الدروس
course cover
الإيمان بالقدر خيره وشره: 1- العلم والكتابة
11 Nov 2008
11 Nov 2008

3727

0

0

course cover
العقيدة الواسطية

القسم التاسع

الإيمان بالقدر خيره وشره: 1- العلم والكتابة
11 Nov 2008
11 Nov 2008

11 Nov 2008

3727

0

0


0

0

0

0

0

الإيمان بالقدر خيره وشره: 1- العلم والكتابة

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وَتُؤْمِنُ الفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ. وَالإِيمَانُ بِالقَدَرِ عَلَى دَرَجَتَيْنِ: كُلُّ دَرَجَةٍ تَتَضَمَّنُ شَيْئَيْنِ:
فَالدَّرَجَةُ الأُولَى: الإِيمَانُ بِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- عَلِمَ مَا الْخَلْقُ عَامِِلُونَ بِعِلْمِهِ القَدِيم، الَّذِي هُوَ مَوْصُوفٌ بِهِ أَزَلاً وَأَبَدًا، وَعَلِمَ جَمِيعَ أَحْوَالِهِِمْ مِنَ الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِي وَالأَرْزَاقِ وَالآجَال.
ثُمّ كَتَبَ اللهُ تعالى فِي اللّوْحِ الْمَحْفُوظِ مَقَادِيرَ الْخَلائق.
((فَأَوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ الْقَلَمَ قَالَ لَهُ: اُكْتُبْ. قَالَ: مَا أَكتُبُ؟ قَالَ: اُكْتُبْ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)). فَمَا أَصَابَ الإِنْسَانَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ، جَفَّتِ الأَقْلاَمُ، وَطُوِيَتِ الصُّحُفُ، كَمَا قَالَ –سبحانه وتَعَالَى-: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [سُورَةُ الْحَجِّ: 70]، وَقَالَ: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [سُورَةُ الْحَدِيدِ: 22]، وَهَذَا التَّقْدِيرُ التَّابِعُ لِعِلْمِهِ -سُبْحَانَهُ- يَكُونُ فِي مَوَاضِعَ جُمْلَةً وَتَفْصِيلاً، فَقَدْ كَتَبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مَا شَاءَ، فَإِذَا خَلَقَ جَسَدَ الْجَنِينِ قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ بَعَثَ إِلِيْهِ مَلَكًا، فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ؛ فَيُقَالُ: اُكْتُبْ رِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَعَمَلَهُ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، وَنَحْوَ ذَلِكَ. فَهَذَا القدر قَدْ كَانَ يُنْكِرُهُ غُلاَةُ القَدَرِيَّةِ قَدِيمًا وَمُنْكِروهُ اليَوْمَ قَلِيلٌ).

هيئة الإشراف

#2

22 Oct 2008

تعليقات ابن باز على شرح السعدي على الواسطية

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وتؤمنُ الفِرقةُ الناجيةُ أهل السُّنة والجماعةِ بالقَدَرِ خيرِهِ وشرِّهِ. والإيمانُ بالقَدَرِ على دَرَجَتَيْنِ كل درجةٍ تَتَضَمَّنُ شيئين([1]):
فالدرجة الأولى: الإيمانُ بأن الله تعالى عليمٌ بما الخلْقُ عامِلونَ بعلمِهِ القديم، الذي هو موصوفٌ به أَزلاً وأبداً، وعلِم جميعَ أحوالهِم من الطاعاتِ والمعاصي والأرزاقِ والآجالِ. ثمّ كتَبَ الله في اللّوحِ المحفوظِ مقاديرَ الخلْقِ. ((فأول ما خلَقَ اللهُ القَلَمَ قال له: اكتبْ. قال: ما أكتُبُ؟ قال: اكتب ما هو كائنٌ إلى يوم القيامة)). فما أصابَ الإنسانَ لم يَكُنْ ليُخْطِئَهُ، وما أخطأه لم يكن ليُصيبهُ، جَفَّتِ الأقلامُ وطُوِيَتِ الصُّحُفُ كما قال تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج: 70]، وقال: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22].
وهذا التقديرُ التابعُ لعِلْمِهِ سبحانه يكونُ في مواضعَ جُمْلةً وتفصيلاً، فقد كتبَ في اللوحِ المحفوظِ ما شاء، وإذا خلَقَ جسدَ الجنين قبْلَ نفْخِ الروح فيه بعثَ إليه مَلَكاً فيُؤْمَرُ بأربعِ كلماتٍ فيُقالُ له: اكتب رزْقَهُ وأجَلَهُ وعَمَلَهُ، وشقِيٌّ أو سعيدٌ. ونحو ذلك. فهذا التَّقْديرُ قد كان يُنكرُهُ غُلاةُ القَدَريةِ قَديماً ومُنْكِروهُ اليومَ قليلٌ
).

الشرح:

قال الشيخ عبد العزيز بن عبد الله ابن باز (ت: 1420هـ): ( ([1]) "مراتب القدر أربع وإن شئت سميتها أشياء بدلا من مراتب كما سماها المصنف رحمه الله:
الأولى: علم الله بجميع الأشياء وعلمه بجميع أفعال العباد من طاعة ومعصية، وغير ذلك، فهو سبحانه موصوف بالعلم أزلاً وأبداً لا يغيب عن علمه شيء كما قال تعالى: {إنَّ اللهَ بكلِّ شيءٍ عليمٌ} [الأنعام:75].
الثانية: كتابته لجميع الأشياء فجميع ما كان وما سيكون كله مكتوب لديه كما قال تعالى: {أنَّ اللهَ يعلمُ ما في السَّماءِ والأرضِ إن ذلكَ في كتابٍ إنَّ ذلك على اللهِ يسيرٌ} [الحج:70]، وقال: {ما أصابَ من مصيبةٍ} [الحديد:22].
الثالثة: مشيئة الله النافذة في كل شيء وقدرته على كل شيء، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، كما قال تعالى: {ولو شاء الله ما فعلوه] [الأنعام:137]. {لمن شاء منكم أن يستقيم * وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين} [التكوير:28،29]. وقال: {إن الله على كل شيء قدير} [البقرة:20].
الرابعة: الإيمان بأن الله خالك الأشياء وموجدها، فلا خالق غيره، ولا رب سواه كما قال: {الله خالق كل شيء} [الزمر:62]. وقال: {الحمد لله رب العالمين} [الفاتحة:2]. والمراد بالعالمين: جميع المخلوقات، قال تعالى: {قال فرعون وما رب العالمين * قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين} [الشعراء:23،24].اهـ).

هيئة الإشراف

#3

22 Dec 2008

شرح العقيدة الواسطية للشيخ مُحمَّد خَليل هَرَّاس رحمه الله

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): ( (وتُؤْمِنُ الفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ والجَماعَةِ بالقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ.
والإِيمانُ بالقَدَرِ عَلى دَرَجَتينِ، كُلُّ دَرَجَةٍ تَتَضَمَّنُ شَيْئينِ) (1).
(فالدَّرَجَةُ الأوْلى: الإِيمانُ بأَنَّ اللهَ تَعَالى [عليمٌ بما الخَلْقِ] عَامِلُونَ بعِلْمِهِ القَديمِ الذي هُوَ مَوْصوفٌ بهِ أَزَلاً وأَبدًا، وَعَلِمَ جَميعَ أَحوالِهِمْ مِنَ الطَّاعاتِ والمَعاصي والأرْزاقِ والآجالِ، ثُمَّ كَتَبَ اللهُ في اللَّوْحِ المَحْفوظِ مَقاديرَ الخَلْقِ.
فأَوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ القَلَمَ قالَ لهُ: اكْتُبْ. قالَ: ما أَكْتُبُ؟ قالَ: اكْتُبْ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلى يَوْمِ القِيامَةِ.
فمَا أَصَابَ الإِنْسانَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، ومَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصيبَهُ، جَفَّتِ الأْقلامُ، وطُوِيَتِ الصُّحُفُ؛ كَما قالَ تَعالى:
(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ في كِتابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلى اللهِ يَسيرٌ)، وقالَ: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ في الأرْضِ ولا في أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذَلِكَ عَلى اللهِ يَسيرٌ).
وهذا التَّقْديرُ التَّابِعُ لِعِلْمِهِ سُبْحانَهُ يَكُونُ في مَواضِعَ جُمْلَةً وتَفْصيلاً:
فقدْ كَتَبَ في اللَّوْحِ المَحْفوظِ مَا شَاءَ.
وإِذا خَلَقَ جَسَدَ الجَنينِ قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فيهِ؛ بَعَثَ إِليهِ مَلَكًا، فيُؤمَرُ بأَرْبِعِ كَلِماتٍ، فيُقالُ لهُ: اكْتُبْ: رِزْقَةُ، وأَجَلَهُ، وعَمَلَهُ، وشَقِيٌّ أَمْ سَعيدٌ. ونحوَ ذلك.
فهذا التَّقديرُ قَدْ كانَ يُنْكِرُهُ غُلاةُ القَدَرِيَّةِ قديمًا، ومُنْكِروهُ اليَوْمَ قليلٌ) (2)
).

الشرح:

قال الشيخ محمد خليل هراس (ت: 1395هـ): ( (1) والإِيمانُ بالقَدَرِ ِخَيْرِهِ وشَرِّهِ مِنَ اللهِ تباركَ وتعالى أحدُ الأركانِ السِّتَّةِ التَّي يدورُ عليهَا فَلَكُ الإِيمانِ؛ كمَا دلَّ عليهِ حديثُ جبريلَ وغيرُهِ، وكمَا دلَّتْ عليهِ الآياتُ الصَّريحةُ مِنْ كِتَابِ اللهِ عزَّ وجلَّ.
وقَدْ ذكرَ المؤلِّفُ هنَا أنَّ الإِيمانَ بالقَدَرِ على درجتينِ، وأنَّ كلاً مِنْهُمْا تتضمَّنُ شيئينِ:
(2) فَالدَّرَجَةُ الأُولى تَتَضَمَّنُ:
أوَّلاً: الإِيمان بِعِلْمِهِ القدْيمِ المُحِيطِ بجميعِ الأشياءِ، وأنَّهُ تعالى عَلِمَ بهذا العلمِ القدْيمِ الموصوفِ بهِ أَزَلاً وأبدًا كلَّّ ما سَيَعْمَلُهُ الْخَلْقُ فيمَا لا يزالُ، وعَلِمَ بهِ جميعَ أَحْوَالِهِمْ مِنَ الطَّاعاتِ والمعاصِي والأرزاقِ والآجالِ.
فكلُّ ما يوجدُ من أعيانٍ وأوصافٍ ويقعُ مِنْ أفعالٍ وأحداثٍ فهوَ مُطَابِقٌ لِمَا عَلِمَهُ اللهُ عزَّ وجلَّ أَزَلاً.
ثانيًا: أنَّ اللهَ كتبَ ذلكَ كلَّهُ وسجَّلَهُ في اللَّوْحِ المحفوظِ، فَمَا عَلِمَ اللهُ كَوْنَهُ ووُقُوعَهُ مِنْ مَقَادِيرِ الخلائقِ وأصنافِ الموجوداتِ، وما يتبعُ ذلكَ مِنَ الأحوالِ والأوصافِ والأفعالِ ودقيقِ الأمورِ وجَليلِهَا قدْ أَمَرَ القلمَ بكتابتهِ؛ كمَا قالَ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلمَ:
((قَدَّرَ اللهُ مَقَادِيرَ الخَلاَئِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ)).
وكمَا قالَ في الحديثِ الذي ذكرَهُ المُؤَلِّفُ:
((إِنَّ أوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ القَلَمَ؛ قالَ لَهُ: اكْتُبْ. قالَ: وَمَا أَكْتُبُ؟ قالَ: اكْتُبْ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ)).
و(أَوَّلَ) هنَا بالنَّصبِ على الظَّرْفِيَّةِ، والعاملُ فيهِ (قَالَ)؛ أيْ: قالَ لهُ ذلكَ أوَّلَ مَا خَلَقَهُ.
وقَدْ رُوِيَ بالرَّفعِ على أنَّهُ مبتدأٌ، وخبرُهُ (الْقَلَمُ).
ولهذا اختلفَ العلماءُ في العرشِ والقلمِ؛ أيُّهُمَا خُلِقَ أوَّلاً.
وحكى العلاَّمةُ ابنُ القَيِّمِ في ذلكَ قولينِ، واختارَ أنَّ العرشَ مخلوقٌ قبلَ القلمِ.
قالَ في (النُّونيةِ):

وَالنَّاسُ مُخْتَلِفُونَ فِي القَلَمِ الَّذِي ... كُتِبَ القَضَاءُ بِهِ مِـنَ  الدَّيَّـانِ
هَلْ كَانَ قَبْلَ العَرْشِ أَوْ هُوَ بَعْدَهُ ... قَوْلانِ عِنْدَ أَبِي العَلاَ  الهَمْدَانِـيِّ
وَالحَقُّ أَنَّ العَـرْشَ قَبْـلُ لأَنَّـهُ ... قَبْلَ الكِتَابَةِ كَـانَ ذَا  أَرْكَـانِ
وَكِتَابَةُ القَلَمِ الشَّرِيفِ  تَعَقَّبَـتْ ... إِيجَادَهُ مِنْ غَيْرِ  فَصْـلِ  زَمَـانِ


وإذَا كانَ القلمُ قدْ جرى بكلِّّ ما هوَ كائنٌ إلى يومِ القيامةِ بكلِّ ما يقعُ من كائناتٍ وأحداثٍ؛ فهوَ مطابقٌ لِمَا كُتِبَ فيهِ، فَمَا أَصَابَ الإِنسانَ لمْ يَكُنْ لِيُخْطئَهُ، وما أَخْطَأَهُ لمْ يكنْ لِيُصِيبَهُ؛ كمَا جاءَ في حديثِ ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما وغيرِهِ.
وهذا التَّقديرُ التَّابِعُ لِلْعِلْمِ القدْيمِ تارةً يكونُ جملةً؛ كمَا في اللَّوْحِ المحفوظِ؛ فإنَّ فيهِ مقاديرَ كلِّ شيءٍ، ويكونُ في مواضعَ تفصيلاً يخصُّ كلَّ فَرْدٍ؛ كمَا في الكلماتِ الأربعِ التَّي يُؤْمَرُ الْمَلَكُ بكتابتِهَا عندَ نفخِ الرُّوحِ في الْجَنِينِ؛ يَكْتُبُ رزقَهُ، وأجلَهُ، وعملَهُ، وشقيٌّ أمْ سعيدٌ، فهذا تقدْيرٌ خاصٌّ.
وهذا التَّقدْيرُ السَّابقُ على وجودِ الأشياءِ قدْ كانَ يُنْكِرُهُ غلاةُ القَدَرِيَّةِ قدْيمًا؛ مثلُ: مَعْبدٍ الجُهَنِيِّ وغَيْلاَنَ الدِّمَشْقِيِّ، وكانُوا يقولونَ: إنَّ الأمرَ أُنُفٌ.
ومُنْكِرُ هذهِِ الدَّرَجَةِ مِنَ القَدَرِ كَافِرٌ؛ لأنَّهُ أنْكرَ مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بالضَّرورةِ، وقَدْ ثبتَ بالكتابِ والسُّنَّةِ والإِجماعِ).

هيئة الإشراف

#4

22 Dec 2008

شرح العقيدة الواسطية للشيخ: صالح بن فوزان الفوزان

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وتُؤْمِنُ الفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ مِن أَهْلِ السُّنَّةِ والجَماعَةِ بالقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ.والإِيمانُ بالقَدَرِ عَلى دَرَجَتينِ، كُلُّ دَرَجَةٍ تَتَضَمَّنُ شَيْئينِ.(1)

فالدَّرَجَةُ الأولى: الإِيمانُ بأَنَّ اللهَ تَعَالى عليمٌ بالخَلْقِ وهُمْ عَامِلُونَ بعِلْمِهِ القَديمِ الذي هُوَ مَوْصوفٌ بهِ أَزَلاً وأَبداً، وَعَلِمَ جَميعَ أَحوالِهِمْ مِن الطَّاعاتِ والمَعاصي والأرْزاقِ والآجالِ، ثُمَّ كَتَبَ اللهُ في اللَّوْحِ المَحْفوظِ مَقاديرَ الخَلْقِ. فأَوَّل مَا خَلَقَ اللهُ القَلَم قالَ لهُ: اكْتُبْ. قالَ: ما أَكْتُبُ؟ قالَ: اكْتُبْ مَا هُو كَائِنٌ إِلى يَوْمِ القِيامَةِ.فمَا أَصَابَ الإِنْسانَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، ومَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصيبَهُ، جَفَّتِ الأْقلامُ، وطُوِيَتِ الصُّحُفُ؛ كَما قالَ تَعالى: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ في كِتابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلى اللهِ يَسيرٌ)، وقالَ: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ في الأرْضِ ولا في أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذَلِكَ عَلى اللهِ يَسيرٌ). وهذا التَّقْديرُ التَّابِعُ لِعِلْمِهِ سُبْحانَهُ يَكُونُ في مَواضِعَ جُمْلَةً وتَفْصيلاً: فقدْ كَتَبَ في اللَّوْحِ المَحْفوظِ مَا شَاءَ.وإِذا خَلَقَ جَسَدَ الجَنينِ قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فيهِ؛ بَعَثَ إِليهِ مَلَكاً، فيُؤمَرُ بأَرْبَعِ كَلِماتٍ، فيُقالُ لهُ: اكْتُبْ: رِزْقَةُ، وأَجَلَهُ، وعَمَلَهُ، وشَقِيٌّ أَمْ سَعيدٌ. ونحوَ ذلك. فهذا التَّقديرُ قَدْ كانَ يُنْكِرُهُ غُلاةُ القَدَرِيَّةِ قديماً، ومُنْكِروهُ اليَوْمَ قليلٌ.(2) ).


الشرح:

قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: ( (1) القَدَرُ: مصدرُ قَدَرْتُ الشَّيءَ، إذا أحطْتُ بمقدارِه. والمرادُ به هنا تعلُّقُ عِلمِ اللَّهِ بالكائناتِ، وإرادَتُه لها أزَلاً قَبْلَ وُجودِها. فلا حادِثَ إلاَّ وقد قدَّرَه اللَّهُ، أيْ: سَبَق عِلمُه به وتعلَّقَتْ به إرادَتُه -والإيمانُ بالقدَرِ هُوَ أحدُ أركانِ الإيمانِ السِّتَّةِ- وَهُوَ الإيمانُ بالقَدَرِ خيرِه وشرِّهِ.
وفي قولِ الشَّيخِ رَحِمَهُ اللَّهُ: (وتؤمِنُ الفرقةُ النَّاجِيةُ -أهلُ السُّنَّةِ والجَماعةِ- بالقَدَرِ خيرِه وشرِّه) إشارةٌ إلى أنَّ مَن لم يُؤْمِنْ بالقَدَرِ فليس مِن أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ وهَذَا هُوَ مُقتضَى النُّصوصِ، كما في حديثِ جبريلَ حَيْثُ سَأَلَ النَّبيَّ صلى اللهُ عليه وسلم عن الإيمانِ: ((فَقَالَ: الإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ)) فجَعَلَ صلى اللهُ عليه وسلم الإيمانَ بالقَدَرِ سادِسَ أركانِ الإيمانِ، فمْن أنْكَرَه فليس بمؤمنٍ، كما لو لم يؤمِنْ بغيرِه مِن أركانِ الإيمانِ.
وقولُه: (والإيمانُ بالقَدَرِ على درجتَيْنِ.. الخ) وذَكَرَ الشَّيخُ رَحِمَهُ اللَّهُ هنا أنَّ الإيمانَ بالقَدَرِ يشتمِلُ على أربعِ مراتِبَ، هِيَ إجمالا كما يلي:
الأُولى: عِلمُ اللَّهِ الأزليُّ بكُلِّ شيءٍ، ومِن ذَلِكَ عِلمُه بأعمالِ العِبادِ قَبْلَ أنْ يَعمَلُوها.
الثَّانية: كتابةُ ذَلِكَ في اللَّوْحِ المحفوظِ.
الثَّالِثَةُ: مشيئَتُه الشَّامِلةُ وقُدْرَتُه التَّامَّةُ لكُلِّ حادثٍ.
الرَّابعةُ: إيجادُ اللَّهِ لكُلِّ المخلوقاتِ، وأَنَّهُ الخالِقُ وما سِواهُ مخلوقٌ، هَذَا مُجمَلُ مراتِبِ القَدَرِ، وإليك بيانَها بالتَّفصِيلِ.
(2) قولُه: (أَزلاً) الأزَلُ: القِدَمُ الذي لا بِدايةَ له. وقولُه (أبداً) الأبدُ: هُوَ الدَّوامُ في المستقبَلِ الذي لا نهايةَ له. و(الطَّاعاتُ) جمعُ طاعةٍ وهِيَ مُوافَقةُ الأمْرِ. و(المعاصِي) جمعُ مَعصيَةٍ وهِيَ مخالَفةُ الأمْرِ، و(الأرزاقُ) جمعُ رِزْقٍ وَهُوَ ما يَنْفَعُ. و(الآجالُ) جمعُ أَجَلٍ، وَهُوَ مُدَّةُ الشَّيءِ. وأَجَلُ الإنسانِ نهايةُ وَقْتِه في الدُّنيا بالموتِ. و(اللَّوْحُ المحفوظُ) وَهُوَ أُمُّ الكتابِ (محفوظٌ) مِن الزِّيادةِ والنُّقْصانِ فيه. ذَكَرَ الشَّيخُ هنا ما تتضمَّنُه الدَّرجةُ الأُولى مِن دَرَجَتَيِ الإيمانِ بالقَدَرِ، وأنَّها تتضمَّنُ شيئَيْنِ أيْ: مرتَبتَيْنِ:
المرْتبةُ الأُولى: الإيمانُ بعِلمِ اللَّهِ المحُيطِ بكُلِّ شيءٍ مِن الموجوداتِ والمعدوماتِ: هَذَا العِلمُ الذي هُوَ صفةٌ مِن صفاتِه تعالى الذَّاتِيَّةِ التي لا يَزالُ مُتَّصِفا بها أزلاً وأبداً. ومِن ذَلِكَ عِلمُه بأعمالِ الخَلقِ مِن الطَّاعاتِ والمعاصِي، وعِلمُه بأحوالِهم مِن الأرزاقِ والآجالِ وغيرِها.
المرتبةُ الثَّانيةُ: مرْتبةُ الكتابةِ: وهِيَ أنَّ اللَّهَ كتَبَ في اللَّوْحِ المحفوظِ مقاديرَ الخَلقِ، فما يَحدُثُ شيءٌ في الكونِ إلاَّ وقد عَلِمَه اللَّهُ وكتَبَه قَبلَ حُدوثِه.
ثم استدَلَّ الشَّيخُ رَحِمَهُ اللَّهُ على ذَلِكَ بأدلَّةٍ مِن الكِتابِ والسُّنَّةِ، فمِن أدلَّةِ السُّنَّةِ على ذَلِكَ الحديثُ الذي ذَكَرَ الشَّيخُ معناه، ولفْظُه كما رواه أبو داودَ في سُنَنِه عن عُبادةَ بنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم يَقُولُ: ((أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ، فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ. قَالَ: وَمَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ)) فهَذَا الحديثُ يَدُلُّ على مرْتبةِ الكتابةِ، وأنَّ المقادِيرَ كُلَّها مكتوبةٌ.
وقولُه: (أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ، فَقَالَ لَهُ اكْتُبْ) رُوِيَ بنَصْبِ (أوَّلَ) و(الْقَلَمَ) على أنَّ الكلامَ جملةٌ واحدةٌ ومعناه: أَنَّهُ عند أوَّلِ خَلْقِه القَلَمَ قال له اكْتُبْ. ورُوِيَ برفعِ (أوَّلُ) و(القَلَمُ) على أنَّ الكلامَ جُملتانِ الأُولى (أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ) و(قال له اكْتُبْ) جملةٌ ثانيةٌ، فيكونُ المعنى أنَّ أوَّلَ المخلوقاتِ مِن هَذَا العالَمِ القَلمُ.
وقولُه: (فَمَا أَصَابَ الإِنْسَانَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ الخ) مِن كلامِ عُبادةَ بنِ الصَّامِتِ راوي الحديثِ ـ أيْ: ما يُصيبُ الإنسانَ مما يَنْفَعُه أو يَضُرُّه فَهُوَ مُقدَّرٌ عليه لا بُدَّ له أنْ يَقَعَ به ولا يقَعُ به خِلافُه. وقولُه: (جَفَّتِ الأَقْلاَمُ وَطُوِيَتِ الصُّحُفُ) كنايةٌ عن سَبْقِ كتابةِ المقاديرِ والفراغِ منها، وَهُوَ مَعْنَى ما جاءَ في حديثِ ابنِ عبَّاسٍ: ((رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ)) رَواهُ التِّرْمِذِيُّ.
ثم ذَكَرَ الشَّيخُ مِن أدِلَّةِ القرآنِ قولَه تعالى: (أَلمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)(أَلَمْ تَعْلَمْ) الاستفهامُ للتَّقْريرِ: أيْ قد علمْتَ يا مُحَمَّدُ وتيَقَّنْتَ (أنَّ اللَّهَ يَعلَمُ ما في السَّماءِ والأرضِ) فيه إحاطةُ عِلمِه بالعالَمِ العُلْويِّ والعالَمِ السُّفْليِّ، وَهَذِهِ مرتبةُ العِلمِ (إنَّ ذَلِكَ) أيْ: الذي في السَّماءِ والأرضِ مِن معلوماتِه (في كتابٍ) أي مكتوبٌ عنده في أُمِّ الكتابِ، وَهَذِهِ مرتبةُ الكتابةِ (إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) أيْ: إنَّ إحاطةَ عِلمِه بما في السَّماءِ والأرضِ وكتابَتَه يسيرٌ عليه.
والشَّاهِدُ مِن الآيةِ الكريمةِ: أنَّ فيها إثباتَ عِلمِ اللَّهِ بالأشياءِ وكتابَتَها في اللَّوْحِ المحفوظِ، وهَذَا هُوَ ما تتضمَّنُه الدَّرجةُ الأُولى.
واستدلَّ الشَّيخُ أيضا بقولِه تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ) مِن قَحْطِ مطرٍ، وضَعفِ نباتٍ، ونَقْصِ ثمارٍ (وَلاَ فِي أَنْفُسِكُمْ) بالآلامِ والأسقامِ وضِيق العيشِ (إِلاَّ فِي كِتَابٍ) أيْ: إلاَّ وهِيَ مكتوبةٌ في اللَّوْحِ المحفوظِ (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا) أيْ: قَبلَ أنْ نخْلُقَها ونُوجِدَها (إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) أيْ: إنَّ إثباتَها في الكتابِ على كثرتِها يسيرٌ على اللَّهِ سبحانه.
والشَّاهِدُ مِن الآيةِ الكريمةِ: أنَّ فيها دليلا على كتابةِ الحوادثِ في اللَّوْحِ المحفوظِ قبلَ وُقوعِها. ويتضمَّنُ ذَلِكَ عِلمَه بها قبلَ الكتابةِ فهِيَ دليلٌ على مَرْتَبَتَيِ العِلمِ والكتابةِ.
ثم بعد ذَلِكَ أشارَ الشَّيخُ رَحِمَهُ اللَّهُ إلى أنَّ التَّقديرَ نوعانِ: تقديرٌ عامٌّ شامِلٌ لكُلِّ كائنٍ، وَهُوَ الذي تَقدَّمَ الكلامُ عليه بأدِلَّتِه، وَهُوَ المكتوبُ في اللَّوحِ المحفوظِ، وتقديرٌ خاصٌّ، وَهُوَ تفصيلٌ للقَدَرِ العامِّ، وَهُوَ ثلاثةُ أنواعٍ: تقديرٌ عُمْريٌّ، وتقديرٌ حَوْليٌّ، وتقديرٌ يَوْميٌّ. هَذَا معنى قولِ الشَّيخِ: (وهَذَا التَّقديرُ التَّابِعُ لعِلمِه سُبْحَانَهُ يكونُ في مواضِعَ جُملةً) أيْ: تقديرا عاماًّ، وَهُوَ المكتوبُ في اللَّوْحِ المحفوظِ يَعُمُّ جميعَ المخلوقاتِ (وتفصيلا) أيْ: تقديراً خاصاًّ مُفَصِّلاً للتقديرِ العامِّ، وَهُوَ:
1- التَّقديرُ العُمْريُّ كما في حديثِ ابنِ مسعودٍ في شأنِ ما يُكْتَبُ على الجَنِينِ في بطنِ أُمِّهِ مِن أربعِ الكلماتِ: رِزقِه، وأجَلِه، وعَملِه، وشقاوتِه أو سعادتِه.
2- تقديرٌ حَوْليٌّ وَهُوَ ما يُقَدَّرُ في ليلةِ القَدْرِ مِن وقائعِ العامِ، كما في قوله تعالى: (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) [سورة الدُّخاَنِ: 4].
3- تقديرٌ يَوميٌّ، وَهُوَ ما يُقَدَّرُ مِن حوادثِ اليومِ مِن حياةٍ وموتٍ وعزٍّ وذُلٍّ، إلى غيرِ ذلك. كما في قولِه تعالى: (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) [الرَّحْمَنِ: 29]، وعن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: ((إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ لَوْحاً مَحْفُوظاً مِنْ دُرَّةٍ بَيْضاءَ، دَفَّتَاهُ مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ، قَلَمُهُ نُورٌ، وَكِتَابَتُهُ نُورٌ، عَرْضُهُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، يَنْظُرُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ ثَلاَثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ نَظْرَةً، يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَيُعِزُّ وَيُذِلُّ، وَيَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) )). رواه عبدُ الرَّزَّاقِ وابنُ المُنْذِرِ، والطَّبَرانِيُّ والحاكِمُ.
وقولُه: (فهَذَا القَدَرُ) أيْ: الذي سَبَقَ بيانُه بنَوْعَيْهِ العامِّ والخاصِّ (قد كانَ يُنْكِرُه غُلاةُ القَدَرِيَّةِ) أي المُبالِغونَ في نَفْيِ القدَرِ، فيُنكِرونَ عِلمَ اللَّهِ بالأشياءِ قَبلَ وُجودِها، وكتابَتَه لها في اللَّوْحِ المحفوظِ وغيرِه، ويقولونَ: إنَّ اللَّهَ أمَرَ ونَهَى وَهُوَ لا يَعْلَمُ مَن يُطِيعُه ممَّن يَعصِيهِ، فالأمرُ أُنُفٌ أيْ: مُستأْنَفٌ لم يَسْبِقْ في عِلمِ اللَّهِ وتقديرِه، وهؤلاء كفَّرهم الأئمَّةُ، لكنَّهم انْقَرضوا، ولهَذَا قال الشَّيخُ: (ومُنكِروه اليومَ قليلٌ) وبَقِيَتِ الفِرقةُ التي تُقِرُّ بالعلمِ، ولكنْ تَنْفِي دُخولَ أفعالِ العِبادِ في القَدَرِ، وتَزْعُم أنها مخلوقةٌ لهم استقلالا لم يَخْلُقْها اللَّهُ ولم يُرِدْها، كما يأتي بيانُه).

هيئة الإشراف

#5

22 Dec 2008

الروضة الندية للشيخ: زيد بن عبد العزيز بن فياض رحمه الله

المتن:

قال أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وَتُؤْمِنُ الفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ.

وَالإِيمَانُ بِالقَدَرِ عَلَى دَرَجَتَيْنِ، كُلُّ دَرَجَةٍ تَتَضَمَّنُ شَيْئَيْنِ:
فَالدَّرَجَةُ الأَوْلَى: الإِيمَانُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلِمَ مَا الخَلْقُ عَامِلُونَ بِعِلْمِهِ القَدِيمِ الذي هُوَ مَوْصُوفٌ بِهِ أَزَلاً، وَعَلِمَ جَمِيعَ أَحْوَالهِمْ مِن الطَّاعَاتِ وَالمَعَاصِي وَالأَرْزَاقِ وَالآجَالِ، ثُمَّ كَتَبَ اللَّهُ فِي اللَّوْحِ المَحْفُوظِ مَقَادِيرَ الخَلْقِ.
فَأَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ القَلَمَ قَالَ لهُ: اكْتُبْ. قَالَ: مَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ.
فَمَا أَصَابَ الإِنْسَانَ لمْ يَكُنْ ليُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لمْ يَكُنْ ليُصِيبَهُ، جَفَّتِ الأْقلامُ، وَطُوِيَتِ الصُّحُفُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} وَقَالَ: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}. وَهَذَا التَّقْدِيرُ التَّابِعُ لعِلْمِهِ سُبْحَانَهُ يَكُونُ فِي مَوَاضِعَ جُمْلَةً وتَفْصيلاً: فَقَدْ كَتَبَ اللهُ فِي اللَّوْحِ المَحْفُوظِ مَا شَاءَ، وَإِذَا خَلَقَ جَسَدَ الجَنِينِ قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ بَعَثَ إِلَيْهِ مَلَكاً، فَيُؤْمَرُ بأَرْبِعِ كَلمَاتٍ، فَيُقَالُ لهُ: اكْتُبْ رِزْقَةُ، وَأَجَلَهُ، وَعَمَلَهُ، وَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ، وَنَحْوُ ذَلكَ.
فَهَذَا القَدَرُ قَدْ كَانَ يُنْكِرُهُ غُلاةُ القَدَرِيَّةِ قديماً، وَمُنْكِرُوهُ اليَوْمَ قَليلٌ).


الشرح:

قال الشيخ زيد بن عبد العزيز بن فياض (ت: 1416هـ): (ذَكَرَ المُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي هَذَا المَبْحَثِ الرُّكْنَ السَّادِسَ مِن أَرْكَانِ الإِيمَانِ وَهُوَ الإِيمَانُ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، وَذَكَرَ أَنَّ ذَلكَ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَرْبَعِ مَرَاتِبَ:
الأُولَى: عِلْمُ اللَّهِ القَدِيمُ وَأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَعْمَالَ العِبَادِ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلُوهَا.
الثَّانِيَةُ: كِتَابَةُ ذَلكَ فِي اللَّوْحِ المَحْفُوظِ.
الثَّالِثَةُ: مَشِيئَةُ اللَّهِ العَامَّةُ وَقُدْرَتُهُ الشَّامِلَةُ.
الرَّابِعَةُ: إِيجَادُ اللَّهِ لِكُلِّ المَخْلُوقَاتِ وأنَّهُ الخَالقُ، وَكُلُّ مَا سِوَاهُ مَخْلُوقٌ،وَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ،وَهُوَ القَوْلُ الحَقُّ الذي يَدُلُّ عَلَيْهِ الكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لهُمْ بِإِحْسَانٍ خلافاً للْقَدَرِيَّةِ النُّفَاةِ وَالْمُجْبِرَةِ وَنَحْوِهِمْ.
"وَالمُخَاصِمُونَ فِي القَدَرِ نَوْعَانِ:
(أَحَدُهُمَا) مَن يُبْطِلُ أَمْرَ اللَّهِ وَنَهْيَهُ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِه كَالذينَ قَالُوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا}.
(وَالثَّانِي) مَن يُنْكِرُ قَضَاءَهُ وَقَدَرَهُ السَّابِقَ، وَالطَّائِفَتَانِ خُصَمَاءُ للَّهِ.قَالَ عَوْفٌ:مَن كَذَّبَ بِالقَدَرِ فَقَدْ كَذَّبَ بِالإِسْـلامِ، إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدَّرَ أقداراً، وَخَلَقَ الخَلْقَ بِقَدَرٍ، وَقَسَمَ الآجَالَ بِقَدَرٍ، وَقَسَمَ الأَرْزَاقَ بِقَدَرٍ، وَقَسَمَ البَلاءَ بِقَدَرٍ، وَقَسَمَ العَافِيَةَ بِقَدَرٍ، وَأَمَرَ وَنَهَى، وَقَالَ الإِمَامُ أَحْمَـدُ: القَدَرُ قُدْرَةُ اللَّهِ. وَاسْتَحْسَنَ ابْنُ عَقِيلٍ هَذَا الكَلامَ جدًّا وَقَالَ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى دِقَّةِ عِلْمِ أَحْمَدَ وَتَبَحُّرِهِ فِي مَعْرِفَةِ أُصُولِ الدِّينِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ أَبُو الوَفَاءِ: فَإِنَّ إِنْكَارَ القَدَرِ إِنْكَارٌ لقُدْرَةِ الرَّبِّ عَلَى خَلْقِ أَعْمَالِ العِبَادِ وَكِتَابَتِهَا وَتَقْدِيرِهَا،وَسَلَفُ القَدَرِيَّةِ كَانُوا يُنْكِرُونَ عِلْمَهُ بِهَا، وَهُمُ الذينَ اتَّفَقَ السَّلَفُ عَلَى تَكْفِيرِهِمْ.
وَفِي تَفْسِيرِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَن ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِن عِبَادِهِ العُلَمَاءُ} قَالَ: الذين يَقُولُونَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
وَقَوْلُهُ: "خَيْرِهِ وَشَرِّهِ" فَهُوَ تَعَالَى الخَالِقُ لكُلِّ شَيْءٍ وَمَا يَقَعُ فِي الكَوْنِ فَهُوَ بِمَشِيئَتِهِ وَإِنْ كَانَ لا يُحِبُّهُ وَلا يَرَضاهُ " فَإِنَّهُ خَلَقَ الخَيْرَ وَالشَّرَّ لِمَا لهُ فِي ذَلكَ مِن الحِكْمَةِ الَّتِي بِاعْتِبَارِهَا كَانَ فِعْلُه حسناً مُتْقَناً كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِن طِينٍ} وَقَالَ: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} فَلهَذَا لا يُضَافُ إِلَيْهِ الشَّرُّ مُفْرَداً، بَلْ إِمَّا أَنْ يَدْخُلَ فِي العُمُومِ، وَإِمَّا أَنْ يُضَافَ إِلَى السَّبَبِ، وَإِمَّا أَنْ يُحْذَفَ فَاعِلُهُ.
فَالأَوَّلُ: كَقَوْلهِ تَعَالَى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}.
وَالثَّانِي: كَقَوْلهِ: {قُلْ أَعُوَذُ بِرَبِّ الفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ}.
والثالثُ:كقولِه فِيمَا حَكَاهُ عَن الجِنِّ: {وَأَنَّا لاَ نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً}. وَقَدْ قَالَ فِي أُمِّ القُرْآنِ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} فَذَكَرَ أَنَّهُ فَاعِلُ النِّعْمَةِ وَحَذَفَ فَاعِلَ الغَضَبِ وَأَضَافَ الضَّلالَ إِلَيْهِمْ، وَقَالَ الخَليلُ: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} وَلهَذَا كَانَ للَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَسَمَّى نَفْسَهُ بِالأَسْمَاءِ الحُسْنَى المُقْتَضِيَةِ للْخَيْرِ، وَإِنَّمَا يُذْكَرُ الشَّرُّ فِي المَفْعُولاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} وَقَوْلِهِ: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} وَهَذَا لأَنَّ مَا يخَلُقُه مِن الأُمُورِ الَّتِي فِيهَا شَرٌّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَعْضِ النَّاسِ لهُ فِيهَا حِكْمَةٌ هُوَ بِخَلْقِهِ لهَا حَمِيدٌ مَجِيدٌ لهُ المُلكُ وَلَهُ الحَمْدُ. فَلَيْسَتِ الإِضَافَةُ إِلَيْهِ شراً وَلا مَذْمُومَةً فَلا يُضَافُ إِلَيْهِ مَا يُشْعِرُ بِنَقِيضِ ذَلكَ " فَإِنَّ الشَّرَّ لا يَدْخُلُ فِي شَيْءٍ مِن صِفَاتِهِ وَلا فِي أَفْعَالهِ كَمَا لا يَلْحَقُ ذَاتَهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَإِنَّ ذَاتَهُ لهَا الكَمَالُ المُطْلَقُ الذي لا نَقْصَ فِيهِ بِوَجْهٍ مِن الوُجُوهِ، وَأَوْصَافُهُ كَذَلكَ لهَا الكَمَالُ المُطْلَقُ وَالجَلالُ التَّامُّ، وَلا عَيْبَ فِيهَا وَلا نَقْصَ بِوَجْهٍ مَا.
وَكَذَلكَ أَفْعَالُهُ كُلُّهَا خَيْرَاتٌ مَحْضَةٌ لا شَـرَّ فِيهَا أصلاً. وَلَوْ فَعَلَ الشَّرَّ سُبْحَانَهُ لاشْتُقَّ لهُ مِنْهُ اسْمٌ وَلَمْ تَكُنْ أَسْمَاؤُهُ كُلُّهَا حُسْنَى، وَلعَادَ إِلَيْهِ مِنْهُ حُكْمٌ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ عَن ذَلكَ. وَمَا يَفْعَلُهُ مِن العَدْلِ بِعِبَادِهِ وَعُقُوبَةِ مَن يَسْتَحِقُّ العُقُوبَةَ مِنْهُمْ هُوَ خَيْرٌ مَحْضٌ إِذْ هُوَ مَحْضُ العَدْلِ وَالحِكْمَةِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ شراً بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ فَالشَّرُّ وَقَعَ فِي تَعَلُّقِهِ بِهِمْ وَقِيَامِهِ بِهِمْ لا فِي فِعْلِهِ القَائِمِ بِهِ تَعَالَى، وَنَحْنُ لا نُنْكِرُ أَنَّ الشَّرَّ يَكُونُ فِي مَفْعُولاتِهِ المُنْفَصِلَةِ، فَإِنَّهُ خَالِقُ الخَيْرِ وَالشَّرِّ. وَلَكِنْ هُنَا أَمْرَانِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَا مِنْكَ عَلَى بَالٍ:
(أَحَدُهُمَا): أَنَّ مَا هُوَ شَرٌّ أَوْ مُتَضَمِّنٌ للشَّرِّ فَإِنَّهُ لا يَكُونُ إِلا مفعولاً منفصلاً لا يَكُونُ وصفاً لهُ، وَلا فعلاً مِن أَفْعَالِهِ.
(الثَّانِي): أَنَّ كَوْنَهُ شرًّا هُوَ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ إِضَافِيٌّ، فَهُوَ خَيْرٌ مِن جِهَةِ تَعَلُّقِ فِعْلِ الرَّبِّ وَتَكْوِينِهِ بِهِ، وَشَرٌّ مِن جِهَةِ نِسْبَتِهِ إِلَى مَن هُوَ شَرٌّ فِي حَقِّهِ فَلَهُ وَجْهَانِ هُوَ مِن أَحَدِهِمَا خَيْرٌ، وَهُوَ الوَجْهُ الذي نُسِبَ مِنْهُ إِلَى الخَالقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَلْقاً وتكويناً وَمَشِيئةً لِمَا فِيهِ مِن الحِكْمَةِ البَالغَةِ الَّتِي اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِهَا وَأَطْلَعَ مَن شَاءَ مِن خَلْقِهِ عَلَى مَا شَاءَ مِنْهَا، فَقَدْ عَرِفْتَ أَنَّ كَوْنَهُ شرًّا هُوَ أَمْرٌ إِضَافِيٌّ وَهُوَ فِي نَفْسِهِ خَيْرٌ مِن جِهَةِ نِسْبَتِهِ إِلَى خَالقِهِ وَمُبْدِعِهِ.
فَالقَدَرُ لا شَرَّ فِيهِ بِوَجْهٍ مِن الوُجُوهِ فَإِنَّهُ عِلْمُ اللَّهِ وَقُدْرَتُهُ وَكِتَابَتُهُ وَمَشِيئَتُهُ وَذَلكَ خَيْرٌ مَحْضٌ وَكَمَالٌ مِن كُلِّ وَجْهٍ، فَالشَّرُّ ليْسَ إِلَى الرَّبِّ تَعَالَى بِوَجْهٍ مِن الوُجُوهِ لا فِي ذَاتِهِ وَلا فِي أَسْمَائِهِ وَلا فِي صِفَاتِهِ وَلا فِي أَفْعَالهِ.وَإِنَّمَا يَدْخُلُ الشَّرُّ الجُزْئِيُّ الإِضَافِيُّ فِي المَقْضِيِّ المُقَدَّرِ وَيَكُونُ شرًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَحَلٍّ وخيراً بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَحَلٍّ آخَرَ، وَقَدْ يَكُونُ خيراً بِالنِّسْبَةِ إِلَى المَحَلِّ القَائِمِ بِهِ مِن وَجْهٍ كَمَا هُوَ شَرٌّ لهُ مِن وَجْهٍ، بَلْ هَذَا هُوَ الغَالبُ،وَهَذَا كَالقَصَّاصِ وَإِقَامَةِ الحُدُودِ وَقَتْلِ الكُفَّارِ فَإِنَّهُ شَرٌّ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ لا مِن كُلِّ وَجْهٍ بَلْ مِن وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ،وَخَيْرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِمْ لِمَا فِيهِ مِن مَصْلَحَةِ الزَّجْرِ وَالنَّكَالِ وَدَفْعِ النَّاسِ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ،وَكَذَلكَ الآلامُ وَالأَمْرَاضُ وَإِنْ كَانَتْ شروراً مِن وَجْهٍ فَهِيَ خَيْرَاتٌ مِن وُجُوهٍ عَدِيدَةٍ فَالخَيْرُ وَالشَّرُّ مِن جِنْسِ اللَّذَّةِ وَالأَلَمِ وَالنَّفْعِ وَالضَّرَرِ وَذَلكَ فِي المَقْضِيِّ المُقَدَّرِ لا فِي نَفْسِ صِفَةِ الرَّبِّ وَفِعْلِهِ القَائِمِ بِهِ، فَإِنَّ قَطْعَ يَدِ السَّارِقِ شَرٌّ مُؤْلِمٌ ضَارٌّ لهُ وَأَمَّا قَضَاءُ الرَّبِّ ذَلكَ وَتَقْدِيرُهُ عَلَيْهِ فَعَدْلٌ وَخَيْرٌ وَحِكْمَةٌ وَمَصْلَحَةٌ (فَإِنْ قِيلَ): فَمَا الفَرْقُ بَيْنَ كَوْنِ القَدَرِ خيراً وشرًّا وَكَوْنِهِ حُلواً ومرًّا ؟
(قِيلَ) الحَلاوَةُ وَالمَرَارَةُ تَعُودُ إِلَى مُبَاشَرَةِ الأَسْبَابِ فِي العَاجِلِ، وَالخَيْرُ وَالشَّرُّ يَرْجِعُ إِلَى حُسْنِ العَاقِبَةِ وَسُوئِهَا، فَهُوَ حُلْوٌ وَمُرٌّ فِي مَبْدَئِهِ وَأَوَّلِهِ، وَخَيْرٌ وَشَرٌّ فِي مُنْتَهَاهُ وَعَاقِبَتِهِ. وَقَدْ أَجْرَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ سُنَّتَهُ وَعَادَتَهُ أَنَّ حَلاوَةَ الأَسْبَابِ فِي العَاجِلِ تُعْقِبُ المَرَارَةِ فِي الآجِلِ، وَمَرَارَتَهَا تُعْقِبُ الحَلاوَةِ فَحُلْوُ الدُّنْيَا مُرُّ الآخِرَةِ، وَمُرُّ الدُّنْيَا حُلْوُ الآخِرَةِ. وَقَدْ اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ سُبْحَانَهُ أَنْ جَعَلَ اللَّذَّاتِ تُثْمِرُ الآلامَ وَالآلامَ تُثْمِرُ اللَّذَّاتِ، وَالقَضَاءُ وَالقَدَرُ مُنْتَظِمٌ لذَلكَ انتظاماً لا يَخْرُجُ عَنْهُ شَيْءٌ البَتَّةَ، وَالشَّرُّ مَرْجِعُهُ إِلَى اللَّذَّاتِ وَأَسْبَابِهَا، وَالخَيْرُ المَطْلُوبُ هُوَ اللَّذَّاتُ الدَّائِمَةُ،وَالشَّرُّ المَرْهُوبُ هُوَ الآلامُ الدَّائِمَةُ، فَأَسْبَابُ هَذِهِ الشَّرورِ وَإِنْ اشْتَمَلَتْ عَلَى لذَّةٍ مَا، وَأَسْبَابُ تِلْكَ الخَيِّرَاتِ وَإِنْ اشْتَمَلَتْ عَلَى أَلَمٍ مَا. فَأَلَمٌ يَعْقِبُ اللَّذَّةَ الدَّائِمَةَ أَوْلَى بِالإِيثَارِ وَالتَّحَمُّلِ مِن لذَّةٍ تَعْقُبُ الأَلَمَ الدَّائِمَ، فَلَذَّةُ سَاعَةٍ فِي جَنْبِ أَلَمٍ طَوِيلٍ كَلاَ لذَّةَ، وَأَلَمُ سَاعَةٍ فِي جَنْبِ لذَّةٍ طَوِيلَةٍ كَلاً أَلَمَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّرَّ كُلَّهُ يَرْجِعُ إِلَى العَدَمِ -أَعْنِي عَدَمَ الخَيْرِ وَأَسْبَابِهِ المُفْضِيَةِ إِلَيْهِ- وَهُوَ مِن هَذِهِ الجِهَةِ شَرٌّ. وَأَمَّا مِن جِهَةِ وُجُودِهِ المَحْضِ فَلا شَرَّ فِيهِ. مِثَالُهُ: إِنَّ النُّفُوسَ الشِّرِّيرَةَ وُجُودُهَا خَيْرٌ مِن حَيْثُ هِيَ مَوْجُودَةٌ. وَإِنَّمَا حَصَلَ لهَا الشَّرُّ بِقَطْعِ مَادَّةِ الخَيْرِ عَنْهَا، فَإِنَّهَا خُلِقَتْ فِي الأَصْلِ مُتَحَرِّكَةً لا تَسْكُنُ، فَإِنْ أُعِينَتْ بِالعِلْمِ وَإِلْهَامِ الخَيْرِ تَحَرَّكَتْ، وَإِنْ تُرِكَتْ تَحَرَّكَتْ بِطَبْعِهَا إِلَى خِلافِهِ، وَحَرَكَتُهَا مِن حَيْثُ هِيَ حَرَكَةٌ خَيْرٌ. وَإِنَّمَا تَكُونُ شرًّا بِالإِضَافَةِ لا مِن حَيْثُ هِيَ حَرَكَةٌ. وَالشَّرُّ كُلُّهُ وَهُوَ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، فَلَوْ وُضِعَ فِي مَوْضِعِهِ لمْ يَكُنْ شرًّا، فَعُلِمَ أَنَّ جِهَةَ الشَّرِّ فِيهِ نِسْبَةٌ إِضَافِيَّةٌ.
وَلهَذَا كَانَتِ العُقُوبَاتُ المَوْضُوعَاتُ فِي مَحَالِّهَا خيراً فِي نَفْسِهَا وَإِنْ كَانَتْ شرًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى المَحَلِّ الذي حَلَّتْ بِهِ لِمَا أَحْدَثَتْ فِيهِ مِن الأَلَمِ الذي كَانَتِ الطَّبِيعَةُ قَابِلَةً لضِدِّهِ مِن اللَّذَّةِ مُسْتَعِدَّةً لهُ، فَصَارَ ذَلكَ الأَلَمُ شرًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا وَهُوَ خَيْرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الفَاعِلِ حَيْثُ وَضَعَهُ مَوْضِعَهُ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لا يَخَلُقُ شرًّا محضاً مِن جَمِيعِ الوُجُوهِ وَالاعْتِبَارَاتِ، فَإِنَّ حِكْمَتَهُ تَأْبَى ذَلكَ، بَلْ قَدْ يَكُونُ ذَلكَ المَخْلُوقُ شرًّا وَمَفْسَدَةً بِبَعْضِ الاعْتِبَارَاتِ، وَفِي خَلْقِهِ مَصَالحُ وَحِكَمٌ بِاعْتِبَارَاتٍ أُخَرَ أَرْجَحَ مِن اعْتِبَارَاتِ مَفَاسِدِهِ، بَل الوَاقِعُ مُنْحَصِرٌ فِي ذَلكَ فَلا يُمْكِنُ فِي جَنَابِ الحَقِّ - جَلَّ جَلالُهُ - أَنْ يُرِيدَ شَيْئاً يَكُونُ فسَاداً مِن كُلِّ وَجْهٍ بِكُلِّ اعْتِبَارٍ، لا مَصْلَحَةَ فِي خَلْقِهِ بِوَجْهٍ مَا.
هَذَا مِن أَبَيَنِ الْمَحَالِّ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ بِيَدِهِ الخَيْرُ، وَالشَّرُّ ليْسَ إِلَيْهِ، بَلْ كُلُّ مَا إِلَيْهِ فَخَيْرٌ، وَالشَّرُّ إِنَّمَا حَصَلَ لِعَدَمِ هَذِهِ الإِضَافَةِ وَالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ. فَلَوْ كَانَ إِلَيْهِ لمْ يَكُنْ شرًّا، فَتَأَمَّلْهُ. فَانْقِطَاعُ نِسَبْتِهِ إِلَيْهِ هُوَ الذي صَيَّرَهُ شرًّا. (فَإِنْ قُلْتَ:) لمْ تَنْقَطِعْ نِسْبَتُهُ إِلَيْهِ خَلْقاً وَمَشِيئَةً ؟ قُلْتُ: هُوَ مِن هَذِهِ الجِهَةِ ليْسَ بَشَرٍّ، فَإِنَّ وُجُودَهُ هُوَ المَنْسُوبُ إِلَيْهِ، وَهُوَ مِن هَذِهِ الجِهَةِ ليْسَ بَشَرٍّ وَالشَّرُّ الذي فِيهِ مِن عَدَمِ إِمْدَادِهِ بِالخَيْرِ وَأَسْبَابِهِ، وَالعَدَمُ ليْسَ بِشَيْءٍ يُنْسَبُ إِلَى مَن بِيَدِهِ الخَيْرُ.
فَإِنْ أَرَدْتَ مَزِيدَ إِيضَاحٍ لذَلكَ فَاعْلَمْ أَنَّ أَسْبَابَ الخَيْرِ ثَلاثَةٌ: الإِيجَادُ وَالإِعْدَادُ وَالإِمْدَادُ، فَهَذِهِ هِيَ الخَيْرَاتُ وَأَسْبَابُهَا، فَإِيجَادُ السَّبَبِ خَيْرٌ وَهُوَ إِلَى اللَّهِ، وَإِعْدَادُهُ خَيْرٌ وَهُوَ إِلَيْهِ أيضاً. وَإِمْدَادُهُ خَيْرٌ وَهُوَ إِلَيْهِ أيضاً، فَإِذَا لم يَحْدُثْ فِيهِ إِعْدَادٌ وَلا إِمْدَادٌ حَصَلَ فِيهِ الشَّرُّ بِسَبَبِ هَذَا العَدَمِ الذي ليْسَ إِلَى الفَاعِلِ وَإِنَّمَا إِلَيْهِ ضِـدُّهُ. فَإِنْ قُلْتَ:فَهَـلاَّ أَمَدَّهُ إِذْ أَوْجَدَهُ؟ (قُلْتُ) مَا اقْتَضَتِ الحِكْمَةُ إِيجَادَهُ وَإِمْدَادَهُ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يُوجِدُهُ وَيَمُدُّهُ، وَمَا اقْتَضَتْ إِيجَادَهُ وَتَرْكَ إِمْدَادِهُ أَوْجَدَهُ بِحِكْمَتِهِ وَلَمْ يَمُدَّهُ بِحِكْمَتِهِ فَإِيجَادُهُ خَيْرٌ، وَالشَّرُّ وَقَعَ مِن عَدَمِ إِمْدَادِهِ.
(فَإِنْ قُلْتَ:) فَهَلاَّ أَمَدَّ المَوْجُودَاتِ كُلَّهَا؟ (قُلْتُ) فَهَذَا سُؤَالٌ فَاسِدٌ يَظُنُّ مُورِدُهُ أَنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ المَوْجُودَاتِ أَبْلَغُ فِي الحِكْمَةِ، وَهَذَا عَيْنُ الجَهْلِ بَل، الحِكْمَةُ كُلُّ الحِكْمَةِ فِي هَذَا التَّفَاوُتُ العَظِيمُ الوَاقِعُ بَيْنَهَا، وَلَيْسَ فِي خَلْقِ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا تَفَاوُتٌ، وَالتَّفَاوُتُ إِنَّمَا وَقَعَ بِأُمُورٍ عَدَمِيَّةٍ لمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا الخَلْقُ، وَإِلاَّ فَلَيْسَ فِي الخَلْقِ مِن تَفَاوُتٍ.
وَسِرُّ المَسْأَلَةِ أَنَّ الرِّضَى بِاللَّهِ يَسْتَلْزِمُ الرِّضَى بِصِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَأَحْكَامِهِ، وَلا يَسْتَلْزِمُ الرِّضَى بِمَفْعُولاتِهِ كُلِّهَا، بَلْ حَقِيقَةُ العُبُودِيَّةِ أَنْ يُوَافِقَهُ عَبْدُهُ فِي رِضَاهُ وَسُخْطِهِ فَيَرْضَى مِنْهَا بِمَا يَرْضَى بِهِ وَيَسْخَطُ مِنْهَا مَا سَخِطَهُ (فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَرْضَى لعَبْدِهِ شَيْئاً وَلا يُعِينُهُ عَلَيْهِ؟ (قُلْتُ): لأَنَّ إِعَانَتَهُ عَلَيْهِ قَدْ تَسْتَلْزِمُ فَوَاتَ مَحْبُوبٍ لهُ أَعْظَمُ مِن حُصُولِ تِلْكَ الطَّاعَةِ الَّتِي رَضِيَهَا لهُ.
وَقَدْ يَكُونُ وُقُوعُ تِلْكَ الطَّاعَةِ مِنْهُ يَتَضَمَّنُ مَفْسَدَةً هِيَ أَكْرَهُ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ مِن مَحَبَّتِهِ لتِلْكَ الطَّاعَةِ بِحَيْثُ يَكُونُ وُقُوعُهَا مِنْهُ مُسْتَلْزِماً لِمَفْسَدَةٍ رَاجِحَةٍ، ومُفَوِّتاً لمَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ. وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى ذَلكَ فِي قَوْلِهِ: {وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}.
فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ كَرِهَ انْبِعَاثَهُمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للْغَزْوِ وَهُوَ طَاعَةٌ وَقُرْبَةٌ، وَقَدْ أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ، فَلَمَّا كَرِهَهُ مِنْهُمْ ثَبَّطَهُمْ عَنْهُ.
ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ بَعْضَ المَفَاسِدِ الَّتِي كَانَتْ ستَتَرَتَّبُ عَلَى خُرُوجِهِمْ لوْ خَرَجُوا مَعَ رَسُـولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُمْ مَّا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالاً} أَيْ فساداً وشرًّا {ولأَوْضَعُواْ خِلالَكُمْ} أَيْ سَعَوْا فِيمَا بَيْنَكُمْ بِالفَسَادِ وَالشَّرِّ {يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} أَيْ قَابِلُونِ مِنْهُمْ مُسْتَجِيبُونَ لهُمْ فَيَتَوَلَّدُ مِن بَيْنِ سَعْيِ هَؤُلاءِ بِالفَسَادِ وَقَبُولِ أُولَئِكَ مِنْهُمْ مِن الشَّرِّ مَا هُوَ أَعْظُمُ مِن مَصْلَحَةِ خُرُوجِهِمْ فَاقْتَضَتِ الحِكْمَةُ وَالرَّحْمَةُ أَنْ مَنَعَهُمْ مِن الخُرُوجِ وَأَقْعَدَهُمْ عَنْهُ فَاجْعَلْ هَذَا المِثَالَ أصلاً لهَذَا البَابِ وَقِسْ عَلَيْهِ.
(فَإِنْ قُلْتَ:) قَدْ يُتَصَوَّرُ لي هَذَا فِي رِضَى الرَّبِّ تَعَالَى لبَعْضِ مَا يخَلُقُهُ مِن وَجْهٍ وَكَرَاهَتِهِ مِن وَجْهٍ آخَرَ. فَكَيْفَ لي بِأَنْ يَجْتَمِعَ الأَمْرَانِ فِي حَقِّي بِالنِّسْبَةِ إِلَى المَعَاصِي وَالفُسُوقِ؟ ( قُلْتُ: ) هُوَ مُتَصَوَّرٌ مُمْكِنٌ، بَلْ وَاقِعٌ، فَإِنَّ العَبْدَ يَسْخَطُ ذَلكَ وَيُبْغِضُهُ وَيَكْرَهُهُ مِن حَيْثُ هُوَ فِعْلٌ لهُ بِسَبَبِهِ وَوَاقِعٌ بِكَسْبِهِ وَإِرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ، وَيَرْضَى بِعِلْمِ اللَّهِ وَكِتَابَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَإِذْنِهِ الكَوْنِيِّ فِيهِ، فَيَرْضَى بِمَا مِن اللَّهِ، وَيَسْخَطُ مَا هُوَ مِنْهُ. فَهَذَا مَسْلَكُ طَائِفَةٍ مِن أَهْلِ العِرْفَانِ.
وَطَائِفَةٌ أُخْرَى رَأَوْا كَرَاهَةَ ذَلكَ مُطلقاً، وَعَدَمَ الرِّضَى بِهِ مِن كُلِّ وَجْهٍ، وَهَؤُلاءِ فِي الحَقِيقَةِ لا يُخَالفُونَ أُولَئِكَ، فَإِنَّ العَبْدَ إِذَا كَرِهَهَا مُطلقاً فَإِنَّ الكَرَاهَةَ إِنَّمَا تَقَعُ عَلَى الاعْتِبَارِ المَكْرُوهِ مِنْهَا، وَهَؤُلاءِ لمْ يَكْرَهُوا عِلْمَ الرَّبِّ وَكِتَابَتَهُ وَمَشِيئَتَهُ وَإِلْزَامَهُ حُكْمَهُ الكَوْنِيَّ، وَأُولَئِكَ لمْ يَرْضَوْا بِهَا مِن الوَجْهِ الذي سَخِطَهَا الرَّبُّ وَأَبْغَضَهَا لأَجْلِهِ.
وَسِرُّ المَسْأَلَةِ أَنَّ الذي إِلَى الرَّبِّ مِنْهَا غَيْرُ مَكْرُوهٍ، وَالذي إِلَى العَبْدِ مِنْهَا هُوَ المَكْرُوهُ وَالمَسْخُوطُ ( فَإِنْ قَلْتَ: ) ليْسَ للْعَبْدِ شَيْءٌ مِنْهَا ؟ ( قُلْتُ ): هَذَا هُوَ الجَبْرُ البَاطِلُ الذي لا يُمْكِنُ صَاحِبُهُ التَّخَلُّصَ مِن هَذَا المَقَامِ: الضَّيِّقِ وَالْقَدَرِيُّ أَقْرَبُ إِلَى التَّخَلُّصِ مِنْهُ مِن الْجَبْرِيِّ، وَأَهْلُ السُّنَّةِ المُتَوَسِّطُونَ بَيْنَ القَدَرِيَّةِ وَالجَبْرِيَّةِ هُمْ أَسْعَدُ بِالتَّخَلُّصِ مِنْهُ مِن الفَرِيقَيْنِ (فَإِنْ قُلْتَ ) كَيْفَ يَتَأَتَّى النَّدَمُ وَالتَّوْبَةُ مَعَ شُهُودِ الحِكْمَةِ فِي التَّقْدِيرِ وَمَعَ شُهُودِ القَوْمِيَّةِ وَالمَشِيئَةِ النَّافِذَةِ ؟
( قُلْتُ: ) هَذَا الذي أَوْقَعَ مَن عَمِيَتْ بَصِيرَتُهُ فِي شُهُودِ الأَمْرِ عَلَى خِلافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ، فَرَأَى تِلْكَ الأَفْعَالَ طَاعَات؛ٍ لمُوَافَقَتِهِ فِيهَا المَشِيئَةَ وَالقَدَرَ، وَقَالَ: إِنْ عَصَيْتُ أَمْرَهُ فَقَدْ أَطَعْتُ إِرَادَتَهُ فِي ذَلكَ. وَقِيلَ:

أَصْبَحْتُ مُنْفَعِلاً لِمَا تَخْتَارُهُ مِنِّي فَفِعْلِي كُلُّهُ طَاعَاتٌ

وَهَؤُلاءِ أَعْمَى الخَلْقِ بَصَائِرَ، وَأَجْهَلُهُمْ بِاللَّهِ وَأَحْكَامِهِ الدِّينِيَّةِ وَالكَوْنِيَّةِ فَإِنَّ الطَّاعَةَ هِيَ مُوَافَقَةُ الأَمْرِ لا مُوَافَقَةُ القَدَرِ وَالمَشِيئَةِ، وَلَوْ كَانَتْ مُوَافَقَةُ القَدَرِ طَاعَةً للَّهِ لكَانَ إِبْليسُ مِن أَعْظَمِ المُطِيعِينَ للَّهِ، وَكَانَ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَقَوْمُ فِرْعَـوْنَ كُلُّهُمْ مُطِيعِينَ لهُ، فَيَكُونُ قَدْ عَذَّبَهُمْ أَشَدَّ العَذَابِ عَلَى طَاعَتِهِ وَانْتَقَمَ مِنْهُمْ لأَجْلِهَا. وَهَذَا غَايَةُ الجَهْلِ بِاللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ.
قَوْلُهُ: (فَالدَّرَجَةُ الأَوْلَى الإِيمَانُ بِأَنَّ اللَّهَ عَلِمَ مَا الخَلْقُ عَامِلُونَ بِعِلْمِهِ القَدِيمِ الذي هُوَ مَوْصُوفٌ بِهِ أَزَلاً)، الأَزَلُ- بِالتَّحْرِيكِ-: القِدَمُ، يُقَالُ أَزَلِيٌّ أَيْ: قَدِيمٌ.
وَفِي اللسَانِ: وَذَكَرَ أَهْلُ العِلْمِ أَنَّ أَصْلَ هَذِهِ الكَلمَةِ قَوْلُهُمْ للْقَدِيمِ لمْ يَزَلْ ثُمَّ نُسِبَ إِلَى هَذَا فَلَمْ يَسْتَقِمْ إِلاَّ بِالاخْتِصَارِ فَقَالُوا يَزَلِيٌّ. ثُمَّ أُبْدِلَتِ اليَاءُ ألِفاً؛ لأَنَّهَا أَخَفُّ فَقَالُوا: أَزَلِيٌّ كَمَا قَالُوا فِي الرُّمْحِ المَنْسُوبِ إِلَى ذِي يَزَنَ: أَزَنِيٌّ اهـ.
وَالعِلْمُ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ للَّهِ لا يَخْلُو مِنْهَا، وَقَدْ قَدَّرَ مَقَادِيرَ الخَلائِقِ قَبْلَ أَنْ يخَلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ.
وَالعِلْمُ أَعَمُّ مِن الإِرَادَةِ وَأَصْلٌ لهَا، وَالمَعْلُومُ أَعَمُّ مِن المُرَادِ، فَالعِلْمُ يَتَنَاوَلُ المَوْجُودَ وَالمَعْدُومَ وَالوَاجِبَ وَالمُمْكِنَ وَالمُمْتَنِعَ وَمَا كَانَ وَمَا سَيَكُونُ وَمَا يَخْتَارُهُ وَمَا لا يَخْتَارُهُ.
وَأَمَّا الإِرَادَةُ فَتَخْتَصُّ بِبَعْضِ الأُمُورِ دُونَ بَعْضٍ، وَالخَبَرُ يُطَابِقُ العِلْمَ، فَكُلُّ مَا يُعْلَمُ يُمْكِنُ الخَبَرُ بِهِ،وَالإِنْشَاءُ يُطَابِقُ الإِرَادَةَ، فَإِنَّ الأَمْرَ إِمَّا مَحْبُوبٌ يُؤْمَرُ بِهِ أَوْ مَكْرُوهٌ يُنْهَى عَنْهُ، وَأَمَّا مَا ليْسَ بِمَحْبُوبٍ وَلا مَكْرُوهٍ فَلا يُؤْمَرُ بِهِ وَلا يُنْهَى عَنْهُ.
فَمَرْتَبَةُ العِلْمِ السَّابِقِ هِيَ أُولَى مَرَاتِبِ القَدَرِ " وَقَدْ اتَّفَقَ عَلَيْهَا الرُّسُلُ مِن أَوَّلِهِمْ إِلَى خَاتِمِهِمْ، وَاتَّفَقَ عَلَيْهَا الصَّحَابَةُ وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِن الأُمَّةِ، وَخَالَفَهُمْ مَجُوسُ الأُمَّةِ.
وَكِتَابَتُهُ السَّابِقَةُ تَدُلُّ عَلَى عِلْمِهِ بِهَا قَبْلَ كَوْنِهَا وَقَدْ كَفَّرَ السَّلَفُ مِن الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مَن أَنْكَرَ عِلْمَ اللَّهِ القَدِيمَ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: "وَالذي يَحْلفُ بِهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ: لوْ كَانَ لأَحَدِهِمْ مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَباً ثُمَّ أَنْفَقَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا قَبِلَهُ اللَّهُ مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ" " وَكَذَا كَلاَمُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ الِله وَوَاثِلَةَ بْنِ الأَسْقَعِ وَغَيْرِهمْ مِن الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الإِسْلامِ كَثِيرٌ حَتَّى قَالَ فِيهِمُ الأَئِمَّةُ كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ: إِنَّ المُنْكِرِينَ لعِلْمِ اللَّهِ القَدِيمِ يُكْفَرَونَ "فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلِمَ أَهْلَ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلُوا الأَعْمَالَ، وَهَذَا حَقٌّ يَجِبُ الإِيمَانُ بِهِ بَلْ قَدْ نَصَّ الأَئِمَّةُ كَمَالكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ أَنَّ مَنْ جَحَدَ هَذَا فَقَدَ كَفَرَ بَلْ يَجِبُ الإِيمَانُ بِهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَلِمَ مَا سَيَكُونُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ.
وَفِي الصَّحِيحِ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِمَ اللَّهُ أَهْلَ الجَنَّةِ مِن أَهْلِ النَّارِ ؟ قَالَ: "نَعَمْ" قِيلَ: فِيمَ العَمَلُ؟ قَالَ: "اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لهُ". وَذَلكَ أَنَّ اللَّهَ عَلِمَ الأَشْيَاءَ كَمَا هِيَ عَلَيْهِ وَقَدْ جَعَلَ أسباباً تَكُونُ بِهَا، وَيَعْلَمُ أَنَّهَا تَكُونُ بِتِلْكَ الأَسْبَابِ.
فَلا بُدَّ مِن الأَسْبَابِ الَّتِي قَدْ عَلِمَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِن الدُّعَاءِ وَالسُّؤَالِ وَغَيْرِهِ فَلا يَنَالُ العَبْدُ شَيْئاً إِلا بِمَا قَدَّرَهُ اللَّهُ مِن جَمِيعِ الأَسْبَابِ، وَاللَّهُ خَالقُ ذَلكَ الشَّيْءِ وَخَالقُ الأَسْبَابِ؛ وَلهَذَا قِيلَ: الالْتِفَاتُ إِلَى الأَسْبَابِ شِرْكٌ فِي التَّوْحِيدِ، وَمَحْوُ الأَسْبَابِ إِنْ تَكُونَ أَسْبَابُ نَقْصٍ فِي العَقْلِ، وَالإِعْرَاضُ عَن الأَسْبَابِ بِالكُلِّيَّةِ قَدْحٌ فِي الشَّرْعِ. وَمُجَرَّدُ الأَسْبَابِ لا تُوجِبُ حُصُولَ المُسَبَّبِ، بَلْ لا بُدَّ مِن تَمَامِ الشُّروطِ، وَزَوَالِ المَوَانِعِ، فَكُلُّ ذَلكَ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ.
وَكَذَلكَ أَمْرُ الآخِرَةِ فَلَيْسَ بِمُجَرَّدِ عَمَلِ العَبْدِ يَنَالُ الإِنْسَـانُ السَّعَادَةَ، بَل العَمَلُ سَبَبٌ،كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ مِنْكُمُ الجَنَّةَ بِعَمَلِهِ" الحَدِيثَ. وَقَالَ تَعَالَى: {ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} فَهَذِهِ بَاءُ السَّبَبِ أَيْ بِسَبَبِ أَعْمَالِكُمْ، وَالذي نَفَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاءُ المُقَابَلَةِ وَالعِوَضِ، كَمَا يُقَالُ اشْتَرَيْتُ هَذَا بِهَذَا. أَيْ: ليْسَ العَمَلُ عِوَضاً أَوْ ثمناً كافياً فِي دُخُولِ الجَنَّةِ، بَلْ لا بُدَّ مَعَهُ مِن عَفْوِهِ تَعَالَى وَرَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ وَمَغْفِرَتِهِ، فَمَغْفِرَتُهُ تَمْحُو السَّيِّئَاتِ وَرَحْمَتُهُ تَأْتِي بِالخَيْرَاتِ وَتُضَاعِفُ الحَسَنَاتِ.
وَلِهَذَا ضَلَّ فَرِيقَانِ: فَرِيقٌ أَخَذُوا بِالقَدَرِ، وَأَعْرَضُوا عَن الأَسْبَابِ الشَّرْعِيَّةِ وَالأَعْمَالِ الصَّالحَةِ، وَظَنُّوا أَنَّ ذَلكَ كَافٍ، وَهَؤُلاءِ يَئُولُ أَمْرُهُمْ إِلَى الكُفْرِ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ. وَفَرِيقٌ أَخَذُوا يَطْلُبُونَ الجَزَاءَ مِن اللَّهِ كَمَا يَطْلُبُهُ الأَجِيرُ مِن المُسْتَأْجِرِ مُتَّكِلينَ عَلَى حَوْلِهِمْ وَقُوَّتِهمْ وَعَمَلِهِمْ. وَهُمْ جُهَّالٌ ضُلاَّلٌ، فَمَنْ أَعْرَضَ عَن الأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالوَعْدِ وَالوَعِيدِ ناظراً إِلَى القَدَرِ فَقَدْ ضَلَّ، وَمَن طَلَبَ المَقَامَ بِالأَمْرِ وَالنَّهْيِ مُعرضاً عَن القَدَرِ فَقَدْ ضَلَّ. بَلْ لا بُدَّ مِن الأَمْرَيْنِ، فَكُلُّ عَمَلٍ يَعْمَلُهُ العَامِلُ وَلا يَكُونُ طَاعَةً وَعِبَادَةً وعملاً صالحاً فَهُوَ بَاطِلٌ، وَكُلُّ عَمَلٍ لا يُعِينُ اللَّهُ العَبْدَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لا يَكُونُ، وَللْعَبْدِ حَالانِ حَالٌ قَبْلَ القَدَرِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَعِينَ بِاللَّهِ ويتوَكَّلَ عَلَيْهِ وَيَدْعَوهُ، وَحَالٌ بَعْدَ القَدَرِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَحْمَدَ اللَّهَ فِي الطَّاعَةِ، وَيَصْبِرَ وَيَرْضَى فِي المُصِيبَة،ِ وَيَسْتَغْفِرَ فِي الذَّنْبِ وَفِي الطَّاعَةِ مِن النَّقْصِ، وَيَشْكُرَهُ عَلَيْهَا إِذْ هِيَ مِن نِعْمَتِهِ.
المَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: مَرْتَبَةُ الكِتَابَةِ وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ كَتَبَ مَقَادِيرَ الخَلائِقِ وَمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ فِي اللَّوْحِ المَحْفُوظِ. " وَأَجْمَعَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَجَمِيعُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالحَدِيثِ أَنَّ كُلَّ كَائِنٍ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ فَهُوَ مَكْتُوبٌ فِي أُمِّ الكِتَابِ.
وَقَدْ دَلَّ القُرْآنُ عَلَى أَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى كَتَبَ فِي أُمِّ الكِتَابِ مَا يَفْعَلُهُ وَمَا يَقُولُهُ فَكَتَبَ فِي اللَّوْحِ أَفْعَالَهُ وَكَلامَهُ.
وَقَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ لابْنِه "يَا بُنَيَّ إِنَّكَ لنْ تَجِدَ طَعْمَ الإِيمَانِ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لمْ يَكُنْ ليُخْطِئَكَ وَمَا أَخْطَأَكَ لمْ يَكُنْ ليُصِيبَكَ " سَمِعْتُ رَسـُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ القَلَمَ فَقَالَ: اكْتُبْ. قَالَ: رَبِّ وَمَاذَا أَكْتُبُ ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ " يَا بُنَيَّ سَمِعْتُ رَسُـولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ مَاتَ عَلَى غَيْرِ هَذَا فَلَيْسَ مِنِّي ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ، وَفِي لفْظٍ لأَحْمَدَ: "يَا بُنَيَّ إِنْ مِتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا دَخَلْتَ النَّارَ ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ المَصْدُوقُ: "إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْماً نُطْفَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلكَ، ثُمَّ يُرْسَلُ إِلَيْهِ المَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَعَمَلِهِ وَشِقِّيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، فَوَاللَّهِ الذي لا إِلَهَ غَيْرُهُ! إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلاَّ ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ ليَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا ".
وَلمُسْلمٍ عَن حُذَيْفَةَ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَدْخُلُ المَلَكُ عَلَى النُّطْفَةِ بَعْدَ مَا تَسْتَقِرُّ فِي الرَّحِمِ بِأَرْبَعِينَ أَوْ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ ليْلَةً فيَقُولُ: يَا رَبِّ أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ ؟ فَيُكْتَبَانِ. فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ فَيُكْتُبَانِ. وَيُكْتَبُ عَمَلُهُ، وَأَثَرُهُ وَأَجَلُهُ وَرِزْقُهُ، ثُمَّ تُكْتَبُ الصُّحُفُ فَلا يُزَادُ فِيهَا وَلا يُنْقَصُ".
وَفِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ هَذَا التَّوْقِيتُ بِأَرْبَعِينَ أَوْ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ ليْلَةً، وَالتَّوْقِيتُ فِيهِ بَيَانُ أَنَّهَا قَبْلَ ذَلكَ لا يُتَعَرَّضُ لهَا وَلا يَتَعَلَّقُ بِهَا تَخْليقٌ وَلا كِتَابَةٌ فَإِذَا بَلَغَتِ الوَقْتَ المَحْدُودَ وَجَاوَزَتِ الأَرْبَعِينَ وَقَعَتْ فِي أَطْوَارِ التَّخْليقِ طَبَقاً بَعْدَ طَبَقٍ. وَوَقَعَ حِينَئِذٍ التَّقْدِيرُ وَالكِتَابَةُ، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ صَرِيحٌ فِي أَنَّ وُقُوعَ ذَلكَ بَعْدَ كَوْنِهِ مُضْغَةً بَعْدَ الأَرْبَعِينَ الثَّالِثَةِ، وَحَدِيثُ حُذَيْفَةَ فِيهِ أَنَّ ذَلكَ بَعْدَ الأَرْبَعِينَ وَلَمْ يُوَقِّتِ البَعْدِيَّةَ، بَلْ أَطْلَقَهَا وَوَقَّتَهَا فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
وَحَدِيثُ حُذَيْفَةَ قَالَ أيضاً عَلَى ذَلكَ.

وَيُحْتَمَلُ وجهاً آخَرَ: وَهُوَ أَنَّ التَّقْدِيرَ وَالكِتَابَةَ تَقْدِيرَانِ وَكِتَابَتَانِ فَالأَوَّلُ مِنْهُمَا: عِنْدَ ابْتِدَاءِ تَعَلُّقِ التَّحْوِيلِ وَالتَّخْليقِ فِي النُّطْفَةِ وَهُوَ إِذَا مَضَى عَلَيْهَا أَرْبَعُونَ وَدَخَلَتْ فِي طَوْرِ العَلَقَةِ وَهَذَا أَوَّلُ تَخْلِيقَةٍ، وَالتَّقْدِيرُ الثَّانِي وَالكِتَابَةُ الثَّانِيَةُ إِذَا كَمُلَ تَصْوِيرُهُ وَتَخْليقُهُ وَتَقْدِيرُ أَعْضَائِهِ وَكَوْنُهُ ذَكَراً أَوْ أُنْثَى مِن الخَارِجِ فَيُكْتَبُ مَعَ ذَلِكَ عَمَلُهُ وَرِزْقُهُ وَأَجَلُهُ وَشَقَاوَتُهُ وَسَعَادَتُهُ فَلا تَنَافٍ بَيْنَ الحَدِيثَيْنِ، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ الأَوَّلُ تقديراً لِمَا يَكُونُ للنُّطْفَةِ بَعْدَ الأَرْبَعِينَ، فَيُقَدَّرُ مَعَهُ السَّعَادَةُ وَالشَّقَاوَةُ وَالرِّزْقُ وَالعَمَلُ، وَالتَّقْدِيرُ الثَّانِي تقديراً لِمَا يَكُونُ للْجَنِينِ بَعْدَ تَصْوِيرِهِ فَيُقَدَّرُ مَعَهُ ذَلكَ وَيُكْتَبُ أيضاً، وَهَذَا التَّقْدِيرُ أَخَصُّ مِن الأَوَّلِ. وَنَظِيرُ هَذَا: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدَّرَ مَقَادِيرَ الخَلائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخَلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ثُمَّ يُقَدِّرُ ليْلَةَ القَدْرِ مَا يَكُونُ فِي العَامِ لِمِثْلِهِ.
وَهَذَا أَخَصُّ مِن التَّقْدِيرِ الأَوَّلِ العَامِّ " كَمَا أَنَّ تَقْدِيرَ أَمْرِ النُّطْفَةِ وَشَأْنِهَا يَقَعُ بَعْدَ تَعَلُّقِهَا بِالرَّحِمِ وَقَدْ قَدَّرَ أَمْرَهَا قَبْلَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَنَظِيرُ هَذَا: رَفْعُ الأَعْمَالِ وَعَرْضُهَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ عَمَلَ العَامِ يُرْفَعُ فِي شَعْبَانَ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ المَصْدُوقُ: "إِنَّهُ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلي وَأَنَا صَائِمٌ ". وَيُعْرَضُ عَمَلُ الأُسْبُوعِ يَوْمَ الاثْنَيْنِ وَالخَمِيسِ. كَمَا ثَبَتَ ذَلكَ فِي صَحِيحِ مُسْلمٍ، وَعَمَلُ اليَوْمِ يُرْفَعُ فِي آخِرِهِ قَبْلَ اللَّيْلِ. وَعَمَلُ اللَّيْلِ فِي آخِرِهِ قَبْلَ النَّهَارِ فَهَذَا الرَّفْعُ فِي اليَوْمِ وَاللَّيْلَةِ أَخَصُّ مِن الرَّفْعِ العَامِّ، وَإِذَا انْقَضَى الأَجَلُ رُفِعَ عَمَلُ الْعُمْرِ كُلِّهِ وَطُوِيَتْ صَحِيفَةُ العَمَلِ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلمٍ عَن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الخَلائِقِ قَبْلَ أَنْ يخَلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ قَالَ: وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ" وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَةَ عَن أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ مرفوعاً: " لوْ أَنَّ اللَّهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ عَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ كَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْراً لهُمْ مِن أَعْمَالِهِمْ " الحَدِيثَ.
وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِيه عَن رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: "يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّماً فَلا تَظَّالَمُوا ".
" وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي مَعْنَى هَذَا الظُّلْمِ تَنَازُعاً صَارُوا فِيهِ بَيْنَ طَرَفَيْنِ، وَوَسَطٌ بَيْنَهُمَا، وَخَيْرُ الأُمُورِ أَوْسَطُهَا. فَذَهَبَ المُكَذِّبُونَ بِالقَدَرِ القَائِلُونَ بِأَنَّ اللَّهَ لمْ يخَلُقْ أَفْعَالَ العِبَادِ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَكُونَ إِلا مَا أَمَرَ بِأَنْ يَكُونَ ,وَغُلاَتُهُمُ المُكَذِّبُونَ بِتَقَدُّمِ عِلْمِ اللَّهِ وَكِتَابَتِهِ بِمَا سَيَكُونُ مِن أَفْعَالِ العِبَادِ مِن المُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ ـ إِلَى أَنَّ الظُّلْمَ مِنْهُ تَعَالَى هُوَ نَظِيرُ الظُّلْمِ مِن الآدَمِيِّينَ بَعْضِهُمْ لبَعْضٍ وَشَبَّهُوهُ وَمَثَّلُوهُ فِي الأَفْعَالِ بِأَفْعَالِ العِبَادِ حَتَّى كَانُوا هُمْ مُمَثِّلَةَ الأَفْعَالِ:قَالُوا إِذَا أَمَرَ الْعَبْدَ وَلَمْ يُعِنْهُ بِجَمِيعِ مَا يَقْدِرُ بِهِ عَلَيْهِ مِن وُجُوهِ الإِعَانَةِ كَانَ ظَـالِماً لهُ، والْتَزَمُوا أَنَّهُ لا يُقَدِّرُ أَنْ يَهْدِيَ ضالاًّ كَمَا قَالُوا: إِنَّهُ لا يُقَدِّرُ أَنْ يُضِلَّ مُهْتَدِياً. وَقَالُوا: إِذَا أَمَرَ اثْنَيْنِ بِأَمْرٍ وَاحِدٍ وَخَصَّ أَحَدَهُمَا بِإِعَانَتِهِ عَلَى فِعْلِ المَأْمُورِ كَانَ ظَالِماً، إِلَى أَمْثَالِ ذَلكَ مِن الأُمُورِ الَّتِي هِيَ مِن بَابِ الفَضْلِ وَالإِحْسَانِ جَعَلُوا تَرْكَهُ لهَا ظلماً. وَكَذَلكَ ظَنُّوا أَنَّ التَّعْذِيبَ لِمَنْ كَانَ فِعْلُهُ مُقَدَّراً ظُلْمٌ مِنْهُ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ التَّعْذِيبِ لمَنْ قَامَ بِهِ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِ ذَلكَ، وَمَن لمْ يَقُمْ بِهِ سَبَبُهُ. وَإِنْ كَانَ ذَلكَ الاسْتِحْقَاقُ لحِكْمَةٍ أُخْرَى عَامَّةٍ أَوْ خَاصَّةٍ.
فَعَارَضَ هَؤُلاءِ آخَرُونَ مِن أَهْلِ الكَلامِ المُثْبِتِينَ للْقَدَرِ وَقَالُوا: ليْسَ الظُّلْمُ مِنْهُ حَقِيقَةً يُمْكِنُ وُجُودُهَا، بَلْ هُوَ مِن الأُمُورِ المُمْتَنِعَةِ لذَاتِهَا، فَلا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَقْدُوراً وَلا أَنْ يُقَالُ: إِنَّهُ تَارِكٌ لهُ بِاخْتِيَارِهِ.
وَإِنَّمَا هُوَ مِن بَابِ الجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ وَجَعْلِ الجِسْمِ الوَاحِدِ فِي مَكَانَيْنِ وَإِلا فَهُمَا قَدَرٌ فِي الذِّهْنِ وَكَانَ وُجُودُهُ مُمْكِناً، فَاللَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهِ فَلَيْسَ بظُلْمٍ مِنْهُ سَوَاءٌ فَعَلَهُ أَوْ لمْ يَفْعَلْهُ،وَتَلَقَّى هَذَا القَوْلَ عَن هَؤُلاءِ طَوَائِفُ مِن أَهْلِ الإِثْبَاتِ مِن الفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الحَدِيثِ مِن أَصْحَابِ مَالكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ مِن شُرَّاحِ الحَدِيثِ،وَفَسَّرُوا هَذَا الحَدِيثَ بِمَا يَنْبَنِي عَلَى هَذَا القَوْلِ.
فَقَوْلُهُ: {فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً} قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: لا يَخَافُ أَنْ يُظْلمَ فَيَحْمِلَ عَلَيْهِ سَيِّئَاتِ غَيْرِهِ،وَلا يُهْضَمَ فَيُنْقِصَهُ مِن حَسَنَاتِهِ، وَلا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الظُّلْمُ هُوَ شَيْئاً مُمتنعاً غَيْرَ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ فَلا يَخَافُ مَا هُوَ مُمْتَنِعٌ لذَاتِهِ خَارِجٌ عَن المُمْكِنَاتِ وَالْمَقْدُورَاتِ، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا إِذَا لمْ يَكُنْ وُجُودُهُ مُمْكِناً حَتَّى يَقُولُوا: إِنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ، وَلَوْ أَرَادَهُ كَخَلْقِ المِثْلِ فَكَيْفَ يُعْقَلُ وُجُودُهُ فضلاً عَن أَنْ يُتَصَوَّرَ خَوْفُهُ حَتَّى يَنْفِيَ خَوْفَهُ. ثُمَّ أَيُّ فَائِدَةٍ فِي نَفْيِ خَوْفِ هَذَا ؟ وَقَدْ عُلِمَ مِن سِيَاقِ الكَلامِ أَنَّ المَقْصُودَ بَيَانُ أَنَّ هَذَا العَامِلَ لا يُجْزَى عَلَى إِحْسَانِهِ بِالظُّلْمِ وَالهَضْمِ، فَعُلِمَ أَنَّ الظُّلْمَ وَالهَضْمَ المَنْفِيَّ يَتَعَلَّقُ بِالجَزَاءِ كَمَا ذَكَرَهُ أَهْلُ التَّفْسِيرِ، وَإِنَّ اللَّهَ لا يَجْزِيهِ إِلا بِعَمَلِهِ.
وَلهَذَا كَانَ الصَّوَابُ أَنَّ اللَّهَ لا يُعَذِّبُ إِلا مَن أَذْنَبَ. وأيضاً فَالأَمْرُ الذي لا يُمْكِنُ القُدْرَةُ عَلَيْهِ لا يَصْلُحُ أَنْ يُمْدَحَ المَمْدُوحُ بِعَدَمِ إِرَادَتِهِ وَفِعْلِهِ،وَإِنَّمَا يَكُونُ المَدْحُ بِتَرْكِ الأَفْعَالِ إِذَا كَانَ المَمْدُوحُ قادراً عَلَيْهَا، فَعُلِمَ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى مَا نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْهُ مِن الظُّلْمِ وَأنَّهُ لا يَفْعَلُهُ وَبِذَلكَ يَصِحُّ قَوْلُهُ: "إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي ". فَلا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيمَا هُوَ مُمْتَنِعٌ لذَاتِه فَلا يَصْلُحُ أَنْ يُقَالَ: حَرَّمْتُ أَوْ مَنَعْتُ نَفْسِي مِن خَلْقِ مِثْلِي. أَوْ مِن جَعْلِ المَخْلُوقَاتِ خَالقَةً وَنَحْوِ ذَلكَ مِن المُحَالاتِ الَّتِي يَعْلَمُ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّهَا ليْسَتْ مُراداً للرَّبِّ.
وَالذي قَالَهُ النَّاسُ: إِنَّ الظُّلْمَ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ يَتَنَاوَلُ هَذَا المَقْدُورَ دُونَ ذَاكَ المُمْتَنِعِ كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: الظُّلْمُ إِضْرَارُ غَيْرِ المُسْتَحَقِّ،فَاللَّهُ لا يُعَاقِبُ أحداً بِغَيْرِ حَقٍّ، وَكَذَلكَ مَن قَالَ: هُوَ نَقْصُ الحَقِّ كَقَوْلهِ: {كِلْتَا الجَنَّتَيْنِ أَتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِّنْهُ شَيْئاً} وَمَنْ قَالَ هُوَ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ الغَيْرِ، فَلَيْسَ بِمُطَّرِدٍ وَلا مُنْعَكِسٍ، فَقَدْ يَتَصَرَّفُ الإِنْسَانُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِحَقٍّ وَلا يَكُونُ ظالماً.
وَقَدْ يَتَصَرَّفُ فِي مِلْكِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَيَكُونُ ظالماً، وَظُلْمُ العَبْدِ نَفْسَهُ كَثِيرٌ فِي القُرْآنِ فَتَبَيَّنَ بِمَا قَدَّمْنَاهُ: أنَّ القَوْلَ الوَسَطَ وَهُوَ الحَقُّ أَنَّ الظُّلْمَ الذي حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى نَفْسِهِ مِثْلُ أَنْ يَتْرُكَ حَسَنَاتِ المُحْسِنِ فَلا يَجْزِيهِ بِهَا، وَيُعَاقِبَ البَرِيءَ عَلَى مَا لمْ يَفْعَلْهُ مِن السَّيِّئَاتِ، وَيُعَاقِبَ هَذَا بِذَنْبِ غَيْرِهِ، أَوْ يَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِغَيْرِ القِسْطِ وَنَحْوَ ذَلكَ مِن الأَفْعَالِ الَّتِي نَزَّهَ نَفْسَهُ سُبْحَانَهُ عَنْهَا لقِسْطِهِ وَعَدْلِهِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهَا،وَإِنَّمَا اسْتَحَقَّ الحَمْدَ وَالثَّنَاءَ؛ لأَنَّهُ تَرَكَ هَذَا الظُّلْمَ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: "إِنِّي عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَهُ قَوْمٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ فَقَالَ: "اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا بَنِي تَمِيمٍ" قَالُوا: بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا، فَدَخَلَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فَقَالَ: "اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا أَهْلَ الْيَمَنِ، إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ" قَالُوا: قَبِلْنَا جِئْنَاكَ لِنَتَفَقَّهَ فِي الدِّينِ وَلِنَسْأَلَكَ عَنْ أَوَّلِ هَذَا الأَمْرِ مَا كَانَ؟ قَالَ: "كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ" الحَدِيثَ.
وَقَدْ تَكَلَّمَ عُلَمَاءُ المُسْلمِينَ مِن الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَن بَعْدَهُمْ فِي أَوَّلِ هَذِهِ المَخْلُوقَاتِ هُوَ العَرْشُ أَوِ القَلَمُ، وَالأَوَّلُ أَرْجَحُ كَمَا قَالَ فِي الكَافِيَةِ الشَّافِيَةِ:

وَالنَّاسُ مُخْتَلِفُونَ فِي القَلَمِ الَّذِي ... كُتِبَ القَضَاءُ بِهِ مِـنَ  الدَّيَّـانِ
هَلْ كَانَ قَبْلَ العَرْشِ أَوْ هُوَ بَعْدَهُ ... قَوْلانِ عِنْدَ أَبِي العَلاَ  الهَمْدَانِـيِّ
وَالحَقُّ أَنَّ العَـرْشَ قَبْـلُ لأَنَّـهُ ... قَبْلَ الكِتَابَةِ كَـانَ ذَا  أَرْكَـانِ
وَكِتَابَةُ القَلَمِ الشَّرِيفِ  تَعَقَّبَـتْ ... إِيجَادَهُ مِنْ غَيْرِ  فَصْـلِ  زَمَـانِ
لَمَّا بَرَاهُ اللَّهُ قَالَ  اكْتُبْ  كَـذَا ... فَغَدَا بِأَمْـرِ اللَّـهِ ذَا  جَرَيَـانِ

فَقَدَ " اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ هَلِ القَلَمُ أَوَّلُ المَخْلُوقَاتِ أَوِ العَرْشُ عَلَى قَوْلَيْنِ؛ ذَكَرَهُمَا الحَافِظُ أَبُو العَلاءِ الْهَمْدَانِيُّ، أَصَحُّهُمَا أَنَّ العَرْشَ قَبْلَ القَلَمِ، لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِن حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَدَّرَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الخَلائِقِ قَبْلَ أَنْ يخَلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ عَامٍ وَعَرْشُهُ عَلَى المَاءِ ". فَهَذَا صَرِيحٌ أَنَّ التَّقْدِيرَ وَقَعَ قَبْلَ خَلْقِ العَرْشِ، وَالتَّقْدِيرُ وَقَعَ عِنْدَ أَوَّلِ خَلْقِ القَلَمِ لحَدِيثِ عُبَادَةَ هَذَا، وَلا يَخْلُو قَوْلُهُ "إنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ القَلَمَ" إِلَى آخِرِهِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ جُمْلَةً أَوْ جُمْلَتَيْنِ، فَإِنْ كَانَ جُمْلَةً-وَهُوَ الصَّحِيحُ-كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ عِنْدَ أَوَّلِ خَلْقِهِ قَالَ لهُ:اكْتُبْ كَمَا فِي اللَّفْظِ: "أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ القَلَـمَ قَالَ لهُ: اكْتُبْ" بِنَصْبِ أَوَّلَ وَالقَلَمِ، وَإِنْ كَانَ جُمْلَتَيْنِ وَهُوَ مَرْوِيٌّ بِرَفعِ أَوَّلُ وَالقَلَمُ فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُ أَوَّلُ المَخْلُوقَاتِ مِن هَذَا العَالَمِ ليَتَّفِقَ الحَدِيثَانِ إِذْ حَدِيثُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو صَرِيحٌ فِي أَنَّ العَرْشَ سَابِقٌ عَلَى التَّقْدِيرِ، وَالتَّقْدِيرُ مُقَارِنٌ لخَلْقِ القَلَمِ، وَفِي اللَّفْظِ الآخَرِ"لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ القَلَمَ قَالَ لهُ: اكْتُبْ ". فَهَذَا القَلَمُ أَوَّلُ الأَقْلامِ وَأَفْضَلُهَا وَأَجَلُّهَا وَقَدْ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِن أَهْلِ التَّفْسِيرِ: إِنَّهُ القَلَمُ الذي أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ.
قَوْلُهُ " وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ " يَعْنِي اللَّوْحَ المَحْفُوظَ كَمَا قَالَ: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} أَيْ مِن بَعْدِ اللَّوْحِ المَحْفُوظِ، يُسَمَّى مَا يُكْتَبُ فِي الذِّكْرِ ذِكْراً كَمَا يُسَمَّى مَا يُكْتَبُ فِي الكِتَابِ كِتَاباً كَقَوْلهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ} وَالنَّاسُ فِي هَذَا الحَدِيثِ عَلَى قَوْلَيْنِ، مِنْهُمْ مَن قَالَ: إِنَّ المَقْصُودَ إِخْبَارُهُ بِأَنَّ اللَّهَ كَانَ موجوداً وَحْدَهُ ثُمَّ ابْتَدَأَ إِحْدَاثَ جَمِيعِ الحَوَادِثِ فَجِنْسُهَا وَأَعْيَانُهَا مَسْبُوقَةٌ بِالعَدَمِ،وَإِنَّ جِنْسَ الزَّمَانِ حَادِثٌ لا فِي زَمَانٍ،وَجِنْسُ الحَرَكَاتِ وَالمُتَحَرِّكَاتِ حَادِثٌ وَاللَّهُ صَارَ فاعلاً بَعْدَ أَنْ لمْ يَكُنْ يَفْعَلُ شَيْئاً مِن الأَزَلِ إِلَى حِينِ الفِعْلِ وَلا كَانَ الفِعْلُ مُمكناً.
وَالقَوْلُ الثَّانِي: المُرَادُ إِخْبَارُهُ عَن مَبْدَإِ خَلْقِ هَذَا العَالَمِ المَشْهُودِ الذي خَلَقَهُ اللَّهُ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ كَمَا أَخْبَرَ القُرْآنُ بِذَلكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ.
دَليلُ صِحَّةِ القَوْلِ الثَّانِي مِن وُجُوهٍ:
(أَحَدُهَا) أَنَّ قَوْلَ أَهْلِ اليَمَنِ: جِئْنَاكَ لنَسْأَلَكَ عَن أَوَّلِ هَذَا الأَمْرِ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى حَاضِرٍ مَشْهُودٍ، وَالأَمْرُ هُنَا بِمَعْنَى المَأْمُورِ، أَيِ: الذي كَوَّنَهُ اللَّهُ بِأَمْرِهِ،وَقَدْ أَجَابَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن بَدْءِ هَذَا العَالَمِ المَوْجُودِ لا عَن جِنْسِ المَخْلُوقَاتِ؛ لأَنَّهُمْ لمْ يَسْأَلُوهُ عَنْهُ،وَقَدْ أَخْبَرَهُمْ عَن خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ حَالَ كَوْنِ عَرْشِهِ عَلَى المَاءِ لمْ يُخْبِرْهُمْ عَن خَلْقِ العَرْشِ وَهُوَ مَخْلُوقٌ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ.
(وأيضاً ) فَإِنَّهُ قَالَ: "كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ" وَقَدْ رُوِي "مَعَهُ" وَرُوِيَ "غَيْرُهُ" وَالمَجْلِسُ كَانَ واحداً،فَعُلِمَ أَنَّهُ قَالَ أَحَدَ الأَلْفَاظِ وَالآخَرَانِ رُوِيا بِالمَعْنَى، وَلَفْظُ القَبْلِ ثَبَتَ فِي غَيْرِ هَذَا الحَدِيثِ وَحِينَئِذٍ فَالذي ثَبَتَ عَنْهُ لفَظُ القَبْلِ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلمٍ عَن أَبِي هُرَيْرَةَ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: "اللَّهُمَّ أَنْتَ الأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ ".
الحَدِيثَ: وَلهَذَا كَانَ أَكْثَرُ أَهْلِ الحَدِيثِ إِنَّمَا يَرْوُونَهُ بِلَفْظِ القَبْلِ كَالحُمَيْدِيِّ وَالبَغَوِيِّ وَابْنِ الأَثِيرِ وَغَيْرِهمْ،وَإِذَا كَانَ كَذَلكَ لمْ يَكُنْ فِي هَذَا اللَّفْظِ تَعْرُّضٌ لابْتِدَاءِ الحَوَادِثِ وَلا لأَوَّلِ مَخْلُوقٍ.
( وأيضاً ) فَإِنَّهُ قَالَ: كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ أَوْ مَعَهُ أَوْ غَيْرُهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ. فَأَخْبَرَ عَن هَذِهِ الثَّلاثَةِ بِالوَاوِ " وَخَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ " رُوِيَ بِالوَاوِ وَبِثُمَّ فَظَهَرَ أَنَّ مَقْصُودَهُ إِخْبَارُهُ إِيَّاهُمْ بِبَدْءِ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا - وَهِيَ المَخْلُوقَاتُ الَّتِي خُلِقَتْ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ لا ابْتِدَاءَ خَلْقِ مَا خَلَقَهُ قَبْلَ ذَلكَ - وَذَكَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى خَلْقِهِمَا، وَذَكَرَ مَا قَبْلَهُمَا بِمَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ وَوُجُودِهِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لابْتِدَاءِ خَلْقِهِ.
(وأيضاً ) فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ الحَدِيثُ قَدْ وَرَدَ بِهَذَا وَهَذَا فَلا يُجْزَمُ بِأَحَدِهِمَا إِلا بِدَليلٍ،فَإِذَا رَجَحَ أَحَدُهُمَا فَمَنْ جَزَمَ بِأَنَّ الرَّسُولَ أَرَادَ المَعْنَى الآخَرَ فَهُوَ مُخْطِئٌ قطعاً. وَلَمْ يَأْتِ فِي الكِتَابِ وَلا فِي السُّنَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى المَعْنَى الآخَرِ،فَلا يَجُوزُ إِثْبَاتُهُ بِمَا يُظَنُّ أَنَّهُ مَعْنَى الحَدِيثِ،وَلَمْ يَرِدْ كَانَ اللَّهُ وَلا شَيْءَ مَعَهُ مُجَرَّداً وَإِنَّمَا وَرَدَ عَلَى السِّيَاقِ المَذْكُورِ، وَلا يُظَنُّ أَنَّ مَعْنَاهُ: الإِخْبَارُ بِتَعْطِيلِ الرَّبِّ تَعَالَى دائماً عَن الفِعْلِ حَتَّى خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ.
(وأيضاً ) فَقَوْلُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ أَوْ مَعَهُ أَوْ غَيْرُهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ " لا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ المَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى مَوْجُودٌ وَحْدَهُ لا مَخْلُوقَ مَعَهُ أصلاً ؛ لأَنَّ قَوْلَهُ: "وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ" يَرُدُّ ذَلكَ، فَإِنَّ هَذِهِ الجُمْلَةَ وَهِيَ " وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ " إِمَّا حَاليَّةٌ أَوْ مَعْطُوفَةٌ، وَعَلَى كِلاَ التَّقْدِيرَيْنِ فَهُوَ مَخْلُوقٌ مَوْجُودٌ فِي ذَلكَ الوَقْتِ فَعُلِمَ أَنَّ المُرَادَ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِن العَالَمِ المَشْهُودِ).

هيئة الإشراف

#6

22 Dec 2008

التنبيهات السنية للشيخ: عبد العزيز بن ناصر الرشيد رحمه الله

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): ( (وتُؤْمِنُ الفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ مِن أَهْلِ السُّنَّةِ والجَماعَةِ بالقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ.(1)
والإِيمانُ بالقَدَرِ عَلى دَرَجَتينِ، كُلُّ دَرَجَةٍ تَتَضَمَّنُ شَيْئينِ).
(فالدَّرَجَةُ الأوْلى: الإِيمانُ بأَنَّ اللهَ تَعَالى [عليمٌ بالخَلْقِ وهُمْ] عَامِلُونَ بعِلْمِهِ القَديمِ الذي هُوَ مَوْصوفٌ بهِ أَزَلاً وأَبداً، وَعَلِمَ جَميعَ أَحوالِهِمْ مِن الطَّاعاتِ والمَعاصي والأرْزاقِ والآجالِ.(2)
ثُمَّ كَتَبَ اللهُ في اللَّوْحِ المَحْفوظِ مَقاديرَ الخَلْقِ، فأَوَّل مَا خَلَقَ اللهُ القَلَم قالَ لهُ: اكْتُبْ. قالَ: ما أَكْتُبُ؟ قالَ: اكْتُبْ مَا هُو كَائِنٌ إِلى يَوْمِ القِيامَةِ. فمَا أَصَابَ الإِنْسانَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، ومَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصيبَهُ، جَفَّتِ الأْقلامُ، وطُوِيَتِ الصُّحُفُ.(3)
كَما قالَ تَعالى: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ في كِتابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلى اللهِ يَسيرٌ)، وقالَ: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ في الأرْضِ ولا في أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذَلِكَ عَلى اللهِ يَسيرٌ)، وهذا التَّقْديرُ التَّابِعُ لِعِلْمِهِ سُبْحانَهُ يَكُونُ في مَواضِعَ جُمْلَةً وتَفْصيلاً فقدْ كَتَبَ في اللَّوْحِ المَحْفوظِ مَا شَاءَ. وإِذا خَلَقَ جَسَدَ الجَنينِ قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فيهِ؛ بَعَثَ إِليهِ مَلَكاً، فيُؤمَرُ بأَرْبِعِ كَلِماتٍ، فيُقالُ لهُ: اكْتُبْ: رِزْقَةُ، وأَجَلَهُ، وعَمَلَهُ، وشَقِيٌّ أَمْ سَعيدٌ. ونحوَ ذلك.(4)
فهذا التَّقديرُ قَدْ كانَ يُنْكِرُهُ غُلاةُ القَدَرِيَّةِ قديماً، ومُنْكِروهُ اليَوْمَ قليلٌ).(5)
).

الشرح:

قال الشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد (ت: 1408هـ): ((1) قولُه: (وتُؤمِنُ الفِرقةُ النَّاجيَةُ) إلخ (القَدَرِ) بالفتحِ والسُّكونِ لغةً: مصدْرُ قَدَرْتُ الشَّيءَ إذا أحطْتُ بمقدارِه، وعرَّفه بعضُهم بقولُه: هُوَ تعلُّقُ عِلمِ اللَّهِ وإرادَتِه أزلاً بالكائناتِ قَبلَ وجودِها، فلا حادِثَ إلاَّ وقد قدَّرَه اللَّهُ أزلاً أي سَبَق بِهِ عِلمُه، وتعلَّقتْ بِهِ إرادَتُه، والإيمانُ بالقدَرِ هُوَ أَحدُ أصولِ الإيمانِ السِّتَّةِ المذكورةِ في حديثِ جبريلَ وغيرِه، وأَجمعَ عليها أهلُ السُّنَّةِ والجَماعَةِ ولم يخالِفْ في ذَلِكَ إلا مَجوسُ هَذِهِ الأُمَّةِ القدَريَّةُ، وقد خرجوا في أواخِرِ عهدِ الصَّحابةِ، وأنكَرَ عليهم الصَّحابةُ الموجودُونَ إذْ ذاك، وأوَّلُ مَن قال ذَلِكَ مَعبدٌ الجُهنيُّ بالبصرةِ، كما روى مسلمٌ في "صحيحِه" عن ابنِ عمرَ أنَّه قال: والذي نَفْسي بِيدِه لو كان لأحَدِهم مِثلُ أُحُدٍ ذهبًا ما قَبِلَه اللَّهُ منه حتى يُؤْمِنَ بالقدَرِ خيرِه وشرِّه، ثم اسْتدَلَّ بقولِ النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((الإِيمَانُ أنْ تُؤْمِنَ باللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ)) فجَعلَ الإيمانَ بالقدَرِ سادِسَ أصولِ الإيمانِ، فمَن أنْكَرَه فليس بمؤمنٍ، بل ولا مسلمٍ فلا يُقبلُ عملُه، وقال ابنُ القيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ- بعد ذِكرِ آثارٍ في الإيمانِ بالقدَرِ، قال: وَهَذِهِ الآثارُ كُلُّها تُحقِّقُ هَذَا المَقامَ، وتُبيِّنُ أنَّ مَن لم يؤمنْ بالقدَرِ فقد انْسلَخَ مِن التَّوحيدِ وَلَبِسَ جِلبابَ الشِّركِ، بل لم يُؤمنْ باللَّهِ ولم يعرِفْه، وهَذَا في كُلِّ كتابٍ أنزلَه اللَّهُ على رُسلِه. انتهى.
وقال طاوُسٌ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: أدركتُ ثلاثَمائةٍ مِن أصحابِ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- يقولون كُلُّ شيءٍ بقدَرٍ. وقال أيوبُ السِّخْتِيَانيُّ: أدركتُ النَّاسَ وما كلامُهم إلا أنْ قَضى وقَدَّرَ، وفي صحيحِ مسلمٍ عن طاوسٍ: أدركتُ أناسًا من أصحابِ رسولِ اللَّهِ يقولون: كُلُّ شيءٍ بقدَرٍ، وسمعتُ عبدَ اللَّهِ بنَ عمرَ يقولُ: قال رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ حَتَّى الْعَجْزَ وَالْكَيَسَ)).
قولُه: (خيرِه وشرِّه) فلا كائنٌ إلا بإرادتِه ومشيئتِه، فهُوَ الخالقُ لكُلِّ شيءٍ.
قال ابنُ القيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: إثباتُ الشَّرِّ في القضاءِ إنَّما هُوَ بالإضافةِ إلى العبدِ والمفعولِ إذا كان يَقْدِرُ عليه بسببِ جَهلِه وظُلمِه وذُنوبِه لا إلى الخالِقِ، فَلَهُ في ذَلِكَ مِن الحِكَمِ ما تَقْصُرُ عنه أفهامُ البَشرِ، فهُوَ شَرٌّ بالإضافةِ إلى العبدِ، وأمَّا بالإضافةِ إلى الخالِقِ فكُلُّهُ خيرٌ وحِكمةٌ، فإنَّه صادِرٌ عن حِكمةٍ وعِلمٍ، وما كان كذَلِكَ فهُوَ خيرٌ محْضٌ بالنِّسبةِ إلى الرَّبِّ؛ إذْ هُوَ موجبُ أسمائِه وصفاتِه، ولا تعارُضَ بينه وبين قولِه: ((وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ)) لأنَّ معناه أنَّه يُمنعُ إضافةُ الشَّرِّ إليكَ بوَجهٍ مِن الوجوهِ، فلا يُضافُ الشَّرُّ إلى ذاتِه ولا إلى أسمائِه وصفاتِه وأفعالِه، فإنَّ ذاتَه مُنَزَّهَةٌ عن كُلِّ شرٍّ، وصفاتُه كذَلِكَ؛ إذْ كُلُّها صفاتُ كمالٍ ونُعوتُ جلالٍ لا نَقْصَ فيها بوجهٍ مِن الوجوهِ. انتهى. بتصرُّفٍ.

(2) قولُه: (والإيمانُ بالقدَرِ على دَرجتَيْنِ) الخ ذَكرَ المصنِّفُ مَراتبَ الإيمانِ بالقدَرِ فبدأَ بمرتبةِ العِلمِ، وقد تَقدَّمَ الكلامُ على صِفةِ العِلمِ وأنها مِن الصِّفاتِ الذَّاتيَّةِ، وأنَّها متناوِلةٌ الموجودَ والمعدومَ والواجبَ والممْكِنَ والممْتنِعَ، قال شيخُ الإسلامِ: إنَّ عِلمَ اللَّهِ السَّابقَ مُحيطٌ بالأشياءِ على ما هي عليه لا مَحْوٌ فيه ولا تَغييرٌ ولا زيادةٌ ولا نقصٌ، فإنَّه -سُبْحَانَهُ- يَعلَمُ ما كان وما يكونُ وما لا يكونُ ولو كان كَيْفَ يكونُ، انتهى، والأدِلَّةُ على إثباتِها مِن الكِتابِ والسُّنَّةِ أكثرُ مِن أنْ تُحصرَ، واتَّفقَ عليها الصَّحابةُ والتَّابِعون ومَن تَبِعَهم، ولم يُخالِفْ فيها إلاَّ مَجوسُ هَذِهِ الأُمَّةِ.
قولُه: (الأولى الإيمانُ بأَنَّ اللَّهَ) إلخ قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)، فهُوَ -سُبْحَانَهُ- موصوفٌ بالعِلمِ، وبأنَّهُ بكُلِّ شيءٍ عليمٌ أزلاً وأبداً، فلم يتَقدَّمْ عِلمَه جهالةٌ، (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِياًّ)، فيَعلَمُ -سُبْحَانَهُ- ما كان وما يكونُ، وما لم يكنْ لو كان كَيْفَ يكونُ، كما قال تعالى: (وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ) وأشار بما تَقدَّمَ للرَّدِّ على غُلاةِ المعتزِلةِ والرَّافِضةِ الذين أنْكَروا أَنَّ اللَّهَ عالِمٌ بالأزلِ، وقالوا: إنَّ اللَّهَ لا يَعلَمُ أفعالَ العِبادِ حتى يَفعلُوها – تعالى اللَّهُ عن قولِهم عُلُواًّ كبيراً – قال تعالى: (أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ).
قولُه: (أزلاً وأبدًا) الأزلُ القِدمُ الذي لا نهايةَ له، فالأزلُ هُوَ الدَّوامُ في الماضي، والأبَدُ ما ليس له آخِرٌ، فهُوَ الدَّوامُ في المستقبَلِ، فالأزليُّ: هُوَ الذي لم يَزلْ كائِنًا، والأبَديُّ: هُوَ الذي لا يَزالُ كائنًا، وكونُه لم يَزَلْ ولا يَزالُ معناه دَوامُه وبقاؤُه الذي ليس مُبتَدأً ولا مُنْتَهًى. انتهى. مِن كلامِ شيخِ الإسلامِ.
قولُه: (مِن الطَّاعاتِ) جَمعُ طاعةٍ، مأخوذةٌ مِن طَاعَ يَطُوعُ، واصطلاحًا: الطَّاعةُ: هي مُوافَقةُ الأمرِ، وكُلُّ قُربةٍ طاعةٌ ولا عَكْسَ، والمعاصي: جَمعُ معصيةٍ وَهِيَ ضِدُّ الطَّاعةِ، والمعصيةُ: هُوَ الذَّنْبُ والإثمُ ألفاظٌ مترادِفةٌ، والمعصيةُ اصطلاحًا: مخالَفةُ الأمرِ.
قولُه: (والأرزاقُ والآجالُ) الأرزاقُ جَمعُ رِزقٍ، وهُوَ لغةً: الحظُّ والنَّصيبُ، وشَرْعًا: هُوَ ما يَنفَعُ مِن حلالٍ وحرامٍ، قال اللَّهُ تعالى: (وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا) فلا بدَّ لكُلِّ مخلوقٍ مِن استكمالِ رِزقِه، كما في حديثِ حذيفةَ أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((هَذَا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَفَثَ فِي رُوعِى أنَّهُ لاَ تَمُوتُ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا)) رَواهُ البَزَّارُ، وفي المتَّفقِ عليه مِن حديثِ ابنِ مسعودٍ قال: ((يُرْسَلُ الْمَلَكُ فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ، وَأَجَلِهِ، وَعَمَلِهِ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعيِدٌ)) الحديثَ، وزعَمَت المعتزِلةُ أَنَّ الحرامَ ليس برِزقٍ، فعلى قولِهم يكونُ مَن أكَلَ الحرامَ طُولَ عُمرِه لم يَرْزقْه اللَّهُ، وهَذَا باطِلٌ مخالِفٌ للكتابِ والسُّنَّةِ وإجماعِ السَّلَفِ، فإنَّ اللَّهَ -سُبْحَانَهُ- رازِقُ كُلِّ الخَلْقِ، وليس مخلوقٌ بغيرِ رِزقٍ، ومعلومٌ أَنَّ الحرامَ مَعيشةٌ لبعضِ النَّاسِ، وقد قال تعالى: (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا) وقد قَسَمَ -سُبْحَانَهُ- معايِشَهم في الحياةِ الدُّنْيَا قال تعالى: (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) وفي الحديثِ: ((إنَّ اللَّهَ قَسَمَ بِيْنَكُمْ أَخْلاَقَكُمْ كَمَا قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ)) إلى غيرِ ذَلِكَ مِن الأدِلَّةِ.
قولُه: (والآجالَ) أي: أنَّه -سُبْحَانَهُ- قد عَلِمَ رِزقَه وأَجَلَه قَبلَ خَلقِه وإيجادِه، قال تعالى: (إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ) والأجَلُ هُوَ غايةُ الوقتِ في الموتِ، ومُدَّةُ الشَّيءِ. وفي صحيحِ مسلمٍ عن عبدِ اللَّهِ قال: قالتْ أُمُّ حبيبةَ زَوجُ النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: (اللَّهم أَمْتِعْني بِزَوْجِي رسولِ اللَّهِ، وبأبي أبي سفيانَ، وبأخي مُعاوِيةَ) قال فقال النَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((لَقَدْ سَأَلْتِ اللَّهَ لآجَالٍ مَضْرُوبَةٍ وَأَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ وَأَرْزَاقٍ مَقْسُومَةٍ لَنْ يُعَجِّلَ شَيْئاً قَبْلَ أَجَلِهِ أَوْ يُؤَخِّرَ شَيْئاً عَنْ أَجَلِهِ، وَلَوْ كُنْتِ سَأَلْتِ اللَّهَ أَنْ يُعِيذَكِ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ أَوْ عَذَابٍ فِي الْقَبْرِ كَانَ خَيْراً أَوْ أَفْضَلَ)) إلى غيرِ ذَلِكَ مِن الأدلَّةِ الدَّالَّةِ على أَنَّ الميِّتَ ماتَ بعد استيفاءِ أجَلِه واستكمالِ رِزقِه، سواءٌ ماتَ حتْفَ أنْفِه أو ماتَ بالقتلِ، خلافًا للمعتزِلةِ القائِلينَ بأَنَّ المقتولَ قُطِعَ عليه أَجَلُه، وقولُهم باطِلٌ تَردُّه أدلَّةُ الكِتابِ والسُّنَّةِ.

(3) قولُه: (ثُمَّ كَتَبَ اللَّهُ في اللَّوحِ) إلخ هَذِهِ المرتبةُ الثَّانيةُ مِن مراتبِ الإيمانِ بالقدَرِ، وَهِيَ مرتبةُ الكتابةِ، وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ كتَبَ مقادِيرَ الخلائقِ وما هُوَ كائنٌ إلى يومِ القيامةِ في اللَّوحِ المحفوظِ، فأعمالُ العِبادِ تَجري على ما سَبَقَ في عِلمِه وكتابَتِه، والأدِلَّةُ مِن الكِتابِ والسُّنَّةِ على إثباتِ هَذِهِ المرتبةِ كثيرةٌ جِداًّ، وأَجمعَ على إثباتِها الصَّحابةُ والتَّابعونَ وجميعُ أهلِ السُّنَّةِ والحديثِ، قال اللَّهُ تعالى: (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ) الآيةَ، وفي سُننِ أبي داودَ عن عُبادةَ بنِ الصَّامِتِ قال: سمعتُ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- يقولُ: ((أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ قَالَ: ومَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ)) وفي الصَّحيحِ مِن حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو، قال: قال رسولُ اللَّهِ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((قَدَّرَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلْقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِين أَلْفِ سَنَةٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ)). وأفادَ هَذَا الحديثُ أَنَّ التَّقديرَ وَقَعَ بعد خَلقِ العرشِ، فدلَّ على أَنَّ العرشَ مخلوقٌ قبلَ القَلمِ.
ققولُه: (فما أصابَ الإنسانَ) إلخ هَذَا هُوَ حقيقةُ الإيمانِ بالقدَرِ فما يُصيبُ الإنسانَ ممَّا يَضُرُّه ويَنفَعُه فكُلُّه مُقدَّرٌ عليه، ولا يُصِيبُ العبدَ إلاَّ ما كُتِبَ له مِن مقاديرَ ذَلِكَ في الكتابِ السَّابقِ، كما قال -سُبْحَانَهُ-: (قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا) وفي حديثِ ابنِ عبَّاسٍ -رضي اللَّهُ عنهما- أَنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال له: ((وَاعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَمَا أَخْطَأَكَ لم يَكُنْ لِيُصِيبَكَ …)) الحديثَ.
قولُه: (جَفَّتِ الْأَقْلاَمُ وَطُوِيتِ الصُّحُفُ) هَذَا كنايةٌ عن تَقدُّمِ كتابةِ المقاديرِ كُلِّها، والفَراغِ منها مِن أمدٍ بعيدٍ، وقد دلَّ الكِتابُ والسُّنَّةُ على مِثلِ هَذَا المعنى، كما في حَديثِ ابنِ عبَّاسٍ المتقدِّمِ: ((وَاعْلَمْ أَنَّ الأمَّةَ لَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ)) رواه التِّرمذيُّ وقال: حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
وفي "الصَّحيحَيْنِ" مِن حديثِ أبي هريرةَ -رضي اللَّهُ عنه- أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال له: ((جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا أَنْتَ لاقٍ)). وفي صحيحِ مسلمٍ عن جابرٍ -رضي اللَّهُ عنه- أنَّ رَجُلاً قال: يا رسولَ اللَّهِ: فِيمَ العَملُ؟ أفيما جَفَّتْ بِهِ الأقلامُ وجَرتٍ بِهِ المقاديرُ؟ أَمْ فيما يُستقبَلُ؟ قال: ((فِيمَا جَفَّتْ بِهِ الأقلامُ وَجَرَتْ بِهِ المقاديرُ))، قال: فَفِيمَ العملُ؟ قال: ((اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ)). قال ابنُ القيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: قد تَضَمَّنَ هَذَا الحديثُ الرَّدَّ على القدَريَّةِ والجبريَّةِ، وإثباتَ القدَرِ والشَّرعِ، وإثباتَ الكتابِ الأوَّلِ المتضمِّنِ لعِلمِ اللَّهِ -سُبْحَانَهُ- الأشياءَ قَبلَ كونِها، وإثباتَ خَلقِ الفِعلِ الجَزائيِّ، وهُوَ يُبطِلُ أُصولَ القدَريَّةِ الذين يَنفونَ خَلقَ الفِعلِ مُطلقًا، ومَن أَقَرَّ مِنهم بِخَلقِ الفِعلِ الجَزائيِّ دُونَ الابتداءِ هَدَمَ أَصْلَه ونقَضَ قاعدتَه، والنَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- أخبَرَ بِمِثلِ ما أخبَرَ بِهِ الرَّبُّ أَنَّ العبدَ مُيَسَّرٌ لما خُلِقَ له لا مجبورٌ، فالجَبْرُ لفظٌ بِدْعيٌّ، والتَّيسِيرُ لفظُ القرآنِ والسُّنَّةِ. ا.هـ.
قولُه: (الأقلامُ) ذِكرُ الأقلامِ في هَذِهِ الأحاديثِ وغيرِها مجموعةً، دليلٌ على أنَّ للمقاديرِ أقلاماً غيرَ القَلَمِ الأوَّلِ الذي تَقدَّمَ ذِكْرُه مع اللَّوحِ المحفوظِ، والذي دَلَّتْ عليه السُّنَّةُ أَنَّ الأقلامَ أربعةٌ:
الأوَّلُ: القَلَمُ العَامُّ الشَّامِلُ لجميعِ المخلوقاتِ، وهُوَ الذي كُتِبَ بِهِ مقاديرُ كُلِّ شيءٍ.
الثَّاني: خبَرُ خَلقِ آدمَ، وهُوَ قَلمٌ عامٌّ أيضًا لكنْ لبَنِي آدمَ، وورَدَ في هَذِهِ آياتٌ تَدلُّ على أَنَّ اللَّهَ قدَّرَ أعمالَ بني آدمَ وأرْزَاقَهم وآجالَهم وسعادَتهم عَقِيبَ خَلقِ أَبيهِم.
الثَّالثُ: حين يُرسَلُ المَلَكُ إلى الجنينِ في بطنِ أُمِّهِ فيَنفُخُ فيه الرُّوحَ ويُؤمَرُ بأربعِ كلماتٍ: بكَتْبِ رِزْقِه، وأجَلِه، وعَمَلِه، وشَقِيٌّ أو سعيدٌ.
الرَّابعُ: الموضوعُ على العبدِ عندَ بُلوغِه، الذي بأيدِي الكِرامِ الكاتِبينَ الذين يَكتبون ما يَفعلُه بنو آدمَ، كما وَرَدَ ذَلِكَ في الكِتابِ والسُّنَّةِ. انتهى. مِن كلامِ ابنِ القَيِّمِ.

(4) قولُه: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ) أيْ: مِن قَحْطٍ وقِلَّةِ نباتٍ وقِلَّةِ ثِمارٍ.
قولُه: (ولا في أَنْفُسِكُمْ) مِن أمراضٍ وفَقْدِ أولادٍ ونحوِ ذَلِكَ.
قولُه: (إِلاَّ فِي كِتابٍ) وهُوَ اللَّوحُ المحفوظُ.
قولُه: (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) أي: مِن قَبلِ أنْ نَخلُقَ الأرضَ والأنْفُسَ.
قولُه: (إِنَّ ذَلِكَ عَلى اللَّهِ يَسيرٌ) أي: إنَّ عِلْمَه الأشياءَ قَبلَ كَوْنِها وكتابَتَه لها طِبقَ ما يُوجَدُ في حِينِها سَهْلٌ على اللَّهِ، لأنَّه -سُبْحَانَهُ- يَعلَمُ ما كان وما يكونُ وما لم يكن لو كان كَيْفَ يكونُ، ففي هَذِهِ الآياتِ أخْبَرَ -سُبْحَانَهُ- عن قَدَرِه السَّابِقِ في خَلْقِه قَبْلَ أنْ يَبْرَأَ البَريَّةَ، فما أصابَهُم مِن خيرٍ وشرٍّ قد كُتِبَ عليهم، وقُدِّرَ ولا بُدَّ مِن وقوعِه، وَهَذِهِ الآياتُ فيها الرَّدُّ على القَدريَّةِ نفاةِ العِلمِ السَّابِقِ.
قال النَّوويُّ في شرحِ مسلمٍ: قال العلماءُ رَحِمَهم اللَّهُ: وكتابُ اللَّهِ وَلَوْحُه وقَلَمُه والصُّحُفُ المذكورةُ في الأحاديثِ، كُلُّ ذَلِكَ مما يَجِبُ الإيمانُ به، وأمَّا كيفيَّةُ ذَلِكَ وصِفَتُه فعِلمُه إلى اللَّهِ (وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مَّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ)، اهـ.
قولُه: (وهَذَا التَّقديرُ) إلخ، أي المتقدِّمُ ذِكرُه، وهُوَ تقديرُ اللَّهِ –سبحانَهُ وتعالَى- لمقاديرِ الخَلْقِ في عِلمِه وكِتابِه قبلَ تكوينِها وإيجادِها يكونُ في مواضِعَ جملةً وتفصيلا، فمِنها ما هُوَ عامٌّ شامِلٌ لكُلِّ كائنٍ، كما في حديثِ: لماَّ خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ قَال له أُكتبْ فجَرى بما هُوَ كائنٌ إلى يومِ القيامةِ، ومنها ما هُوَ كالتَّفصيلِ مِن القدَرِ السَّابقِ، وبعضُها أخَصُّ مِن بعضٍ، فما في الحديثِ المتقدِّمِ تقديرٌ شامِلٌ، وأخَصُّ مِنه ما في حديثِ ابنِ مسعودٍ: ((يُجْمَعُ خَلْقُ أَحَدِكُمْ …))، الحديثَ، وأخصُّ منهما ما وَرَدَ أنَّه يُقدِّرُ في ليلةِ القَدْرِ ما يَلْقَاه في تِلْكَ السَّنَةِ إلى السَّنَةِ الأُخرى، فقولُه: (فقد كتبَ اللَّهُ في اللَّوحِ المحفوظِ) إلى آخِرِه، هَذَا هُوَ التَّقديرُ العامُّ قبلَ خَلقِ السَّماواتِ والأرضِ، وما ذَكَرَه في حديثِ ابنِ مسعودٍ: ((يُجْمَعُ خَلْقُ أَحَدِكُمْ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يومًا نُطْفَةً، ثُمَّ أَرْبَعِينَ يومًا عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ أَرْبَعِينَ يومًا مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسَلُ إِلَيْهِ المَلَكُ فيُؤْمَرُ بَأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ بِكَتْبِ رِزْقِهِ، وأجَلِهِ، وعَمَلِهِ، وَشَقيٌّ أَمْ سَعِيدٌ))، الحديثَ، فهَذَا تقديرٌ عُمْريٌّ، وما رواه عبدُ الرَّزَّاقِ وابنُ جريرٍ عن قتادةَ -رضي اللَّهُ عنه- في قولِه تعالى: (تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ) الآيةَ. قال: يُقضَى ما يكونُ في السَّنَةِ إلى مِثلِها، فهَذَا التَّقديرُ تَقديرٌ حَوْليٌّ، وما في حديثِ ابنِ عبَّاسٍ -رضي اللَّهُ عنه-: ((إنَّ اللَّهَ خَلَقَ لَوْحًا مَحْفُوظًا مِن دُرَّةٍ بَيْضَاءَ، دَفَّتَاهُ مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ، قَلَمُهُ نُورٌ وَكِتَابُهُ نُورٌ، عَرْضُهُ مَا بَيْنَ السَّماءِ وَالأَرْضِ، يَنْظُرُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ ثَلاثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ نَظْرَةً، يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَيُعِزُّ وَيُذِلُّ ويَفْعَلُ ما يَشَاءُ، فكذَلِكَ قولُه -سُبْحَانَهُ-: (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) رواه عبدُ الرَّزَّاقِ، وابنُ المنذرِ، والطَّبرانيُّ، والحاكِمُ، فهَذَا التَّقديرُ المذكورُ في هَذَا الحديثِ تقديرٌ يوميٌّ.
قال ابنُ القيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: وكُلُّ واحدٍ مِن هَذِهِ التَّقاديرِ كالتَّفصيلِ مِن القدَرِ السَّابقِ، وفي ذَلِكَ دليلٌ على كمالِ عِلمِه -سُبْحَانَهُ- وقُدرَتِه وحِكمَتِه، وزيادةِ تعريفِه الملائكةَ وعبادَه المؤمنين بنَفْسِه وأسمائِه، قال: فاتَّفقتْ هَذِهِ الأحاديثُ ونظائِرُها على أَنَّ القدَرَ السَّابقَ لا يَمنَعُ العَملَ ولا يُوجِبُ الاتِّكالَ عليه، بل يُوجِبُ الجِدَّ والاجتهادَ. اهـ.

(5) قولُه: (فهَذَا القدَرُ) أي: المذكورُ فيما تقدَّمَ وهُوَ عِلمُه الأشياءَ قَبلَ كونِها، وكتابَتُه لها طِبقَ ما يُوجَدُ في حِينِها، قد كان يُنكِرُه غُلاةُ القدريَّةِ، كمَعبدِ الجُهنيِّ الذي سأل ابنُ عمرَ عن مقالَتِه، وكعمرِو بنِ عُبَيدٍ وغيرِه، فيُنكِرون عِلمَه المتقدِّمَ، وكِتابَتَه السَّابقةَ، ويَزعُمون أنَّه أمَرَ ونَهَى وهُوَ لا يَعلَمُ مَن يُطيعُه ممَّن يَعصِيهِ، بل الأمْرُ أُنُفٌ أي مُستأنَفٌ، وهَذَا القولُ أوَّلُ ما حَدَثَ في الإسلامِ بعدَ انْقِراضِ عَصْرِ الخُلفاءِ الرَّاشِدينَ، وكان أوَّلَ مَن أَظهَرَ ذَلِكَ بالبصرةِ معبدٌ الجهنيُّ، وأخَذَ عنه هَذَا المذهبَ غَيلانُ الدِّمشقيُّ، فلمَّا ابتدعَ هؤلاء التَّكذيبَ بالقدَرِ رَدَّ عليهم مَن بَقِي مِن الصَّحابةِ، كعبدِ اللَّهِ بنِ عُمرَ، وعبدِ اللَّهِ بنِ عبَّاسٍ، وواثِلةَ بنِ الأسقعِ وغيرِهم، والقدريَّةُ يَنقسمونَ إلى فِرْقتَيْنِ:
الأُولى: تُنكِرُ أَنَّ اللَّهَ سَبقَ عِلمُه بالأشياءِ قَبلَ وُجودِها، وتزعُم أَنَّ اللَّهَ لم يُقدِّر الأمورَ أزلاً ولم يتقدَّمْ عِلمُه بها، وإنَّما يَعلَمُها إذا وَقَعتْ، قال العلماءُ: والمنكِرونَ لهَذَا انْقَرضُوا وهم الذين كفَّرهم الأئمَّةُ مالكٌ والشَّافعيُّ وأحمدُ، وهم الذين قال فيهم الشَّافعيُّ ناظِروا القدريَّةَ بالعِلمِ، فإنْ أقرُّوا بِهِ خُصِموا، وإنْ أَنكَروه كَفُروا.
الفِرقةُ الثَّانيةُ: المُقِرُّونَ بالعِلمِ وإنَّما خَالَفوا السَّلَفَ في زَعْمِهم بأنَّ أفعالَ العِبادِ مَقدورةٌ لهم وواقِعةٌ منهم على جِهةِ الاستقلالِ، وهُوَ مع كَونِه مذهباً باطِلاً أخَفُّ مِن المذهبِ الأوَّل: قال الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: وأمَّا هؤلاء – يعني الفِرقةَ الثَّانيةَ – فإنهم مُبتدِعون ضالُّون لكنَّهم ليسوا بمنزلةِ أولئكَ، قال: وفي هؤلاء خَلْقٌ كَثيرٌ مِن العلماءِ والعُبَّادِ وكُتِبَ عنهم وأَخرجَ البخاريُّ ومُسلمٌ لِجماعةٍ منهم، لكنْ مَن كان داعيةً لم يُخَرِّجوا له، وهَذَا مذهبُ فقهاءِ الحديثِ كأحمدَ وغيرِه، ومَن كان داعيةً إلى بِدْعةٍ فإنَّه يَسْتَحقُّ العقوبةَ لدَفعِ ضررِه عن النَّاسِ وإنْ كان في الباطنِ مجتهِداً، فأقَلُّ عُقوبَتِه أنْ يُهجَرَ فلا يكونُ له رتبةٌ في الدِّينِ، فلا يُستقضَى ولا تُقبلُ شهادَته ونحوُ ذَلِكَ. اهـ).

هيئة الإشراف

#7

22 Dec 2008

شرح العقيدة الواسطية للشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): ( ((وَتُؤْمِنُ الفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ أهْلُ السُّنَّةِ والجَماعَةِ بِالقَدَرِ؛ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ))(1)
((وَالإيمانُ بِالقَدَرِ عَلَى دَرَجَتَيْنِ، كُلُّ دَرَجَةٍ تَتَضَمَّنُ شَيْئَيْنِ)) (2)
((فالدرجة الأولى: الإيمان بأن الله تعالى علم ما الخلق عاملون بعلمه القديم الذي هو موصوف به أزلاً)) (3) وأبداً، عَلِمَ جميعَ أحوالِهمْ منَ الطَّاعَاتِ وَالمعَاصِي والأَرْزَاقِ والآجَالِ، ثُمَّ كَتَبَ اللهُ في اللَّوْحِ المحفُوظِ مقادير الخلْقِ، فأوَّلُ ما خلَقَ اللهُ القَلَمَ قالَ لَهُ: أكتُبْ، قال: ما أكتُبُ؟ قال: اكتبْ مَا هوَ كائنٌ إلى يَومِ القيَامةِ، فما أصابَ الإنسانَ لم يكن ليُخْطِئَهُ، وما أخطأه لم يَكُن ليُصلبَهُ، جَفَّتْ الأقْلامُ وطُوَيَتْ الصُّحُفُ، كما قالَ سُبحَانَة وتعَالى (ألم تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا في السَّماءِ وَالأَرض، إنَّ ذلكَ في كتاب إنَّ ذلكَ على الله يَسيرُ) وقال: (ما أصابَ من مصيبةِ في الأَرْضِ وَلاَ في أنفُسِكُمْ إلاَّ فِي كِتَابً مِنْ قَبْلِ أَنْ نَّبْرأَهَا، إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يسيرُ) وهذا التَّقْدِيرُ التَّابِعُ لِعِلْمِهِ سُبحَانَهُ يَكُونُ في مَوَاضِعَ جَملَةَ وتفصيلاً، فقدْ كَتَبَ في اللَّوجِ المحفوظِ ما شَاءَ، وإذا خلَقَ جَسَدَ الجَنينِ قبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فيهِ الرُّوحِ فيهِ بَعَثَ إليهِ ملَكاً فيُؤمَرُ بأربَعِ كَلِماتٍ، فيقالُ له: اكتبْ رزقَهُ وأجَلَهُ وعملَهُ وَشَقِيٌّ أم سَعيدٌ، ونحوَ ذلك، فهذا التقديُر قَدْ كانَ يُنكرهُ غُلاةُ القدريَّةِ قدِيماً، وما نكُرُوهُ اليَوْمَ قِليلٌ
).


الشرح:

قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): ( (1) فصلٌ في الإيمانِ بالقَدَرِ
قولُهُ: ((الفِرْقةُ النَّاجيةُ أهْلُ السُّنَّةِ والجماعِة)): سَبَقَ تعريفُها والكلامُ عَنْها في أوَّلِ الكتابِ.
وقولُهُ: ((بالقَدَرِ خَيْرِه وشَرِّه)):
-القَدَرُ في اللُّغةِ؛ بمعنَى: التَّقديرِ؛ قَالَ تعالَى: (إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) [القمر: 49]، وقَالَ تعالَى: (فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ القَادِرُونَ) [المُرْسَلات: 23].
-وأمَّا القضاءُ؛ فهو في اللُّغةِ: الحُكْمُ.
وَلِهَذَا نقولُ: إنَّ القضاءَ والقَدَرَ متباينانِ إنْ اجْتمعا، ومُتَرادِفانِ إنْ تفرَّقا؛ على حدِّ قَوْلِ العلماءِ: هُما كلمتانِ: إنْ اجْتمعَتا افْترقَتا، وإنْ افْترقَتا اجْتمعَتَا.
فإذا قِيل: هذا قَدَرُ اللهِ؛ فهو شاملٌ للقضاءِ، أمَّا إذا ذُكِرَا جميعاً؛ فلكلِّ واحدٍ مِنْهُما معنىً.
فالتَّقديرُ: هُوَ ما قدَّرَه اللهُ تعالَى في الأَزَلِ أنْ يكونَ في خَلْقِهِ.
وأمَّا القضاءُ؛ فهو ما قضَى بهِ اللهُ سبحانَهُ وتعالَى في خَلْقِهِ مِنْ إيجادٍ أو إعدامٍ أو تغييرٍ، وعلى هذا يكونُ التَّقديرُ سابقًا.
فإنْ قَالَ قائلٌ: متى قُلْنا: إنَّ القضاءَ هو ما يقضِيه اللهُ سبحانَهُ وتعالَى في خلقِهِ مِنْ إيجادٍ أو إعدامٍ أو تغييرٍ، وإنَّ القَدَرَ سابقٌ عليه إذا اجتَمَعا؛ فإنَّ هذا يعارِضُ قولَهُ تعالَى: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيءٍ فَقَدَّرَهُ تَقدِيرًا) [الفرقان: 2]؛ فإنَّ هذِهِ الآيةَ ظاهرُها أنَّ التقديرَ بَعْدَ الخلقِ؟
فالجوابُ على ذلِكَ مِنْ أحدِ وجهَيْنِ:
إمَّا أنْ نقولَ: إنَّ هذا مِنْ بابِ التَّرتيبِ الذِّكريِ لا المعنوِي، وإنمَّا قَدَّمَ الخلْقِ على التقديرِ لتتناسَبَ رؤوسُ الآياتِ.
أَلَمْ ترَ إلى أنَّ موسَى أفضلُ مِنْ هارونَ، لكنْ قُدِّمَ هارونُ عليه في سورةِ طه في قولِهِ تعالَى عَنِ السَّحرةِ: (فَأُلقِىَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا ءاَمَنَّا بِرَبّ هَارُونَ وَمُوسَى) [طه: 70]؛ لتتناسبَ رؤوسُ الآياتِ.
وهذا لا يدلُّ على أنَّ المتأخِّرَ في اللَّفظِ متأخرٌ في الرتبةِ.
- أو نقولُ: إنَّ التقديرَ هنا بمعنَى التسويةِ؛ أيْ: خَلَقُه على قدرٍ معيٍن؛ كقولِهِ تعالَى: (الَّذِى خَلَقَ فَسَوَّى) [الأعلى: 2]؛ فيكونُ التقديرُ بمعنَى التسويةِ.
وهذا المعنَى أقربُ مِنَ الأوَّلِ؛ لأنَّهُ يطابقُ تمامًا قَوْلَه تعالَى:: (الَّذِى خَلَقَ فَسَوَّى)؛ فلا إشكالَ.
والإيمانُ بالقدرِ واجبٌ، ومرتبَتُه في الدينِ أنَّهُ أحدُ أركانِ الإيمانِ السِّتَّةِ؛ كما قَالَ النَّبيُّ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لجبريلَ حِينَ قَالَ: مَا الإِيمَانُ؟ قَالَ: ((أَنْ تُؤْمِنَ باللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بَالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ)).
وللإيمانُ بالقدرِ فوائدُ؛ مِنْها:
أولاً: أنَّهُ مِنْ تمامِ الإيمانِ، ولا يتمُّ الإيمانُ إلا بذلِكَ.
ثانيًا: أنَّهُ مِنَ تمامِ الإيمانِ بالرُّبوبيةِ؛ لأنَّ قَدَرَ اللهِ مِنْ أفعالِهِ.
ثالثاً: رَدُّ الإنسانِ أمورَه إلى ربِّه؛ لأنَّه إذا عَلِمَ أنَّ كلَّ شيءٍ بقضائِهِ وقدرِهِ؛ فإنَّهُ سيرجعُ إلى اللهِ في دفعِ الضرَّاءِ ورفعِها، ويضيفُ السَّرَّاءَ إلى اللهِ، ويعرفُ أنَّها مِنْ فضلِ اللهِ عليهِ.
رابعاً: أنَّ الإنسانَ يعرفُ قَدْرَ نفسِهِ، ولا يفخرُ إذا فَعَلَ الخَيْرَ.
خامساً: هَوْنُ المصائبِ على العبدِ؛ لأنَّ الإنسانَ إذا عَلِمَ أنهَّا مِنْ عندِ اللهِ؛ هانَتْ عليه المصيبةُ؛ كَمَا قَالَ تعالَى: (وَمَن يُؤمِن باللهِ يَهدِ قَلبَهُ) [التغابنُ: 11]: قَالَ علقمةُ رحِمَهُ اللهُ: ((هو الرجلُ تصيبهُ المصيبةُ، فيعلمُ أنهَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ، فيرضَى ويسلِّمُ)).
سادساً: إضافةُ النِّعمِ إلى مُسدِيهَا؛ لأنَّكَ إذا لَمْ تؤمنْ بالقَدَرِ؛ أضَفْتَ النِّعَمَ إلى مَنْ باشرَ الإنعامَ، وهذا يوجدُ كثيراً في الَّذِينَ يتزلَّفُون إلى الملوكِ والأمراءِ والوزراءِ؛ فإذا أصابوا مِنْهُم ما يريدونَ؛ جعلُوا الفضلَ إلَيْهِم، ونَسَوا فضلَ الخالقِ سبحانَهُ.
صحيحٌ أنَّهُ يجبُ على الإنسانِ أنْ يشكُرَ النَّاسَ؛ لقولِ النَّبيِّ عليهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ((مَنْ صَنَعَ إِلَيْكُم مَعْرُوفًا؛ فَكَافِئُوهُ))، ولكنْ يعلمُ أنَّ الأصلَ كلَّ الأصلِ هو فضلُ اللهِ عزَّ وجلَّ جعلَهُ على يدِ هذا الرَّجُلِ.
سابعاً: أن الإنسانَ يَعرِفُ بهِ حِكْمةَ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ لأنَّهُ إذا نظرَ في هذا الكونِ وما يحدثُ فيهِ من تغييراتٍ باهرةٍ؛ عرفَ بهذا حِكمةَ اللِه عزَّ وجلَّ؛ بخلافِ مَنْ نسِيَ القضاءَ والقدرَ؛ فإنَّهُ لا يستفيدُ هذهِ الفائدةَ.
وقولُهُ: ((خيرِه وشرِّهِ)):
الشَّرُّ في القَدَرِ: ما لا يلائمُ طبيعةَ الإنسانِ؛ بحيثُ يحصلُ لَهُ به أذِيَّةٌ أو ضَررٌ.
والخيرُ: ما يلائمُ طبيعتَهُ؛ بحيثُ يحصلُ لَهُ بهِ خيرٌ أو ارتياحٌ وسرورٌ، وكلُّ ذلِكَ مِنَ اللهِ عزَّ وجلَّ.
ولكنْ؛ إنْ قِيلَ: كَيْفَ يُقَالُ: إنَّ في قَدَرِ اللهِ شَرًّا؛ وقَدْ قَالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْه))؟
فالجوابُ على ذلِكَ أنْ يُقَالَ: الشَّرُّ في القَدَرِ لَيْسَ باعتبارِ تقديرِ اللهِ له، لكنَّه باعتبارِ المقدورِ لَهُ؛ لأنَّ لدينا قَدَراً هو التقديرُ ومقدوراً؛ كما أنَّ هناك خَلْقاً ومخلُوقاً وإرادةً ومُراداً؛ فباعتبارِ تقديرِ اللهِ لَهُ لَيْسَ بشرٍّ، بَلْ هُوَ خيرٌ، حتَّى وإنْ كانَ لا يلائمُ الإنسانَ ويؤذيِه ويضرُّه، لكنْ باعتبارِ المقدورِ؛ فنقولُ: المقدورُ إمَّا خيرٌ وإما شرٌّ؛ فالقَدَرُ خيرُهُ وشرُّه يُرادُ بهِ المقدورُ خَيرُه وشَرُّه.
ونضربُ لهذا مَثَلاً في قولِهِ تعالَى:(ظَهَرَ الفَسَادُ فِى البَرِّ وَالبَحْرِ بِمَا كَسَبَت أَيدِى النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعضَ الَّذِى عَمِلُوا)[الروم:4].
ففِي هذِهِ الآيةِ بَيَّنَ اللهُ عزَّ وجلَّ ما حَدَثَ مِنَ الفسادِ وسبَبَه والغايةَ مِنْه؛ فالفسادُ شرٌّ، وسببُهُ عملُ الإنسانِ السَّيِّئِ، والغايةُ مِنْهُ: (لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِى عَمِلُوا لَعَلَّهُم يَرجِعُونَ).
فكونُ الفسادِ يظهرُ في البرِّ والبحرِ فيه حِكْمةٌ؛ فهو نفسُه شرٌّ، لكنْ لحِكْمةٍ عظيمةٍ، بها يكونُ تقديرُه خيراً.
كذلِكَ المعاصِي والكفرُ شرٌّ، وهو مِنْ تقديرِ اللهِ، لكنْ لحِكْمةٍ عظيمةٍ، لولا ذلكَ لبطلَتِ الشَّرائعُ، ولولا ذلكَ لكانَ خَلْقُ النَّاسِ عَبثاً.
والإيمانُ بالقدرِ خيرِه وشرِّه لا يتضمَّنُ الإيمانَ بكلِّ مقدورٍ، بَلْ المقدورُ ينقسمُ إلى كَونيٍّ وإلى شَرعيٍّ:
فالمقدورُ الكونيُّ: إذا قدَّرَ اللهُ عليك مكروهاً؛ فلا بدَّ أنْ يقعَ؛ رضِيتَ أم أبَيْتَ.
- والمقدورُ الشَّرعيُّ قد يفعلُهُ الإنسانُ وقد لا يفعلُهُ، ولكنْ باعتبارِ الرِّضَى بهِ فيه تفصيلٌ: إنْ كانَ طاعةً لله؛ وجَبَ الرِّضَى به، وإنْ كانَ معصيةً؛ وجَبَ سخطُهُ وكراهتُهُ والقضاءُ عليهِ؛ كَمَا قَالَ اللهُ عزَّ وجلَّ: (وَلتَكُنْ مِنْكُم أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيرِ وَيَأمُرُونَ بِالمعْرُوفِ وَيَنْهَونَ عَنِ المُنْكَرِ) [آل عمران: 104].
وعلى هذا؛ يجبُ علينا الإيمانُ بالمقضِىِّ كلِّهُ؛ مِنْ حيثُ كونِهِ قضاءً للهِ عزَّ وجلَّ، أمَّا مِنْ حيثُ كونِهِ مَقضِيًّا؛ فقدْ نرضَى بهِ وقد لا نرضَى؛ فلو وَقَعَ الكفرُ مِنْ شخصٍ؛ فلا نرضَى بالكفرِ منه، لكنْ نرضَى بكونِ اللهِ أوْقَعَهُ.

فصلٌ في درجاتِ الإيمانِ بالقَدَرِ
(2) إنمَّا قسَّمَ المؤلِّفُ هذا التقسيمَ مِنْ أجلِ الخلافِ؛ لأنَّ الخلافَ في القَدَرِ لَيْسَ شاملاً لكلِّ مراتِبِه، وبابُ القَدَرِ مِنْ أشكلِ أبوابِ العلمِ والدينِ على الإنسانِ، وقد كانَ النزاعُ فيه مِنْ عهدِ الصَّحابةِ رَضِي اللهُ عَنْهُم، لكنَّهُ لَيْسَ مشكلاً لِمَنْ أرادَ الحقَّ.

الدرجةُ الأُولَى من درجاتِ الإيمانِ بالقدرِ
(3) قولُهُ: ((فالدرجةُ الأُولَى: الإيمانُ بأنَّ اللهَ عَلِمَ ما الخلقُ عاملُونَ)): ولم يذكرْ المؤلِّفُ أنَّ اللهَ عَلِمَ ما يفعلُهُ هو؛ لأنَّ هذه المسألةَ لَيْسَ فيها خلافٌ، إنمَّا ذكرَ ما فيه الخلافُ، وهُوَ: هَلْ اللهُ يعلَمُ ما الخلقُ عاملونَ أو لا يعلَمُه إلا بَعْدَ وقوعِهِ مِنْهُم؟
ومذهبُ السَّلَفِ والأئمَّةِ أنَّ اللهَ تعالَى عالمٌ بذلِكَ.
قولُهُ: ((بعلمِه القديمِ)): القديم في اصطلاحِهِم: هو الَّذِي لا أوَّلَ لابتدائِهِ؛ أيْ أنَّهُ لم يزلْ فيما مضَى مِنَ الأزمنةِ الَّتي لا نِهايةَ لها عالماً بما يعملُهُ الخلقُ؛ بخلافِ القديمِ في اللُّغةِ؛ فقد يُرادُ به ما كانَ قديماً نسبيَّاً؛ كَمَا في قولِهِ تعالَى: (حتَّى عَادَ كَالعُرجُونِ القَدِيمِ) [يس: 39]، ومعلومٌ أنَّ عرجونَ النخلةِ لَيْسَ بقديمٍ أزليٍّ، بَلْ قديمٍ بالنِّسبَةِ لما بعدَهُ.
فاللهُ تعالَى موصوفٌ بأنَّهُ عالمٌ بما الخلقُ عاملونَ بعلمِهِ القديمِ الأزلِيِّ، الَّذِي لا نهايةَ لأوَّلِهِ، عالمٌ جلَّ وعلا بأنَّ هذا الإنسانَ سيعملُ كذا في يومِ كذا في مكانِ كذا بعلمِهِ القديمِ الأوَّلي؛ فيجبُ أنْ نؤمنَ بذلِكَ:
ودليلُ ذلِكَ مِنَ الكتابِ والسُّنَّةِ والعقلِ:
أمَّا الكتابُ؛ فما أكثرَ الآياتِ الَّتي فيها العمومُ في علمِ اللهِ؛ مثلَ: (وَاللهُ بِكُلّ شَيءٍ عَلِيمٌ) [البقرة: 280]، (إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلّ شَيءٍ عَلِيمًا) [النساء: 32]، (رَبَّنَا وَسِعتَ كُلَّ شَيءٍ رَّحمَةً وَعِلمًا) [غافر: 7]، (لِتَعلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلّ شَيءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَد أَحَاطَ بِكُلّ شَيءٍ عِلماً) [الطلاق: 12] … إلى غيرِ ذلِكَ مِنَ الآياتِ الَّتي لا تحُصى كثرةً.
أما في السُّنَّةِ؛ فإنَّ الرَّسولَ عليِه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أخبرَ بأنَّ اللهَ كتبَ مقاديرَ الخلائقِ قَبْلَ أنْ يخلقَ السَّماواتِ والأرضَ بخمسينَ ألفَ سنةٍ، وبأنَّ ما أصابَ الإنسانَ لم يكنْ ليخطئهَ، وما أخطأَهُ لم يكنْ ليصيبَهُ، وأنَّ الأقلامَ قَدْ جَفَّتْ وطُوِيَتِ الصُحُفُ … والأحاديثُ في هذا كثيرةٌ.
وأمَّا العقلُ؛ فإنَّ من المعلومِ بالعقلِ أنَّ اللهَ تعالَى هو الخالقُ، وأنَّ ما سِواه مخلوقٌ، ولا بدَّ عقلاً أنْ يكونَ الخالقُ عالماً بمخلوقِهِ، وقَدْ أشارَ اللهُ تعالَى إلى ذلِكَ بقولِهِ: ((أَلاَ يَعلَمُ مَن خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ) [الملك: 14].
فالكتابُ والسُّنَّةُ والعقلُ كلُّها تدلُّ على أنَّ اللهَ تعالَى عالمٌ بما الخلقُ عاملونَ بعلمِهِ الأزلِيِّ.
قولُهُ: ((الَّذِي هو موصوفٌ بهِ أزلاً وأبداً)): ففِي كونهِ موصوفًا به أزلاً نفيٌ للجهلِ، وفي كونِهِ موصوفاً به أبداً نفيٌ النسيانِ.
وَلِهَذَا كانَ علمُ اللهِ عزَّ وجلَّ غيرَ مسبوقٍ بجهلٍ ولا ملحوقٍ بنسيانٍ؛ كما قَالَ موسى عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لفرعونَ: (عِلمُهَا عِندَ رَبّى فِى كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبّى وَ لاَ يَنسَى) [طه: 52]؛ بخلافِ علمِ المخلوقِ المسبوقِ بالجهلِ والملحوقِ بالنسيانِ.
إذاً؛ يجبُ عَلَيْنا أنْ نؤمنَ بأنَّ اللهَ عَلِمَ بما الخلقُ عاملونَ بعِلْمٍ سابقٍ موصوفٍ به أزلاً وأبداً.
قولُهُ: ((عَلِمَ جَميعَ أحْوالِهِم مِنَ الطَّاعاتِ وَالمَعاصي وَالأرْزاقِ وَالآجالِ)):
ودليلُ ذلِكَ ما ثَبَتَ في ((الصَّحيحينِ)) عَنْ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رَضِي اللهُ عَنْهُ؛ قَالَ: حدَّثنَا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو الصادقُ المصدوقُ: ((إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ …)) وذكر أطوارَ الجنينِ، وفيه: ((ثُمَّ يَبْعَثُ اللهُ مَلكًا، فَيُؤْمَرُ بَأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، وَيُقَالُ لَهُ: اكْتُبْ عَمَلَهُ وَرِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ …)) وذكَرَ تمامَ الحديثِ.
فاللهُ عالمٌ بذلِكَ قَبْلَ أنْ يخلقَ الإنسانَ.
فطاعاتُنَا معلومةٌ للهِ، ومعاصِينا معلومةٌ لله، وأرزاقُنا معلومةٌ له، وآجالُنا معلومةٌ له، إذا ماتَ الإنسانُ بسببٍ معلومٍ أو بغيرِ سببٍ معلومٍ؛ فإنَّهُ لله معلومٌ، ولا يخفَى عليه؛ بخلافِ عِلْمِ الإنسانِ بأجلِهِ؛ فإنَّهُ لا يَعرِفُ أجلَهُ، فلا يَعْرِفُ بأيِ سببٍ يموتُ، ولا يعرفُ على أيِّ حالٍ يموتُ؛ نسألُ اللهَ تعالَى حُسْنَ الخاتمةِ.
وهذا هو الشَّيءُ الأوَّلُ مِنَ الدرجةِ الأُولَى.
قولُهُ: ((ثُمَّ كَتَبَ اللهُ في اللَّوْحِ المَحْفوظِ مَقاديرَ الخَلْقِ)).
هذا الشَّيءُ الثَّاني مِنَ الدرجةِ الأُولَى، وهو أنَّ اللهِ كَتَبَ في اللَّوحِ المحفوظِ مقاديرَ الخَلْقِ.
اللَّوحُ المحفوظُ: لا نَعْرِفُ ما هيَّتُهُ؛ مِنْ أيِّ شيءٍ؛ أمِنْ خشبٍ، أم مِنْ حديدٍ، أَمْ مِنْ ذَهَبٍ، أَمْ مِنْ فضةٍ، أَمْ مِنْ زُمُرُّدٍ؟ فاللهُ أعلَمُ بذلِكَ؛ إنَّما نؤمنُ بأنَّ هناك لوحاً كَتَبَ اللهُ فيه مقاديرَ كلِّ شيءٍ، ولَيْسَ لنا الحقُّ في أن نَبْحَثَ وراءَ ذلِكَ، لكنْ لو جاءَ في الكتابِ والسُّنَّةِ ما يدلُّنا على شيءٍ؛ فالواجبُ أنْ نعتقدَهُ.
ووصِفَ بكونِهِ محفوظاً؛ لأنَّهُ محفوظٌ مِنْ أيدِي الخَلْقِ؛ فلا يمكنُ أنْ يُلحِقَ أحدٌ به شيئاً، أو يُغيِّرَ به شيئاً أبداً. ثانياً: محفوظٌ مِنَ التَّغييرِ؛ فاللهُ عزَّ وجلَّ لا يُغيِّرُ فيه شيئاً؛ لأنَّهُ كَتَبَه على عِلْمٍ مِنْهُ؛ كما سيذكُرُهُ المؤلِّفُ، وَلِهَذَا قَالَ شيخُ الإسلامِ رحِمَهُ اللهُ: ((إنَّ المكتوبَ في اللَّوحِ المحفوظِ لا يتغيرُ أبداً))، وإنمَّا يحصلُ التغييرُ في الكُتُبِ الَّتي بأيدِي الملائكَةِ.
قولُهُ: ((مقاديرَ الخَلْقِ))؛ أيْ: مقاديرَ المخلوقاتِ كلِّها، وظاهرُ النُّصوصِ أنَّهُ شملَ ما يفعلُهُ الإنسانُ، وما يفعلُهُ البهائمُ، وأنَّهُ عامٌ وشاملٌ.
ولكنْ؛ هَلْ هذِهِ الكتابةُ إجماليَّةٌ أو تفصيليَّةٌ؟
قَدْ نقولُ: إنَّنا لا نجزمُ بأنهَّا تفصيليةٌ أو إجماليةٌ.
فمثلاً: القرآنُ الكريمُ: هَلْ هو مكتوبٌ في اللَّوحِ المحفوظِ بهذِه الآياتِ والحروفِ أو أنَّ المكتوبَ في اللوحِ ذكْرُهُ وأنَّهُ سينزلُ على محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنَّهُ سيكونُ نوراً وهدىً للناسِ وما أشْبَهَ ذلِكَ؟
ففِيه احتمالٌ: إنْ نَظَرْنا إلى ظاهرِ النُّصوصِ؛ قُلْنا: إنَّ ظاهرَها أنَّ القرآنَ كلَّه مكتوبٌ جُملةً وتفصيلاً، وإنْ نَظَرْنا إلى أنَّ اللهَ سبحانَه وتعالَى يتكلَّّّّمُ بالقرآنِ حينَ نزولِهِ؛ قُلْنا: إنَّ الَّذِي كُتِبَ في اللوحِ المحفوظِ ذِكْرُ القرآنِ، ولا يلزمُ مِنْ كونِ ذكرِهِ في اللوحِ المحفوظِ أنْ يكونَ قد كُتِبَ فيه؛ كَمَا قَالَ اللهُ تعالَى عَنِ القرآن: (وَإِنَّهُ لَفِى زُبُرِ الأَوَّلِينَ) [الشعراء: 196]؛ يعني: كُتُبَ الأوَّلينَ، ومعلومٌ أنَّ القرآنَ لم يوجدْ نصُّهُ في الكُتُبِ السَّابقةِ، وإنَّما وُجِدَ ذكرُهُ، ويمكنُ أنْ نقولَ مثلَها في قولِهِ تعالَى: (بَلْ هُوَ قُرْءَانٌ مَّجِيدٌ، فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظِ) [البروج: 21-22]؛ أيْ: ذكْرُهُ في هذا اللوحِ.
فالمهمُّ أنْ نؤمنَ بأنَّ مقاديرَ الخلقِ مكتوبةٌ في اللوحِ المحفوظِ، وأنَّ هذا اللوحَ لا يتغيَّرُ ما كُتِبَ فيه؛ لأنَّ اللهَ أمرَهُ أنْ يكتبَ ما هو كائنٌ إلى يومِ القيامةِ.
قولُهُ: ((فَأَوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ القَلَمَ؛ قَالَ لَهُ: اكْتُبْ! قَالَ: مَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ)).
قولُهُ: ((فأوَّلُ ما خلَقَ اللهُ القلمَ؛ قَالَ لَهُ: اكتبْ)): فأمَره أنْ يكتبَ؛ مع أنَّ القلمَ جمادٌ!!
فكَيْفَ يوجِّهُ الخطابَ إلى الجمادِ؟!
والجوابُ عَنْ ذلِكَ: أنَّ الجمادَ بالنسَبةِ إلى اللهِ عاقلٌ يصحُّ أنْ يُوجَّهَ إليه الخطابُ:
قَالَ اللهُ تعالَى: (ثُمَّ اسْتَوَى إلى السَّماءِ وَهِىَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) [فُصِّلت: 11]؛ فوجَّهَ الخطابَ إليهِما، وذكَرَ جوابهَما، وكانْ الجوابُ بجمعِ العقلاءِ طائعينَ دونَ طائعاتٍ.
وقَالَ تعالَى: (قُلْنَا يَانَارُ كَونِى بَرْداً وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ) [الأنبياء: 69]؛ فكانَتْ كذلِكَ.
وقَالَ تعالَى: (يَاجِبَالُ أَوِّبِى مَعَهُ وَالطَّيْرَ) [سبأ: 10]؛ فكانَتِ الجبالُ تؤوِّبُ مَعَهُ.
والحاصلُ أنَّ اللهَ أمَرَ القلَمَ أنْ يكتبَ، وقد امتثلَ القلمُ، لكنَّهُ أَشْكَلَ عليه ماذا يكتبُ؛ لأنَّ الأمرَ مجملٌ، فقَالَ: ((ما أكتبُ؟))؛ أيْ: أيَّ شيءٍ أكتبُ؟
((قَالَ))؛ أيْ: اللهُ.
((اكْتُبْ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ)): فكتبَ القلمُ بأمرِ اللهِ ما هو كائنٌ إلى يومِ القيامةِ.
فانظرْ كيفَ علِمَ القلمُ ماذا يكونُ إلى يومِ القيامةِ، فكتبَهُ؛ لأنَّ أمرَ اللهِ عزَّ وجلَّ لا يُرَدُّ.
وقولُهُ: ((ما هو كائنٌ إلى يومِ القيامةِ)): يشملُ ما كانَ مِنْ فعلِ اللهِ تعالَى وما كانَ مِنْ أفعالِ الخلقِ.
قولُهُ: ((فَما أصابَ الإنْسانَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَما أخْطَأهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصيبَهُ)).
إذا آمَنْتَ بهذه الجملةِ؛ اطمأننْتَ: ما أصابَ الإنسانَ؛ لم يكن ليخطئَهُ أبداً.
ومعنَى ((ما أصابَ)): يحتملُ أنَّ المعنَى: ما قَدَّرَ أنْ يصيبَه؛ فإنَّهُ لنْ يخطئَهُ، ويحتملُ أنَّ ما أصابَهُ بالفعلِ لا يمكنُ أنْ يخطئَهُ، حتَّى لو تمنَّى الإنسانُ، وهما مَعْنَيان صحيحَانِ لا يتنافيانِ.
وما أخطأَهُ لم يكنْ ليصيبَهُ (أي: ما قُدِّر) أنْ يخطئَهُ فإنَّهُ لم يكنْ ليصيبَه، أو المعنَى ما أخطأَه بالفعلِ، لأنَّهُ معروفٌ أنَّهُ غيرُ صائبٍ، ولو تمنَّى الإنسانُ، وهما معنيان صحيحان لا يتنافيان.
قَالَ المؤلِّفُ: ((جَفَّتِ الأقْلامُ وَطُوِيَتِ الصُّحُفُ)).
((الأقلامُ)): هي أقلامُ القدرِ الَّتي كَتَبَ اللهُ بها المقاديرَ؛ جَفَّتْ وانتَهَتْ.
و((الصحفُ)): طُوِيَتْ، وهذا كنايةٌ عَنْ أنَّ الأمرَ انتهى.
وفي ((صحيح مسلم)) عَنْ جابرٍ رَضِي اللهُ عَنْهُ؛ قَالَ: جَاءَ سُراقَةُ بنُ مَالِكِ بن جَعْشَم؛ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! بَيِّنْ لَنَا دِينَنَا كَأَنَّا خُلِقْنَا الآنَ: فِيمَ العَمَلُ اليَوْمَ؛ أَفِيمَا جَفَّتْ بِهِ الأَقْلامُ وَجَرَتْ بِهِ المَقَادِيرُ؟ أَمْ فِيمَا نَسْتَقْبِلُ؟ قَالَ: ((لاَ؛ بَلْ فِيمَا جَفَّتْ بِهِ الأَقْلامُ وَجَرَتْ بِهِ المَقَادِيرُ)). قَالَ: ففِيمَ العَمَلُ؟ قَالَ: ((اعْمَلُوا؛ فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ)).
قولُهُ: ((كَمَا قَالَ اللهُ تعالَى)): الكافُ في مثلِ هذا التعبيرِ للتعليلِ.
(أَلَمْ تَعْلَمْ): أيُّها المخاطبُ.
(أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّماءِ وَالأَرْضِ): وهذا عامٌّ؛ عَلِمَ لما فيهما مِنْ أعيانٍ وأوصافٍ وأعمالٍ وأحوالٍ.
(إِنَّ ذَلِكَ فِى كِتَابٍ): وهو اللَّوحُ المحفوظُ.
(إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسيرٌ)؛ أيْ: الكتابةُ على اللهِ أمرٌ يسيرٌ.
قولُهُ: ((وقَالَ: (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِى الأَرْضِ وَلاَ فِى أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِى كَتَابٍ مِّن قَبْلِ أن نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) [الحديد: 22])).
(فِى الأَرْضِ): كَالجَدبِ والزلازلِ والفيضاناتِ وغيرِها.
(وَلاَ فِى أَنفُسِكُمْ): كالمرضِ والأوبئةِ المهلكةِ وغيرِ ذلِكَ.
(إِلاَّ فِى كَتاَبٍ): هو اللوحُ المحفوظُ.
(نَّبْرَأَهَا)؛ أيْ: مِنْ قَبْلِ أنْ نخلُقَها، والضَّميرُ في (نَّبْرَأَهَا): يحُتملُ أنْ يعودَ على المصيبةِ، ويحتملُ أنْ يعودَ على الأنفسِ، ويحُتملُ أنْ يعودَ على الأرضِ، والكلُّ صحيحٌ؛ فالمصيبةٌ قد كُتِبَتْ قَبْلَ أنْ يخلُقها اللهُ عزَّ وجلَّ، وقَبْلَ أنْ يخلقَ النَّفسَ المصابةَ، وقَبْلَ أنْ يخلقَ الأرضَ.
وفي ((صحيح مسْلمٍ)) عَنْ عبدِ اللهِ بنِ عمروٍ؛ قَالَ: قَالَ رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الخَلائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّماواتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ. قَالَ: وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ)).
قولُهُ: ((وَهذا التَّقْديرُ التَّابِعُ لِعِلْمِهِ سُبْحانَهُ يَكونُ في مَواضِعَ, جُمْلَةً وَتَفْصيلاً)).
قولُهُ: ((في مواضِعَ))؛ يعني: مواضعَ غيرَ اللوحِ المحفوظِ.
ثُمَّ بيَّنَ هذه المواضعَ بقولِهِ:
((فَقَدْ كَتَبَ في اللَّوْحِ المَحْفوظِ ما شاءَ)).
((وإذا خَلَقَ جَسَدَ الجَنينِ قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فيهِ؛ بَعَثَ إليهِ مَلَكًا، فَيُؤْمَرُ بِأرْبَعِ كَلِماتٍ، فَيُقَالُ لَهُ: اكْتُبْ رِزْقَهُ وَأجَلَهُ وَعَمَلَهُ وَشَقِيٌّ أم سَعيدٌ وَنَحْوَ ذلكَ)).
فهذانِ موضعانِ:
الأوَّلُ: اللَّوحُ المحفوظُ، وسبقَ دليلُ ذلِكَ وتفصيلُ القولِ فيهِ.
والثَّاني: الكتابةُ العُمْرِيَّةِ الَّتي تكونُ للجنينِ في بطنِ أمَّهِ، وسبقَ دليلُها في حديثِ ابنِ مسعودٍ رَضِي اللهُ عَنْهُ.
والموضعُ الثَّالثُ: ما أشارَ إليه بقولِهِ: ((ونحوَ ذلِكَ))، وهو التَّقديرُ الحوليُّ الَّذِي يكونُ في ليلةٍ القدرِ؛ فإنَّ ليلةَ القدرِ يُكْتَبُ فيِها ما يكونُ في تلك السُّنَّةِ؛ كَمَا قَالَ تعالَى: (فِيهَا يُفرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمرًا مِنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرسِلِينَ) [الدخَان: 4 – 5].
قَالَ المؤلِّفُ: ((فهذا التقديرُ قَدْ كانَ ينكرُهُ غلاةُ القدريَّةِ قديماً، ومنكروه اليومَ قليلٌ)).
((هذا التقديرُ))؛ يعني: العلمَ والكتابةَ، وينكرُهُ غلاةُ القدريَّةِ قديماً، ويقولُونَ: إنَّ اللهَ لا يعلمُ أفعالَ العبدِ إلا بَعْدَ وجودِها، وأنهَّا لم تُكْتَبْ، ويقولُونَ: إنَّ الأمرَ أُنُفٌ؛ أيْ: مستأْنَفٌ، لكنْ متأخروهم أقرُّوا بالعلمِ والكتابةِ، وأنكروا المشيئةَ والخَلْقَ، وهذا بالنسَبةِ لأفعالِ المخلوقين.
أمَّا بالنسَبةِ لأفعالِ اللهِ؛ فلا أحدَ ينكِرُ أنَّ اللهَ عالمٌ بهِا قَبْلَ وقوعِها.
وهؤلاءِ الَّذِين ينكرون عِلْمَ اللهِ بأفعالِ العبدِ حكْمُهم في الشرعِ أنَّهم كفارٌ؛ لأنهَّم كذَّبوا قولَ اللهِ تعالَى: (وَاللهُ بِكُلّ شَيءٍ عَلِيمٌ) [البقرة: 282]، وغيرَها مِنَ الآياتِ، وخالفوا المعلومَ بالضَّرورةِ مِنَ الدينِ).