الدروس
course cover
أنواع الشفاعات في القيامة
11 Nov 2008
11 Nov 2008

4520

0

0

course cover
العقيدة الواسطية

القسم التاسع

أنواع الشفاعات في القيامة
11 Nov 2008
11 Nov 2008

11 Nov 2008

4520

0

0


0

0

0

0

0

أنواع الشفاعات في القيامة

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وَلَه صلى الله عليه وسلم فِي القِيَامَةِ ثَلاَثُ شَفَاعَاتٍ:
أَمَّا الشَّفَاعَةُ الأُولَى: فَيَشْفَعُ فِي أَهْلِ الْمَوْقِفِ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَهُمْ بَعْدَ أَنْ يَتَرَاجَعَ الأَنْبِيَاءُ: آدَمُ، وَنُوحٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَمُوسَى، وَعِيسَى ابْنُ مَرْيمَ الشَّفَاعَةَ حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَيْهِِ.
وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الثَّانِيَةُ: فَيَشْفَعُ فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ، وَهَاتَانِ الشَّفَاعَتَانِ خَاصَّتَانِ لَهُ.
وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الثَّالِثَةُ: فَيَشْفَعُ فِيمَنْ اسْتَحَقَّ النَّارَ، وَهَذِهِ الشَّفَاعَةُ لَهُ وَلِسَائِرِ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيِقِينَ وَغَيْرِهِمْ، يَشْفَعُ فِيمَنْ اسْتَحَقَّ النَّارَ أَنْ لاَ يَدْخُلَهَا، وَيَشْفَعُ فِيمَنْ دَخَلَها أَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا.
وَيُخْرِجُ اللهُ مِن النَّارِ أَقْوَامًا بِغَيْرِ شَفَاعَة، بَلْ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ، وَيَبْقى فِي الْجَنَّةِ فَضْلٌ عمن دَخَلَها مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا فَيُنْشِِئُ اللهُ لَهَا أَقْوَامًا فَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ. وَأَصْنَافُ مَا تتضمنه الدَّارُ الآخِرَةُ مِن الْحِسَابِ وَالعِقَابِ وَالثَّوَابِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَتَفَاصِيلُ ذَلِكَ مَذْكُورَةٌ فِي الكُتُبِ الْمُنَزَّلةِ مِن السَّمَاءِ وَالأثارَةِ مِن الْعِلْمِ الْمَأْثُورَةِ عَن الأَنْبِيَاءِ.
وَفِي الْعِلْمِ الْمَوْرُوثِ عَنْ النبي مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مِنْ ذَلِكَ مَا يَشْفِِي وَيَكْفِِي ، فَمَن ابْتَغَاهُ وَجَدَه
).

هيئة الإشراف

#2

22 Dec 2008

تعليقات ابن باز على شرح السعدي على الواسطية

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وله صلى الله عليه وسلم في القيامة ثلاث شفاعات([1]):
أما الشفاعةُ الأولى: فيشفعُ في أهلِ الموْقِفِ حتى يُقضى بينهم بعد أن يتراجعَ الأنبياءُ: آدمُ ونوحٌ وإبراهيمُ وموسى وعيسى بنُ مريمَ عن الشفاعةِ حتى تنتَهيَ إليهِ.
وأما الشفاعةُ الثانيةُ: فيَشْفَعُ في أهلِ الجنّةِ أنْ يدخلوا الجنةَ، وهاتان الشفاعتانِ خاصَّتانِ له.
وأما الشفاعةُ الثالثةُ: فيَشْفَعُ فيمَنْ استحقَّ النارَ، وهذهِ الشفاعةُ له ولسائرِ النبيينَ والصِّدِّيقين وغيرِهم، فيَشْفَعُ فِيمن استحَقَّ النارَ أن لا يدخَلها، ويشفعُ فيمن دخلَها أن يخرجَ منها.
إخراج الله بعض العصاة من النارِ برحمته وبغير شفاعته
ويُخرجُ اللهُ من النارِ أقواماً بغير شفاعةٍ بل بفضلِهِ ورحمتِهِ ويبْقى في الجنةِ فضلٌ عمَّن دخلَها من أهل الدُّنيا فينشِئُ اللهُ لها أقواماً فيُدْخِلُهُمُ الجنّةَ. وأصنافُ ما تضمَّنَتْهُ الدار الآخرةُ من الحسابِ والثوابِ والعِقابِ والجنةِ والنارِ وتفاصيلُ ذلك مذكورةٌ في الكتبِ المنزَّلةِ من السماءِ والآثار من العِلْمِ المأثورِ عن الأنبياءِ. وفي العِلْمِ الموروث عن محمّد صلى الله عليه وسلم من ذلك ما يشفي ويكفي، فمَنِ ابتغاهُ وجَدَه
).

الشرح:

قال الشيخ عبد العزيز بن عبد الله ابن باز (ت: 1420هـ): ( ([1]) " الشفاعات التي تقع يوم القيامة ست شفاعات معروفة من الأدلة الشرعية منها ثلاث شفاعات تختص بالنبي وهي:
1 – الشفاعة العظمى في أهل الموقف حتى يقضى بينهم.
2 – الشفاعة في أهل الجنة حتى يدخلوها.
3 – شفاعته في تخفيف العذاب عن عمه أبي طالب حتى جعل في ضحضاح من النار. وهذه الشفاعة خاصة بالنبي وأبي طالب عمه، وأما سواه من الكفار فلا شفاعة فيهم لقوله تعالى: [فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ] [المدثر:48].
الرابعة والخامسة: شفاعته فيمن استحق النار ألا يدخلها، وفيمن دخلها أن يخرج منها.
السادسة: شفاعته في رفع درجات أهل الجنة.
وهذه الشفاعة الأخيرة عامة للنبي وغيره من الأنبياء والصالحين والملائكة وصغار الموتى من أطفال المسلمين، وكلها خاصة بأهل التوحيد.
وأما الكفار: فيخلدون في نار جهنم، ولا يذوقون فيها الموت، كما قال سبحانه وتعالى: [لا يُقْضَى عَلَيْهِمٌ فَيَمُوتُوا] [فاطر:36]. ونحوها من الآيات.
وأما من دخلها من العصاة الموحدين: فإنه لا يخلد فيه بل يخرج منها بعد التطهير والتمحيص، وثبت في الصحيح عن النبي "أن العصاة يموتون فيها ثم يخرجون منها كالحميم فينبتون فيها كما ينبت الحب في حميل السيل".اهـ).

هيئة الإشراف

#3

22 Dec 2008

شرح العقيدة الواسطية للشيخ مُحمَّد خَليل هَرَّاس رحمه الله

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): ( (ولهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في القيامَةِ ثلاثُ شَفاعَاتٍ:
أَمَّا الشَّفاعَةُ الأوْلى؛ فيشفَعُ في أَهْلِ المَوْقِفِ حَتى يُقْضَى بينَهُمْ بعدَ أَنْ يَتَرَاجَعَ الأنْبياءُ: آدَمُ، ونوحٌ، وإِبراهيمُ، ومُوسى، وعِيسى ابنُ مَرْيَمَ عنِ الشَّفاعَةِ حتى تَنْتَهِيَ إِليهِ.
وأمَّا الشَّفاعَةُ الثَّانيةُ؛ فيشْفَعُ في أَهْلِ الجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلوا الجَنَّةَ.
وهاتانِ الشَّفاعَتانِ خاصَّتانِ لَهُ.
وأَمَّا الشَّفاعةُ الثَّالِثَةُ؛ فيشفَعُ فيمَنِ استَحَقَّ النَّارَ، وهذهِِ الشَّفاعَةُ لهُ ولِسائِرِ النَّبِيِّينَ والصِّدِّيقينَ وغيْرِهِمْ، فَيَشْفَعُ فيمَنِ استَحَقَّ النَّارَ أَنْ لا يَدْخُلَها، ويَشْفَعُ فيمَنْ دَخَلَها أَنْ يَخْرُجَ مِنْها.
ويُخْرِجُ اللهُ مِنَ النَّارِ أَقْوامًا بغَيْرِ شَفَاعَةٍ، بَلْ بفَضْلِهِ ورَحْمَتِهِ، ويَبْقى في الجَنَّةِ فضلٌ عَمَّنْ دَخَلَها مِنْ أَهْلِ الدُّنْيا، فيُنْشِيءُ اللهُ لَها أقوامًا، فيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ) (1).
(وأَصنافُ مَا تَضَمَّنَتْهُ الدَّارُ الآخِرَةُ مِنَ الحِسَابِ والثَّوابِ والعِقابِ والجَنَّةِ والنَّارِ وتَفاصيلُ ذلكَ مَذْكورةٌ في الكُتُبِ المُنَزَّلَةِ مِنَ السَّماءِ، والآثارِ مِنَ العِلْمِ المَأْثورِ عَنِ الأنْبياءِ، وفي العِلْمِ المَوْروثِ عنْ محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذلكَ مَا يَشْفي ويَكْفِي، فَمَنِ ابْتَغاهُ وَجَدَهُ)(2)
).

الشرح:

قال الشيخ محمد خليل هراس (ت: 1395هـ): ((1) وأَمَّا قولُهُ: (وَلَهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلمَ فِي الْقِيَامَةِ ثَلاَثُ شَفَاعَاتٍ )؛ فأصلُ الشَّفاعةِ مِنْ قَوْلِنَا: شفعَ كذَا بكذَا إذَا ضَمَّهُ إليهِ، وسُمِّيَ الشَّافعُ شافعًا لأنَّهُ يَضُمُّ طلَبَهُ ورجاءَهُ إلى طلبِ المشفوعِ لهُ.
والشَّفاعةُ مِنَ الأُمُورِ التَّي ثَبَتَتْ بالكتابِ والسُّنَّةِ، وأحاديثُهَا متواترَةٌ؛ قالَ تعالى:
{مَنْ ذَا الَّذي يَشْفَعُ عندَهُ إِلاَّ بإِذْنِهِ}.
فَنَفْيُ الشَّفاعةِ بِلاَ إذنٍ إثباتٌ للشَّفاعةِ مِنْ بعدِ الإِذنِ.
قالَ تعالى عن الملائكةِ:
{وَكَم مِّن مَّلَكٍ في السَّمَاوَاتِ لا تُغْني شَفاعَتُهُمْ شَيئًا إِلاَّ مِن بَعْدِ أَنْ يأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى}.
فبيَّنَ اللهُ الشَّفاعةَ الصَّحيحةَ، وهيَ التَّي تكونُ بإذنِهِ، ولِمَنْ يرتضِي قولَهُ وعملَهُ.
وأَمَّا ما يتمسَّكُ بهِ الخوارجُ والمعتزلةُ في نَفْيِ الشَّفاعةِ مِنْ مِثْلِ قولِهِ تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعينَ}، {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفاعَةٌ}، {فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ} … إلخ؛ فإنَّ الشَّفاعةَ المنفيَّةَ هنَا هيَ الشَّفاعةُ في أهلِ الشِّرْكِ، وكذلكَ الشَّفاعةُ الشِّركيةُ التَّي يُثْبِتُهَا المشركونَ لأصنامهِمْ، ويثبتُهَا النَّصارى للمسيحِ والرُّهْبَانِ، وهيَ التَّي تكونُ بغيرِ إذنِ اللهِ ورضَاهُ.
وأَمَّا قولُهُ: (أَمَّا الشَّفَاعةُ الأُولى؛ فَيَشْفَعُ في أَهْلِ الْمَوْقِفِ حتَّى يُقْضَى بَيْنَهُمْ)؛ فهذهِِ هيَ الشَّفاعةُ العُظْمَى، وهيَ الْمَقَامُ المحمودُ الذي يغبطهُ بهِ النَّبيُّونَ، والذي وعدَهُ اللهُ أنَّ يبعثَهُ إيَّاهُ بقولِهِ:
{عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقامَاً مَّحْمُودًا}.
يعني: يَحْمَدُهُ عليهِ أهلُ الموقِفِ جميعًا.
وقَدْ أمرنَا نبيُّنَا صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلمَ إذَا سمعنَا النِّداءَ أنَّ نقولَ بعدَ الصَّلاةِ عليهِ:
((اللهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ، وَالصَّلاَةِ القَائِمَةِ، آتِ مُحَمَّدًا الوَسِيلَةَ وَالفَضِيلَةَ، وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ)).
وأَمَّا قولُهُ: (وأَمَّا الشَّفاعةُ الثانيةُ؛ فيَشْفعُ في أهلِ الجَنَّةِ أنَّ يَدْخُلُوا الجَنَّةَ)؛ يعني: أنَّهمْ –وقَد اسْتَحَقُّوا دخولَ الجَنَّةِ– لا يُؤْذَنُ لهمْ بِدُخُولِهَا إلاَّ بعدَ شفاعتِهِ.
وأَمَّا قولُهُ: (وهَاتانِ الشَّفاعتانِ خاصَّتانِ لهُ)؛ يعني: الشَّفاعةَ في أهلِ الموقفِ، والشَّفاعةَ في أهلِ الجَنَّةِ أنْ يدخلُوهَا.
وتنضمُّ إليهمَا ثالثةٌ، وهيَ شفاعتُهُ في تخفيفِ العذابِ عنْ بعضِ المشركينَ؛ كمَا في شفاعتهِ لِعَمِّهِ أبي طالبٍ، فيكونُ في ضَحْضَاحٍ مِنْ نارٍ؛ كمَا وردَ بذلكَ الحديثُ.
وأَمَّا قولُهُ: (وأَمَّا الشَّفاعةُ الثالثةُ؛ فيشفعُ فيمنْ استحقَّ النَّارَ…) إلخ. وهذهِِ هيَ الشَّفاعةُ التَّي ينكرُهَا الخوارجُ والمعتزلةُ؛ فإنَّ مذهبَهُمْ أنَّ مَن استحقَّ النَّارَ؛ لا بدَّ أنْ يدخُلَهَا ومَنْ دخلهَا لا يخرجْ منهَا، لا بشفاعةٍ ولا بغيرِهَا.
والأحاديثُ المُسْتَفِيضَةُ المُتَوَاتِرَةُ تُرَدُّ على زَعْمِهِمْ وَتُبْطِلُهُ.

(2) وأَمَّا قولُهُ: (وأصنافُ ما تَضَمَّنَتْهُ الدَّارُ الآخرةُ مِنَ الحسابِ…) إلخ؛ فاعلمْ أنَّ أصلَ الجزاءِ على الأعمالِ خيرِهَا وشرِّهَا ثابتٌ بالعقلِ كمَا هوَ ثابتٌ بالسَّمْعِ؛ وقَدْ نبَّهَ اللهُ العقولَ إلى ذلكَ في مَوَاضِعَ كثيرةٍ مِنْ كتابِهِ؛ مِثْلَ قولهِ تعالى:
{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْناكُمْ عَبَثًا وأَنَّكُمْ إِلْينَا لا تُرْجَعُونَ}، {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى}.
فإنَّهُ َلا يَلِيقُ في حُكْمِهِ الحكيمِ أنْ يَتْرُكَ النَّاسَ سُدًى، مُهْمَلِينَ، لا يُؤْمَرُونَ ولا يُنْهَوْنَ، ولا يُثَابُونَ ولا يُعاقَبُونَ؛ كمَا لا يليقُ بعدلِهِ وحِكْمَتِهِ أنْ يُسَوِّيَ بينَ المؤمنِ والكافرِ، والبَرِّ والفاجِرِ؛ كمَا قالَ تعالى:
{أَمْ نَجْعَلُ الَّذينَ آمَنْوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ المُتَّقِينَ كالفُجَّارِ}.
فإنَّ العقولَ الصَّحيحةَ تأبى ذلكَ وتُنْكِرُهُ أشدَّ الإِِنْكَارِ.
وكذلكَ نَبَّهَهُمُ اللهُ على ذلكَ بما أَوَقَعَهُ مِنْ أيَّامِهِ في الدُّنيا مِنْ إكرامِ الطَّائعينَ، وخِذْلانِ الطَّاغِينَ.
وأَمَّا تفاصيلُ الأجْزِيَةِ ومَقَادِيرُهَا؛ فلا يُدْرَكُ إلاَّ بالسَّمعِ والنُّقولِ الصَّحيحةِ عنِ المعصومِ الذي لا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى صَلَوَاتُ اللهِ وسلامُهُ عليهِ وعلى آلِهِ).

هيئة الإشراف

#4

22 Dec 2008

شرح العقيدة الواسطية للشيخ: صالح بن فوزان الفوزان

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (ولهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في القيامَةِ شَفاعَاتٍ: أَمَّا الشَّفاعَةُ الأوْلى؛ فيشفَعُ في أَهْلِ المَوْقِفِ حَتى يُقْضَى بينَهُمْ بعدَ أَنْ يَتَرَاجَعَ الأنْبياءُ: آدَمُ، ونوحٌ، وإِبراهيمُ، ومُوسى، وعِيسى ابنُ مَرْيَمَ عن الشَّفاعَةِ حتى تَنْتَهِيَ إِليهِ.وأمَّا الشَّفاعَةُ الثَّانيةُ؛ فيشْفَعُ في أَهْلِ الجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلوا الجَنَّةَ.وهاتانِ الشَّفاعَتانِ خاصَّتانِ لَهُ.وأَمَّا الشَّفاعةُ الثَّالِثَةُ؛ فيشفَعُ فيمَنِ استَحَقَّ النَّارِ، وهذهِ الشَّفاعَةُ لهُ ولِسائِرِ النَّبِيِّينَ والصِّدِّيقينَ وغيْرِهِمْ، فَيَشْفَعُ فيمَنِ استَحَقَّ النَّارَ أَنْ لا يَدْخُلَها، ويَشْفَعُ فيمَنْ دَخَلَها أَنْ يَخْرُجَ مِنْها. (1)
ويُخْرِجُ اللهُ مِنَ النَّارِ أَقْواماً بغَيْرِ شَفَاعَةٍ، بَلْ بفَضْلِهِ ورَحْمَتِهِ، ويَبْقى في الجَنَّةِ فضلٌ عَمَّنْ دَخَلَها مِنْ أَهْلِ الدُّنْيا، فيُنْشِيءُ اللهُ لَها أقواماً، فيُدْخِلُهُمُ الجنة. وأَصنافُ مَا تَضَمَّنَتْهُ الدَّارُ الآخِرَةُ مِنَ الحِسَابِ والثَّوابِ والعِقابِ والجَنَّةِ والنَّارِ وتَفاصيلُ ذلك مَذْكورةٌ في الكُتُبِ المُنَزَّلَةِ مِن السَّماءِ، والآثارِ مِنَ العِلْمِ المَأْثورِ عَنِ الأنْبياءِ، وفي العِلْمِ المَوْروثِ عنْ محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن ذلكَ مَا يَشْفي ويَكْفِي، فَمَنِ ابْتَغاهُ وَجَدَهُ. (2)
).

الشرح:

قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: ( (1) قولُه: (وله صلى اللهُ عليه وسلم في القيامةِ ثَلاثُ شَفاعاتٍ) الشَّفاعاتُ: جمْعُ شفاعةٍ، والشَّفاعةُ لغةً: الوسيلةُ. وعُرْفا: سُؤالُ الخَيْرِ للغيرِ. مُشتقَّةٌ مِن الشَّفْعِ الذي هُوَ ضِدُّ الوِتْرِ. فكأنَّ الشَّافِعَ ضمَّ سُؤالَه إلى سؤالِ المشْفُوعِ له بعد أنْ كان منفرِدا.
وقولُ الشَّيخِ رَحِمَهُ اللَّهُ: (وله صلى اللهُ عليه وسلم في القيامةِ ثلاثُ شفاعاتٍ) بيانٌ للشَّفاعاتِ التي يقومُ بها النَّبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم في يومِ القيامةِ بإذْنِ اللَّهِ تعالى. هكذا ذَكَرَ الشَّيخُ رَحِمَهُ اللَّهُ أنواعَ الشَّفاعةِ هنا مُختَصرةً، وهِيَ على سبيلِ الاستِقْصاءِ ثمانيةُ أنواعٍ: منها ما هُوَ خاصٌّ بالنَّبيِّ صلى اللهُ عليه وسلم، ومنها ما هُوَ مُشتَرَكٌ بَينَه وبَيْنَ غيرِه.
الشَّفاعةُ الأُولى: الشَّفاعَةُ العُظمَى (وهِيَ المَقامُ المحمودُ) وهِيَ أنْ يَشفَعَ النَّبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم أنْ يقضِيَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَيْنَ عبادِه بعدَ طُولِ الموقِفِ عليهم، وبعد مُراجَعتِهم الأنبياءَ للقيامِ بها، فيقومُ بها نبِيُّنا صلى اللهُ عليه وسلم بعد إِذْنِ رَبِّه.
الشَّفاعةُ الثَّانيةُ: شفاعتُه في دُخولِ أهلِ الجَنَّةِ الجَنَّةَ بعدَ الفراغِ مِن الحسابِ.
الشَّفاعةُ الثَّالثةُ: شفاعتُه صلى اللهُ عليه وسلم في عمِّه أبي طالبٍ أنْ يُخفَّفَ عنه العذابُ، وَهَذِهِ خاصَّةٌ به؛ لأنَّ اللَّهَ أخْبَرَ أنَّ الكافرينَ لا تَنْفعُهم شفاعةُ الشَّافِعِينَ ونَبيُّنا أخْبَرَ أنَّ شفاعتَه لأهلِ التَّوحيدِ خاصَّةً. فشَفاعَتُه لعمِّه أبي طالبٍ خاصَّةٌ به، وخاصَّةٌ لأبي طالبٍ. هَذِهِ الأنواعُ الثَّلاثةُ مِن الشَّفاعةِ خاصَّةٌ بنَبيِّنا مُحَمَّدٍ صلى اللهُ عليه وسلم.
الشَّفاعةُ الرَّابعةُ: شفاعتُه فيمَن استحقَّ النَّارَ مِن عُصاةِ المُوحِّدينَ أنْ لا يَدخُلَها.
الشَّفاعةُ الخامسةُ: شفاعتُه صلى اللهُ عليه وسلم فيمَن دَخَلَ النَّارَ مِن عُصاةِ الموحِّدينَ أنْ يَخرُجَ منها.
الشَّفاعةُ السَّادِسةُ: شفاعتُه في رفعِ دَرجاتِ بعضِ أهلِ الجَنَّةِ.
الشَّفاعةُ السَّابعةُ: شفاعتُه صلى اللهُ عليه وسلم فيمَن استَوَتْ حسناتُهم وسيِّئاتُهم أنْ يَدخُلوا الجَنَّةَ، وهم أهلُ الأعرافِ على قولٍ.
الشَّفاعةُ الثَّامِنةُ: شفاعتُه صلى اللهُ عليه وسلم في دُخولِ بعضِ المؤمنينَ الجَنَّةَ بلا حسابٍ ولا عذابٍ كشفاعَتِه صلى اللهُ عليه وسلم في عُكَّاشةَ بنِ مِحْصَنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ دعا له النَّبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم أنْ يكونَ مِن السَّبْعينَ الألْفِ الذين يَدْخُلونَ الجَنَّةَ بلا حسابٍ ولا عذابٍ. وَهَذِهِ الأنواعُ الخمسةُ الباقِيةُ يُشارِكُه فيها غيرُه مِن الأنبياءِ والملائكةِ والصِّدِّيقِينَ والشُّهداءِ.
وأهلُ السُّنَّةِ والجَماعةِ يُؤمِنون بهَذِهِ الشَّفاعاتِ كُلِّها لثُبوتِ أدلَّتِها، وأنَّها لا تتحقَّقُ إلاَّ بشَرْطَيْنِ:
الشَّرْطُ الأوَّلُ: إِذْنُ اللَّهِ للشَّافعِ أنْ يَشفَعَ، كما قال تعالى: (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ) [البقرة: 255] (مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) [يونُسَ: 3].
الشَّرْطُ الثَّاني: رضا اللَّهِ عن المشْفوعِ له، كما قال تعالى: (وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى) [الأنبياء: 28]. ويَجْمعُ الشَّرْطَيْنِ قولُه تعالى: (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى) [النَّجْم: 26].
وقد خالفَتِ المعتزلِةُ في الشَّفاعةِ لأهلِ الكَبائِرِ مِن المؤمنينَ فيمَن استحَقَّ النَّارَ منهم أنْ لا يَدْخُلَها، وفيمَن دخَلَها أنْ يَخْرُجَ منها أي في النَّوْعِ الخامسِ والسَّادِسِ مِن أنواعِ الشَّفاعَةِ، ويَحتَجُّونَ بقولِه تعالى: (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) [المُدَّثِّر: 48]. والجوابُ عنها: أنَّها وارِدةٌ في حقِّ الكفارِ، فهم الذينَ لا تَنفَعُهم شفاعةُ الشَّافِعينَ. أمَّا المُؤمِنونَ فتَنْفَعُهم الشَّفاعةُ بِشُروطها، هَذَا وقد انقَسَمَ النَّاسُ في أمْرِ الشَّفاعةِ إلى ثلاثةِ أصنافٍ:
الصِّنْفُ الأوَّلُ: غَلَوْا في إثباتِها، وهم النَّصارى، والمشركونَ، وغُلاةُ الصُّوفيَّةِ، والقُبورِيُّونَ حَيْثُ جَعَلوا شفاعةَ مَن يعظِّمُونه عندَ اللَّهِ كالشَّفاعةِ المعروفةِ في الدُّنيا عندَ المُلوكِ، فطلبوها مِن دُونِ اللَّهِ، كما ذَكَرَ اللَّهُ ذَلِكَ عن المشركينَ.
الصِّنْفُ الثَّاني: وهم المعتزلةُ والخوارجُ غَلَوْا في نَفْيِ الشَّفاعَةِ، فأنْكَروا شفاعةَ النَّبيِّ صلى اللهُ عليه وسلم، وشفاعةَ غيرِه في أهلِ الكبائرِ.
الصِّنْفُ الثَّالِثُ: وهم أهلُ السُّنَّةِ والجَماعةِ، أثْبَتُوا الشَّفاعةَ على وَفْقِ ما جاءتْ به النُّصوصُ القرآنيَّةُ والأحاديثُ النَّبويَّةُ فأَثْبَتُوا الشَّفاعةَ بِشُروطِها.

(2) 9- لَمَّا ذَكَرَ الشَّيخُ رَحِمَهُ اللَّهُ أنَّ مِن أنواعِ الشَّفاعاتِ التي تقَعُ بإِذْنِ اللَّهِ الشَّفاعةَ بإخراجِ بعضِ مَن دخَلُوا النَّارَ منها، ذَكَرَ هنا أنَّ الخروجَ مِن النَّارِ له سببٌ آخَرُ غيرُ الشَّفاعةِ، وَهُوَ رَحْمَةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وفَضْلُه وإِحْسانُه، فيَخْرُجُ مِن النَّارِ مِن عُصاةِ الموحِّدينَ مَن في قَلْبِه أدْنَى مِثْقالِ حبَّةٍ مِن إيمانٍ، قال اللَّهُ تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) [النِّسَاء: 48]، وفي الحديثِ المتَّفَقِ عليه: ((يَقُولُ اللَّهُ: شَفَعَتِ الْمَلائِكَةُ، وَشَفَعَ النَّبِيُّونَ، وَشَفَعَ الْمُؤْمِنُونَ، وَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ فَيُخْرِجُ مِنْهَا قَوْماً لَمْ يَعْمَلُوا خَيْراً قَطُّ)) الحديثَ.
وقولُه: (وَيَبْقَى فِي الْجَنَّةِ فَضْلٌ) أيْ: مُتَّسَعٌ (عَمَّنْ دَخَلَهَا مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا) لأنَّ اللَّهَ وَصَفَها بالسَّعَةِ، فقال: (عَرْضُهَا السَّمَاواتُ وَالأَرْضُ) [آل عِمرَانَ: 133] (فَيُنْشِئُ اللَّهُ) أيْ: يَخلُقُ ويُوجِدُ (أَقْوَاماً) أيْ: جماعاتٍ (فَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ) بفَضْلِه ورحمَتِه؛ لأنَّ الجَنَّةَ رَحْمَتُه يَرْحَمُ بها مَن يشاءُ، وأمَّا النَّارُ فلا يُعذِّبُ فيها إلا مَن قامتْ عليه حُجَّتُه وكذَّبَ رُسُلَه.
وقولُه: (وأصنافُ ما تضمَّنَتْه الدَّارُ الآخرةُ.. الخ) لَمَّا ذَكَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ ما ذَكَرَ مِن أحوالِ اليومِ الآخِرِ، وما يَجري فيه أحالَ على الكتابِ والسُّنَّةِ في مَعرفةِ تفاصيلِ البقِيَّةِ مِمَّا لم يَذْكُرْه؛ لأنَّ ذَلِكَ مِن عِلمِ الغيبِ الذي لا يُعرفُ إلاَّ مِن طريقِ الوَحْيِ).

هيئة الإشراف

#5

22 Dec 2008

الروضة الندية للشيخ: زيد بن عبد العزيز بن فياض رحمه الله

المتن:

قال أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وَلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي القِيَامَةِ ثلاث شَفاعَاتٌ:
أَمَّا الشَّفَاعَةُ الأَوْلَى: فَيَشْفَعُ فِي أَهْلِ المَوْقِفِ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَهُمْ بَعْدَ أَنْ يَتَرَاجَعَ الأَنْبِيَاءُ: آدَمُ، وَنُوحٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَمُوسَى، وَعِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَن الشَّفَاعَةِ حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَيْهِ.
وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الثَّانِيَةُ: فَيَشْفَعُ فِي أَهْلِ الجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلُوا الجَنَّةَ.
وَهَاتَانِ الشَّفاعَتانِ خَاصَّتَانِ لهُ.
وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الثَّالثَةُ فَيَشْفَعُ فِيمَن اسْتَحَقَّ النَّارَ، وَهَذِهِ الشَّفَاعَةُ لهُ وَلسَائِرِ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَغَيْرِهِمْ، فَيَشْفَعُ فِيمَن اسْتَحَقَّ النَّارَ أَنْ لا يَدْخُلَهَا، وَيَشْفَعُ فِيمَن دَخَلَهَا أَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا.
وَيُخْرِجُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ أَقْواماً بِغَيْرِ شَفَاعَةٍ، بَلْ بِفَضْلهِ وَرَحْمَتِهِ، وَيَبْقَى فِي الجَنَّةِ فَضْلٌ عَمَّنْ دَخَلَهَا مِن أَهْلِ الدُّنْيَا، فيُنْشِئُ اللَّهُ لهَا أقواماً، فَيُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ.
وَأَصْنَافُ مَا تَضَمَّنَتْهُ الدَّارُ الآخِرَةُ مِنَ الحِسَابِ وَالثَّوَابِ وَالعِقَابِ وَالجَنَّةِ وَالنَّارِ وَتَفَاصِيلُ ذَلكَ مَذْكُورٌ فِي الكُتُبِ المُنَزَّلَةِ مِن السَّمَاءِ، وَفي الآثَارِ مِنَ العِلْمِ المَأْثُورِ عَنِ الأَنْبِيَاءِ، وَفِي العِلْمِ المَوْرُوثِ عَن النبي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن ذَلكَ مَا يَشْفِي وَيَكْفِي، فَمَنِ ابْتَغَاهُ وَجَدَهُ
).


الشرح:

قال الشيخ زيد بن عبد العزيز بن فياض (ت: 1416هـ): (رَوَى مُسْلمٌ فِي صَحِيحِهِ عَن أَنَسِ بْنِ مَالكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَا أَكْثَرُ النَّاسِ تَبَعاً يَوْمَ القِيَامَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ يَقْرَعُ بَابَ الجَنَّةِ"، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَلا وَأَنَا حَبِيبُ اللَّهِ وَلا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلا فَخْرَ، وَأَنَا حَامِلُ لوَاءِ الحَمْدِ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلا فَخْرَ، وَأَوَّلُ مَنْ يُحَرِّكُ حَلْقَةَ بَابِ الجَنَّةِ فَيُفْتَحُ لي فَأَدْخُلُهَا وَمَعِي فُقَرَاءُ المُؤْمِنِينَ وَلا فَخْرَ". وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ أيضاً عَن أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَا أَوَّلُ النَّاسِ خُرُوجاً إِذَا بُعِثُوا، وَأَنَا خَطِيبُهُمْ إِذَا أَنْصَتُوا، وَقَائِدُهُمْ إِذَا وَفَدُوا، وَشَافِعُهُمْ إِذَا حُبِسُوا، وَأَنَا مُبَشِّرُهُمْ إِذَا أَيِسُوا، لِوَاءُ الحَمْدِ بِيَدِي، وَمَفَاتِيحُ الجَنَّةِ يَوْمئِذٍ بِيَدِي، وَأَنَا أَكْرَمُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمئِذٍ عَلَى رَبِّي وَلا فَخْرَ، يَطُوفُ عَلَيَّ أَلْفُ خَادِمٍ كَأَنَّهُمُ اللُّؤْلُؤُ المَكْنُونُ".
وَرَوَى مُسْلمٌ مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نَحْنُ الآخِرُونَ الأَوَّلُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَنَحْنُ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الجَنَّةَ بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ فَاخْتَلَفُوا فَهَدَانَا اللَّهُ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقِّ بِإِذْنِهِ". وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ مُسْلمٍ: "فَيَقُولُ الخَازِنُ: مَنْ؟ فَأَقُولُ: مُحَمَّدٌ فَيَقُولُ: بِكَ أُمِرْتُ أَنْ لا أَفْتَحَ لأَحَدٍ قَبْلكَ".
" فَهَذِهِ الأُمَّةُ أَسْبَقُ الأُمَمِ خروجاً مِن الأَرْضِ، وَأَسْبَقُهُمْ إِلَى ظِلِّ العَرْشِ، وَأَسْبَقُهُمْ إِلَى الفَصْلِ وَالقَضَاءِ، وَأَسْبَقُهُمْ إِلَى الجَوَازِ عَلَى الصِّرَاطِ، وَأَسْبَقُهُمْ إِلَى دُخُولِ الجَنَّةِ، فَالجَنَّةُ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الأَنْبِيَاءِ حَتَّى يَدْخُلَهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمُحَرَّمَةٌ عَلَى الأُمَمِ حَتَّى تَدْخُلَهَا أُمَّتُهُ. وَأَمَّا أَوَّلُ الأُمَّةِ دُخُولاً: فَرَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ عَن أَبِي هُـرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَخَذَ بِيَدِي فَأَرَانِي بَابَ الجَنَّـةِ الذي تَدْخُلُ مِنْهُ أُمَّتِ" فَقَالَ أَبُو بَكْـرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ مَعَكَ حَتَّى أَنْظُرَ إِلَيْهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَمَا إِنَّك يَا أَبَا بَكْرٍ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الجَنَّةَ". قَوْلُهُ: "وَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ مَعَكَ" حِرْصاً مِنْهُ عَلَى زِيَادَةِ اليَقِينِ وَأَنْ يَصِيرَ الخَبَرُ عِياناً. كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ الخَليلُ: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي المَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَـكِنْ ليَطْمَئِنَّ قَلْبِي}.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْأَلُ النَّاسَ حَتَّى يَأْتِيَ يَوْمُ القِيَامَةِ ليْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ". وَقَالَ: "إِنَّ الشَّمْسَ تَدْنُو حَتَّى يَبْلُغَ العَرَقُ نِصْفَ الأُذُنِ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ اسْتَغَاثُوا بِآدَمَ ثُمَّ بِمُوسَى ثُمَّ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَشْفَعُ لِيُقْضَى بَيْنَ الخَلْقِ، فَيَمْشِي حَتَّى يَأْخُذَ بِحَلْقَةِ البَابِ فَيَوْمَئِذٍ يَبْعَثُهُ اللَّهُ مَقَاماً مَحْمُوداً يَحْمَدُهُ أَهْلُ الجَمْعِ كُلُّهُمْ". وَفِي صَحِيحِ مُسْلمٍ عَن أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُـولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَـا أَوَّلُ النَّـاسِ يَشْفَـعُ فِي الجَنَّـةِ" الحَـدِيثَ. وَفِي صَحِيـحِ مُسْلمٍ عَن حُـذَيْفَةَ وَأَبِي هُـرَيْرَةَ قَالا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَجْمَعُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى النَّاسَ فَيَقُومُ المُؤْمِنُونَ حَتَّى تَزْدَلِفَ لهُمُ الجَنَّةُ فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ: يَا أَبَانَا اسْتَفْتِحْ لنَا الجَنَّةَ فَيَقُولُ: وَهَلْ أَخْرَجَكُمْ مِنَ الجَنَّةِ إِلاَّ خَطِيئَةُ بِصَاحِبِ ذَلكَ" - فَذَكَرَ الحَدِيثَ وَفِيه: "فَيَأْتُونَ مُحمَّـداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُومُ فَيُؤْذَنُ لهُ أَيْ فِي الشَّفَاعَةِ، وَتُرْسَلُ الأَمَانَةُ وَالرَّحِمُ فَيَقُومَانِ جَنْبَتَيِ الصِّرَاطِ يَمِيناً وَشِمَالاً فَيَمُرُّ أَوَّلُكُمْ كَالبَرْقِ" الحَدِيثَ. وَفِي حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عِنْدَ أَبِي يَعْلَى: "ثُمَّ أَمْتَدِحُهُ بِمِدْحَةٍ يَرْضَى بِهَا عَنِّي ثُمَّ يُؤْذَنُ لي فِي الكَلامِ ثُمَّ تَمُرُّ أُمَّتِي عَلَى الصِّرَاطِ وَهُوَ مَنْصُوبٌ بَيْنَ ظَهَرَانَيْ جَهَنَّمَ فَيَمُرُّونَ".
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ أَحْمَدَ: "فَيَقُولُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا مُحَمَّدُ مَا تُرِيدُ أَنْ أَصْنَعَ فِي أُمَّتِكَ؟ فَأَقُولُ: يَا رَبِّ عَجِّلْ حِسَابَهُمْ"، وَفِي رِوَايَةٍ عَن ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ أَحْمَدَ وَأَبِي يَعْلَى "فَأَقُولُ: أَنَا لهَا حَتَّى يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى، فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَفْرُغَ مِن خَلْقِهِ نَادَى مُنَادٍ: أَيْنَ مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ؟" الحَدِيثَ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: "أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَحْمٍ فَرُفِعَ إِلَيْهِ الذِّرَاعُ وَكَانَتْ تُعْجِبُهُ فَنَهَشَ مِنْهَا نَهْشَةً ثُمَّ قَالَ: "أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ القِيَامَةِ وَهَلْ تَدْرُونَ مِمَّ ذَلِكَ؟ يَجْمَعُ اللَّهُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ: أَلاَ تَرَوْنَ مَا أَنْتُمْ فِيهِ؟ أَلاَ تَرَوْنَ مَا قَدْ بَلَغَكُمْ؟ أَلاَ تَنْظُرُونَ مَنْ يَشْفَعُ لكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ؟ فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ: أَبُوكُمْ آدَمُ فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ أيَا آدَمُ أَنْتَ أَبُو البَشَرِ خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِه،ِ وَأَمَرَ المَلاَئِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ؛ فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلاَ تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ آدَمُ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَباً لمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنَّهُ نَهَانِي عَن أَكْلِ الشَّجَرَةِ فَعَصَيْتُ، نَفْسِي، نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي اذْهَبُوا إِلَى نُوحٍ فَيَأْتُونَ نُوحاً فَيَقُولُونَ: يَا نُوحُ أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ، وَسَمَّاكَ اللَّهُ عَبْداً شَكُوراً؛ فَاشْفَعْ لنَا إِلَى رَبِّكِ، أَلاَ تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ نُوحٌ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَباً لمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنَّهُ كَانَتْ لي دَعْوَةٌ دَعَوْتُ بِهَا عَلَى قَوْمِي. نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى إِبْرَاهِيمَ فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُونَ: يَا إِبْرَاهِيمُ أَنْتَ نَبِيُّ اللَّهِ وَخَلِيلُهُ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ أَلا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَباً لمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ. وَذَكَرَ كِذْباتِه نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي اذْهَبُوا إِلَى مُوسَى، فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُونَ: يَا مُوسَى أَنْتَ رَسُولٌ اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالاتِهِ وَبِتَكْليمِهِ عَلَى النَّاسِ، اشْفَعْ لنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ لهُمْ مُوسَى: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَباً لمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنِّي قَتَلْتُ نَفْساً وَلمْ أُومَرْ بِقَتْلِهَا. نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي اذْهَبُوا، إِلَى عِيسَى، فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُونَ: يَا عِيسَى أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، قَالَ: هَكَذَا هُوَ، وَكَلَّمْتَ النَّاسَ فِي المَهْدِ، فَاشْفَعْ لنَا إِلَى رَبِّك، أَلاَ تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلاَ تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ لهُمْ عِيسَى: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِـبَ اليَوْمَ غَضَباً لمْ يَغْضَـبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَـبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ لهُ ذَنْباً اذْهَبُـوا إِلَى مُحَمَّـدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَأْتُونِي فَيَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَخَاتَمُ الأَنْبِيَاءِ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلاَ تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَأَقُومُ فَآتِي تَحْتَ العَرْشِ فَأَقَعُ سَاجِداً لِرَبِّي عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيَّ وَيُلْهِمُنِي مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ مَا لمْ يَفْتَحْهُ عَلَى أَحَدٍ قَبْلِي، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ سَلْ تُعْطَهْ اشْفَعْ تُشَفَّعْ. فَأَقُولُ: رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي، يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيُقَالُ: أَدْخِلْ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لاَ حِسَابَ عَلَيْهِ مِنَ البَابِ الأَيْمَنِ مِنْ أَبْوَابِ الجَنَّةِ، وَهُمْ شُرَكَاءُ النَّاسِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الأَبْوَابِ. ثُمَّ قَالَ: وَالذي نَفْسِي بِيَدِهِ لَمَا بَيْنَ مِصْرَاعَيْنِ مِن مَصَارِعِ الجَنَّةِ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَهَجَرَ أَوْ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَبُصْرَى".
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ فَتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِيٍّ دَعْوَتَهُ وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لأُمَّتِي يَوْمَ القِيَامَةِ فَهِيَ نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئاً". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ عَن رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ الطَّوِيلِ وَفِيهِ: "فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ مِنَ النَّارِ". وَفِي لفْظٍ "أَدْنَى أَدْنَى أَدْنَى مِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ مِنَ النَّارِ فَيُخْرِجُونَ مِنَ النَّارِ خَلْقاً كَثِيراً" ثُمَّ يَقُولُ أَبُو سَعِيدٍ: اقْرَأُوا إِنْ شِئْتُمْ {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} الآيَةَ.
وَرَوَى ابْنُ مَاجَةَ مِن حَدِيثِ عُثْمَانَ: "يَشْفَعُ يَوْمَ القِيَامَةِ ثَلاثَةٌ: الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ العُلَمَاءُ ثُمَّ الشَّهداءُ". وَفِي الصَّحِيحِ عَن أَبِي سَعِيدٍ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "قَالَ اللَّهُ تَعَالَى شَفَعَتِ المَلائِكَةُ، وَشَفَعَ النَّبِيُّونَ، وَشَفَعَ المُؤْمِنُونَ، وَلَمْ يَبْقَ إِلا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ فَيُخْرِجُ مِنْهَا قَوْماً لمْ يَعْمَلُوا خَيْراً قَطُّ، قَدْ عَادُوا حَمِيماً، فَيُلْقِيهِمْ فِي نَهَرٍ فِي أَفْْوَاهِ الجَنَّةِ يُقَالُ لهُ: نَهَرُ الحَيَاةِ. فَيَخْرُجُونَ كَمَا تَخْرُجُ الحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ فَيَقُولُ أَهْلُ الجَنَّةِ: هَؤُلاءِ عُتَقَاءُ اللَّهِ الَّذِينَ أَدْخَلَهُمُ الجَنَّةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ عَمِلُوهُ وَلا خَيْرٍ قَدَّمُوهُ".
وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَأَمَّا الجَنَّةُ فَيَبْقَى فِيهَا فَضْلٌ فَيُنْشِئُ اللَّهُ لَهَا خَلْقاً يُسْكِنُهُمْ فِي فُضُولِ الجَنَّةِ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذُكِرَ عِنْدَهُ عَمُّهُ أَبُو طَالبٍ فَقَالَ: "لعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ فَيُجْعَلُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنَ النَّارِ يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ يَغْلِي مِنْهُ دِمَاغُهُ". فَهَذِهِ الأَحَادِيثُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الشَّفَاعَةَ سِتَّةُ أَقْسَامٍ:
(الأَوَّلُ): الشَّفَاعَةُ الكُبْرَى الَّتِي يَتَأَخَّرُ عَنْهَا أُولُو العَزْمِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولَ: أَنَا لَهَا، وَذَلكَ حِينَ يَرْغَبُ الخَلائِقُ إِلَى الأَنْبِيَاءِ ليَشْفَعُوا لهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ حَتَّى يُرِيحَهُمْ مِن مَقَامِهِمْ فِي المَوْقِفِ، وَهَذِهِ شَفَاعَةٌ يَخْتَصُّ بِهَا لا يَشْرَكُهُ فِيهَا أَحَدٌ.
(الثَّانِي): شَفَاعَتُهُ لأَهْلِ الجَنَّةِ فِي دُخُولِهَا. وَقَدْ ذَكَرَهَا أَبُو هُرَيْرَةَ فِي حَدِيثِهِ الطَّوِيلِ المُتَّفَقِ عَلَيْهِ.
(الثَّالِثُ) شَفَاعَتُهُ لقَوْمٍ مِنَ العُصَاةِ مِن أُمَّتِهِ قَدِ اسْتَوْجَبُوا النَّارَ بِذُنُوبِهِمْ فَيَشْفَعُ لهُمْ أَنْ لا يَدْخُلُوهَا.
(الرَّابِعُ) شَفَاعَتُهُ فِي العُصَاةِ مِن أَهْلِ التَّوْحِيدِ الذين يَدْخُلُونَ النَّارَ بِذُنُوبِهِمْ، وَالأَحَادِيثُ بِهَا مُتَوَاتِرَةٌ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ أَجْمَعَ عَلَيْهَا الصَّحَابَةُ وَأَهْلُ السُّنَّةِ قَاطِبَةً وبَدَّعُوا مَن أَنْكَرَهَا، وَصَاحُوا بِهِ مِن كُلِّ جَانِبٍ، وَنَادَوْا عَلَيْهِ بِالضَّلالِ.
(الخَامِسُ) شَفَاعَتُهُ لقَوْمٍ مِن أَهْلِ الجَنَّةِ فِي رَفْعِ دَرَجَاتِهِمْ وَزِيَادَةِ ثَوَابِهِمْ. وَهَذِهِ مِمَّا لا يُنَازِعُ فِيهَا أَحَدٌ، وَكُلُّهَا مُخْتَصَّةٌ بِأَهْلِ الإِخْلاصِ الذين لَمْ يَتَّخِذُوا مِن دُونِ اللَّهِ وليًّا وَلا شفيعاً، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ ليْسَ لهُمْ مِنْ دُونِهِ وَليٌّ وَلا شَفِيعٌ}.
(السَّادِسُ) شَفَاعَتُهُ فِي بَعْضِ الكُفَّارِ مِن أَهْلِ النَّارِ حَتَّى يُخَفَّفَ عَذَابُهُ. وَهَذِهِ خَاصَّةٌ بِأَبِي طَالبٍ وَحْدَهُ.
"قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَنْكَرَتِ المُعْتَزِلَةُ وَالخَوَارِجُ الشَّفَاعَةَ فِي إِخْرَاجِ مَن أُدْخِلَ النَّارَ مِن المُؤْمِنِينَ، وَتَمَسَّكُوا بِقَوْلهِ: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} وَغَيْرِ ذَلكَ مِن الآيَاتِ. وَأَجَابَ أَهْلُ السُّنَّةِ بِأَنَّهَا فِي الكُفَّارِ. وَجَاءَتِ الأَحَادِيثُ فِي إِثْبَاتِ الشَّفَاعَةِ المُحَمَّدِيَّةِ مُتَوَاتِرَةً، وَدَلَّ عَلَيْهَا قَوْلُه تَعَالَى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً} وَالجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ المُرَادَ بِهِ الشَّفَاعَةُ "ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ فِي الشَّفَاعَةِ عَلَى ثَلاثَةِ أَقْوَالٍ: فَالمُشْرِكُونَ وَالنَّصَارَى وَالمُبْتَدِعُونَ مِن الغُلاةِ فِي المَشَايِخِ وَغَيْرِهِمْ يَجْعَلُونَ شَفَـاعَةَ مَن يُعَظِّمُـونَهُ عِنْدَ اللَّهِ كَالشَّفَاعَةِ المَعْـرُوفَةِ فِي الدُّنْيَـا، وَالمُعْـتَزِلَةُ وَالخَـوَارِجُ أَنْكَـرُوا شَفَاعَةَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِ فِي أَهْلِ الكَبائِرِ.
وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ فَيُقِرُّونَ بِشَفَاعَةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَهْلِ الكَبَائِرِ وَشَفَاعَةِ غَيْرِهِ، لكِنْ لا يَشْفَعُ أَحَدٌ حَتَّى يَأْذَنَ اللَّهُ لهُ وَيَحُدَّ لهُ حَدًّا كَمَا فِي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ: "فَيَحُدُّ لي حَدًّا فَأُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ").

هيئة الإشراف

#6

22 Dec 2008

التنبيهات السنية للشيخ: عبد العزيز بن ناصر الرشيد رحمه الله

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): ( (ولهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في القيامَةِ شَفاعَاتٌ:
أَمَّا الشَّفاعَةُ الأوْلى؛ فيشفَعُ في أَهْلِ المَوْقِفِ حَتى يُقْضَى بينَهُمْ بعدَ أَنْ يَتَرَاجَعَ الأنْبياءُ: آدَمُ، ونوحٌ، وإِبراهيمُ، ومُوسى، وعِيسى ابنُ مَرْيَمَ عن الشَّفاعَةِ حتى تَنْتَهِيَ إِليهِ، وأمَّا الشَّفاعَةُ الثَّانيةُ؛ فيشْفَعُ في أَهْلِ الجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلوا الجَنَّةَ، وهاتانِ الشَّفاعَتانِ خاصَّتانِ لَهُ، وأَمَّا الشَّفاعةُ الثَّالِثَةُ؛ فيشفَعُ فيمَنِ استَحَقَّ النَّارِ، وهذهِ الشَّفاعَةُ لهُ ولِسائِرِ النَّبِيِّينَ والصِّدِّيقينَ وغيْرِهِمْ، فَيَشْفَعُ فيمَنِ استَحَقَّ النَّارَ أَنْ لا يَدْخُلَها، ويَشْفَعُ فيمَنْ دَخَلَها أَنْ يَخْرُجَ مِنْها.(1)

ويُخْرِجُ اللهُ مِنَ النَّارِ أَقْواماً بغَيْرِ شَفَاعَةٍ، بَلْ بفَضْلِهِ ورَحْمَتِهِ.(2)
ويَبْقى في الجَنَّةِ فضلٌ عَمَّنْ دَخَلَها مِنْ أَهْلِ الدُّنْيا، فيُنْشِيءُ اللهُ لَها أقواماً، فيُدْخِلُهُمُ الجنة).
(وأَصنافُ مَا تَضَمَّنَتْهُ الدَّارُ الآخِرَةُ مِنَ الحِسَابِ والثَّوابِ والعِقابِ والجَنَّةِ والنَّارِ.(3)
وتَفاصيلُ ذلك مَذْكورةٌ في الكُتُبِ المُنَزَّلَةِ مِن السَّماءِ، والآثارِ مِنَ العِلْمِ المَأْثورِ عَنِ الأنْبياءِ.عليهم السلام(4)
وفي العِلْمِ المَوْروثِ عنْ محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن ذلكَ مَا يَشْفي ويَكْفِي، فَمَنِ ابْتَغاهُ وَجَدَهُ).(5)
).

الشرح:

قال الشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد (ت: 1408هـ): ( (1) قولُه: (ولَهُ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- ثلاثُ شَفاعاتٍ) الشَّفاعةُ الأولى في أهلِ الموقِفِ حتى يُقضى بينهم بعدَ أنْ يتدافَعَها الأنبياءُ أصحابُ الشرائعِ: آدمُ، ونوحٌ، وإبراهيمُ، وموسى، وعيسى -عليهم السَّلامُ-، وقد تكاثَرت الأحاديثُ في إثباتِها، فورَدَتْ مِن حديثِ أبي بكرٍ الصِّديقِ، وأنسٍ، وأبي هريرةَ، وابنِ عبَّاسٍ، وابنِ عُمرَ، وحذيفةَ، وعقبةَ بنِ عامرٍ، وأبي سعيدٍ الخدريِّ، وسلمانَ، وغيرِهم، وَهِيَ المرادةُ بقولِه -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ)) الحديثَ، وهَذَا الحديثُ ذَكَرَ السيوطيُّ أنَّه مُتواتِرٌ، وَهَذِهِ الشَّفاعةُ خاصَّةٌ بِهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- وَهِيَ مُجمَعٌ عليها لم يُنْكِرْها أحدٌ.
قولُه: (وأما الشَّفاعةُ الثَّانِيةُ فيَشْفَعُ في أهلِ الجَنَّةِ أنْ يدخُلوا الجَنَّةَ) وقد ذَكَرها أبو هريرةَ في حديثِه الطَّويلِ المتَّفَقِ عليه، وفي صحيحِ مسلمٍ عن أنسٍ -رضي اللَّهُ عنه- أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((أَنَا أَوَّلُ شَفيِعٍ فِي الجَنَّةِ))، وَهَذِهِ الشَّفاعةُ كالتي قَبلَها خاصَّتانِ له -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-.
قولُه: (الثَّالثةُ فيَشْفَعُ فيمَنْ استحَقَّ النَّارَ أنْ لا يدخُلَها) إلخ: فَهِذِهِ الشَّفاعةُ في عُصاةِ الموحِّدين الذين يَدخُلون النَّارَ بِذُنوبِهم، والأحاديثُ بها متواتِرةٌ عن النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- وقد أَجْمعَ عليها الصَّحابةُ وأهلُ السُّنَّةِ قَاطِبةً، وبدَّعوا مَن أنْكَرها وصاحُوا بِهِ مِن كُلِّ جانبٍ ونادَوْا عليه بالضَّلالِ.
قولُه: (ولِسائِرِ) أي: باقِي وجميعِ، وَذَلِكَ لِما روى ابنُ ماجهْ في حديثِ عثمانَ: يَشفَعُ يومَ القيامةِ ثلاثةٌ: الأنبياءُ، ثم العلماءُ، ثم الشُّهداءُ. وفي الصَّحيحِ عن أبي سعيدٍ عن النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: شَفَعَتِ الْمَلاَئِكَةُ، وَشَفَعَ النَّبِيُّونَ، وَشَفَعَ الْمُؤْمِنونَ، وَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ فَيُخْرِجُ مِنْهَا قَوماً لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ)) الحديثَ، ذَكَر المصنِّفُ -رَحِمَهُ اللَّهُ- هَذِهِ الأنواعَ الأربعةَ، وزادَ في شَرحِ الطَّحاويَّةِ وغيرِه أربعةَ أنواعٍ أُخَرَ، فيكونُ الجميعُ ثمانيةً بالأربعةِ التي ذَكَرها المصنِّفُ.
والخامِس: شفاعَتُه لقومٍ مِن أهلِ الجَنَّةِ في زيادةِ ثوابِهم ورِفعةِ دَرجاتِهم، وَهَذِهِ مما لم ينُازِعْ فيه أحدٌ.
السَّادسُ: شَفاعَتُه -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- في قومٍ تَساوَتْ حَسناتُهم وسيِّئاتُهم، فيَشفَعُ فيهم ليَدخُلوا الجَنَّةَ.
السَّابِعُ: شفاعَتُه في أقوامٍ أنْ يَدخلوا الجَنَّةَ مِن غيرِ حسابٍ ولا عذابٍ، ويَحْسُنُ أنْ يُستشْهَدَ لهَذَا النَّوعِ بما في "الصَّحيحَيْنِ" مِن حديثِ عُكَّاشةَ بنِ مِحصنٍ حين دعا له النَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- أنْ يَجعَلَه مِن السَّبْعِينَ ألْفا الذين يَدخلون الجَنَّةَ مِن غيرِ حسابٍ ولا عذابٍ.
الثَّامِنُ: شفاعَتُه -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- في بعضِ أهلِه الكفَّارِ مِن أهلِ النَّارِ، حتى يُخفَّفَ عذابُه وَهَذِهِ خاصَّةٌ بأبي طالبٍ، فإن قيل إنَّ أبا طالبٍ مات كافرًا وقد قال اللَّهُ -سُبْحَانَهُ- وتعالى: (فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) فأجابَ بعضُ العلماءِ بقولِه: إنَّ شفاعةَ النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- لأبي طالبٍ شفاعةُ تخفيفٍ لا شفاعةُ إخراجٍ، والمقصودُ في الآيةِ أنها لا تَنفعُهم في الإخراجِ مِن النَّارِ.

(2) وقولُه: ((ويُخرِجُ اللَّهُ أقواماً مِن النَّارِ)) إلخ، قال اللَّهُ -سُبْحَانَهُ-: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ) وقال: (وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) وفي "الصَّحيحَيْنِ" من حديثِ أبي سعيدٍ الخدريِّ -رضي اللَّهُ عنه- في حديثِه الطَّويلِ قال: فيقولُ اللَّهُ: ((شَفَعَتِ الْمَلاَئِكَةُ، وَشَفَعَ النَّبِيُّونَ، وَشَفَعَ الْمُؤْمِنونَ، وَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ فَيُخْرِجُ مِنْهَا قَوماً لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ)).
قولُه: (بل بفَضلِه ورَحْمتِه) يفيدُ أنَّ دخولَ الجَنَّةِ والنَّجاةَ مِن النَّارِ بفَضلِه -سُبْحَانَهُ- ورَحمتِه، لا بمجرَّدِ العملِ، كما قال -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((لَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَدْخُلُ الجَنَّةَ بِعَمَلِهِ)) الحديثَ، وإنَّما العملُ سببٌ لدُخولِ الجَنَّةِ، كما قال تعالى: (جَزَاءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) واللَّهُ -سُبْحَانَهُ- هُوَ خالِقُ السَّببِ والمُسبِّبِ، فرَجَعَ الكُلُّ إلى محضِ فَضلِه وإحسانِه ورَحمتِه.

(3) قولُه: (ويَبقَى في الجَنَّةِ فَضْلٌ) إلخ، أي زيادةٌ في الجَنَّةِ عمَّن دَخَلها مِن أهلِها، وَذَلِكَ لسِعَتِها العظيمةِ، فإنَّها كما وَصَفها في كتابِه: (عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّماءِ وَالأَرْضِ).
قوله (فيُنْشِئُ اللَّهُ) أي يَخلُقُ ويُحْدِثُ -سُبْحَانَهُ- أقواماً فيُدخِلُهم الجَنَّةَ بفَضلِه ورحمتِه، كما في "الصَّحيحَيْنِ" عن أنسِ بنِ مالكٍ -رضي اللَّهُ عنه- أَنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((لاَ تَزَالُ جَهَنَّمُ يُلْقَى فِيهَا وَهِيَ تَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ، حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ عَلَيْهَا قَدَمَهُ فَيَنْزَوِي بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَتَقُولُ: قَطْ قَطْ بِعِزَّتِكَ وَكَرَمِكَ، وَلاَ يَزَالُ فِي الجَنَّةِ فَضْلٌ حَتَّى يُنْشِئَ اللَّهُ لَهَا خَلْقًا فَيُسْكِنَهُمْ فَضْلَ الجَنَّةِ)) وفي لفظِ مسلمٍ: ((يَبْقَى مِنَ الجَنَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَبْقَى، ثُمَّ يُنْشِئُ اللَّهُ -سُبْحَانَهُ- لَهَا خَلْقاً فَيُسْكِنُهُمْ فَضْلَ الجَنَّةِ))، قال ابنُ القيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: وأمَّا اللَّفظُ الذي في البخاريِّ مِن حديثِ أبي هريرةَ أنَّه يُنْشَأُ للنَّارِ مَن يشاءُ فيُلْقَى فيها، فتَقولُ هل مِن مَزيدٍ، فغَلَطٌ مِن بعضِ الرُّواةِ انْقَلَب عليه لَفظُه، والرِّوَاياتُ الصَّحيحةُ، ونَصُّ القُرآنِ يَرُدُّه، فإنَّ اللَّهَ -سُبْحَانَهُ- أَخْبَرَ أنَّه يَملأُ النَّارَ مِن إبليسَ وأتباعِه، فإنَّه لا يُعذِّبُ إلا مَن قامتْ عليه حُجَّتُه وَكَذَّبَ رُسلَه، كما قال -سُبْحَانَهُ-: (كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ..) الآيتَيْنِ.
قولُه: (وأصنافٌ) جَمعُ صِنفٍ، وهُوَ النَّوعُ، والصِّنفُ والنَّوعُ والضَّرْبُ بمعنًى واحدٍ.
قولُه: (تضمَّنتْه) أي: اشتَملَتْ عليه.
قولُه: (الدَّارُ الآخرةُ) سُمِّيَتْ آخِرةً لتأَخُّرِها عن الدُّنْيَا، وكَوْنِها بَعْدَها.
قولُه: (والثَّوابِ والعقابِ) الثَّوابُ والمَثُوبةُ جزاءُ الطَّاعةِ، وهُوَ مِن ثابَ يَثُوبُ إذا رَجعَ، ويكونُ الثَّوابُ في الخيرِ والشَّرِّ إلاَّ أنَّه في الخيرِ أخصُّ وأكثَرُ استِعمالا، وهُوَ المرادُ هنا، والعِقابُ: العُقوبةُ. قال اللَّهُ -سُبْحَانَهُ-: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًَّا يَرَهُ)، وقال: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ) الآيةَ، وقال تعالى: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِالْحُسْنَى)، وفي حَديثِ أبي ذَرٍّ عن النَّبيِّ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- فيما يَرْويهِ عَن رَبِّه أنَّه يقولُ: ((يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْراً فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ)) إلى غيرِ ذَلِكَ مِن الأدلَّةِ الدَّالَّةِ على أَنَّ الجزاءَ مُرتَّبٌ على الأعمالِ، قال تعالى: (جَزَاءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) أي بسببِ أعمالِكم، فالباءُ باءُ السَّببِيَّةِ، وأمَّا قولُه –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((لَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَدْخُلُ الجَنَّةَ بِعَمَلِهِ)) الحديثَ، فالباءُ المنْفِيَّةُ باءُ العِوَضِ، وهُوَ أنْ يكونَ العملُ كالثَّمنِ لدُخولِ الجَنَّةِ كما زَعَمَتِ المعتزِلةُ أَنَّ العامِلَ يَستحِقُّ دخولَ الجَنَّةِ على ربِّه بعَملِه، وقولُهم باطلٌ، وقد تَقدَّمَ الكلامُ على هَذَا البحثِ.
قولُه: (الجَنَّةُ والنَّارُ) الجَنَّةُ لغةً: البُستانُ الذي فيه أشجارٌ مثمِرةٌ، سمِّيت جنَّةً؛ لاجْتِنانِها وَتستُّرِها بالأشجارِ، والمرادُ هنا الدَّارُ التي أعدَّها اللَّهُ لأوليائِه وعِبادِه الصَّالِحِينَ، وأمَّا النَّارُ فأعدَّها اللَّهُ –سبحانَهُ وتعالَى- لأعدائِه – أعاذَنا اللَّهُ منها – فيَجِبُ الإيمانُ بهما واعتقادُ أنهما حَقٌّ موجودتانِ الآنَ لثُبوتِ ذَلِكَ في الكِتابِ والسُّنَّةِ وإجماعِ الأُمَّةِ، قال اللَّهُ –سُبْحَانَهُ- عن الجَنَّةِ: (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)(أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ)، وعن النَّارِ: (أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ)، (إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا * لَّلطَّاغِينَ مَآباً) وأمَّا الأحاديثُ فعن أبي هريرةَ -رضي اللَّهُ عنه- أنَّ رسولَ اللَّهِ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((لِمَّا خَلَقَ اللَّهُ الجَنَّةَ قَالَ لِجِبْرِيلَ اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا، فَنَظَرَ إِلَيْهَا فَقَالَ: أَيْ رَبِّ وَعِزَّتِكَ وَجَلالِكَ لاَ يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ إِلاَّ دَخَلَهَا، ثُمَّ حَفَّهَا بِالْمَكَارِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا، فَذَهَبَ وَنَظَرَ إِلَيْهَا ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ لَقْدِ خَشِيتُ أَنْ لاَ يَدْخُلَهَا أَحَدٌ، فلمَّا خَلَقَ النَّارَ قَالَ: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا، فَذَهَبَ فَنَظَرَ إِلَيْهَا فَقَالَ: أَيْ رَبِّ وَعِزَّتِكَ وَجَلالِكَ لاَ يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ فَيَدْخُلَهَا، ثُمَّ حَفَّهَا بِالشَّهَوَاتِ ثُمَّ قَالَ: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا، قال: أَيْ رَبِّ وَعِزَّتِكَ وَجَلالِكَ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ لاَ يَبْقَى أَحَدٌ إلاَّ دَخَلَهَا)) رواه أبو داودَ والتِّرمذيُّ والنسائيُّ، وقال الترمذيُّ: حسَنٌ صحيحٌ.
وفي "الصَّحيحَيْنِ" مِن حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرَ -رضي اللَّهُ عنه-، قال: إنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، يُقالُ هَذَا مَقْعَدُكَ، حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ))، وفي "الصَّحيحَيْنِ" واللَّفظُ للبخاريِّ عن عبدِ اللَّهِ بنِ عبَّاسٍ قال: انْخسَفَت الشَّمسُ على عهدِ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-، فذَكَر الحديثَ، وفيه فقالوا: رَأَيناكَ تناولْتَ شيئاً في مَقامِكَ ثم رأيناكَ تكَعْكعْتَ، فقال: ((إنِّي رَأَيْتُ الْجَنَّةَ، وَتَنَاوَلْتُ عُنْقُوداً لَوْ أَصَبْتُهُ لأَكَلْتُمْ مِنْهُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا، وَرَأَيْتُ النَّارَ فَلَمْ أَرَ مَنْظَراً كَالْيَوْمِ قَطُّ أَفْظَعَ…)) الحديثَ.
وفي صحيحِ مسلمٍ مِن حديثِ أنسٍ -رضي اللَّهُ عنه-: ((وَايْمُ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ رَأَيْتُمْ مَا رَأَيْتُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاَ وَلَبَكَيْتُمْ كثيرًا))، قالوا: وما رأيتَ يا رسولَ اللَّه؟ قال: ((أَعَدَّ اللَّهُ الجَنَّةَ لأَوْلِيَائِهِ وَأَعَدَّ النَّارَ لأَعْدَائِهِ))، ولم يَزلْ على ذَلِكَ أهلُ السُّنَّةِ والجَماعَةِ حتى نَبَغَتْ نابِغةٌ مِن المعتزِلةِ والقَدَريَّةِ، فأنكَرتْ ذَلِكَ وزَعَمَتْ أَنَّ اللَّهَ يُنْشِئُهما يومَ القيامةِ، وأنَّ إيجادَهما الآنَ عَبَثٌ، وحَمَلَهم على ذَلِكَ أَصْلُهم الفاسدُ الذي وَضَعوا بِهِ شريعةً لِما يَفعَلُه اللَّهُ، وأنَّه ينبغي أنْ يَفعَلَ كذا، ولا يَنبغِي له أنْ يَفعَلَ كذا، وقَاسُوه على خَلقِه في أفْعالِهم، فهُم مُشبِّهةٌ في الأفعالِ، معطِّلةُ في الصِّفاتِ، والأدلَّةُ على بطلانِ هَذَا القولِ أكثرُ مِن أنْ تُحصى، كما تكاثرتْ أدلَّةُ الكِتابِ والسُّنَّةِ على دوامِ الجَنَّةِ والنَّارِ، وأنَّهما لا تَفنيانِ أبدًا ولا تَبيدانِ، قال تعالى: (أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا) وقال: (إِنَّ هَـذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ) وقال: (وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ) وقال في النَّارِ: (وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ) وقال: (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) إلى غير ذَلِكَ مِن الأدلَّةِ التي لا تُحصرُ.

(4) قولُه: وتفاصيلُ ذَلِكَ أي: تَبْيينُ ذَلِكَ وتوضيحُه (مذكورةٌ في الكُتبِ المنَزَّلَةِ مِن السَّماءِ)، فإنَّ يومَ القيامةِ وما اشتَملَ عليه معروفٌ عندَ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ مِن آدمَ إلى نوحٍ إلى إبراهيمَ وموسى وعيسى وغيرِهم مِن حِينِ أُهبطَ آدمُ، قال تعالى: (اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) وقال: (فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ) ولما قال إبليس: أَنْظرني إلى يومِ يُبعثون، قال: (فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) وأمَّا نوحٌ فقال -سُبْحَانَهُ- حكايةً عنه: (وَاللَّهُ أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا) وقال إبراهيمُ: (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) وقال: (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) وقال عن موسى: (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى) ومؤمِنُ آلِ فرعونَ كان يَعلمُ المَعادَ، وإنَّما آمَنَ بموسى وحذَّرَ قومَه مما يَقعُ يومَ القيامةِ، فقال تعالى حكايةً عنه: (ويَاقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ) إلى قولِه: (إِنَّمَا هَـذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَـرَارِ) إلى غيرِ ذَلِكَ مما هُوَ مذكورٌ في الكُتبِ السَّابقةِ وعن الأنبياءِ عليهم السَّلامُ.
قولُه: (المأثورِ) أي: المنقولُ المذكورُ، تقولُ: أثَرْتُ الحديثَ إذا نَقلْتَه مِن غيرِكَ، واصطلاحًا: الأَثَرُ يُطْلَقُ على المَرْويِّ مُطلَقًا سواءٌ كان عن رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- أو عن صحابيٍّ، وهُوَ قولُ الجمهورِ.
قولُه: (العِلمِ) أي: العِلمِ الشَّرعيِّ النَّافعِ، وهُوَ ما جاء عن الرَّسولِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال الشَّيخُ تَقيُّ الدِّينِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "العِلمُ ما قام عليه الدَّليلُ، والنَّافعُ ما جاء عن الرَّسولِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-"وفي حديثِ أبي هريرةَ -رضي اللَّهُ عنه- أَنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((الْعِلْمُ ثَلاَثَةٌ فَمَا سِوَى ذَلِكَ فهُوَ فَضْلُ عِلْمٍ: آيَةٌ مُحْكَمَةٌ أَوْ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ أَوْ فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ))، قال ابنُ القيِّم -رَحِمَهُ اللَّهُ- في النُّونيَّةِ:

العِلمُ قال اللَّهُ قـال  رسولُـه ... قال الصَّحابةُ هم  أُولو  العِرفانِ
ما الِعلمُ نَصْبُكَ للخلافِ سَفاهةً ... بين الرَّسولِ وبين  رأْيِ  فُـلانِ

قال الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: العِلمُ الممدوحُ هُوَ الذي وَرِثَه الأنبياءُ، وهَذَا العِلمُ أقسامٌ ثلاثةٌ:
الأوَّلُ: عِلمٌ باللَّهِ وأسمائِه وصفاتِه وما يَتْبَعُ ذَلِكَ، وفي مِثلِه أَنزلَ اللَّهُ سورةَ الإخلاصِ وآيةَ الكرسيِّ ونحوِهما.
الثَّاني: العِلمُ بما أخبَرَ اللَّهُ بِهِ مما كان مِن الأمورِ الماضيةِ، ومما يكونُ مِن المستقبَلةِ، ومما هُوَ كائنٌ من الأمورِ الحاضرةِ، وفي مِثلِه أَنزلَ اللَّهُ القَصصَ والوَعْدَ والوعيدَ وصِفةَ الجَنَّةِ والنَّارِ.
الثَّالثُ: العِلمُ بما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِن الأمورِ المتعلِّقةِ بالقلوبِ والجوارحِ مِن الإيمانِ باللَّهِ ومِن معارِفِ القلوبِ وأحوالِها وأحوالِ الجوارحِ وأعمالها، وهَذَا يَندرِجُ فيه العِلمُ بأصولِ الدِّينِ وقواعدِ الإسلامِ، والعِلمُ بالأقوالِ والأفعالِ الظاهرةِ مما هُوَ مذكورٌ في كُتبِ الفِقهِ. انتهى.
وقال ابنُ القَيِّمِ:

والعِلمُ أقسامٌ ثلاثٌ ما لَهـا ... مِن رابعٍ والحقُّ  ذو  تِبيـانِ
عِلمٌ بأوصافِ الإلَهِ  وفِعلِـه ... وَكَذَلِكَ الأسمـاءُ للرَّحمـنِ
والأمرُ والنَّهيُ الذي هُوَ دِينُه ... وجزاؤُه يومَ المَعـادِ الثَّانـي


(5) قولُه: (الموروثِ عن مُحَمَّدٍ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-) الموروثُ مِن الإرْثِ، وهُوَ لغةً: البقيَّةُ وانتقالُ الشَّيءِ مِن قومٍ إلى قومٍ آخرين، والمرادُ بِهِ هنا إرثُ العِلمِ والحِكمةِ، كما قال النَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- في حديثِ أبي الدَّرداءِ: ((وَالْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الأَنْبِياءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَاراً ولا دِرْهَماً، وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ))، ولهَذَا قال ابنُ عبَّاسٍ -رضي اللَّهُ عنه-: إنَّما تَرَكَ ما بين الدَّفتَيْنِ، يعني القرآنَ، والسُّنَّةُ مُفسِّرةٌ له ومبيِّنَةٌ وموضِّحةٌ، أي تابعةٌ له، والمقصودُ الأعظمُ كتابُ اللَّهِ.
قولُه: (يكفي) أي: يُغْني: قولُه: (يَشْفِي) مأخوذٌ مِن شَفى يَشْفِي، أي يُبرئُ، فالكِتابُ والسُّنَّةُ بهما غايةُ الشِّفاءِ والكفايةِ، فقد أَنزلَ اللَّهُ على نبِيِّهِ القرآنَ العظيمَ الذي شَرَّفه اللَّهُ على كُلِّ كتابٍ أَنزلَه وجعلَه مُهيمِناً عليها، وناسِخاً لها.
والسُّنَّةُ مفسِّرةٌ للقرآنِ ومُبيِّنةٌ له وموضِّحةٌ له، كما قال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) وقال تعالى: (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ)، وقال: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)، وقال: (قَدْ جَاءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ) ففي كتابِ اللَّهِ وسُنَّةِ رسولِه غايةُ الشِّفاءِ لجميعِ الأدواءِ القَلبيَّةِ والبَدنيَّةِ، وأدواءِ الدُّنْيَا والآخرةِ، وفي حديثِ ابنِ عبَّاسٍ أَنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرَآنِ)) ولما رأى مع عُمَرَ ورقةً مِن التَّوراةِ غَضِبَ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- وقال: ((أَمُتَهَوِّكُونَ يَا ابْنَ الخَطَّابِ، لَوْ كانَ مُوسَى حيًّا مَا وَسِعَهُ إِلاَّ اتِّبَاعِي)).
ورُوِيَ عن عمرَ -رضي اللَّهُ عنه- أنَّه حينما سَمِعَ رجُلا مِن قيسٍ كتَبَ كتابَ دَانيالَ غَضِبَ عليه وأمَرَه فمَحاه، وساقَ ما عَمِلَ معه النَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ولم يَمُتْ رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- حتى أكْملَ اللَّهُ له الدِّينَ، فلا خَيرَ إلا دَلَّ الأمَّةَ عليه، ولا شَرَّ إلاَّ حَذَّرَها عنه، وقد أُعطِيَ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- جوامِعَ الكَلِمِ وخواتِمَه، وقال -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْمَحَجَّةِ الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لاَ يَزِيغُ عَنْهَا إِلاَّ هَالِكٌ)) وقال أبو ذرٍّ -رضي اللَّهُ عنه-: تُوِفِّيَ رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- وما طائِرٌ يُقلِّبُ جناحَيْهِ في السَّماءِ إلا وذَكَرَ لنا منه عِلماً.
قولُه: (فمَنِ ابتَغاه) أي: طَلَبه، قولُه: (وَجَدَه) أي: حَصَّلَه وأدركَه، فهُوَ سَهلُ اللَّفظِ، قريبُ المعنى، واضِحُ الأسلوبِ، قال اللَّهُ -سُبْحَانَهُ-: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ) ).

هيئة الإشراف

#7

22 Dec 2008

شرح العقيدة الواسطية للشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): ( ((وله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في القيامة ثلاث شفاعات)).(1) أمَّاالشَّفَاعةُ الأولَى فيأهْلِ الموقفحَتىَّ يُقضَى بَيْنَهُم بعد أن يتراجَعَالأنبياءُ:آدمُونوحٌوإبراهيمُ وموسَى وعيسَى بنُ مريمَ عن الشفاعِةِ حتَّى تنتهيَ إليه.وأمَّاالشفاعةُ الثانيةُ فيشْفَعُ في أهلِ الجنةِ أن يَدْخُلُوا الجنَّةَ، وهَاتَانِ الشَّفَاعتَانِ خاصَّتانِ لَهُ. وأمَّا الشَّفاعةُ الثَّالثةُ فيَشْفَعُ فيمنْ استحقَّ النّارَ، وهذه الشَّفَاعةُ لَهُ ولِسَائِرِ النبييِّنَ والصِّدِّيقينَ وغيرهم، فيشفَعُ فيمن اسْتحقَّ النارَ ألايدخلها، ويشفعُ فيمنْ دَخَلها أن يخرجَ منها، ويُخرجُ اللهُ من النارِ أقْوَامَا بغيرِ شفاعةٍ، بلْ بفضلهِ ورَحمتِهِ. وَيَبْقى في الجَنَّةِ فَضْلٌ عَمَّنْ دَخَلَها مِنْ أهْلِ الدُّنْيا فينشئ الله لها أقواماً فيد خلهم الجنة (2). وأصنَافُ ما تَضَمَّنَتْهُ الدَّارُ الآخِرَةُ مِنَ الحِسَابِ والثَّوابِ والعِقَابِ والجنَّةِ والنارِ، وتفاصيلُ ذلك مذكورٌ في الكُتُب المنزَّلَةِ من السَّمَاءِ والآثارِ من العِلمِ المَأثورِ عن الأنبياءِ، وفي العِلْمِ الموروث عن محمدٍ صلى اللهُ عليه وسلم مِن ذَلك ما يَشْفيِ ويَكفِي، فَمَنْ ابتَغَاهُ وجَدَهُ).


الشرح:

قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): ( (1) والأمرُ الحادي عشر ممَّا يكونُ يومَ القيامةِ: الشَّفاعةُ: قد ذكَرَها المؤلِّفُ بِقَوْلِه: ((وله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في القيامةِ ثلاثُ شفاعاتٍ)).
((له)): الضَّميرُ يعودُ للنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والشَّفاعاتُ: جمعُ شفاعةٍ، والشَّفاعةُ في اللُّغةِ: جعلُ الشَّيءِ شَفْعاً. وفي الاصطلاحِ: التَّوسُّطُ للغيرِ بجلبِ منفعةٍ أو دفعِ مضرَّةٍ؛ ومناسبتُها للاشتقاقِ ظاهرةٌ؛ لأنَّكَ إذا توسَّطْتَ لَهُ؛ صرْتَ معه شفعاً تشفَعُه.
والشَّفاعةُ تنقسم إلى قسمَينِ: شفاعةٌُُ باطلةٌُ، وشفاعةٌُ صحيحةٌُ.
-فالشَّفاعةُ الباطلةُ: ما يتعلَّقُ بهِ المشركُونَ في أصنامِهِم؛ حيثُ يعبدونَهُم ويزعمونَ أنَّهم شُفعاءُ لَهُم عندَ اللهِ؛ كَمَا قَالَ تعالَى: (وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ ويقولُونَ هَؤُلاَءِ شُفَعاَؤُنَا عِندَ اللهِ) [يونس: 18]، ويقولُونَ: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى) [الزُّمَر: 3].
لكنْ هذِهِ الشَّفاعةُ باطلةٌ لا تنفعُ؛ كَمَا قَالَ تعالَى: (فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) [المدَّثْر: 48].
-والشَّفاعةُ الصَّحيحةُ ما جَمَعتْ شُروطاً ثلاثةً:
الأوَّلَ: رِضَى اللهِ عَنِ الشَّافعِ.
الثَّاني: رضَاه عَنِ المشفوعِ لَهُ، لكنَّ الشَّفاعةَ العظمى في الموقفِ عامَّةٌ لجميعِ النَّاسِ مَنْ رَضِي اللهُ عَنْهُم ومَنْ لم يرضَ عَنْهُم.
الثَّالثَ: إذنُهُ في الشَّفاعةِ.
والإذنُ لا يكونُ إلَّا بعد الرِّضَى عَنِ الشَّافعِ والمشفوعِ لَهُ.
ودليلُ ذلِكَ قولُهُ تعالَى: (وَكَم مِنَ مَّلَكٍ فِى السَّماواتِ لاَ تُغْنِى شَفَعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى) [النَّجْم: 26]، ولم يَقُلْ: عَنِ الشَّافعِ، ولا: المشفوعِ لَهُ؛ ليكونَ أشملَ.
وقَالَ تعالَى: (يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفاعةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِىَ لَهُ قَوْلاً) [طه: 109].
وقَالَ سبحانَه: (وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى) [الأنبياء: 28].
فالآيةُ الأُولَى تضمَّنَتِ الشُّروطَ الثَّلاثةَ، والثَّانيةُ تضمَّنتْ شَرْطَيْنِ، والثَّالثةُ تضمَّنَتْ شرطاً واحداً.
فللنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاثُ شفاعاتٍ:
الشَّفاعةُ العظمَى.
والشَّفاعةُ لأهل الجنَّةِ ليدخلوا الجنَّةَ.
والشَّفاعةُ فيمَن استحقَّ النَّارَ ألَّا يدخَلَها، وفيمَن دخَلَها أنْ يخرجَ مِنْها.
قَالَ المؤلِّفُ مبيِّناً هذه الثَّلاثَ: ((أما الشَّفاعةُ الأُولَى؛ فيشفعُ في أهل الموقفِ، حتَّى يُقْضَى بَيْنَهُم بعدَ أنْ يتراجعَ الأنبياءُ: آدمُ ونوحٌ وإبراهيمُ وموسى وعيسى بنُ مريمَ عَنِ الشَّفاعةِ حتَّى تنتهِيَ إليهِ)).
قولُهُ: ((حتَّى يُقْضَى بَيْنَهُم)): (حتَّى) هذه تعليليةٌ، ولَيْسَتْ غائيَّةً؛ لأنَّ شفاعةَ الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تنتهي قَبْلَ أنْ يُقضَى بَيْنَ النَّاسِ؛ فإنه إذا شفعَ؛ نزلَ اللهُ عزَّ وجلَّ للقضاءِ بَيْنَ عبادِهِ وقَضَى بَيْنَهُم.
ونظيرُها قولُهُ تعالَى: (هُمُ الَّذِين يقولُونَ لاَ تُنفِقُوا عَلَى مَن عِندَ رَسُولِ اللهِ حتَّى يَنفَضُّوا) [المنافقون: 7]؛ فإن قولَهُ: (حتَّى يَنفَضُّوا): للتعليلِ؛ أيْ: مِنْ أجلِ أنْ ينفضوا، ولَيْسَتْ للغايةِ؛ لأنَّ المعنَى يَفْسَدُ بذلِكَ.
قولُهُ: ((بَعْدَ أنْ يتراجعَ الأنبياءُ؛ آدمُ ونوحٌ وإبراهيمُ وموسَى وعيسَى بنُ مريمَ عن الشَّفاعةِ)): أيْ: يردُّها كلُّ واحدٍ مِنْهُم إلى الآخِرِ.
شَرْحُ هذِهِ الجملةِ ما رواه البخاريُّ ومسلمٌ عَنْ أبي هريرةَ رَضِي اللهُ عَنْهُ: أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليِه وعلى آلهِ وسلَّم قَالَ: ((أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَهَلْ تَدْرُونَ فِيمَ ذَلِكَ؟ يَجْمَعُ اللهُ النَّاسَ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ؛ يَسْمَعُهُمُ الدَّاعِي، وَيُنْفِذُهُمُ البَصَرُ، وَتَدْنُو مِنْهُمُ الشَّمسُ، فَيَبْلُغُ النَّاسُ مِنَ الغَمِّ وَالكَرْبِ مَا لاَ يطِيقُونَ وَلاَ يَحْتَمِلُونَ، فَيَقُولُ النَّاسُ: أَلاَ تَرَوْنَ مَا قَدْ بَلَغَكُمْ؟ أَلا تَنْظُرُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلى رَبِّكُم؟ فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: عَلَيْكُمْ بِآدَمَ! فَيَأْتُونَهُ، فيقولُونَ لَهُ: أَنْتَ أَبُو البَشَرِ، خَلَقَكَ اللهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَأَمَرَ المَلائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ؛ أَلاَ تَرَى إِلى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ فَيَقُولُ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَباً لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنَّهُ نَهَانِي عَنْ الشَّجَرَةِ، فَعَصَيْتُهُ؛ نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي! اذْهَبُوا إِلى نُوحٍ! فَيَأْتُونَ نُوحًا، فيقولُونَ: يَا نُوح! إِنَّكَ أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلى أَهْلِ الأَرْضِ، وَقَدْ سَمَّاكَ اللهُ عَبْدًا شَكُورًا؛ اشْفَعْ لَنَا إِلى رَبِّكَ؛ أَلا تَرَى إِلى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ فَيَقُولُ كَمَا قَالَ آدَمُ فِي غَضَبِ اللهِ، وَإِنًّهُ قَدْ كَانَتْ لِي دَعْوَةٌ دَعَوْتُهَا عَلَى قَوْمِي؛ اذْهَبُوا إِلى إِبْرَاهِيمَ! فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ، فيقولُونَ: يَا إِبْرَاهِيمُ! أَنْتَ نَبِيُّ اللهِ وَخَلِيلُهُ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ؛ اشْفَعْ لَنَا إِلى رَبِّكَ؛ أَلا تَرَى إِلى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ فَيَقُولُ كَمَا قَالَ آدَمُ فِي غَضَبِ اللهِ، وَإِنِّي قَدْ كَذَبْتُ ثَلاثَ كَذباتٍ؛ اذْهَبُوا إِلى مُوسى! فَيَأْتُونَ مُوسَى! فيقولُونَ: يَا مُوسَى! أَنْتَ رَسُولُ اللهِ، فَضَّلَكَ اللهُ بِرِسَالَتِهِ وَبِكَلامِهِ عَلَى النَّاسِ؛ اشْفَعْ لَنَا إِلى رَبِّكَ؛ أَلاَ تَرَى إِلى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ فَيقُولُ كَمَا قَالَ آدَمُ فِي غَضَبِ اللهِ، وَإِنِّي قَدْ قَتَلْتُ نَفْسًا لَمْ أُومَرْ بِقَتْلِها؛ اذْهَبُوا إِلى عِيسى! فَيَأْتُونَ عِيسى، فيقولُونَ: يَا عِيسى! أَنْتَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ إِلى مَرْيمَ وَرُوحٌ مِنْهُ وَكَلَّمْتَ النَّاسَ فِي المَهْدِ صَبِيًّا؛ اشْفَعْ لَنَا إِلى رَبِّكَ؛ أَلاَ تَرَى إِلى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ فَيَقُولُ كَمَا قَالَ آدَمُ في غَضَبِ اللهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ ذَنْبًا، وَكُلُّهُمْ يَقُولُ كَمَا قَالَ آدَمُ: نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي! اذْهَبُوا إِلى محمَّدٍ! فَيَأْتُونَ محمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيقولُونَ: يَا مُحَمَّدُ! أَنْتَ رَسولُ اللهِ، وَخَاتَم الأَنْبِياءِ، وَقَدْ غَفَرَ اَللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؛ اشْفَعْ لَنَا إِلى رَبِّكَ؛ أَلاَ تَرَى إِلى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ فَأنْطِلَقَ، فَآتِي تَحْتَ العَرْشِ، فَأَقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّي عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ يَفْتَحُ اللهُ عَلَيَّ مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّناءِ عَلَيْهِ شَيْئًا لَمْ يَفْتَحْهُ عَلَى أَحَدٍ قَبْلِي، ثُمَّ يُقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! ارْفَعْ رَأْسَكَ؛ سَلْ تُعْطَهُ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ …)) وذكر تمام الحديث.
والكذباتُ الثَّلاثُ الَّتي ذكَرَها إبراهيمُ عليهِ السَّلامُ فُسِّرتْ بما رواه البخاريُّ عَنْ أبي هريرةَ رَضِي اللهُ عَنْهُ؛ قَالَ: لم يكذبْ إبراهيمُ عليه السَّلامُ إلا ثلاثَ كذباتٍ؛ اثنتين منهن في ذاتِ اللهِ: قوله: (إِنّى سَقِيمٌ)، وقوله: (بَل فَعَلَهُ كَبِيرُهُم هَذَا)، وذكَرَ قولَهُ عَنْ امرأتِه سارةَ: إنَّها أختي.
وفي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)) في حديثِ الشَّفاعةِ السَّابقِ أنَّ الثَّالثةَ قولُهُ في الكوكبِ (هَذَا رَبِّي)، ولم يذكرْ قصَّةَ سارةَ.
لكنْ قَالَ ابنُ حجرٍ في ((الفتح)): ((الَّذِي يظهرُ أنَّها وهمٌ مِنْ بعضِ الرُّواةِ))، وعلَّلَ لذلِكَ.
وإنّما سمَّى إبراهيمُ عليهِ السَّلامُ هذه كذباتٍ؛ تواضعاً مِنْهُ؛ لأنَّها بحسبِ مرادِه صدقٌ مطابقٌ للواقعِ؛ فَهِيَ مِنْ بابِ التَّوريةِ، واللهُ أعلمُ.
قولُهُ: ((حتَّى تنتهيَ إليه))؛ أيْ: إلى الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسَبَقَ في الحديثِ ما يكونُ بعدَ ذلِكَ.
وهذه الشَّفاعةُ العظمى لا تكونُ لأحدٍ أبداً إلَّا للرَّسولِ عليهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وهي أعظمُ الشفاعاتِ؛ لأنَّ فيها إراحةَ النَّاسِ مِنْ هذا الموقفِ العظيمِ والكربِ والغمِّ.
وهؤلاءِ الرُّسُلُ الَّذِين ذكرُوا في حديثِ الشَّفاعةِ كلُّهم مِنْ أولِي العزمِ، وقد ذَكَرَهُم اللهُ تعالَى في موضِعَيْنِ مِنَ القرآنِ: في سورةِ الأحزابِ، وفي سورةِ الشُّورى.
أمَّا في سورةِ الأحزابِ؛ ففِي قولِهِ تعالَى: (وَإِذ أَخَذنَا مِنَ النَّبيِّ نَ مِيثَقَهُم وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبرَهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابنِ مَريَمَ) [الأحزاب: 7].
وأما في سورةِ الشُّورى؛ فقولُهُ تعالَى: (شَرَعَ لَكُم منَ الدّينَ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِى أَوحَينَا إِلَيكَ وَمَا وَصَّينَا بِهِ إِبرَهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى) [الشُّورى: 13].

تنبيه:
قولُهُ: ((الأنبياءُ؛ آدم ونوح …)) إلى آخرِه: جَزَمَ المؤلِّفُ رحمَهُ اللهُ بأنَّ آدمَ نبيٌّ، وهُوَ كذلِكَ؛ لأنَّ اللهَ تعالَى أَوْحَى إليه بشرعٍ أمَرَهُ ونَهاه.
ورَوى ابنُ حبانَ في ((صحيحه)): أنَّ أبا ذر سألَ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم: هَلْ كَانَ آدَمُ نَبيًّا؟ قَالَ: ((نَعَمْ)).
فيكونُ آدمُ أوَّلُ الأنبياءِ الموحى إليهم، وأمَّا أوَّلُ الرُّسلِ؛ فنوحٌ؛ كما هو صريحٌ في حديثٍ الشَّفاعةِ وظاهرُ القرآنِ في قولِهِ تعالَى: (إِنَّا أَوحَينَا إِلَيكَ كَمَا أَوحَينَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيّنَ مِن بَعدِهِ) [النِّساء: 163]، وقولُهُ: (وَلَقَدْ أَرْسَلنَا نُوحًا وَإِبرَهِيمَ وَجَعَلنَا فِى ذُرّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالكِتاَبَ) [الحديد: 26].
قولُهُ: ((وأمَّا الشَّفاعةُ الثَّانيةُ؛ فيشفعُ في أهلِ الجنَّةِ أنْ يدخلوا الجنَّةَ)).
وذلِكَ أنَّ أهلَ الجنَّةِ إذا عبروا الصِّراطَ؛ وقفوا على قنطرةٍ، فيقتصُّ لبعضِهم مِنْ بعضٍ، وهذا القِصاصُ غيرُ القِصاصِ الَّذِي كانَ في عَرَصاتِ القيامةِ، بَلْ هُوَ قصِاصٌ أخصُّ، يطهِّرُ اللهُ فيه القلوبَ، ويُزِيلُ ما فيها مِنْ أحقادٍ وضغائنَ؛ فإذا هُذِّبوا ونُقّوا؛ أُذِنَ لَهُم في دخولِ الجنَّةِ.
ولكنَّهم إذا أتوا إلى الجنَّةِ؛ لا يجدونَها مفتوحةً كَمَا يجدُ ذلِكَ أهلُ النَّارِ؛ فلا تُفْتَحُ الأبوابُ، حتَّى يشفعَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأهلِ الجنَّةِ أنْ يدخلوها، فيدخلُ كلُّ إنسانٍ مِنْ بابِ العملِ الَّذِي يكونُ أكثر اجتهاداً فيه مِنْ غَيْرِهِ، وإلاَّ؛ فإنَّ المسْلِمَ قد يُدعَى مِنْ كلِّ الأبواب.
وهذه الشَّفاعةُ يشيرُ إليها القرآنُ؛ لأنَّ اللهَ قَالَ في أهلِ الجنَّةِ: (حتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَت أَبوَبُهَا) [الزُّمَر: 73]، وهذا يدلُّ أنَّ هناك شيئًا بَيْنَ وصولِهِم إليها وبَيْنَ فتحِ الأبوابِ.
وهو صريحٌ فيما رواه مُسْلِمٌ عَنْ حذيفةَ وأبي هريرةَ رَضِي اللهُ عَنْهُما؛ قَالَا: قَالَ رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يَجْمَعُ اللهُ تَبَارَكَ وتعالَى النَّاسَ، فَيَقُومُ المُؤْمِنُونَ حتَّى تُزْلَفَ لَهُم الجَنَّة، فَيَأْتُونَ آدَمَ، فيقولُونَ: يَا أَبَانَا! اسْتَفْتِحْ لَنَا الجنَّةَ …)) وذكَرَ الحديثُ، وفيه: ((فَيَأْتُونَ محمَّدًا، فَيَقُومُ، فَيُؤْذَنُ لَهُ …)) الحديث.
قولُهُ: ((وهاتان الشَّفاعتان خاصَّتان له))؛ يعني: الشَّفاعةَ في أهلِ الموقفِ أنْ يقضَى بَيْنَهُم، والشَّفاعةُ في دخولِ الجنَّةِ.
((خاصتان له))؛ أيْ: للنَّبيِّ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم، ولذلِكَ يعتذرُ عَنْهُما آدمُ وأولو العزمِ مِنَ الرُّسُلِ.
وهناك أيضاً شفاعةٌ ثالثةٌ خاصةٌ بالنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا تكونُ لغَيْرِهِ، وهِيَ الشَّفاعةُ في عمِّهِ أبي طالبٍ.
وأبو طالبٍ – كما في ((الصَّحيحينِ)) وغيرِهما – ماتَ على الكُفْرِ.
فأعمامُ الرَّسولِ عليِه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عشرةٌ، أدرك الإسلامَ مِنْهُم أربعةٌ؛ فبقي اثنان على الكُفْر وأسلَمَ اثنان:
فالكافران هما:
أبو لهَبٍ: وقد أساءَ إلى النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إساءةً عظيمةً، وأنزلَ اللهُ تعالَى فيه وفي امرأتِهِ حمَّالةَ الحَطَبِ سورةً كاملةً في ذمِهِما ووعيدِهِما.
والثَّاني: أبو طالبٍ، وقَدْ أحسنَ إلى الرَّسولِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِحسانًا كبيرًا مشهورًا، وكانَ مِنْ حكمةِ اللهِ عزَّ وجلَّ أنْ بقيَ على كفرِهِ؛ لأنَّهُ لولا كفرُهُ؛ ما حصلَ هذا الدفاعُ عَنِ الرَّسولِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، بَلْ كانَ يؤذى كَمَا يؤذى الرَّسولُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، لكنْ بجاهِهِ العظيمِ عِنْدَ قريشٍ وبقائِه على دينِهم صاروا يعظِّمونهُ وصارَ للنَّبيِّ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جانبٌ مِنَ الحمايةِ بذلِكَ.
واللَّذان أسلما هما العبَّاسُ وحمزةُ، وهو أفضلُ مِنَ العبّاسِ، حتَّى لقَّبَهُ الرَّسولُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أسدَ اللهِ، وقُتِلَ شهيداً في أُحُدٍ رَضِي اللهُ عَنْهُ وأرضاه، وسماَّه النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيِّدَ الشُّهداءِ.
فأبو طالبٍ أذنَ اللهُ لرسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنْ يشفَعَ فيه، مع أنَّهُ كافرٌ، فيكونُ هذا مخصوصاً مِنْ قولِهِ تعالَى: (فَمَا تَنفَعُهُم شَفَعَةُ الشَّافِعِينَ) [المدثر: 48]، ولكنَّها شفاعةٌ لَمْ تخرجْه مِنَ النَّارِ، بَلْ كانَ في ضحضاحٍ مِنْ نارٍ يبلغُ كَعْبَيْهِ يغلي منه دماغُه؛ قَالَ الرَّسولُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ((وَلَوْلا أَنَا؛ لَكَانَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ))، ولَيْسَ هذا مِنْ أجلِ شخصيةِ أبي طالبٍ، لكنْ مِنْ أجلِ ما حَصَلَ مِنْ دفاعِهِ عنِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعَنْ أصحابِهِ.
قولُهُ: ((وأمَّا الشَّفاعةُ الثَّالثةُ؛ فيشفعُ فيمِن استحقَّ النَّارَ وهذه الشَّفاعةُ لَهُ ولسائرِ النَّبيينَ والصِّدِّيقين وغيرِهم، فيشفعُ فيِمَنْ استحقَّ النَّارَ أنْ لا يدخلَها، ويشفعُ فيِمَنْ دَخَلَها أنْ يخرجَ مِنْها)).
قولُهُ: ((وأمَّا الشَّفاعةُ الثالثةُ؛ فيشفعُ فيمَنِ استحقَّ النَّارَ))؛ أيْ: مِنْ عُصاةِ المؤمنين.
وهذِهِ لها صورتان: يشفعُ فيِمَنِ استحقَّ النَّارَ أنْ لا يدخلَها، وفيمِنْ دَخلَها أنْ يخرجَ مِنْها.
أمَّا فيِمَنْ دَخلَها أنْ يخرجَ مِنْها؛ فالأحاديثُ في هذا كثيرةٌ جدًّا، بل متواترةٌ.
وأما فيمن استحقَّهَا أنْ لا يدخلَها؛ فهذه قَدْ تستفادُ مِنْ دعاءِ الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمؤمنين بالمغفرةِ والرَّحمةِ على جنائزِهِم؛ فإنَّهُ من لازَمَ ذلِكَ أنْ لا يدخلَ النَّارَ؛ كَمَا قَالَ النَّبيُّ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ((اللَّهمَّ! اغْفِرْ لأَبِي سَلَمَةَ، وَارَفَعْ دَرَجَتَهُ فِي المَهْدِيِّينَ …)) الحديث.
لكنَّ هذه شفاعةٌ في الدُّنْيا ؛ كَمَا في قولِهِ صلَّى اللهُ عَلَيه وعَلى آلهِ وسلَّم: ((مَا مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ، فَيَقُومُ عَلَى جَنَازَتِهِ أَرْبَعُونَ رَجُلاً لاَ يُشْرِكُونَ باللهِ شَيْئًا؛ إِلاَّ شَفَّعَهُمْ اللهُ فِيهِ)).
وهذه الشَّفاعةُ ينِكرُها مِنْ أهلِ البَدعِ طائفتانِ؛ المعتزلةُ والخوارجُ؛ لأنَّ المعتزلةَ والخوارجَ مذهبُهُما في فاعلِ الكبيرِة أنَّهُ مخلَّدٌ في نارِ جهنَّمَ، فَيَرْون مَنْ زنى كَمَنْ أشركَ باللهِ؛ لا تنفَعُه الشَّفاعةُ، ولنْ يأذنَ اللهُ لأحدٍ بالشَّفاعةِ لَهُ.
وقولُهُم مردودٌ بما تواترَتْ بهِ الأحاديثُ في ذلِكَ.
قولُهُ: ((وهذه الشَّفاعةُ له ولسائرِ النَّبيينَ والصِّدِّيقيِنَ وغيرِهم))؛ فيشفعُ فيمن استحقَّ النَّارَ أنْ لا يدخلَها، ويشفعُ فيِمَنْ دخَلَها أنْ يخرجَ مِنْها، يعني: أنَّها لَيْسَتْ خاصَّةً بالنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَلْ تكونُ للنَّبيينَ؛ حَيْثُ يشفعون في عُصاةِ قَوْمِهِم، وللصِّدِّيقينَ يَشْفُعونَ في عصاةِ أقاربِهِم وغيرِهِم مِنَ المؤمنينَ، وكذلك تكونُ لغيرِهِم مِنَ الصَّالحِين، حتَّى يشفعَ الرَّجُلُ في أهلِهِ وفي جيرانِه وفيما أَشْبَهَ ذلِكَ.
قولُهُ: ((وَيُخْرِجُ اللهُ مِنْ النَّارِ أَقْوَامًا بِغَيْرِ شَفَاعَةٍ، بَلْ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ)):
يعني: أنَّ اللهَ تعالَى يخرجُ مِنْ عصاةِ المؤمنينَ مَنْ شاءَ بغيرِ شفاعةٍ، وهذا مِنْ نعمتِهِ؛ فإنَّ رحمتَهُ سبَقَتْ غضَبَه، فيشفعُ الأنبياءُ والصَّالحون والملائكةُ وغيرُهم، حتَّى لا يبقى إلَّا رحمةُ أرحمِ الرَّاحمينَ، فيخرجُ مِنَ النَّار مَنْ يخرجُ بدونِ شفاعةٍ، حتَّى لا يبقَى في النَّارِ إلَّا أهلها الَّذِين هُمْ أصحابُ النَّارِ.
فَقَدْ روى الشَّيخان البخاريُّ ومُسْلِمٌ مِنْ حديثِ أبي سعيدٍ الخدريِّ عنِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَنَّ اللهَ تعالَى يَقُولُ: شَفَعَتِ المَلائِكَةُ، وَشَفَعَ النَّبيُّونَ، وَشَفَعَ المُؤْمِنُونَ، وَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ أَرْحَمُ الرَّاحمينَ، فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ، فَيَخْرُجُ مِنْهَا قَوْماً لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطْ، قَدْ عَادُوا حِمَمًا …)) الحديث.

(2) الأمرُ الثَّاني عشر مما يكونُ يومَ القيامةِ وهو ما ذكَرَهُ المؤلِّفُ بقولِهِ: ((وَيَبْقى في الجنَّةِ فَضْلٌ عَمَّنْ دَخَلَها مِنْ أهْلِ الدُّنْيا)).
الجنَّةُ عرضُها السَّماواتُ والأرضُ، وهذه الجنَّةُ الَّتي عرضُها السَّماواتُ والأرضُ يدخلهُا أهلهُا، ولكنْ لا تمتلئُ.
وقَدْ تكفَّلَ اللهُ عزَّ وجلَّ للجنَّةِ وللنَّارِ لكلِّ واحدةٍ ملؤها:
((فَالنَّارُ لاَ تَزَالُ يُلْقَى فِيهَا وَهِيَ تَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟ فَلا تَمْتَلِئُ، فَيَضَعُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهَا قَدَمهُ، فَيَنْزَوِي بَعْضُها إِلى بَعْضٍ، وَتَقُولُ: قَطٍ قَطٍ)).
وأما الجنَّةُ؛ فيُنشِئُ لها أقواماً، فيدخلُونَ الجنَّةَ بفضلِ اللهِ ورحمتِهِ:
ثَبَتَ ذلِكَ في ((الصَّحيحينِ)) مِنْ حديثِ أنسِ بنِ مالكٍ رَضِي اللهُ عَنْهُ عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وعلَى آله وسلَّم، وهذا مقتضَى قولِهِ تعالَى: (كَتَبَ رَبُّكُم عَلَى نَفسِهِ الرَّحمَةَ) [الأنعام: 54]، وقولُ النَّبيِّ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فيما يرويه عَنْ ربِّهِ سبحانَه وتعالَى: ((إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي)).
وَلِهَذَا قَالَ المؤلِّفُ: ((فينشئُ اللهُ لها أقواماً، فيدخلُهُم الجنَّةَ)).
قولُهُ: ((وأصنافُ ما تضمنَتْهُ الدَّارُ الآخِرةُ مِنَ الحسابِ والثَّوابِ والعقابِ)):
الأصنافُ: الأنواعُ.
وسبقَ معنَى الحسابِ.
((والثَّوابُ)): جزاءُ الحسناتِ؛ الحَسَنَةُ بعشرِ أمثالِها إلى سَبْعمائةِ ضعفٍ إلى أضعافٍ كثيرةٍ.
((والعقابُ)): جزاءُ السَّيِّاتِ، ومَنْ جاءَ بالسَّيِّئةِ؛ فلا يجُزَى إلَّا مثلَها، وهُمْ لا يُظْلَمونَ.
قولُهُ: ((والجنَّةُ والنَّارُ)): ((الجنَّةُ)): هي الدَّارُ الَّتي أعدَّها اللهُ تعالَى لأوليائِه، وفيها ما تشْتَهِيِه الأنفسُ وتلَّذُ الأعينُ، وفيها ما لا عَينٌ رأَتْ ولا أذنٌ سَمِعَتْ ولا خَطَرَ على قلبِ بشرٍ؛ (فَلاَ تَعلَمُ نَفسٌ مَّا أُخفِىَ لَهُم من قُرَّةِ أَعيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعمَلُونَ) [السَّجدة: 17]؛ أيْ: لا تعلمُ حقيقَتَه وَكُنْهَهُ.
والجنَّةُ موجودةٌ الآنَ؛ لقولهِ تعالَى: (أُعِدَّت لِلمُتَّقِينَ)، والأحاديثُ في هذا المعنَى متواترةٌ.
ولا تزالُ باقيةً أبدَ الآبدينَ؛ لقولِهِ تعالَى: (وَأمَّا الَّذِين سُعِدُوا فَفِى الجنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيرَ مَجذُوذٍ) [هود: 108]، وقوله: (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا)؛ في آياتٍ متعددةٍ.
وأمَّا ((النَّارُ))؛ فهي الدَّارُ الَّتي أعدَّها اللهُ تعالَى لأعدائِهِ، وفيها مِنْ أنواعِ العذابِ والعقابِ ما لا يُطاقُ.
وهِيَ موجودةٌ الآنَ؛ لقولِهِ تعالَى: (أُعِدَّت لِلكَافِرِينَ) [آل عمران: 131]، والأحاديثُ في هذا المعنَى مستفيضةٌ مشهورةٌ.
وأهلُها خالدونَ فيها أبدًا؛ لقولِهِ تعالَى: (إِنَّ اللهَ لَعَنَ الكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُم سَعِيرًا خاَلِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) [الأحزاب: 64 – 65].
وقَدْ ذكَرَ اللهُ خلُودَهُم أبداً في ثلاثِ آياتٍ مِنَ القرآنِ؛ هذه أحدُها، والثَّانيةُ في آخرِ سورةِ النِّساءِ، والثَّالثةُ في سورةِ الجِنِّ، وهي ظاهرةٌ في أنَّ النَّارَ لا تزالُ باقيةً أبدَ الآبدينَ.
قولُهُ: ((وتفاصيلُ ذلِكَ مذكورةٌ في الكُتُبِ المنزَّلةِ مِنَ السَّماءِ))؛ يعني: مثلَ التَّوارةِ والإنجيلِ وصُحُفِ إبراهيمَ وموسى وغيرِهِما مِنَ الكُتُبِ المنزَّلةِ؛ فَقَدْ ذُكِرَ فيها ذلك مبيناً مفصَّلاً لحاجةِ النَّاسِ، بَلْ ضرورتهِم إلى بيانِهِ وتفصيلِهِ؛ إذ لا يمُكِنُهُم الاستقامةُ إلاّ بالإيمانِ باليومِ الآخِرِ الَّذِي يجُازَى فيِه كلُّ عاملٍ بما عَملَ مِنْ خَيْرٍ وشرٍّ.
قولُهُ: ((والآثارِ مِنَ العِلْمِ المأثُورِ عَنِ الأنبياءِ)):
اعلَمْ أنَّ العلْمَ المأثورَ عَنِ الأنبياءِ قسمانِ:
1 – قسمٌ ثَبَتَ بالوحِي، وهو ما ذُكِرَ في القرآنِ والسُّنَّةِ الصَّحيحةِ، وهذا لا شكَّ في قبولِهِ واعتقادِ مدلولِهِ.
2 – وقسمٌ آخرُ أتَى عَنْ طريقِ النَّقلِ غيرِ الوَحيِ، وهذا هُو الَّذِي دَخَلَ فيه الكَذِبُ والتَّحريفُ والتَّبديلُ والتَّغييرُ.
وَلِهَذَا لا بدَّ مِنْ أنْ يكونَ الإنسانُ حذراً مما ينقلُ بهذِهِ الطَّريقِ عَنِ الأنبياءِ السَّابقينَ، حتَّى قَالَ الرَّسولُ عليهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ((إِذَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الكِتَابِ؛ فَلا تُصَدِّقُوهُمْ وَلا تُكذِّبُوهُم، قُولُوا: آمَنَّا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ))؛ لأنَّكَ إنْ صدَّقْتَ؛ قَدْ تصدِّقُ بباطلٍ، وإنْ كذَّبَتَه؛ قد تُكذِّبُ بحقٍّ؛ فلا تصدِّقْ ولا تكذِّبْ؛ قُلْ: إنْ كانَ هذا مِنْ عِنْدَ اللهِ؛ فَقَدْ آمَنْتُ بهِ.
وقد قَسّمَ العلماءُ ما أُثِرَ عَمَّنْ سَبَقَ ثلاثةَ أقسامٍ:
الأوَّلَ: ما شَهِدَ شرْعُنا بصدْقِهِ.
والثَّاني: ما شَهِدَ شَرْعُنا بكذِبِه.
والحُكْمُ في هذَينِ واضحٌ.
الثَّالثَ: ما لم يحكُمْ بصدْقِهِ ولا كذِبِه.
فهذا مما يجبُ فيه التَّوقُّفُ؛ لا يصدَّقُ ولا يكذَّبُ.
قولُهُ: ((وفي العِلْمِ الموروثِ عَنْ محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذلِكَ ما يشفِي ويكفِي)):
العلمُ الموروثُ عَنْ محمَّدٍ صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه سواءٌ في كتابِ اللهِ أو في سُنَّةِ رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه مِنْ ذَلِكَ ما يشفِي ويكفِي.
فلا حاجةَ إلى أنْ نبحثَ عَنْ مواعظَ ترقِّقُ القلوبَ مِنْ غيرِ الكتابِ والسُّنَّةِ، بَلْ نحنُ في غِنىً عَنْ هذا كلِّه؛ ففِي العِلْمِ الموروثِ عَنْ محمَّدٍ رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يشفِي ويكفِي في كلِّ أبوابِ العلمِ والإيمانِ.
ثم المنسوبُ إلى رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بابِ الوعظِ والفضائلِ ترغيباً أو ترهيباً ينقسمُ إلى ثلاثةِ أقسامٍ: صحيحٍ مقبولٍ، وضعيفٍ، وموضوعٍ؛ فَلَيْسَ كلُّه صحيحاً مقبولاً، ونحنُ في غنىً عَنِ الضَّعيفِ والموضوعِ.
-فالموضوعُ اتَّفقَ العلماءُ رحمَهُم اللهُ على أنَّهُ لا يجوزُ ذكرُهُ ونشرُهُ بينَ النَّاسِ؛ لا في بابِ الفضائلِ والتَّرغيبِ والتَّرهيبِ، ولا في غيرِه؛ إلاَّ مَنْ ذكَرَهُ ليبيِّنَ حالَهُ.
-والضَّعيفُ اختلفَ فيه العلماءُ، والَّذِين قَالُوا بجوازِ نَشْرِهِ ونَقْلِه اشترطوا فيه ثلاثةَ شروطٍ:
الشَّرطِ الأوَّلِ: أنْ لا يكونَ الضَّعفُ شديداً.
الشَّرطِ الثَّاني: أنْ يكونَ أصلُ العملِ الَّذِي رُتِّبَ عليه الثَّوابُ أو العقابُ ثابتاً بدليلٍ صحيحٍ.
الشَّرطِ الثَّالثِ: أنْ لا يُعتقدُ أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ، بَلْ يكونُ مُتردِّداً غيرَ جازمٍ، لكنَّهُ راجٍ في بابِ التَّرغيبِ، خائفٌ في بابِ التَّرهيبِ.
أما صيغةُ عرضِهِ؛ فلا يقولُ: قَالَ رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَلْ يقولُ: رُوِيَ عَنْ رسولِ اللهِ، أو: ذُكِرَ عَنْهُ… وما أشْبَه ذلِكَ.
فإنْ كنْتَ في عوامٍّ لا يُفرِّقونَ بَيْنَ ذُكِرَ وقِيلَ وقَالَ؛ فلا تأتِ بهِ أبداً؛ لأنَّ العامِّيَّ يعتقدُ أنَّ الرَّسولَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَهُ؛ فما قيِل في المحرابِ؛ فهو عِنْدَه الصَّوابُ!
تنبيه:
هذا البابُ –أيْ: بابُ اليومِ الآخِرِ وأشراطِ السَّاعةِ- ذُكِرَتْ فيه أحاديثُ كثيرةٌ فيها ضعْفٌ وفيها وضْعٌ، وأكثرُ ما تكونُ هذه في كُتُبِ الرَّقائقِ والمواعظِ؛ فلذلِكَ يجبُ التحرُّزُ مِنْها، وأنْ نحذِّرَ العامَّةَ الَّذِين يقعُ في أيدِيهم مثلُ هذه الكُتُبِ.
قولُهُ: ((فَمَنْ ابْتَغَاهُ))؛ أيْ: طلَبَه: ((وَجَدَه)).
وهذا صحيحٌ؛ فالقرآنُ بَيْنَ أيديِنا، وكُتبُ الأحاديثِ بينَ أيدِينا، لكنَّها تحتاجُ إلى تنقيحٍ وبيانِ الصَّحيحِ منها والضَّعيفِ، حتَّى يَبْنِيَ النَّاسُ ما يعتقدُونَهُ في هذا البابِ على أساسٍ سليمٍ).