاضِ عَصْرِ
الصَّحَابَةِ. وَبِدْعَةُ القَدَرِ أَدْرَكَتْ آخِرَ عَصْرِ الصَّحَابَةِ،
فَأَنْكَرَهَا مَن كَانَ مِنْهُمْ حيًّا كعَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ وَابْنِ
عَبَّاسٍ وَأَمْثَالِهِمَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَأَكْثَرُ مَا
يَجِيءُ مِن ذَمِّهِمْ فَإِنَّمَا هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى الصَّحَابَةِ مِن
قَوْلِهِمْ فِيهِ.
ثُمَّ حَدَثَتْ بِدْعَةُ الإِرْجَاءِ بَعْدَ انْقِرَاضِ عَصْرِ
الصَّحَابَةِ فَتَكَلَّمَ فِيهَا كِبَارُ التَّابِعِينَ الذين
أَدْرَكُوهَا، ثُمَّ حَدَثَتْ بِدْعَةُ التَّجَهُّمِ بَعْدَ انْقِرَاضِ
عَصْرِ التَّابِعِينَ وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهَا وَاسْتَطَارَ شَرُّهَا فِي
زَمَنِ الأَئِمَّةِ كَالإِمَامِ أَحْمَدَ وَذَوِيِهِ،ثُمَّ حَدَثَتْ
بِدْعَةُ الحلولِ وظهرَ أمرُهَا في زمنِ الحُسَينِ الحَلاَّجِ، وكُلَّما
أَظْهَرَ الشَّيطانُ بِدْعَةً مِن هَذِهِ البِدَعِ وَغَيْرِهَا أَقَامَ
اللَّهُ لهَا مِن حِزْبِهِ وَجُنْدِهِ مَن يَرُدُّهَا وَيُحَذِّرُ
المُسْلمِينَ مِنْهَا.
وَسُمِّيَ القَدَرِيَّةُ مَجُوسَ هَذِهِ الأُمَّةِ : لِمُضَاهَاةِ
مَذْهَبِهِمْ مَذْهَبَ المَجُوسِ فِي قَوْلِهِمْ بِالأَصْلَيْنِ وَهُمَا
النُّورُ وَالظُّلْمَةُ يَزْعُمُونَ أَنَّ الخَيْرَ مِن فِعْلِ النُّورِ
وَالشَّرَّ مِن فِعْلِ الظُّلْمَةِ فَصَارُوا ثَانَوِيَّةً. وَكَذَلكَ
القَدَرِيَّةُ يُضِيفُونَ الخَيْرَ وَالشَّرَّ لا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْهُمَا
إِلا بِمَشِيئَتِهِ.
وَقَابَلَ هَؤُلاءِ طَائِفَةُ الجَبْرِيَّةِ الذين غَلَوْا فِي إِثْبَاتِ
القَدَرِ حَتَّى سَلَبُوا العَبْدَ قُدْرَتَهُ وَاخْتِيَارَهُ، وَلأَجْلِ
ذَلكَ نَفَوْا الحِكْمَةَ وَالتَّعْليلَ، فَالقَدَرِيَّةُ النُّفَاةُ
قَصَّرُوا وَهَؤُلاءِ غَلَوْا.
وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَسَطٌ بَيْنَ طَرَفَيْنِ فَلا إِفْرَاطَ وَلا
تَفْرِيطَ، عَلَى إِثْبَاتِ الأَمْرَيْنِ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَمَا
قَالَ تَعَالَى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ العَالَمِينَ}.
فَقَوْله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ}
رَدٌّ عَلَى الجَبْرِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ العَبْـدَ لا مَشِيئَةَ
لهُ، أَوْ أَنَّ مَشِيئَتَهُ مُجَرَّدُ عَلامَةٍ عَلَى حُصُولِ الفِعْلِ،
لا ارْتِبَاطَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَهُ إِلا مُجَرَّدَ اقْتِرَانٍ عَادِيٍّ
مِن غَيْرِ أَنْ يَكُونَ سبباً فِيهِ. وَقَوْلُهُ: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ العَالَمِينَ}
رَدٌّ عَلَى القَدَرِيَّةِ القَائِلينَ بِأَنَّ مَشِيئَةَ العَبْدِ
مُسْتَقِلَّةٌ بِإِيجَادِ الفِعْلِ مِن غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى مَشِيئَةِ
اللَّهِ، بَلْ مَتَى شَاءَ العَبْدُ الفِعْلَ وُجِدَ، وَيَسْتَحِيلُ
عِنْدَهُمْ تَعَلُّقُ مَشِيئَةِ اللَّهِ بِفِعْلِ العَبْدِ بَلْ هُوَ
بِفِعْلِهِ بِدُونِ مَشِيئَةِ اللَّهِ، فَالآيَتَانِ مُبْطِلَتَانِ لقَوْلِ
الطَّائِفَتَيْنِ.
وَالذي دَلَّتْ عَلَيْهِ الآيَةُ مَعَ سَائِرِ أَدِلَّةِ التَّوْحِيدِ
وَأَدِلَّةِ العَقْلِ الصَّرِيحِ: أَنَّ مَشِيئَةَ العِبَادِ مِن جُمْلَةِ
الكَائِنَاتِ الَّتِي لا تُوجَدُ إِلا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى، فَمَا لمْ يَشَأْ لمْ يَكُنِ البَتَّةَ، كَمَا أَنَّ مَا شَاءَ
كَانَ وَلا بُدَّ، وَهَاتَانِ الآيَتَانِ مُتَضَمِّنَتَانِ إِثْبَاتَ
لشَّرْعِ وَالقَدَرِ وَالأَسْبَابِ وَالمُسَبِّبَاتِ وَفِعْلِ العَبْدِ
وَاسْتِنَادِهِ إِلَى فِعْلِ الرَّبِّ، وَلكُلٍّ مِنْهُمَا عُبُودِيَّةٌ
مُخْتَصَّةٌ بِهَا، فَعُبُودِيَّةُ الآيَةِ الأُولَى الاجْتِهَادُ وَاسْتِفْرَاغُ الوُسْعِ والاخْتِيَارِ وَالسَّعْيِ.
وَعُبُودِيَّةُ الثَّانِيَةِ: الاسْتِعَانَةُ
بِاللَّهِ والتّوَكُلُّ عَلَيْهِ واللَّجَاءُ إِلَيْهِ وَاسْتِنْزَالُ
التَّوْفِيقِ وَالعَوْنِ وَالعِلْمِ بِأَنَّ العَبْدَ لا يُمْكِنُهُ أَنْ
يَشَاءَ وَلا يَفْعَلُ حَتَّى يَجْعَلَهُ اللَّهُ كَذَلكَ. وَقَوْلُهُ: {رَبُّ الْعَالَمِينَ} يَنْتَظِمُ ذَلكَ كُلُّه وَيَتَضَمَّنُهُ. فَمَنْ عَطَّلَ أَحَدَ الأَمْرَيْنِ فَقَدْ جَحَدَ كَمَالَ رُبُوبِيَّتِهِ وَعَطَّلَهَا).
التنبيهات السنية للشيخ: عبد العزيز بن ناصر الرشيد رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): ((وأَمَّا
الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ؛ فَهِيَ مَشيئةُ اللهِ النَّافِذَةُ،
وقُدْرَتُهُ الشَّامِلَةُ، وهُو: الإِيمانُ بأَنَّ مَا شَاءَ اللهُ كَانَ،
وما لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وأَنَّهُ ما في السَّماواتِ ومَا في الأرْض
مِنْ حَرَكَةٍ ولا سُكونٍ؛ إِلا بِمشيئَةِ اللهِ سُبْحانَهُ، [لا يَكونُ في
مُلْكِهِ مَا لاَ يُريدُ].(1)
وأنَّهُ سُبحانَهُ عَلى كُلِّ شيءٍ قَديرٌ مِنَ المُوْجودَاتِ والمَعْدوماتِ.(2)
فمَا مِنْ مَخْلوقٍ في الأرْضِ ولا في السَّماءِ إِلا اللهُ خَالِقُهُ سبحانَهُ، لا خَالِقَ غيرُهُ، ولا رَبَّ سِواهُ.(3)
ومَعَ ذلك؛ فقدْ أَمَرَ العِبَادَ بطاعَتِهِ وطاعَةِ رسوله، ونَهاهُمْ عن مَعْصِيَتِهِ.
وهُو سُبحانَهُ يُحِبُّ المُتَّقينَ والمُحْسِنينَ والمُقْسِطينَ، ويَرْضى
عَنِ الَّذينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، ولا يُحِبُّ الكَافِرينَ،
ولا يَرْضى عَنِ القَوْمِ الفَاسِقينَ، ولا يَأْمُرُ بالفَحْشاءِ، ولا
يَرْضى لِعِبادِهِ الكُفْرَ، ولا يُحِبُّ الفَسادَ).(4)
(والعِبَادُ فاعِلُونَ حَقيقةً، واللهُ [خَلَقَ] أَفْعالَهُمْ، والعَبْدُ
هُو: المُؤِمنُ، والكافِرُ، والبَرُّ، والفاجِرُ، والمُصلِّي، والصَّائِمُ.(5)
ولِلْعِباد قُدْرَةٌ على أَعْمالِهِمْ، [ولَهُمْ إِرَادَةٌ، واللهُ خَالِقُهُم وقُدْرَتَهُم وإِرادَتَهُم]؛ كَما قالَ تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقيمَ. ومَا تَشاؤونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ العَالَمينَ}،
(وهذه الدَّرَجَةُ مِنَ القدَرِ يُكَذِّبُ بها عَامَّةُ القَدَرِيَّةِ
الَّذينَ سَمَّاهُم النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَجُوسَ
هذه الأمَّةِ.(6)
ويَغْلُو فيها قومٌ مِنْ أَهْلِ الإِثْباتِ، حَتَّى سَلَبُوا العَبْدَ
قُدْرَتَهُ واخْتِيارَهُ، ويُخْرِجُونَ عَنْ أَفْعَالِ اللهِ وأَحْكامِهِ
حُكْمَهَا ومَصالِحَها).(7) ).
الشرح:
قال الشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد (ت: 1408هـ): ((1) قولُه: (وأمَّا الدَّرجةُ الثَّانيةُ …)
إلخ هَذِهِ المرتبةُ الثَّالثةُ مِن مراتبِ الإيمانِ بالقدَرِ، وهُوَ
إثباتُ مشيئةِ اللَّهِ النَّافذةِ، أي الماضيةِ التي لا رَادَّ لها، مِن
نَفَذَ السَّهمُ نُفوذًا إذا خَرَقَ الرَّميَّةَ، ونَفَذَ الأمرُ مَضى،
هَذِهِ المرتبةُ الثَّالثةُ مِن مراتبِ الإيمانِ بالقدَرِ، وهُوَ إثباتُ
نُفوذِ قُدرتِه ومشيئتِه، وشُمولِ قُدرَتِه، قد دَلَّ عليها الكِتابُ
والسُّنَّةُ وأجمعَ عليها سَلَفُ الأمَّة، قال اللَّهُ تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُواْ} وقال: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا}
إلى غيرِ ذَلِكَ مِن الآياتِ الدَّالَّةِ على نُفوذِ مَشيئَتِه فلا خُروجَ
لكائِنٍ عن مشيئَتِه كما لا خُروجَ له عَن عِلمِه، وفي هَذِهِ الآياتِ
وغيرِها الرَّدُّ على القدريَّة والمعتزِلةِ نُفاةِ القدَرِ الذين يُثبتون
للعبدِ مشيئةً تخالِفُ ما أرادَه اللَّهُ مِن العبدِ وشاءه، وأما أهلُ
السُّنَّةِ والجَماعَةِ فتمسَّكوا بالكِتابِ والسُّنَّةِ في هَذَا البابِ
وغيرِه، واعتقَدوا أنَّ مشيئةَ العبدِ تابعةٌ لمشيئةِ اللَّهِ في كُلِّ
شيءٍ مما يوافِقُ ما شَرعَه وما يخالِفُه مِن أفعالِ العبدِ وأقوالِه،
فالكُلُّ بمشيئةِ اللَّهِ، فما وافَقَ ما شَرَعَه رَضِيَه وأحَبَّه، وما
خالَفه كَرِهَه، كما قال -سُبْحَانَهُ- وتعالى: {إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} الآيةَ.
قولُه: (وهُوَ الإيمانُ بأنَّ ما شاءَ اللَّهُ كان …)
إلخ فسَّرَ المصنِّفُ معنى الإيمانِ بهذه المرتبةِ، وأشار بهَذَا إلى
الرَّدِّ على القدَريَّةِ والمعتزِلةِ الذين يُثبتون للعبدِ مشيئةً تخالِفُ
مشيئةَ اللَّهِ، وتقدَّمَ ذِكرُ الأدلَّةِ على بطلانِ قولِهم، وهل أضَلُّ
ممَّن يَزعُمُ أَنَّ اللَّهَ شاء الإيمانَ مِن الكافرِ والكافرُ شاءَ
الكفرَ، فغلبَتْ مشيئةُ الكافرِ مشيئةَ اللَّهِ؟! –تعالى اللَّه عَن
قولِهم– وقد تقدَّمَ ذِكرُ أقسامِ الإرادةِ والمشيئةِ، والفَرْقُ بينهما
وبين المحبَّةِ والرِّضا.
(2)قولُه: (وأنَّه -سُبْحَانَهُ- على كُلِّ شيءٍ قديرٌ …) إلخ قال اللَّهُ -سُبْحَانَهُ-: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
ففيها دليلٌ على شمولِ قُدرتِه، فكُلُّ ممكنٍ فهُوَ مُندَرِجٌ فيها، وفيها
الرَّدُّ على القدَريَّةِ فإنَّ مذهبَهم أنَّه -سُبْحَانَهُ- ليس على
كُلِّ شيءٍ قديرٌ، وأَنَّ العِبادَ يَقْدِرونَ على ما لا يَقدِرُ عليه،
وأنَّه -سُبْحَانَهُ- لا يَقدِرُ أنْ يَهْدِي ضالاًّ ولا يُضِلُّ
مُهْتدِيا، وهَذَا المذهبُ باطلٌ تَرُدُّه أدلَّةُ الكِتابِ والسُّنَّةِ،
وهُوَ كما قال بعضُ العلماءِ شِركٌ في الرُّبوبِيَّةِ مختصَرٌ، ولذَلِكَ
ورَدَ أنَّ ((القدَريَّةَ مَجُوسُ هَذِهِ الأمَّةِ))
لمُشابَهةِ قولِهم لقولِ المجوسِ، وأما أهلُ السُّنَّةِ فيُثبتون أَنَّ
العبدَ فاعِلٌ حقيقةً، ولكنَّه مخلوقٌ لِلَّهِ ومَفعولٌ، ولا يقولون هُوَ
نَفْسُ فِعلِ اللَّهِ، ويُفرِّقون بين الخَلقِ والمخلوقِ والفِعلِ
والمفعولِ.
قولُه: (مِن الموجوداتِ) كأفعالِ خَلْقِه مِن الملائكةِ والنَّبيِّينَ وسائرِ حركاتِ العِبادِ فلا يَخرُجُ عن خَلقِه ومُلكِه شيءٌ.
قولُه: (والمعدوماتِ) كما قال -سُبْحَانَهُ-: {إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} وقال: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا}
أي شيئاً في الخارِجِ، وإن كان شيئاً في عِلمِه -سُبْحَانَهُ- وأما
المُحالُ لِذاتِه فلا حقيقةَ له ولا يُتصوَّرُ وُجودُه، فلا يُسمَّى شيئاً
باتِّفاقِ العقلاءِ، وَذَلِكَ مِثلُ كونِ الشَّيءِ الواحدِ موجودًا
معدومًا، ومِن هَذَا البابِ خَلقَ مِثلَ نَفْسِه.
(3) قولُه: (فما مِن مخلوقٍ …) إلخ قال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} وقال: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}
فامْتدَحَ بأَنَّ اللَّهَ خَلقَ كُلَّ شيءٍ، وبأنَّه يَعلَمُ كُلَّ شيءٍ،
فكما أنَّه لا يَخرُجُ عن عِلمِه شيءٌ فكذا لا يَخرُجُ عن خَلقِه شيءٌ،
فثَبتَ أَنَّ الأفعالَ خيرَها وشرَّها كُلَّها صادرةٌ عن خَلقِه وإحداثِه
إيَّاها.اهـ.
وفي هَذِهِ الآياتِ الرَّدُّ على القدَريَّةِ الذين
يَزعُمونَ أَنَّ العبدَ يَخلُقُ فِعلَ نَفْسِه استقلالا بِدُونِ مشيئةِ
اللَّهِ وإرادَتِه، ولا شكَّ في بُطلانِ هَذَا المذهبِ وفسادِه ومصادمَتِه
لأدلَّةِ الكِتابِ والسُّنَّةِ، فإنَّ قولَه -سُبْحَانَهُ-: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}
شاملٌ لأفعالِ العِبادِ، لدُخولِها في عُمومِ كُلِّ، ولا يَدخلُ في ذَلِكَ
أسماءُ اللَّهِ وصفاتُه، كما أنَّه -سُبْحَانَهُ- لم يَدخُلْ في عُمومِ
كُلِّ، فكذَلِكَ أسماؤه وصفاتُه.
قال ابنُ القيِّمِ ما معناه: في هَذِهِ الآياتِ
دليلٌ على أنَّه -سُبْحَانَهُ- خالِقُ أفعالِ العِبادِ، كما أنَّه خالِقُ
ذواتِهم وصفاتِهم، فالعبدُ كُلُّه مخلوقٌ: صفاتُه وذاتُه وأفعالُه، ومَن
أَخْرَجَ أفعالَه عن خَلقِ اللَّهِ فقد جَعلَ فيه خالِقًا مع اللَّهِ،
ولهَذَا شبَّهَ السَّلَفُ القدَريَّةَ النُّفاةَ بالمجوسِ، وقالوا: هُم
مجوسُ هَذِهِ الأُمَّةِ، صح ذَلِكَ عن ابنِ عبَّاسٍ.اهـ.
قولُه: (لا خالِقَ غيرُه ولا رَبَّ سِواهُ)
إشارةٌ إلى الرَّدِّ على القدَريَّةِ المجوسيَّةِ الذين يُثبتون مع
اللَّهِ خالِقينَ للأفعالِ ليست أفعالُهم مَقدُورةً له، وَهِيَ صادرةٌ
بغيرِ مشيئَتِه وإرادَتِه، ولا قُدرةَ له عليها، فرُبوبِيَّتُه
-سُبْحَانَهُ- الكامِلةُ المطلَقَةُ تُبطِلُ أقوالَ هؤلاءِ كُلِّهم؛ لأنها
تَقْتَضِي ربوبيَّتَه لجميعِ ما فيه مِن الذَّواتِ والصِّفاتِ والحركاتِ
والأفعالِ، وحقيقةُ قولِ هؤلاء أنَّه ليس رباًّ لأفعالِ الحيوانِ ولا
تَناوَلَتْها رُبوبِيَّتُه، وكَيْفَ تتناولُ ما لا يَدخُلُ تحتَ قُدرتِه
ومشيئَتِه وخَلقِه، أما أهلُ السُّنَّةِ والجَماعَةِ فيؤمنون بأَنَّ
اللَّهَ خالقُ كُلِّ شيءٍ لا خالِقَ غيرُه، وأنَّه على كُلِّ شيءٍ قديرٌ،
وبشمولِ مشيئَتِه لكُلِّ ما كان، وأنَّه بكُلِّ شيءٍ عليمٌ، فيؤمنون بعمومِ
خَلقِه، وشمولِ قُدرتِه، ونفوذِ مشيئَتِه، وعِلمِه بالأشياءِ قبلَ أنْ
تكونَ، تقديرُه لها وكتابَتُه إيَّاها قَبلَ أنْ تكونَ، فعندَهم مراتبُ الإيمانِ بالقضاءِ والقَدَرِ أربعٌ كما سَبَقَتْ إشارةُ المصنِّفِ إليها.
الأولى: عِلْمُه السَّابقُ بما هم عامِلون قبلَ إيجادِهم.
الثَّانيةُ: كتابَتُه لذَلِكَ في الذِّكْرِ عندَه قَبلَ خَلْقِ السَّماواتِ والأرضِ.
الثَّالثةُ: مَشيئَتُه المتناوِلَةُ لكُلِّ مَوجودٍ، فلا خُروجَ لكائنٍ عن مشيئَتِه، كما لا خُروجَ له عَن عِلمِه.
الرَّابعةُ: خَلْقُه له وإيجادُه وتَكوينُه، فإنَّه لا خَالِقَ غيرُه ونَظَمَ ذَلِكَ بعضُهم بقولِه:
عِلمٌ كتابةُ مولانا مَشيئتُه ... وخَلقُه وهُوَ إيجادٌ وتَكْوينُ
فيجبُ
الإيمانُ بالقضاءِ والقدَرِ، ولا يجوزُ الاحتجاجُ بِهِ في تَرْكِ أوامِرِ
اللَّهِ، وفِعلِ نَواهِيهِ، بل يجبُ أنْ نؤمِنَ بِذَلِكَ، ونَعلَمَ أنَّ
لِلَّهِ الحُجَّةَ علينا بإنزالِ الكُتُبِ وبَعثِ الرُّسلِ.
(4) قولُه: (ومع ذَلِكَ فقد أمَرَ العِبادَ) إلخ قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ}، وقال: {مُنْ يُطِعِ الرَّسولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}
الآيةَ، والإيمانُ بالقدَرِ مِن تمامِ طاعةِ اللَّهِ وطاعةِ رسولِه، ومَن
أَثبتَ القَدَرَ وجعلَ ذَلِكَ معارِضًا للأمْرِ فقدْ أَذْهَبَ الأصلَ،
فقولُ المصنِّفِ: (ومع ذَلِكَ فقد أَمَرَ العِبادَ بطاعَتِه)
إلخ، إشارةٌ للرَّدِّ على مَن عارَضَ شَرْعَه وأمْرَه بقضائِه وقدَرِه،
وجَعلَ مشيئتَه العامَّةَ دَافِعةً للأمْرِ كفِعلِ الزَّنادِقَةِ إذا
أُمِروا أو نُهوا احتجُّوا بالقدَرِ، وقد احتجَّ سارقٌ على عُمرَ بالقَدرِ
فقال: وأَنَا أَقْطَعُ يَدَكَ بقَضاءِ اللَّهِ وقدَرِه،
قال الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ -رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى-: مَن ادَّعى
أَنَّ العارِفَ إذا شَهِدَ الإرادةَ سَقطَ عنه الأمرُ كان هَذَا مِن
الكُفرِ الذي لا يَرضاهُ أحدٌ، بل هَذَا ممتنِعٌ في العقلِ مُحالٌ في
الشَّرعِ، انتهى، وقال ابنُ القيِّمِ بعد كلامٍ: والمقصودُ أنَّه لم
يُؤمِنْ بالقضاءِ والقدَرِ والحِكمةِ والأمرِ والنَّهيِ والوعدِ والوعيدِ
حقيقةَ الإيمانِ إلاَّ أَتباعُ الرُّسلِ وورَثَتُهم.
قولُه: (وهُوَ يُحِبُّ المتَّقينَ)
إلخ، هَذَا رَدٌّ عَلَى مَن زَعَم أَنَّ المشيئةَ والمحبَّةَ سواءٌ أو
مُتَلازمانِ، كما يقولُه الجبريَّةُ والقدَريَّةُ، وقد دلَّ على الفَرْقِ
بينهما الكِتابُ والسُّنَّةُ والإجماعُ والفِطرةُ، قال اللَّهُ تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} مع أنَّ ذَلِكَ كُلَّه بمشيئَتِه، قال تعالى: {وَاللَّهُ لاَ يُحِبَّ الفَسَادَ} مع أنَّه واقعٌ بمشيئَتِه وقَضائِه وقَدرِه، وفي المسنَدِ: ((إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِرُخَصِهِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ))،
فَهِذِهِ المحبَّةُ والكَراهةُ لأمرين اجْتمعا في المشيئةِ وافترَقا في
المحبَّةِ والكراهةِ، وهَذَا أكثرُ مِن أنْ يُحصرَ، فالمشيئةُ والمحبَّةُ
ليس مدلولُهما واحدًا، ولا هُما متلازِمان، بل قد يشاءُ اللَّهُ ما لا يُحبُّه ويُحِبُّ ما لا يشاءُ كونَه، فالأول: كمشيئَتِه لوجودِ إبليسَ وجنودِه، ومشيئتِه العامَّةِ لجميعِ ما في الكونِ مع بُغضِه لبَعْضِه. الثَّاني: كمحبَّتِه
لإيمانِ الكفارِ والفجارِ، ولو شاءَ ذَلِكَ لوُجِدَ كُلُّه، فإنَّ ما شاءَ
اللَّهُ كان وما لم يشأْ لم يكن، فأهلُ الكِتابِ والسُّنَّةِ يقولون: الإرادةُ في كتابِ اللَّهِ نوعانِ: الأوَّلُ: إرادةٌ كونيَّةٌ قدَريَّةٌ، والثَّاني: إرادةٌ دِينيَّةٌ شَرعيَّةٌ.
فالإرادةُ الشرعيَّةُ هي المتضمِّنةُ للمحبَّة
والرِّضا، والكونيَّةُ هي المشيئةُ الشَّاملةُ لجميعِ الحوادثِ، وقد
تقدَّمتِ الإشارةُ إلى ذَلِكَ في الكلامِ على الآياتِ بما فيه الكفايةُ إنْ
شاءَ اللَّهُ.
(5) قولُه: (والعِبادُ فاعِلُون …) إلخ قال اللَّهُ تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}
أيْ: خَلَقَكم والذي تَعمَلُونه، فدلَّتْ على أنَّ أفعالَ العبدِ مخلوقةٌ
لِلَّهِ، وعلى أنَّها أفعالٌ لهم حقيقةً، ففيها الرَّدِّ على الجَبْريَّةِ
الذين يقولون: إنَّ العبدَ لا فِعلَ له، وفيها الرَّدُّ على القدَريَّةِ
الذين يقولون: إنَّ العبدَ يَخلُقُ فِعلَ نَفْسِه استقلالا، وفي حديثِ
حذيفةَ: ((إِنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ صَانِعٍ وَصَنْعَتِهِ))،
فاللَّهُ -سُبْحَانَهُ- خَلَقَ الإنسانَ بجميعِ أغراضِه وحركاتِه،
والآياتُ الدَّالَّةُ على خَلقِ أفعالِ العِبادِ كثيرةٌ، فقولُ المصنِّفِ:
(والعِبادُ فاعِلونُ حقيقةً) رَدٌّ على الجَبْريَّةِ الذين يقولون: إنَّ
العبدَ ليس بفاعِلٍ أصلا، بل هُوَ مجبورٌ على أفعالِه وواقِعةٌ بغيرِ
اختيارِه، وأَنَّ الفاعِلَ فيه سِواهُ والمُحرِّكُ له غيرُه، فهُوَ آلةٌ
محضْةٌ، وحركاتُه بمنـزلةِ هُبوبِ الرِّياحِ وحركاتِ المُرتَعِشِ، وقد
يَغْلُون في ذَلِكَ حتى يَرَوْا أفعالَهم كُلَّها طاعاتٌ خيرُها وشرُّها،
لموافَقتِها للمشيئةِ والقَدَرِ، وهؤلاء شرٌّ مِن القدَريَّةِ النُّفاةِ،
وأشدُّ عداوةً لِلَّهِ ومناقضةً لكِتابِه ورُسلِه ودِينِه.
قولُه: (واللَّهُ خالِقُ أفعالِهم)
ردٌّ على القدَريَّةِ النُّفاةِ الذين يقولون: إنَّ اللَّهَ لم يَخلُقْ
أفعالَهم، وأنَّها واقِعةٌ بمشيئَتِهم وقُدْرَتِهم دُونَ مشيئةِ اللَّهِ،
وأَنَّ اللَّهَ لم يُقَدِّرْ ذَلِكَ عليهم ولم يَكْتُبْه ولا شاءه، وأَنَّ
اللَّهَ لا يَقْدِرُ أنْ يَهدِيَ ضالاً ولا يُضِلَّ مهتديًا، وأَنَّ
العِبادَ خالِقون لأفعالِهم بدُونِ مشيئةِ اللَّهِ، فشابَهوا المجوسَ في
كونِهم أثْبَتوا خالِقاً مع اللَّهِ، ولِذا سُمُّوا مجوسَ هَذِهِ
الأُمَّةِ، والأدلَّةُ على فسادِ قَولِهم وبطلانِه كثيرةٌ جِداًّ، وقد
أطبقَ الصَّحابةُ والتَّابِعونُ على ذَمِّهم وتبدِيعِهم وتضليلِهم،
وبَيَّنَ أئمَّةُ الإسلامِ أنَّهم أشباهُ المجوسِ، وأنَّهم قد خالَفوا
أدِلَّةَ الكِتابِ والسُّنَّةِ، بل وخالفوا العقلَ والفطرةَ..
قولُه: (والعبدُ هُوَ المؤمِنُ والكافرُ …) إلخ قال تعالى: {يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} وقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا}، وقال: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ}، وقال: {فَمَنْ شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}
إلى غيرِ ذَلِكَ مِن الأدِلَّةِ الدَّالَّةِ على نسبةِ أفعالِ العبدِ إليه
مِن أفعالِ عَبيدِه، بل العبدُ حقيقةً هُوَ المُصلِّي والصَّائِمُ، وهل
يَليقُ باللَّهِ -سُبْحَانَهُ- أنْ يعاقِبَهم على نَفْسِ فِعلِه، بل إنَّما
يُعاقِبُهم على أفعالِهم التي فَعَلُوها حقيقةً، كما قال تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـكِن كَانُواْ هُمُ الظَّالِمِينَ} فالعبدُ هُوَ الذي صامَ وصلَّى وأسْلَمَ، وهُوَ الفاعِلُ حقيقةً، يَجعلِ اللَّهِ له فاعِلاً، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} وقال: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ إِلَى النَّارِ}
إلى غيرِ ذَلِكَ مِن الأدِلَّةِ الدَّالَّةِ على أَنَّ العبدَ فاعِلٌ
حقيقةً: وأنَّ فِعلَه يُنسَبُ إليه، وأنَّه يُثابُ على حَسنَتِه ويجازَى
على سيِّئَتِه، قال تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًَّا يَرَهُ}.
(6) وقولُه: (وللعِبادِ قُدرةٌ على أعمالِهم ولهم إرادةٌ) إشارةٌ للرَّدِّ على الجبريَّةِ.
قولُه: (واللَّهُ خَالِقُهم وخالِقُ قُدرتِهم..)
إلخ إشارةٌ للرَّدِّ على القدريَّةِ، فالجَبْريَّةُ والقدَريَّةُ في
طَرَفَيْ نَقيضٍ، فالجَبْريَّةُ غَلَوْا في الإثباتِ، والقدَريَّةُ غَلَوْا
في النَّفْيِ، وهدى اللَّهُ أهلَ السُّنَّةِ والجَماعَةِ للقولِ الوسطِ،
فأَثبَتُوا أَنَّ العِبادَ فاعلون ولهم قُدرةٌ على أعمالِهم ولهم إرادةٌ
ومشيئةٌ، وأَنَّ اللَّهَ -سبحانَهُ وتعالَى- خَالِقُهم وخالِقُ قُدْرَتِهم
ومَشيئَتِهم، قال اللَّهُ تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}
فَأَثْبَتَ مَشيئةً للعبدِ، وأخبَرَ أنَّها لا تكونُ إلا بمشيئةِ اللَّهِ،
فأفعالُ العبدِ تُضافُ إليه على جهةِ الحقيقةِ، واللَّهُ خَلقَه وخَلقَ
فِعلَه، كما قال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}
فأخبَرَ أَنَّ العِبادَ يَعملُون ويَصنعون ويُؤمِنون ويَكْفرون ويَفْسُقون
ويُكذِّبون، والأدِلَّةُ على إثباتِ أفعالِ العِبادِ كثيرةٌ جِداًّ.
قولُه: (وَهَذِهِ الدَّرجَةُ مِن القَدَرِ)
وَهِيَ إثباتُ أَنَّ العبدَ فاعلٌ حقيقةً، وأَنَّ اللَّهَ خَلقَه وخَلقَ
فِعلَه يُكذِّبُ بها عامَّةُ القدريَّةِ، أي جميعُ القدَريَّةِ أو أكثرُهم،
فيَزعُمون أَنَّ العبدَ يَخلُقَ فِعلَ نَفْسِه استقلالاً بدُونِ مشيئةِ
اللَّهِ وإرادتِه، وسُمُّوا قَدريَّةً لإنكارِهم القَدَرَ، وَكَذَلِكَ
تسمَّى الجَبْريَّةُ المحتجُّون بالقَدَرِ قدريَّةً لخوضِهم في القَدَرِ،
والتَّسمِيةُ على الطَّائِفةِ الأُولى أغلَبُ، قال ابنُ تيميَةَ في
تَائِيَّتِه:
ويُدْعَى خُصومُ اللَّهِ يَومَ مَعادِهم ... إلى النَّارِ طُراًّ فِرقـةَ القَدريَّـةِ
سواءٌ نَفُوه أو سَعَوْا ليُخاصِمُوا ... بِهِ اللَّهَ أو مَارَوْا بِهِ الشَّريعَـةِ
قولُه: (مجوسُ هَذِهِ الأمَّةِ)
سُمُّوا بِذَلِكَ لمُضاهاةِ قولِهم لقولِ المجوسِ، فإنَّ المجوسَ يُثبِتون
خالِقَيْنِ، وَكَذَلِكَ القدَريَّةُ أثْبَتُوا أَنَّ اللَّهَ خَلقَهم
وأنَّهم خَلقوا أفْعالَهُم استقلالاً، كما روى أبو داودَ في سُننِه عن ابنِ
عمرَ -رضي اللَّهُ عنهما- عن النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-
أنَّهُ قال: ((الْقَدَرِيَّةُ مَجُوسُ هَذِهِ الأمَّةِ إِنْ مَرِضُوا فلا تَعُودُوهُمْ، وَإِنْ مَاتُوا فَلاَ تَشْهَدُوهُمْ)) وروى أبو داودَ أيضًا عن حذيفةَ -رضي اللَّهُ عنه- قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((لكُلِّ
أُمَّةٍ مَجُوسٌ وَمَجُوسُ هَذِهِ الأمَّةِ الذين يَقُولُونَ لاَ قَدَرَ،
مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ فَلاَ تَشْهَدُوا جِنَازَتَهُ، ومَنْ مَرِضَ مِنْهُمْ
فَلاَ تَعُودُوهُ، وَهُمْ شِيعَةُ الدَّجَّالِ، وَحَقٌّ عَلَى اللَّهِ أنْ
يُلْحِقَهُمْ بِالدَّجَّالِ)) وأحاديثُ القدَريَّةِ المرفوعةُ
كُلُّها ضعيفةٌ، وإنَّما يَصِحُّ منها الموقوفُ، وقد تَقدَّمَ الكلامُ على
هَذَا الموضوعِ، وقد اختَلَفَ العلماءُ في تكفيرِ هؤلاء، وأمَّا مَن
أَنْكَرَ العِلمَ القَديمَ فنَصَّ الشَّافِعيُّ وأحمدُ وغيرُهما مِن
أئمَّةِ الإسلامِ على تكفيرِه، وقد تَقدَّمت الإشارةُ إلى ذَلِكَ.
(7) قولُه: (ويَغْلو فيها قومٌ …)
إلخ أشارَ المصنِّفُ بقولِه هَذَا إلى المجبِّرةِ، فإنَّهم غَلَوْا في
نَفْيِ أفعالِ العِبادِ حتى سَلَبوا العِبادَ قُدْرتَهم واختيارَهم، وزعموا
أنَّهم لا يَفعلون شيئًا ألبتَّةَ، وإنَّما اللَّهُ هُوَ فاعِلُ تِلْكَ
الأفعالِ حقيقةً، فَهِيَ نَفْسُ فِعلِه لا أفعالِهم، والعبيدُ ليس لهم
قُدرةٌ ولا إرادةٌ ولا فعلٌ ألبتَّةَ، وأنَّ أفعالَهم بمنـزلةِ حركةِ
الجماداتِ لا قدرةَ له عليها، وإمامُ هؤلاء الجهمُ بنُ صفوانَ التِّرمذيُّ،
وقولُهم باطِلٌ؛ لأنَّنا نُفرِّقُ بالضَّرورةِ بين حَركَةِ البَطْشِ
وحَركَةِ المرتَعِشِ، ونعلمُ بأَنَّ الأوَّلَ باختيارِه دُونَ الثَّاني،
ولأنَّه لو لم يكنْ للعَبْدِ فِعلٌ أصلاً لما صَحَّ تَكْلِيفُه، ولا
تَرتَّبَ استحقاقُ الثَّوابِ والعقابِ على أفعالِه، ولا إسنادُ الأفعالِ
التي تقتضي سابقةَ قَصْدٍ إليه على سبيلِ الحقيقةِ، مِثلُ صلَّى وصامَ
وكَتَبَ، بخلافِ مِثلِ طالَ واسودَّ لونُه، والنُّصوصُ القَطْعيَّةُ تَنْفى
ذَلِكَ، قال اللَّهُ تعالى: {جَزَاءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} وقال: {مَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} إلى غيرِ ذَلِكَ.
قال ابنُ القَيِّمِ: وهؤلاءِ خُصماءُ اللَّهِ الذين جاء فيهم الحديثُ: ((يُقَالُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَيْنَ خُصَمَاءُ اللَّهِ فيُؤْمَرُ بِهِمْ إِلَى النَّارِ)) وتَقَدَّمَ ما ذَكَرَهُ الشَّيخُ في تَائِيَّتِه، وقال ابنُ القيِّمِ: سمعتُ الشَّيخَ تقيَّ الدِّينِ يقوُل: القدَريَّةُ المذمومون في السُّنَّةِ وعلى لِسانِ السَّلَفِ هم هؤلاء الفِرَقُ الثَّلاثةُ نُفاتُه وهم: القدَريَّةُ المجوسيَّةُ، والمعارضون بِهِ للشَّريعةِ الذين قالوا: لو شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنَا، وهم القدَريَّةُ المشركيَّةُ، والمخاصِمُونَ بِهِ للرَّبِ
وهم أعداءُ اللَّهِ وخُصومُه، وهُم القدَريَّةُ الإبليسيَّةُ وشَيْخُهُم
إبليسُ، وهُوَ أوَّلُ مَن احْتَجَّ على اللَّهِ بالقَدَرِ فقال: {بِمَا أَغْوَيْتَنِي}
ولم يَعترِفْ بالذَّنْبِ ويَبوءُ بِهِ، كما اعْتَرَفَ بِهِ آدمُ، فمَنْ
أقرَّ بالذَّنْبِ وباءَ بِهِ ونَزَّه ربَّه فقد أشْبَه أباه آدمَ، ومَن
أشْبهَ أباهُ فما ظَلَمَ، ومَن بَرَّأ نَفْسَه واحتجَّ على ربِّه بالقدَرِ
فقد أَشْبهَ إبليسَ، ولا رَيْبَ أنَّ هؤلاء القدَريَّةَ الإبليسيَّةَ
والمُشْرِكيَّةَ شرٌّ مِن القدَريَّةِ النُّفاةِ، والذي عليه أهلُ
السُّنَّةِ والجَماعَةِ هُوَ ما تَقدَّمَ الإيمانُ بِأنَّ أفعالَ العِبادِ
مخلوقةٌ لِلَّهِ، صادرةٌ عَن مشيئَتِه وإرادَتِه، وَهِيَ أفعالٌ لهم،
وكَسْبٌ لهم باختيارِهم، فلذا تَرتَّبَ عليها الثَّوابُ والعِقابُ، كما
تكاثَرَتْ بِذَلِكَ الأدِلَّةُ.
قولُه: (ويُخرجِونَ عن أفعالِ اللَّهِ …)
إلخ، أي أنَّ هؤلاء الجهميَّةَ يَزعُمون أَنَّ اللَّه تعالى لا يَفعلُ
لعِلَّةٍ ولا حِكمةٍ، وإنَّما هُوَ محْضُ مشيئةٍ وصَرْفُ إرادةٍ مجردَّةٍ
عن الحكمةِ والرَّحمةِ، وكان شيخُهم الجهمُ بنُ صفوانَ يَقِفُ على الجذماءِ
فيقولُ: أَرْحمُ الرَّاحِمِين يفعلُ مِثلَ هَذَا؟ إنكارا للرَّحْمةِ
والحكمةِ، وأدِلَّةُ الكِتابِ والسُّنَّةِ تُبطِلُ هَذَا المذهبَ. قال ابنُ
القيِّمِ –رَحِمَهُ اللَّهُ-: ولِهَذَا الأصلِ لوازمُ وفروعٌ كثيرةٌ
فاسدةٌ، وذَكَرها ورَدَّهَا مِن تِسْعينَ وَجْهًا. اهـ.
والذي عليه أهلُ السُّنَّةِ والجَماعَةِ هُوَ إثباتُ
العِلَّةِ والحكمةِ في أفعالِه –سُبْحَانَهُ- وشَرعِه وقدَرِه، فما خَلقَ
شيئًا ولا قضاهُ ولا شَرَعَهُ إلا لحكمةٍ بالغةٍ، وإنْ تقاصَرَتْ عنها
عقولُ البَشرِ، والأدِلَّةُ في إثباتِ ذَلِكَ كثيرةٌ جِداًّ، فإنَّه
–سُبْحَانَهُ- حكيمٌ شَرَعَ الأحكامَ لِحكمةٍ ومصلحةٍ، فما خَلقَ شيئًا
عَبَثًا ولا خَلقَه سُدًى كما قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا}، وقال: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى}، وقال: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ} وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} وقال: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} إلى غيرِ ذَلِكَ مِن الأدِلَّةِ على إثباتِ هَذَا الأصلِ).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): ( ((وَأمّا
الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ فهي مشيئة اللهِ النَّافذةُ وقُدْرَتهُ
الشَّامِلِةُ وهوَ الإيمانُ. بأنَّ مَا شاء اللهُ كانَ ومالم يشأْ لم يكُن،
وأنُه ما في السَّماواتِ ومَا في الأرضِ من حَرَكَةٍ ولا سُكونِ إلا
بمشيئةِ اللهِ سُبْحَانَهُ.(1) لا يَكونُ في مُلْكِهِ ما لايُريدُ، وأنَّهُ سُبْحانهُ بِالمَرْتَبَةُ
السُّفْلَي، فَأَيُّهُمَا تُرِيْدُ ؟! بِلَاشَكٍّ سَيُرِيدُ المَرْتَبَةَ
العَالِيَةَ وَهَذَا يَدُلُ عَلَى أَنَّكَ تَأْخُذُ بِالأَكْمَلِ فِي
أُمُورِ دِينِكَ وَهَلْ هَذَا إِلَّا تَنَاقُضٌ مِنْكَ ؟!
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرُ مِنَ
المَوجُودَاتِ وَالمَعْدُومَاتِ. فَمَا مِنْ مَخْلوُقٍ في الأَرضِ وَلاَ
فِي السَّمَاءِ إلَّّا اللهُ خَالِقُهُ سُبْحَانَهُ، لَا خَالِقَ غَيْرُهُ
ولاَ رَبَّ سِوَاهُ. ومَعَ ذَلِكَ فَقدْ أَمَرَ العبَادَ بَطاعَتِهِ
وطَاعَةِ رُسِلهِ، ونَهَاهُمْ عن مَعْصِيتِهِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ
المتَّقِينَ والمُحْسِنِينَ والمُقْسِطينَ، وَيَرْضَى عَنِ الَّذينَ آمنُوا
وَعَمِلوُا الصَّالِحَاتِ وَلَا يُحبُّ الكَافِرِينَ، وَلَا يَرْضَى عَنِ
القَومِ الفَاسِقينَ، وَلَا يَأْمُرُ بِالفَحْشَاءِ، وَلَا يَرْضَى
لِعبَادِهِ الكُفْرَ وَلَا يُحِبُّ الفَسَادَ، وَالعِبَادُ فَاعِلُونَ
حَقيقَةً، وَاللهُ خَالِقُ أَفْعَالِهِمْ، وَالعَبْدُ الُمؤمِنُ
وَالكَافِرُ، وَالبَرُّ والفَاجِرُ، وَالمُصَلِّي وَالصَّائمُ.
وَلِلعِبَادِ قُدْرَةٌ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، وَلَهُمْ إِرَادَةٌ، وَاللهُ
خَالِقُهُمْ وَخَالِقُ قُدْرَتِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ، كَمَا قَالَ
تَعَالَى: (لمِنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ، وَمَا تَشَاؤُونَ
إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ العَالمَِينَ). وَهَذِهِ الدَّرَجَةُ مِنَ
القَدَرِ يُكَذِّبُ بِهَا عَامَّةُ القَدَرِيَّةُ الَّذِينَ سمَّاهُمُ
النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجُوسَ هَذِهِ الأمْةِ،
ويَغْلُو فِيهَا قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الإِثبَاتِ حَتَّى سَلَبُوا العَبْدَ
قُدْرَتَهُ وَاخْتِيَارَهُ، ويُخرِجُونَ عنْ أَفْعَالِ اللهِ وأحْكَامِهِ
حِكَمَهَا ومَصَالِحَهَا).
الشرح:
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): ( (1) الدرجةُ الثَّانيةُ من درجاتِ الإيمانِ بالقدرِ
قولُهُ: ((وَأمَّا الدَّرَجَةُ الثَّانيةُ))؛ يعني: مِنْ درجاتِ الإيمانِ بالقَدَرِ.
قولُهُ: ((فَهِيَ مَشيئَةُ اللهِ النَّافِذِةُ،
وَقُدْرَتُهُ الشَّامِلَةُ، وَهُوَ الإيمانُ بِأنَّ ما شاءَ اللهُ كانَ،
وَما لَمْ يَشَأ لَمْ يَكُنْ، وَأنَّهُ ما في السَّماواتِ وما في الأرضِ
مِن حَرَكَةٍ وَلا سُكونٍ إلاَّ بِمَشيئَةِ اللهِ سُبْحانَهُ)).
يعني: أنْ تؤمنَ بأنَّ مشيئةَ اللهِ نافذةٌ في
كلِّ شيءٍ، سواءٌ كانَ مما يتعلقُ بفِعْلهِ أو يتعلقُ بأفعالِ المخلوقين،
وأنَّ قدرَتَه شاملةٌ، (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعجِزَهُ مِن شَيءٍ فِى
السَّمَوَتِ وَلاَ فِى الأَرضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا) [فاطر:
44].
وهذه الدرجةُ تتضمنُ شيئين؛ المشيئةَ والخلقَ:
أمَّا المشيئةُ؛ فيجبُ أنْ نؤمِنَ بأنَّ مشيئةَ
اللهِ تعالَى نافذةٌ في كلِّ شيءٍ، وأنَّ قدرتَهُ شاملةٌ لكلِّ شيءٍ مِنْ
أفعالِهِ وأفعالِ المخلوقينَ.
وأمَّا كونهُا شاملةٌ لأفعالِهِ؛ فالأمرُ فيها ظاهرٌ.
وأمَّا كونهُا شاملةٌ لأفعالِ المخلوقين؛ فلأنَّ الخلقَ كلهَّم مِلْكٌ لله تعالَى، ولا يكونُ في مُلْكِهِ إلا ما شاءَ.
والدَّليلُ على هذا:
قولُهُ تعالَى: (فَلَو شَاءَ لَهَدَاكُم أَجمَعِينَ) [الأنعام: 149].
وقولُهُ سبحانَه: (وَلَو شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَحِدَةً) [هود: 118].
وقولُهُ تعالَى: (وَلَو شَاءَ اللهُ مَا اقتَتَلَ
الَّذِين مِن بَعدِهِم من بَعدِ مَا جَاءَتهُمُ البَيِّنَاتُ وَلَكِنِ
اختَلَفُوا فَمِنهُم مَنْ ءاَمَنَ وَمِنهُم من كَفَرَ وَلَو شَاءَ اللهُ
مَا اقتَتَلُوا) [البقرة: 253].
فهذه الآياتُ تدلُّ على أن أفعالِ العبادِ متعلقةٌ بمشيئةِ اللهِ.
وقَالَ تعالَى: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ) [الإنسان: 30].
وهذه تدلُّ على أنَّ مشيئةَ العبدِ داخلةٌ تحتَ مشيئةِ اللهِ وتابعةٌ لهَا.
قولُهُ: (لا يَكونُ في مُلْكِهِ ما لا يُريدُ)).
هذه العبارةُ تحتاجُ إلى تفصيلٍ: لا يكونُ في
ملكِهِ ما لا يريدُ بالإرادةِ الكونيَّةِ، أما بالإرادةِ الشَّرعيَّةِ؛
فيكونُ في ملكِهِ ما لا يريدُ.
وحينئذٍ؛ نحتاجُ إلى أنْ نقسِّمَ الإرادةَ إلى قسمين: إرادةٌ كونيَّةٌ، وإرادةٌ شرعيَّةٌ:
-فالإرادةُ الكونيةُ بمعنَى المشيئةِ، ومثالهُا
قولُ نوحٍ عليه السَّلامُ لقومِهِ: (وَلاَ يَنفَعُكُم نُصحِى إِن أَرَدتُّ
أَن أَنصَحَ لَكُم إِن كَانَ اللهُ يُرِيدُ أَن يُغوِيَكُم) [هود: 34].
والإرادةُ الشرعيةُ بمعنَى المحبَّةِ، ومثلُها قولُهُ تعالَى: (وَاللهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيكُم) [النساء: 27].
وتختلفُ الإرادتانِ في موجبِهِما وفي مُتَعلَّقِهِما:
فَفَي المُتَعَلَّقِ: الإِرَادَةُ الكَونِيَّةُ
تَتَعَلَّقُ فِيمَا وَقَعَ، سَوَاءٌ أَحبَّه أَمْ كَرِهَهُ، وَالإِرَادَةُ
الشَّرْعِيَّةُ تتَعَلَّقُ فِيمَا أَحَبَّهُ، سَوَاءٌ وَقَعَ أَمْ لَمْ
يَقَعْ.
وَفِي مُوجِبِهِمَا: الإِرَادَةُ الكَوْنِيَّةُ
يتَعَيَّنُ فِيهَا وُقُوعُ المُرَادِ، وَالإِرَادَةُ الشَّرْعِيَّةُ لَا
يَتَعَيَّنُ فِيهَا وقُوعُ المُراَدِ.
وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قُوْلُ المُؤلِّفِ:
((وَلَا يَكُونُ فِي مُلْكِِهِ مَا لَا يُرِيدُ))؛ يَعَنيِ بِهِ:
الإِرَادَةَ الكَوْنِيَّةَ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: هَل المَعَاصِي مُرَادَةٌ ِللهِ؟
فَالجَوَابُ: أمَّا بِالإِرَادَةِ الشَّرعيَّةِ؛
فلَيْسَتْ مُرَادَةً لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُحبُّهَا، وَأمَّا بِالإِرَادَةِ
الكَوْنِيَّةِ؛ فَهِي مُرَادَةٌ لَهُ سُبْحَانَهُ؛ لِأَنهَّا وَاقِعَةٌ
بِمَشِيئَتِهِ.
قَولُهُ: ((وَأنَّهُ سُبْحانَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مِنَ المَوْجُودَاتِ وَالمَعْدُومَاتِ)).
كُلُّ شَيءٍ؛ فَاللهُ قَادِرٌ عَلَيْهِ مِنَ المَوْجُودَاتِ؛ فَيَعْدِمُهَا أوْ يُغَيِّرُهَا، وَمِنَ المَعْدُومَاتِ؛ فَيُوجِدُهَا.
فَالقُدْرَةُ تتَعَلَّقُ فِي المَوْجُودِ
بِإِيجَادِهِ أَوْ إِعْدَامِهِ أَوْ تَغييرِهِ، وَفِي المَعْدُومِِ
بِإعْدَامِهِ أَوْ إِيجَادِهِ.
فَمَثَلًاكُلُّ مَوجُودٍ؛ فَاللهُ قَادِرٌ أَنْ
يَعْدَمَهُ، وَقَادِرٌ أَنْ يُغَيِّرَهُ؛ أيْ: يَنْقِلُهُ مِنْ حَالٍ إلى
حَالٍ، وَكُلُّ مَعْدُومٍ؛ فَاللهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُوجِدَهُ مَهْمَا
كَانَ؛ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: (إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ
قَدِيرٌ) [البَقَرَة: 20].
ذَكَرَ بَعْضُ العُلَمَاءِ اسْتِثْنَاءً مِنْ
ذلِكَ، وَقَالَ: إِلَّا ذَاتَهُ؛ فلَيْسَ عَلَيْهَا بِقَادِرٍ! وَزَعَمَ
أنَّ العَقْلَ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ!!
فَنَقُولُ: مَاذَا تُرِيدُ بِأنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى ذَاتِهِ؟
إِنْ أَرَدْتَ أنَّهُ غَيرُ قَادِرٍ عَلَى أنْ
يَعْدِمَ نَفْسَهَ أَوْ يَلْحَِقَهَا نَقْصًا؛ فَنَحْنُ نُوَافِقُكَ عَلَى
أَنَّ اللهََ لَا يَلْحَقُهُ النَّقْصُ أَوِ العَدَمُ، لَكِننَّا لَا
نُوَافِقُكَ عَلَى أَنَّ هَذَا مِمَّا تَتَعلَّقُ بِهِ القُدْرَةُ؛ لِأَنَّ
القُدْرَةَ إنمَّا تَتَعَلَّقُ بِالشَّيءِ المُمْكِنِ أمَّا الشَّيءُ
الوَاجِبُ أوِ المُسْتَحِيلُ فَهَذَا لَا تَتَعلَّقُ بِهِ القُدْرَةُ
أصلًا؛ لِأَنَّ الوَاجِبَ مُسْتَحِيلُ العَدَمِ، وَالمُسْتَحِيلُ
مُسْتَحِيلُ الوُجُودِ.
وَإِنْ أَرَدْتَ بِقَوْلِكَ: إِنَّهُ غَيْرُ
قَادِرٍ عَلَى ذَاتِهِ: أنَّهُ غَيرُ قَادِرٍ عَلَى أنَّهُ يَفْعَلُ مَا
يَشَاءُ؛ فَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَجِيءَ أوْ نَحْوَهُ! فَهَذَا خَطَأٌ، بَلْ
هُوَ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ، وَفَاعِلٌ لَهُ، وَلَوْ قُلْنَا: إنَّهُ لَيْسَ
بِقَادِرٍ عَلى مِثْلِ هَذِهِ الأَفْعَالِ؛ لَكَانَ ذلِكَ مِنْ أَكْبَرِ
النَّقْصِِ المُمْتَنَعِ عَلَى اللهِ سُبْحَانَهُ.
وَبِهَذا عُلِمَ أنَّ هَذَا الاسْتِدْرَاكَ مِنْ عُمُومِ القُدْرَةِ فِي غَيْرِِ مَحِلِّهِ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ.
وإنَّما نَصَّ المؤلِّفُ عَلى هَذا ردّاً على
القَدَرِيَّةِ الَّذِين قَالُوا: إنَّ اللهَ لَيْسَ بِقَادِرٍ عَلَى فِعْلِ
العَبْدِ!! وَإنَّ العَبْدَ مُسْتَقِلٌ بِعمَلِهِ!
وَلَكِنَّ مَا فِي الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ شُمُولِ قُدْرَةِ اللهِ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ.
قَوْلُهُ: (فَمَا مِنْ مَخْلُوقٍ في الأرْضِ وَلا
في السَّماءِ إلاَّ اللهُ خَالِقُهُ سُبْحانَهُ لَا خَالِقَ غَيْرُهُ
وَلَا رَبَّ سِواهُ)).
وهذا صَحِيحٌ بِلَا شَكٍّ.
وَلِهَذَا دَلِيلٌ أثَرِيٌّ وَدَلِيلٌ نَظَرِيٌّ:
أمَّا الدَّليِلُ الأثريُّ:
فَقَدْ قَالَ اللهُ تعالَى: (اللهُ خَالِقُ كُلّ شَيءٍ) [الزُّمَر: 62].
وَقَالَ تَعَالَى: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ
شَيءٍ أَم هُمُ الخاَلِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالأَرضَ بَلْ لَا
يُوقِنُونَ) [الطُّور: 35 – 36].
فَلَا يمُْكِنُ أنْ يُوجَدَ شَيءٌ في السَّماءِ والأرضِ إلَّا اللهُ خَالِقُهُ وَحْدَهُ.
ولَقَدْ تَحَدَّى اللهُ العَابِدِينَ
لِلأَصْنَامِ تََحَدِّياً أمَرَنَا أنْ نَسْتَمِِعَ لَهُ، فَقَالَ:
(يَأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاستَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ
تَدعُونَ مِن دُونِ اللهِ لَنْ يَخلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجتَمَعُوا
لَهُ)، وَمَعْلُومٌ أنَّ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ في
القِمَّةِ عِنْدَهُمْ؛ لِأنهَّمُ اتخََّذُوهُمْ أَرْبَابًا؛ فَإِذَا عَجَزَ
هَؤُلَاءِ القِمَّةُ عَنْ أَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا، وَهُوَ أَخَسُّ
الأَشْيَاءِ وَأَهْوَنهُا؛ فَمَا فَوْقَهُ مِنْ بَابٍ أَوْلَى، بَلْ قَالَ:
(وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيئًا لاَّ يَستَنْقِذُوهُ مِنهُ)
[الحَجّ: 73]؛ فَيَعْجِزُونَ حتَّى عَنْ مُدَافَعَةِ الذُّبَابِ وَأَخْذِ
حَقِّهِمْ مِنْهُ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَسْلُبُ الذُّبَابُ هَذِهِ الأَصْنَامَ شَيْئًا؟!
فَالجَوَابُ: قَالَ بَعْضُ العُلَمَاءِ: إنَّ
هَذَا عَلَى سَبِيلِ الفَرْضِ؛ يَعْني: عَلَى فَرْضٍِ أَنْ يَسْلُبَهُمُ
الذُّبَابُ شَيْئًا؛ لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ
عَلَى سَبِيلِ الوَاقِعِ؛ فَيَقَعُ الذُّبَابُ عَلَى هَذِهِ الأَصْنَامِ،
وَيَمْتَصُّ مَا فِيهَا مِنْ أَطْيَابٍ؛ فَلَا تَسْتَطِيعُ الأَصْنَامُ أنْ
تُخْرِجَ مَا امْتَصَّهُ الذُّبَابُ.
وَإذَا كَانَتْ عَاجِزَةً عَنِ الدَّفْعِ عَنْ
نَفْسِهَا، وَاسْتِنْقَاذِ حَقِّهَا؛ فَهِي عَنِ الدَّفْعِ عَنْ غَيْرِهَا
وَاسْتِنْقَاذِ حَقِّهِ أَعْجَزُ.
وَالمُهِمُّ أَنَّ اللهَ تعالَى خَالِقُ كُلِّ
شَيءٍ، وَأَنْ لَا خَالِقَ إِلَّا اللهُ؛ فَيَجِبُ الإِيمانُ بِعُمُومِ
خَلْقِ اللهِ عَزَّ وَجلَّ، وَأنَّهُ خَالقُ كُلِّ شَيءٍ، حَتَّى أَعْمَالِ
العِبَادِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيءٍ) [الرَّعْد:
16]، وَعَمَلُ الإنسانِ مِنَ الشَّيءِ، وَقَالَ تعالَى: (وَخَلَقَ كُلَّ
شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) [الفُرْقَان: 2] … والآياتُ فِي هَذا
كَثِيرَةٌ.
وَفِيهِ آيةٌ خَاصةٌ في المَوْضُوعِ، وَهُوَ خَلْقُ أَفْعَالِ العِبَادِ:
فقَالَ إبراهيمُ لِقَومِهِ: (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) [الصَّافَّات: 96].
فـَ (مَا) مَصْدَرِيةٌ، وَتَقْدِيرُ الكَلَامِ:
خَلَقَكُمْ وَعَمَلَكُمْ، وَهَذا نَصٌّ في أنَّ عَمَلَ الإِنْسَانِ
مَخْلُوقٌ للهِ تَعالَى.
فَإِنْ قِيلَ: ألَا يَحْتَمِلُ أنْ تَكُونَ (ما)
اسْمًا مَوْصُولًا، وَيَكُونُ المَعْنََى: خَلَقَكُمْ وخَلَقَ الَّذِي
تَعْمَلُونَهُ؟
فَكَيْفَ يُمْكِنُ أنْ نَقُولَ إنَّ في الآيةِ
دَلِيلاً عَلَى خَلْقِ أَفْعَالِ العِبَادِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أنَّ
[ما] مَوْصُولةٌ؟
فَالجَوَابُ: أنَّهُ إذا كانَ المَعْمُولُ
مَخْلُوقاً للهِ؛ لَزِمَ أنْ يَكُونَ عَمَلُ الِإنْسِانِ مَخْلُوقاً؛
لِأَنَّ المَعْمُولَ كَانَ بعَمَلِ الإنسانِ؛ فَالإِنْسَانُ هُوَ الَّذِي
بَاشَرَ العَمَلَ في المَعْمُولِ؛ فَإِذَا كَانَ المَعْمُولُ مَخْلُوقًا
للهِ، وَهُوَ فِعْلُ العَبْدِ؛ لَزِمَ أنْ يَكُونَ فِعْلُ العَبْدِ
مَخْلُوقًا، فَيَكُونُ في الآيةِ دَلِيلٌ عَلَى خَلْقِ أَفْعَالِ العِبَادِ
عَلَى كِلَا الاحْتِمَالَينِ.
-وَأمَّا الدَّلِيلُ النَّظَرِيُّ عَلَى أنَّ
أَفْعَالَ العَبْدِ مَخْلُوقَةٌ ِللهِ؛ فَتَقْرِيرُهُ أَنْ نَقُولَ: إِنَّ
فِعْلَ العَبْدِ نَاشِئٌ عَنْ أمْرَيْنِ: عَزِيمةٍ صَادِقَةٍ وَقُدْرَةٍ
تَامَّةٍٍ.
مِثَالُ ذَلِكَ: أَرَدْتُ أنْ أَعْمَلَ عَمَلًا
مِنَ الأَعْمَالِ؛ فَلَا يُوجَدُ هَذَا العَمَلُ حتَّى يَكُونَ مَسْبُوقًا
بِأمْرَيْنِ:
أحدُهُمَا: العَزِيمَةُ الصَّادِقَةُ عَلَى فِعْلِهِ؛ لِأنَّكَ لَوْ لَمْ تَعْزِمْ مَا فَعَلْتََهُ.
الثَّاني: القُدْرَةُ التَّامَّةُ؛ لِأَنَّكَ
لَوْ لَمْ تَقْدِرْ؛ مَا فَعَلْتَهُ؛ فالَّذِي خَلَقَ فِيكَ هَذِهِ
القُدْرَةَ هُوَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَهُوَ الَّذِي أَوْدَعَ فِيكَ
العَزِيمَةَ، وَخَالِقُ السَّببِ التَّامِّ خَالِقٌ لِلْمُسَبِبِ.
-وَوَجْهٌ ثَانٍ نَظَرِيُّ: أَنْ نَقُولَ:
الفِعْلُ وَصْفُ الفَاعِلِ، وَالوَصْفُ تَابعٌ لِلمَوْصُوفِ؛ فَكَمَا أنَّ
الإنْسَانَ بِذَاتِهِ مَخْلُوقٌ للهِ؛ فَأَفْعَالُهُ مَخْلُوقَةٌ؛ لِأَنَّ
الصِّفةَ تَابِعَةٌ لِلْمَوْصُوفِ.
فتبيَّنَ بِالدَّليلِ أنَّ عَمَلَ الإِنْسَانِ
مَخْلُوقٌ للهِ، وَدَاخِلٌ في عُمُومِ الخَلْقِ أَثَرِيًّا وَنَظَرِيًّا،
وَالدَّليلُ الأَثَرِيُّ قِسْمَانِ عَامٌ وَخَاصٌّ، وَالدَّليلُ
النَّظَرِيُّ لَهُ وَجْهَانِ.
وَقولُهُ: ((لَا خَالِقَ غَيْرُهُ)):
إِنْ قُلْتَ: هَذَا الحَصْرُ يَرِدُ عَليِهِ أنَّ
هُنَاك خَالِقًا غَيْرُ اللهِ؛ فَالمُصَوِّرُ يَعُدُّ نَفْسَهَ خَالِقًا،
بَلْ جَاءَ في الحَدِيثِ أنَّهُ خَالِقٌ: ((فَإِنَّ المُصَوِّرينَ
يُعَذَّبُونَ؛ يُقَالَ لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ ))، وَقَالَ عَزَّ
وَجَلَّ: (فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ) [المُؤمِنُونَ: 14]؛
فَهُنَاكَ خَالِقٌ، لَكِنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ؛
فَمَا الجَوَابُ عَنْ قَوْلِ المؤلِّفِ ؟
الجوابُ: أنَّ الخَلقَ الَّذِي نَنْسِبُهُ إلى
اللهِ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ الإِيجَادُ وَتَبْدِيلُ الأَعْيَانِ مِنْ عَيْنٍ
لِأُخْرَى؛ فَلَا أَحَدَ يُوجِدُ إِلَّا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَا أَحَدَ
يُبدِّلَ عَيْنًا إلى عَيْنٍ؛ إِلَّا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَا قِيلَ:
إنَّهُ خَلْقٌ؛ بِالنِّسبَةِ لِلْمَخْلُوقِ؛ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ
تَحْوِيلِ شَيءٍ مِنْ صِفَةٍ إلى صِفَةٍ؛ فَالخَشَبَةُ مَثَلًا بَدَلًا
مِنْ أنْ كَانَتْ في الشَّجَرَةِ، تَُحَوَّلُ بِالنِّجَارَةِ إلى بَابٍ؛
فَتَحْوِيلُهُا إلى بَابٍ يُسمَّى خَلْقًا، لَكِنَّهُ لَيْسَ الخَلْقُ
الَّذِي يَخْتَصُّ بِهِِ الخَالِقُ، وَهُوَ الإِيجَادُ مِنَ العَدَمِ، أوْ
تَبْدِيلُ العَيْنِ مِنْ عَيْنٍ إلى أُخْرَى.
وَقَولُهُ: ((لَا رَبَّ سِوَاهُ))؛ أيْ: أنَّ
اللهَ وَحْدَهُ هُوَ الرَّبُّ المُدَبِّرُ لِجَمِيعِ الأُمُورِ، وَهَذَا
حَصْرٌ حَقِيقيٌّ.
وَلَكِنْ رُبمَّا يَرِدُ عَلَيْهِ أنَّهُ جاءَ في الأَحَادِيثِ إِثْبَاتُ الرُّبوبيةِ لِغَيْرِ اللهِ:
ففِي لُقطَةِ الإِبِلِ قَالَ النَّبيُّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((دَعْهَا؛ مَعَهَا سقَاؤُها وَحَذَاؤُها،
تَرِدُ الماءَ، وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ، حتَّى يَجِدَهَا رَبُّهَا))،
وَرَبهُّا: صَاحِبُها.
وَجَاءَ في بَعْضِ أَلْفَاظِ حَدِيثِ جِبْرِيلَ؛ يَقُولُ: ((حتَّى تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّهَا)).
فَمَا هُوَ الجَمْعُ بَيْنَ هَذا وبَيْنَ قَوْلِ المؤلِّفِ: ((لَا رَبَّ سِوَاهُ))؟
نَقُولُ: إنَّ رُبُوبِيَّةَ اللهِ عامَّةٌ
كَامِلةٌ؛ كُلُّ شَيءٍ؛ فاللهُ ربُّهُ، لَا يُسألُ عَمَّا يَفْعَلُ فِي
خَلْقِهِ؛ لِأَنَّ فِعْلََهُ كُلَّهُ رَحْمَةٌ وَحِكْمَةٌ، وَلِهَذَا
يُقَدِّرُ اللهُ عزَّ وجلَّ الجَدْبَ والمرَضَ والمَوْتَ وَالجُرُوحَ في
الإِنْسَانِ وفي الحَيوانِ، وَنَقُولُ: هَذا غَايةُُ الكَمَالِ
وَالحِكْمَةِ. أمَّا رُبُوبِيَّةُ المَخْلُوقِ لِلْمَخْلُوقِ؛
فَرُبُوبِيَّةٌ نَاقِصَةٌ قَاصِرَةٌ، لَاتَتَجَاوَزُ مَحَلَّهَا، وَلَا
يَتَصَرَّفُ فِيهَا الإِنْسَانُ تَصَرُّفاً تَامًّا، بَلْ تَصَرُّفُهُ
مُقَيَّدٌ: إِمَّا بِالشَّرْعِ، وَإِمَّا بِالعُرْفِ.
قَولُهُ: ((وَمَعَ ذلِكَ؛ فَقَدْ أَمَرَ العِبَادَ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رُسُلِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ)).
يَعْنِي: وَمَعَ عُمُومِ خَلْقِهِ
وَرُبُوبيَِّتِهِِ لَمْ يَتْرُكِ العِبَادَ هَمَلًا، وَلَمْ يَرْفَعْ
عَنْهُمُ الاخْتِيَارَ، بَلْ أمَرَهُمْ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رُسُلِهِ،
وَنَهَاهُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ.
وَأَمْرُهُ بِذَلِكَ أَمْرٌ يُمْكِنُ؛
فَالمَأْمُورُ مَخْلُوقٌ للهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَفِعْلُهُ مَخْلُوقٌ للهِ،
وَمَعَ ذَلِكَ؛ يُؤمَرُ وينُهَى.
وَلَوْ كَانَ الِإنْسَانُ مْجْبَرًا عَلَى
عَمَلِهِ؛ لَكَانَ أَمْرُهُ أَمْرًا بِغَيْرِ مُمْكِنٍ، وَاللهُ عَزَّ
وَجَلَّ يَقُولُ: (لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا)
[البَقَرَة: 286]، وَيَقُولُ تَعَالَى: (لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ
وُسْعَهَا) [الأَنْعَام: 152]، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أنهَّمْ قَادِرُونَ
عَلَى فِعْلِ الطَّاعَةِ، وَعَلَى تَجَنُّبِ المَعْصِيَةِ، وَأنهَّمْ
غَيْرُ مُكْرَهِينَ عَلَى ذَلِكَ.
قَولُهُ: ((وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ المُتَّقينَ وَالمُحْسِنينَ وَالمُقْسِطينَ)).
يَعْني أنَّ اللهََ عَزَّ وَجَلَّ يُحِبُّ
المحُْسِنِينَ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ
المُحْسِنِينَ) [البَقَرَة: 195]، وَالمُتَّقِينَ لِقَوْلِهِ: (فَمَا
اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ
المَتَّقِينَ) [التَّوْبَة: 7]، وَالمُقْسِطِينَ؛ لِقَولِهِ: (وَأَقْسِطُوا
إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ) [الحُجُرَات: 9].
فَهُوَ عَزَّ وَجَلَّ يُحِبُّ هَؤُلَاءِ، وَمَعَ
ذلِكَ هُوَ الَّذِي قَدَّرَ لَهُمْ هَذَا العَمَلَ الَّذِي يُحِبُّهُ،
فَكَانَ فِعْلُهُمْ مَحْبُوبًا إِلِى اللهِ مُرَادًا لَهُ كَوْنًا
وَشَرْعًا؛ فَالمحُْسِنُ قَامَ بِالوَاجِبِ وَالمَنْدُوبِ، وَالمُتَّقِيُّ
قَامَ بِالوَاجِبِ، وَالمُقْسِطُ اتَّقَى الجُوْرَ في المُعَامَلَةِ.
قَولُهُ: ((وَيَرْضَى عَنِ الَّذِين آمَنوا وَعَمِلوا الصَّالِحَاتِ وَلا يُحِبُّ الكَافِرينَ)).
((يَرْضَى عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ)): وَالدَّليلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالسَّابِقُونَ
الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ
بِإِحْسَانٍ رَّضِىَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) [التَّوْبَة: 100]،
وَقَالَ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ البَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ
عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهاَرُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا
رَّضِىَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) [البَيِّنَة: 7-8].
قولُهُ: ((وَلَا يُحِبُّ)) اللهُ عزَّ وجلَّ ((الكَافِرِينَ)).
وَالدَّليلُ قَولُهُ تَعَالَى: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الكَافِرِينَ) [آلِ عِمْرَانَ: 32].
مَعَ أنَّ الكُفْرَ وَاقِعٌ بِمَشِيئَتِهِ،
لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ وُقُوعِهِ بِمَشِيئَتهِ، أنْ يَكُونَ مَحْبُوبًا
لَهُ سُبْحَانَهُ وَتعالَى.
قَولُهُ: ((وَلَا يَرْضَى عَنِ القَوْمِ
الفَاسِقِينَ)): وَالدَّليلُ قَولُهُ تَعَالَى: (فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ
فَإِنَّ اللهَ لَا يَرْضَى عَنِ القَوْمِ الفَاسِقِينَ) [التَّوبَة: 96].
وَالفَاسِقُ –وَهُوَ الخَارِجُ عَنْ طَاعَةِ اللهِ- قَدْ يُرادُ بِهِ الكَافِرُ، وَقَدْ يُرادُ بِهِ العَاصِِي.
-فَفِي قَولِهِ تَعَالَى: (أَفَمَنْ كَانَ
مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ، أمَّا الَّذِينَ
ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاَتُ المَأْوَى نُزُلاَ
بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَأمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ
النَّارُ كُلَّمَا أَرادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا
وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِى كُنتُمْ بِهِ
تُكَذِّبُونَ) [السَّجْدَة: 18-20]؛ فَالمْرادُ بِالفَاسِقِ الكَافِرُ.
-وَأمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَأَيُّهَا
الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا)
[الحُجُرَات: 6]؛ فَالمُرَادُ بِالفَاسِقِ العَاصِي.
فَاللهُ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَرْضَى عَنِ القَومِ
الفَاسِقِينَ لَا هَؤُلَاءِ وَلَا هَؤُلَاءِ، لَكِنَّ الفَاسِقِينَ
بِمَعْنَى الكَافِريِنَ لَا يَرْضَى عَنْهُمْ مُطْلقًا، وَأمَّا
الفَاسِقُونَ بِمَعْنَى العُصَاةِ؛ فَلَا يَرْضَى عَنْهُمْ فِيمَا فَسَقُوا
فِيهِ، وَيَرْضَى عَنْهُمْ فِيمَا أَطَاعُوا فِيهِ.
قَوْلُهُ: ((وَلَا يَأْمُرُ بِالفَحْشَاءِ)):
وَالدَّليلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ
بِالفَحْشَاءِ)؛ لِأَنهَّمْ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً: (قَالُوا وَجَدْنَا
عَلَيْهَا ءَابَاءَنَا وَاللهُ أَمَرَناَ بِهَا)؛ فَاحْتَجُّوا
بِأَمْرَينِ، فَقَالَ اللهُ تَعَالَى: (قُلْ إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ
بِالفَحْشَاءِ)، وَسَكَتَ عَنْ قَوْلِهِمْ: (وَجَدْنَا عَلَيْهَا
ءَابَاءَنَا)؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لَا يُنْكَرُ، لَكِن (وَاللهُ أَمَرَنَا
بِهَا) كَذِبٌ، وَلِهَذَا كَذَّبَهُمْ وَأَمَرَ نَبيَّهُ أنْ يَقُولَ:
(إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالفَحْشَاءِ) [الأَعْرَاف: 28]، وَلَمْ
يَقُلْ: وَلَمْ يَجِدُوا عَلَيْهَا آباءَهُمْ؛ لِأَنهَّمْ قَدْ وَجَدُوا
عَلَيْهَا آباءَهَمْ.
قَولُهُ: ((وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ
الكُفْرَ)): لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ
عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الكُفْرَ) [الزُّمَر: 7]، لَكِنْ
يُقَدِّرُ أنْ يَكْفُرُوا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَقْدِيرِهِ الكُفْرَ أنْ
يَكُونَ رَاضِيًا بِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، بَلْ يُقَدِّرُهُ وَهُوَ
يَكْرَهُهُ وَيَسْخَطُهُ.
قَولُهُ: ((وَلَا يُحِبُّ الفَسَادَ)): دَلِيلُ
ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِى الأَرْضِ
لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ
الفَسَادَ) [البَقَرَة: 205].
كَرَّرَ المؤلِّفُ مِثْلَ هَذِهِ العِبَارَاتِ
لِيُبَيِّنَ أنَّهُ لَاَ يَلْزَمُ مِنْ إِرَادَتِهِ الشَّيءُ أنْ يَكُونَ
مَحْبُوباًًًً لَهُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَرَاهَتِهِ لِلشَّيءِ أنْ لَا
يَكُونَ مُرَادًا لَهُ بِالإِرَادَةِ الكَوْنِيَّةِ، بَلْ هُوَ عَزَّ
وَجَلَّ يَكْرَهُ الشَّيءَ وَيُرِيدُهُ بِالإِرَادَةِ الكَونِيَّةِ،
وَيُوقِعُ الشَّيءَ وَلَا يَرْضَى عَنْهُ، وَلَا يُريِدُهُ بِالإِرَادَةِ
الشَّرعيَّةِ.
فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يُوقِعُ مَا لَا يَرْضَاهُ
وَمَا لَا يُحِبُّهِ؟! وَهَلْ أَحَدٌ يُكْرِهُهُ عَلَى أَنْ يُوقِعَ مَا
لَاََ يُحِبُّهُ وَلَا يَرْضَاهُ؟!
فَالجَوابُ: لاَ أَحَدَ يُكْرِهُهُ عَلَى أنْ
يُوقِعَ مَا لَا يُحِبُّهُ وَلَا يَرْضَاهُ، وَهَذَا الَّذِي يَقَعُ مِنْ
فِعْلِهِ عَزَّ وَجلَّ وَهُوَ مَكْرُوهٌ لَهُ، هُوَ مَكْرُوهٌ لَهُ مِنْ
وَجْهٍ مَحْبُوبٌ لَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ؛ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ
المَصَالِحِ العَظِيمَةِ.
فَمَثَلًا: الإيمانُ مَحْبُوبٌ للهِ، وَالكُفْرُ
مَكْرُوهٌ له، فَأَوْقَعَ الكُفْرَ وَهُوَ مَكْرُوهٌ لَهُ لِمَصَالِحَ
عَظِيمَةٍ؛ لِأنَّهُ لَوْلَا وُجُودُ الكُفْرِ مَا عُرِفَ الإيمانُ،
وَلَوْلَا وُجُودُ الكُفْرِ مَا عَرفَ الإنْسَانُ قَدْرَ نِعْمَةِ اللهِ
عَلَيْهِ بِالإِيمَانِ، وَلَوْلَا وُجُودُ الكُفْرِ مَا قامَ الأَمْرُ
بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ
يَكُونُونَ عَلَى المَعْرُوفِ، وَلَوْلَا وُجُودُ الكُفْرِ؛ مَا قَامَ
الجِهَادُ، وَلَوْلَا وُجُودُ الكُفْرِ؛ لَكَانَ خَلْقُ النَّارِ عَبَثًا؛
ِلَأنَّ النَّارَ مَثْوَى الكَافِرِينَ، وَلَوْلَا وُجُودُ الكُفْرِ؛
لَكَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً، وَلَمْ يَعْرِفُوا مَعْرُوفًا وَلَمْ
يُنْكِرُوا مُنْكَرًا، وَهَذَا لَا شَكَّ أنَّهُ مُخلٌّ بِالمُجْتَمَعِ
الإِنْسَانِيِّ ، وُلَوْلَا وُجُودُ الكُفْرِ؛ مَا عُرِفَتْ وِلَايَةُ
اللهِ؛ لِأَنَّ مِنْ وِلَايَةِ اللهِ أنْ تَبْغََضَ أَعْدَاءَ اللهِ وَأَنْ
تُحِبَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ.
وَكَذَلِكَ يُقَالُ فِي الصِّحِةِ وَالمَرَضِ؛
فَالصِّحةُ مَحْبُوبَةٌ لِلْإِنْسَانِ وَمُلَائِمَةٌ لَهُ، وَرَحْمَةُ
اللهِ تَعَالَى فَيهَا ظَاهِرَةٌ، لَكِنَّ المَرَضَ مَكْرُوهٌ
لِلإِنْسَانِ، وَقَدْ يَكُونُ عُقُوبَةٌ مِنَ اللهِ لَهُ، وَمَعَ ذَلِكَ
يُوقِعُهُ؛ لِمَا في ذَلِكَ مِنَ المَصَالِحِ العَظِيمَةِ.
كَمْ مِنْ إِنْسَانٍ إِذَا أَسْبَغَ اللهُ
عَلَيْهِ النِّعْمَةَ باِلبَدَنِ وَالمَالَ وَالوَلَدَ وَالبَيْتَ
وَالمَرْكُوبَ؛ تَرَفَّعَ وَرَأى أنَّهُ مُسْتغِنٍ بِمَا أنَْعَمَ اللهُ
بِهِ عَلَيْهِ عَنْ طَاعَةِ اللهِ عَزَّ وجلَّ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى
(كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَّءَاهُ اسْتَغْنَى) [العَلَق:
6-7]، وَهَذِهِ مَفْسَدَةٌ عَظِيمَةٌ؛ فَإِذَا أَرَادَ اللهُ أنْ يَرُدَّ
هَذا الإِنْسَانَ إِلَى مَكَانِهِ ابْتَلَاهُ، حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى
اللهِ، وَشَاهِدُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (ظَهَرَ الفَسَادُ فِى البَرِّ
وَالبَحْرِ بَمَا كَسَبَتْ أَيْدِى النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِى
عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الرُّوم : 41].
وَأنْتَ أيُّها الإِنْسَانُ إِذَا فكَّرْتَ هَذَا
التَّفْكِيرَ الصَّحيحَ فِي تَقْدِيرَاتِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ عَرَفْتَ
مَالَهُ سُبْحَانََهُ وَتَعَالَى مِنَ الحِكْمَةِ فِيمَا يُقَدِّرُهْ مِنْ
خَيْرٍ أوْ شَرٍّ، وَأَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَخْلُقُ مَا
يَكْرَهُهُ وَيُقَدِّرُ مَا يَكْرَهُهُ لِمَصَالِحَ عَظِيمَةٍ قَدْ تُحِيطُ
بِها، وَقَدْ لَا تحُيطُ بِهَا وَيُحِيطُ بِهَا غَيْرُكَ، وَقَدْ لَا
يُحِيطُ بِهَا لَا أنْتَ وَلَا غَيْرُكَ .
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ الشَّيءُ مَكْرُوهًا للهِ ومُرادًا لَهُ ؟
فَالجَوَابُ: أنَّهُ لَا غَرَابَةَ فِي ذَلِكَ؛
فَهَا هُوَ الدَّوَاءُ المُرُّ طَعْمًا الخَبِيثُ رَائِحَةً يَتَنَاوَلُهُ
المَرِيضُ وَهُوَ مُرْتَاحٌ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ مَصْلَحَةِ
الشِّفَاءِ، وَهَا هُوَ الَأبُّ يُمْسِكُ بِابْنِهِ المَرِيضِ لِيَكْوِيَهُ
الطَّبِيْبُ، وَرُبَّمَا كَوَاهُ هُوَ بِنَفْسِهِ مَعَ أنَّهُ يَكْرَهُ
أَشَدَّ الكُرْهِ أنْ يَحْرِقَ ابنَهُ باِلنَّارِ.
قولُهُ: ((وَالعِبادُ فَاعِلونَ حَقيقَةً، وَاللهُ خَالِقُ أفْعَالِهِمْ)).
قَالَ: ((وَالعِبَادُ فَاعِلُونَ حَقِيقَةً،
وَاللهُ خَالقُ أَفْعَالِهِمْ)): هَذَا صَحِيحٌ؛ فَالعَبْدُ هُوَ
المُبَاشِرُ لِفِعْلِهِ حَقِيقَةً، واللهُ خَالِقٌ فِعْلَهُ حَقِيقَةً،
وَهَذِهِ عَقِيدةُ أَهِلِ السُّنَّةِ، وَقَدْ سَبَقَ تَقْرِيرُهَا
بِالأَدلَّةِ.
وَخَالَفَهُمْ فِي هَذَا الأَصْلِ طَائِفَتانِ:
الطَّائِفَةُ الأُولَى: القَدَرِيَّةُ مِنَ
المُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ؛ قَالُوا: إِنَّ العِبَادَ فَاعِلُونَ
حَقِيقَةً، وَاللهُ لَمْ يَخْلُقْ أَفْعَالَهُمْ.
الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ: الجَبْرِيَّةُ مِنَ
الجَهْمِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ؛ قَالُوا: إِنَّ اللهَ خَالِقٌ أَفْعَالَهُمْ،
وَلَيْسُوا فَاعِلِينَ حَقِيقةً ، لَكِنْ أُضيفَ الفِعْلُ إِلَيهُمْ مِنْ
بَابِ التَّجَوُّزِ، وَإِلَّا فَالفَاعِلُ حَقِيقَةً هُوَ اللهُ .
وَهَذَا القََوْلُ يٌؤَدِّي إِِلَى القَولِ
بِوِحْدَةِ الوُجُودِ، وَأنَّ الخَالِقَ هُوَ اللهُ، ثُمَّ يُؤَدِّي إِلَى
قَوْلِ مَنْ أَبْطَلَ البَاطِلَ؛ لِأَنَّ العِبَادَ مِنْهُمُ الزَّانِي
وَمِنْهُمُ السَّارِقُ وَمِنْهُمْ شَارِبُ الخَمْرِ وَمِنْهُمُ المُعْتَدِي
باِلظُّلْمِ؛ فُحْاشًا أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الأَفْعَالُ مَنْسُوبَةً إِلَى
اللهِ!! وَلَهُ لَوَازِمٌ بَاطِلَةٌ أُخْرَى.
وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أنَّ فِي قَوْلِ المُؤلِّفِ:
((وَالعِبَادُ فَاعِلُونَ حَقِيقَةً، وَاللهُ خَالِقُ أَفْعَالِهِمْ)):
رَدًّا عَلَى الجَبْرِيَّةِ وَالقَدَرِيَّةِ.
قَولُهُ: ((وَالعَبْدُ هُوَ المُؤْمِنُ وَالكافِرُ، وَالبَرُّ وَالفَاجِرُ، وَالمُصَلِّي وَالصَّائِمُ)).
يَعْنِي: أنَّ الوَصْفَ بِالإِيمَانِ وَالكُفْرِ
وَالبِرِّ وَالفُجُورِ وَالصَّلاةِ وَالصِّيَامِ وَصْفٌ لِلْعَبْدِ لَا
لِغَيْرِهِ؛ فَهُوَ المُؤمِنُ، وَهُوَ الكَافِرُ، وَهُوَ البَّارُّ، وَهُوَ
الفَاجِرُ، وَهُوَ المُصَلِّي، وَهُوَ الصَّائِمُ… وَكَذَلِكَ هُوَ
المُزَّكِي، وَهُوَ الحَاجُّ، وَهُوَ المُعْتَمِرُ… وَهَكَذَا، وَلَا
يُمْكِنُ أَنْ يُوصَفَ بِمَا لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ حَقِيقَةً.
وَهَذِهِ الجُمْلَةُ تتََضَمَّنُ الرَّدَّ عَلَى الجَبْرِيَّةِ.
وَالُمَرادُ باِلعُبُودِيَّةِ هُنَا العُبُودِيَّةُ العَامَّةُ؛ لِأَنَّ العُبُودِيَّةَ نَوْعَانِ: عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ:
-فَالعَامَّةُ: هِيَ الخُضُوعُ لِأَمْرِ اللهِ
الكَوْنِيِّ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِى السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضِ إِلَّّا ءَاتِى الرَّحْمَنِ عَبْدًا) [مَرْيَم: 93].
-وَالعُبُودِيَّةُ الخَاصَّةُ: هِيَ الخُضُوعُ
لِأَمْرِ اللهِ الشَّرْعِيِّ، وَهِيَ خَاصَّةٌ بِالمُؤمِنِينَ كَقَوْلِهِ
تَعَالَى: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ
هَوْنًا) [الفُرْقَان: 63]، وَقَوْلُهُ: (تَبَارَكَ الَّذِى نَزَّلَ
الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ) [الفُرْقَان: 1]، وَهَذِهِ أَخَصُّ مِنَ
الأُولَى.
قَوْلُهُ: ((وَلِلعِبادِ قُدْرَةٌ عَلَى
أعْمَالِهِمْ، وَلَهُمْ إِرَادَةٌ، وَاللهُ خَالِقُهُمْ وَخَالِقُ
قُدْرَتِهِمْ وَإرادَتِهِمْ)).
((لِلعِبَادِ قُدْرَةٌ عَلَى أَعْمَالِهِمْ وَإِرَادَةٌ))؛ خِلَافًا
لِلْجَبْرِيَّةِ القَائِلِينَ بِأَنَّهُمْ لَا قُدْرَةَ لَهُمْ وَلَا
إِرَادَةَ، بَلْ هُمْ مجُبْرَوُنَ عَلَيْهَا.
((وَاللهُ خَالِقُهُمْ وَخَالِقُ إِرَادَتِهِمْ
وَقُدْرَتِهِمْ))؛ خِلَافًا لِلْقَدَرِيَّةِ القَائِلِينَ بِأَنَّ اللهَ
لَيْسَ خَالِقًا لِفِعْلِ العَبْدِ وَلَا لِإِرَادَتِهِ وَقُدْرَتِهِ.
وَكَأَنَّ المُؤلِّفَ يُشِيرُ بِهَذِهِ
العِبَارَةِ إِلَى وَجْهِ كَوْنِ فِعْلِ العَبْدِ مَخْلُوقًًا للهِ
تَعَالَى؛ بِأَنَّ فِعْلََهُ صَادِرٌ عَنْ قُدْرَةٍ وَإِرَادَةٍ، وَخَالِقُ
القُدْرَةِ وَالإِرَادَةِ هُوَ اللهُ، وَمَا صَدَرَ عَنْ مَخْلُوقٍ؛
فَهُوَ مَخْلُوقٌ.
وَيُشِيرُ بِهَا أَيْضًا إِلَى كَوْنِ فِعْلِ
العَبْدِ اخْتِيَارِيًّا لَا إِجْبَارِيًّا؛ لِأَنَّهُ صَادِرٌ عَنْ
قُدْرَةٍ وَإِرَادَةٍ؛ فَلَوْلَا القُدْرَةُ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ
الفِعْلُ، وَلَوْلَا الإِرَادَةُ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ الفِعْلُ، وَلَوْ
كَانَ الفِعْلُ إِجْبَارِيًّا؛ مَا كَانَ مِنْ شَرْطِهِ القُدْرَةُ
وَالِإرَادَةُ.
ثُمَّ اسْتَدَلَّ المؤلِّفُ لِذَلِكَ، فَقَالَ:
((كَمَا قَالَ تَعَالَى: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا
تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ) [التَّكْوِير:
28-29])).
فَقَوْلُهُ: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ): فِيهَا رَدُّ عَلَى الجَبْرِيَّةِ.
وَفِي قَوْلِهِ: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ): رَدُّ عَلَى القَدَرِيَّةِ.
قَولُهُ: ((وَهَذِهِ الدَّرَجَةُ مِنَ القَدَرِ))؛ أَيْ: دَرَجَةُ المَشِيئَةِ وَالخَلْقِ.
((يُكَذِّبُ بِهَا عَامَّةُ القَدَريَّةِ،
الَّذِينَ سَمَّاهُمُ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجوسَ
هَذِهِ الأمَّةِ)).
((عَامَّةُ القَدَرِيَّةِ))؛ أيْ: أَكْثَرُهُمْ
يُكَذِّبُونَ بِهَذِهِ الدَّرَجَةِ، وَيَقُولُونَ: إنَّ الإِنْسَانَ
مُسْتَقِلٌّ بِعَمَلِهِ، وَلَيْسَ للهِ فِيهِ مَشِيئَةٌ وَلَا خَلْقٌ.
وَ((سمَّاهُمُ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَجُوسَ هَذِهِ الأمَّةِ))؛ لِأَنَّ المَجُوسَ يَقُولُونَ: إنَّ
للِحَوَادِثِ خَالِقَينِ: خَالِقًا لِلْخَيْرِ، وَخَالِقًا لِلشرِّ!
فَخَالِقُ الخَيْرِ هُوَ النُّورُ، وَخَالِقُ الشَّرِّ هُوَ الظُّلْمَةُ؛
فَالقَدَرِيَّةُ يُشْبِهونَ هَؤُلَاءِ المَجُوسَ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّهُمْ
يَقُولُونَ: إنَّ الحَوَادثَ نَوْعَانِ: حَوَادِثُ مِنْ فِعْلِ اللهِ؛
فَهَذِهِ خَلْقُ اللهِ، وَحَوَادِثُ مِنْ فِعْلِ العِبَادِ؛ فَهَذِهِ
لِلعِبَادِ استِقْلَالًا، وَلَيْسَ للهِ تَعَالَى فِيهَا خَلْقٌ.
قَوْلُهُ: ((وَيَغْلُو فِيهَا قَوْمٌ مِنْ أهْلِ
الإثْباتِ، حتَّى سَلَبوا العَبْدَ قُدْرَتَهُ وَاخْتيارَهُ، وَيُخْرِجونَ
عَنْ أفْعالِ اللهِ وَأحْكامِهِ حِكَمَها وَمصالِحَهَا)).
((يَغْلُو فِيهَا))؛ أيْ: فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ.
((قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الإثْباتِ))؛ أيْ: إثْباتِ القَدَرِ.
وَهَؤُلَاءِ القَوْمُ هُم الجَبْرِيَّةُ؛ حَيْثُ
إنهَّم سَلَبُوا العَبْدَ قُدْرَتَهُ وَاخْتِيَارَهُ، وَقَالُوا: إنَّهُ
مُجْبَرٌ عَلَى عَمَلِهِ؛ لِأنَّهُ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (وَيُخْرِجُونَ عَنْ أَفْعَالِ اللهِ
وَأَحْكَامِهِ حِكَمَهَا وَمَصَالِحَهَا)): ((يُخْرِجُونَ)): مَعْطُوفَةٌ
عَلَى قَوْلِهِ: ((يَغْلُو)).
وَوَجْهُ كَوْنِهِمْ يُخْرِجُونَ الحِكَمَ
وَالمَصَالِحَ عَنْ أَفْعَالِ اللهِ وَأَحْكَامِهِ: أَنَّهُمْ لَا
يُثْبِتُونَ للهِ حِكْمَةً أَوْ مَصْلَحَةً؛ فَهُوَ يَفْعَلُ وَيَحْكُمُ
لِمُجَرَّدِ مَشِيئَتِهِ، وَلِهَذَا يثُيِبُ المُطِيعَ، وَإِنْ كَانَ
مُجْبَرًا عَلَى الفِعْلِ، وَيُعَاقِبُ العَاصِي، وَإِنْ كَانَ مُجْبَرًا
عَلَى الفِعْلِ.
وَمِنَ المَعْلُومِ أنَّ المُجْبَرَ لَا
يَسْتَحِقُّ الحَمْدَ عَلَى مَحْمُودٍ، وَلَا الذَّمَ عَلَى مَذْمُومٍ؛
لِأَنَّهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ.
وَهُنَا مَسْأَلَةٌ يَحْتَجُّ بِهَا كَثِيرٌ مِنَ
العُصَاةِ: إِذَا أَنْكَرْتَ عَلَيْهِ المُنْكَرَ؛ قَالَ: هَذَا هُوَ مَا
قَدَّرَهُ اللهُ عَلَيْهِ؛ أَتَعْتَرِضُ عَلَى اللهِ؟! فَيَحْتَجُّ
بِالقَدَرِ عَلَى مَعَاصِي اللهِ، وَيَقُولُ: أَنَا عَبْدٌ مُسَيَّرٌ!
ثُمَّ يَحْتَجُّ أَيْضًا بِحَدِيثِ: ((تَحَاجَّ آدَمُ وَمُوسى، فَقَالَ
لَهُ مُوسَى: أَنْتَ أَبُونَا، خَيَّبْتَنَا وَأَخْرَجْتَنَا مِنَ
الجَنَّةِ؟! فَقَالَ لَهُ آدَمُ: أَنْتَ مُوسى! اصْطَفَاكَ اللهُ
بِكَلامِهِ، وَكَتَبَ لَكَ التَّوراةَ بِيَدِهِ! أَتَلومُنِي عَلَى أمْرٍ
قَدَّرَهُ اللهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَني بَأَرْبَعِينَ سَنَةً؟!)).
قَالَ النَّبيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ((فَحَجَّ آدَمُ
مُوسَى))؛ قَالَهَا ثَلَاثًا. وَعِنْدَ أَحَمْدَ: ((فَحَجَّهُ آدَمُ)).
وَهِيَ صَرِيحَةٌ فِي أنَّ آدَمَ غَلَبَ مُوسَى بِالحُجَّةِ.
قَالَ: فَهَذَا آدَمُ لَمَّا اعْتَرَضَ عَلَيْهِ
مُوسَى؛ احْتَجَّ عَلَيْهِ بِالقَدَرِ، وَآدَمُ نَبِيٌٌ، وَمُوسَى رَسُولٌ،
فَسَكَتَ مُوسَى؛ فَلِمَاذَا تَحْتَجُّ عَلَيَّ؟
وَالجَوَابُ عَلَى حَدِيثِ آدَمَ:
-إمَّا عَلَى رَأْيِ القَدَرِيَّةِ؛ فَإِنَّ
طَرِيقَتَهُمْ أَنَّ أَخْبَارَ الآحَادِ لَا تُوجِبُ اليَقِينَ؛ قَالُوا:
وَإِذَا عَارَضَتِ العَقْلَ؛ وَجَبَ أنْ تُرَدَّ. وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ
قَالُوا: هَذَا لَا يَصِحُّ وَلَا نَقْبَلُهُ وَلَا نُسَلِّمُ بِهِ.
أًَمَّا الجَبْرِيِّةُ؛ فَقَالُوا: إِنَّ هَذَا
هُوَ الدَّلِيلُ، وَدِلَالَتُهُ حَقٌّ، وَلَا يُلَامُ العَبْدُ عَلَى مَا
قُدِّرَ عَلَيْهِ.
-أمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ؛
فَقَالُوا: إنَّ آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَعَلَ الذَنْبَ،
وَصَار ذَنْبُهُ سَبَبًا لِخُرُوجِهِ مِنَ الجنَّةِ، لَكِنَّهُ تَابَ مِنَ
الذَّنبِ، وبَعْدَ تَوْبَتِهِ اجْتَبَاهُ اللهُ وَتَابَ عَلَيْهِ
وَهَدَاهُ، وَالتَّائِبُ مِنَ الذَّنبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ، وَمِنَ
المحَُالِ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – وَهُوَ أَحَدُ
أُولي العَزْمِ مِنَ الرُسُلِ- يَلُومُ أَبَاهُ عَلَى شَيءٍ تَابَ مِنْهُ
ثُمَّ اجْتَبَاهُ اللهُ بَعْدَهُ وَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَاهُ، وَإِنمَّا
اللَّوْمُ عَلَى المُصِيبَةِ الَّتِي حَصَلَتْ بِفِعْلِهِ، وَهِيَ
إِخْرَاجُ النَّاسِ وَنفَسِهِ مِنَ الجنَّةِ؛ فَإِنَّ سَبَبَ هَذَا
الإِخْرَاجِ هُوَ مَعْصِيةُ آدَمَ؛ عَلَى أنَّ آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ لَا شَكَّ أنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ هَذَا لِيَخْرُجَ مِنَ
الجنَّةِ حتَّى يُلَامَ؛ فَكَيْفَ يَلُومُهُ مُوسَى؟!
وَهَذا وَجْهٌ ظَاهِرٌ فَي أنَّ مُوسَى عَلَيْهِ
السَّلامُ لَمْ يُرِدْ لَوْمَ آدَمَ عَلَى فِعْلِ المَعْصِيَةِ، إِنَّمَا
عَلَى المُصِيبَةِ الَّتي هِيَ مِنْ قَدَرِ اللهِ، وَحِينَئِذٍ يتَبَيَّنُ
أنَّهُ لَا حُجَّةَ بِهَذَا الحَدِيثِ لِلْجَبْرِيَّةِ.
فَنَحْنُ نَقْبَلُهُ وَلَا نُنْكِرُهُ كَمَا
فَعَلَ القَدَرِيُّ، وَلَكِنَّنَا لَا نَحْتَجُّ بِهِ عَلَى المَعْصِيَةِ؛
كَمَا فَعَلَ الجَبْرِيُّ.
وَهُنَاكَ جَوَابٌ آخَرُ أَشَارَ إِلَيْهِ ابنُ
القيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ، وَقَالَ: الإِنْسَانُ إِذا فَعَلَ المَعْصِيَةَ
وَاحْتَجَّ الإِنْسَانُ بِالقَدَرِ عَلَيْها بَعْدَ التَّوبةِ مِنْهَا؛
فَلَا بَأْسَ بِهِ.
وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَوْ لَامَكَ أَحَدٌ عَلَى
فِعْلِ المَعْصِيَةِ بَعْدَ أنْ تُبْتَ مِنْهَا، وَقُلْتَ: هَذَا بِقَضَاءِ
اللهِ وَقَدَرِهِ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ وَأَتُوبُ إلِيهِ… وَمَا أشْبَهَ
ذلِكَ؛ فَإِنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَيْكَ فِي هَذَا.
فَآدمُ احْتَجَّ بِالقَدَرِ بَعْدَ أنْ تَابَ
مِنْهُ، وَهَذَا لَا شَكَّ أنَّهُ وَجْهٌ حَسَنٌ، لَكِنْ يُبْعِدُهُ أنَّ
مُوسَى لَا يُمْكِنُ أَنْ يَلُومَ آدَمَ عَلَى مَعْصِيَةٍ تَابَ مِنْهَا.
وَرَجَّحَ ابْنُ القَيِّمِ قَوْلَهُ هَذَا بِمَا
جَرَى لِلنَّبيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حِينَ طَرَقَ عَلِيًّا
وَفَاطِمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا لَيْلَةً، فَقَالَ: ((أَََلَا
تُصَلِّيانِ؟)). فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: يَا رَسُولَ اللهِ!
أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللهِ؛ فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا؛ بَعَثَنَا.
فَانْصَرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضْرِبُ فَخِذَهُ
وَهُوَ يَقُولُ: (وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَىْءٍ جَدَلًا) [الكَهْف:
54].
وَعِنْدِي أَنَّ فِي الاسْتِدْلَالِ بِهَذَا
الحَدِيثِ نَظَرًا؛ لِأَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ احْتَجَّ
بِالقَدَرِ بنَوْمِهِ، وَالإِنْسَانُ النَّائِمُ لَهُ أنْ يَحْتَجَّ
باِلقَدَرِ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ لَا يُنْسَبُ إِلَيْهِ، وَلِهَذَا قَالَ
اللهُ تَعَالَى فِي أَصْحَابِ الكَهْفِ: (وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ اليَمِينِ
وَذَاتَ الشِّمَالِ) [الكَهْف: 18]؛ فنَسَبَ التَّقْلِيبَ إِلَيْهِ، مَعَ
أَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَتَقَلَّبُونَ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ بِغَيْرِ
إِرَادَةٍ مِنْهُمْ؛ لِمَ يُضِفْهُ إِلَيْهِمْ.
وَالوَجْهُ الأَوَّلُ فِي الجَوَابِ عَنْ حَدِيثِ آدَمَ وَمُوسَى –وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ شَيْخُ الإِسْلَامِ ابنُ تَيْمِيَةَ – هُوَ الصَّوابُ.
فَإِذاً لَا حُجَّةَ لِلجَبْرِيِّ بِهَذَا
الحَدِيثِ، وَلَا لِلعُصَاةِ الَّذِينَ يَحْتَجُّونَ بِهَذَا الحَدِيثِ
لِاحْتِجَاجِهِمْ بَالقَدَرِ.
فَنَقُولُ لَهُ: إِنَّ احْتِجَاجَكَ بِالقَدَرِ عَلَى المَعَاصِي يُبْطِلُهُ السَّمْعُ وَالعَقْلُ وَالوَاقِعُ:
-فَأَمَّا السَّمْعُ؛ فَقَدْ قَالَ اللهُ
تَعَالَى: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا
أَشْرَكْنَا وَلاَ ءَابَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِنْ شَىْءٍ كَذَلِكَ
كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حتَّى ذَاقُوا بِأْسَنَا) [الأَنْعَام:
148]؛ قَالُوا ذَلِكَ احْتِجَاجًا بِالقَدَرِ عَلَى المَعْصِيَةِ، فَقَالَ
اللهُ تَعَالَى: (كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ )؛ يَعْنِي:
كَذَّبُوا الرُّسُلَ وَاحْتَجُّوا بِالقَدَرِ (ٍّحتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا)،
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُجَّتَهُمْ بَاطِلَةٌ؛ إِذْ لَوْ كَانََتْ
حُجَّةً مَقْبولَةً؛ مَا ذَاقُوا بَأْسَ اللهِ.
-وَدِلِيلٌ سَمْعِيٌّ آخَرُ: قَالَ اللهُ
تَعَالَى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ
وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ…) [النِّسَاء: 163] إِلَى قولِهِ: (رُّسُلًا
مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ
حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [النِّسَاء: 165]، وَوَجْهُ الدِّلَالَةِ مِنْ
هَذِهِ الآيةِ أنَّهُ لَوْ كَانَ القَدَرُ حُجَّةً؛ مَا بَطُلَتْ
بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ القَدَرَ لَا يَبْطُلُ
بِإِرْسَالِ الرسلِ، بَلْ هُوَ بَاقٍ.
فَإذَا قَالَ قَائِلٌ: يَرِدُ عَلَيكِ في
الدَّليلِ الأوَّلِ قَولُ اللهِ تَباركَ وتعالَى في سُورةِ الأنْعامِ:
(اتَّبِعْ مَا أُوحِىَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ
وَأَعْرِضْ عَن المُشْرِكِينَ، وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا
جَعَلْنَاكَ عَليْهِمْ حَفِيظَاً وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ)
[الأَنْعَام: 106-107]؛ فَهُنَا قَالَ اللهُ تَعالَى: (وَلَوْ شَاءَ اللهُ
مَا أَشْرَكُوا)؛ فَنَقُولُ: إنَّ قَوْلَ الإِنْسَانِ عَنِ الكُفَّارِ:
(وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكُوا): قَوْلٌ صَحِيحٌ وَجَائزٌ، لَكِنَّ
قَوْلَ المُشرِكِ: (وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا) [الأَنْعَام:
148]؛ يُرِيدُ أنْ يَحْتَجَّ بِالقَدَرِ عَلَى المَعْصِيةِ قَوْلٌ بَاطِلٌ،
واللهُ عَزَّ وَجَلَّ إنَّمَا قَالَ لِرَسُولِهِ هَكَذَا تَسْلِيَةً لَهُ
وَبَيَاناً أنَّ مَا وَقَعَ فَهُوَ بِمَشِيئَةِ اللهِ.
-وأمَّا الدَّلِيلُ العَقْلِيُّ عَلَى بُطْلَانِ
احْتِجَاجِ العَاصِي بِالقَدَرِ عَلَى مَعْصِيَةِ اللهِ أنْ نَقُولَ لَهُ:
مَا الَّذِي أَعْلَمَكَ بِأَنَّ اللهَ قَدَّرَ لَكَ أنْ تَعْصِيَهُ قَبْلَ
أنْ تَعْصِيَهُ؟ فَنَحْنُ جَمِيعاً لَا نَعْلَمُ مَا قَدَّرُ اللهُ إلَّا
بَعْدَ أنْ يَقَعَ، أمَّا قَبْلَ أنْ يَقَعَ؛ فَلَا نَدْرِي مَاذَا يُرادُ
بِنَا؛ فَنَقُولُ لِلعَاصِي: هَلْ عِنْدَكَ عِلْمٌ قَبْلَ أنْ تُمَارِسَ
المَعْصِيَةَ أنَّ اللهَ قَدَّرَ لَكَ المَعْصِيَةَ؟ سَيَقُولُ: لَا.
فَنَقُولُ: إِذنْ لِمَاذَا لَمْ تُقَدِّرْ أنَّ اللهَ قَدَّرَ لَكَ
الطَّاعةَ وَتُطِعِ اللهَ؛ فَالبَابُ أمَامَكَ مَفْتُوحٌ؛ فَلِمَاذَا لَمْ
تَدْخُلْ مِنَ البَابِ الَّذِي تَرَاهُ مَصْلَحَةً لَكَ؛ لِأنَّكَ لَا
تَعْلَمُ مَا قُدِّرَ لَكَ. وَاحْتِجَاجُ الإِنْسَانِ بِحُجَّةٍ عَلَى
أمْرٍ فَعَلَهُ قَبْلَ أنْ تَتَقدَّمَ حُجَّتُهُ عَلَى فِعْلِهِ احْتِجَاجٌ
بَاطِلٌ؛ لِأنَّ الحُجَّةَ لَا بدَّ أنْ تَكُونَ طَرِيقاً يَمْشِي بِهِ
الإِنْسَانُ؛ إذْ إنَّ الدَّلِيلَ يَتَقَدَّمُ المَدْلُولَ.
وَنَقُولُ لَهُ أَيضاً: أَلسْتَ لَوْ ذُكِرَ لَكَ
أنَّ لِمَكَّةَ طَرِيقَينِ أَحَدُهُمَا طَرِيقٌ مُعَبَّدٌ آمِنٌ،
وَالثَّانِي طَرِيقٌ صَعْبٌ مُخَوِّفٌ؛ ألَسْتَ تَسْلُكُ الآمِنَ؟
سَيَقُولُ: بَلى. فَنَقُولُ: إِذِنْ لِمَاذَا تَسْلُكُ فِي عِبَادَتِكَ
الطَّرِيقَ المُخَوِّفَ المَحْفُوفَ بِالأَخْطَارِ، وَتَدَعُ الطَّرِيقَ
الآمِنَ الَّذِي تَكَفَّلَ اللهُ تعالَى بالأمنِ لِمَنْ سَلكَهُ؛ فَقَالَ:
(الَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيماَنَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ
لَهُمُ الأَمْنُ) [الأَنْعَام: 82]، وَهَذِهِ حُجَّةٌ وَاضِحَةٌ.وَنَقُولُ
لَهُ لَوْ أَعْلَنْتِ الحُكُومَةُ عِنْ وَظِيفَتَيِن: إِحْدَاهُمَابِالمَرْتَبَةِ العَالِيَةِ وَالثَّانِيَةُ بِالمَرْتَبَةُ
السُّفْلَي ، فَأَيُّهُمَا تُرِيْدُ ؟! بِلَا شَكٍّ سَيُرِيدُ المَرْتَبَةَ
العَالِيَةَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّكَ تَأْخُذُ بِالأَكْمَلِ فِي
أُمُورِ دِينِكَ وَهَلْ هَذَا إِلَّا تَنَاقُضٌ مِنْكَ ؟!
وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أنَّهُ لَا وَجْهَ أَبَداً لِاحْتِجَاجِ العَاصِي بِالقَدَرِ عَلَى مَعْصِيَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ).