11 Nov 2008
الإقرار بفضل الصحابة ومحبتهم وسلامة القلوب والألسنة تجاههم
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ : سَلاَمَةُ قُلُوبِِهِم وَأَلْسِنَتِهم لأَصْحَابِ محمد صلى الله عليه وسلم كَمَا وَصَفَهُم اللهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : {وَالَّذِينَ
جَاءُوا منْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا
وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي
قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُواْ رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [سُورَةُ الْحَشْرِ: 10] ، وَطَاعَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي قَوْلِهِ : ((لاَ
تَسُبُّوا أَصْحَابِي ؛ فَوالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ
أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثَْل أُحُدٍ ذَهَبًا ؛ مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ
، وَلاَ نَصِيفَهُ)).
وَيَقْبَلُونَ مَا جَاءَ بِهِ الكِتَابُ وَالسُّنةُ وَالإِجْمَاعُ مِنْ
فَضَائِلِهِمْ وَمَرَاتِبِهِمْ ، فَيُفَضِّلُونَ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ
الفَتْحِ -وَهُوَ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ- وَقَاتَل عَلَى مَنْ أَنْفَقَ
مِنْ بَعْدِهِ وَقَاتَلَ ، وَيُقَدِّمُونَ الْمُهَاجِرِينَ عَلَى
الأَنْصَارِ ، وَيُؤْمِنُونَ بِأَنَّ اللهَ تعالى قَالَ لأَهْلِ بَدْرٍ -
وَكَانُوا ثَلاَثمَِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ -: ((اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرتُ لَكُمْ))
، وَبِأَنَّهُ لاَ يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ،
كَمَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَلْ
قَدْ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ، وَكَانُوا أَكْثَرَ مِنْ
أَلْفٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ . وَيَشْهَدُونَ بِالْجَنَّةِ لِمَنْ شَهِدَ لَهُ
النبي صلى الله عليه وسلم كَالْعَشَرَةِ ، وَكثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ
شَمَّاسٍ ، وَغَيْرِهِمْ مِن الصَّحَابَةِ).
التنبيهات اللطيفة فيما احتوت عليه الواسطية من المباحث المنيفة لابن سعدي رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (ومِنْ أصولِ أهْلِ السُّنّةِ والجماعةِ سلامةُ قلوبهم وألسِنَتِهم لأصحاب رسولِ الله صلى الله عليه وسلم كما وصفهم الله في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ
جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا
وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي
قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ
رَّحِيمٌ}([1]) [الحشر: 10]، وطاعة النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (( لا تسبُّوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أُحُدٍ ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدِهم ولا نصيفَه)) ([2]).
ويقبلون ما جاء به الكتابُ والسُّنةُ والإجماعُ من فضائلهم ومراتبهم،
ويُفضِّلونَ من أنفق من قبل الفتْح -وهو صلحُ الحديبية- وقاتل على مَن
أنفقَ من بعدُ وقاتل([3])، ويُقدِّمونَ المهاجرين على الأنصار([4])، ويؤمنون بأن الله قال لأهل بدر وكانوا ثلاثمائةٍ وبضعةَ عَشَرَ: ((اعمَلوا ما شِئْتُمْ فقد غَفَرتُ لكم)) وبأنه لا يدخلُ النار أحدٌ بايع تحت الشجرةِ كما أخبر به النبيُّ صلى الله عليه وسلم. بل قد رضيَ الله عنْهم ورضوا عنه([5])،
وكانوا أكثر من ألفٍ وأربعمائة. ويشهدون بالجنّة لِمَنْ شهد له رسول الله
صلى الله عليه وسلم كالعشرة، وثابت بن قيس بن شماس. وغيرهم من الصحابة).
الشرح:
قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): ( ([1]) فصل:
ومِنْ أصولِ أهْلِ السُّنّةِ والجماعةِ سلامةُ قلوبهم وألسِنَتِهم لأصحاب
رسولِ الله صلى الله عليه وسلم كما وصفهم الله في قولهم تعالى: {وَالَّذِينَ
جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا
وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي
قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ
رَّحِيمٌ} وهذا الدعاء الصادر ممن اتبع المهاجرين والأنصار بإحسان
يدل على كمال محبتهم لأصحاب رسول الله، وثنائهم عليهم، لأن من سعى في أمر
من الأمور، فهو ساعٍ في تحقيقه، فاجتهد في طلبه متضرعاً لربه أن يتم ذلك
له، وأولى من دخل في هذا الدعاء الصحابة الذين سبقوا إلى الإيمان وحققوه،
وحصل لهم من براهينه وطرقه ما لم يحصل لغيرهم. ونفي الغلّ من جميع الوجوه
يقتضي تمام المحبّة لهم، فهم يحبون الصحابة لفضلهم وسبقهم واختصاصهم بصحبة
الرسول، ولإحسانهم إلى جميع الأمة، لأنهم هم المبلّغون جميع ما جاء به
نبيهم، فما وصل لأحد علم ولا خير إلا على أيديهم وبواسطتهم.
([2]) وطاعة النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ((لا تسبُّوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أُحُدٍ ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدِهم ولا نصيفَه))
فعلى الأمة أن يطيعوا النبي صلى الله عليه وسلم في كل أمر، وخصوصاً في هذا
الأمر الخاص، وأن يوقروا أصحابه ويحترموهم، ويعتقدوا أن العمل القليل منهم
يفضل العمل الكثير من غيرهم، كما في هذا الحديث، وهذا من أعظم براهين
فضلهم على غيرهم.
([3]) وقد ذكر الله
ورسوله للصحابة فضائل كثيرة على الأمة، فيجب على الأمة الإيمان بها، وأن
يحبوا الصحابة لأجلها. وقيل لصلح الحديبية فتح لما ترتب عليه من المصالح
والخير الكثير، ودخول الكثير في الإسلام، ولهذا كان من أسلم قبل ذلك وأنفق
وقاتل أفضل ممن فعل ذلك بعده، لما حصل لهم من السبق في الإسلام وقت ضعف
المسلمين، وكثرة الأعداء، ووجود الموانع والمصاعب الكثيرة في طريق الإسلام.
([4]) ثم قال المصنف: ( ويُقدِّمونَ المهاجرين على الأنصار):
وهذا لأن المهاجرين جمعوا الوصفين النُّصرة والهجرة، ولهذا كان الخلفاء
الراشدون، وبقية العشرة من المهاجرين، وقد قدم الله ذكر المهاجرين على
الأنصار في سورة التوبة والحشر، وهذا التفضيل للجملة على الجملة، لا لكل
فرد من هؤلاء على كل فرد من الآخرين.
([5]) أي رضي الله عنهم في قوله: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ}
وكان عددهم يتراوح ما بين ألف وأربعمائة أو خمسمائة، فأهل بدر وأهل بيعة
الرضوان يشهد لهم بالجنة والنجاة من النار على وجه أخص من الشهادة بذلك
لجميع الصحابة في قوله: {وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} ولهذا قال المصنِّف: (ويشهدون بالجنّة لِمَنْ شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم كالعشرة، وثابت بن قيس بن شماس، وغيرهم من الصحابة).
وهذا من أعظم الفضائل تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم لهم بالشهادة
والجنّة، وهو من جملة براهين رسالته صلى الله عليه وسلم، فإن جميع من عينه
النبي صلى الله عليه وسلم بالشهادة له بالجنة ولوازمها لم يزالوا مستقيمين
على الإيمان، حتى وصلوا إلى ما وُعدوا به رضي الله عنهم).
تعليقات ابن باز على شرح
السعدي على الواسطية
قال الشيخ عبد العزيز بن عبد الله ابن باز (ت: 1420هـ): (ومِنْ أصولِ أهْلِ السُّنّةِ والجماعةِ سلامةُ قلوبهم وألسِنَتِهم لأصحاب رسولِ الله صلى الله عليه وسلم([1])كما وصفهم الله به في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُواْ رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر: 10]، وطاعة النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ((لا تسبُّوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أُحُدٍ ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدِهم ولا نصيفَه)). ويقبلون ما جاء به الكتابُ والسُّنةُ والإجماعُ من فضائلهم ومراتبهم، ويُفضِّلونَ من أنفق من قبل الفتْح -وهو صلحُ الحديبية- وقاتل على مَن أنفقَ من بعدُ وقاتل، ويُقدِّمونَ المهاجرين على الأنصار، ويؤمنون بأن الله قال لأهل بدر وكانوا ثلاثمائةٍ وبضعةَ عَشَرَ: (( اعمَلوا ما شِئْتُمْ فقد غَفَرتُ لكم)) وبأنه لا يدخلُ النار أحدٌ بايع تحت الشجرةِ كما أخبر به النبيُّ صلى الله عليه وسلم. بل قد رضيَ الله عنْهم ورضوا عنه، وكانوا أكثر من ألفٍ وأربعمائة. ويشهدون بالجنّة لِمَنْ شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم كالعشرة، وثابت بن قيس بن شماس. وغيرهم من الصحابة.
([1])
"خلاصة مذهب أهل السنة والجماعة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
وعمَّا شجر بينهم: هو سلامة قلوبهم وألسنتهم، ومحبتهم إياهم، والترضِّي
عنهم جميعا، وإظهار محاسنهم وإخفاء مساوئهم، أي إخفاء مساوئ من نسب إليه
شيء من ذلك والإمساك عما شجر بينهم، واعتقاد أنهم في ذلك بين أمرين:
- إما مجتهدون مصيبون.
- وإما مجتهدون مخطئون.
فالمصيب له أجران، والمخطئ له أجر الاجتهاد، وخطؤه مغفور، وإذا قدر أن
لبعضهم سيئات وقعت عن غير اجتهاد فلهم من الحسنات ما يغمرها ويمحوها، وليس
في بيان خطأ من أخطأ منهم في حكم من الأحكام شيء من إظهار المساوئ، بل ذلك
مما يفرضه الواجب ويوجبه النصح للأمة"اهـ).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ مُحمَّد خَليل هَرَّاس رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): ( (فَصْلٌ:
ومِنْ أُصولِ أَهْلِ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ سَلاَمَةُ قُلُوبِهِمْ
وأَلْسِنَتِهمْ لأصْحابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛
كَمَا وَصَفَهُمُ اللهُ بهِ في قَوْلِهِ تَعَالى: {
وَالَّذِينَ جَاؤوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا
ولإِخْوانِنا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيْمانِ وَلاَ تَجْعَلْ في
قُلُوبِنا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ }، وطَاعَةُ النبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قَوْلِهِ: ((
لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَوَالَّذي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ
أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ
وَلاَ نَصِيفَهُ )).
ويَقْبَلُونَ مَا جَاءَ بهِ الكِتَابُ والسُّنَّةُ والإِجْماعُ مِنْ فَضائِلِهِمْ ومَراتِبِهِمْ ) (1).
( ويُفَضِّلُونَ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْحِ – وهُوَ صُلْحُ
الحُدَيْبِيَةِ – وقاتَلَ عَلى مَنْ أَنْفَقَ مِنْ بَعْدُ وقَاتَلَ.
ويُقَدِّمُونَ المُهَاجِرينَ عَلى الأنْصارِ.
ويُؤمِنُونَ بأَنَّ اللهَ قالَ لأهْلِ بَدْرٍ – وكَانُوا ثَلاثَ مئةٍ وبِضْعَةَ عَشَرَ -: (( اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ )).
وبأَنَّهُ لا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ بَايَعَ تحتَ الشَّجَرَةِ؛ كَمَا
أَخْبَرَ بهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَلْ لَقَدْ
رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ورَضُوا عَنْهُ، وكَانُوا أَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ
وأَرْبَعِ مِئَةٍ.
ويَشْهَدُونَ بالجَنَّةِ لِمَنْ شَهِدَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ كالعَشَرَةِ، وثابِتِ بنِ قَيْسِ بنِ شَمَّاسٍ،
وغيْرِهِمْ مِنَ الصَّحابَةِ ) (2) ).
الشرح:
قال الشيخ محمد خليل هراس (ت: 1395هـ): ( (1)
يقولُ المؤلِّفُ: إِنَّ مِنْ أصولِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ التَّي
فارقُوا بهَا مَنْ عَدَاهُمْ مِنْ أَهْلِ الزَّيْغِ والضَّلالِ أنَّهُمْ لا
يُزْرُونَ بأحدٍ مِنْ أصحابِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلمَ، ولا
يَطْعَنُونَ عليهِ، ولا يَحْمِلُونَ لهُ حِقْدًا ولا بُغْضًا ولا
احْتِقَارًا، فَقُلُوبُهُمْ وألسنتُهُمْ مِنْ ذلكَ كلِّهِ بَرَاءٌ، ولا
يقولونَ فيهمْ إلاَّ ما حَكَاهُ اللهُ عنهُمْ بقولِهِ: { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ … } الآيةَ.
فهذا الدَّعاءُ الصَّادِرُ ممَّنْ جاءَ بَعْدَهُمْ ممَنْ اتَّبعوهُمْ
بإحسانٍ يدُلُّ على كمَالِ محبَّتهمْ لأصحابِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ
عليهِ وَسَلمَ، وثَنَائِهِمْ عليهِمْ، وهُمْ أهلٌ لذلكَ الحُبِّ
والتَّكرِيمِ؛ لِفَضْلِهِمْ، وسَبْقِهِمْ، وعظيمِ سَابِقَتِهِمْ،
واخْتِصَاصِهِمْ بالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلمَ، ولإِحسانِهمْ
إلى جميعِ الأمَّةِ؛ لأنَّهمْ هُمُ المُبَلِّغُونَ لهمْ جميعَ ما جاءَ
بهِِ نبيُّهمْ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلمَ، فَمَا وَصَلَ لِأَحَدٍ عِلْمٌ
ولا خَبَرٌ إلاَّ بِوَاسِطَتِهِمْ، وهُمْ يُوَقِّرُونَهُمْ أيضًا طاعةً
للنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلمَ، حيثُ نَهَى عن سَبِّهِمْ والغَضِّ
مِنْهُمْ، وبيَّنَ أنَّ العملَ القليلَ مِنْ أحدِ أصحابِهِ يفضلُ العملَ
الكثيرَ مِنْ غَيْرِهِمْ، وذلكَ لكمَالِ إخلاصِهِمْ، وصادقِ إيمانِهِمْ.
(2) وأَمَّا قولُهُ: (ويفضِّلونَ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ – وهوَ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ – وَقَاتَلَ على مَنْ أَنْفقَ مِنْ بَعْدِهِ وقاتلَ)؛ فَلِوُرُودِ النَّصِّ القْرآنِيِّ بذلكَ، قالَ تعالى في سُورةِ الحَدِيدِ: {لاَ
يَسْتَوِي مِنْكُم مَّنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْحِ وَقَاتَلَ أولئِكَ
أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا
وَكُلاًّ وَّعَدَ اللهُ الحُسْنَى}.
وأَمَّا تفسيرُ الفتحِ بِصُلْحِ الحُدَيْبِيَةِ؛ فذلكَ هوَ المشهورُ، وقَدْ صحَّ أنَّ سورةَ الفتحِ نزلتْ عَقِيبَهُ.
وسُمِّيَ هذا الصُّلحُ فَتْحًا؛ لِمَا ترتَّبَ
عليهِ مِنْ نَتَائِجَ بعيدةِ المَدَى في عزَّةِ الإِسلامِ، وقوَّتهِ
وانتشارهِ، ودخولِ النَّاسِ فيهِ.
وأَمَّا قولُهُ: ( ويُقَدِّمُونَ المهَاجرينَ على الأنْصَارِ )؛ فلأنَّ المهَاجرينَ جمعُوا الوَصْفَيْنِ: النُّصْرَةَ والهجرَةَ،
ولهذا كانَ الخلفاءُ الرَّاشدونَ وبقيةُ العشرةِ منَ المهَاجرينَ، وقَدْ
جاءَ القرآنُ بتقدْيمِ المهَاجرينَ على الأنصارِ في سورةِ التَّوبةِ
والحَشْرِ، وهذا التَّفضيلُ إنَّمَا هوَ للجملةِ على الجملَةِ، فلا
يُنَافِي أنَّ في الأنصارِ مَنْ هوَ أفضلُ من بعضِ المهَاجرينَ.
وقَدْ رُوِيَ عن أبي بكرٍ أنَّهُ قالَ في خُطْبَتِهِ يومَ السَّقِيفَةِ: (نحنُ
المهَاجرونَ، وأوَّلُ النَّاسِ إسلاَمًا، أَسْلَمْنَا قَبْلَكُمْ،
وقُدِّمْنَا في القرآنِ عليكُمْ، فنحنُ الأمراءُ، وأنتمُ الوُزَرَاءُ).
وأَمَّا قولُهُ: ( ويؤمنونَ بأنَّ اللهَ قالَ لأهلِ بدرٍ … )
إلخ؛ فقَدْ وردَ أنَّ عمرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لما أرادَ قتلَ حاطبَ بنَ
أبي بَلْتَعَةَ وكانَ قدْ شَهِدَ بَدْرًا لِكِتَابَتِهِ كِتَابًا إلى
قُرَيْشٍ يُخْبِرُهُمْ فيهِ بِمَسِيرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وَسَلمَ، فقالَ لهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلمَ: ((
وَمَا يُدْرِيكَ يَا عُمَرُ؟ لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ،
فَقالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ )).
وأَمَّا قولُهُ: ( وبأنَّهُ لا يَدْخُلُ النَّارَ أحدٌ بايعَ تحتَ الشَّجرةِ … ) إلخ؛ فَلِإِخْبَارِهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلمَ بذلكَ، ولقولِهِِِ تعالَى: { لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ }. الآيةَ.
فهذا الرِّضَى مانعٌ من إرادةِ تعذيبِهِمْ، ومستلزمٌ لإِكرامِهِمْ ومَثُوبَتِهِمْ.
وأَمَّا قولُهُ: (
ويَشْهَدُونَ بالجَنَّةِ لِمَنْ شَهِدَ لهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عليهِ
وَسَلمَ؛ كالْعَشَرَةِ، وثابتِ بنِ قَيْسِ بنِ شَمَّاسٍ، وغَيْرِهِمْ مِنَ
الصَّحابَةِ ).
أَمَّا العشرةُ؛
فَهُمْ: أبو بكرٍ، وعمرُ، وعثمانُ، وعليٌّ، وطلحةُ، والزُّبَيْرُ، وسعدُ
بنُ أبي وقَّاصٍ، وسعيدُ بنُ زيْدٍ، وعبدُ الرَّحمنِ بنُ عوْفٍ، وأبو
عُبيدةَ بنُ الجرَّاحِ.
أَمَّا غيرُهُمْ؛
فَكَثَابِتِ بنِ قيْسٍ، وعُكَّاشَةَ بنِ مِحْصَنٍ، وعبدِ اللهِِ بنِ
سلاَّمٍ، وكلِّ مَنْ وردَ الخبرُ الصَّحيحُ بأنَّهُ مِنْ أهلِ الجَنَّةِ).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ: صالح بن فوزان الفوزان
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (الواجب نحو أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر فضائلهم
ومِنْ
أُصولِ أَهْلِ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ سَلاَمَةُ قُلُوبِهِمْ
وأَلْسِنَتِهمْ لأصْحابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛
كَمَا وَصَفَهُمُ اللهُ بهِ في قَوْلِهِ تَعَالى: {وَالَّذِينَ
جَاؤوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ولإِخْوانِنا
الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمانِ وَلاَ تَجْعَلْ في قُلُوبِنا غِلاًّ
لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤوفٌ رَحِيمٌ}، وطاعة النبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قَوْلِهِ: ((
لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَوَالَّذي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ
أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَباً مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ
وَلاَ نَصِيفَهُ )) (1) فضل الصحابة وموقف أهل السنة والجماعة منه وبيان تفاضلهم
الشرح:
قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: ( (1) أي: مِن أصولِ عقيدةِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ (سلامةُ قلوبِهم) مِن الغِلِّ والحقْدِ والبُغْضِ، وسلامةُ (ألسِنَتِهم) مِن الطَّعْنِ واللَّعْنِ والسَّبِّ (لأصحابِ رسولِ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم)
لفَضْلِهم وسَبْقِهم واختصاصِهم بصُحبةِ النَّبيِّ صلى اللهُ عليه وسلم،
ولِما لهم مِن الفضْلِ على جميعِ الأُمَّةِ؛ لأنَّهم تَحمَّلوا الشَّريعةَ
عنه صلى اللهُ عليه وسلم، وبَلَّغُوها لمَن بعدَهم، ولجِهادِهم مع
الرَّسولِ صلى اللهُ عليه وسلم ومُناصَرَتِهم له.
وغَرَضُ الشَّيخِ مِن عقْدِ هَذَا الفصْلِ الرَّدُّ على الرَّافِضةِ
والخوارجِ الذينَ يَسُبُّونَ الصَّحابةَ، ويُبغِضُونهم، ويَجْحدونَ
فضائِلَهم. وبيانُ براءةِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ مِن هَذَا المذهبِ
الخبيثِ، وأنَّهم مع صحابةِ نبيِّهم كما وصَفَهم اللَّهُ في قولِه: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} أي بعدَ المهاجِرينَ والأنصارِ وهم التَّابِعونَ لهم بإحسانٍ إلى يومِ القيامةِ مِن عمومِ المُسلِمِينَ {يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} المرادُ بالأُخوَّةِ هنا أُخوَّةُ الدِّينِ، فهم يَستغفِرونَ لأنْفُسِهم ولمَن تقدَّمَهم مِن المهاجِرينَ والأنصارِ {وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ} أيْ: غِشاًّ وبُغْضا وحَسَداً {لِلَّذِينَ آمَنُوا} أيْ: لأهلِ الإيمانِ، ويدخُلُ في ذَلِكَ الصَّحابةُ دُخولاً أوَّلِياًّ لِكونِهم أَشْرَفَ المؤمنينَ، ولكَونِ السِّياقِ فيهم.
قال الإمامُ الشَّوْكانيُّ: فمَن لم يستغفِرْ للصَّحابةِ على العمومِ
ويطلُبْ رضوانَ اللَّهِ لهم فقد خالَفَ ما أمَرَ اللَّهُ به في هَذِهِ
الآيةِ. فإنْ وَجَدَ في قَلبِه غِلاًّ لهم فقد أصابَه نَزْغٌ مِن
الشَّيطانِ، وحَلَّ به نصيبٌ وافِرٌ مِن عصيانِ اللَّهِ بعداوةِ أوليائِه
وخيرِ أُمَّةِ نبِيِّهِ صلى اللهُ عليه وسلم، وانفتَحَ له بابٌ مِن
الخِذْلانِ ما يَفِدُ به على نارِ جَهَنَّمَ إنْ لم يَتَدارَكْ نَفْسَه
باللُّجوءِ إلى اللَّهِ سبحانه، والاستغاثةِ به بأنْ يَنْزِعَ عن قَلبِه ما
طَرقَه مِن الغِلِّ لخيرِ القُرونِ وأَشْرَفِ هَذِهِ الأُمَّةِ. فإنْ
جاوَزَ ما يَجِدُه مِن الغِلِّ إلى شَتْمِ أحدٍ منهم فقد انقادَ
للشَّيْطانِ بزمامٍ ووقَعَ في غضَبِ اللَّهِ وسَخَطِه. وهَذَا الدَّاءُ
العُضالُ إنما يُصابُ به مَن ابتُلِيَ بمُعلِّمٍ مِن الرَّافِضةِ أو صاحِبٍ
مِن أعداءِ خيرِ الأُمَّةِ الذين تلاعَبَ بهم الشَّيطانُ وزَيَّنَ لهم
الأكاذيبَ المختَلَقةَ، والأقاصيصَ المُفْتراةَ، والخُرَافاتِ الموضوعةَ،
وصَرَفَهم عن كِتابِ اللَّهِ الذي لا يأْتِيهِ الباطِلُ مِن بَيْنِ يدَيْهِ
ولا مِن خَلْفِهِ.اهـ.
والشَّاهِدُ مِن الآيةِ الكريمةِ: أنَّ فيها
فَضْلَ الصَّحابةِ لسَبقِهِم بالإيمانِ، وفَضْلَ أهلِ السُّنَّةِ الذين
يَتَولَّوْنَهُم، وذَمَّ الذين يُعادُونهم. وفيها مشروعيَّةُ الاستِغفارِ
للصَّحابةِ والتَّرَضِّي عنهم. وفيها سلامةُ قلوبِ أهلِ السُّنَّةِ
وألسِنَتِهم لأصحابِ رسولِ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم، ففي قولِه: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا} إلخ سلامةُ الألسنةِ. وفي قولِهم: {وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا} سلامةُ القلوبِ.
وفي الآيةِ تحريمُ سَبِّهم وبُغْضِهم وأَنَّهُ ليس مِن فِعلِ المسلمِينَ.
وأنَّ مَن فَعلَ ذَلِكَ لا يَستحِقُّ مِن الفَيْءِ شيئا، وقولُه: (وطاعةُ النَّبيِّ صلى اللهُ عليه وسلم في قولِه)
أيْ: إنَّ أهلَ السُّنَّةِ يُطيعون النَّبيَّ صلى اللهُ عليه وسلم في
سلامةِ قُلوبِهم وألسِنَتِهم لأصحابِه، والكَفِّ عن سَبِّهم وتنَقُّصِهم،
حَيْثُ نَهاهُم النَّبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم عن ذَلِكَ بقولِه: ((لاَتَسُبُّوا أَصْحَابِي )) أيْ: لا تَنتَقِصوا ولا تَشتُموا ((أصْحابي ))
جَمْعَ صاحِبٍ. ويقالُ لمَن صاحَبَ النَّبيَّ صلى اللهُ عليه وسلم
صَحابيٌّ، وَهُوَ مَن لَقِيَ النَّبيَّ صلى اللهُ عليه وسلم مُؤمِنا به،
وماتَ على ذَلِكَ.
((فَوَالَّذي نَفْسِي بِيَدهِ )) هَذَا قَسَمٌ مِن النَّبيِّ صلى اللهُ عليه وسلم يُريدُ به تأكيدَ ما بعدَه ((لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَباً )) جوابُ الشَّرْطِ، وأُحُدٌ جبلٌ معروفٌ في المدينةِ سُمِّي بذَلِكَ لتَوحُّدِه عن الجبالِ، وذَهباً منصوبٌ على التَّمييزِ ((مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ )) المُدُّ مِكيالٌ، وَهُوَ رُبْعُ الصَّاعِ النَّبويِّ ((وَلاَ نَصِيفَهُ )) لغةٌ في النِّصْفِ، كما يقالُ: ثَمِينٌ بمعنى الثُّمْنِ.
والمعنى أنَّ الإنفاقَ الكثيرَ في سبيلِ اللَّهِ مِن غيرِ الصَّحابةِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم لا يُعادِلُ الإنفاقَ القليلَ مِن الصَّحابةِ،
وذَلِكَ أنَّ الإيمانَ الذي كان في قُلوبِهم حِينَ الإنفاقِ في أوَّلِ
الإسلامِ، وقِلَّةِ أهلِه وكثرةِ الصَّوارِفِ عنه، وضَعْفِ الدَّواعِي إليه
لا يُمْكِنُ أنْ يحصُلَ لأَحدٍ مِثلُه ممَّن بعدَهم.
والشَّاهِدُ مِن الحديثِ: أنَّ فيه تحريمَ سَبِّ
الصَّحابةِ، وبيانَ فضْلِهم على غيرِهم. وأنَّ العَملَ يتَفاضَلُ بحسَبِ
نِيَّةِ صاحبِه، وبحسَبِ الوقتِ الذي أُدِّيَ فيه، واللَّهُ أَعْلَمُ، وفي
الحديثِ أنَّ مَن أحبَّ الصَّحابةَ وأثْنَى عليهم فقد أطاعَ رسولَ اللَّهِ
صلى اللهُ عليه وسلم، ومَن سَبَّهُم وأَبْغَضَهم فقد عَصَى الرَّسولَ صلى
اللهُ عليه وسلم.
التنبيهات السنية للشيخ: عبد العزيز بن ناصر الرشيد رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): ( (فَصْلٌ:
ومِنْ أُصولِ أَهْلِ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ سَلاَمَةُ قُلُوبِهِمْ
وأَلْسِنَتِهمْ لأصْحابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(1)
كَمَا وَصَفَهُمُ اللهُ بهِ في قَوْلِهِ تَعَالى: {وَالَّذِينَ
جَاؤوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ولإِخْوانِنا
الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيْمانِ وَلاَ تَجْعَلْ في قُلُوبِنا غِلاًّ
لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤوفٌ رَحِيمٌ}.(2)
وطاعةالنبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قَوْلِهِ: ((
لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَوَالَّذي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ
أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَباً مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ
وَلاَ نَصِيفَهُ )).(3)
ويَقْبَلُونَ مَا جَاءَ بهِ الكِتَابُ والسُّنَّةُ والإِجْماعُ (4)
مِنْ فَضائِلِهِمْ ومَراتِبِهِمْ ويُفَضِّلُونَ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ
الفَتْحِ – وهُو صُلْحُ الحُدَيْبِيَةِ – وقاتَلَ عَلى مَنْ أَنْفَقَ مِنْ
بَعْدُ وقَاتَلَ، ويُقَدِّمُونَ المُهَاجِرينَ عَلى الأنْصارِ، ويُؤمِنُونَ
بأَنَّ اللهَ قالَ لأهْلِ بَدْرٍ – وكَانُوا ثَلاثَ مئةٍ وبِضْعَةَ عَشَرَ
-: (( اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ )).(5)
وبأَنَّهُ لا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ بَايَعَ تحتَ الشَّجَرَةِ؛ كَمَا
أَخْبَرَ بهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَلْ لَقَدْ
رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ورَضُوا عَنْهُ، وكَانُوا أَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ
وأَرْبَعِ مِئَةٍ، ويَشْهَدُونَ بالجَنَّةِ لِمَنْ شَهِدَ لَهُ رَسُولُ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ كالعَشَرَةِ.(6)
وثابِتِ بنِ قَيْسِ بنِ شَمَّاسٍ، وغيْرِهِمْ مِنَ الصَّحابَةِ ).(7)).
الشرح:
قال الشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد (ت: 1408هـ): ((1) فَصلٌ قولُه: (ومِن أصولِ) جَمعُ أصلٍ وهُوَ لغةً: ما يُبْنَى عليه غيرُه، واصطِلاحا: ما له فرعٌ، ويُطلَقُ الأصلُ على أربعةِ أشياءَ:
على الدَّليلِ غالِبا، كقولِهم: أصلُ هَذِهِ المسألَةِ الكِتابُ والسُّنَّةُ، أي دَليلُه،
الثَّاني: على الرَّاجِحِ مِن الأمرَيْنِ، كقولِهم: الأصلُ في الكلامِ الحقيقةُ دُونَ المجازِ.
الثَّالِثُ: القاعِدةُ المستمِرَّةُ،كقولِهم: أكْلُ الميْتَةِ على خلافِ الأصلِ.
الرَّابعُ: المَقِيسُ عليه، وهُوَ ما يُقابِلُ الفَرْعَ في بابِ القياسِ، انتهى، مِن الكوكبِ المُنِيرِ.
قولُه: (سَلامَةُ قُلوبِهم) أي: مِن الغِلِّ
والحِقدِ والبُغضِ والعَداوةِ لأصحابِ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ
وسلَّمَ- وسلامةُ ألسنَتِهم مِن الطَّعنِ فيهم، واللَّعنِ، والوقيعةِ فيهم،
كما يَفعَلُه الرَّافِضةُ والخوارِجُ، وَكَذَلِكَ يَجِبُ اعتقادُ فَضْلهِم
رِضوانُ اللَّهِ عليهم، ومعرِفةُ سابِقَتِهم وذِكرُ محاسِنهِم
والتَّرَحُّمُ عليهم، والاستغفارُ لهم، والكَفُّ عمَّا شَجَرَ بينهم،
فإنَّهم خَيرُ القُرونِ وهم السَّابِقون الأوَّلون، وفي الكِتابِ
والسُّنَّةِ مِن ذِكرِ فَضائِلِهم ومناقِبِهم ومَقاماتِهم الحميدةِ ما لا
يَتَّسِعُ لذِكْرِه هَذَا المختصَرُ، فلا مَقامَ بعد مَقامِ النُّبوَّةِ
أَعْظمُ مِن مقامِ قومٍ ارتضاهُم اللَّهُ لصُحبةِ نبِيِّه ونُصرةِ دِينِه،
فهم أَسْعدُ الأمَّةِ بإصابةِ الصَّوابِ، وأجْدَرُ بفِقهِ السُّنَّةِ
والكتابِ لفَوزِهم بصُحبةِ نَبِيِّه، فلا يُبارَوْن في فَهمِهم، ولا
يُجارَوْن في عِلمِهم، فكُلُّ عِلمٍ وخيرٍ وصلَ فبِسبَبِهم، قال اللَّهُ
تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} الآيةَ، وفي هَذِهِ الآيةِ أَعْظَمُ رَدٍّ على الرَّافِضَةِ والخوارجِ.
قولُه: (لأصحابِ …) إلخ، جَمعُ صَاحبٍ
والصَّحابِيُّ هُوَ مَنِ اجتمعَ بالنَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-
مُؤْمِناً بِهِ وماتَ على ذَلِكَ، قيل: ولو تخللته رِدَّةٌ، وقال
البخاريُّ: مَن صَحِبَ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- أو رآه مِن
المسلِمِينَ فَهُوَ مِن أصحابِه. انتهى. وآخِرُ مَن ماتَ منهم -رضي
اللَّهُ عنهم- هُوَ أبو الطُّفَيْلِ عامِرُ بنُ وِائلَةَ اللَّيْثِيُّ كما
جَزَمَ بِهِ مُسْلِمٌ في "صحيحِه"، وكان مَوْتُه سَنةَ مائةٍ، وقيل: سَنَةَ
مائةٍ وعشَرةَ، وأمَّا عددُ الصَّحابةِ فقيل مائةُ ألفٍ وأربعةٌ وعِشرون
ألْفًا، كما قال السيوطيُّ:
والفَضْلُ فيما بينهم مَراتِبُ ... وَعَدُّهُمْ للأنْبِيـا يُقـارِبُ
وكُلُّهم عُدولٌ ثِقاتٌ لا يُفَتَّشُ عن عدالةِ أحدٍ منهم بالإجماعِ، وحكى
الإجماعَ ابنُ الصَّلاحِ وابنُ عبدِ البَرِّ، وحكاه إمامُ الحرمَيْنِ، وقال
الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ: الذي عليه جمهورُ سَلَفِ الأمَّةِ وجمهورُ
الخلَفِ أَنَّ الصَّحابةَ كُلُّهم عُدولٌ بتعديلِ اللَّهِ لهم فيما
أَنْزَلَه على رسولِه بقولِه: {وَالسَّابِقُونَ
الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم
بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ}. اهـ.
(2) قولُه: كما وَصَفَهم اللَّهُ في قولِه: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} الآيةَ، أي كما وَصَفَ أتباعَهم بإحسانٍ بقولِه: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} وهم التَّابِعُونَ الذين يَجيئون بعد المهاجِرينَ والأنصارِ إلى يومِ القِيامةِ.
قولُه: {يَقُولونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا}
أي: يَسأَلُونَ اللَّهَ المغفِرةَ لهم ولإِخْوانِهم في الدِّينِ الذين
سَبَقُوهم بالإيمانِ، وهم أصحابُ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ
وسلَّمَ-.
قولُه: {وَلاَ تَجْعَلْ في قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا} أيْ: ولا تَجعَلْ في قلوبِنا بُغْضاً وحَسَداً وغِشًّا للذين آمَنوا، وفي حديثِ ابنِ مسعودٍ الذي رواه الترمذيُّ: ((ثَلاَثٌ
لاَ يُغَلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ: إِخْلاصُ العَمَلِ لِلَّهِ،
وَمُنَاصَحَةُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ، فَإِنَّ
دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مَنْ وَرَاءَهُمْ))، أي أنَّ هَذِهِ الثَّلاثَ
تَنْفِي الغِلَّ عن القلبِ، فلا يَبْقَى فيه معها غِلٌّ ولا غِشٌّ،
فالإخلاصُ يَمنَعُ غِلَّ القلبِ وفسادَه، وَكَذَلِكَ النَّصيحةُ فإنَّها لا
تُجامِعُ الغِلَّ، فمَن نَصحَ الأئِمَّةَ والأُمَّةَ فقد بَرِئَ مِن
الغِلِّ، وهَذَا بخلافِ أهلِ البِدَعِ مِن الرَّافضةِ والخوارجِ
والمعتزِلةِ وغيرِهم، فإنَّ قُلوبَهم ممتلئةٌ غِلاًّ وغِشاًّ، ولهَذَا
تَجدُ الرَّافِضةَ أبعدَ النَّاسِ مِن الإخلاصِ، وأغَشَّهم للأئِمَّةِ
والأُمَّةِ، وأشدَّهُم بُعداً عن جماعةِ المسلِمِينَ، وفي هَذِهِ الآيةِ
الحثُّ على مَحبَّةِ جميعِ المؤمنينَ ومَوَدَّتِهم والدُّعاءِ لهم
والاستغفارِ، وأنَّ مِن صفاتِ المؤمنينَ سلامةَ قلوبِهم مِن الغِلِّ
والحِقدِ والبُغضِ لإخوانهم المؤمنينَ، كما في "الصَّحيحَيْنِ" من حديثِ
النُّعمانِ بنِ بشيرٍ: ((مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي
تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ
الْوَاحِدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سِائِرُ
الأَعْضَاءِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ)). وعن أنسٍ -رضي اللَّهُ عنه- أَنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((لاَ
تَبَاغَضُوا وَلاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَدَابَرُوا وَلاَ تَقَاطَعُوا،
وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَاناً، وَلاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ
يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثٍ)). متَّفقٌ عليه.
قولُه: {رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}
رَءُوفٌ أي: ذو رَأْفةٍ وَهِيَ أشدُّ الرَّحمةِ، وهُوَ أبلَغُ مِن
الرَّحيمِ، تَضمَّنَتْ هَذِهِ الآيةُ الثَّناءَ على المهاجِرينَ والأنصارِ،
وعلى الذين جَاءُوا مِن بعدِهم يَستغفِرون لهم ويَسألُونَ اللَّهَ أنْ لا
يَجعَلَ في قُلوبِهم غِلاًّ لهم، وتضمَّنَتْ أنَّ هؤلاء الأصنافَ هم
المستحِقُّون للفَيْءِ، ولا رَيْبَ أَنَّ الرَّافضةَ خارِجون مِن الأصنافِ
الثَّلاثةِ فإنَّهم لم يَسْتَغفِروا للسَّابِقِينَ، وفي قُلوبِهم غِلٌّ
عليهم، ففيها الثَّناءُ على الصَّحابةِ وعلى أهلِ السُّنَّةِ الذين
يَتَوَلَّوْنَهم، وإخراجُ الرَّافِضةِ مِن ذَلِكَ، وروى ابنُ بَطَّةَ
وغيرُه عن مالكِ بنِ أَنسٍ، قال: مَن سَبَّ السَّلَفَ فليس له منِ الفيءِ مِن نصيبٍ، واستدلَّ بالآية، ورُوِيَ عن ابنِ عبَّاسٍ -رضي اللَّهُ عنه- أنَّه قال: أَمَرَ اللَّهُ بالاستغفارِ لأصحابِ مُحَمَّدٍ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- وهُوَ يَعلَمُ أنَّهم يَقْتَتِلون.
وعن عائشةَ -رضي اللَّهُ عنها-: أُمِرْتُمْ بالاستغفارِ لأصحابِ رسولِ
اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- فسَببْتُموهُم، سَمِعْتُ نبيَّكُم
يقولُ: ((لاَ تَذْهَبُ هَذِهِ الأمَّةُ حَتَّى يَلْعَنَ آخِرُهَا أَوَّلَهَا))،
ورواهُ البَغَويُّ. قال العِمادُ بنُ كثيرٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: فيا
وَيْلَ مَن سَبَّهم أو أبْغَضَهم أو أبْغَضَ أو سَبَّ بَعْضَهم، ولا
سِيَّما سِيِّدُ الصَّحابةِ بعدَ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ
وسلَّمَ- وخَيْرُهم وأَفْضَلُهم – أعني الصِّدِّيقَ الأكبرَ والخليفةَ
الأعظمَ أبا بكرِ بنَ قُحافةَ -رضي اللَّهُ عنه-، فإنَّ الطَّائفةَ
المخذولةَ مِن الرَّافِضةِ يعادُونَ أفضلَ الصَّحابةِ ويُبغِضونهم
ويَسُبُّونهم – عِياذا باللَّهِ مِن ذَلِكَ –، وهَذَا يَدُلُّ على أنَّ
عُقولَهم مَعكوسةٌ وقُلوبَهم مَنكُوسةٌ، فأَيْنَ هؤلاء مِن الإيمانِ
بالقرآنِ؛ إذْ يَسبُّون مَن -رضي اللَّهُ عنهم-، وأمَّا أهلُ السُّنَّةِ
فإنَّهم يَتَرَضَّوْن عمَّن رضي اللَّهُ عنه، ويَسبُّون مَن سبَّهُ اللَّهُ
ورسولُه، ويُوالُون مَن يُوالِي اللَّهَ، ويُعادُونَ مَن يُعادِي اللَّهَ،
وهم متَّبِعون لا مُبتَدِعون، ومُقْتَدُونَ لا مُبتَدُونَ، ولهَذَا هُم
حِزبُ اللَّهِ المفلِحونَ وعِبادُه المؤمنون. اهـ.
وقال مالكٌ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: مَن أصبحَ وفي قَلبِه بُغضٌ لأحدٍ مِن الصَّحابةِ فقد أصابَتْه هَذِهِ الآيةُ، يعني قولَه: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ}
الآيةَ، وقد ذَكَرَ بعضُ العلماءِ: أَنَّ الرَّافِضةَ ليسوا مِن فِرَقِ
الأمَّةِ المحمَّدِيَّةِ، وباستقراءِ ما هم عليه الآنَ مِن الغُلُوِّ في
أهلِ البَيْتِ، والبناءِ على قُبورِهم، وإظهارِ اللَّعْنِ والسَّبِّ
لأصحابِ رسولِ اللَّهِ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- وسَفاهاتٍ أخرى
يَمُجُّها العقلُ والدِّينُ، يَعلَمُ أنَّ هَذِهِ الطَّائِفةَ ليستْ مِن
الإسلامِ في شيءٍ، ولذَلِكَ صَرَّحَ بعضُ العُلماءِ بتَكفيرِهم لسَبِّهم
الصَّحابةَ، فقال صاحِبُ تبيينِ المحارمِ: واعلمْ أَنَّ الرَّوافِضَ كفارٌ
عندنا؛ لأنَّهم يَسُبُّونَ أبا بكرٍ وعمرَ -رضي اللَّهُ عنهما-، وَكَذَلِكَ
مَن أنْكَرَ خِلافَتَهُما يُكفَّرُ عندنا على الأصَحِّ، وإمامُ هَذِهِ
الطَّائفةِ الخبيثةِ منافِقٌ معروفٌ يَهودِيُّ الأصلِ، وهُوَ عبدُ اللَّهِ
بنُ سبأٍ ادَّعى الإسلامَ حِيلةً وسَعَى جَهدَه لتفريقِ وتشتيتِ الكلمةِ،
وأَدْرَكَ بعضَ قَصدِه بقَتْلِ عثمانَ -رضي اللَّهُ عنه-، ثم أظْهَرَ
الغُلُوَّ في عليِّ بنِ أبي طالِبٍ، وقِصَّتُه مشهورةٌ.
(3) حديثُ ((لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي))
رواهُ البخاريُّ ومسلمٌ وغيرُهما مِن حديثِ أبي سعيدٍ الخدريِّ -رضي
اللَّهُ عنه- قال: كان بين خالدِ بنِ الوليدِ وعبدِ الرحمنِ بنِ عوفٍ شيءٌ
فسَبَّهُ خالدٌ. فقال رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَوْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَباً مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلاَ نَصِيفَهُ)) انفردَ مسلمٌ بذِكرِ سَبِّ خالدٍ لعبدِ الرحمنِ دُونَ البخاريِّ، فقولُه: ((لا تَسُبُّوا أَصْحَابِي))
يعني عبدَ الرَّحمنِ بنَ عوفٍ وأمثالَه مِن السَّابِقين الأوَّلِين، فَهُم
أَفْضلُ وأخصُّ بصُحْبَتِه ممَّن أَسْلَم بعدَ بيعةِ الرِّضوانِ، وبعدَ
مُصالحةِ النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- أهلَ مكةَ، ومنهم خالدُ
بنُ الوليدِ، فنَهْيُ مَن له صحبةٌ أنْ يَسُبَّ مَن له صحبةٌ أَوْلى،
لامتيازِهم عنهم مِن الصُّحبةِ بما لا يمكنُ أنْ يُشَارِكوُهم فيه، حتَّى
لو أَنْفَقَ مِثلَ أُحدٍ ذَهباً مَا بَلَغَ مُدَّ أحدِهم ولا نَصيفَه، فإذا
كان هَذَا حالُ الذين أَسْلَموا بعدَ الحديبيةِ فكَيْفَ حالُ مَن ليس مِن
الصَّحابةِ بحالٍ.
قولُه: ((لا تَسُبُّوا)) أي: لا تَشْتُموا.
قولُه: ((أُحُدٍ)) هو جَبلٌ معروفٌ في المدينةِ سُمِّيَ بذلك لتَوحُّدِه مِن الجبالِ كما ذَكَره السُّهيليُّ.
قولُه: ((مُدَّ)) المُدُّ مِكيالٌ معروفٌ، وهو
رطْلٌ وثُلُثٌ بالعِراقيِّ، والنَّصيفُ النِّصْفُ، والمعنى أنَّ غيرَ
الصَّحابةِ لو أَنْفَقَ في سَبيلِ اللَّهِ جَبلَ أُحدٍ ذَهَباً ما بَلَغَ
مُدَّ أحدِهم ولا نَصيفَه في الثَّوابِ، وفي هذا دليلٌ على تحريمِ سبِّ
أصحابِ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- وأنَّه مِن كبائرِ
الذُنوبِ، وفيه دليلٌ على تحريمِ لعنِ أصحابِ رسولِ اللَّه -صلَّى اللهُ
عليهِ وسلَّمَ- مِن بابِ أَوْلى، وأنَّه مِن كبائرِ الذُّنوبِ، فإنَّ
الحديثَ صريحٌ في تحريمِ السَّبِّ، واللَّعنُ أَعظمُ مِن السَّبِّ، وفي
الحديث أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((لَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ)) وأصحابُه -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- خِيارُ المؤمنينَ، كما قال -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِى)) الحديثَ، وروى الترمذيُّ عن عبدِ اللَّه بنِ مغفَّلٍ -رضي اللَّهُ عنه- قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((اللَّهَ
اللَّهَ فِي أَصْحَابِي لاَ تَتَّخِذُوهُمْ غَرَضاً، فَمَنْ أَحَبَّهُمْ
فَبُحِبِّي أَحَبَّهُمْ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَبُبْغِضِي أَبْغَضَهُمْ،
وَمَنْ آذَاهُمْ فَقَدْ آذَانِي، وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللَّهَ،
وَمَنْ آذَى اللَّهَ يُوِشُكُ أَنْ يَأْخُذَهُ)) قال الترمذيُّ:
حديثٌ غريبٌ، إلى غيرِ ذَلِكَ مِن الأحاديثِ الدَّالَّةِ على وجوبِ
احترامِهم وحِفظِ كرامَتِهم، وتحريمِ سَبِّهم والطَّعنِ فيهم ولَعْنِهم.
قال الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ: مَن لَعَنَ أحدًا مِن أصحابِ رسولِ اللَّهِ
-صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- فإنَّه يستحِقُّ العقوبةَ البالغةَ
باتِّفاقِ المسلِمِينَ، وقد تَنازَعُوا هل يُعاقَبُ بالقَتلِ أوْ ما دُونَ
القَتلِ، واستدلَّ بهَذَا الحديثِ على عدالةِ جميعِ الصَّحابةِ لِثَناءِ
النَّبيِّ هَذَا الثَّناءَ العظيمَ الدَّالَّ على فَضلِهم وعدالَتِهم، وفيه
دليلٌ على تَفضيلِ الصَّحابةِ كُلِّهم على جميعِ مَن بعدَهم، وهُوَ قولُ
الجمهورِ.
قال بعضُ السَّلَفِ: - لَمَّا سُئِلَ عن عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ ومعاويةَ أيُّهما أَفْضَلُ؟ قال: غُبارٌ في أَنْفِ معاويةَ مع رسولِ اللَّهِ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- أَفْضلُ مِن عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ،
وسَببُ تفضيلِ نفقَتِهم أنَّها كانتْ في وقتِ الضَّنْكِ، والضِّيقِ بخلافِ
غيرِهم، ولأنَّ إنفاقَهم كان في نُصرَتِه –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-
وحمايَتِه، وَذَلِكَ معدومٌ بعدَه، وكذا جهادُهم وسائرُ طاعاتِهم كما قال
تعالى: {لاَ
يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ
أُوْلَـئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ
وَقَاتَلُواْ وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى}.
(4) قولُه: (ويقبلونَ ما جاءَ بِهِ الكتابُ)
هَذَا فيه الرَّدُّ على الرَّوافِضِ والنَّواصِبِ، فقد أَثنى اللَّهُ
-سُبْحَانَهُ- على أصحابِ رسولِ اللَّهِ -رضي اللَّهُ عنهم- ووَعَدَهُم
بالجَنَّةِ كما قال -سُبْحَانَهُ-: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} الآيةَ، وقال: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ}، وقال: {لاَ
يَسْتَوِي مِنكُم مَنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ
أُوْلَـئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ
وَقَاتَلُواْ وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} والآياتُ والأحاديثُ في فضلِ الصَّحابةِ كثيرةٌ جِداًّ، منها ما في "الصَّحيحَيْنِ" مِن حديثِ عِمرانَ وغيرِه: ((خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي)) الحديثَ.
وروى ابنُ بطَّةَ بإسنادٍ صحيحٍ عن ابنِ عبَّاسٍ -رضي اللَّهُ عنهما- أنَّه قال: ((لا تَسُبُّوا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ فَلَمُقَامُ أَحَدِهِمْ سَاعَةً – يعني مع النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- – خَيْرٌ مِنْ عَمَلِ أَحَدِكُمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً)) وفي روايةِ وكيعٍ: ((خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ أَحَدِكُمْ عُمْرَهُ))
والأدِلَّةُ في فَضْلِ الصَّحابةِ كَثِيرةٌ لا يَرتابُ فيها إلا زائغٌ،
فلا شَكَّ أنَّهم حَازُوا قَصباتِ السَّبقِ واسْتَولوا على الأَمدِ
وبَلَغوا في الفَضلِ والمعروفِ والعِلمِ وجميعِ خصالِ الخيرِ ما لم
يَبلُغُه أحدٌ، فالسَّعيدُ مَن اتَّبعَ صِراطَهم واقْتَفى آثارَهم،
تاللَّهِ لقد نَصَروا الدِّين، ووطَّدُوا قواعِدَ المِلَّةِ، وفَتَحوا
القلوبَ والأوطانَ، وجاهَدوا في اللَّهِ حقَّ جهادِه، فرَضِيَ عنهم
وأَرْضاهم.
(5) قولُه: (مِن فضائِلِهم) هُوَ جمعُ فضيلةٍ وهُوَ الخَصلةُ الجميلةُ التي يَحصُلُ لصاحِبِها بَسبَبِها شَرَفٌ وعُلُوُّ مَنْزِلَةٍ. انتهى.
قولُه: (ومَراتِبِهم) جمعُ مرتبةٍ، والمرتبةُ
بالضمِّ هي المنْزِلةُ والمكان، وفيه جوازُ المفاضَلةِ بين الصَّحابةِ،
وهُوَ الذي تَدُلُّ عليه الأدِلَّةُ، وبِهِ قال الجمهورُ، فعندَ أهلِ
السُّنَّةِ أَفْضلُ الصَّحابةِ أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ، ثم عُمرُ الفاروقُ،
ثم عثمانُ ذو النُّورَيْنِ، ثم عَلِيٌّ المُرْتَضَى، ثم بقيَّةُ العشَرةِ
المشهودِ لهم بالجَنَّةِ، ثم أهلُ بدرٍ، ثم بيعةُ الرِّضوانِ، ثم أُحدٌ، ثم
بقيَّةُ الصَّحابةِ، ثم باقي الأمَّةِ أفضلُ مِن سائرِ الأممِ، كما قال
تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} الآيةَ، وفي السُّننِ مِن حديثِ أبي هريرةَ -رضي اللَّهُ عنه-: ((أَنْتُمْ تُوَفُّونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ)).
قولُه: (مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْحِ) وهؤلاء هم السَّابِقون مِن المهاجِرينَ والأنصارِ، والمذكورونَ في قولِه: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ..} الآيةَ، فالسَّابِقونَ: هم الذين أنْفقُوا مِن قَبلِ الفتحِ وقاتَلُوا، وأهلُ بيعةِ الرِّضوانِ كُلُّهم منهم، قال تعالى: {لاَ
يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ
أُوْلَـئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ
وَقَاتَلُواْ وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى}. أي لا يَستوي في
الأجرِ والثَّوابِ مَن أنْفقَ مالَه في سبيلِ اللَّهِ ونُصرةِ رسولِه
قَبلَ الفتحِ ومَن أنْفقَ بعدَه، وَذَلِكَ أَنَّ الإِنْفاقَ قَبلَ الفتحِ
في حالِ شِدَّةٍ وضَعفٍ، فلم يَكُنْ يُؤمِنُ حينئذٍ إلا الصِّدِّيقونَ،
أمَّا بعد الفتحِ فإنَّه ظَهَرَ الإسلامُ ظُهوراً عظيماً ودخَلَ النَّاسُ
في دينِ اللَّهِ أفْواجًا، والمرادُ هنا بالفتحِ هو: صلحُ الحديبيةِ كما
أشارَ إليه المصنِّفُ.
وفي صحيحِ البخاريِّ عن أنسٍ في قولِه تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} هُوَ صُلْحُ الحديبيةِ. وعن البراءِ: (أنتم تَعُدُّونَ الفتحَ فتحَ مكةَ، وقد كان فتحُ مكةَ فتحًا، ونحن نَعُدُّ الفتحَ بيعةَ الرِّضوانِ يومَ الحديبيةِ) ذَكَرَه البخاريُّ، وسُئِلَ النَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- عن صُلحِ الحديبيةِ أفتحٌ هو؟ قال: ((نَعَمْ)). قال الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: وأهلُ العِلمِ على أنَّه أُنْزِلَ فيه – أي صُلحِ الحديبيةِ – {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا}،
قال وَهَذِهِ الآيةُ نصٌّ على تَفضيلِ المُنْفِقينَ المقاتِلينَ قبلَ
الفتحِ على المنفِقينَ بعدَه، ولهَذَا ذَهَبَ جمهورُ العلماءِ إلى أَنَّ
السَّابِقِين في قولِه، والسَّابقون الأوَّلون، هم الذين أنْفَقُوا مِن
قبلِ الفتحِ وقاتَلوا وأهلُ بيعةِ الرِّضوان كُلُّهم منهم، وذَهَبَ بعضُهم
إلى أَنَّ السَّابِقِينَ مَن صلَّى إلى القِبلتَيْنِ وهَذَا ضعيفٌ، وأطالَ
الكلامَ في رَدِّ هَذَا القولِ في كتابِه المنهاجِ. انتهى.
وكانتْ بيعةُ الرِّضوانِ
عامَ الحديبيةِ سَنةَ سِتٍّ مِن الهجرةِ، وبِذَلِكَ الصُّلْحِ حَصَلَ مِن
الفتحِ والخيرِ ما لا يَعلَمُه إلاَّ اللَّهُ، مع أنَّه كَرِهَه خَلْقٌ
كثيرٌ مِن المسلِمِينَ، ولم يَعلَموا ما فيه مِن حُسنِ العاقبةِ، وكان عددُ
الصَّحابةِ الذين بايعوا النَّبيَّ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- تحت
الشَّجرةِ أكثرَ مِن ألْفٍ وأربعِمائةٍ، وهم الذين فتَحوا خَيْبَرَ، وسورةُ
الفتحِ أَنْزَلها اللَّهُ قبلَ فتحِ مكةَ، إنَّما سمِّي صلحُ الحديبيةِ
فتحًا؛ لِمَا حَصلَ فيه مِن الخيرِ الكثيرِ الذي لا يَعلَمُه إلاَّ
اللَّهُ. قال في الهدى: وسمِّي صلحُ الحديبيةِ فتحًا، في اللغةِ عبارةٌ عن
فتحِ المُغلَقِ، والصُّلحُ الذي حَصلَ مع المشركين في الحديبيةِ كان بابُه
مَسدوداً مُغلَقاً، حتى فَتحَه اللَّهُ. انتهى. وقال ابنُ كثيرٍ -رَحِمَهُ
اللَّهُ-: والجمهورُ على أَنَّ المرادَ بالفتحِ ها هنا: فتحُ مكةَ. ا.هـ.
قولُه: (الحديبيةُ) كدُوَيْهِيَةَ، وقدْ
تشَدَّدُ، بئرٌ قُرْبَ مكةَ انتهى. قاموسٌ، في هَذِهِ الآيةِ دليلٌ على
أَنَّ الصَّدقةَ – وَكَذَلِكَ سائرُ الأعمالِ – تَتفاضَلُ بحسَبِ الزَّمانِ
والمكانِ، وفيها دليلٌ على فَضْلِ النَّفقةِ في سبيلِ اللَّهِ، وفَضلِ
الجِهادِ في سبيلِ اللَّهِ، وفيها دليلٌ على تفاضُلِ الصَّحابةِ رِضوانُ
اللَّهِ عليهم، واستُدِلَّ بهذه الآيةِ على أَنَّ الصَّحابةَ كُلَّهُم مِن
أهلِ الجَنَّةِ، قال ابنُ حزمٍ: الصَّحابةُ مِن أهلِ الجَنَّةِ قَطْعًا
واستدَلَّ بهذه الآيةِ.
قولُه: (ويقدِّمون المهاجِرَين على الأنصارِ) وَذَلِكَ لِمَا فَضَّلُهم اللَّهُ بِهِ مِن المنْزِلةِ والشَّرفِ، والتَّقديمِ في الذِّكْرِ والرُّتبةِ كما قال -سُبْحَانَهُ-: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ}، وقال: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} الآيةَ.
قولُه: {والمهاجِرين} وهم الذين هاجَروا
مِن مكةَ إلى المدينةِ. انتهى. قَسطلانيٌّ، وقال في الفتحِ: والمرادُ
بالمهاجرينَ مَن عَدا الأنصارِ، ومَن أَسلمَ يَومَ الفتحِ وهلمَّ جرَّا.
اهـ.
والهجرةُ هنا لغةً: التَّرْكُ، وشَرْعا: هُوَ الانتقالُ مِن بلدِ الشِّركِ
أو بلدٍ تَغْلُبُ فيه أحكامُ البِدَعِ المُضِلَّةِ إلى بلدِ الإسلامِ أو
السُّنَّةِ.
قولُه: {الأنصارُ} أي: أنصارُ رَسولِ
اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-، المرادُ بهم الأوسُ والخزرجُ،
وكانوا يُعرفون قبل ذَلِكَ ببني قيلةَ، وَهِيَ الأُمُّ التي تَجمعُ
القَبيلتَيْنِ، فسمَّاهم الرَّسولُ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-
الأنصارَ، فصار ذَلِكَ عَلَماً عليهم، وخُصُّوا بهذه المنْقَبةِ العُظمى
دُونَ غيرِهم مِن القبائلِ، لِما فَازُوا بِهِ مِن إيواءِ النَّبيِّ -صلَّى
اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- ومَن معه، والقيامِ بأَمْرِهم ومُواساتِهم
بأنْفُسِهم وأموالِهم، والأحاديثُ في فضلِ الأنصارِ كثيرةٌ، كحديثِ أَنَّ
النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((آيَةُ الإِيمَانِ حُبُّ الأَنْصَارِ، وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الأَنْصَارِ)).
قولُه: (ويُؤمِنون بأَنَّ اللَّهَ …) إلخ: كما روى الحاكِمُ في المستدرَكِ عن أبي هريرةَ -رضي اللَّهُ عنه- أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((إِنَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ))،
وفي صحيحِ مسلمٍ عن جابرٍ -رضي اللَّهُ عنه- أنَّ غلامًا لحاطِبٍ، قال:
ليَدخُلَّنَ حاطِبٌ النَّارَ، فقال رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ
وسلَّمَ-: ((كَذَبْتَ إِنَّهُ شَهِدَ بَدْراً وَالْحُدَيْبِيَةَ))،
وفي الصَّحيحِ مِن حديثِ عليٍّ -رضي اللَّهُ عنه- في قِصَّةِ كتابِ حاطبِ
بنِ أبي بَلْتعةَ لقريشٍ يُخبِرُهم بخروجِ النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ
وسلَّمَ-، فقال عُمرُ -رضي اللَّهُ عنه-: دَعْني أَضْرِبُ عُنُقَ هَذَا
المنافِقِ، فقال: ((إِنَّهُ شَهِدَ بَدْراً وَمَا
يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ:
اعْمَلُوْا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ )) رواهُ الإمامُ أحمدُ.
قولُه: ((لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ)) الحديثَ،
صرَّحَ العلماءُ بأَنَّ التَّرَجِّيَ المذكورَ في كلامِ اللَّهِ وكلامِ
رسولِه للوُقوعِ، وقد وقع عندَ أحمدَ وأبي داودَ وغيرِهم في حديثِ أبي
هريرةَ بالجزمِ، ولَفظُه: ((إِنَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ …))
الحديثَ، وفي هَذِهِ الأحاديثِ دليلٌ على فضيلةِ أهلِ بدْرٍ، وبِشارةٌ
عظيمةٍ لهم، قال النَّوويُّ في شَرحِ مسلمٍ، قال العلماءُ رَحِمَهُم
اللَّهُ: معناهُ الغفرانُ لهم في الآخرةِ، فإنْ تَوَجَّهَ على أَحَدٍ منهم
حَدٌّ أو غيرُه أُقِيمَ عليه في الدُّنْيَا. ونَقَلَ القاضي عياضٌ الإجماعَ
على إقامةِ الحَدِّ، وأقامَه عُمرُ على بعضِهم، وقال وضَرَبَ النَّبيُّ
-صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- مِسْطحاً وكان بَدْرياًّ. انتهى.
قولُه: (وكانوا ثَلاثَمائةٍ وبِضعةَ عَشَرَ) أي: عِدَّةَ أهلِ بدْرٍ، كما روى البخاريُّ عن البراءِ بنِ عازبٍ -رضي اللَّهُ عنه- قال: كُنَّا
أصحابَ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- نتحدَّثُ أنَّ
عِدَّةَ أصحابِ بدرٍ على عِدَّةِ أصحابِ طَالوتَ الذين عَبَروا معه
النَّهَرَ، ولم يجاوِزُه معه إلاَّ مؤمنٌ بِضعةَ عشَرَ وثلاثُمائةٍ،
وبدرٌ قريةٌ مشهورةٌ على نحو أربعِ مراحِلَ مِن المدينةِ المنوَّرةِ،
وسمِّيت الوقعةُ باسِمِ مَوْضِعها الذي وَقَعت فيه، ووقعةُ بدرٍ من أشهرِ
الوقائعِ التي أَعَزَّ اللَّهُ بها الإسلامَ وقمَعَ بها عَبَدَةَ الأصنامِ.
وكانت وقعةُ بدرٍ نَهارَ الجمعةِ لِسبعَ عشْرةَ خلَتْ مِن رمضانَ مِن
السَّنةِ الثَّانيةِ مِن الهجرةِ، واستُشِهدَ فيها مِن المسلِمِينَ أربعةَ
عَشَرَ نَفْسا سِتَّةٌ مِن المهاجِرينَ وثمانيةٌ مِن الأنصارِ، وقُتِلَ مِن
الكفَّارِ سَبْعونَ.
(6) قولُه: (وبأنَّه لا يَدْخُلُ النَّارَ) إلخ: قال اللَّهُ تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّه عَلَى النَّبيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} وقال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} الآيةَ، وفي صحيحِ مسلمٍ مِن حديثِ جابرٍ -رضي اللَّهُ عنه- أَنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((لاَ يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ))،
وفي "الصَّحيحَيْنِ" وغيرِهما مِن حديثِ جابرٍ -رضي اللَّهُ عنه- قال:
كنَّا في الحديبيةِ ألْفًا وأربعَمائةٍ، فقال لنا رسولُ اللَّهِ -صلَّى
اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((أَنْتُمْ خَيْرُ أَهْلِ الأَرْضِ))
أفادَ هَذَا الحديثُ أنَّ عَدَدَ مَن بايعَ تحتَ الشَّجرةِ ألْفٌ
وأربعُمائةٍ، وفي روايةٍ مِن حديثِ جابرٍ أنَّهم ألْفٌ وخمسُمائةٍ، وفي
حديثِ البراءِ أنَّهم ألْفٌ وأربعُمائةٍ أو أكثرُ، وجُمِعَ بين هَذِهِ
الرِّواياتِ بأنَّ مَن قال ألْفٌ وخمسُمائةٍ جَبَرَ الكَسْرَ، ومَن قال
ألْفٌ وأربعُمائةٍ ألْغَاه، وكان سببُ هَذِهِ البَيعةِ أنَّهُ -صلَّى
اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قَصَدَ مكَّةَ ليَعتَمِرَ فصدَّهُ المشركونَ، وكان
قد بَعثَ عثمانَ -رَضِيَ اللَّهُ عنه- إلى مكةَ فشاع أنَّ عثمانَ قُتِلَ،
فطَلَبَ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- البيعةَ فبايَعوه تحت الشَّجرةِ، ثم
صالَحَ المشركين صُلحَ الحديبيةِ المعروفِ، وَذَلِكَ في سَنةِ سِتٍّ مِن
الهجرةِ في ذي القَعدةِ، ثم رجع بهم إلى المدينةِ وغَزا بهم خيبرَ ففَتحَ
اللَّهُ عليهم في أوَّلِ سَنةِ سبعٍ وقَسَمها بينهم.
قولُه: (شجرةٌ) هي شجرةٌ خضراءُ مِن سِدرٍ، كانت
البيعةُ تحتها، ويقالُ لها شَجرةُ البيعةِ، ولما كان في خِلافةِ عُمرَ،
رأى أناسًا يَذْهَبون إليها فيُصلُّون تحتها، فقَطَعَها -رضي اللَّهُ عنه-
مخافةَ الفِتنةِ بها، واختَفى مكانُها. وأمَّا الحديبيةُ فهي قريبةٌ مِن
مكَّةَ أكثرُها في الحَرمِ، والحديبيةُ بئرٌ كانت هناكَ وسُمِّيَ المكانُ
بها، بينها وبين مكةَ نحوُ مرحلةٍ واحدةٍ، ومِن المدينةِ تِسعُ مراحِلَ.
قولُه: (ونَشهَدُ بالجَنَّةِ …) إلخ، أي
ويَشهَدُ أهلُ السُّنَّةِ والجَماعَةِ بالجَنَّةِ لِمَن شَهِدَ له
الرَّسولُ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- كالعشَرةِ، وهم: أبو بكرٍ، وعمرُ،
وعثمانُ، وعليٌّ، وعبدُ الرَّحمنِ بنُ عوفٍ، والزُّبيرُ بنُ العوَّامِ،
وسعدُ بنُ أبي وقَّاصٍ، وسعيدُ بنُ زيدٍ، وأبو عُبيدةَ بنُ الجرَّاحِ،
وطلحةُ، كما روى الترمذيُّ في جامِعه عن عبدِ الرَّحمنِ بنِ عوفٍ -رضي
اللَّهُ عنه- عن النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((أَبُو
بَكْرٍ فِي الجَنَّةِ، وعُمَرُ فِي الجَنَّةِ، وَعُثْمَانُ في الجَنَّةِ،
وعَلِيٌّ في الجَنَّةِ، والزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ في الجَنَّةِ،
وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ في الجَنَّةِ، وَسَعْدُ بنُ أبي وقَّاصٍ
في الجَنَّةِ، وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ في الجَنَّةِ، وأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ
الْجَرَّاحِ في الجَنَّةِ))، ورواه أحمدُ في مسنَدِه، والضِّياءُ
عن سعيدِ بنِ زيدٍ، وتبشيرُ النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-
العشَرةَ بالجَنَّةِ لا يُنافي مَجِيءَ تبشيرِ غيرِهم في أخبارٍ أخرى؛
لأنَّ العَدَدَ لا ينفي الزَّائِدَ.
وعن عليٍّ -رضي اللَّهُ عنه- أَنَّ النَّبيَّ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ سَيِّدَا كُهُولِ أَهْلِ الجَنَّةِ مِنَ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ إِلاَّ النَّبِيِّينَ والْمُرْسَلِينَ))،
أَخرجَه أحمدُ والترمذيُّ وابنُ ماجهْ، وأَخرجَه أبو يعلى والضِّياءُ في
المختارةِ عن أنسٍ، وأَخرجَه الطَّبرانيُّ في الأوسطِ عن جابرٍ وأبي سعيدٍ،
وقد اتَّفقَ أهلُ السُّنَّةِ على تعظيمِ هؤلاءِ العشَرةِ وتقديمِهم، لِمَا
اشتُهِرَ مِن فضائِلهم ومناقِبهم، خِلافًا للرَّافِضَةِ الذين
يُبْغِضُونَهم ويَسُبُّونَهم، بل يَكرهون لفظَ العَشَرةِ أو فِعلَ شيءٍ
يكونُ فيه عشَرةٌ، ويتشاءَمون بِهِ لموافَقَتِه لاسمِ العشَرةِ المبشَّرةِ
بالجَنَّةِ، لكنَّهم يَسْتَثْنُون عَلياًّ -رضي اللَّهُ عنه-، ولَدَيهِم
مِن الجهالاتِ والعوائدِ الذَّميمةِ وسَفاهَةِ العُقولِ ما يَقْضِى
بعَزلِهم عن زُمرةِ العقلاءِ، وإلا فما ذَنْبُ هَذَا النَّوعِ من العدَدِ؟!
لكنَّه البُغضُ المتأصِّلُ والعداوةُ البالِغةُ لخيارِ المؤمنينَ
وساداتِهم، وأفضْلُ قُرونِهم رِضوانُ اللَّهِ عليهم أجمعين.
(7) قولُه: (وثابتُ بنُ قَيْسٍ)
هُوَ خَطيبُ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- كما رواه
البخاريُّ في "صحيحِه" عن أنسٍ -رضي اللَّهُ عنه- أَنَّ النَّبيَّ -صلَّى
اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- افْتقدَ ثابتَ بنَ قيسٍ، فقال رجُلٌ يا رسولَ
اللَّهِ أنا أَعْلمُ لَكَ عِلْمَهُ، فأَتاه فوَجَدَه في بَيتِه منَكِّسا
رأسَه، فقال له: ما شأنُكَ؟ قال: شرٌّ، كان يَرفَعُ صوْتَه فوقَ صوتِ
النَّبيِّ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- فقد حَبِطَ عَملُه فهُوَ مِن أهلِ
النَّارِ، فأتى الرَّجُلُ النَّبيَّ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-
فأخبَرَه أنَّهُ قال كذا وكذا، قال فرَجعَ إليه المرَّةَ الأخيرةَ فأخبَرَه
ببشارةٍ عظيمةٍ، فقال: ((اذْهَبْ إِلَيْهِ فَقُلْ لَهُ إِنَّكَ لَسْتَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَلِكِنَّكَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ))، تفرَّدَ بِهِ البخاريُّ مِن هَذَا الوجهِ، وفي روايةِ أحمدَ عن أنسٍ: فكنَّا نَراهُ يَمشِي بين أظْهُرِنا ونحن نَعلَمُ أنَّه مِن أهلِ الجَنَّةِ،
ورواه مسلمٌ بلفظٍ آخَرَ، ورواهُ ابنُ جريرٍ وغيرُه، ورَوَى ابنُ أبي
حاتمٍ عن ثابتٍ عن أنسٍ في قصَّةِ ثابتِ بنِ قيسٍ، فقال في آخرِها: فكُنَّا نراهُ يمشي بين أظْهُرِنا ونحن نَعلَمُ أنَّه مِن أهلِ
الجَنَّةِ، فلمَّا كان يومَ اليَمامَةِ كان في بَعْضِنا بَعضُ الانكِشافِ،
فأَقبلَ قد تَكفَّنَ وتحنَّطَ، فقاتَلَ حتى قُتِلَ -رضي اللَّهُ عنه-.
قولُه: (وغيرُهم مِن الصَّحابةِ) وَذَلِكَ
كَعَبدِ اللَّهِ بنِ سَلاَمٍ والحسَنِ، فقد شَهِدَ النَّبيُّ للمذكورَيْنِ،
كما روى البخاريُّ في "صحيحِه" عن سعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ، قال: ما سمعتُ
النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- يقولُ لأحدٍ يَمْشِي إنَّه مِن
أهلِ الجَنَّةِ إلا لعبدِ اللَّهِ بنِ سَلاَمٍ، وفي حديثِ أبي سعيدٍ
الخدريِّ أَنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الجَنَّةِ))،
وفي حديثِ عُكَّاشَةَ بنِ مِحصنٍ: لمَّا ذَكَرَ السَّبعِينَ ألْفًا الذين
يَدخُلونَ الجَنَّة مِن غيرِ حسابٍ ولا عذابٍ، فقال: ادْعُ اللَّهَ أنْ
يجعلَني منهم، فقال: ((أَنْتَ مِنْهُمْ …))
الحديثَ، ولا يُشْهَدُ لغيرِ مَن شَهِدَ لهُ النَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ
عليهِ وسلَّمَ- بجنَّةٍ ولا نارٍ؛ لأنَّه لا يُعلَمُ ماذا يُختَمُ له به،
وأَلْحَقَ بعضُ العلماءِ بمَنْ تَقدَّمَ مَن اتَّفَقَتِ الأمَّةُ على
الثَّناءِ عليه، كعُمرَ بنِ عبدِ العزيزِ والحسَنِ البصريِّ وغيرِهما، وكان
أبو ثورٍ يَشْهَدُ لأحمدَ بنِ حنبلٍ بالجَنَّةِ، وفي المسنَدِ: ((يُوشِكُ أَنْ تَعْلَمُوا أَهْلَ الجَنَّةِ مِن أَهْلِ النَّارِ))، قالوا: بماذا يا رسولَ اللَّهِ؟ قال: ((بالثَّناءِ الحَسَنِ وَالثَّنَاءِ السَّيِّئِ)).
وفي "الصَّحيحَيْنِ" أَنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- مُرَّ عليه بجنازةٍ فأَثنَوْا عليها خيرًا، فقال: ((وَجَبَتْ))، ومُرَّ عليه بجنازةٍ فأَثْنَوْا عليها شَراًّ فقال: ((وَجَبَتْ))، فقيل يا رسولَ اللَّهِ ما قَوْلُكَ وجَبَتْ؟ فقال: ((هَذِهِ
الجِنَازَةُ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهَا بِالْخَيْرِ فَقُلْتُ وَجَبَتْ لَهَا
الجَنَّةُ، وَهَذِهِ الْجِنَازَةُ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهَا شَراًّ فَقُلْتُ
وَجَبَتْ لَهَا النَّارُ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الأَرْضِ)) ).
الروضة الندية للشيخ: زيد بن
عبد العزيز بن فياض رحمه الله
قال الشيخ زيد بن عبد العزيز بن فياض (ت: 1416هـ): (* فصل في فضائل الصحابة *
(فَصْلٌ:
ومِنْ أُصولِ أَهْلِ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ سَلاَمَةُ قُلُوبِهِمْ
وأَلْسِنَتِهمْ لأصْحابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛
كَمَا وَصَفَهُمُ اللهُ بهِ في قَوْلِهِ تَعَالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا
مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ولإِخْوانِنَا الَّذِينَ
سَبَقُونَا بِالإِيْمانِ وَلاَ تَجْعَلْ في قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ
آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤوفٌ رَحِيمٌ}، وَطَاعَةُ النبِيِّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قَوْلِهِ:((لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي
فَوَالَّذي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ
ذَهَباً مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلاَ نَصِيفَهُ)). * مراتبُ الصحابةِ *
قَالَ تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى
رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي
الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ
يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ
فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ
اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ
أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ
اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ
الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن
قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي
صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ
وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـئِكَ
هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ} الآيةَ، ففي
ذَلِكَ بيانُ فضيلةِ الصّحابةِ والرد على الرافضة.
((فهذِهِ الآيةُ تتضمنُ الثناءَ على المهاجرينَ
والأنصارِ وعلى الذينَ جاءوا مِن بعدهم يستغفرونَ لهم ويسألونَ اللهَ أن لا
يجعلَ في قلوبِهم غلًّا لهُم وتتضمنُ أنَّ هؤلاءِ الأصنافَ هم المستحقونَ
للفئِ ولا ريبَ أنَّ هؤلاءِ الرافضةَ خارجون من الأصنافِ الثلاثةِ, فإنَّهم
لم يستغفِروا للسابقينَ، وفي قلوبِهم غلٌّ عليهِم. ففِي هذِهِ الآياتِ
الثناءُ على الصحابةِ وعلى أهلِ السنَّةِ الذين يتولونَهُم وإخراجُ
الرافضةِ من ذلِكَ.
ورَوَى ابنُ بطَّةَ بإسنادِه عن مالكِ بنِ أنسٍ
أنه قالَ مَن سبَّ الصحابةَ فليسَ لهُ في الفئِ نصيبٌ؛ لأنَّ اللهَ تعالى
يقولُ: {وَالذِينَ جَاءوا مِنْ بَعْدِهِم} الآيةَ، وهذا معـروفٌ عن مالكٍ
وغيرِه من أهـلِ العلمِ كأبى عبيدٍ القاسمِ بنِ سـلَّامٍ، وكذا ذكرَهُ أبو
حكيمٍ النهرَوَانيُّ من أصحابِ أحمـدَ, وغيرُه من الفقهاءِ. وروى أيضاً عن
ابنِ عباسٍ قال: أمرَ اللهُ بالاستغفارِ لأصحابِ النبيِّ صلى الله عليه
وسلم وهو يعلمُ أنهم يقتتلونَ.
وقالَ عروةُ قالتْ عائشةٌ: يا بنَ أختي، أُمِروا
بالاستغفارِ لأصحابِ النبيِّ صلى اللهُ عليه وسلم فسبُّوهم. وفي الصحيحِ عن
جابرِ بنِ عبدِ اللهِ قال:َ قيلَ لعائشةَ: إنَّ ناساً يتناولونَ أصحابَ
رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ حتَّى أبا بكرٍ وعمرَ فقالتْ: وما
تعجبونَ من هذا؟
انقطعَ عنهم العملُ، فأحبَّ اللهُ أن لا يَقطعَ
عنهم الأجرَ. وروى ابنُ بطَّةَ عن ابنِ عمرَ: قالَ لا تَسبُّوا أصحابَ
محمدٍ فلَمُقامُ أحدِهم – يعني: مع النبيِّ صلى اللهُ عليه وسلمَ خيرٌ من
عملِ أحدِكم أربعينَ سنة ً. وفي روايةِ وكيعٍ: خيرٌ من عبادةِ أحدِكم
عُمرَه.
وقالَ إبراهيمُ بنُ سعيدٍ الجوهريُّ: سألتُ أبا
أمامةَ: أيُّما كانَ أفضلُ: معاويةُ أو عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ؟ فقالَ: لا
تَعدِلْ بأصحابِ محمدٍ صلى اللهُ عليه وسلمَ أحداً.
وقالَ ابنُ عباسٍ لرجلٍ سمعَه يقولُ كلاماً
يثلِبُ به الصحابةَ فقالَ: أَمِن المهاجرينَ الأولينَ أنتَ؟ قالَ: لا.
قالَ: فمِن الأنصارِ أنتَ؟ قالَ: لا. قالَ: فأنا أشهدُ بأنَّك لستَ من
التابعينَ لهم بإحسانٍ)).
قولُهُ " وطاعةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قولِهِ: لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي ".
إلخ هذا الحديثُ خرَّجاه في الصَّحِيحينِ مِن
حَدِيثِ أبي هريرةَ وأبي سعيدٍ. وعَن أبي سعيدٍ الخُدريِّ قَالَ: كَانَ
بَيْنَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ شَيْءٌ
فَسبَّهُ خَالِدٌ فقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَلَوْ أنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ
ذَهَباً مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ ولَا نِصِيفَهُ. رواه مسلمٌ.
والأصحابُ جَمْعُ صاحبٍ والصَّاحبُ اسمُ فاعلٍ
مِن صَحِبَهُ يَصْحَبُهُ. وذَلِكَ يقعُ عَلَى كثيرِ الصُّحبةِ وقَلِيلِهَا.
وممَّا يبيِّنُ هذا أنَّ لَفْظَ الصُّحبةِ فيه عمومُ خصوصٍ فإنَّه
يُقَالُ: صَحِبْته ساعةً وصَحِبته شهراً وصَحِبْته سنةً. وَهَذَا قولُ
جماهيرِ العلماءِ مِن الفقهاءِ وأهلِ الكلامِ وغيرِهم يَعُدّون في أصحابِ
رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَن قَلَّتْ صحبتُهُ ومَن
كثُرَت وَفِي ذَلِكَ خِلافٌ ضعيفٌ. وكذَلِكَ قَالَ الإِمَامُ أحمدُ وغيرُه:
كُلُّ مَن صَحِبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سنةً أو
شهْراً أو يوماً أو رَآهُ مؤْمِناً به فهو مِن أصحابِه له مِن الصُّحْبةِ
بِقَدْرِ ذَلِكَ ولاَ رَيْبَ أنَّ مُجَرَّدَ رؤيةِ الإنسـانِ لِغيرِهِ لاَ
تُوجِبُ أنْ يُقَالَ قَدْ صَحِبَهُ ولكنْ إذا رَآهُ عَلَى وجْهِ الاتِّباعِ
له والاقتداءِ بهِ دونَ غيرِهِ والاختصاصِ بهِ.
ولهذا لمْ يُعتَدَّ برؤيةِ مَن رأى النَّبِيَّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن الكُفَّارِ والمنافقينِ فأَنَّهُمْ لم
يَرَوْهُ رؤيةَ مَن قَصَدَ أنْ يؤمِنَ بهِ ويكونَ مِن أتباعِهِ وأعوانِهِ
المُصَدِّقينَ له فيما أَخْبَرَ المُطِيعينَ له فيما أَمَرَ الْمُوالِينَ
له المُعادِينَ لِمَنْ عَادَاهُ الذي هو أحبُّ إليهِم مِن أنفسِهِم
وأمـوالِهِمْ وكلِّ شيءٍ. وامتازَ عَن سائرِ المؤمنينَ بأنه رآهُ وهَذِهِ
حالُهُ مَعَهُ فكَانَ صاحباً له بهذا الاعتبارِ ويدلُّ لذَلِكَ ما ثبَتَ في
الصَّحِيحينِ عَن أبي هريرةَ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أنه قَالَ: وَدِدْتُ أَنِّي رَأَيْتُ إِخْوَانِي، قَالوا: يا
رسولَ اللهِ، أَوَلَسْنَا إخوانَكَ؟ فقَالَ: بَلْ أَنْتُمْ أَصْحَابِي.
وَإِخْوَانِي الَّذِينَ يَأْتُونَ بَعْدِي يُؤْمِنُونَ بِي وَلَمْ
يَرَوْنِي. فَدَلَّ عَلَى أنَّ مَن آمَنَ بهِ ورآه فهوَ مِن أصحابِهِ لاَ
مِن هَؤُلاَءِ الإخوانِ الَّذِينَ لم يَرَهُمْ وَلَمْ يَرَوْهُ.
ولمَّا كَانَ لفظُ ((الصُّحْبةِ)) فيه عمومٌ
كَانَ مَنِ اختصَّ بالصُّحبةِ بِما يتمَيَّزُ به عَن غيرِه فوقَ مَن لم
يَشترِكْ معهُ فِيها. كما قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ في حَدِيثِ أبي سعيدٍ لخالدِ بنِ الوليدِ رَضِيَ اللهُ عنهم
أجْمَعِينَ لَمَّا اخْتَصَمَ هوَ وعبدُ الرَّحْمَنِ: يَا خَالِدُ لاَ
تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنْفَقَ
أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحِدٍ ذَهَباً مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ ولَا
نَصِيفَهُ.
فعبدُ الرَّحْمَنِ بنُ عوفٍ وأمثالُهُ رَضِيَ
اللهُ عَنْهُمْ مِن السَّابِقينَ الأوَّلِين الَّذِينَ أنْفَقُوا قبْلَ
الفَتْحِ فَتْحِ الْحُدَيْبِيةِ، وخالدُ بنُ الوليدِ وغيرُهُ مِمَّنْ
أَسْلَمَ بعدَ الحديبيةِ وَأَنفَقُوا وَقَاتَلُوا دونَ أولئكَ قَالَ تعالى:
{لاَ يَسْتَوِي مِنكُمْ مَنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ
أُوْلَـئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنفَقُواْ مِنْ بَعْدُ
وَقَاتَلُواْ} وَالمُرادُ بالفتحِ فتحُ الحُدَيْبِيَةِ.
لَمَّا بَلَغَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أصحابَهُ تحتَ الشجرةِ وسورةُ الفتحِ التي أنْزَلَهَا اللهُ قبلَ
فتحِ مكةَ. بَل قبلَ أنْ يَعْتَمرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عُمْرةَ القَضِيَّةِ وكانتْ بيعةُ الرضوانِ عامَ الحديبيةِ سنةَ
ستٍّ مِن الهِجرةِ وصَالحَ المشركينَ صُلْحَ الحديبيةِ المشهورِ وبذَلِكَ
الصُّلحِ حصلَ مِن الفتحِ والخيرِ ما لاَ يعلمُهُ إلاَ اللهُ.
والمقصودُ أنَّ الَّذِينَ صَحِبوا النَّبِيَّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبلَ الفتحِ واختصُّوا مِن الصُّحبةِ بِما
استحقُّوا به التبريزَ عَلَى مَن بعدَهُم حتَّى قَالَ لخالدٍ رَضِيَ اللهُ
عنه: لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي. فإنَّهُمْ صَحِبوه قبلَ أنْ يصحَبَهُ
خالدٌ وأمثالُهُ.
فإنْ قِيلَ فَلِمَ نَهَى خالداً عَن أنْ يسُبَّ
أصحابَهُ إذا كَانَ مِن أصحابِه أيضاً وقَالَ: لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ
أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَباً مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ ولاَ
نَصِيفَهُ.؟ قُلنا لأنَّ عبدَ الرَّحْمَنِ بنَ عوفٍ ونُظَراءهُ مِن
السَّابقينَ الأوَّلِينَ الذين صَحِبوه في وقتٍ كَانَ خالدٌ وأمثالُهُ
يُعادُونهُ فيهِ. وأنْفَقُوا أموالَهُمْ قبلَ الفتحِ وقَاتَلُوا وَكُلاَّ
وَعَدَ اللهُ الحُسْنَى فَقَدْ انْفَرَدُوا مِن الصُّحبةِ بما لم يُشرِكْهم
فيه خالدٌ وَنُظراؤه مِمَّنْ أسْلَمَ بعدَ الفتحِ الذي هو صُلحُ الحديبيةِ
وقَاتَلَ فَنَهَى أنْ يُسَبَّ أولئكَ الَّذِينَ صحِبُوه قَبْلَه ومَنْ لم
يَصحَبْه قطُّ نِسْبتُه إلى مَن صَحِبهُ كنسبةِ خالدٍ إلى السَّابقينَ
وأبعدَ. وقولُه: لاَ تَسُبُّوا أصْحَابِي. خِطابٌ لكلِّ أحدٍ أنْ يسبَّ
مَنِ انفردَ عنه بِصُحبتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قولُه: مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ ولاَ
نَصِيفَهُ. المُدُّ بضمِّ الميمِ مِكيالٌ معروفٌ والنَّصيفُ لغةٌ في
النِّصْفِ وَهُوَ مكيالٌ دونَ المُدِّ.
قَالَ الخطَّابيُّ: النَّصِيفُ بمَعْنَى النِّصفِ. كما قالوا: الثَّمِينُ بمعنى الثَّمَنِ.
قَالَ الشاعرُ:
فَمَا طَارَ لي في القسمِ إلا ثَمينُها.
وقَالَ آخرُ:
لم يعْدِلْها مُدٌّ ولاَ نصيفٌ
والمَعنْى أنّ جُهدَ المُقِلِّ منهم واليسيرَ مِن
النَّفقةِ الذي أَنْفَقَهُ في سبيلِ اللهِ مَعَ عُسْرةِ العيشِ والضيقِ
الذي كانوا فيه أوْفَى عندَ اللهِ وأزْكَى مِن الكثيرِ الذي يُنفقُهُ مَن
بَعدَهم ا هـ.
وذَلِكَ أنَّ الإيمانَ الذي كَانَ في قلوبِهِم
حينَ الإنفاقِ في أوَّلِ الإسلامِ وقلَّةِ أهلِهِ وكثرةِ الصَّوارفِ عنه
وَضَعْفِ الدَّواعي إليه لاَ يُمَكِّنُ أحداً أن يحصُلَ له مِثْلُه مِمَّنْ
بعدَهُم وَهَذَا يَعرِفُ بَعْضَه مَن ذاقَ الأمُورَ وَعرِفَ المِحنَ
والابتلاءَ الذي يَحصُلُ للنَّاسِ وما يحصُلُ للقلوبِ مِن الأحوالِ
المختلفةِ وَهَذَا مما يُعرفُ به أنَّ أبا بكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه لن يكونَ
أحدٌ مثلَهُ. فإنَّ اليقينَ والإيمانَ الذي كَانَ في قلبِهِ لاَ يُساوِيهِ
أحدٌ. قَالَ أَبُو بكرِ بنُ عيَّاشٍ: مَا سَبَقَهم أَبُو بكرٍ بِكَثرةِ
صلاةٍ ولاَ صيامٍ ولكنْ بشيءٍ وَقَرَ في قلْبِه.
وهكذا سائرُ الصحابةِ حصَلَ لَهُمْ -
بِصُحْبتِهِم للرَّسولِ مؤمنينَ به مُجاهِدينَ معه- إيمانٌ ويقينٌ لم
يَشْركْهم فيه مَن بعدَهم. وقدْ ثبتَ في صحيحِ مُسلمٍ عَن أبي موسى عَن
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه رَفَعَ رأسَهُ إلى
السَّماءِ وكَانَ كثيراً ما يَرْفعُ رأسَهُ إلى السَّماءِ فقَالَ:
النُّجومُ أمِنَةٌ لِلسَّماءِ فَإذَا ذَهَبَتِ
النُّجُومُ أَتَى السَّمَاءَ مَا تُوعَدُونَ، وأَنَا أَمَنةٌ لأَصْحَابِي
فَإذَا ذَهَبْتُ أَتَى أصْحابي ما يُوعَدُونَ، وَأصْحَابِي أَمَنَةٌ
لأُمَّتِي فَإِذَا ذَهَبَ أصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي ما يُوَعَدُونَ. وقدْ
ثَبَتَ ثناءُ النَّبِيِّ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى القرونِ
الثَّلاثةِ في عِدَّةِ أحاديثَ صحيحةٍ مِن حَدِيثِ ابنِ مسعودٍ وعِمرانَ
بنِ حصينٍ يقولُ فيها: خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ
يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ.
وشكَّ بعضُ الرُّواةِ هَلْ ذَكَرَ بعدَ قرْنِه
قَرنينِ أو ثلاثةٍ؟ والمقصودُ أنَّ فضْلَ الأعمالِ وَثَوابَهَا ليسَ
لِمُجرَّدِ صورِهَا الظَّاهرةِ. بلْ لِحَقَائِقِها التي في القلوبِ.
والناسُ يَتفاضلونَ في ذَلِكَ تَفاضُلاً عظيماً. وَهَذَا ممَّا يَحتجُّ بهِ
مَن رَجَّحَ كُلَّ واحدٍ مِن الصَّحَابَةِ عَلَى كلِّّ واحدٍ مِمَّن
بعدَهم فإنَّ العلماءَ مُتَّفقونَ عَلَى أنَّ جُملةَ الصَّحَابةِ أفضلُ مِن
جُملةِ التَّابِعينَ. لكنْ هَل يَفْضُلُ كلُّ واحدٍ مِن الصَّحَابَةِ كلَّ
واحدٍ مِمَّن بعدَهم ويفضُلُ معاويةُ عَلَى عُمَرَ بنِ عبدِ العزيزِ.
ذَكَرَ القَاضي عياضٌ وغيرُه في ذَلِكَ قَوْلينِ وأنَّ الأْكثرِينَ
يُفضِّلون كلَّ واحدٍ مِن الصَّحَابَةِ. وَهَذَا مأثورٌ عَن ابنِ المباركِ
وأحمدَ بنِ حنبلٍ وغيرِهم. ومِن حُجَّةِ هَؤُلاَءِ أنَّ أعمالَ
التَّابِعينَ وإنْ كانتْ أكثرَ.
وعدْلُ عُمَرَ بنِ عبدِ العزيزِ أظْهرُ مِن
معاويةَ وَهُوَ أزهدُ مِن معاويةَ لكنَّ الفضائلَ عندَ اللهِ بحقائقِ
الإيمانِ الذي في القلوبِ. وقد قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَباً مَا
بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ ولاَ نَصِيفَهُ. قَالُوا: فنحنُ قدْ نعلمُ أنَّ
أعمالَ بعضِ مَن بعدَهم أكثرُ مِن أعمالِ بعضِهم لكنْ مِن أينَ نعلمُ أنَّ
ما في قلْبِه مِن الإيمانِ أعظمُ مِمَّا في قلبِ ذَلِكَ؟
والنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يُخبرُ أنَّ مِثلَ جَبَلِ أُحدٍ ذَهَباً مِن التَّابِعينَ الَّذِينَ
أسلَمُوا بعدَ الحديبيةِ لاَ يُساوِي نِصفَ مُدٍّ مِن السابِقينَ،
وَمَعْلومٌ فَضْلُ النفعِ الْمُتعدِّي بعُمَرَ بنِ عبدِ العزيزِ، أعطَى
النَّاسَ حُقوقَهُم وَعَدلَ فيهم فلو قُدِّرَ أنَّ الذي أعَطَاهم مُلْكَهُ
وتَصَدَّقَ به عَلَيْهِمْ لم يعْدِلْ ذَلِكَ ما أَنفَقَهُ السَّابِقونَ
إلاَ شيئاً يسيراً وأينَ مِثْلُ جبلِ أُحدٍ ذَهَباً حتى يُنفِقَهُ
الإنسانُ؟ وَهُوَ لاَ يصيرُ مِثلَ نِصفِ مُدٍّ. ولهذا يقولُ مَن يقولُ مِن
السَّلفِ: غُبارٌ دخلَ في أنفِ معاويةَ مَعَ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضلُ مِن عُمَرَ بنِ عبدِ العزيزِ.
ومَن لعَنَ أحداً مِن أصحابِ رسولِ الله صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ كمعاويةَ وعمرِو بنِ
العاصِ أو مَن هو أفضلُ مِن هَؤُلاَءِ كأبى موسى الأشعرى وأبى هريرة أو من
هو أفضل من هؤلاء كطلحةَ والزبيرِ وعثمانَ أو عليٍّ أو أبي بكرٍ أو عُمَرَ
أو عائشةَ أو نحوِ هَؤُلاَءِ مِن أصحابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ورَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ فإنه يَستحقُّ العقوبةَ البليغةَ
باتِّفاقِ المُسلمينَ. وَتَنَازعـوا هَل يُعاقبُ بالقتلِ أو ما دونَ
القتـلِ؟ وقد ثَبَتَ في الصِّحِيـحِ أنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: لاَ تَسُبُّـوا أصْحَـابِي. الحَـدِيثَ واللعنـةُ أعظـمُ
مِن السبِّ فقدْ قَـالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
لَعْنُ الْمُؤمِنِ كَقَتْلِهِ. وأصحابُهُ خيارُ المؤمنينَ كما قَالَ:
خَيْرُ الْقُرِونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ. وكلُّ مَن رآهُ
وآمَن به فلََه مِن الصُّحبةِ بِقَدْرِ ذَلِكَ.
* الشهـادةُ بالجنَّـةِ *
ويَشْهَدُونَ بالجَنَّةِ لِمَنْ شَهِدَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ كالعَشَرَةِ، وثابِتِ بنِ قَيْسِ بنِ شَمَّاسٍ، وغيْرِهِمْ مِنَ الصَّحابَةِ).