11 Nov 2008
الإيمان قول وعمل يزيد وينقص
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): ( (فصل)
وَمِنْ أُصُولِ الفرقة الناجية أَنَّ الدِّينَ وَالإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ : قَوْلُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ ، وَعَمَلُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ ، وَأَنَّ الِإيمَانَ يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ لاَ يُكَفِّرُونَ أَهْلَ الْقِبْلَةِ بِمُطْلَقِ الْمَعَاصِي وَالْكَبَائِرِ ، كَمَا تَفْعَلُهُ الْخَوَارِجُ ، بَل الأُخُوَّةُ الإِيمَانِيَّةُ ثَابِتَةٌ مَعَ الْمَعَاصِي كَمَا قَالَ -سُبْحَانَهُ وتعالى– فِي آيَةِ القِصَاصِ : {فَمَنْ عُفِي لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البَقَرَةِ : 178] ، وَقَالَ : {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُواْ الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الْحُجُرَاتِ : 9-10]).
التنبيهات اللطيفة فيما احتوت عليه الواسطية من المباحث المنيفة لابن سعدي رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): ( (فصل)
ومن أصول أهل السُّنّة والجماعة أنّ الدِّينَ والإيمانَ قولٌ وعملٌ: قولُ
القلبِ واللسانِ، وعملُ القلبِ واللسانِ والجوارح، وأن الإيمانَ يزيد
بالطاعةِ وينقص بالمعصية، وهم مع ذلك لا يُكفِّرونَ أهل القبلة بمطلق
المعاصي والكبائر كما يفعله الخوارج، بل الأُخُوَّةُ الإيمانيةُ ثابتةٌ مع
المعاصي كما قال سبحانه في آية القِصاص: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 178]. وقال: {وَإِن
طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا
فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُواْ الَّتِي تَبْغِي
حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُواْ
بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ
أَخَوَيْكُمْ} ([1]) [الحجرات: 9-10] ).
الشرح:
قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): ( ([1])
قد دلّ الكتاب والسُّنة على ما قاله الشيخ، وأجمع على ذلك سلف الأمة، فكم
من آية قرآنية، وأحاديث نبوية أطلقت على كثير من الأقوال والأعمال اسم
الإيمان، فالإيمان المطلق يدخل فيه جميع الدين ظاهره وباطنه، أصوله وفروعه،
ويدخل فيه العقائد التي يجب اعتقادها في كل ما احتوت عليه من هذا الكتاب،
ويدخل فيه أعمال القلوب، كالحبّ لله ورسوله. والفرق بين أقوال القلب وبين
أعماله:
- أن أقواله هي العقائد التي يعترف بها القلب ويعتقدها.
- وأما أعمال القلب فهي حركته التي يحبها الله
ورسوله، وضابطها محبة الخير وإرادته الجازمة، وكراهية الشرّ والعزم على
تركه، وهذه الأعمال القلبية تنشأ عنها أعمال الجوارح، فالصلاة والزكاة
والصوم والحج والجهاد من الإيمان، وبرّ الوالدين وصلة الأرحام والقيام
بحقوق الله وحقوق خلْقه المتنوعة كلها من الإيمان، وكذلك الأقوال؛ فقراءة
القرآن وذكر الله والثناء عليه والدعوة إلى الله والنصيحة لعباد الله
وتعلّم العلوم ا لنافعة كلها داخلة في الإيمان، ولهذا لما كان الإيمان
اسماً لهذه الأمور ترتب عليه أنه يزيد وينقص كما هو صريح الأدلة من الكتاب
والسُّنة، وكما هو ظاهر مشاهد في تفاوت المؤمنين في عقائدهم وأعمال قلوبهم
وجوارحهم. ومن زيادته ونقصه أن قسّم المؤمنين إلى ثلاث طبقات:
سابقون بالخيرات وهم الذين أدوا الواجبات والمستحبات وتركوا المحرّمات والمكروهات، فهؤلاء المقربون.
ومقتصدون وهم الذين أدوا الواجبات، وتركوا المحرّمات.
وظالمون لأنفسهم وهم الذين تجرأوا على بعض المحرّمات وقصّروا في بعض الواجبات مع بقاء أصل الإيمان معهم.
فهذا من أكبر البراهين على زيادة الإيمان ونقصه. فما أعظم التفاوت بين هؤلاء الطبقات.
ومن وجوه زيادته ونقصه أن المؤمنين متفاوتون في علوم
الإيمان وتفاصيله، فمنهم من وصل إليه من تفاصيله و عقائده خير كثير،
فازداد به إيمانه وتم به يقينه، ومنهم من هو دون ذلك، ودون ذلك، حتى تصل
الحال إلى أن من المؤمنين من معه إيمان إجمالي، ولم يتيسر له من التفاصيل
شيء وهو مع ذلك مؤمن. ومعلوم الفرق بين هذه المراتب.
ومن وجوه زيادة الإيمان ونقصه أن المؤمنين متفاوتون تفاوتاً كبيراً في أعمال القلب والجوارح، وكثرة الطاعات وقلتها، وهذا شيء محسوس.
ومن وجوه زيادته ونقصه أن من المؤمنين من لم تجرح
المعاصي إيمانه، وإن وقع منه شيء من ذلك بادر إلى التوبة والإنابة، ومنهم
من هو متجرئ على كثير من المعاصي ومعلوم الفرق بينهما.
ومن وجوه زيادته ونقصه أن من المؤمنين من هو واجد
حلاوة الإيمان، وقد ذاق طعمه واستحلى الطاعات، و تأثر قلبه بالإيمان، ومنهم
من لم يصل إلى ذلك، ولهذا قال المصنّف رحمه الله: (ولا
يَسلبون الفاسِقَ المِلِّيَّ الإيمانَ بالكلية، ولا يُخَلِّدونه في النار
كما تقولُه المعتزلة، بل الفاسِقُ يدخل في اسم الإيمانِ المُطلَقِ كما في
قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ}، وقد لا يدخل في اسم الإيمان المُطْلَقِ كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ
وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً}. وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا
يزْنِي الزَّاني حينَ يزْني وهو مُؤْمِنٌ، ولا يَسْرِقُ السَّارِقُ حين
يسْرِقُ وهو مؤمنٌ، ولا يشْربُ الخمرَ حينَ يشْرَبها وهو مؤمن، ولا ينتهبُ
نهبةً ذاتَ شرفٍ يرفعُ الناسُ إليهِ فيها أبصارَهم حين يَنتهِبُها وهو
مؤمنٌ)) ونقول: هو مؤمنٌ ناقصُ الإيمانِ، أو مؤمنٌ بإيمانهِ، فاسقٌ بكبيرته، فلا يُعطى الاسمَ المطلقَ، ولا يُسْلَبُ مُطْلَقَ الاسم)، وهذا تحقيق مذهب السلف الذي باينوا فيه الخوارج المارقين، الذين يسلبون العصاة اسم الإيمان، ويخلّدونهم في النار.
وباينوا فيه المعتزلة الذين وافقوا الخوارج في
المعنى، وخالفوهم في اللفظ. أما الكتاب والسُّنة فإنهما دلا من وجوه كثيرة
على أن العبد يكون فيه خير وشرّ، وإيمان وخصال كفر وخصال نفاق لا تخرجه عن
الإيمان بالكلية، وأن الإيمان المطلق إنما يتناول الإيمان الممدوح الكامل
في مثل قوله تعالى: {إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ
وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى
رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا
رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} ونحو ذلك من
النصوص. وأما مطلق الإيمان الذي يدخل فيه الإيمان الكامل، والإيمان الناقص،
فإنه قد ثبت في الكتاب والسُّنة إطلاقه على العصاة من المؤمنين وأجمع على
ذلك سلف الأمة وأئمتها، قال تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} ومن المعلوم دخول أي مؤمن من الأرِقَّاء في هذا النص وكذلك قوله تعالى: {فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}
فسماهم إخوة بعد وجود الاقتتال. ويقال أيضاً في توضيح ذلك أن الإيمان
الممدوح الذي يؤتى به في سياق الثناء على أهله إنما يتناول الإيمان الكامل.
والإيمان الذي يقال لصاحبه أنه من المؤمنين يدخل فيه
هذا وهذا. ويقال أيضاً الإيمان الذي يمنع صاحبه من التجرئ على الزِّنا
وشرب الخمر والسّرقة ونحوها من الفواحش هو الإيمان الكامل، والإيمان الذي
لا يمنع من ذلك هو الناقص، وهذا وجه الحديث الذي ذكره المصنف لا يزني
الزاني الخ. ويقال أيضاً الإيمان الذي يمنع دخول النار هو الإيمان الكامل
والإيمان الذي يمنع من الخلود فيها يكون إيماناً ناقصاً. وقد تواترت
الأحاديث بخروج من في قلبه حبة خردل من إيمان. ويقال أيضاً الأحكام
الأصولية والفروعية تدور مع أسبابها وعللها، وإذا وجد في العبد أسباب
متعارضة، عمل كل سبب في مسببه فالطاعات سبب لدخول الجنّة والثواب، والمعاصي
سبب لدخول النار والعقاب، فأعمل كل واحد في مقتضاه، ولكن لما كانت رحمة
الله قد سبقت غضبه، وفضله على العباد قد غمرهم وتنوع عليهم من كل وجه، كان
أقل القليل من الإيمان له الأثر المستقر الذي يضمحل ضده من كل وجه، وإن كان
معه شيء من الإيمان فإن مآله إلى الخلود في دار النعيم).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ مُحمَّد خَليل هَرَّاس رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): ( (فَصْلٌ:
ومِنْ أُصُولِ [ أَهْلِ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ ] أَنَّ الدِّينَ
والإِيْمانَ قَوْلٌ وعَمَلٌ، قَوْلُ القَلْبِ واللِّسانِ، وعَمَلُ القَلْبِ
واللِّسانِ والجَوَارِحِ.
وأَنَّ الإِيْمانَ يَزيدُ بالطَّاعَةِ، ويَنْقُصُ بالمَعْصِيَةِ ) (1).
( وهُمْ مَعَ ذلكَ لا يُكَفِّرونَ أَهْلَ القِبْلَةِ بمُطْلَقِ المَعَاصِي
والكَبائِرِ؛ كَمَا يَفْعَلُهُ الخَوَارِجُ، بلِ الأخُوَّةُ
الإِيْمَانِيَّةُ ثابِتَةٌ مَعَ المَعَاصي؛ كَمَا قَالَ سُبْحانَهُ [ في
آيةِ القِصاصِ ]: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيْهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالمَعْرُوفِ}، وقالَ: {وَإِنْ
طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنينَ اقْتَتَلُوا فأَصِلْحُوا بَيْنَهُما
فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتي تَبْغِي
حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما
بِالعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطينَ. إِنَّمَا
المُؤمِنُونَ إِخْوَةٌ فأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} (2)).
الشرح:
قال الشيخ محمد خليل هراس (ت: 1395هـ): ((1)
سبقَ أنْ ذَكَرْنَا في مَسْأَلَةِ الأسماءِ والأحكامِ أنَّ أهلَ
السُّنَّةِ والجماعةِ يعتقدونَ أنَّ الإِيمانَ قولٌ باللِّسانِِ واعتقادٌ
بِالْجَنَانِ وعَمَلٌ بِالْأَرْكَانِ، وأنَّ هذهِ الثَّلاثةَ داخلةٌ في
مُسَمَّى الإِيمانِ الْمُطْلَقِ.
فالإِيمانُ المطلقُ يدخلُ فيهِِ جميعُ الدِّينِ: ظاهرُهُ وباطنُهُ،
أُصُولُهُ وفروعُهُ، فَلا يَسْتَحِقُّ اسمَ الإِيمانِ المطلقِ إلاَّ مَنْ
جَمَعَ ذلكَ كُلَّهُ ولمْ يُنْقِصْ مِنْهُ شيئًا.
ولمَّا كانَتِ الأعمالُ والأقوالُ داخلةً في مُسَمَّى الإِيمانِ؛ كانَ
الإِيمانُ قابلاً للزيادةِ والنَّقْصِ، فهوَ يزيدُ بالطَّاعةِ وينقصُ
بالمعصيَةِ؛ كمَا هوَ صريحُ الأَدِلَّةِ مِنَ الكتابِ والسُّنَّةِ، وكمَا
هوَ ظاهرٌ مشاهَدٌ مِنْ تَفَاوُتِ المؤمنينَ في عَقَائِدِهِمْ وأعمالِ
قلوبِهِمْ وأعمالِ جَوَارِحِهِمْ.
ومِنَ الأدِلَّةِ على زيادةِ الإِيمانِ ونَقْصِهِ أنَّ اللهَ قَسَّمَ المؤمنينَ ثلاثَ طبقاتٍ، فقالَ سُبْحَانَهُ: {ثُمَّ
أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبادِنَا فَمِنْهُمْ
ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمُ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ
بِالخَيْرَاتِ بإِذْنِ اللهِ}.
فالسَّابقونَ بالخيراتِ همُ الَّذينَ أدَّوا الواجباتِ والمُسْتَحَبَّاتِ
وتَرَكُوا المُحَرَّماتِ والمَكْرُوهَاتِ، وهؤلاءِ همُ المُقَرَّبُونَ.
والمُقْتَصِدُونَ: هُمُ الَّذينَ اقْتَصَرُوا على أَدَاءِ الواجباتِ وتَرْكِ المحرَّمَاتِ.
والظَّالِمُونَ لأنفُسِهِمْ: هُمُ الَّذينَ اجْتَرَؤُوا على بعضِ
المحرَّماتِ وقَصَّروا بِبَعْضِ الواجباتِ مَعَ بقاءِ أَصْلِ الإِيمانِ
معهُمْ.
ومِنْ وُجُوهِ زِيَادَتِهِ وَنَقْصِهِ كذلكَ أنَّ المؤمنينَ مُتَفَاوِتُونَ
في عُلُومِ الإِيمانِ، فمِنْهُمْ مَنْ وَصَلَ إليهِ مِنْ تَفَاصِيلِهِ
وعَقَائِدِهِ خَيْرٌ كثيرٌ، فَازدادَ بهِ إيمانُهُ، وتمَّ يَقِينُهُ،
ومِنْهُمْ مَنْ هُوَ دونَ ذلكَ، حتَّى يَبْلُغَ الحالُ ببعضِهِمْ أنْ لا
يكونَ معهُ إلاَّ إيمانٌ إجماليٌّ لمْ يتَيَسَّرْ لهُ من التَّفاصيلِ شيءٌ،
وهوَ معَ ذلكَ مؤمِنٌ.
وكذلكَ هُمْ مُتَفَاوِتُونَ في كثيرٍ منْ أعمالِ القلوبِ والجوارِحِ، وكثرةِ الطَّاعاتِ وقِلَّتِهَا.
وأَمَّا مَنْ ذَهَبَ إلى أنَّ الإِيمانَ مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ بالقلْبِ،
وأنَّهُ غيرُ قابلٍ للزِّيادةِ أوِ النَّقْصِ؛ كمَا يُروى عن أبي حنيفةَ
وغيرِهِ؛ فهوَ مَحْجُوجٌ بِمَا ذكرنَا مِنَ الأدِلَّةِ، قالَ عليهِ
السَّلامُ: ((الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً؛
أَعْلاَهَا: قَوْلُ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ
الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ)).
(2) ومَعَ أنَّ
الإِيمانَ المُطْلَقَ مُرَكَّبٌ مِنَ الأقوالِ والأعمالِ والاعتقاداتِ؛ فهي
لَيْسَتْ كلَّهَا بِدَرَجَةٍ واحدَةٍ، بلِ العقائدُ أصلٌ في الإِيمانِ،
فمَنْ أنْكرَ شيئًا مِمَّا يجبُ اعتقادُهُ في اللهِ أوْ مَلاَئِكَتِهِ أوْ
كُتُبِهِ أوْ رُسُلِهِ أوِ اليومِ الآخِرِ أوْ مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ مِنَ
الدِّينِ بالضَّرورةِ؛ كَوُجُوبِ الصَّلاةِ، والزَّكاةِ، وحُرْمَةِ
الزِّنَا والقَتْلِ … إلخ؛ فهوَ كافِرٌ، قدْ خَرَجَ مِنَ الإِيمانِ بِهَذَا
الإِنكارِ).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ: صالح بن فوزان الفوزان
قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: (قولُه: (ومِن أصولِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ) أيْ القواعدُ التي بُنِيتْ عليها عقيدَتُهم (أنَّ الدِّينَ) هُوَ لغةً: الذُّلُّ والانقيادُ. وشَرْعاً: هُوَ ما أمَرَ اللَّهُ به (والإيمانَ) لغةً: التَّصدِيقُ، وشَرْعا: هُوَ ما ذَكَرَهُ الشَّيخُ بقولِه: (قولٌ وعملٌ: قولُ القلبِ واللِّسانِ، وعَملُ القلبِ واللِّسانِ والجوارِحِ)
هَذَا هُوَ تعريفُ الإيمانِ عندَ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ: أَنَّهُ قولٌ
وعملٌ. فالقولُ قِسمانِ: قولُ القلبِ وَهُوَ الاعتقادُ، وقولُ اللِّسانِ
وَهُوَ التكلُّمُ بكلمةِ الإسلامِ. والعَملُ قسمانِ: عملُ القلبِ وَهُوَ
نِيَّةٌ وإخلاصٌ، وعَملُ الجوارِحِ -أي الأعضاءِ- كالصَّلاةِ والحَجِّ
والجِهادِ.
والفَرْقُ بَيْنَ أقوالِ القلبِ وأعمالِه: أنَّ أقوالَه هِيَ العقائدُ التي
يَعترِفُ بها ويَعتقِدُها، وأمَّا أعمالُ القلبِ فهِيَ حرَكَتُه التي
يُحبُّها اللَّهُ ورسولُه، وهِيَ محبَّةُ الخيرِ وإرادتُه الجازمةُ،
وكراهيةُ الشرِّ والعَزْمُ على تَرْكِه، وأعمالُ القلبِ تَنْشأُ عنها
أعمالُ الجوارحِ وأقوالُ اللِّسانِ. ومِن ثَمَّ صارتْ أقوالُ اللِّسانِ
وأعمالُ الجوارحِ مِن الإيمانِ.
أقوالُ النَّاسِ في تعريفِ الإيمانِ
1- عندَ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ: أَنَّهُ اعتقادٌ بالقلبِ، ونُطقٌ باللِّسانِ، وعَملٌ بالأركانِ.
2- عند المُرجِئةِ: أَنَّهُ اعتقادٌ بالقلبِ، ونُطقٌ باللِّسانِ فقط.
3- عند الكرَّاميَّةِ: أَنَّهُ نُطقٌ باللِّسانِ فقط.
4- عند الجبريَّةِ: أَنَّهُ الاعترافُ بالقلبِ أو مجرَّدُ المعرفةِ في القلبِ.
5- عند المعتزِلةِ: أَنَّهُ اعتقادُ القلبِ ونُطقُ اللِّسانِ وعَملُ الجوارحِ.
والفَرْقُ بينهم أي المعتزلَِة وبَيْنَ أهلِ السُّنَّةِ: أنَّ مرتكِبَ
الكبيرةِ يُسلَبُ اسمَ الإيمانِ بالكلِّيَّةِ ويُخلَّدُ في النَّارِ عندهم.
وعند أهلِ السُّنَّةِ لا يُسلَبُ الإيمانَ بالكلِّيَّةِ بل هُوَ مؤمِنٌ
ناقصُ الإيمانِ ولا يُخلَّدُ في النَّارِ إذا دَخَلها. وكُلُّ هَذِهِ
أقوالٌ باطلةٌ، والحقُّ ما قاله أهلُ السُّنَّةِ والجَماعةِ لِأدلَّةٍ
كثيرةٍ.
وقولُه: (وأنَّ الإيمانَ يزيدُ بالطَّاعةِ ويَنقُصُ بالمعصيةِ)
أيْ: ومِن أصولِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ أنَّ الإيمانَ يتفاضَلُ
بالزِّيادةِ والنُّقصانِ، فتَزيدُه الطَّاعةُ ويَنقُصُ بالمعصيةِ. ويدلُّ
على ذَلِكَ أدلَّةٌ كثيرةٌ منها قولُه تعالى: {إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ
وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادتْهُمْ إِيمَاناً}
[الأنفال: 2]، وقولُه تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4]، وغيرُ ذَلِكَ مِن الأدلَّةِ.
وقولُه: (وهم مع ذَلِكَ لا يُكفِّرونَ أهلَ القِبلةِ بمُطلَقِ المعاصي والكبائرِ كما يَفعَلُه الخوارِجُ)
أيْ: وأهلُ السُّنَّةِ والجَماعةِ مع أنَّهم يَرَوْنَ أنَّ الأعمالَ
داخِلةٌ في مسمَّى الإيمانِ، وأَنَّهُ يزيدُ بالطَّاعةِ ويَنْقُصُ
بالمعصيةِ هم مع ذَلِكَ لا يَحكُمونَ بالكُفرِ على مَن يدَّعِي الإسلامَ
ويَستقبِلُ الكعبةَ بمُطْلقِ ارتكابِه المعاصِي التي هِيَ دونَ الشِّركِ
والكفرِ (كما يَفعَلُه الخوارِجُ) حَيْثُ قالوا مَن فَعَلَ كبيرةً فَهُوَ في الدُّنيا كافرٌ وفي الآخرةِ مُخلَّدٌ في النَّارِ لا يَخرُجُ منها.
فأهلُ السُّنَّةِ يَروْنَ (أنَّ الأُخوَّةَ الإيمانيَّةَ ثابتةٌ مع المعاصِي) فالعاصي أخٌ لنا في الإيمانِ، واستدلَّ الشَّيخُ على ذَلِكَ بقولِه تعالى في آيةِ القِصاصِ: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ}
المعنى أنَّ الجانِيَ إذا عَفَا عنه المَجْنِيُّ عليه أو وَلِيُّه عن
القِصاصِ ورَضِيَ بأخذِ المالِ في الدِّيَةِ فعلى مستحِقِّ المالِ أنْ
يطلُبَه بالمعروفِ مِن غيرِ عُنْفٍ وعلى مَن عليه المالُ أنْ يؤدِّيَه إليه
مِن غيرِ مماطَلةٍ. ووجهُ الاستدلالِ مِن الآيةِ: أَنَّهُ سمَّى القاتِلَ
أخاً للمَقتُولِ مع أنَّ القتلَ كبيرةٌ مِن كبائرِ الذُّنوبِ، ومع هَذَا لم
تَزَلْ معه الأخوَّةُ الإيمانيَّةُ.
واستدلَّ الشَّيخُ أيضا بقولِه تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}
الآيتَيْنِ، ووجْهُ الاستدلالِ مِن الآيتَيْنِ الكريمتَيْنِ أَنَّهُ
سَمَّاهُم مؤمِنينَ مع وُجودِ الاقتِتالِ والبَغْيِ بينهم، وسمَّاهُم إخوةً
للمؤمِنينَ بقولِه: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}.
ومعنى الآيةِ إجمالا: أَنَّهُ إذا تقاتَلَ فريقانِ مِن المُسلِمِينَ فعَلَى
المُسلِمِينَ أنْ يَسْعَوْا في الصُّلْحِ بينهم ويَدْعوهم إلى حُكمِ
اللَّهِ، فإنْ حصَلَ بعد ذَلِكَ التَّعدِّي مِن إحدى الطَّائفتَيْنِ على
الأُخرى ولم تَقْبَلِ الصُّلحَ كان على المُسلِمِينَ أنْ يُقاتِلوا هَذِهِ
الطَّائفةَ الباغِيةَ حتى تَرجِعَ إلى أمْرِ اللَّهِ وحُكمِه، فإنْ رجعتْ
تِلْكَ الطَّائفةُ عن بَغْيِها وأجابتْ الدَّعوةَ إلى كتابِ اللَّهِ
وحُكمِه فعلى المُسلِمِينَ أنْ يَعدِلوا بَيْنَ الطَّائفتَيْنِ في الحُكمِ،
ويَتحرَّوا الصَّوابَ المطابِقَ لحُكمِ اللَّهِ، ويأخُذوا على يدِ
الطَّائفةِ الظَّالِمةِ حتى تَخرُجَ مِن الظُّلمِ، وتؤدِّيَ ما يَجبُ عليها
للأخرى.
ثم أمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ المُسلِمِينَ أنْ يَعدِلوا في كُلِّ أمُورِهم
بعد أمْرهِم بهَذَا العَدلِ الخاصِّ بالطَّائفتَيْنِ المُقْتَتِلَتَيْنِ،
فقال: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} أي: اعْدِلوا إنَّ اللَّهَ يُحبُّ العادِلينَ. وقولُه تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}
جملةٌ مستأنَفةٌ مقرِّرةٌ لما قَبْلَها مِن الأمْرِ بالإصلاحِ. والمعنى
أنَّهم يَرجِعونَ إلى أمْرٍ واحدٍ هُوَ الإيمانُ فهم إخوةٌ في الدِّينِ {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} يعني كُلَّ مسلِمَيْنِ تخاصَما وتقاتَلا، و تخصيصُ الاثنيْنِ بالذِّكْرِ لإثباتِ وُجوبِ الإصلاحِ فيما فوقَهُما بطَريقِ الأَوْلى {وَاتَّقُوا اللَّهَ} في كُلِّ أمورِكم {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} بسببِ التَّقوَى).
الروضة الندية للشيخ: زيد بن
عبد العزيز بن فياض رحمه الله
قال الشيخ زيد بن عبد العزيز بن فياض (ت: 1416هـ): (الإِيمَانُ لُغَةً: التَّصْدِيقُ، وَمِنْهُ {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} أَيْ بِمُصَدِّقٍ لنَا.
وشرعاً: تَصْدِيقٌ خَاصٌّ. وَقَدْ تَنَوَّعَتْ عِبَارَاتُ السَّلَفِ فِيهِ،
فَتَارَةً يَقُولُونَ: هُوَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَنِيَّةٌ وَاتِّبَاعُ
السُّنَّةِ، وَتَارَةً يَقُولُونَ: قَوْلٌ بِاللِّسَانِ وَاعْتِقَادٌ
بِالجَنَانِ وَعَمَلٌ بِالجَوَارِحِ، وَتَارَةً يَقُولُونَ: هُوَ قَوْلٌ
وَعَمَلٌ وَنِيَّة ٌ، وَتَارَةً يَقُولُونَ: هُوَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ. وَكُلُّ
هَذَا صَحِيحٌ.
فَإِذَا قَالُوا: هُوَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِي القَوْلِ
قَوْلُ القَلْبِ وَاللسَانِ جميعاً. وَهَذَا هُوَ المَفْهُومُ مِن لفْظِ
القَوْلِ وَالكَلامِ وَنَحْوِ ذَلكَ إِذَا أُطْلِقَ. فَإِنَّ الذي عَلَيْهِ
السَّلَفُ وَالفُقَهَاءُ وَالجُمْهُورُ يَتَنَاوَلُ اللَّفْظَ وَالمَعْنَى
جميعاً.
فَمَنْ قَالَ مِن السَّلَفِ: الإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ، أَرَادَ قَوْلَ
القَلْبِ وَاللسَانِ وَعَمَلَ القَلْبِ وَالجَوَارِحِ، وَمَن أَرَادَ
الاعْتِقَادَ أَيْ: أَنَّ لفْظَ القَوْلِ لا يُفْهَمُ مِنْهُ إِلا القَوْلُ
الظَّاهِرُ أَوْ خَافَ ذَلكَ فَزَادَ الاعْتِقَادَ بِالقَلْبِ.
وَمَنْ قَالَ " قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَنِيَّةٌ قَالَ: القَوْلُ يَتَنَاوَلُ
الاعْتِقَادَ وَقَوْلَ اللسَانِ. وَأَمَّا العَمَلُ فَقدْ لا يُفْهَمُ
مِنْهُ النِّيَّةُ فَزَادُوا ذَلكَ.
وَمَن زَادَ اتِّبَاعَ السُّنَّةِ فَلأَنَّ ذَلكَ كُلَّهُ لا يَكُونُ
محبوباً للَّهِ إِلا بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَأُولَئِكَ لمْ يُرِيدُوا
كُلَّ قَوْلٍ وَعَمَلٍ إِنَّمَا أَرَادُوا ما كَانَ مشروعاً مِن
الأَقْوَالِ وَالأَعْمَالِ وَلَكِنْ كَانَ مَقْصُودُهُمُ الرَّدَّ عَلَى
المُرْجِئَةِ الذين جعَلُوهُ قولاً فَقَطْ فَقَالُوا: بَل هُوَ قَوْلٌ
وَعَمَلٌ.
وَالذين جعَلُوهُ أَرْبَعَةً فَسَّرُوْا مُرَادَهمْ كَمَا سُئِلَ سَهْلُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتَرِيُّ عَن الإِيمَانِ مَا هُوَ ؟ فَقَالَ:
قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَنِيَّةٌ وَسُنَّةٌ ؛ لأَنَّ الإِيمَانَ إِذَا كَانَ
قولاً بِلا عَمَلٍ فَهُوَ كُفْرٌ، وَإِذَا كَانَ قولاً وعملاً بِلا نِيَّةٍ
فَهُوَ نِفَاقٌ. وَإِذَا كَانَ قولاً وعملاً وَنِيَّةً بِلا سُنَّةٍ
فَهُوَ بِدْعَةٌ.
وَهُنَا أَصْلٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ حَقِيقَةَ الإِيمَانِ مُرَكَّبَةٌ مِن قَوْلٍ وَعَمَلٍ، وَالقَوْلُ قِسْمَانِ قَوْلُ القَلْبِ وَهُوَ الاعْتِقَادُ، وَقَوْلُ اللسَانِ وَهُوَ التَكلُّمُ بِكَلمَةِ الإِسْلامِ. وَالعَمَلُ قِسْمَانِ: عَمَلُ القَلْبِ وَهُوَ نِيَّةٌ وَإِخْلاصٌ. وَعَمَلٌ بِالجَوَارِحِ،
فَإِذَا زَالَتْ هَذِهِ الأَرْبَعَةُ زَالَ الإِيمَانُ بِكَمَالِهِ،
وَإِذَا زَالَ تَصْدِيقُ القَلْبِ لمْ تَنْفَعْ بَقِيَّةُ الأَجْزَاءِ.
فَإِنِّ تَصْدِيقَ القَلْبِ شَرْطٌ فِي اعْتِقَادِهَا وَكَوْنِهَا
نَافِعَةً. وَإِذَا زَالَ عَمَلُ القَلْبِ مَعَ اعْتِقَادِ المُصَدِّقِ
فَهَذَا مَوْضِعُ المَعْرَكَةِ بَيْنَ المُرْجِئَةِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ.
فَأَهْلُ السُّنَّةِ مُجْمِعُونَ عَلَى زَوَالِ الإِيمَانِ وَأَنَّهُ لا
يَنْفَعُ التَّصْدِيقُ مَعَ انْتِفَاءِ عَمَلِ القَلْبِ وَهُوَ مَحَبَّتُهُ
وَاعْتِقَادُهُ كَمَا لمْ يَنْفَعْ إِبْليسَ وَفِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ
وَاليَهُودَ وَالمُشْرِكِينَ الذين كَانُوا يَعْتَقِدُونَ صِدْقَ
الرَّسُولِ بَلْ وَيُقِرُّونَ بِهِ سرًّا وجهراً وَيَقُولُونَ: ليْسَ
بِكَاذِبٍ وَلَكِنْ لا نَتَّبِعُهُ وَلا نُؤْمِنُ بِهِ.
وَإِذَا كَانَ الإِيمَانُ يَزُولُ بِزَوَالِ عَمَلِ القَلْبِ فَغَيْرُ
مُسْتَنْكَرٍ أَنْ يَزُولَ بِزَوَالِ أَعْمَالِ الجَوَارِحِ وَلا سِيَّمَا
إِذَا كَانَ مَلْزُوماً لِعَدَمِ مَحَبَّةِ القَلْبِ وَانْقِيَادِهِ الذي
هُوَ مَلْزُومٌ لعَدَمِ التَّصْدِيقِ الجَازِمِ كَمَا تَقَدَّمَ
تَقْرِيرُهُ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ عَدَمُ طَاعَةِ الجَوَارِحِ.
وَيَلْزَمُ مِن عَدَمِ طَاعَتِهِ وَانْقِيَادِهِ عَدَمُ التَّصْدِيقِ
وَإِنَّمَا هُوَ التَّصْدِيقُ المُسْتَلْزِمُ للطَّاعَةِ وَالانْقِيَادِ.
وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ لفْظَ الإِيمَانِ حَيْثُ أُطْلِقَ فِي الكِتَابِ
وَالسُّنَّةِ دَخَلَ فِيهِ الأَعْمَالُ وَإِنَّمَا يُدَّعَى خُرُوجُهَا
مِنْهُ عِنْدَ التَّقْيِيدِ " فَإِذَا قُيِّدَ الإِيمَانُ فَقُرِنَ
بِالإِسْلامِ أَوْ بِالعَمَلِ الصَّالحِ فَإِنَّهُ قَدْ يُرَادُ بِهِ مَا
فِي القَلْبِ مِن الإِيمَانِ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ، وَهَلْ يُرَادُ بِهِ
أيضاً المَعْطُوفُ عَلَيْهِ وَيَكُونُ مِن بَابِ عَطْفِ الخَـاصِّ عَلَى
العَامِّ ؟ أَوْلاً يَكُونُ الاقْتِرَانُ داخلاً فِي مُسَمَّاهُ، بَلْ
يَكُونُ لازماً لهُ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ؟ أَوْ لا يَكُونُ
بعضاً وَلا لازماً ؟ هَذَا فِيهِ ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ للنَّاسِ. وَهَذَا
مَوْجُودٌ فِي عَامَّةِ الأَسْمَاءِ يَتَنَوَّعُ مُسَمَّاهُ بِالإِطْلاقِ
وَالتَّقْيِيدِ.
وَالإِيمَانُ أَصْلُهُ الإِيمَانُ الذي فِي القَلْبِ وَلا بُدَّ فِيهِ مِن شَيْئَيْنِ تَصْدِيقِ القَلْبِ وَإِقْرَارِهِ وَمَعْرِفَتِهِ
وَيُقَالُ لهَذَا: قَوْلُ القَلْبِ قَالَ الجُنَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ:
التَّوْحِيدُ قَوْلُ القَلْبِ، والتّوَكُلُّ عَمَلُ القَلْبِ. فَلا بُدَّ
فِيهِ مِن قَوْلِ القَلْبِ وَعَمَلِهِ ثُمَّ قَوْلِ البَدَنِ وَعَمَلِهِ
وَلا بُدَّ فِيهِ مِن عَمَلِ القَلْبِ مِثْلَ حُبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَخَشْيَةِ اللَّهِ وَحُبِّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَبُغْضِ
مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَإِخْلاصِ العَمَلِ للَّهِ وَحْدَهُ
وتوَكُلِّ القَلْبِ عَلَى اللَّهِ وَحْدَهُ وَغَيْرِ ذَلكَ مِن أَعْمَالِ
القُلُوبِ الَّتِي أَوْجَبَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَجَعَلَهَا مِن
الإِيمَانِ، ثُمَّ القَلْبُ هُوَ الأَصْلُ فَإِذَا كَانَ فِيهِ مَعْرِفَةٌ
وَإِرَادَةٌ سَرَى ذَلكَ إِلَى البَدَنِ بِالضَّرُورَةِ لا يُمْكِنُ أَنْ
يَتَخَلَّفُ البَدَنُ عَمَّا يُرِيدُ القَلْبُ فَإِذَا كَانَ صالحاً بِمَا
فِيهِ مِن الإِيمَانِ عِلْماً وعملاً قلْبِيًّا لزِمَ ضَرُورَةَ صَلاحِ
الجَسَدِ بِالقَوْلِ الظَّاهِرِ وَالعَمَلِ، فَالإِيمَانُ المُطْلَقُ كَمَا
قَالَ أَهْلُ الحَدِيثِ: قَوْلٌ وَعَمَلٌ، قَوْلٌ بَاطِنٌ وَظَاهِرٌ
وَعَمَلٌ بَاطِنٌ وَظَاهِرٌ. وَالظَّاهِرُ تَابِعٌ للْبَاطِنِ لازِمٌ لهُ،
فَمَتَى صَلَحَ البَاطِنُ صَلَحَ الظَّاهِرُ وَإِذَا فَسَدَ فَسَدَ.
وَمِن هُنَا يَظْهَرُ خَطَأُ قَوْلِ جَهْمٍ وَمَن اتَّبَعَهُ حَيْثُ
ظَنُّوا أَنَّ الإِيمَانَ مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ وَلَمْ يَجْعَلُوا
أَعْمَالَ القَلْبِ مِن الإِيمَانِ، فَالكُفْرُ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ وَاحِدٌ
وَهُوَ الجَهْلُ، وَالإِيمَانُ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَهُوَ العِلْمُ أَوْ
تَكْذِيبُ القَلْبِ وَتَصْدِيقُهُ فَإِنَّهُمْ مُتَنَازِعُونَ: هَلْ
تَصْدِيقُ القَلْبِ شَيْءٌ غَيْرُ العِلْمِ أَوْ هُوَ هُوَ ؟
وَهَذَا القَوْلُ مَعَ أَنَّهُ أَفْسَدُ قَوْلٍ قِيلَ فِي الإِيمَانِ،
فَقَدْ ذَهَبَ إِلَيْهِ كَثِيرٌ مِن أَهْلِ الكَلامِ مِن المُرْجِئَة.
وَقَدْ ذَكَرَ السَّلَفُ كَوَكِيعِ بْنِ الجَرَّاحِ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَبِي عُبَيْدَةَ وَغَيْرِهِمْ مَن يَقُولُ
بِهَذَا القَوْلِ، وَقَالُوا: فَإِبْلِيسَ كَافِرٌ بِنَصِّ القُـرْآنِ
وَإِنَّمَا كَفَـرَ بِاسْتِكْبَارِهِ وَامْتِنَاعِهِ عَن السُّجُـودِ
لآدَمَ لا لكَوْنِهِ كَذَّبَ خبراً وَكَذَلكَ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى: {وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا} وَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ لفِرْعَوْنَ: {لَقَدْ
عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَـؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ
بَصَآئِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُوراً} بَعْدَ قَوْلهِ: {وَلَقَدْ
آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ
إِذْ جَاءهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى
مَسْحُوراً} فَدَلَّ عَلَى أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ عالِماً بَأَنَّ
اللَّهَ أَنْزَلَ هَذِهِ الآيَاتِ وَهُوَ مِن أَكْبَرِ خَلْقِ اللَّهِ
عِناداً وبَغْياً لفَسَادِ إِرَادَتِهِ وَقَصْدِهِ لا لعَدَمِ عِلْمِهِ،
وَكَذَلكَ اليَهُودُ الذين قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ} وَكَذَلكَ كَثِيرٌ مِن المُشْرِكِينَ الذين قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ}.
" وَهَلْ يَسْتَلْزِمُ الإِسْلامُ الإِيمَانَ ؟ هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ،
وَالوَعْدُ الذي فِي القُرْآنِ بِالجَنَّةِ وَبِالنَّجَاةِ مِن العَذَابِ
وَإِنَّمَا هُوَ مُعَلَّقٌ بَاسِمِ الإِيمَانِ. وَأَمَّا اسْمُ الإِسْلامِ
مجرَّداً فَمَا عُلِّقَ بِهِ فِي القُرْآنِ دُخُولُ الجَنَّةِ لكِنْ
فَرَضَهُ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ دِينُهُ الذي لا يَقْبَلُ مِن أَحَدٍ سِوَاهُ،
وَبِالإِسْلامِ بَعَثَ اللَّهُ جَمِيعَ النَّبِيِّينَ.
وَحَقِيقَةُ الفَرْقِ: أنَّ الإِسْلامَ دِينٌ، وَالدِّينُ مَصْدَرُ دَانَ
يَدِينُ دِيْناً إِذَا خَضَعَ وَذَلَّ. وَدِينُ الإِسْلامِ الذي ارْتَضَاهُ
اللَّهُ وَبَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ هُوَ الاسْتِسْلامُ للَّهِ وَحْدَهُ.
وَأَصْلُهُ فِي القَلْبِ هُوَ الخُضُوعُ للَّهِ وَحْدَهُ بِعِبَادَتِهِ
وَحْدَهُ دُونَ مَا سِوَاهُ فَمَنْ عَبَدَهُ وَعَبَدَ مَعَهُ إلهاً آخَرَ
لمْ يَكُنْ مُسلماً، وَمَن لمْ يَعْبُدْهُ بَلْ اسْتَكْبَرَ عَن
عِبَادَتِهِ لمْ يَكُنْ مُسلماً. وَالإِسْلامُ هُوَ الاسْتِسْلاَمُ للَّهِ
وَهُوَ الخُضُوعُ لهُ وَالعُبُودِيَّةُ. هَكَذَا قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ:
أَسْلَمَ الرَّجُلُ إِذَا اسْتَسْلَمَ، فَالإِسْلامُ فِي الأَصْلِ مِن
بَابِ العَمَلِ عَمَلُ القَلْبِ وَالجَوَارِحِ.
وَأَمَّا الإِيمَانُ فَأَصْلُهُ تَصْدِيقٌ وَأَقْوَالٌ وَمَعْرِفَةٌ فَهُوَ
مِن بَابِ قَوْلِ القَلْبِ المُتَضَمِّنِ عَمَلَ القَلْبِ، وَالأَصْلُ
فِيهِ التَّصْدِيقُ، وَالعَمَلُ تَابِعٌ لهُ. فَلهَذَا فَسَّرَهُ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِيمَانِ القَلْبِ
وَبِخُضُوعِهِ.
وَهُوَ الإِيمَانُ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ
وَتَفْسِيرُ الإِسْلامِ بِالاسْتِسْلامِ مَخْصُوصٌ وَهُوَ المَبَانِي
الخَمْسُ وَهَكَذَا فِي سَائِرِ كَلامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يُفَسَّرُ الإِيمَانُ بِذَلكَ النَّوْعِ وَيُفَسَّرُ الإِسْلامَ
بِهَذَا.
وَذَاكَ النَّوْعُ أَعَلى وَكُلُّ مُؤْمِنٍ لا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُسلماً
فَإِنَّ الإِيمَانَ يَسْتَلْزِمُ الأَعْمَالَ وَلَيْسَ كُلُّ مُسْلمٍ
مؤمناً هَذَا الإِيمَانَ المُطْلَقَ؛ لأَنَّ الاسْتِسْلامَ للَّهِ
وَالعَمَلَ لا يَتَوَقَّفُ عَلَى هَذَا الإِيمَانِ الخَاصِّ. وَهَذَا
الفَرْقُ يَجِدُهُ الإِنْسَانُ مِن نَفْسِهِ وَيَعْرِفُهُ مِن غَيْرِهِ.
فَعَامَّةُ النَّاسِ إِذَا سَلَّمُوا بَعْدَ كُفْرٍ وَوُلِدُوا عَلَى
الإِسْلامِ والْتَزَمُوا شَرَائِعَهُ وَكَانُوا مِن أَهْلِ الطَّاعَةِ
للَّهِ وَرَسُولِهِ فَهُمْ مُسْلمُونَ وَمَعَهُمْ إِيمَانٌ مُجْمَلٌ
وَلَكِنْ حَقِيقَةُ الإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ إِنَّمَا يَحْصُلُ شَيْئاً
فشَيْئاً. إِنْ أَعْطَاهُمُ اللَّهُ ذَلكَ وَإِلا فَكَثِيرٌ مِن النَّاسِ
لا يَصِلُونَ لا إِلَى اليَقِينِ وَلا إِلَى الجِهَادِ وَلَوْ شُكِّكُوا
لشَكُّوا، وَلَوْ أُمِرُوا بِالجِهَادِ لَمَا جَاهَدُوا.
وَلَيْسُوا كفاراً وَلا مُنَافِقِينَ ليْسَ عِنْدَهُمْ مِن عِلْمِ القَلْبِ
وَمَعْرِفَتِهِ وَيَقِينِهِ مَا يَدْرَأُ الرَّيْبَ، وَلا عِنْدَهُمْ مِن
قُوَّةِ الحُبِّ للَّهِ وَلرَسُولِهِ مَا يُقَدِّمُونَهُ عَلَى الأَهْلِ
وَالمَالِ، وَهَؤُلاءِ إِنْ عُوفُوا مِن المِحْنَةِ وَمَاتُوا دَخَلُوا
الجَنَّةَ وَإِنِ ابْتُلُوا بِمَنْ يُورِدُ عَلَيْهِمْ شُبَهَاتٍ تُوجِبُ
رَيْبَهُمْ فَإِنْ لمْ يُنْعِمِ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِمَا يُزِيلُ
الرَّيْبَ وَإِلاَّ صَارُوا مُرْتَابِينَ وَانْتَقَلُوا إِلَى نَوْعٍ مِن
النِّفَاقِ وَكَذَلكَ إِذَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِمُ الجِهَادُ وَلَمْ
يُجَاهِدُوا كَانُوا مِن أَهْلِ الوَعِيدِ.
وَكُلُّ مَا تَقُولُهُ الخَوَارِجُ وَالمُرْجِئَةُ فِي مَعْنَى الإِيمَانِ
يُعْلَمُ بالاضْطِرَارِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ للرَّسُولِ وَيُعْلَمُ
بالاضْطِرَارِ أَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِن تَمَامِ الإِيمَانِ
وَأَنَّهُ لمْ يَكُنْ يَجْعَلُ كُلَّ مَن أَذْنَبَ ذَنْباً كافراً.
وَلَيْسَ لفْظُ الإِيمَـانِ مُرادفاً للتَّصْدِيقِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ
للْمُخْبِرِ إِذَا صَدَّقْتَهُ صَدَّقَهُ وَلا يُقَالُ: آمَنَهُ وَآمَنَ
بِهِ بَلْ يُقَالُ: آمَـنَ لهُ كَمَا قَالَ: {فَآمَنَ لهُ لُوطٌ} وَلا يُقَالُ: صَدَّقْتُ لهُ.
وَهَذَا بِخِلافِ لفْظِ الإِيمَانِ فَإِنَّهُ تَعَدَّى إِلَى الجَرِّ
بِاللاَّمِ دائماً لا يُقَالُ: آمَنْتُهُ قَطُّ وَإنَّمَا يُقَالُ: آمَنْتُ
لهُ كَمَا يُقَالُ: أَقْرَرْتُ فَكَانَ تَفْسِيرُهُ بِلَفْظِ الإِقْرَارِ
أَقْرَبَ مِن تَفْسِيرِهِ بِلَفْظِ التَّصْدِيقِ، مَعَ أَنَّ بَيْنَهُمَا
فرقاً وَلَيْسَ مُرادفاً للَفْظِ التَّصْدِيقِ فِي المَعْنَى فَإِنَّ كُلَّ
مُخْبِرٍ عَن مُشَاهَدَةٍ أَوْ غَيْبٍ يُقَالُ لهُ فِي اللُّغَةِ:
صَدَقْتَ، كَمَا يُقَالُ: كَذَبْتَ، فَمَنْ قَالَ: السَّمَاءُ فَوْقَنَا،
قِيلَ لهُ: صِدْقٌ، كَمَا يُقَالُ لهُ: كَذِبٌ.
وَأَمَّا لفْظُ الإِيمَانِ فَلا يُسْتَعْمَلُ إِلا فِي الخَبْرِ عَن
غَائِبٍ لمْ يُوجَدْ فِي الكَلامِ أَنَّ مَن أَخْبَرَ عَن مُشَاهَدَةٍ
كَقَوْلهِ طَلَعَتِ الشَّمْسُ وَغَرَبَتْ أَنْ يُقَالَ: آمَنَّا لهُ كَمَا
يُقَالُ: صَدَّقْنَاهُ. وَلهَذَا المُحَدِّثُونَ وَالشُّهُـودُ
وَنَحْوُهُمْ يُقَالُ: صَدَّقْنَاهُمْ، وَلا يُقَالُ: آمَنَّا لهُمْ؛
فَإِنَّ الإِيمَانَ مُشْتَقٌّ مِن الأَمْنِ، وَإِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي
خَبَرٍ يُؤْتَمَنُ عَلَيْهِ المُخْبِرُ كَالأَمْرِ الغَائِبِ الذي
يُؤْتَمَنُ عَلَيْهِ المُخْبِرُ.
وَلهَذَا لمْ يُوجَدْ قَطُّ فِي القُرْآنِ وَغَيْرِهِ لفَـظُ: آمَنَ لهُ
إِلا فِي هَذَا النَّوْعِ، وَالاثْنَانِ إِذَا اشْتَرَكَا فِي مَعْرِفَةِ
الشَّيْءِ يُقَالُ:صَدَّقَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، وَلا يُقَالُ: آمَنَ
لهُ؛ لأَنَّهُ لمْ يَكُنْ غائِباً عَن شَيْءٍ ائْتَمَنَهُ عَلَيْهِ.
فَاللَّفْظُ يَتَضَمَّنُ مَعَ التَّصْدِيقِ مَعْنَى الائْتِمَانِ
وَالأَمَانَةِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الاسْتِعْمَالُ والاشْتِقَاقُ،
وَلَفْظُ الإِيمَانِ فِي اللُّغَةِ لمْ يُقَابَلْ بِالتَّكْذِيبِ فَلا
يُقَالُ أَنْتَ مُؤْمِنٌ لهُ أَوْ مُكَذِّبٌ لهُ، بَل المَعْرُوفُ فِي
مُقَابَلَةِ الإِيمَانِ لفْظُ الكُفْرِ، يُقَالُ: هُوَ مُؤْمِنٌ أَوْ
كَافِرٌ، وَالكُفْرُ لا يَخْتَصُّ بِالتَّكْذِيبِ.
وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ أَكْثَرَ التَّنَازُعِ بَيْنَ
أَهْلِ السُّنَّةِ فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ هُوَ نِزَاعٌ لفْظِيٌّ.
وَإِلاَّ فَالقَائِلُونَ بِأَنَّ الإِيمَانَ قَوْلٌ مِن الفُقَهَاءِ:
كَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَهُوَ أَوَّلُ مَن قَالَ ذَلكَ وَمَنِ
اتَّبَعَهُ مِن أَهْلِ الكُوفَةِ وَغَيْرِهِمْ - مُتَّفِقُونَ مَعَ جَمِيعِ
عُلَمَاءِ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ أَصْحَابَ الذُّنُوبِ دَاخِلُونَ تَحْتَ
الذَّمِّ وَالوَعِيدِ. وَيَقُولُونَ أيضاً بِأَنَّ مِن أَهْلِ الكَبَائِرِ
مَن يَدْخُلُ النَّارَ كَمَا تَقُولُهُ الجَمَاعَةُ، وَالذين يَنْفُونَ
عَن الفَاسِقِ اسْمَ الإِيمَانِ مِن أَهْلِ السُّنَّةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى
أَنَّهُ لا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ فَلَيْسَ بَيْنَ فُقَهَاءِ المِلَّةِ
نِزَاعٌ فِي أَصْحَابِ الذُّنُوبِ إِذَا كَانُوا مُقِرِّينَ باطناً وظاهراً
بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَمَا تَوَاتَرَ عَنْهُ أَنَّهُمْ مِن أَهْلِ
الوَعِيدِ وَأَنَّهُ يَدْخُلُ النَّارَ مَن أَخْبَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ
بِدُخُولِهِ إِيَّاهَا وَلا يُخَلَّدُ مِنْهُمْ فِيهَا أَحَدٌ وَلا
يَكُونُونَ مُرْتَدِّينَ مُبَاحِي الدِّمَاءِ، وَلَكِنْ إِلا قَوْلَ
المُنْحَرِفَةِ قَوْلَ مَن يَقُولُ بِتَخْليدِهِمْ فِي النَّارِ
كَالخَوَارِجِ وَالمُعْتَزِلَةِ وَقَوْلَ غُلاةِ المُرْجِئَةِ الذين
يَقُولُونَ: مَا نَعْلَمُ أَنَّ أحداً مِنْهُمْ يَدْخُلُ النَّارَ بَلْ
نَقِفُ فِي هَذَا كُلِّهِ. وَحُكِيَ عَن بَعْضِ غُلاةِ المُرْجِئَةِ
الجَزْمُ بِالنَّفْيِ العَامِّ.
وَيُقَالُ للْخَوَارِجِ: الذي نَفىَ عَن السَّارِقِ وَالزَّانِي
وَالشَّارِبِ وَغَيْرِهِمُ الإِيمَانَ هُوَ لمْ يَجْعَلْهُمْ مُرْتَدِّينَ
عَن الإِسْلامِ بَل عَاقَبَ هَذَا بِالجَلْدِ وَهَذَا بِالقَطْعِ وَلَمْ
يَقْتُلْ أحداً إِلا الزَّانِيَ المُحْصَنَ، وَلَمْ يُقْتَلْ قَتْلَ
المُرْتَدِّ فَإِنَّ المُرْتَدَّ يُقْتَلُ بِالسَّيْفِ بَعْدَ
الاسْتِتَابَةِ وَهَذَا يُرْجَمُ بِالحِجَارَةِ بِلا اسْتِتَابَةٍ ،فَدَلَّ
عَلَى أَنَّهُ وَإِنْ نُفِيَ عَنْهُمُ الإِيمَانُ فَلَيْسُوا عِنْدَهُ
مُرْتَدِّينَ عَن الإِسْلامِ مَعَ ظُهُورِ ذُنُوبِهِمْ.
وَسَبَبُ الكَلامِ فِي مَسْأَلَةِ الإِيمَانِ تَنَازُعُ النَّاسِ هَلْ فِي
اللُّغَةِ أَسْمَاءٌ شَرْعِيَّةٌ نَقَلَهَا الشَّارِعُ عَن مُسَمَّاهَا فِي
اللُّغَةِ، أَوْ أَنَّهَا بَاقِيَةٌ فِي الشَّرْعِ عَلَى مَا كَانَتْ
عَلَيْهِ فِي اللُّغَةِ ؟. فَذَهَبَتِ الخَوَارِجُ وَالمُعْتَزِلَةُ إِلَى
أَنَّهَا مَنْقُولَةٌ. وَذَهَبَتِ المُرْجِئَةُ إِلَى أَنَّهَا بَاقِيَةٌ
عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي اللُّغَةِ،لكِنَّ الشَّارِعَ زَادَ فِي
أَحْكَامِهَا لا فِي مَعْنَى الأَسْمَاءِ، َقْصُودُهُمْ أَنَّ الإِيمَانَ
هُوَ مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ وَذَلكَ يَحْصُلُ بِالقَلْبِ وَاللسَانِ،
وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ إِلَى أَنَّ الشَّارِعَ تَصَرَّفَ فِيهَا
تَصَرُّفَ أَهْلِ العُرْفِ فَهِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللُّغَةِ مَجَازٌ
وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى عُرْفِ الشَّارِعِ حَقِيقَةٌ.
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الشَّارِعَ لمْ يَنْقُلْهَا وَلَمْ يُغَيِّرْهَا
لكِنْ اسْتَعْمَلَهَا مُقَيَّدَةً لا مُطْلَقَةً كَمَا يَسْتَعْمَلُ
نَظَائِرَهَا. وَالمَقْصُودُ أَنَّ مَن نَفَى عَنْهُ الرَّسُولُ اسْمَ
الإِيمَانِ وَالإِسْلامِ فَلا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَرَكَ بَعْضَ
الوَاجِبَاتِ وَإِنْ بَقِيَ بَعْضُهَا.
وَلهَذَا كَانَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ عَلَى أَنَّهُ
يَتَفَاضَلُ، وَجُمْهُورُهُمْ يَقُولُونَ: يَزِيدُ وَيَنْقُصُ. وَمِنْهُمْ
مَن يَقُولُ: يَزِيدُ وَلا يَنْقُصُ. وَقَدْ ثَبَتَ لَفْظُ الزِّيَادَةِ
وَالنُّقْصَانِ عَن الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُعْرَفْ فِيهِ مُخَالِفٌ مِن
الصَّحَابَةِ فَعَنْ عُمَيْرِ بْنِ حَبِيبٍ الخَطْمِيِّ قَالَ: الإِيمَانُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ قِيلَ: وَمَا زِيَادَتُهُ وَمَا نُقْصَانُهُ؟ قَالَ: إِذَا ذَكَرْنَا اللَّهُ وَحَمِدْنَاهُ وَسَبَّحْنَاهُ فَتِلْكَ زِيَادَتُهُ، وَإِذَا غَفَلْنَاهُ وَنَسِينَاهُ فَتِلْكَ نُقْصَانُهُ. وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: الإِيمَانُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ وَقَالَ: إنَّ
مِن فِقْهِ الرَّجُلِ أنْ يَتَعَاهَدَ إِيمَانَهُ وَمَا نَقَصَ منْهُ
وَمِن فِقْهِ العَبْدِ أنْ يَعْلَمَ أَيُزَادُ هُوَ أَمْ يَنْقُصُ؟ وَإِنَّ
مَنْ فِقْهِ الرَّجُلِ أَنْ يَعْلَمَ نَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ أَيْنَ
تَأْتِيهِ؟
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: الإِيمَانُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ. وَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِن الصَّحَابَةِ.
وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ أَثْبَتَهَا الصَّحَابَةُ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُزُولِ القُرْآنِ كُلِّهِ.
وَالزِّيَادَةُ قَدْ نَطَقَ بِهَا القُرْآنُ فِي عِدَّةِ آيَاتٍ كَقَوْلهِ: {إِنَّمَا
المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ
وَإِذَا تُليَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيْمَـاناً}
وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ إِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمُ الآيَاتُ أَيْ: وَقْتَ
تُلِيَتْ، ليْسَ هُوَ تَصْدِيقُهُمْ بِهَا عِنْدَ النُّزُولِ، وَقَالَ
تَعَالَى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ
النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً
وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} فَهَذِهِ الزِّيَادَةُ عِنْدَ تَخْوِيفِهِمْ بِالعَدُوِّ.
وَقَالَ: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ
فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا
الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ *
وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى
رِجْسِهِمْ}.
وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ ليْسَتْ مُجَرَّدَ التَّصْدِيقِ بَأَنَّ اللَّهَ
أَنْزَلَهَا، بَل زَادَتْهُمْ إيماناً بِحَسَبِ مُقْتَضَاهَا فَإِنْ
كَانَتْ أمراً بِالجِهَادِ أَوْ غَيْرِهِ ازْدَادُوا رَغْبَةً، وَإِنْ
كَانَتْ نهياً عَن شَيْءٍٍ انْتَهَوْا عَنْهُ فَكَرِهُوهُ. وَقَالَ: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُواْ إِيمَاناً} وَقَالَ: {ليَزْدَادُواْ إِيْمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} وَقَالَ: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} وَقَالَ: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى}.
قَوْلُهُ: (وَلا يُكَفِّرُونَ أَهْلَ القِبْلَةِ بِمُطْلَقِ المَعَاصِي وَالكَبَائِرِ...) إِلخ. فَالكَبَائِرُ دُونَ الكُفْرِ وَالشِّرْكِ لا يَخْرُجُ مُرْتَكِبُهَا مِن المِلَّةِ كَمَا قَالَ المُؤَلِّفُ (وَلا يَسْلُبُونَ الفَاسِقَ الْمِلِّيَّ) أَيِ: المُنْتَسِبَ للْمِلَّةِ الإِسْلامِيَّةِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ مَا يُوجِبُ رِدَّتَهُ.
(تداخل الشرح مع جزئية (أهل السنة لا يسلبون الفاسق الملي اسم الإيمان بالكلية ) ).
التنبيهات السنية للشيخ: عبد العزيز بن ناصر الرشيد رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): ( (فَصْلٌ:
ومِنْ أُصُولِ [ أَهْلِ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ ] أَنَّ الدِّينَ
والإِيْمانَ قَوْلٌ وعَمَلٌ، قَوْلُ القَلْبِ واللِّسانِ، وعَمَلُ القَلْبِ
واللِّسانِ والجَوَارِحِ. (1)
وأَنَّ الإِيْمانَ يَزيدُ بالطَّاعَةِ، ويَنْقُصُ بالمَعْصِيَةِ ). (2)
( وهُمْ مَعَ ذلكَ لا يُكَفِّرونَ أَهْلَ القِبْلَةِ بمُطْلَقِ المَعَاصِي والكَبائِرِ؛ كَمَا يَفْعَلُهُ الخَوَارِجُ. (3)
بلِ الأخُوَّةُ الإِيْمَانِيَّةُ ثابِتَةٌ مَعَ المَعَاصي؛ كَمَا قَالَ سُبْحانَهُ [ في آيةِ القِصاصِ ]: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيْهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالمَعْرُوفِ}. (4)
وقالَ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنينَ
اقْتَتَلُوا فأَصِلْحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُمَا عَلَى
الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ
فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ
اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطينَ. إِنَّمَا المُؤمِنُونَ إِخْوَةٌ فأَصْلِحُوا
بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}. (5) ).
الشرح:
قال الشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد (ت: 1408هـ): ( (1) فَصْلٌ
قولُه: (أنَّ الدِّينَ)
معناه لغةً: الذُّلُّ، يُقالُ دِنْتُه فَدانَ، أي أَذْلَلْتُه فَذَلَّ،
وشَرْعا: هُوَ ما أمَرَ اللَّهُ بهِ على أَلْسِنةِ رُسلِه، والإيمانُ لغةً:
التَّصدِيقُ كما قال تعالى: {وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا} أي بمُصدِّقٍ، وشَرْعا: الإيمانُ هُوَ ما ذكَرَه المصنِّفُ.
قال الشَّيخ تَقِيُّ الدِّينِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-:
لفظُ الإيمانِ إذا أُطلِقَ يُرادُ بِهِ ما يُرادُ بلفظِ البِرِّ وبِلَفْظِ
التَّقوى وبلفظِ الدِّينِ، فكُلُّ ما يُحِبُّه اللَّهُ ورسولُه يَدْخُلُ
في اسمِ الإيمانِ. انتهى.
وفي حديثِ جبريلَ: سَمَّى النَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- الإسلامَ والإيمانَ والإحسانَ دِينًا.
قولُه: (قولُ القلبِ) وهُوَ الاعتقادُ، كاعتقادِ ما أخبَرَ اللَّهُ بِهِ عَن نَفْسِه وأسمائِه وصفاتِه وأفعالِه وملائكتِه وكتُبِه ورُسلِه.
قولُه: (قولُ اللِّسانِ)
وهُوَ التَّكلُّمُ بالشَّهادَتَيْنِ، والقيامُ بذِكْرِه -سُبْحَانَهُ-
وتبليغِ أوامرِه والدَّعوةِ إليهِ والذَّبِّ عن دِينِه ونحوِ ذَلِكَ.
قولُه: (وعملُ القلبِ)
وهُوَ نِيَّتُه وإخلاصُه والتَّوكُّلُ والإنابَةُ والمحبَّةُ والانقيادُ
والخوفُ منه -سُبْحَانَهُ- والرَّجاءُ وإخلاصُ الدِّينِ له والصَّبْرُ
ونحوُ ذَلِكَ مِن أعمالِ القلوبِ.
قولُه: (وعَملُ اللِّسانِ والجوارحِ)
كالصَّلاةِ والحجِّ والجهادِ ونحوِ ذَلِكَ، فالإيمانُ عندَ أهلِ
السُّنَّةِ والجَماعَةِ هُوَ ما تَقدَّمَ أنَّه قولٌ واعتقادٌ، وحكى
الشَّافِعيُّ على ذَلِكَ إجماعَ الصَّحابةِ والتَّابِعينَ ومَن بَعْدَهم
ممَّن أدْرَكَهم، وأنْكَرَ السَّلَفُ على مَن أخرجَ الأعمالَ مِن الإيمانِ
إنكاراً شديداً.
روى اللاَّلَكائِيُّ بإسنادٍ صحيحٍ عن البخاريِّ قال: لقيتُ أكثرَ مِن ألْفِ رجُلٍ مِن العلماءِ بالأمصارِ، فما رأيتُ أحدًا منهم يختلِفُ في أَنَّ الإيمانَ قولٌ وعملٌ ويَزيدُ ويَنْقُصُ،
وقال الأوْزاعِيُّ: كان مَن مَضَى مِن السَّلَفِ لا يُفَرِّقُون بين العَملِ والإيمانِ،
وفي صحيحِ البخاريِّ أنَّ عمرَ بنَ عبدِ العزيزِ كتَبَ إلى عَدِيِّ بنِ عَدِيٍّ أنَّ
للإيمانِ فرائضَ وشرائعَ وحُدودًا وسُنناً، فمَن استكمَلَها فقد استكْمَلَ
الإيمانَ، ومَن لم يستكمِلْها لم يستكْمِل الإيمانَ، فإنْ أَعِشْ
فسأُبَيِّنُه لكم، وإنْ أَمُتْ فما أنا على صُحبتِكُم بحريصٍ،
وفي "الصَّحيحَيْنِ" عن ابن عبَّاسٍ -رضي اللَّهُ عنه- عن النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- أنَّه قال لوفْدِ عبدِ القَيْسِ: ((آمُرُكُمْ
بِأَرْبَعٍ: الإِيمَانُ باللَّهِ وَحْدَهُ، وَهَلْ تَدْرُونَ مَا
الإِيمَانُ باللَّهِ؟ شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَإِقَامُ
الصَّلاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ، وَأَنْ تُؤَدُّوا
الْخُمُسَ مِنَ الْمَغْنَمِ)). قال ابنُ
القيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: فيه أَنَّ الإيمانَ باللَّهِ هُوَ مجموعُ
هَذِهِ الخِصالِ مِن القولِ والعملِ، كما عَلِمَ ذَلِكَ أصحابُ رسولِ
اللَّهِ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- والتَّابِعون وتابِعُوهم، وعلى
ذَلِكَ ما يُقارِبُ مِن مائةِ دليلٍ مِن الكِتابِ والسُّنَّةِ. اهـ.
(2) قولُه: (وأنَّ الإيمانَ يَزيدُ بالطَّاعةِ ويَنقُصُ بالمعصيةِ) كما قال –سُبْحَانَهُ-: {لِيَزْدَادُواْ إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ}، وقال تعالى: {وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وتسليمًا} وقولُه –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَاناً أَحْسَنُهُمْ أَخْلاقًا))، وفي "الصَّحيحَيْنِ" مِن حديثِ أبي هريرةَ –رضي اللَّهُ عنه- أَنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((الإِيمَانُ
بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ
اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عن الطَّرِيقِ، وَالحَيَاءُ مِنَ
الإيمانِ)) وَلَفْظُهُ لِمُسْلِمٍ إلى غيرِ
ذَلِكَ من الأدِلَّةِ الدَّالَّةِ على أَنَّ الإيمانَ يَزيدُ ويَنْقُصُ،
وعلى أَنَّ المؤمنينَ يَتفاضَلون في الإيمانِ، فبعضُهم أكْملُ إيمانًا مِن
بعضٍ، كما قال -سُبْحَانَهُ وتعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذنِ اللَّهِ} فدَلَّتْ هَذِهِ الآيَةُ أَنَّ المؤمنينَ يَنْقسمون إلى ثلاثةِ أقسامٍ: سابِقون، ومُقتَصِدُونَ، وظالِمون لأنْفُسِهم،
فالسَّابِقُ إلى الخيراتِ: هُوَ الذي عَمِلَ الواجباتِ والمُسْتَحبَّاتِ، واجْتَنَبَ المحرَّماتِ والمكروهاتِ،
والمقتَصِدُ: هُوَ مَن اقتصَرَ على فِعلِ الواجباتِ واجتنابِ المحرَّماتِ،
والظَّالِمُ لنَفْسِه: هُوَ مَن أخلَّ ببعضِ الواجباتِ وانْتَهكَ بعضَ المحرَّماتِ، فكُلُّ واحدٍ مِن هَذِهِ الأقسامِ يُطلَقُ عليه أنَّه مؤمِنٌ.
أمَّا أصولُ الإيمانِ فسِتَّةٌ كما في حديثِ جبريلَ وهي: ((أَنْ تُؤْمِنَ باللَّهِ، وَمَلائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ، وَبِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ))، وفي الحديثِ المذكورِ جعلَ مراتِبَ الدِّينِ ثلاثةً:
الإيمانُ، والإسلامُ، والإحسانُ، فأَعْلاها الإحسانُ، ثم الإيمانُ، ثم الإسلامُ، فكُلُّ مُحْسنٍ مؤمِنٍ مُسلِمٌ ولا ينعَكِسُ، وكُلُّ مؤمنٍ مُسلِمٌ لا العكس،
فالمرتبةُ الأولى: الإسلامُ، وَهِيَ التي يَدخُلُ فيها الكافِرُ أوَّلَ ما يَتكلَّمُ بإسلامٍ،
وأعلى منها مرتبةً: الإيمانُ، لأَنَّ اللَّهَ نفى عمَّن ادَّعى الإيمانَ مِن أوَّلِ وهْلةٍ الإيمانَ، وأثْبَتَ لهم الإسلامَ، كما قال تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـكِن قُوُلُوا أَسْلَمْنَا}.
المرتبةُ الثَّالثةُ:
الإحسانُ، وَهِيَ أعْلَى مِن المرتبتَيْنِ الأُولَيَيْنِ، فقد يُنفى عن
الرَّجُلِ الإحسانُ ويُثبَتُ له الإيمانُ، ويُنفى عنه الإيمانُ ويُثبَتُ له
الإسلامُ، كما في حديثِ: ((لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وهُوَ مُؤْمِنٌ)) ولا يُخرِجُه عن مرتبةِ الإسلامِ إلاَّ الكفرُ باللَّهِ والشِّركُ المخُرِجُ عن المِلَّةِ.
وأمَّا المعاصي والكبائرِ كالزِّنا وشُربِ الخمرِ ونحوِ ذَلِكَ فلا يُخرِجُه عن دائرةِ الإسلامِ،
والإسلام
والإيمانِ إِذَا ذُكِرَا جميعًا، فإنَّ الإسلامَ يُفَسَّرُ بالانقيادِ
للأعمالِ الظَّاهرةِ، والإيمانُ يُفَسَّرُ بالأعمالِ الباطنةِ، كما فُرِّقَ
بينهما في حديثِ جبريلَ فقال: ((الإِسْلامُ
أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ
اللَّهِ، وَتُقِيمَ الصَّلاَةَ، وتُؤتِي الزَّكاةَ، وتَصُومَ رَمَضَانَ،
وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلاً، وَالإِيمَانُ
أَنْ تُؤْمِنَ باللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ،
وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ، وَبِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ)).
وروى الإمامُ أحمدُ مِن حديثِ أنسٍ -رضي اللَّهُ عنه- أَنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((الإِسْلامُ عَلانِيَةً، وَالإِيمَانُ بِالْقَلْبِ)) وهَذَا إِذَا ذُكِرَا معًا، أمَّا إِذَا أُفْرِدَ أحدُهما عن الآخَرِ كقولِه تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ}
فإنَّه يَدْخُلُ فيه الآخَرُ، فإِذَا أُفْرِدَ الإيمَانُ دَخَلَ فيه
الإسلامُ وبالعكس، ففيهما دلالةُ الاقترانِ والانفرادِ، كالفقيرِ والمسكينِ
ونحوِ ذَلِكَ.
(3) قولُه: (وهم مع ذَلِكَ لا يُكفِّرون) أي: لا يَنسِبونَهم للكفرِ ويَحْكمون عليهم به.
قولُه: (أهلَ القِبلةِ)
أي: مَن يدَّعِي الإسلامَ ويستقبِلُ الكعبةَ، وإنْ كان عليه ذُنوبٌ ومعاصٍ
عَدَا الشِّرْكَ باللَّهِ، والكفرَ المُخرِجَ عن المِلَّةِ الإسلاميَّةِ،
كما قال -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((مَنْ
صَلَّى صَلاتَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَهُوَ
الْمُسْلِمُ، لَهُ مَا لَنَا وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْنَا)) فَأَهْلُ السُّنَّةِ والجَماعَةِ لا يكفِّرون أهلَ القبلةِ بمطلَقِ المعاصي والكبائرِ، كما يَفعَلُه الخوارجُ والمعتزِلةُ،
فإنَّ
الخوارِجَ يقولون: مَن فَعلَ كبيرةً فَهُوَ في الدُّنْيَا كافرٌ وفي
الآخرةِ مُخَلَّدٌ في النَّارِ لا يَخرُجُ منها لا بشفاعةٍ ولا بغيرِ
شفاعةٍ،
والمعتزِلةُ
يقولون: مَن فَعلَ كبيرةً فهُوَ في الدُّنْيَا لا مُؤمِنٌ ولا كافرٌ، بل
في منـزلةٍ بين المنزِلَتَيْنِ، وفي الآخرةِ خالِدٌ مخلَّدٌ في النَّارِ،
كقول الخوارجِ،
وقابَلَتْهم
المُرْجِئةُ فقالوا: إنَّه لا يَضُرُّ مع الإيمانِ ذَنْبٌ كما لا يَنْفَعُ
مع الكفرِ طاعةٌ، وقالوا إِيمانُ أَفْسَقِ النَّاسِ كإيمانِ أبىِ بكرٍ
وعمرَ،
فالخوارِجُ والمعتزِلةُ غَلَوْا، والمُرْجِئةُ جَفَوْا، أولئكَ تعلَّقُوا بأحاديثِ الوعيدِ، وهؤلاء تعلَّقوا بأحاديثِ الوعدِ فقط،
وهَدَى
اللَّهُ أهلَ السُّنَّةِ والجَماعَةِ للقولِ الوسَطِ الذي تَدُلُّ عليه
أدِلَّةُ الكِتابِ والسُّنَّةِ، فقالوا: إنَّ الفاسِقَ لا يَخْرُجُ مِن
الإيمانِ بمجرَّدِ فِسقِه، ولا يخلَّدُ في النَّارِ في الآخرةِ، بل هُوَ
تحت مشيئةِ اللَّهِ إنْ عَفى عنه دخَلَ الجَنَّةَ مِن أوَّلِ وهْلةٍ، وإنْ
لم يَعْفُ عنه عُذِّبِ بقدْرِ ذُنوبِه، ثم دخَلَ الجَنَّةَ، فلا بدَّ له
مِن دخولِ الجَنَّةِ، فالعاصي مُعرَّضٌ لعقوبةِ اللَّهِ وعذابِه، قال
اللَّهُ تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ}
فَهِذِهِ الآيةُ صريحةٌ في أنَّ مَن مَاتَ غيَر مُشرِكٍ فهُوَ تحت مشيئةِ
اللَّهِ، ففيها الرَّدُّ على الخوارجِ المكفِّرينَ بالذُّنوبِ، وعلى
المُرْجِئةِ القائِلِينَ بأَنَّ الذُّنوبَ لا تَضُرُّ، وأَنَّ النَّاسَ في
الإيمانِ سواءٌ لا تفاضُلَ بينهم، وعن أنسٍ -رضي اللَّهُ عنه- قال: قال
رَسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((ثَلاثٌ
مِنْ أَصْلِ الإِيمَانِ: الْكَفُّ عَمَّنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ
اللَّهُ، لاَ نُكَفِّرُهُ بِذَنْبٍ، وَلاَ نُخْرِجُهُ مِن الإِسْلامِ
بِعَمَلٍ، وَالْجِهَادُ مَاضٍ مُنْذُ بَعَثَنِي اللَّهُ حَتَّى يُقَاتِلَ
آخِرُ أُمَّتِي الدَّجَّالَ، لاَ يُبْطِلُهُ جَوْرُ جَائِرٍ وَلاَ عَدْلُ
عَادِلٍ، وَالإِيمَانُ بِالأَقْدَارِ))، رَواهُ أَبُو دُاوُدَ، وفي الصَّحيحِ: ((يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَفِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ))،
فَفِيهِ دَلِيلٌ على زيادةِ الإيمانِ ونُقْصانِهِ، وعَلَى دُخولِ طائِفةٍ
مِن المُوحِّدينَ النَّارَ، وأنَّ الكبائرَ لا يُكفَّرُ فاعِلُها، ولا
يخلَّدُ في النَّارِ،
وقال البخاريُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: بابُ خوفِ المؤمنِ أنْ يَحبَطَ عَملُه وهُوَ لا يَشعُرُ،
قال إبراهيمُ التَّيميُّ: ما عَرَضْتُ قَوْلي على عَملِي إلاَّ خَشِيتُ أنْ أكونَ مُكذِّبا،
وقال ابنُ أبي مُلَيْكةَ: أَدْركْتُ
ثلاثين مِن أصحابِ النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- كُلُّهُمْ
يَخَافُ النِّفاقَ على نَفْسِه، ما منهم أَحدٌ يقول: إنَّه على إيمانِ
جبريلَ وميكائيلَ،
ويُذكَرُ عن الحسَنِ: ما خَافَه إلاَّ مؤمِنٌ ولا أَمِنَه إلاَّ منافِقٌ.
(4) قولُه: (بل الأُخوَّةُ الإيمانيَّةُ ثابتةٌ مع المعاصي)، كما قال تعالى في آيةِ القِصاصِ: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيْهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} فسمَّاه أخاً مع وُجودِ القَتْلِ منه، ففيهِ دليلٌ على أَنَّ العاصِيَ لا يَخرُجُ مِن الإيمانِ بمجرَّدِ الذُّنوبِ والمعاصي.
(5) قولُه: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنينَ اقْتَتَلُوا} الآيةَ. الطَّائفةُ: القِطعةُ مِن الشَّيءِ، ويُطلَقُ على الواحدِ فما فَوْقَه عندَ الجمهورِ.
وقولُه: {مِنَ المُؤْمِنينَ اقْتَتَلُوا}
فسمَّاهُمْ مُؤمِنينَ مع الاقتتالِ، وبهَذَا استدلَّ البخاريُّ وغيرُه على
أنَّه لا يَخرُجُ مِن الإيمانِ بالمعصيةِ، لا كما يقولُ الخوارِجُ
والمعتزِلةُ ومَن تابَعَهُم.
وفي صحيحِ البخاريِّ مِن حديثِ الحسَنِ عن أبي بكرةَ أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فَئِتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)) فكان كما قال -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- أصْلحَ اللَّهُ بين أهلِ الشَّامِ والعراقِ بعد الحروبِ الطَّويلةِ.
قولُه: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُمَا عَلَى الأُخْرَى} أي: تَعدَّتْ إحداهُما على الأخرى وَأَبَت الإجابةَ إلى حُكمِ كتابِ اللَّهِ، قولُه: {حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ}
أي: ترجِعَ إلى أمرِ اللَّهِ ورسولِه، وتَسمَعَ للحِقِّ وتُطيعَهُ، كما في
الصَّحيحِ عن أنسٍ أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال:
((انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِماً أَوْ مَظْلُوماً))، قلت:ُ يا رسولَ اللَّهِ، هَذَا نَصَرْتُه مظلومًا كَيْفَ أنْصُرُه ظالِما؟ قال: ((تَمْنَعُهُ مِنَ الظُّلْمِ، فذَلِكَ نَصْرُكَ إِيَّاهُ)).
قولُه: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطينَ}
فيه إثباتُ المحبَّةِ لِلَّهِ كما يَليقُ بجَلالِه وعظَمَتِه، وفيه فضلُ
الإصلاحِ بين النَّاسِ، وفيه مَدْحُ العَدْلِ والإنصافِ، وروى ابنُ أبي
حاتمٍ عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو -رضي اللَّهُ عنهما- عن النَّبيِّ -صلَّى
اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- أنَّه قال: ((الْمُقْسِطُونَ
عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الْعَرْشِ، الَّذِينَ
يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وُلُّوا))
رواه مسلمٌ والنَّسائيُّ، وفيه أنَّه لم يَخرُجوا بالبَغي مِن الإيمانِ،
وفيه أنَّه أوجَبَ قتالَهم وأنَّه أَسْقطَ عنهم التَّبِعةَ فيما أَتْلَفوه
في قِتالِهم، وفيه إجازةُ قِتالِ كُلِّ مَن مَنَع حقاًّ عليه، والأحاديثُ
بِذَلِكَ مشهورةٌ.
قولُه: {إِنَّمَا المُؤمِنُونَ إِخْوَةٌ}
أي: إخوةٌ في الدِّينِ، سمَّاهُم مؤمنين مع وجودِ الاقتتالِ بينهم،
وجَعلَهم إخوةً في الدِّينِ مع وجودِ الاقتتالِ بينهم، فدَلَّ على أنَّهم
لا يَخرُجونَ من الإيمانِ بالمعصيةِ.
قولُه: (والكبائرُ)
هي جمعُ كبيرةٍ، وَهِيَ الفِعلةُ القبيحةُ مِن الذُّنوبِ العظيمِ
أَمْرُها، والكبيرةُ كُلُّ معصيةٍ فيها حَدٌّ في الدُّنْيَا أو وعيدٌ في
الآخرةِ، وزاد شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَةَ: أو وَرَدَ فيها وعيدٌ يَنْفِي
إيمانا، أو لَعْنٌ أو غَضَبٌ ونحوُهما، في قولِه: والكبائرُ أشارةٌ إلى
أَنَّ الذُّنوبَ تَنقسِمُ إلى كبائرَ وصغائرَ، وهُوَ الصَّوابُ الذي
تَدُلُّ عليه الأدِلَّةُ.
وأمَّا عددُ الكبائرِ فعندَ سعيدِ بنِ جبيرٍ -رضي اللَّهُ عنه- قال: قال رجُلٌ لابنِ عبَّاسٍ: الكبائرُ سبعٌ، فقال ابنُ عبَّاسٍ: هي إلى السَّبْعِمِائةِ أَقربُ منها إلى السَّبْعِ، غير أنَّه لا كبيرةَ مع استغفارٍ ولا صغيرةَ مع إصرارٍ،
وقد أَوْصلَها عُلماؤنا إلى أكثرَ مِن السَّبعِين؛ كما في الإقناعِ، قال
في شَرحِ الطَّحاويَّةِ: وقد يَقْتَرِنُ بالصَّغِيرةِ مِن قلَّةِ الحياءِ
وعَدمِ المبالاةِ وتَركِ الخوفِ ما يُلحِقُها بالكبائرِ، وقد يَقترِنُ
بالكبيرةِ مِن الحياءِ والخوفِ والوَجَلِ ما يُلحِقُها بالصَّغائرِ، وهَذَا
أمْرٌ مَرْجِعُه إلى ما يقومُ بالقَلْبِ، وقد يُعْفَى لصاحِبِ الإحسانِ
العظيمِ ما لا يُعْفَى لغيرِه، فإنَّ فاعِلَ السَّيِّئاتِ تَسْقطُ عنه
عُقوبةُ جَهنَّمَ بنحوِ عشَرةِ أسبابٍ، عُرِفَتْ بالاستقراءِ مِن الكِتابِ والسُّنَّةِ:
الأوَّل: التَّوبةُ،
الثَّاني: الاستغفارُ،
الثَّالِثُ: الحسناتُ الماحيةُ،
الرَّابعُ: المصائِبُ الدُّنْيَويَّةُ،
الخامِسُ: عذابُ القبرِ،
السَّادِسُ: دُعاءُ المؤمنينَ واستغفارُهم،
السَّابِعُ: ما يُهْدَى إليه بعد الموتِ مِن ثوابِ صدقَةٍ أو قراءةٍ أوحَجٍّ ونحوِ ذَلِكَ،
الثَّامنُ: أهوالُ يومِ القِيامَةِ وشدائِدُه،
التَّاسِعُ: ما ثَبَتَ أَنَّ المؤمنين إذا عَبَروا الصِّراطَ وُقِفوا على قَنطَرةٍ بينَ الجَنَّةِ والنَّارِ ليُقْتَصَّ لبعضِهم مِن بعضٍ،
العاشِرُ: شفاعةُ الشَّافِعِينَ،
الحادي عَشَرَ: عَفْو أرحمِ الراحمينَ مِن غيرِ شفاعةٍ كما تَقَدَّمَ. انتهى. باختصارٍ.
إذا عُرِفَ ما تقدَّمَ فينبغي أنْ يكونَ المؤمنُ
خائفًا راجياً، ويكونُ خَوفُه ورجاؤه سَواءً، فإنَّه إذا رَجَحَ الخوفُ
حَمَلَهُ على القُنوطِ مِن رحمةِ اللَّهِ، وإذا رَجَحَ الرَّجاءُ حَمَلَه
على الأمْنِ مِن مَكْرِ اللَّهِ، وكِلاهما مِن كبائرِ الذُّنوبِ).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (فَصْلٌ فِي الإِيِمَانِ
((فَصْلٌ: وَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَماعَةِ أنَّ الدِّينَ وَالإيمانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ)) (1)
قَوْلُ القَلْبِ وَاللِّسانِ، وَعَمَلُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ
وَالجوَارِحِ وأنَّ الإيمَانَ يَزيدُ بالطَّاعَةِ وَينقُصُ بالمعصيَّةِ
وهُمْ معَ ذَلِكَ لا يُكَفِّرُونَ أَهْلَ القِبْلَةِ بُمطْلَقِ المعَاصِي وَالْكَبَائرِ
كَما يَفْعَلهُ الخَوَارِجُ. بَلْ الأخوَّةُ الإيمانيَّةُ ثَابتَةُ مع
المعَاصِي كما قالَ سبحانَهُ في آيةِ القصَاصِ: ((فَمَنْ عُفيَ لهُ من
أخيهِ شيءٌ فاتباعٌ بالمعروفِ)) وقال: (وَإن طَائفتانِ من المؤمنينَ
اقتَتَلوُا فأصْلحُوا بينَهُمَا فإنْ بَغتْ إِحْدَاهُما على الأخْرَى
فقاتِلوا التي تبِغي حتى تفِيء إلى أمْرِ اللهِ، فإن فَاءَتْ فأصلِحُوا
بينهُمَا بالعَدْلِ وأقسِطوا إِنَّ الله يُحبُّ المُقْسطينَ. إنَّما
المؤْمِنُونَ إخْوَةُ فَأَصْلِحُوا بينَ أخَوَيْكُمْ) ).
الشرح:
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): ( (1) ((الدِّينُ)): هُوَ مَا يُدَانُ بِهِ الإِنْسَانُ، أَوْ يُدِينُ بِهِ؛ فَيُطْلَقُ عَلَى العَمَلِ وَيُطْلَقُ عَلَى الجَزَاءِِ:
فَفِي قَوْلِهِ تَعالَى: (ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ
مَا يَوْمُ الدِّينِ، يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً
وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ) [الانْفِطَار: 18-19]؛ فَالمُرَادُ
بِالدِّينِ فِي هَذِهِ الآيةِ: الجَزَاءُ.
وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً) [المَائِدَة: 3]؛ أيْ: عَمَلاً تَتَقَرَّبُونَ بِهِ إِلَى اللهِ.
ويُقَالَ: كَمَا تَدِينُ تَُدَانُ؛ أَيْ: كَمَا تَعْمَلُ تجُازَى.
وَالمُرَادُ بِالدِّينِ فِي كَلَامِ المُؤلِّفِ: العَمَلُ.
وَأمَّا ((الإيمَانُ))؛ فَأَكْثَرُ أَهْلِ العِلْمِ يَقُولُونَ: إنَّ الِإيمَانَ فِي اللُّغَةِ التَّصْدِيقُ.
وَلَكِنْ فَي هَذَا نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الكَلِمَةَ
إِذَا كَانََتْ بِمَعْنَى الكَلِمَةِ؛ فَإِنَّهَا تَتَعَدَّى
بِتَعدِيَتِهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّصْدِيقَ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ،
وَالإِيمَانُ لَا يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ؛ فَتَقُولُ مَثَلًا: صَدَّقْتُهُ،
وَلَا تَقُولُ: آمَنْتُهُ! بَلْ تَقُولُ: آمَنْتُ بِهِ. أَوْ آمَنْتُ لَهُ.
فَلَا يُمْكِنُ أَنْ نُفَسِّرَ فِعْلاً لَازِماً لَا يَتَعَدَّى إِلَّا
بِحَرْفِ الجَرِّ بِفِعْلٍ مُتَعَدٍّ يَنْصِبُ المَفْعُولَ بِهِ
بِنَفْسِهِ، ثُمَّ إنَّ كَلِمَةَ (صَدَّقْتُ) لَا تُعْطِي مَعْنَى كَلِمَةِ
(آمَنْتُ)؛ فَإِنَّ (آمَنْتُ) تَدُلُّ عَلَى طُمَأنِينَتِهِ بخَبَرِهِ
أَكْثَرَ مِنْ (صَدَّقْتُ).
وَلِهَذَا لَوْ فُسِّرَ الإيمَانُ بِالإِقْرَارِ
لَكَانَ أَجْوَدَ؛ فَنَقُولُ: الإيمَانُ: الِإقْرَارُ، وَلَا إِقْرَارَ
إِلَّا بِتَصْدِيقٍ؛ فَتَقُولُ: أَقَرَّ بِهِ؛ كَمَا تَقُولُ: آمَنَ بِهِ،
وَأَقرَّ لَهُ؛ كَمَا تَقُولُ: آمَنَ لَهُ.
هَذَا فِي اللُّغةِ.
وَأمَّا في الشَّرْعِ؛ فَقَالَ المُؤلِّفُ: ((قَوْلٌ وَعَمَلٌ)).
وَهَذَا تَعْرِيفٌ مُجْمَلٌ فَصَّلَهُ المُؤلِّفُ
بِقَولِهِ: ((قَوْلُ القَلْبِ وَاللِّسانِ، وَعَمَلُ القَلْبِ وَاللِّسانِ
وَالجَوَارِحِ)).
فجَعَلَ المؤلِّفُ لِلقلبِ قَوْلاً وَعَمَلاً، وَجَعَلَ لِلِّسَانِ قَوْلاً وَعَمَلاً.
-أمَّا قَوْلُ اللِّسانِ؛ فَالأَمْرُ فِيهِ
وَاضِحٌ، وَهُوَ النُّطْقُ، وَأمَّا عَمَلُهُ؛ فَحَرَكَاتُهُ، وَلَيْسَتْ
هِي النُّطْقُ، بَلِ النُّطْقُ نَاشِئٌ عَنْها إنْ سَلِمَتْ مِن الخَرَسِ.
-وَأمَّا قَوْلُ القَلْبِ؛ فَهُوَ اعْتِرَافُهُ
وَتَصْدِيقُهُ. وَأمَّا عَمَلُهُ؛ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ تَحَرُّكِهِ
وَإرَادَتِهِ؛ مِثْلَ الإِخْلَاصِ في العَمَلِ؛ فَهَذا عَمَلُ قَلْبٍ،
وَكَذَلِكَ التَّوَكُّلُ وَالرَّجَاءُ وَالخَوْفُ؛ فَالعَمَلُ لَيْسَ
مُجَرَّدَ الطُمَأنِينَةِ فِي القَلْبِِ، بَلْ هُناكَ حَرَكَةٌ في
القَلْبِ.
-وَأمَّا عَمَلُ الجَوَارِحِ؛ فَوَاضِحٌ؛
رُكُوعٌ، وَسُجُودٌ، وَقِيَامٌ، وَقُعُودٌ، فَيَكُونُ عَمَلُ الجَوَارِحِ
إيمَاناً شَرْعاً؛ لِأَنَّ الحَامِلَ لِهَذَا العَمَلِ هُوَ الإيمَانُ.
فَإِذَا قَالَ قَائِلٌ: أَيْنَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الإيمَانَ يَشْمَلُ هَذِهِ الأَشْيَاءَ ؟
قُلْنَا: قَالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: ((الإِيمَانُ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ
وَرُسُلِهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ))؛ فَهَذَا
قَوْلُ القَلْبِ. أمَّا عَمَلُ القَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالجَوَارِحِ؛
فَدَلِيلُهُ قَوْلُ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً: أَعْلاهَا: قَوْلُ: لَا إِلَهَ
إِلَّا اللهُ، وَأَدْنَاهَا: إِمَاطَةُ الأَذَى عَن الطَّرِيقِ،
وَالحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِن الإِيمَانِ))؛ فَهَذَا قَوْلُ اللِّسانِ
وَعَمَلُه وَعَمَلُ الجَوَارِحِ، وَالحَيَاءُ عَمَلٌ قَلْبِيٌّ، وَهُوَ
انْكِسَارٌ يُصِيبُ الإِنْسَانَ وَيَعْتَرِيهِ عِنْدَ وُجُودِ مَا
يَسْتَلْزِمُ الحَيَاءَ.
فَتَبيَّنَ بِهَذَا أنَّ الإيمَانَ يَشْمَلُ هَذِهِ الأَشْيَاءَ كُلَّهَا شَرْعاً.
وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَيْضاً قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) [البَقَرَة: 143]؛ قَالَ
المُفَسِّرُونَ: أيْ: صَلاتَكُمْ إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ؛ فَسَمَّى اللهُ
تَعالَى الصَّلاةَ إيمَاناً؛ مَعَ أنَّهَا عَمَلُ جَوَارِحٍ وَعَمَلُ
قَلْبٍ وَقَوْلُ لِسَانٍ.
هَذَا هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ.
وَشُمُولُهُ لِهَذِهِ الأَشْيَاءِ الأَرْبَعَةِ
لَا يَعْنِي أنَّهُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِهَا، بَلْ قَدْ يَكُونُ
الإِنْسَانُ مُؤمِناً مَعَ تَخَلُّفِ بَعْضِ الأَعْمَالِ، لَكِنَّهُ
يَنْقُصُ إيمَانُهُ بِقَدْرِ مَا نَقَصَ مِنْ عَمَلِهِ.
وَخَالَفَ أَهْلَ السُّنَّةِ فِي هَذَا طَائِفَتَانِ بِدْعِيَّتَانِ مُتَطَرِّفََتَانِ:
الطَّائِفَةُ الأُولَى: المُرْجِئَةُ:
يَقُولُونَ: إنَّ الإِيمَانَ هُوَ الإِقْرَارُ بِالقَلْبِ، وَمَا عَدَا
ذَلِكَ؛ فلَيْسَ مِن الإيمَانِ!!
وَلِهَذَا كَانَ الِإيمَانُ لَا يَزِيدُ وَلَا
يَنْقُصُ عِنْدَهُمْ؛ لِأَنَّهُ إِقْرَارُ القَلْبِ، وَالنَّاسُ فِيهِ
سَواءٌ؛ فَالإِنْسَانُ الَّذِي يَعْبُدُ اللهَ آنَاءَ اللَّيلِ
وَالنَّهَارِ كَالَّذِي يَعْصِي اللهَ آناءَ اللَّيلِ وَالنَّهَارِ
عِنْدَهُمْ، مَا دَامَتْ مَعْصِيَتُهُ لَا تُخْرِجُهُ مِنَ الدِّينِ!!
فَلَوْ وَجَدْنا رَجُلاً يَزْنِِي وَيَسْرِقُ
وَيَشْرَبُ الخَمْرَ وَيَعْتَدِي عَلَى النَّاسِ، وَرَجُلاً آخَرَ
مُتَّقِيّاً للهِ بَعِيداً عَن هَذِهِ الأَشْياءِ كُلِّهَا؛ لَكَانَا
عِنْدَ المُرْجِئَةِ فِي الإيمَانِ وَالرَّجَاءِ سَوَاءً؛ كُلٌّ مِنْهُمَا
لَا يُعذَّبُ؛ لِأَنَّ الأَعْمَالَ غَيْرُ داَخِلَةٍ فِي مُسمَّى
الإيمَانِ.
الطَّائِفَةُ الثَّانيةُ: الخَوَارِجُ
وَالمُعْتَزِلَةُ؛ قَالُوا: إِنَّ الأَعْمَالَ دَاخِلَةٌ فِي مُسمَّى
الإِيمَانِ، وَأنَّهَا شَرْطٌ فِي بَقَائِهِ، فَمَنْ فَعَلَ مَعْصِيَتَهُ
مِن الكَبَائِرِ خَرَجَ مِنَ الإيمَانِ. لَكِنَّ الخَوَارِجَ يَقُولُونَ:
إنَّهُ كَافِرٌ، وَالمُعْتَزِلَةُ يَقُولُونَ: هُوَ في مَنْزِلَةٍ بَيْنَ
مَنْزِلَتَيْنِ؛ فَلَا نَقُولُ: مُؤمِنٌ، وَلَا نَقُولُ: كَافِرٌ، بَلْ
نَقُولُ: خَرَجَ مِنَ الإيمَانِ، وَلَمْ يَدْخُلْ في الكُفْرِ، وَصَارَ فِي
مَنْزِلَةٍ بَيْنَ مَنْزِلَتَيْنِ.
هَذِهِ أَقْوَالُ النَّاسِ في الإيمَانِ.
قَوْلُهُ: ((وَأَنَّ الِإيمَانَ يَزيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالمَعْصِيَةِ)).
هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: ((أنَّ الدِّينَ
…)) إلخ؛ أيْ: أنَّ مِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ أنَّ
الإيمَانَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ.
وَيَسْتَدِلُّونَ لِذَلِكَ بِأَدِلَّةٍ مِن الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ:
فَمِنَ الكِتَابِ: قَوْلُهُ تَعالَى: (فَأمَّا
الَّذِينَ ءاَمَنُوا فَزَادَتهُمْ إِيماَناً وَهُمْ يَسْتَبشِِرُونَ)
[التَّوْبَة: 124]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (لِيَستَيقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الكِتاَبَ وَيَزدَادَ الَّذِينَ ءاَمَنُوا إِيماَناً)) [المُدَّثِّر: 31]،
وَهَذَا صَرِيحٌ فِي ثُبُوتِ الزِّيَادَةِ.
وَأمَّا النَّقْصُ؛ فَقَدْ ثَبَتَ في
((الصَّحِيحَيْنِ)) أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَظَ
النِّسَاءَ وَقَالَ لَهُنَ: ((مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ
وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ))؛
فَأَثْبَتَ نَقْصَ الدِّينِ.
ثُمَّ لَوْ فُرِضَ أنَّهُ لَمْ يُوجَدْ نَصٌّ فِي
ثُبُوتِ النَّقْصِ؛ فَإِنَّ إِثْبَاتَ الزِّيَادَةِ مُسْتَلْزِمٌ
لِلنَّقْصِ؛ فَنَقُولُ: كُلُّ نَصٍّ يَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ الإيمَانِ؛
فإنَّهُ مُتَضَمِّنٌ لِلدِّلَالَةِ عَلَى نَقْصِِهِ.
وَأَسْبَابُ زِيَادَةِ الإيمَانِ أَرْبَعَةٌ:
الأَوَّلُ: مَعْرِفَةُ اللهِ تَعَالَى
بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ؛ فَإِنَّهُ كُلَّمَا ازْدَادَ الإِنْسَانُ
مَعْرِفَةً بِاللهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ؛ ازْدَادَ إيمَانُهُ.
الثَّانِي: النَّظَرُ في آيَاتِ اللهِ الكَوْنِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ:
قَالَ اللهُ تَعَالَى: (أَفَلاَ يَنْظُرونَ إِلَى
الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإلى السَّماءِ كَيفَ رُفِعَتْ وَإِلَى
الجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) [الغَاشِيَة:
17 – 20].
وَقَالَ تَعَالَى: (قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِى
السَّماواتِ وَالأَرضِ وَمَا تُغنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَومٍ لَا
يُؤمِنُونَ) [يُونُس: 101].
وَكُلَّما ازْدَادَ الإِنْسَانُ عِلْماً بِمَا
أَوْدَعَ اللهُ تعالَى في الكَوْنِ مِن عَجَائِبِ المَخْلُوقَاتِ وَمِنَ
الحِكَمِ البَالِغَاتِ؛ ازْدَادَ إيمَاناً بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ،
وَكَذَلِكَ النَّظرُ في آيَاتِ اللهِ الشَّرعيَّةِ يَزِيدُ الإِنْسَانَ
إيمَاناً بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ لِأَنَّكَ إِذَا نَظَرْتَ إِلَى الآيَاتِ
الشَّرعيَّةِ، وَهِي الأحْكَامُ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الرُّسُلُ؛ وَجَدْتَ
فِيهَا مَا يُبْهِرُ العُقُولَ مِنَ الحِكَمِ البَالِغَةِ وَالأَسْرَارِ
العَظِيمَةِ الَّتِي تَعْرِفُ بِهَا أنَّ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ نَزَلَتْ
مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَأنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى العَدْلِ والرَّحْمَةِ،
فَتَزْدَادُ بِذَلِكَ إِيمَاناً.
الثَّالِثُ: كَثْرَةُ الطَّاعَاتِ
وَإِحْسَانِهَا؛ لِأنَّ الأَعْمَالَ دَاخِلةٌ فِي الإِيمَانِ، وَإِذَا
كَانَتْ دَاخِلَةٌ فِيهِ؛ لَزِمَ مِن ذَلِكَ أنْ يَزِيدَ بِكَثْرَتِهَا.
السَّبَبُ الرَّابعُ: تَرْكُ المَعْصِيَةِ
تَقَرُّباً إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ فَإِنَّ الإِنْسَانَ يَزْدَادُ
بِذَلِكَ إِيمَاناً بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ.
أَسْبَابُ نَقْصِ الإيمَانِ أَرْبَعَةٌ:
الأَوَّلُ: الإِعْرَاضُ عَن مَعْرِفَةِ اللهِ تَعَالَى وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ.
الثَّانِي: الإِعْرَاضُ عَن النَّظرِ في الآيَاتِ
الكَوْنِيَّةِ وَالشَّرعيَّةِ؛ فَإِنَّ هَذَا يُوجِبُ الغَفْلَةَ
وَقَسْوَةَ القَلْبِ.
الثَّالِثُ: قِلَّةُ العَمَلِ الصالِحِ،
وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
النِّسَاءِ: ((مَا رَأَيْتُ مِن نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ
لِلُبِّ الرَّجُلِ الحَازِمِ مِن إِحْدَاكُنَّ)). قَالُوا: يَا رَسُولَ
اللهِ! كَيْفَ نُقْصَانُ دِينِهَا؟ قَالَ: ((أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لَمْ
تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ؟)).
الرَّابِعُ: فِعْلُ المَعَاصِي؛ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: (كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ)
[المُطَفِّفِينَ: 14].
وَخَالَفَ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ فِي
القَوْلِ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ طَائِفَتَانِ: الطَّائِفَةُ
الأُولَى: المُرْجِئَةُ، وَالطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ: الخَوَارِجُ
وَالمُعْتَزِلَةُ.
الطَّائِفَةُ الأُولَى: المُرْجِئَةُ: قَالُوا:
إِنَّ الإِيمَانَ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ؛ لِأَنَّ الَأعْمَالَ
لَيْسَتْ مِن الإيمَانِ، حَتَّى يَزِيدَ بِزِيَادَتِهَا وَيَنْقُصُ
بِنُقْصَانِهَا؛ فَالإِيمَانُ هُوَ إِقْرَارُ القَلْبِ، وَالإِقْرَارُ لَا
يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ.
وَنَحْنُ نَرُدُّ عَلَيْهِمْ فَنَقُولُ:
أَوَّلاً: إِخْرَاجُكُم الأَعْمَالَ مِنَ
الإيمَانِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ فَإِنَّ الأَعْمَالَ دَاخِلَةٌ فِي الإيمَانِ،
وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ الدَّلِيلِ.
ثَانِياً: قَوٍلُكُمْ: إِنَّ الإِقْرَارَ
بِالقَلْبِ لَا يَخْتَلِفُ زَيَادَةً وَنَقْصاً: لَيْسَ بِصَحِيحٍ، بَل
الإِقْرَارُ بِالقَلْبِ يَتَفَاضَلُ؛ فَلَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ أَنْ
يَقُولَ: إِنَّ إِيمَانِي كَإِيمَانِ أَبِي بَكْرٍ!! بَلْ يَتَعَدَّى
وَيَقُولُ: إنَّ إيمَانِي كَإِيمَانِ الرَّسُولِ عَلَيهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ!!
ثُمَّ نَقُولُ: إِنَّ الإِقْرَارَ بِالقَلْبِِ
يَقْبَلُ التَّفَاضُلَ؛ فِإِقْرَارُ القَلْبِ بَخَبَرِ الوَاحِدِ لَيْسَ
كَإِقْرَارِهِ بِخَبَرِ اثنَيْنِ، وَإَقْرَارُهُ بِمَا سَمِعَ لَيْسَ
كَإِقْرَارِهِ بِمَا شَاهَدَ؛ أَلَمْ تَسْمَعُوا قَوْلَ إِبْرَاهيمَ:
(رَبِّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ المَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ
بَلَى وَلَكِنْ لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى) [البَقَرَة: 260]؛ فَهَذَا دَلِيلٌ
عَلَى أَنَّ الإيمَانَ الكَائِنَ فِي القَلْبِ يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ
وَالنَّقْصَ.
وَلِهَذَا قَسَّمَ العُلَمَاءُ دَرَجَاتِ
اليَقِينِ ثَلَاثةَ أقْسَامٍ: عِلْمُ اليَقِينِ، وَعَينُ اليَقِينِ،
وَحَقُّ اليَقِينِ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: (كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ
اليَقِينِ، لَتَرَوُنَّ الجَحِيمَ، ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ
اليَقِينِ) [التَّكَاثُر: 5-7]، وَقَالَ تَعَالَى: (وَإِنَّهُ لَحَقُّ
اليَقِينِ) [الحَاقَّة: 51].
الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ المُخَالِفَةُ
لِأَهْلِ السُّنَّةِ طَائِفَةُ الوَعِيدِيَّةِ، وُهُم الخَوَارِجُ
وَالمُعْتَزِلَةُ، وَسُمُّوا وَعِيدِيَّةً؛ لِأَنهَّمْ يَقُولُونَ
بِأَحْكَامِ الوَعِيدِ دُونَ أَحْكَامِ الوَعْدِ؛ أيْ: يُغَلِّبُونَ
نُصُوصَ الوَعِيدِ عَلَى نُصُوصِ الوَعْدِ، فَيُخْرِجُونَ فَاعِلَ
الكَبِيرَةِ مِن الإيمَانِ، لَكِنَّ الخَوَارِجَ يَقُولُونَ: إنَّهُ
خَارِجٌ مِن الإِيمَانِ دَاخِلٌ في الكُفْرِ، وَالمُعْتَزِلَةُ يَقُولُونَ:
خَارِجٌ مِن الإِيمَانِ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الكُفْرِ، بَلْ هُوَ فِي
مَنْزِلَةٍ بَيْنَ مَنْزِلََتَيْنِ.
وَمُنَاقَشَةُ هَاتَيْنَ الطَّائِفَتَينِ المُرْجِئَةِ وَالوَعِيدِيَّةِ فِي الكُتُبِ المُطَوَّلَاتِِ.
قَوْلُهُ: ((وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ))؛ أيْ: مَعَ قَوْلِهِمْ: إنَّ الإيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ.
((لَا يُكَفِّرُونَ أهْلَ القِبْلَةِ بِمُطْلَقِ المَعاصي وَالكَبَائِرِ)).
أَهْلُ القِبْلَةِ هُم المُسْلِمُونَ، وَإِنْ كَانُوا عُصَاةً؛ لِأَنَّهَمْ يَسْتَقْبِلُونَ قِبْلَةً وَاحِدَةً، وَهِي الكَعْبَةُ.
فَالمُسْلِمُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ لَا يُكَفَّرُ بِمُطْلَقِ المَعَاصِي وَالكَبَائِرِ.
وَتَأَمَّلْ قَوْلَ المؤلِّفِ: ((بِمُطْلَقِ
المَعَاصِي))، وَلَمْ يَقُلْ: بِالمَعَاصِي وَالكَبَائِرِ؛ لِأَنَّ
المَعَاصِي مِنْهَا مَا يَكُونُ كُفْراً، وَأَمَّا مُطلَقُ المَعْصِيَةِ؛
فَلَا يَكُونُ كُفْراً.
وَالفَرْقُ بَيْنَ الشَّيءِ المُطْلَقِ
وَمُطْلَقِ الشَّيءِ: أنَّ الشَّيءَ المُطْلَقَ يَعْنِي الكَمَالَ،
وَمُطْلَقَ الشَّيءِ؛ يَعْنِي: أَصْلَ الشَّيءِ.
فَالمُؤمِنُ الفَاعِلُ لِلكَبِيرَةِ عِنْدَهُ
مُطْلَقُ الإِيمَانِ؛ فَأَصْلُ الإيمَانِ مَوْجُودٌ عِنْدَهُ، لَكِنَّ
كَمَالَهُ مَفْقُودٌ.
فَكَلَامٌ المؤلِّفِ رَحِمَهُ اللهُ دَقِيقٌ جِدًّا.
قَولُهُ: ((كَمَا يَفْعَلُهُ الخَوَارِجُ))؛
يَعْنِي: الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ فَاعِلَ الكَبِيَرةِ كَافِرٌ،
وَلِهَذَا خَرَجُوا عَلَى المُسْلِمِينَ، وَاسْتَبَاحُوا دِمَاءَهُم
وَأَمْوَالَهُمْ.
قَوْلُه: ((بَلِ الأُخُوَّةُ الِإيمَانِيَّةُ
ثَابِتَةٌ مَعَ المَعَاصِي))؛ يَعْنِي: أَنَّ الأُخُوَّةَ بَيْنَ
المُؤمِنِينَ ثَابِتَةٌ! وَلَوْ مَعَ المَعْصِيَةِ؛ فَالزَّانِي أَخٌ
لِلعَفِيفِ، وَالسَّارِقُ أخٌ لِلمَسْرُوقِ مِنْهُ، وَالقَاتِلُ أَخٌ
لِلمَقْتُولِ.
ثُمَّ اسْتَدَلَّ المُؤلِفُ لِذَلِكَ فَقَالَ:
((كَمَا قَالَ سُبْحانَهُ في آيَةِ القِصاصِ: (فَمَن عُفِيَ لَهُ مِنْ
أَخِيهِ شَىْءٌ فَاتِّبَاعُ بِالمَعْرُوفِ) [البَقَرَة: 178])):
آيَةُ القِصَاصِ هِي قَوْلُهُ تَعَالَى:
(يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ فِى
القَتْلَى…) إلى قَوْلِهِ: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْءٌ…)
الآيَةُ، وَالمُرَادُ بـ (أََخِيهِ) هُوَ المَقْتولُ.
وَوَجْهُ الدِّلَالَةِ مِنْ هَذِهِ الآيَةِ عَلَى
أَنَّ فَاعِلَ الكَبِيرَةِ لَا يَكْفُرُ إِنَّ اللهَ سَمَّى المَقْتُولَ
أَخَاً لِلقَاتِلِ، مَعَ أَنَّ قَتْلَ المُؤمِنِ كبيرَةٌ مِن كَبَائِرِ
الذُّنُوبِ.
هَذَا دَلِيلٌ آخَرٌ لِقَولِ أَهْلِ السُّنَّةِ:
إِنَّ فَاعِلَ الكَبِيرَةِ لَا يَخْرُجُ مِن الإِيمَانِ ((وَقَالَ: (وَإِنْ
طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا
فَإِنْ بَغَتْ إِحْداَهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِى تَبْغِي
حتَّى تَفِىءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا
بِالعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ، إِنَّمَا
المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) [الحُجُرَات:
9-10])).
وَهَذَا دَلِيلٌ آخَرُ لِقَولِ أَهْلِ السُّنَّةِ: إِنَّ فَاعِلَ الكَبِيرَةِ لَا يَخْرُجُ مِن الِإيمَانِ.
(اقْتَتَلُواْ) جَمْعٌ، وَ(بَيْنَهُمَا)
مُثَنَّى، وَ(طَائِفَتَانِ) مُثَنَّى؛ فَكَيْفَ يَكُونُ مُثَنَّى وَجَمْعٌ
وَمُثَنَّى آخَرُ وَالمَرْجِعُ وَاحِدٌ؟!
نَقُولٌ: لِأَنَّ قَوْلَهُ: (طَائِفَتَانِ):
الطَّّائِفَةُ عَدَدٌ كَبِيرٌ مِن النَّاسِ، فَيَصِحُّ أَنْ أَقُولَ:
اقْتَتَلُوا، وَشَاهِدُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلْيَأْتِ طَائِفَةٌ
أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ) [النِّسَاء: 102]، وَلَمْ
يَقُلْ: لَمْ تُصَلِّ. فَالطَّائِفَةُ أُمَّةٌ وَجَمَاعَةٌ، وَلِهَذَا
عَادَ الضَّمِيرُ إِلَيْهَا جَمْعاً؛ فَيَكُونُ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ:
(اقْتَتَلُوا) عَائِداً إلى المَعْنَى، وَفِي قَوْلِهِ: (بَيْنَهُمَا)
عَائِداً إِلَى اللَّفْظِ.
فَهَاتَانِ الطَّائِفَتَانِ مِن المُؤمِنِينَ
اقْتَتَلُوا، وَحَمَلَ السِّلَاحَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَقِتَالُ
المُؤمِنِ لِلمُؤمِنِ كُفْرٌ، وَمَعَ هَذَا قَالَ اللهُ تَعَالَى بَعْدَ
أَنْ أَمَرَ بِالصُّلْحِ بَيْنَهُمَا لِلطَّائِفَةِ الثَّالِثَةِ الَّتِي
لَمْ تَدْخُل القِتَالَ: (فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى
فَقَاتِلُوا الَّتِى تَبْغِى حتَّى تَفِىءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ
فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ
يُحِبُّ المُقْسِطِينَ، إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحُجُرَات:
9-10]؛ فَجَعَل اللهُ تَعَالَى الطَّائِفَةَ المُصْلِحَةَ إِخْوةً
لِلطَّائِفَتَينِ المُقْتَتِلَتَينِ.
وَعَلَى هَذَا؛ فَفِي الآيةِ دَلِيلٌ عَلَى أنَّ الكَبَائِرَ لَا تُخْرِجُ مِن الإيمَانِ.
وَعَلَى هَذَا؛ لَوْ مَرَرْتَ بِصَاحِبِ
كَبِيرَةٍ؛ فَإِنِي أُسَلِّمُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ مِن حُقُوقِ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ:
((إِذَا لَقِيتَهُ؛ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ))، وَهَذَا الرَّجُلُ مَا زَالَ
مُسْلِماً، فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ؛ إِلَّا إِذَا كَانَ فَي هَجْرِهِ
مَصْلَحَةٌ؛ فَحِينَئذٍ أَهْجُرُهُ لِلمَصْلَحَةِ؛ كَمَا جَرَى لِكَعْبِ
بْنِ مَالِكٍ وَصَاحِبَيهِ الَّذِينِ تَخَلَّفُوا عَن غَزْوَةِ تَبُوكَ،
فَهَجَرَهُم المُسْلِمُونَ خَمْسِينَ لَيْلَةً حَتَّى تَابَ اللهُ
عَلَيْهِمْ.
وَهَلْ نُحِبُّهُ عَلَى سَبِيلِ الإِطْلَاقِ أَوْ نَكْرَهُهُ عَلَى سَبِيلِ الإِطْلَاقِ؟
نَقُولُ: لَا هَذَا وَلَا هَذَا نُحِبُّهُ بِمَا
مَعْهُ مِن الإيمَانِ، وَنَكْرَهُهُ بِمَا مَعَهُ مِن المَعَاصِي، وَهَذَا
هُوَ العَدْلُ).