11 Nov 2008
لا تنافي بين العلو والمعية
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: ((أَفْضَلُ الإيمَانِ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ الله َمَعَكَ حَيْثُمَا كُنْتَ)) حَدِيثٌ حَسَنٌ . وَقَوْلُهُ : ((إِذَا
قَامَ أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَإِنَّ اللهَ قِبَلَ وَجْهِهِ ، فَلاَ
يَبْصُقْ قِبَلَ وَجْهِهِ ، وَلاَ عَنْ يَمينِهِ ، وَلَكِنْ عَنْ
يَسَارِهِ ، أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ)) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: ((اللَّهُمَّ
رَبَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ ، وَرَبَّ العَرْشِ العَظِيمِ ، رَبَّنَا
وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ , فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى ، مُنْزِلَ
التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالقُرْآنِ ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ
دَابَّةٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِها ، أَنْتَ الأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ
شَيْءٌ ، وَأَنْتَ الآخِرُ ، فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ ، وَأَنْتَ
الظَّاهِرُ ، فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ ، وَأَنْتَ البَاطِنُ ، فَلَيْسَ
دُونَكَ شَيْءٌ ، اقْضِِ عَنِي الدَّيْنَ وَأَغْنِنِي مِن الفَقْرِ)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ . وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا رَفَعَ أصحابه أَصْوَاتَهم باِلذِّكْرِ: ((أَيُّهَا
النَّاسُ ، ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُم ؛ فَإِنَّكُمْ لاَ تَدْعُونَ
أَصَمَّ وَلاَ غَائِبًا ، إَِنَّمَا تَدْعُونََ سَمِيعًا قَرِيبًا ، إِنَّ
الَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إِِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ)) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (قوله: ((أَفْضَلُ الإيمانِ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ اللهَ مَعَكَ حَيْثُما كُنْتَ)). حديث حسن، أخرجه الطبراني من حديث عبادة بن الصامت: (1)
قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إذا
قامَ أحَدُكُمْ إلى الصَّلاةِ؛ فَلا يَبْصُقَنَّ قِبَلَ وَجْهِهِ، وَلا
عَنْ يَمينِهِ؛ فإنَّ اللهَ قِبَلَ وَجْهِهِ، ولكِنْ عَنْ يَسارِهِ، أو
تَحْتَ قَدَمِهِ)). متفق عليه.(2)
قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((اللهُمَّ! رَبَّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَالأرْضِ وَرَبَّ العَرْشِ
العَظيمِ! رَبَّنا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ! فالِقَ الحَبِّ والنَّوَى!
مُنْزِلَ التَّوْراةِ وَالإنْجِيلِ وَالقُرْآنِ! أعوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ
نَفْسي، وَمِنْ شَرِّ كُلِّ دابَّةٍ أنْتَ آخِذٌ بِناصِيَتِها. أنْتَ
الأوَّلُ؛ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وأنْتَ الآخِرُ؛ فَلَيْسَ بَعْدَكَ
شَيْءٌ، وأنْتَ الظَّاهِرُ؛ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، وأنْتَ الباطِنُ؛
فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ؛ اقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ، وأغْنِني مِنَ
الفَقْرِ)). رواه مسلم.(3)
قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمَّا
رفع الصحابةُ أصواتَهم بالذِّكرِ: ((أيُّها النَّاسُ! ارْبَعُوا عَلى
أنْفُسِكُمْ؛ فَإِنَّكُمْ لا تَدْعُون أصَمَّ وَلا غائِباً؛ إنَّما
تَدْعونَ سَميعاً بَصيراً؛ إنَّ الذي تَدْعونَهُ أقْرَبُ إلى أحَدِكُمْ
مِنْ عُنُقِ راحِلَتِهِ)). متفق عليه.(4) ).
الشرح:
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (الحديثُ الثَّاني عشر: في إثْباتِ المعيةِ
(1) أفادَ الحديثُ معيَّةَ اللهِ عزَّ وجلَّ، وقَدْ سبقَ في الآياتِ أنَّ
معيَّةَ اللهِ لا تستلزمُ أنْ يكونَ في الأرضِ، بَلْ يمتنعُ غايةَ
الامتناعِ أنْ يكونَ في الأرضِ؛ لأنَّ العلوَّ مِنْ صفاتِهِ الذَّاتيَّةِ
الَّتي لا ينفكُّ عنها أبداً، بَلْ هي لازمةٌ له سبحانَه وتعالَى.
وسبقَ أيضاً أنهَّا قسمانِ.
وقولُ الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: ((أفضلُ الإيمَانِ أنْ تعلَمَ)): يدلُّ على أنَّ الإيمَانَ
يتفاضلُ؛ لأنَّك إذا علِمْتَ أنَّ اللهَ مَعَكَ حيثُما كُنْتَ؛ خِفتَ منه
عزَّ وجلَّ وعظَّمْتَهُ.
لو كنْتَ في حُجْرةٍ مظلمةٍ لَيْسَ فيها أحدٌ؛
فاعلمْ أنَّ اللهَ معكَ، لا في الحجرةِ؛ لكنَّهُ سبحانَهُ وتعالَى معَكَ؛
لإحاطتِهِ بِكَ علماً وقُدْرةً وسلطاناً وغيرَ ذلِكَ مِنْ معانِي
ربوبيتِهِ.
الحديثُ الثَّالثُ عشر: في إثْباتِ كَوْنِ اللهِ قِبَلَ وَجهِ المُصَلِّي
(2) ((قَبِلَ وجهِهِ))؛ يعني: أمامَهُ.
قَالَ اللهُ تعالَى: (وَلِلَّهِ المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) [البقرة: 115].
((يمينهِ)): وَرَدَ فيه حديثٌ: ((فَإِنَّ عَنْ
يَمِينِهِ مَلكاً))، ولأنَّ اليمينَ أفضلُ مِنَ الشِّمالِ، فيكونُ اليسارُ
أَوْلَى بالبُصاقِ ونحوِه، وَلِهَذَا قَالَ: ((وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ
أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ)).
فإنْ كانَ في المسجدِ؛ قَالَ العلماءُ: فإنَّهُ
يجعلُ البُصاقَ في خرقةٍ أو منديلٍ أو ثوبهِ، ويحكُّ بعضَه ببعضٍ، حتَّى
تزولَ صورةُ البُصاقِ، وإذا كانَ الإنسانُ في المسجدِ عِنْدَ الجدارِ،
والجدارُ قصيرٌ عن يسارِهِ؛ فإنَّه يمكنُ أنْ يبصقَ عَنْ يسارِهِ إذا لم
يؤذِ أحداً مِنَ المارّةِ.
يُستفادُ مِنْ هذا الحديثِ: أنَّ اللهَ تباركَ
وتعالَى أمامَ وجهِ المصلِّي، ولكنْ يجبُ أنْ نعلَمَ أنَّ الَّذِي قَالَ:
إنَّهُ أمامَ وجهِ المصلِّي؛ هو الَّذِي قَالَ: إنَّهُ في السَّماءِ، ولا
تناقضَ في كلامِهِ هذا وهذا؛ إذ يمكنُ الجمعُ مِنْ ثلاثةِ أوجهٍ:
الوجهِ الأوَّلِ: أنَّ الشَّرْعَ جَمَعَ بَيْنَهما، ولا يجمعُ بَيْنَ متناقضَينِ.
الوجهِ الثَّاني: أنَّهُ يمكنُ أنْ يكونَ
الشَّيءُ عالياً، وهو قِبَل وجهِكَ؛ فها هو الرَّجُلُ يستقبلُ الشَّمسَ
أوَّلَ النهارِ، فتكونُ أمامَهُ، وهِيَ في السَّماءِ، ويستقبلُها في آخرِ
النهارِ، تكونُ أمامَهُ، وهي في السَّماءِ؛ فإذا كانَ هذا ممكناً في
المخلوقِ؛ ففِي الخالقِ مِنْ بابِ أَوْلَى بلا شكٍّ.
الوجهِ الثَّالثِ: هَبْ أنَّ هذا ممتنعٌ في
المخلوقِ؛ فإنَّهُ لا يمتنعُ في الخالقِ؛ لأنَّ اللهَ تعالَى لَيْسَ
كمثْلِهِ شيءٌ في جميعِ صفاتِهِ.
يُستفادُ مِنْ هذا الحديثِ مِنَ النَّاحيةِ
المسْلَكيَّةِ وجوبُ الأدبِ مَعَ اللهِ عزَّ وجلَّ ويُستفادُ أنَّهُ متى
آمَنَ المصَلِّي بذلِكَ فإنَّهُ يحدثُ له خشوعاً وهيبةً مِنَ اللهِ عزَّ
وجلَّ.
الحديثُ الرابعُ عشر: في إثْباتِ العُلُوّ وصفاتٍ أخرى
(3) هذا
حديثٌ عظيمٌ، توسَّلَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى
اللهِ تعالَى بربوبيتِهِ في قولِهِ: ((اللَّهمَّ! رَبَّ السَّماواتِ
السَّبْعِ وَالأَرْضِ! وَرَبَّ العَرْشِ العَظِيمِ! رَبّنا وَرَبَّ كُلِّ
شَيْءٍ!))، وهذا مِنْ بابِ التعميمِ بَعْدَ التَّخصيصِ في قولِهِ: ((وربَّ
كلِّ شيءٍ))، وهذا التَّعميمُ بعدَ التَّخصيصِ؛ لئلا يَتوهمَ واهمٌ اختصاصَ
الحكمِ بما خُصِّصَ بهِ.
وانظرْ إلى قولِهِ تعالَى: (إِنَّمَا أُمِرْتُ
أَنْ أعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ البَلْدَةِ الَّذِى حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ
شَىْءٍ) [النمل: 91]؛ حيثُ قَالَ: (وَلَهُ كُلُّ شَىْءٍ)؛ حتَّى لا يَظنَّ
ظانٌّ أنَّهُ لَيْسَ ربًّا إلَّا لهذه البلدةِ.
((فالقَ الحبِّ والنَّوى)): حبِّ الزَّرعِ.
و((النَّوىَ)): نوى الغرسِ؛ فالأشجارُ الَّتي تخرجُ: أمَّا زروعٌ أصلُهَا
الحبُّ، وأمَّا أشجارٌ أصلُها النَّوى؛ فما للأشجارِ يُسمَّى نوىً،وما
للزُّروعِ يُسَمَّى حبًّا؛ (فَالِقُ الحَبِّ وَالنَّوَى) [الأنعام: 95].
هذا الحبُّ والنَّوى اليابسُ الَّذِي لا ينمُو
ولا يزيدُ؛ يفلقُهُ الرَّبُّ عزَّ وجلَّ؛ أيْ: يفتحُهُ حتَّى تخرجَ منْهُ
الأشجارُ والزُّروعُ، ولا يستطيعُ أحدٌ أنْ يفعلَ ذلِكَ؛ مهما بلغَ
النَّاسُ في القدرةِ؛ ما استطاعوا أنْ يفلقُوا حبَّةً واحدةً أبداً!
والنَّوى كذلِكَ الَّذِي كالحجرِ؛ لا ينمُو، ولا يزيدُ؛ يفلقُهُ اللهُ عزَّ
وجلَّ، وينفرجُ، ثم تكونُ منه الغريسةُ الَّتي تنمُو، ولا أحدَ يستطيعُ
ذلِكَ؛ إلاَّ الَّذِي فلَقَها سبحانه وتعالَى.
ولمَّا ذكَرَ الآيةَ الكونيَّةَ العظيمةَ؛ ذكَرَ الآياتِ الشَّرعيَّةَ؛ وهي:
قولُهُ: ((منزلَ التَّوراةِ والإنجيلِ
والقرآنِ)): وهذه أعظمُ كُتُبٍ أنزَلَها اللهُ عزَّ وجلَّ، وبدأَها على
التَّرتيبِ الزَّمِني: التَّوراةِ على موسى، والإنجيلِ على عيسى، والفرقانِ
على محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفي هذا نصٌّ صريحٌ على أنَّ التَّوراةَ منزَّلةٌ
كما جاءَ في القرآنِ: (إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوراةَ فِيهَا هُدًى
وَنُورٌ) [المائدة: 44]، وقَالَ في أوَّلِ سورةِ آلِ عمرانَ: (نَزَّلَ
عَلَيْكَ الكِتَابَ بالحقِّ مَصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ
التَّوراةَ والإِنجِيلَ، مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ
الفُرْقَانَ) [آل عمران: 3-4].
قوله: ((أعوذُ بِكَ مِنْ شرِّ نفسِي)): أعتصمُ باللهِ مِنْ شرِّ نفسِي.
إذاً؛ في نفسِك شرٌّ؛ (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِى إِنَّ النَّفسَ لأمَّارَةٌ بالسُّوءِ) [يوسف: 53].
لكنِ النَّفسُ نفسانِ:
-نفسٌ مُطْمئنَّةٌ طيِّبةٌ تأمُرُ بالخَيرِ.
-ونفسٌ شِريرةٌ أمَّارةٌ بالسُّوءِ.
والنَّفسُ اللَّوَّامةُ؛ هَلْ هِيَ ثالثةٌ، أو وصفٌ للثِّنتينِ السَّابقتينِ؟!
فيه خلافٌ: بعضُهُم يقولُ: إنَّها نفسٌ
ثالثةٌ.وبعضُهُم يقولُ: هِيَ وصفٌ للثِّنتينِ السَّابقتينِ؛ فالمطمئنةُ
تلومُكَ، والأمَّارةُ بالسُّوءِ تلومُكَ؛ فيكونُ قولُهُ تعالَى: (وَلاَ
أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) [القيامة: 2]؛ يشملُ النَّفسَيْنِ
جميعاً.
فالمطمئنةُ تلومُكَ على التَّقصيرِ في الواجبِ؛ إذا أهملتَ واجباً؛ لامَتْكَ، وإذا فَعَلْتَ محرماً؛ لامَتْكَ.
والأمَّارةُ بالعكسِ؛ إذا فَعَلتَ الخيرَ؛ لامَتْكَ، وتلومُكَ إذا فوَّتَّ ما تأمرُك بهِ مِنَ السُّوءِ.
إذاً؛ صارتِ اللَّوَّامةُ على القولِ الرَّاجحِ وصفاً للنَّفسَيْنِ معاً.
وقولُهُ هنا: ((أعوذُ بِكَ مِنْ شرِّ نفسِي)): المرادُ بِها النَّفسُ الأمَّارةُ بالسُّوءِ.
قولُهُ: ((ومِنْ شرِّ كلِّ دابَّةٍ أنْتَ آخذٌ
بناصِيتِها)): الدَّابَّةُ: كلُّ ما يدبُّ على الأرضِ، حتَّى الَّذِي يمشِي
على بطنِهِ داخلٌ في هذا الحديثِ؛ كقولِهِ تعالَى: (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ
دَابَّةٍ مِّن مَّاءٍ فَمِنْهُم من يَمْشِى عَلَى بَطْنِهِ) [النور: 45]،
وقولُهُ: (وَمَا مِن دَابَّةٍ في الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا)
[هود: 7].
وإنْ كانَتِ الدَّابَّةُ تُطلقُ في العُرفِ على
ذواتِ الأربعِ، وفي عُرفٍ أخصٍّ تطلقُ على الحمارِ فَقَطْ، لكنَّها في مثلِ
هذا الحديثِ يُرادُ بِها كلُّ ما يدبُّ على الأرضِ، وما يدبُّ على الأرضِ
فيه شرورٌ، أمَّا بعضُهُ؛ فشرٌّ محضٌ بالنِّسبَةِ لذاتِهِ، وأمَّا بعضُهُ؛
ففِيهِ خيرٌ وفيه شرٌّ وحتَّى الَّذِي فيه خيرٌ؛ لا يسلَمُ مِنَ الشرِّ.
قولُهُ: ((أنْتَ آخذٌ بناصيتِها)): النَّاصيةُ:
مُقدَّمِ الرَّأس]، وإنَّما نصَّ على النَّاصيةِ؛ لأنَّهُ هو المقدَّمُ،
وهُوَ الَّذِي يُمسَكُ بهِ لقيادةِ البعيرِ وشبهِهِ. وقِيلَ: خُصَّ ذلِكَ؛
لأنَّ المخَّ الَّذِي فيه التصوُّرُ والتَّلقِي يكونُ في مقدِّمةِ
الرَّأس]، والعلمُ عِنْدَ اللهِ.
قولُهُ: ((أنْتَ الأوَّلُ؛ فلَيْسَ قَبْلَكَ
شيءٌ)): هذا تفسيرٌ مِنَ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لقولِهِ: ((الأوَّلُ))، والأوَّلُ مِنْ أسماءِ اللهِ.
وقد ذكَرْنا عِنْدَ تفسيرِ الآيةِ أنَّ أهلَ
الفلسفَةِ يُسمُّونَ اللهَ: القديمَ، وذكَرْنا أنَّ القديمَ لَيْسَ مِنْ
أسماءِ اللهِ الحُسنى، وأنَّهُ لا يجوزُ أنْ يُسمَّى به، لكنْ يجوزُ أنْ
يُخبرَ بهِ عَنْهُ، وبابُ الخبرِ أوسعُ مِنْ بابِ التَّسميةِ؛ لأنَّ
القديمَ لَيْسَ مِنَ الأسماءِ الحسنى، والقديمُ فيه نقصٌ؛ لأنَّ القِدَمَ
قَدْ يكونُ قدماً نسبيًّا؛ ألَمْ ترَ إلى قولِهِ تعالَى: (وَالقَمَرَ
قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حتَّى عَادَ كَالعُرْجُونِ القَدِيمِ) [يس: 3]،
والعرجونْ القديمُ حادثٌ، لكنَّهُ قديمٌ بالنِّسبَةِ لما بعدَه.
قولُهُ: ((وأنْتَ الظَّاهرُ؛ فَلَيْسَ فَوْقَكَ
شيءٌ)): الظَّاهرُ مِنَ الظُّهورِ، وهُوَ العُلُوّ؛ كَما قَالَ تعالَى:
(فَمَا اسْطَاعُوا أن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً)
[الكهف: 97]؛ (يَظْهَرُوهُ)؛ أي: يعلُو عليه.
وأمَّا مَنْ قَالَ: الظَّاهرُ بآياتِهِ؛ فهذا
خطأٌ؛ لأنَّهُ لا أحدَ أعلَمُ بتفسيرِ كلامِ اللهِ مِنْ رسولِ اللهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقَدْ قَالَ: ((الظَّاهرُ؛ فلَيْسَ فوقَكَ
شيءٌ))؛ بَلْ هو فوقَ كلِّ شيءٍ سبحانَهُ.
قولُهُ: ((وأنْتَ الباطنُ؛ فَلَيْسَ دونَك
شيءٌ)): المعنَى: لَيْسَ دونَ اللهِ شيءٌ، لا أحدَ يدبِّرُ دونَ اللهِ، ولا
أحدَ ينفردُ بشيءٍ دونَ اللهِ، ولا أحدَ يخفَى على اللهِ؛ كلُّ شيءٍ
فاللهُ محيطٌ بهِ، وَلِهَذَا قَالَ: ((لَيْسَ دونَكَ شيءٌ))؛ يعني: لا
يحولُ دونَكَ شيءٌ، ولا يُمنَعُ دونك شيءٌ، ولا ينفعُ ذا الجدِّ منك
الجدُّ… وهكذا.
قولُهُ: ((اقضِ عنِّي الدَّينَ)): الدَّينَ: ما
يستحقُّ على الإنسانِ مِنْ مالٍ أو حقٍّ؛ اشتريتُ مِنْكَ حاجةً، ولم
أُنْقدْكَ الثَّمنَ؛ فهذا يُسمَّى ديناً، وإنْ كانَ غيرَ مُؤَجَّلٍ.
قولُهُ: ((وأغْنِني مِنَ الفقرِ)): الفقرُ:
خُلوُّ ذاتِ اليدِ، ولا شكَّ أنَّ الفقرَ فيه إيلامٌ للنَّفسِ، والدَّينُ
فيه ذُلٌّ؛ المدينُ ذليلٌ للدائنِ، والفقيرُ معوزٌ ربمَّا يجرُّهُ الفقرُ
إلى أمرٍ محرَّمٍ.
ألمْ يأتِكُمْ نبأُ الثَّلاثةِ الَّذِين انطبَقَ
عليهم الغارُ، فتوسَّلَ كلُّ واحدٍ منهم بصالحِ عَمَلِهِ، وكانَ لأحدِهِم
ابنةُ عَمٍّ أعجبَتْهُ، وكانَ يراودُها عن نفسِها، ولكنَّها كانَتْ تأبى
ذلِكَ، فألمَّتْ بِها سَنةٌ مِنَ السِّنين، واحتاجَتْ، وجاءَتْ إليه تطلبُ
منه أنْ يعينَها، فأبى عليها؛ إلا أنْ تمكِّنَهُ مِنْ نفسِها، ومِنْ أجلِ
ضرورتِها؛ وافَقَتْ على هذا، فلما جَلَسَ منها مجلسَ الرَّجُلِ مِنْ
امرأتِهِ؛ قَالَتْ له: يا هذا! اتَّقِ اللهَ! ولا تفضَّ الخاتمَ إلا
بحقِّهِ! وأثَّرَتْ هذه الكلمةُ في الرَّجلِ عندما كانَتْ نابعةً مِنَ
القلبِ، فقامَ عَنْها. قَالَ: فقمْتُ عَنْها وهي أحبُّ النَّاسِ إليَّ.
لكنْ ذكَّرَتْهُ هذه الموعظةُ الكريمةُ؛ فأقلَعَ.
فانظرْ إلى الفقرِ؛ فإنَّ هذه المرأةَ أرادَتْ أنْ تبيعَ عِرضَها بسببِ الفقرِ.
إذاً؛ قولُ الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: ((أغْنِني مِنَ الفقرِ)): سألَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ربَّهُ أنْ يغنيَهُ مِنَ الفقرِ؛ لأنَّ الفقرَ له آفاتٌ عظيمةٌ.
وفي هذا الحديثِ أسماءٌ وصفاتٌ:
-فَمِنَ الأسماءِ: الأوَّلُ، والآخِرُ، والظَّاهرُ، والباطنُ.
-ومن الصِّفاتِ: الأوَّليَّةِ والآخِريَّةِ،
وفيهما الإحاطةُ الزَّمانيَّةُ. والظَّاهريَّةُ والباطنيَّةُ، وفيهما
الإحاطةُ المكانيَّةُ. ومِنْها: العُلُوّ، وعمومُ ربوبيتِه، وتمامُ
قدرتِهِ. ومنها: كمالُ رحمتِهِ وحكمتِهِ بإنزالِ الكتبِ؛ لتحكمَ بينَ
النَّاسِ وتهديِهم صراطَ اللهِ.
ومِنْ غيرِ الأسماءِ والصِّفاتِ: التوسُّلُ إلى
اللهِ بصفاتِ اللهِ، والتَّحذيرُ مِنْ شرِّ النفوسِ، وسؤالُ النبيّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنْ يقضيَ اللهُ دينَهُ ويغنيَهُ مِنَ الفقرِ،
وبيانُ ضعفِ الحديثِ الَّذِي فيه سؤالُ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أن يحييهَ ربُّه مسكيناً.
وفيه مِنَ الفوائدِ المسْلَكيَّةِ: التَّحذيرُ
مِنْ شرِّ النَّفْسِ، وتعظيمُ شأنِ الدَّينِ، وأنْ يحرصَ على تلافي
الدَّينِ بقدرِ الإمكانِ، ويقتصدُ في مالِهِ طلباً وتصرُّفاً؛ لأنَّه إذا
اقتصدَ في ذلِكَ؛ سَلِمَ غالباً مِنَ الفقرِ والدَّينِ.
الحديثُ الخامسُ عشر: في إثْباتِ قُربِ اللهِ تعالَى
(4)
كانَ الصَّحابةُ رَضِي اللهُ عَنْهُم مَعَ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ إذا علوا نَشْزاً؛ كبَّروا، وإذا نزلوا وادياً؛
سبَّحوا؛ لأنَّ الإنسانَ إذا ارتفعَ؛ قد يتعاظمُ في نفسِهِ، ويرى أنه
مرتفِعٌ عظيمٌ؛ فناسبَ أنْ يقولَ: اللهُ أكبرُ! تذكيراً لنفسِهِ بكبرياءِ
اللهِ عزَّ وجلَّ، وأمَّا إذا نزَلَ؛ فهذا سُفولٌ ونزولٌ، فيقولُ: سبحانَ
اللهِ! تذكيراً لنفسِهِ بتنزُّهِ اللهِ عَنِ السفْلِ. فكانَ الصَّحابةُ
رَضِي اللهُ عَنْهُم يرفعون أصواتَهُم بالذكرِ جدًّا، فقَالَ النَّبيُّ
عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:
((أيُّها النَّاسُ! ارْبَعُوا على أنفُسِكُم))؛ يعني: هوّنوا عليها.
((فإنَّكم لا تَدْعونَ أصمَّ ولا غائباً))؛ لا تَدْعونَ أصمَّ لا يسمعُ، ولا غائباً لا يَرَى.
((إنَّما تَدْعونَ سميعاً))؛ يسمعُ ذكرَكُم، ((بصيراً))؛ يرى أفعالَكُم.
((إنَّ الَّذِي تدعونَه أقربُ إلى أحدِكُم مِنْ
عُنقِ راحلتِهِ)): عُنُقِ الراحلةِ للراكبِ قريبٌ جدًّا؛ فاللهُ تعالَى
أقربُ مِنْ هذا إلى الإنسانِ، ومَعَ هذا؛ فهو فوقَ سمواتِه على عرشِهِ.
ولا منافاةَ بَيْنَ القُرْبِ والعُلُوِّ؛ لأنَّ
الشَّيءَ قد يكونُ بعيداً قريباً؛ هذا بالنِّسْبَةِ للمخلوقِ؛ فكَيْفَ
بالخالقِ؟! فالرَّبُّ عزَّ وجلَّ قريبٌ مع علُوِّهِ، أقربُ إلى أحدِنا مِنْ
عُنُقِ راحلتِهِ.
هذا الحديثُ فيه فوائدُ:
-فيه شيءٌ مِنَ الصِّفاتِ السَّلْبيَّةِ: نفِي كونِهِ أصمَّ أو غائباً؛ لكمالِ سمعِهِ ولكمالِ بصرِهِ وعلمِهِ وقُربِهِ.
-وفيه أيضاً أنَّهُ ينبغِي للإنسانِ ألاَّ يشقَّ
على نفسِهِ في العبادةِ؛ لأنَّ الإنسانَ إذا شقَّ على نفسِهِ؛ تَعِبَتِ
النَّفسُ وملَّتْ، وربَّما يتأثَّرُ البدنُ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبيُّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَكْلِفُوا مِنَ العَمَلِ مَا
تُطِيقُونَ؛ فَإِنَّ اللهَ لاَ يَمَلُّ حتَّى تَمَلُّوا)).
فلا ينبغِي للإنسانِ أنْ يشقَّ على نفسِهِ، بَلْ
ينبغِي أنْ يسُوسَ نفسَهُ: إذا وجَدَ منها نشاطاً في العبادةِ؛ عملَ
واستغلَّ النشاطَ، وإذا رأى فتوراً في غيرِ الواجباتِ، أو أنهَّا تميلُ إلى
شيءٍ آخرَ مِنَ العباداتِ؛ وَجَّهها إليه.
حتَّى أنَّ الرَّسولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أمَرَ مَنْ نَعِسَ في صلاتِهِ أنْ ينامَ ويدعَ الصَّلاةَ؛ قَالَ:
((فَإِنَّ أَحَدَكُم إِذَا صلَّى وَهُوَ نَاعِسٌ لاَ يَدْرِي لَعَلَّهُ
يَسْتَغْفِرُ فَيسُبَّ نَفْسَه)).
وَلِهَذَا كانَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يصومُ حتَّى يقولَ القائلُ: لا يُفطِرُ، ويُفطِرُ حتَّى يقولَ
القائلُ: لا يصومُ، وكذلِكَ في القيامِ والنَّومِ.
-وفيه أيضاً: أنَّ اللهَ قريبٌ، وقد دلَّ عليه
قولُهُ تعالَى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِى عَنِّى فَإِنِّى قَرِيبٌ
أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) [البقرة: 186].
ونستفيدُ مِنْ هذا الحديثِ مِنَ النَّاحيةِ المسْلَكيَّةِ:
-أنَّه لا ينبغِي لنا أنْ نشقَّ على أنفسِنا بالعباداتِ، وأنْ يكونَ سيرُنا إلى اللهِ وسطاً؛ لا تفريطَ ولا إفراطَ.
-وفيه أيضاً: الحذرُ مِنَ اللهِ؛ لأنَّهُ سميعٌ وقريبٌ وبصيرٌ، فنبتعدَ عن مخالفتِهِ.
-وفيه أيضاً مِنَ النَّاحيةِ الحُكْميةِ: جوازُ
تشبيهِ الغائبِ بالحاضرِ للإيضاحِ؛ حيثُ قَالَ: ((إِنَّ الَّذِي
تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إِلى أَحَدِكُم مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ)).
-وفيه أيضاً أنَّهُ ينبغِي أنْ يراعيَ الإنسانُ
في المعاني ما كانَ أقربَ إلى الفهمِ؛ لأنَّ هؤلاءِ مسافرونَ، وكلٌّ
مِنْهُم على راحلتِهِ، وإذا ضُربَ المثلُ بما هو قريبٌ؛ فلا أحسنَ مِنْ هذا
المثلِ الَّذِي ذكَرَهُ النَّبيُّ عليهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ).
التنبيهات اللطيفة فيما احتوت عليه الواسطية من المباحث المنيفة لابن سعدي رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وقوله: ((أفضلُ الإيمانِ أن تعلمَ أنّ الله معكَ حيثُ ما كُنْتَ)) حديث حسن.
وقوله: ((إذا
قام أحدُكُم إلى الصلاة فلا يبْصُقْ قِبَلَ وجْهِهِ ولا عن يَمينِهِ فإنّ
الله قَبِلَ وَجْهِهِ، ولكن عن يسارِه أو تحت قَدَمِهِ)) متفق عليه([1]).
وقوله: ((اللّهُمّ
ربَّ السماواتِ السبعِ وربَّ العرشِ العظيمِ، ربّنا وربَّ كلِّ شيءٍ
فَالِقَ الحَبِّ والنَّوى، مُنزِلَ التوراةِ والإنجيلِ والقرآنِ أعوذُ بكَ
من شرِّ نفسي ومِنْ شرِّ كلِّ دابَّةٍ أنتَ آخِذٌ بناصِيَتِها. أنتَ الأولُ
فليسَ قبْلكَ شيءٌ وأنتَ الآخِرُ فليسَ بعدَكَ شيءٌ، وأنتَ الظاهرُ فليسَ
فوقَكَ شيءٌ، وأنتَ الباطِنُ فليسَ دونَكَ شيءٌ، اقضِ عني الدَّيْنَ
وأغنِني مِنَ الفَقْرِ)) رواه مسلم.
وقوله لما رفعَ الصَّحابةُ أصواتَهم بالذِّكرِ: ((أيُّها
الناسُ اربَعوا على أنفُسِكُم فإنّكم لا تدْعون أصَمَّ ولا غائباً إنما
تدْعونَ سميعاً بصيراً قريباً، إنّ الذي تدْعونَه أقربُ إلى أحدِكم من
عُنُق راحِلَتِه)) متفق عليه).
الشرح:
قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): (([1]) وقوله صلى الله عليه وسلم: ((أفضلُ الإيمانِ أن تعلمَ أنّ الله معكَ حيثُ ما كُنْتَ)) حديث حسن. وقوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا قام أحدُكُم إلى الصلاة فلا يبْصُقْ قِبَلَ وجْهِهِ ولا عن يَمينِهِ فإنّ الله قَبِلَ وَجْهِهِ، ولكن عن يسارِه أو تحت قَدَمِهِ)) متفق عليه. هذان الحديثان دلاّ على أن أفضل الإيمان مقام الإحسان والمراقبة وهو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وتعلم أن الله معك، لا تتكلم ولا تفعل ولا تتصرف إلا والله يراك ويشاهدك ويعلم سرّك وجهركَ، وأن تلزم الأدب مع الله خصوصاً إذا دخلتَ في الصلاة التي هي أعظم صلة ومناجاة بين العبد وربّه، فتخضع وتخشع، وتعلم أنك واقف بين يدي الله، فتقلل من الحركات، ولا تسيء الأدب معه بالبصاق أمامك أو عن يمينك، فهذه المعية متى حصل للبعد استحضارها في كل أحواله، لا سيما في عباداته فإنه أعظم عون على المراقبة التي هي أعلى مراتب الإيمان، فيجمع العبد بين الإيمان بعلوّ الله واستحضار قربه، ولا منافاة بين الأمرين كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ مُحمَّد خَليل هَرَّاس رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): ( (وقَوْلُهُ: (( أَفْضَلُ الإِيمانِ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ اللهَ مَعَكَ حَيْثُما كُنْتَ )) حديثٌ حسنٌ. وقَوْلُهُ: ((
إِذا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلى الصَّلاةِ؛ فَلا يَبْصُقَنَّ قِبَلَ وَجْهِهِ،
وَلا عَنْ يَمِِيْنِهِ؛ فَإِنَّ اللهَ قِبَلَ وَجْهِهِ، وَلَكِنْ عَنْ
يَسَارِهِ، أَو تَحْتَ قَدَمِهِ )). متَّفَقٌ عليهِ ).
( وقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((
اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَاواتِ السَّبْعِ [ وَالأَرْضِ ] وَرَبَّ العَرْشِ
العَظيمِ، رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، فَالِقَ الحَبِّ والنَّوَى،
مُنْزِلَ التَّوْراةِ وَالإِنْجِيلِ وَالقُرْآنِ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ [
نَفْسِي وَمِنْ شَرِّ ] كُلِّ دَابَّةٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا،
أَنْتَ الأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الآخِرُ فَلَيْسَ
بَعْدَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ
البَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ، اقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ وَأَغْنِني
مِنَ الفَقْرِ )). [روايةُ] مُسْلِمٍ ).
( وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَفَعَ [ الصَّحابَةُ ] أَصْواتَهُمْ بالذِّكْرِ: ((
أَيُّها النَّاسُ! ارْبَعُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ؛ فَإِنَّكُمْ لاَ
تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلاَ غَائِبًا، إِنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا [ بَصِيرًا
] قَرِيبًا، إِنَّ الَّذي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إِلى أَحَدِكُمْ مِنْ
عُنُقِ رَاحِلَتِهِ )). مُتَّفقٌ عليهِ ) (1)).
الشرح:
قال الشيخ محمد خليل هراس (ت: 1395هـ): ( (1) قولُهُ: (( أفضلُ الإِيمانِ أنْ تعلمَ … ))
إلخ. فيهِ دَلالةٌ على أنَّ أفضلَ الإِيمانِ هوَ مقامُ الإِحسانِ
والمراقبةِ، وهوَ أنْ يعبدَ العبدُ ربَّهُ كأنَّهُ يراهُ ويشاهدُهُ، ويعلمَ
أنَّ اللهَ معهُ حيثُ كانَ، فلا يتَكَلَّمُ ولا يفعلُ ولا يخوضُ في أمرٍ
ما إلاَّ واللهُ رقيبٌ مطَّلعٌ عليهِ؛
قالَ تعالى: {وَمَا
تَكُونُ في شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلونَ
مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فيهِ }.
ولا شكَّ أنَّ هذهِ
المعيَّةَ إذَا استحضرَهَا العبدُ في كلِّ أحوالِهِ؛ فإنَّهُ يستحِي مِن
اللهِ عزَّ وجلَّ أنْ يراهُ حيثُ نهَاهُ، أو أنْ يفتقدَهُ حيثُ أمرَهُ،
فتكونُ عونَا لهُ على اجتنابِ ما حرَّمَ اللهُ، والمُسارعةِ إلى فعلِ ما
أمرَ بهِ مِن الطاعاتِ على وجهِ الكمَالِ ظاهرًا وباطنًا، ولا سِيَّما إذَا
دخلَ في الصَّلاةِ التَّي هيَ أعظمُ صِلةٍ ومناجاةٍ بينَ العبدِ وربِّهِ،
فيخشعُ قلبُهُ، ويستحضرُ عظمةَ اللهِ وجلالَهُ، فتقلُّ حركاتُهُ، ولا
يُسيءُ الأدبَ معَ ربِّهِ بالبصقِ أَمَامَهُ أو عن يمينِهِ.
قولُهُ: (( إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلى الصَّلاَةِ … )) إلخ. دلَّ على أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يكونُ قِبَلَ وجهِ المصلِّي.
قالَ شيخُ الإِسلامِ في ( العقيدةِ الحموِيَّةِ ):
(( إنَّ الحديثَ حقٌّ
على ظاهرِهِ، وهوَ سبحانَهُ فوقَ العرشِ، وهوَ قِبَلَ وجهِ المصلِّي، بلْ
هذا الوصفُ يثُبتُ للمخلوقاتِ، فإنَّ الإنسانَ لو أَنَّهُ يناجِي السَّماءَ
أو يناجِي الشَّمسَ والقمرَ؛ لكانَتِ السَّماءُ والشَّمسُ والقمرُ فوقَهُ،
وكانَتْ أيضًا قِبلَ وجهِهِ )). ا. هـ.
قولُهُ: (( اللهُمَّ
رَبَّ السَّمَاوَاتِ … )) إلخ. تضمَّنْ الحديثُ إثباتَ أسمائِهِ تعالى:
الأوَّلُ، والآخِرُ، والظاهرُ، والباطنُ، وهيَ مِن الأسماءِ الحُسنى، وقَدْ
فسَّرَهَا النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلمَ بما لا يدعُ مجالاً
لقائلٍ، فهوَ أعلمُ الخلقِ جميعًا بأسماءِ ربِّهِ وبالمعانِي التَّي تدلُّ
عليهَا، فلا يصحُّ أنْ يُلتَفَتَ إلى قولِ غيرِهِ أيًّا كانَ.
وفي الحديثِ أيضًا
يعلِّمُنَا نبيُّنَا صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليهِ وآلهِ كيفَ نُثْنِي على
ربِّنَا عزَّ وجلَّ قبلَ السُّؤالِ، فهوَ يُثنِي عليهِ بربوبيَّتِهِ
العامَّةِ التَّي انْتَظَمَتْ كلَّ شيءٍ، ثمَّ بربوبيَّتِهِ الخاصَّةِ
الممثَّلةِ في إنزالِهِ هذهِ الكتبَ الثلاثةَ [ التَّي ] تحملُ الهُدَى
والنُّورَ إلى عبادِهِ، ثمَّ يعوذُ ويعتصمُ بهِ سبحانَهُ مِن شرِّ نفسِهِ
ومِن شرِّ كلِّ ذي شرٍّ مِن خلقِهِ، ثمَّ يسألُهُ في آخرِ الحديثِ أنْ
يقضيَ عنهُ دَيْنَهُ، وأنْ يغنِيَهُ مِن فقرٍ.
قولُهُ: (( أيُّهَا النَّاسُ! ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ … ))
إلخ. أفادَ هذا الحديثُ قربَهُ سبحانَهُ مِن عبادِهِ، وأنَّهُ ليسَ بحاجةٍ
إلى أنْ يرفعوا إليهِ أصواتَهُم؛ فإنَّهُ يعلمُ السِّرَّ والنَّجوى، وهذا
القربُ المذكورُ في الحديثِ قربُ إحاطةٍ، وعلمٍ، وسمعٍ، ورؤيةٍ، فلا ينافِي
عُلُوَّهُ على خلقِهِ).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ: صالح بن فوزان الفوزان
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وقَوْلُهُ: (( أَفْضَلُ الإِيمانِ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ اللهَ مَعَكَ حَيْثُما كُنْتَ )) حديثٌ حسنٌ أخرجه الطبراني من حديث عبادة بن الصامت. وقَوْلُهُ: ((
إِذا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلى الصَّلاةِ؛ فَلا يَبْصُقَنَّ قِبَلَ وَجْهِهِ،
وَلا عَنْ يَمِِينِهِ؛ فَإِنَّ اللهَ قِبَلَ وَجْهِهِ، وَلَكِنْ عَنْ
يَسَارِهِ، أَو تَحْتَ قَدَمِهِ )). متَّفقٌ عليهِ.
وقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((
اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَاواتِ السَّبْعِ وَالأَرْضِ وَرَبَّ العَرْشِ
العَظيمِ، رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، فَالِقَ الحَبِّ والنَّوَى،
مُنْزِلَ التَّوْراةِ وَالإِنْجِيلِ وَالقُرْآنِ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ
نَفْسِي وَمِنْ شَرِّ كُلِّ دَابَّةٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا، أَنْتَ
الأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ
شَيْءٌ، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ البَاطِنُ
فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ، اقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ وَأَغْنِني مِنَ
الفَقْرِ )). روايةُ مُسْلِمٍ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَفَعَ الصَّحابَةُ أَصْواتَهُمْ بالذِّكْرِ: ((
أَيُّها النَّاسُ! ارْبَعُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ؛ فَإِنَّكُمْ لاَ
تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلاَ غَائِباً، إِنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعاً بَصِيراً
قَرِيباً، إِنَّ الَّذي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إِلى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ
رَاحِلَتِهِ )). مُتَّفقٌ عليهِ.(1)).
الشرح:
قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: ((1) قولُه: (أَفْضَلُ الإِيمانِ) أيْ مِن أَفْضَلِ خِصالِه، وفي هذا دليلٌ على أنَّ الإيمانَ يَتَفاضَلُ (أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ مَعَكَ) أيْ بعِلمِه واطِّلاعِه (حَيْثُماَ كُنْتَ)
أيْ في أيِّ مَكانٍ وُجِدْتَ. فمَنْ عَلِمَ ذلكَ اسْتَوَتْ عَلانِيَتُه
وسَرِيرتُه فَهَابَهُ في كُلِّ مَكانٍ (أخْرَجَه الطَّبرانِيُّ) أبو
القَاسِمِ سُلَيْمَانُ اللَّخْمِيُّ أَحَدُ الحُفَّاظِ الْمُكْثِرينَ.
وقَدْ رَوى هذا الحديثَ في المُعْجَمِ الكبيرِ.
وفي الحديثِ دَليلٌ على
إِثباتِ مَعِيَّةِ اللَّهِ لِخَلْقِه بعِلمِه وإحاطَتِه بأعمالِهم،
وأنَّهُ يَجِبُ على العَبْدِ أنْ يَتَذَكَّرَ ذلك دائماً فيُحْسِنَ
عَمَلَه.
وقولُه: (إِذَا قَامَ أَحُدُكُمْ إِلىَ الصَّلاَةِ) أيْ إذا شَرَعَ فيها (فَلاَ يَبْصُقَنَّ) أيْ لا يَتْفُلْ (قِبَلَ وَجْهِهِ) أيْ أَمامَه (قِبَلَ) بكَسْرِ القافِ وفَتْحِ الباءِ (فَإِنَّ اللَّهَ قِبَلَ وَجْهِهِ) هذا تعليلٌ للنَّهْيِ عن البُصاقِ في قِبْلَةِ المُصَلِّي بأنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ (قِبَلَ وَجْهِهِ)
أيْ: مُواجِهَهُ، وَهَذِهِ المُواجَهَةُ كما يَلِيقُ باللَّهِ سُبْحَانَهُ
لا يَلْزَمُ منها أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مُخْتَلِطٌ بخَلْقِه بل هُوَ فَوْقَ
سماواتِه مُسْتَوٍ على عَرْشِه، وَهُوَ قَريبٌ مِن خَلْقِه مُحِيطٌ بهم. (وَلاَ عَنْ يَمِينِهِ) أيْ: ولا يَبْصُقُ المُصَلِّي عن يَمِينِه تَشْرِيفاً لليَمِينِ؛ ولأنَّ المَلَكَيْنِ عن يَميِنِهِ، كما في روايةٍ للبُخارِيِّ (وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ) أيْ: ولكنْ لِيَبْصُق المُصَلِّي في جِهَةِ يَسَارِهِ أو يَبْصُقْ تَحْتَ قَدَمِهِ.
والشَّاهِدُ مِن الحَديثِ: أنَّ فيه إثباتَ قُرْبِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مِن عَبْدِه المُصلِّي وإقْبالَه عليه، وَهُوَ سُبْحَانَهُ فَوْقَهُ.
وقولُه صلى اللهُ عليه وسلم: (( اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ )) (اللَّهُمَّ) أصْلُه: يا اللَّهُ، فَالميمُ عِوَضٌ عن ياءِ النِّداءِ. (رَبَّ السَّمَاواتِ السَّبْعِ)، أيْ: خَالِقَها ومالِكَها (وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) أيْ: الكبيرُ الذي لا يَقْدُرُ قَدْرَهُ إلاَّ اللَّهُ، فَهُوَ أَعْظَمُ المخلوقاتِ، وتَقَدَّمَ تفسيرُ العرشِ (رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ) أيْ: خالِقَنا، ورازِقَنا، وخالِقَ كُلِّ شيءٍ ومالِكَه، فَفِيه إثباتُ رُبُوبِيَّتِه لِكُلِّ شيءٍ (فَاِلقَ الْحَبِّ وَالنَّوىَ) أيْ: شاقَّ حَبِّ الطَّعامِ وَنَوى التَّمْرِ للإنباتِ (مُنْزِلَ التَّورَاةِ) على موسَى (وَالإِنْجِيلِ) على عيسى (وَالْقُرْآنِ)
على مُحَمَّدٍ عليهم أَفْضَلُ الصَّلاةِ والسَّلامِ، وفي ذَلِكَ دَليلٌ
على فَضْلِ هَذِهِ الكُتُبِ، وأنَّها مُنَزَّلَةٌ مِنَ اللَّهِ تعالى.
(أَعُوذُ) أيْ: أَلْتَجِئُ وأَعْتَصِمُ (بِكَ) يا اللَّهُ (مِنْ شَرِّ كُلِّ دَابَّةٍ) أيْ: كُلِّ ما دَبَّ على وَجْهِ الأرضِ (أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا) النَّاصِيَةُ: مُقدَّمُ الرَّأْسِ، أيْ: هِيَ تَحْتَ قَهْرِكَ وسُلْطانِكَ، تُصَرِّفُها كَيْفَ تَشاءُ لِتَصْرِفَ شَرَّها عَنِّي.
(أَنْتَ
الأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ
شَيْءٌ، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ البَاطِنُ
فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ) هَذِهِ الأسماءُ الأربعةُ: اسمانِ
لأَزَلِيَّتِه وأبَدِيَّتِه، وهُما (الأوَّلُ والآخِرُ) واسمانِ لِعُلُوِّه
وقُرْبِه، وهُما (الظَّاهِرُ والباطِنُ) وهُما مَحَلُّ الشَّاهِدِ مِن
الحديثِ: لأنَّ فيهما إثباتَ عُلُوِّ اللَّهِ وقُرْبِه، وأنَّهما لا
يَتَنافَيانِ ولا يَتَناقَضانِ، فَهُوَ قريبٌ في عُلُوِّه، عَلِيٌّ في
دُنُوِّه.
(اقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ) أيْ: أدِّ عَنِّي حُقوقَ اللَّهِ وحُقوقَ الخَلْقِ، وفي هَذَا التَّبَرِّي مِن الحَوْلِ والقُوَّةِ (وَأَغْنِنِي مِنَ الْفَقْرِ)
الفَقْرُ: الحاجَةُ، والفَقِيرُ مَن لا يَجِدُ شيئاً أو يَجِدُ بعضَ
الكِفايَةِ، وفي الحديثِ أيضا مَشْروعيَّةُ التَّوَسُّلِ إلى اللَّهِ
سُبْحَانَهُ وتعالى بأسمائِه وصفاتِه في قضاءِ الحاجَةِ وإجابةِ الدُّعاءِ.
(وَقَوْلُهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَفَعَ الصَّحَابَةُ أَصْوَاتَهُمْ
بِالذِّكْرِ) وذَلِكَ في غزوةِ خَيْبَرَ كما جاءَ في بعضِ طُرُقِ الحديثِ،
وأنَّ الذِّكْرَ الذي رَفَعُوا به أصواتَهم هُوَ التَّكبيرُ: اللَّهُ
أَكْبرُ لا إلهَ إلاَّ اللَّهُ.
وقولُه (ارْبَعُوا) أيْ: ارْفُقُوا (فَإِنَّكُمْ) تعليلٌ للأمْرِ بالرِّفْقِ (لاَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلاَ غَائِباً)
لا يَسْمَعُ دُعاءَكُمْ، ولا يَرَاكُمْ فنَفَى الآفةَ المانِعةَ مِن
السَّمْعِ والآفةَ المانِعةَ مِن النَّظَرِ، وَأَثْبَتَ ضِدَّهُما، فقال (إِنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعاً بَصِيراً قَرِيباً) فلا داعِيَ لِرَفْعِ الصَّوْتِ (إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ) فَهُوَ قَريبٌ ممَّن دَعاهُ وذَكَرَهُ.
فلا حاجَةَ لِرَفْعِ الأصواتِ، وَهُوَ قَريبٌ يَسْمَعُها إذا خُفِضَتْ، كما يَسْمَعُها إذا رُفِعَتْ.
والشَّاهِدُ مِن الحديثِ:
أنَّ فيه إثباتَ قُربِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مِن دَاعِيه، يَسْمَعُ
الأصواتَ الخَفِيَّةَ، كما يَسْمَعُ الأصواتَ الجَهْرِيَّةَ. فأَفادَتْ
هَذِهِ الأحاديثُ جميعا إثباتَ مَعِيَّةِ اللَّهِ لِخَلْقِه، وقُرْبِه
مِنْهُمْ، وسَماعِه لأصواتِهم، ورُؤْيَتِه لحَركاتِهم، وذَلِكَ لا يُنافِي
عُلُوَّه واستِوَاءَهُ على عَرْشِه، وقد تَقدَّمَ الكلامُ على المَعِيَّةِ،
وأنواعِها، وشَواهِدِها مِن القرآنِ الكريمِ، مع تفسيرِ تِلْكَ
الشَّواهِدِ. واللَّهُ أَعْلَمُ).
الروضة الندية للشيخ: زيد بن عبد العزيز بن فياض رحمه الله
المتن:
قال أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): ( ((وقوله: (( أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيث ما كنت )) حديث حسن . وقوله :(( إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصقن قبل وجهه فإن الله قبل وجهه ولا عن يمينه ولكن عن يساره أو تحت قدمه )) متفق عليه . وقوله صلى الله عليه وسلم :(( اللهم رب السماوات السبع ورب العرش العظيم . ربنا ورب كل شيء فالق الحب والنوى منزل التوراة والإنجيل والقرآن أعوذ بك من شر نفسى ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها . أنت الأول فليس قبلك شيء ، وأنت الآخر فليس بعدك شيء ، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن فليس دونك شيء اقض عني الدين وأغنني من الفقر . رواه مسلم . وقوله لما رفع الصحابة أصواتهم بالذكر (( أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا إنما تدعون سميعًا بصيرًا قريبًا، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته .. متفق عليه ))(1) ).
الشرح:
قال الشيخ زيد بن عبد العزيز بن فياض (ت: 1416هـ): ((1)وقَولُه (( أَفْضَلُ الإيمانِ أنْ تَعلمَ أنَّ اللهَ مَعكَ ))
هَذَا الحَدِيثُ رَوَاهُ البَيهقِيُّ وغيرُه . ذَكرَهُ السُّيوطِيُّ فِي
الجَامِعِ الصَّغيرِ وضَعَّفَهُ وقال فِي شَرحِه رَوَاهُ الطَّبرانِيُّ فِي
الكَبِيرِ وأبو نُعَيْمٍ فِي الحِلْيَةِ مِن حَدِيثِ نُعَيْمِ بْنِ
حَمَّادٍ عَنْ عُثْمَانَ بنِ كَثيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بنِ مُهاجِرٍ عَنْ
عُروةَ عَن ابْنِ غَنْمٍ عَنْ عُبَادَةَ بنِ الصَّامتِ ثُمَّ قَالَ أَبُو
نُعَيْمٍ : غَريبٌ مِن حَدِيثِ عُروةَ .لَمْ نَكتُبْهُ إلاَّ مِن حَدِيثِ
مُحَمَّدِ بنِ مُهاجِرٍ ا.ه ونُعَيْمُ بنُ حَمَّادٍ أوْرَدَهُ الذّهَبِيُّ
فِي الضُّعَفَاءِ . وقال وثقه أَحْمَد وجمع . وقال النَّسائِيُّ : غَيْرُ
ثِقَةٍ . وقال الأزْدِيُّ : ابْنُ عَدِيٍّ قَالُوا : كَانَ يَضعُ . وقال
أَبُو دَاوُدَ : عِنْدَهُ نَحْوُ عِشْرِينَ حَدِيثًا لاَ أصلَ لَهَا ا.ه
ومُحَمَّدُ بنُ مُهاجرٍ فإنْ كَانَ هُوَ القُرَشِيَّ فقال البُخاريُّ لاَ
يُتابَعُ على حديثِه أَو الرَّاوِي عَنْ وَكِيعٍ فَكَذَّبَهُ جَزَرَةُ كما
فِي الضُّعَفاءِ للذَّهَبِيِّ . وبِه يَتَّجِهُ رَمزُ المُؤلفِ لضَعْفِه
ا.ه )) والحَدِيث قَدْ حَسَّنَهُ المُؤلِّفُ رَحِمَهُ اللهُ وشَواهِدُه مِن
الكتابِ والسُّنَّةِ كثيرةٌ جِدًّا . وقد قَالَ رَجلٌ للنَّبِيِّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا تَزكيةُ المَرءِ نَفْسَهُ ؟ فقال : أنْ يَعلمَ أنَّ اللهَ مَعهُ حَيْثُ كَانَ
. وهَذِهِ الأَحَادِيثُ ونَظائرُها فيها إثباتُ مَعِيَّةِ اللهِ لِخَلقِه .
ولفظُ ( مَعَ ) لاَ تَقتضي فِي لُغَةِ العَربِ أنْ يكونَ أَحَدُ
الشَّيئينِ مُختلِطًا بالآخَرِ .
(( ولفظ ( مَعَ ) جاءتْ فِي القرآنِ عامَّةً وخاصَّةً . فالعَامَّةُ فِي قَولِه (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ) وقَولِه (هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ يَوْم الْقِيَامَةِ إنَّ اللهَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)
فَافتتحَ الكلامَ بالعِلمِ واختتَمه بالعلمِ . ولهَذَا قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ والضَّحَّاكُ وسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وأَحْمَدُ بنُ حَنبلٍ :
هُوَ معهُمْ بِعلمِه .
وأمَّا المَعِيَّةُ الخَاصَّةُ ففي قَولِه (إنَّ اللهَ مَعَ الذّينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُمْ مُّحْسِنُونَ) وقَولِه تَعَالَى لمُوسَى (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) وقال تَعَالَى (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إنَّ اللهَ مَعَنَا)
يَعني النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبا بَكْرٍ رَضِيَ
اللهُ عَنْهُ . فهُوَ مَعَ مُوسَى وهَارُونَ دُونَ فِرعونَ ومعَ مُحَمَّدٍ
وصَاحبِه دُونَ أبي جَهلٍ وغيرِه مِن أعدائِه (( ومعَ الَّذِينَ اتَّقوا والَّذِينَ هُمْ مُحْسِنونَ دُونَ الظّالمينَ المُعتدِينَ ))
. فلَوْ كَانَ معنى المعيَّةِ أنَّه بذاتِه فِي كُلِّ مكَانٍ تَناقضَ
الْخَبَرُ الخَاصُّ والْخَبَرُ العَامُّ . بَل المعنى : أنَّه مَعَ
هَؤُلاَءِ بنصرِه وتَأييدِه دُونَ أُولَئِكَ وقَولُه (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأََرْضِ إِلَهٌ) أَيْ هُوَ إلهُ مَن فِي السّمواتِ وإلهُ مَن فِي الأََرْضِ كما قَالَ تَعَالَى (وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الْحَكِيمُ) وكذَلِكَ قَولُه تَعَالَى (وَهُوَ اللهُ فِي السّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ)
كمَا فَسَّرَهُ أئِمَّةُ العِلمِ كالإِمَام أَحْمَدَ وغيرِه أنَّه
المعبودُ فِي السَّمواتِ والأرضِ . وأجْمَعَ سَلفُ الأُمَّةِ وأئمَّتُها
على أنَّ اللهَ تَعَالَى بَائِنٌ مِن مَخلوقاتِه . وقَولُه (( إذا قام أحدُكم إِلَى الصّلاةِ )) الحَدِيثُ رَوَاهُ أصحابُ الصِّحَاحِ والمَسانيدِ والسُّنَنِ عَنْ جماعةٍ من الصَّحابةِ .
وممَّن رَوَاهُ من
الصَّحابةِ أنسُ بنُ مالكٍ وأبو هُرَيْرَةَ وعَائِشَةُ وأبو سَعِيدٍ
الخُدْرِيُّ وابنُ عُمَرَ وجابرُ بنُ عَبْدِ اللهِ .
ففي الصّحَيحينِ عَنْ
ابْنِ عُمَرَ أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى
نُخَامَةً فِي قِبلةِ المَسْجِدِ وهُوَ يُصلِّي بَيْنَ يَدَيِ النَّاسِ
فَحَتَّهَا ثُمّ قَالَ حِينَ انصرفَ : إنَّ أحَدَكُم إذا كَانَ فِي الصَّلاةِ فإنَّ اللهَ قِبَلِ وَجْهِهِ فلا يَتَنَخَّمَنَّ أَحَدٌ قِبَلَ وَجهِه فِي الصَّلاةِ
. وفي لفظٍ لَهُمَا قَالَ : بَينما رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَخْطُبُ يومًا إذ رَأى نُخَامةً فِي قِبْلَةِ المَسْجِدِ
فَتَغَيَّظَ على النَّاسِ ثُمَّ حَكَّهَا
قَالَ : وَأَحْسَبُه قَالَ : فَدَعا بِزَعْفَرَانٍ فَلَطَّخَهُ به ثُمَّ قَالَ : إنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قِبَلَ وَجْهِ أحَدِكُم إذا صَلَّى فَلا يَبْصُقْ بَيْنَ يَديهِ .
ورَوَى البُخاريُّ
ومسلمٌ عَنْ أنسٍ أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى
نُخَامَةً فِي القِبلَةِ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَتَّى رُؤِيَ فِي
وَجْهِهِ فقام فَحَكَّهُ بِيَدِهِ فقال : إنَّ أحدَكُم
إذا قام إِلَى الصَّلاةِ فإنَّما يُناجِي رَبَّهُ ، أَوْ إنَّ رَبَّهُ
بَيْنَهُ وبينَ القِبلةِ فلا يَبْزُقَنَّ أحدُكم قِبَلَ قِبلتِه . ولَكِنْ عَنْ يَسارِه أَوْ تَحْتَ قَدميه ، ثُمَّ أخَذَ طَرَفَ رِدائِه فَبصقَ فِيهِ ، ثُمَّ رَدَّهُ بَعْضَهُ على بَعْضٍ فقال : أَوْ يَفعلُ هكَذَا .
ورَوَى البُخاريُّ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إذا
قامَ أحدُكم إِلَى الصَّلاةِ فلا يَبصقْ أَمَامَهُ فإنَّما يُناجِي اللهَ
مَا دامَ فِي مُصَلاَّهُ ولا عَنْ يَمينِه فإنَّ عَنْ يَمينِه مَلَكًا
وَلْيَبصُق عَنْ يَسَارٍ أَوْ تَحْتَ قَدَمِه فَيَدْفِنُهَا .
ولمُسلمٍ عَنْهُ أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأى
نُخَامةً فِي قِبلةِ المَسْجِدِ فَأقبلَ على النَّاسِ فقال . مَا
بَالُ أحدِكُم يَقومُ مُستقبِلَ رَبِّهِ فَيَتَنَخَّعُ أَمَامَهُ ؟
أيُحِبُّ أحدُكم أنْ يُستقبَلَ فَيُتَنَخَّعَ فِي وَجهِه ؟! إذا تَنَخَّعَ
أحدُكم فَلْيَتَنَخَّعْ عَنْ يَسارِه ، أَوْ تَحْتَ قَدمِه فإنْ لَمْ
يَجِدْ فَلْيَتْفُلْ هكَذَا فِي ثَوبِه فَوصَفَ القَاسِمُ فَتَفَلَ فِي ثَوبِه ثُمَّ مَسحَ بعضَه ببَعْضٍ . وعنِ ابْنِ عُمَرَ مرفوعًا : إذا صلَّى أحدُكم فلا يَتَنَخَّمَنَّ تُجَاهَ وَجْهِ الرَّحْمَنِ .
ورَوى أَحْمَدُ وأبو دَاوُدَ والنَّسائيُّ مِن حَدِيثِ أبِي ذَرٍّ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا قام أحدُكم إِلَى الصَّلاةِ فإنَّ اللهَ يُقْبِلُ عَلَيْهِ بوجهه مَا لَمْ يَصرفْ وجهَه عَنْهُ . ورَوى الإِمَامُ أَحْمَدُ وابنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِه والتِّرْمِذِيُّ أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إنَّ
اللهَ يَأمرُكُم بالصَّلاةِ فإذا صَلَّيتُم فَلا تَلتفتُوا فأنَّ اللهَ
يَنصبُ وجهَه لِوَجه عَبدِه فِي صَلاتِه مَا لَمْ يَلتفتْ . قَولُه (( إذا قام أحدُكم إِلَى الصَّلاةِ )) أَيْ إذا شرَعَ فيها قَولُه ((فإنَّما يُناجِي رَبَّهُ)) فِي رِوَايَةِ فإنَّه يُناجي رَبَّه . قَولُه ((فإنَّ اللهَ قِبَلَ وَجهِه)) - قِبَلَ بكسرِ القافِ وفتحِ الباءِ المُوحَّدَةِ - أَيْ مُواجِهُهُ ، وقَولُه (( فلا يَبْزُقَنَّ قِبَلَ قِبلتِه )) أَيْ جِهةَ قِبلتِه قَولُه (( أَوْ تَحْتَ قَدمِه ))
أَيْ اليُسرى كما فِي حَدِيثِ أبي هُرَيْرَةَ فِي البَابِ الَّذِي بَعدَهُ
وزَاد أَيْضًا مِن طَريقِ هَمَّامٍ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ فَيَدفِنُها
قَولُه (( ثُمَّ أخَذَ طَرَفَ رِدائِه)) الخ فِيهِ البَيانُ بالفِعْلِ لِيكونَ أوْقَعَ فِي نَفْسِ السَّامعِ ))
قَولُه (( ولَكِنْ عَنْ يَسارِه أَوْ تَحْتَ قَدمِه )) كَذَا للأكثرِ . وفي رِوَايَةِ أبي الْوَقْتِ (( وتحتَ قَدمِه )) بالواوِ . وَوَقَعَ عِنْدَ مُسلمٍ من طَريقِ أبي رَافِعٍ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ (( ولَكِنْ عَنْ يَسارِه تَحْتَ قَدمِه )) بِحذفِ (( أَوْ )) وكَذَا للبخاريِّ مِن حَدِيثِ أنسٍ فِي أوَاخِرِ الصَّلاةِ . والرِوَايَةُ الَّتِي فِيها (( أَوْ )) أعَمُّ لِكَونِها تَشملُ مَا تَحْتَ القَدَمِ وغيرَ ذَلِكَ )) .
(( وفي الحَدِيثِ
دَليلٌ على قُرْبِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ مِن المُصَلِّي وفيه إثباتٌ صِفَةِ
الوَجْهِ للهِ . كمَا دلَّ عَلَى ذَلِكَ الكِتابُ والسُّنَّة وإجماعُ
السَّلفِ وأمَّا مَا احتجَّ بِه بَعْضُ النُّفَاةِ مِن تَفسيرِ بَعْضِ
السَّلفِ لِقَولِه تَعَالَى (وَللَّهِ الْمَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) ، إنَّ المُرادَ بوجهِ اللهِ هُنَا القِبلةُ . فلا حُجَّةَ فِي ذَلِكَ .
قال الشَّيخُ فِي
المُناظَرَةِ : وليستْ هَذِهِ الآيةُ مِن آياتِ الصِّفاتِ ومَن عَدَّهَا
فِي الصِّفاتِ فقد غَلِطَ كما فَعَلَ طَائفةٌ فإنَّ سِياقَ الكلامِ يدلُّ
على المُرادِ حَيْثُ قَالَ :{ وَللَّهِ الْمَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ } والمَشرقُ
والمَغْرِبُ الجِهاتُ ، والوَجهُ هُوَ الجِهةُ . يُقالُ : أَيَّ وَجهٍ
تُريدُ - أَيْ أيَّ جِهةٍ - وأنَا أُريدُ هَذَا الوَجْهَ أَيْ هَذِهِ
الجِهَةَ كما قَالَ : تَعَالَى :{ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا } ولهَذَا قَالَ :{ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ } أَيْ تَتوجَّهُوا وتَستقبلُوا ا.ه
((وتَفسيرُ وجهِ اللهِ
بِقِبلةِ اللهِ وإنْ قَالَهُ بَعْضُ السَّلفِ كَمُجاهدٍ وتَبِعَهُ
الشَّافِعِيُّ فإنَّما قالوه فِي مَوضعٍ وَاحِدٍ هُوَ قَولُه : { وَللَّهِ الْمَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ } على أنَّ الصَّحيحَ فِي قَولِه :{ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ }
أنَّه كقَولِه فِي سَائرِ الآيَاتِ الَّتِي ذُكِرَ فيها الوَجهُ فإنَّه
قَدْ اطَّرَدَ مَجيئُه فِي القُرآنِ والسُّنَّةِ مُضافًا إِلَى الرَّبِّ
تَعَالَى على طريقةٍ واحدةٍ ومعنًى وَاحدٍ فلَيْسَ فِيهِ مَعنيانِ
مُختلفانِ فِي جَمِيعِ المَواضعِ غَيْرِ المَوضعِ الَّذِي ذُكِرَ فِي
سُورةِ البَقرةِ وهُوَ قَولُه (فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ)
وهَذَا لا يَتعيَّنُ حَمْلُه على القِبلةِ والجِهةِ ، ولا يَمتنعُ أنْ
يُرادَ به وَجهُ الرَّبِّ حقيقةً فَحَملُه علَى غَيْرِ القِبلةِ
كَنَظائِرِه كُلِّهَا أوْلَى فإنَّه لا يُعرفُ إطلاقُ وَجهِ اللهِ على
القِبلةِ لُغَةً ولا شَرعًا ولا عُرفًا بَل القِبلة لَهَا اسمٌ يَخُصُّها
والوَجْهُ اسمٌ يَخُصُّه فلا يَدخُلُ أحدُهُمَا علَى الآخَرِ ، ولا
يُستعَارُ اسمُه لَهُ . نَعَمْ القِبلَةُ تُسمَّى وِجْهةً كما قَالَ
تَعَالَى :{ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ }
وقد تُسمَّى جِهَةً وأصلُها وِجْهَةٌ لَكِنْ أُعِلَّتْ بِحذفِ فَائِهَا
كَزِنَةٍ وعِدَةٍ وإنَّما سُمِّيت القِبلَةُ وِجْهَةً لاِنَّ الرَّجُلَ
يُقابلُها ويُواجِهُها بِوَجْهِهِ وأمَّا تَسميتُها وَجْهًا فلا عَهْدَ بِه
فكَيْفَ إذا أُضِيفَ إِلَى اللهِ تَعَالَى مَعَ أنَّه لا يُعرفُ تَسميةُ
القِبلةِ وِجْهَةَ اللهِ فِي شيءٍ من الكَلامِ مَعَ أنَّها تُسمَّى وِجهةً
فكَيْفَ يُطلقُ عليها وَجْهُ اللهِ ولا يُعرفُ تَسميتُها وَجْهًا .
وأَيْضًا فمِن المَعلومِ أنَّ قِبلةَ اللهِ الَّتِي نَصَبَهَا لِعِبادِهِ
هِيَ قِبلةٌ وَاحدةٌ وهِيَ القِبلةُ الَّتِي أمرَ اللهُ عِبادَهُ أنْ
يَتوجَّهُوا إِلَيْهَا حَيْثُ كَانُوا لا كُلُّ جِهةٍ يُوَلِّي الرَّجُلُ
وَجْهَهُ إِلَيْهَا فإنَّه يُوَلِّي وَجْهَهُ إِلَى المَشرقِ والمَغْرِبِ
والشَّمالِ والجَنُوبِ وما بَيْنَ ذَلِكَ وليستْ تِلكَ الجِهاتُ قِبلةَ
اللهِ فكَيْفَ يُقالُ : أَيُّ وِجْهَةٍ وَجَّهْتُموها واستقبلْتُموها هِيَ
قِبلةُ اللهِ ؟!
والآيةُ صَريحةٌ فِي
أنَّه أَيْنَمَا وَلَّى العَبدُ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ مِن حَضَرٍ أَوْ
سَفَرٍ فِي صَلاةٍ أَوْ غَيْرِ صَلاةٍ . وذَلِكَ أنَّ الآيةَ لا تَعَرُّضَ
فِيها للقِبلةِ ، ولا لِحُكْمِ الاستقبالِ بَلْ سِياقُها لِمَعنًى آخَرَ ،
وهُوَ بَيانُ عَظَمَةِ الرَّبِّ تَعَالَى ، وَسَعَتِهِ وأنَّه أَكْبَرُ مِن
كُلِّ شيءٍ وأعظمُ مِنْهُ ، وأنَّه مُحِيطٌ بالعَالَمِ العُلويِّ
والسُّفليِّ فَذَكَرَ فِي أوَّلِ الآيةِ إحَاطَةَ مُلكِه فِي قَولِه :{ وَللَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ }
فَنَبَّهَنَا بذَلِكَ على مُلْكِه لِمَا بَينَهُمَا ثُمَّ ذَكرَ عَظمَتَهُ
سُبْحَانَهُ ، وأنَّه أَكْبَرُ وأعَظمُ مِن كُلِّ شَيءٍ فأَيْنَمَا وَلَّى
العَبدُ وَجهَهُ فثَمَّ وَجْهُ اللهِ . ثُمَّ خَتَمَ باسْمَينِ دَالَّينِ
علَى السَّعَةِ والإحَاطَةِ فقَالَ :{ إنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } فَذَكَرَ اسْمَهُ الوَاسِعَ عَقِيبَ قَولِه :{ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ }
كالتَّفسيرِ والبَيانِ والتَّقريرِ لَهُ فَتَأَمَّلْهُ فَهَذَا السِّيَاقُ
لَمْ يُقصدْ بِه الاستقبالُ فِي الصَّلاةِ بِخُصوصِهِ, وإنْ دَخَلَ فِي
عُمومِ الخِطابِ حَضَرًا أَوْ سَفَرًا بالنِّسبةِ إِلَى الفَرضِ والنَّفْلِ
والقُدْرةِ والعَجْزِ وعلَى هَذَا فالآيةُ بَاقيةٌ علَى عُمومِها
وأحكَامِها ليستْ مَنسوخةً ولا مَخصوصةً ، بَلْ لا يَصِحُّ دُخُولُِ
النَّسخِ فيها؛ لأنَّها خَبَرٌ عَنْ مُلكِهِ للمَشرقِ والمَغْرِبِ وأنَّه
أَيْنَمَا وَلَّى الرَّجُلُ فثَمَّ وَجْهُ اللهِ وعن سَعتِه وعِلمِه
فكَيْفَ يُمْكِنُ دُخولُ النَّسْخِ والتَّخْصِيصِ فِي ذَلِكَ ؟! وأَيْضًا :
هَذِهِ الآيةُ ذُكِرَتْ مَعَ مَا بَعدَها لِبَيانِ عَظمَةِ الرَّبِّ ،
والرَّدِّ علَى مَن جَعَلَ لَهُ عِدْلًا مِن خَلْقِهِ أَشْرَكَهُ مَعَهُ
فِي العِبَادَةِ .
ولهَذََا ذَكَرَ بَعدَها الرَّدَّ علَى مَن جَعَلَ لَهُ وَلَدًا فقال تَعَالَى: {وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} -إِلَى قَولِه- {كُنْ فَيَكُونُ}
فَهَذَا السِّيَاقُ لاَ تَعَرُّضَ فِيهِ للقِبلةِ ولا سِيقَ الكَلامُ
لاِجْلِها وإنَّما سِيقَ لِذِكْرِ عَظمَةِ الرَّبِّ وبَيانِ سَعَةِ عِلْمِه
ومُلْكِهِ وحِلْمِه, والوَاسِعُ مِن أسْمَائِه, فكَيْفَ تَجعلون لَهُ
شَريكًا وتَمنعون بُيُوتَه ومَساجدَهُ أنْ يُذكرَ فيها اسمُه وتَسْعَوْنَ
فِي خَرَابِها فَهَذَا للمُشركين ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا نَسَبَهُ إِلَيْهِ
النَّصَارَى مِن اتِّخَاذِ الوَلَدِ ، وَوَسَّطَهُ بَيْنَ كُفْرِ هَؤُلاَءِ
وقَولِه تَعَالَى { وَللَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ }،
فالمَقَامُ مَقَامُ تَقْريرٍ لاِصولِ التَّوحِيدِ والإيمَانِ والرَّدِّ
علَى المُشركِينَ ، لا بَيانُ فَرْعٍ مُعَيَّنٍ جُزْئِيٍّ . وقَد أَخْبَرَ
سُبْحَانَهُ عَنْ الجِهَاتِ الَّتِي تَسْتَقْبِلُها الأُمَمُ مُنَكَّرَةً
مُطْلَقَةً غَيْرَ مُضَافَةٍ إِلَيْهِ وأنَّ المُسْتَقْبِلَ لَهَا هُوَ
مُوَلِّيها وَجْهَهُ . لا أنَّ اللهَ شَرَعَهَا لَهُ وَأَمَرَهُ بِهَا
ثُمَّ أمَرَ أهلَ قِبلتِه بالمُبَادَرَةِ والمُسَابقَةِ إِلَى الخَيرِ
الَّذِي ادَّخَرَهُ لَهُمْ وخَصَّهُمْ بِه ومِن جُمْلَتِه هَذِهِ القِبلةُ
الَّتِي خَصَّهُمْ بِها دُونَ سَائرِ الأُمَمِ فقال :{ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ }
إِلَى قَولِه (قَدِيرٌ) فَتَأَمَّلْ هَذَا السِّيَاقَ فِي ذِكْرِ
الوِجْهَاتِ المُختلفَةِ الَّتِي تُوَلِّيها الأُمَمُ وُجُوهَهُمْ ونَزَلَ
عَلَيْهِ قَولُه :{ وَللَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ } إِلَى قَولِه :{ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } وانْظُرْ
: هَلْ يُلاَئِمُ السِّيَاقُ السِّيَاقَ ، والمَعْنَى المَعْنَى ،
ويُطَابِقُه ؟ أمْ هُمَا سِيَاقَانِ دلَّ كُلٌّ مِنْهُمَا علَى مَعنًى
غَيْرِ المَعْنَى الآخَرِ فالألفَاظُ غَيْرُ الألفَاظِ والمَعنَى غَيْرُ
المَعنَى . فإنَّه لَوْ كَانَ المُرادُ بِوَجْهِ اللهِ قِبلةَ اللهِ ,
لكَانَ قَدْ أضَافَ إِلَى نَفسِه القِبَلَ كُلَّهَا ، ومَعلومٌ أنَّ هَذِهِ
إضافةُ تَخصيصٍ وتَشريفٍ إِلَى إلِهَيَّتِه ومَحبَّتِه لا إضَافةٌ عامَّةٌ
إِلَى رُبُوبَيَّتِه ومَشِيئتِه، وما هَذَا شَأنُها لاَ يكونُ فيها
المُضَافُ الخَاصُّ إلاَ كَبيتِ اللهِ ونَاقةِ اللهِ ورُوحِ اللهِ فإنَّ
البُيوتَ والنُّوقَ والأرْوَاحَ كُلَّهَا للهِ ولَكِنَّ المُضافَ إِلَيْهِ
بَعضُها فَقِبلةُ اللهِ مِنْهَا هِيَ قِبلةُ بَيتِه لا كُلُّ قِبلةٍ . كمَا
أنَّ بَيتَه هُوَ البَيْتُ المَخصوصُ لا كُلُّ بَيتٍ . ويُقالُ أَيْضًا :
حَمْلُ الوَجْهِ فِي الآيةِ على الجِهَةِ والقِبلةِ إمَّا أنْ يكونَ هُوَ
ظاهرَ الآيةِ أَوْ يكونَ خِلافَ الظَّاهِرِ ، ويكونُ المُرادُ بالوَجْهِ
وَجْهَ اللهِ حقيقةً لاِنَّ الوَجْهَ إنَّما يُرادُ بِه الجِهةُ والقِبلةُ
إذا جَاءَ مُطلقًا غَيْرَ مُضافٍ إِلَى اللهِ تَعَالَى كَمَا فِي حَدِيثِ
الاسْتِسْقَاءِ, ((فلم يَقْدِّمْ أَحَدٌ مِن وَجْهٍ مِن الوُجُوهِ إلاَّ أَخْبَرَ بالْجَوْدِ ))،
أَوْ يكونُ ظَاهرُ الآيةِ الأمْرينِ كِلَيْهِمَا ولا تَنَافِيَ
بَيْنَهُمَا فأَيْنَمَا وَلَّى العَبدُ وَجْهَهُ فِي صَلاةٍ تَوْلِيَةً
مَأْمُورًا بها فهِيَ قِبلةُ اللهِ وثَمَّ وَجْهُ اللهِ فهُوَ مُستقبِلٌ
قِبلتَه وَوَجْهَهُ أَوْ تكونُ الآيَةُ مُجمَلةً مُحْتَمِلَةً للأمْرَينِ
فإنْ كَانَ الأَوَّلُ هُوَ ظَاهِرَها لَمْ يكنْ حَملُها عَلَيْهِ مَجازًا ،
وكَانَ ذَلِكَ حَقيقتَها . ومَن يَقُولُ هَذَا يَقُولُ وَجْهُ اللهِ فِي
هَذِهِ الآيةِ قِبلتُه وِجِهتُه الَّتِي أُمِرَ بِاستِقْبَالِها بِخَلافِ
وَجْهِه فِي قَولِه :{ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ } ونَحْوِهَا .
وغَايَةُ ذَلِكَ أنْ
يَكونَ الوَجْهُ لَفظًا مُشْتَركًا قَدْ استُعْمِلَ فِي هَذَا تَارةً وفي
هَذَا تَارةً وإنْ كَانَ الثَّانِيَ فَالأمْرُ ظَاهرٌ ، وإنْ كَانَ
الثَّالِثَ فَلا تَنَافِيَ بَيْنَ الأمْرَينِ فأَيْنَمَا وَلَّى المُصَلِّي
وَجْهَهُ فهِيَ قِبلةُ اللهِ ، وهُوَ مُسْتَقْبِلٌ وَجْهَ رَبِّهِ لأنَّه
وَاسِعٌ ، والعَبدُ إذَا قَامَ إِلَى الصَّلاةِ فإنَّه يَستقبلُ رَبَّه
تَعَالَى ، واللهُ مُقْبِلٌ علَى كُلِّ مُصَلٍّ إِلَى جِهَةٍ مِن الجِهَاتِ
المَأمورِ بِها بِوَجْهٍ كمَا تَواتَرَتْ بذَلِكَ الأَحَادِيثُ الصَّحيحةُ
عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ قَولِه إذا قامَ
أحدُكم إِلَى الصَّلاةِ فلا يَبْصُقْ قِبَلَ وَجهِهِ فإنَّ اللهَ قِبَلَ
وَجْهِهِ .
وفي لَفظٍ ((فَإنَّ رَبَّه بَيْنَهُ وبينَ القِبلةِ))
. وقد أَخْبَرَ أنَّه حَيْثُمَا تَوَجَّه العَبدُ فإنَّه مُستقبلٌ وَجْهَ
اللهِ فإنَّه قَدْ دلَّ العَقْلُ والفِطْرَةُ وجَمِيعُ كُتُبِ اللهِ
السَّمَاوِيَّةِ علَى أنَّ اللهَ تَعَالَى عَالٍ علَى خَلْقِه فَوْقَ
جَمِيعِ المَخلوقاتِ وهُوَ مُسْتَوٍ علَى عَرشِه ، وعَرشُه فَوْقَ
السَّمواتِ كُلِّهَا فهُوَ سُبْحَانَهُ مُحيطٌ بالعَالَمِ كُلِّهِ
فأَيْنَمَا وَلَّى العَبدُ فإنَّ اللهَ مُسْتَقْبِلُهُ بَلْ هَذَا شَأنُ
مَخلوقِه المُحيطِ بما دُونَه فإنَّ كُلَّ خَطٍّ يَخرجُ مِن المَركَزِ
إِلَى المُحيطِ فإنَّه يَستقبلُ وَجْهَ المُحيطِ ويُواجِهُه ، والمَركزُ
يَستقبلُ وَجْهَ المُحيطِ ، وإذا كَانَ عَالِي المَخلوقَاتِ المُحيطُ
يَستقبلُ سَافِلَها المُحاطَ بِه بِوَجهِه مِن جَمِيعِ الجِهاتِ
والجَوانِبِ فكَيْفَ بِشَأنِ مَن هُوَ بكُلِّ شَيءٍ مُحِيطٌ ، وهُوَ مُحيطٌ
ولا يُحاطُ بِه كَيْفَ يَمتنِعُ أنْ يَستقبلَ العَبدُ وَجْهَهُ تَعَالَى
حَيْثُ كَانَ وأَيْنَ كَانَ .
وقَولُه :{ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ }
إشارةٌ إِلَى مَكَانٍ مَوجُودٍ واللهُ تَعَالَى فَوْقَ الأَمْكِنَةِ
كُلِّهَا لَيْسَ فِي جَوْفِها وإنْ كَانَتْ الآيةُ مُجمَلَةً مُحْتَمِلَةً
لأَمْرينِ لَمْ يَصِحَّ دَعْوَى المَجازِ فِيها ولا فِي وَجْهِ اللهِ
حَيْثُ وَرَدَ . فَبَطلتْ دَعْوَاهُمْ أنَّ وَجْهَ اللهِ علَى المَجَازِ ،
لا علَى الحَقيقةِ )) وما ذَكَرَ الكِتابُ والسُّنَّةُ مِن مَعِيَّةِ اللهِ
لِخَلْقِهِ وقُرْبِه مِنْهُمْ لا يُنافِي مَا ذُكِرَ مِن عُلُوِّهِ
وفَوْقِيَّتِهِ .
(( فاللهُ فَوْقَ
العَرشِ حَقيقةً وهُوَ مَعَنَا حَقيقةً كمَا فِي حَدِيثِ الأوْعَالِ واللهُ
فَوْقَ العَرشِ وهُوَ يَعلمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ )) وذَلِكَ أنَّ
كَلمةَ (( مَعَ )) فِي اللُّغَةِ إذا أُطْلِقَتْ
فلَيْسَ ظَاهرُهَا فِي اللُّغَةِ إلاَّ المُقَارنَةَ المُطلقَةَ مِن
غَيْرِ وُجُوبٍ مُمَاسَّةٍ أَوْ مُحَاذَاةٍ عَنْ يَمِينٍ أَوْ شِمَالٍ .
فإذا قُيِّدَتْ بِمَعنًى مِن المَعَانِي دَلَّتْ علَى المُقارَنَةِ فِي
ذَلِكَ المَعْنَى فإنَّه يُقالُ :
ما زِلْنَا نَسِيرُ
والقَمَرُ مَعنَا أَوْ النَّجْمُ مَعَنَا أَوْ يُقالُ : هَذَا المَتاعُ
مَعِي لِمُجَامَعَتِهِ لكَ وإنْ كَانَ فَوْقَ رَأسِكَ فاللهُ مَعَ خَلْقِهِ
حَقيقةً ، وهُوَ فَوْقَ عَرشِهِ حَقِيقةً . ثُمَّ هَذِهِ المَعِيَّةُ
تَختلِفُ أحْكَامُها بِحَسبِ المَوارِدِ فَلمَّا قَالَ :{ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأََرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا } إِلَى قَولِه تَعَالَى :{ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ }
دَلَّ ظَاهِرُ الخِطَابِ علَى أنَّ حُكْمَ هَذِهِ المَعِيَّةِ ومُقتضَاها :
أنَّه مُطَّلِعٌ عَلَيْكُمْ شَهيدٌ عَلَيْكُمْ مُهَيْمِنٌ عَلَيْكُمْ
عَالمٌ بِكُم . وهَذَا مَعْنَى قَولِ السَّلفِ: إنَّه مَعَهُمْ بِعِلمِه
وهَذَا ظَاهرُ الخِطابِ وحَقيقتُه وكذَلِكَ فِي قَولِه :{ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ } إِلَى قَولِه :{ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا } الآيةِ . ولمَّا قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لِصاحِبهِ في الغارِ { لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا }
كان هذا أيضاً حقاًّ على ظاهِرِه . ودلَّتِ الحالُ على أنَّ حُكْمَ هذه
المَعِيَّةِ هنا : مَعِيَّةُ الاطِّلاعِ والتأييدِ . وكذلك قولُه لموسى
وهارونَ { إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى }
المَعِيَّةُ هنا على ظاهِرِها ، وحُكْمُها في هذه المَواطِنِ النصْرُ
والتأييدُ . وقد يَدْخُلُ على صبيٍّ مَن يُخِيفُه فيبكي ويُشْرِفُ عليه
أبوه مِن فوقِ السقفِ فيقولُ : لا تَخَفْ أنا معكَ ، وأنا هنا حاضِرٌ ،
ونحوَ ذلك ، يُنبِّهُه على المَعِيَّةِ المُوجِبةِ بحُكمِ الحالِ دَفْعَ
المكروهِ . ففَرْقٌ بين معنى المَعِيَّةِ وبين مقتضاها ، وربما صار مقتضاها
مِن معناها فيَختلِفُ باختلافِ المواضِعِ ، فلَفْظُ المَعِيَّةِ قد
استُعمِلَ في الكتابِ والسُّنَّةِ في مواضِعَ يقتضِي في كُلِّ موضِعٍ
أموراً لا يقتضيها في الموضِعِ الآخَرِ .
فإمَّا أنْ تَختلِفَ
دَلالَتُها بحسَبِ المواضعِ ، أو تدُلَّ على قدْرٍ مشترَكٍ بين جميعِ
موارِدِها وإنِ امْتازَ كُلُّ موضِعٍ بخاصَّتِه - فعلى التقديرَيْنِ ليس
مُقْتضاها : أنْ يكونَ ذاتُ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ مُختَلِطةً بالخَلْقِ
حتى يُقالَ : قد صُرِفَتْ عن ظاهِرِها ومَن عَلِمَ المَعِيَّةَ تُضافُ إلى
كُلِّ نوعٍ مِن أنواعِ المخلوقاتِ كإضافةِ الرُّبُوبِيَّةِ - مثلاً - وأنَّ
الاستواءَ على الشيءِ ليس إلاَّ للعرشِ ، وأنَّ اللَّهَ يُوصَفُ
بِالعُلُوِّ والفَوْقيَّةِ الحقيقيَّةِ ولا يُوصَفُ بالسُّفْلِ ولا
بِالتَّحْتيةِ قطُّ ، لا حقيقةً ، ولا مجازاً : علم القرآنَ على ما هو عليه
مِن غيرِ تحريفٍ .
ثُمَّ مَن توهَّمَ أنَّ
كونَ اللَّهِ في السماءِ - بمعنى أنَّ السماءَ تُحيطُ به وتَحْويهِ فهو
كاذِبٌ إنْ نقَلَه عن غيرِه ، وضالٌّ إنِ اعتقَدَه في ربِّه ، وما سمعنا
أَحداً يَفْهَمُه مِن اللفظِ ، ولا رَأَيْنا أَحدًا نقَلَه عن واحدٍ . ولو
سئل سائِرُ المسلِمِينَ : يَفْهمُون مِن قولِ اللَّهِ ورسولِه ( ( إنَّ اللَّهَ في السماءِ ) ) أنَّ السماءَ تَحويهِ ؟ لبادَرَ كُلُّ أحدٍ منهم إلى أنْ يقولَ : هذا شيءٌ لَعلَّه لم يَخْطُرْ ببالِنا .
وإذا كان الأمرُ كذلك
فمِن التكلُّفِ أنْ يُجْعَلَ ظاهِرُ اللفظِ شيئاً مُحالاً لا يَفهَمُه
الناسُ منه ، ثم يُريدُ أنْ يتأَوَّلَه ، بل عندَ المسلِمِينَ أنَّ اللَّهَ
في السماءِ ، وهو على العرشِ واحدٌ ، إذ السماءُ إنما يُرادُ به العُلُوُّ
.
فالمعنَى أنَّ اللَّهَ
في العُلُوِّ لا في السُّفْلِ . وقد عَلِمَ المسلِمونَ أنَّ كُرْسِيَّه
سبحانه وتعالى وَسِعَ السماواتِ والأرضَ ، وأنَّ الكرسيَّ في العرشِ
كحَلْقةٍ مُلْقاةٍ بأرضٍ فلاةٍ ، وأنَّ العرشَ خَلْقٌ مِن مخلوقاتِ اللَّهِ
، لا نِسبةَ له إلى قُدْرةِ اللَّهِ وعظَمتِه فكيف يُتَوَهَّمُ - بعد هذا -
أنَّ خَلْقاً يَحْصُرُه ويَحْويهِ ؟!
وقد قال سبحانه :{ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ } وقال :{ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ }
بمعنى ( ( على ) ) ونحو ذلك، وهو كلامٌ عربيٌّ حقيقةً لا مَجازاً . وهذا
يَعلَمُه مَن عَرَفَ معانيَ الحُروفِ وأنها مُتَواطِئةٌ في الغالِبِ لا
مُشترَكةٌ .
وكذلك قولُه صلى اللَّه عليه وسلم (( إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَإِنَّ اللَّهَ قِبَلَ وَجْهِهِ فَلاَ يَبْصُقْ قِبَلَ وَجْهِهِ )) الحديثُ
حقٌّ على ظاهِرِه ، وهو سبحانه فوقَ العرشِ ، وهو قِبَلَ وَجْهِ المُصلِّي
، بل هذا الوصفُ يَثْبتُ للمخلوقاتِ ، فإنَّ الإنسانَ لو أنه يُناجِي
السماءَ أو يُناجِي الشمسَ والقمرَ لكانتِ السماءُ والشمسُ والقمرُ فوقَه ،
وكانت أيضاً قِبَلَ وَجْهِه .
وقد ضرَبَ النبيُّ صلى
اللَّه عليه وسلم المَثَلَ بذلك - ولِلَّهِ المَثَلُ الأعلى - ولكنَّ
المقصودَ بالتمثيلِ بيانُ جوازِ هذا وإمكانِه ، لا تَشبيهُ الخالِقِ
بالمخلوقِ ، فقد قال النبيُّ صلى اللَّه عليه وسلم (( مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ سَيَرَى رَبَّهُ مُخْلِياً بِه )) فقالَ له أبو رَزينٍ العُقَيليُّ : كيف يا رسولَ اللَّهِ وهو واحدٌ ونحن جميعٌ ؟ فقال النبيُّ صلى اللَّه عليه وسلم ((سَأُنَبِّئُكَ
بِمَثَلِ ذَلِكَ فِي آلاَءِ اللَّهِ ، هَذَا الْقَمَرُ كُلُّكُمْ يَرَاهُ
مُخْلِياً بِهِ وَهُوَ آيةٌ مِن آياتِ اللَّهِ فاللَّهُ أَكْبَرُ )) أو كما قال النبيُّ صلى اللَّه عليه وسلم ، وقال (( إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ ربَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الشَّمَسَ وَالْقَمَرَ )) فشَبَّهَ
الرُّؤْيَةَ بالرؤيةِ ، وإنْ لم يكُنِ المَرئيُّ له مُشابِهاً للمَرئيِّ ،
فالمُؤمنونَ إذا رَأَوْا ربَّهمْ يومَ القيامةِ وناجَوْه كُلٌّ يراهُ
فوقَه قِبَلَ وجْهِه كما يرى الشمسَ والقمرَ ، ولا مُنافاةَ أصْلاً )) .
قولُه (( اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ))
اللهم مَعناها يا اللَّهُ . ولهذا لا تُستعمَلُ إلا في الطَّلَبِ فلهذا لا
يُقالُ : اللهمَّ غَفورٌ رحيمٌ بل يُقالُ : اللهم اغفِرْ لي وارحمني ،
زِيدَتْ فيه الميمُ للتعظيمِ والتفخيمِ على الصحيحِ ، والميمُ تدُلُّ على
الجَمْعِ وتَقْتَضِيهِ ، وَمَخْرَجُها يقتضي ذلك ؛ لأنها حَرْفٌ شَفَهِيٌّ
يَجمَعُ الناطِقُ به شفتَيْهِ فوضَعَتْه العربُ عَلَماً على الجَمْعِ .
وإذا عُلِمَ هذا مِنْ شأنِ الميمِ فَهُمْ أَلْحَقُوها في آخِرِ هذا الاسِمِ
(( اللهم )) الذي يسألُ العبدُ به ربَّه سبحانه في كُلِّ حاجةٍ وكُلِّ حالٍ ، إيذاناً بجَمْعِ أسمائِه تعالى وصِفاتِه . فإذا قال السائلُ (( اللهم إني أسألُكَ ))
فكأنه قال : أَدْعو اللَّهَ الذي له الأسماءُ الحُسنى والصفاتُ العُلَى
بأسمائِه وصفاتِه ، فأتى بالميمِ المُؤْذِنةِ بالجَمْعِ في آخِرِ هذا
الاسْمِ إيذاناً بسُؤالِه تعالى بِأسمائِه كُلِّها ، فالداعي مندوبٌ إلى
أنْ يَسألَ اللَّهَ تعالى بأسمائِه وصفاتِه كما في الاسمِ الأعظمِ : اللهم
إني أسألُكَ بأنَّ لكَ الحمدَ لا إلهَ إلا أنتَ ، الحَنَّانُ المَنَّانُ ،
بديعُ السماواتِ والأرضِ ، ياذا الجلالِ والإكرامِ ، يا حيُّ يا قيُّومُ .
وهذه الكلماتُ تتضمَّنُ الأسماءَ الحُسنى ، والدعاءُ ثلاثةُ أقسامٍ : ( أحَدُها ) أنْ تسألَ اللَّهَ تعالى بأسمائِه وصفاتِه ( الثاني ) أنْ تسأَلَه بحاجَتِكَ وفَقْرِكَ . وذلك تقول : أنا العبدُ الفقيرُ المسكِينُ البائسُ الذليلُ المستجِيرُ ونحوَ ذلك .
( الثالثُ )
أنْ تسألَ حاجتَكَ ولا تذْكُرَ واحداً مِن الأمرَيْنِ ، فالأوَّلُ :
أكْمَلُ مِن الثاني ، والثاني أكْمَلُ مِن الثالثِ ، فإذا جَمَعَ الدعاءُ
الأمورَ الثلاثةَ كان أكْمَلَ . وهذه عامَّةُ أدعيةِ النبيِّ صلى اللَّه
عليه وسلم ، وهذا القولُ قد جاءَ عَن غيرِ واحدٍ مِن السلَفِ .
قال الحسَنُ البصْريُّ (
( اللهمَّ ) ) مَجْمَعُ الدعاءِ . وقال أبو رجاءٍ العُطارِدِيُّ : إنَّ
الميمَ في قولِه (( اللهمَّ )) فيها تسعةٌ وتسعونَ اسماً مِن أسماءِ
اللَّهِ تعالى ، وقال النضْرُ بنُ شُمَيْلٍ : مَن قال (( اللهمَّ فقد دَعا
بجميعِ أسمائِه )) .
وقد روى هذا الحديثَ مُسلمٌ في صحيحِه عن أبي هريرةَ أنَّ رسولَ اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كان يدعو عند النومِ .
((
اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ .
رَبَّنا ورَبَّ كُلِّ شيءٍ ، مُنزِلَ التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ
وَالْفُرْقَانِ ، فالِقَ الْحَبِّ والنَّوَى لاَ إِلَهَ إلاَّ أَنْتَ ،
أُعُوذُ بكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ شيءٍ أَنْتَ آخِذٌ بناصِيَتِهِ ، أَنْتَ
الأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شيءٌ ، وَأَنْتَ الآخِرُ فَلَيْسَ بعْدَكَ
شَيْءٌ ، وَأَنْتَ الظاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شيءٌ ، وأنتَ الباطِنُ
فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ . اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ ، وَأَغْنِنَا مِن
الْفَقْرِ )) وهذا لفظُ الإمامِ أحمدَ ، ورَواهُ مسلمٌ بلفظٍ عن
سَهْلٍ ، قال : كان أبو صالحٍ يأمُرنا إذا أرادَ أحدُنا أنْ ينامَ أنْ
يَضطجِعَ على شِقِّه الأيمنِ ، ثم يقولُ : اللهمَّ ربَّ السماواتِ ، وربَّ
الأرضِ ، وربَّ العرشِ العظيمِ ، ربنَّا وربَّ كُلِّ شيءٍ ، فالِقَ الحَبِّ
والنَّوى ، ومُنزِلَ التوراةِ والإنجيلِ والفُرقانِ ، أعوذُ بكَ مِن شرِّ
كُلِّ ذي شرٍّ أنتَ آخِذٌ بناصيَتِه . اللهم أنتَ الأولُ فليس قَبلَكَ شيءٌ
، وأنتَ الآخِرُ فليس بعدَكَ شيءٌ ، وأنتَ الظاهِرُ فليس فوقَكَ شيءٌ ،
وأنتَ الباطِنُ فليس دُونكَ شيءٌ . اقْضِ عنَّا الديْنَ وأَغْنِنَا مِن
الفَقرِ . وكان يَرْوِى ذلك عن أبي هريرةَ عن النبيِّ صلى اللَّه عليه وسلم
، وأَخرَجه النَّسائيُّ وابنُ ماجةَ وأبو داودَ عن أبي هريرةَ . قال :
أتتْ فاطمةُ بنتُ النبيِّ صلى اللَّه عليه وسلم تسألُه خادِماً فقال قولي :(( اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَمَا أَظْلَلْنَ )) إلخ .
وهذا الحديثُ تفسيرٌ لِقَوْلِه تعالى :( هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) .
قولُه: ((وأنتَ الظاهِرُ فليس فوقَكَ شيءٌ ))
فجَعَلَ كمالَ الظهورِ مُوجِباً لكمالِ الفوقيةِ ، ولا ريبَ أنه ظاهِرٌ
بذاتِه فوقَ كُلِّ شيءٍ ، والظُّهورُ هنا العُلُوُّ. ومنه قولُه :( فَمَا اسْطَاعُواْ أَن يَظْهَرُوهُ ) أيْ يَعْلُوه، وقَرَّرَ هذا المعنى بقولِه :((فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ))
أيْ : أنتَ فوقَ الأشياءِ كُلِّها ، ليس لهذا اللفظِ معنًى غيرُ ذلك ، ولا
يَصحُّ أنْ يُحمَلَ الظُّهورُ على الغَلَبة ؛ لأنه قابلَه بقولِه ((وأنتَ الباطِنُ)) فهذه الأسماءُ الأربعةُ متقابِلةٌ : اسمانِ لأزَلِ الرَّبِّ تعالى وأَبَدِه ، واسمانِ لعُلُوِّه وقُرْبِه )).
وفي قولِه (( وأنتَ الباطِنُ فليس دونكَ شيءٌ )) بيانُ قُرْبِ الرَّبِّ تعالى مِن عِبادِه .
((فهو سبحانه يدْنُو
ويقْرُبُ مِمَّن يُريدُ الدُّنُوَّ والقُرْبَ منه، مع كونِه فوقَ عَرْشِه .
وقد قال النبيُّ صلى اللَّه عليه وسلم ((أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ )) فهذا قُربُ الساجدِ مِن ربِّه وهو فوقَ عرشِه ، وكذلك قولُه في الحديثِ الصحيحِ (( إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِن عُنُقِ رَاحِلَتِهِ )) فهذا
قُربُه مِن داعِيه ، والأوَّلُ قُربُه مِن عابِدِيه ، لم يُناقِضْ ذلك
كونُه فوقَ سماواتِه على عرشِه ، وإنْ عَسُرَ على فَهمِكَ اجتماعُ
الأمرَيْنِ فإنه يُوضِّحُه لك معرفةُ إحاطةِ الرَّبِّ وسَعَتِه ، وأنه
أَكبرُ مِن كُلِّ شيءٍ ، وأنَّ السماواتِ السبعَ والأرَضِينَ باليدِ
الأخْرى ثم يَهزُّهُنَّ، فمَن هذا شأنُه كيف يَعْسُرُ عليه الدُّنُوُّ
مِمَّن يريدُ الدُّنُوَّ منه وهو على عرشِه ؟ وهو يُوجِبُ لك فَهْمَ اسمِه
الظاهرِ والباطِنِ ، وتَعلَمُ أنَّ التفسيرَ الذي فسَّرَ رسولُ اللَّهِ صلى
اللَّه عليه وسلم به هذَيْنِ الاسمَيْنِ هو تفسيرُ الحقِّ المُطابِقِ
لكوْنِه بكُلِّ شيءٍ مُحيطٌ ، وكونِه فوقَ كُلِّ شيءٍ )) .
وقُربُ الرَّبِّ تعالى إنما وَرَدَ خصوصاً لا عامًّا ، وهو نوعانِ
: قُربُه مِن داعِيهِ بالإجابةِ ومِن مُطيعِه بالإثابةِ . ولم يَجِئِ
القُربُ كما جاءتِ المَعِيَّةُ خاصَّةً وعامَّةً فليس في القرآنِ ولا في
السُّنَّةِ أنَّ اللَّهَ قريبٌ مِن كُلِّ أحدٍ ، وأنه قريبٌ مِن الكافرِ ،
وإنما جاء خاصاًّ كقولِه تعالى :{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ } فهذا قُرْبُه مِن داعِيه وسائِلِيه . وقال تعالى :{ إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ }
ولم يَقُلْ عنها قريبةٌ ، وإنما كان الخبَرُ عنها مُذَكَّراً ، فإنَّ
الرحمةَ لَمَّا كانتْ مِن صفاتِ اللَّهِ تعالى ، وصفاتُه قائمةٌ بِذاتِه ،
فإذا كانت قريبةً مِن الْمُحْسِنينَ فهو قريبٌ سبحانه منهم قَطْعاً ، وقد
بيَّنَّا أنه سبحانَه قريبٌ مِن أهلِ الإحسانِ ومِن أهلِ سُؤالِه
بإِجابَتِه . ويُوضِّحُ ذلكَ أنَّ الإحسانَ يقتضى قُربَ العبدِ مِن ربِّه
فيَقْرُبُ ربه منه لَمَّا تَقَرَّبَ إليه بإحْسانِه ، فإنَّ مَن تَقرَّبَ
منه شِبرًا يتقرَّبُ إليه ذِراعاً ، ومَن تقرَّبَ منه ذِراعاً تقرَّبَ منه
باعاً فهو قريبٌ مِن الْمُحْسِنينَ بِذاتِه ورحمَتِه قُرباً ليس له نظيرٌ ،
وهو مع ذلك فوقَ سماواتِه على عرشِه ، كما أنه سبحانه يقْرُبُ مِن عِبادِه
في آخِرِ الليلِ ، وهو فوقَ عرشِه ، ويدنُو مِن أهلِ الموقِفِ عشيةَ عرفةَ
وهو على عرشِه ، فإنَّ عُلُوَّه سبحانه على سماواتِه من لوازمِ ذاتِه ،
فلا يكونُ قطُّ إلاَّ عالياً ، ولا يكونُ فوقَه شيءٌ ألبتَّةَ ، كما قال
أعْلَمُ الخَلْقِ (( وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ ))
وهو سبحانه قريبٌ في عُلُوِّه ، عالٍ في قُربِه . والذي يُسَهِّلُ عليكَ
فَهْمَ هذا معرفةُ عظَمةِ الرَّبِّ ، وإحاطَتِه بخَلْقِه ، وأنَّ السماواتِ
السبع في يدِه كخَرْدلَةٍ في يدِ العبدِ ، وأنه سبحانه يَقبِضُ السماوات.ِ
بيدِه والأرضَ بيدِه الأخرى ثم يهُزُّهنَّ ، فكيف يَستحيلُ في حقِّ مَن
هذا بعضُ عظَمَتِه أنْ يكونَ فوقَ عرشِه ويقرُبُ مِن خَلْقِه كيف شاءَ وهو
على العرشِ . بهذا يَزولُ الإشكالُ عن الحديثِ الذي رَواهُ الترمذيُّ مِن
حديثِ الحَسَنِ ، عن أبي هريرةَ ، قال : بينما نبيُّ اللَّهِ صلى اللَّه
عليه وسلم جالِسٌ في أصحابِه إذ أتى عليهم سحابٌ - فَذَكَرَ الحَدِيثَ -
وفيه : ثم قال :(( وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ
لَوْ أَنَّكُمْ أَدْلَيْتُمْ بِحَبْلٍ إِلَى الأَرْضِ السُّفْلَى
لَهَبَطْتُمْ عَلَى اللَّهِ )) ثم قرأ ( هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ )
قال الترمذيُّ : هذا حديثٌ غريبٌ مِن هذا الوجهِ ، ويُروى عن أيوبَ
ويُونُسَ بنِ عُبَيْدٍ وعلِيِّ بنِ زيدٍ ، قالوا : لم يَسمَعِ الحسَنُ مِن
أبي هريرةَ . وفسَّرَ بعضُ أهلِ العِلمِ هذا الحديثَ وقالوا : إنما يَهبِطُ
على عِلمِ اللَّهِ وقُدْرَتِه وسلطانِه في كُلِّ مكانٍ ، وهو على العرشِ
كما وصَفَ في كتابِه اه.
وقد اختلَفَ الناسُ في
هذا الحديثِ في سَنَدِه ومعناه ( فطائفةٌ ) قَبِلَتْهُ ( وطائفةٌ )
رَدَّتْه ، والذين قَبِلُوا الحديثَ اختلَفُوا في معناه، فحَكَى الترمذيُّ
عن بعضِ أهلِ العِلمِ أنَّ المعنى يَهبِطُ على عِلمِ اللَّهِ وقُدرتِه
وسلطانِه، ومُرادُه على مَعلومِ اللَّهِ ومَقْدورِه ومُلْكِه . أيِ انتهى
عِلمُه وقُدرتُه وسلطانُه إلى ما تحت التَّحْتِ ، فلا يَعْزُبُ عنه شيءٌ .
وقالتْ طائفةٌ أخرى : بل هذا معنى اسمِه المحيطِ واسمِه الباطِنِ ، فإنه
سبحانه محيطٌ بالعالَمِ كُلِّه وإنَّ العالَمَ العُلْوِيَّ والسُّفْلِيَّ
في قَبْضَتِه كما قال تعالى :{ وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِمْ مُّحِيطٌ }
فإذا كان محيطاً بالعالمِ فهو فوقَه بالذاتِ عالٍ عليه مِن كُلِّ وجهٍ ،
وبكُلِّ معنى فالإحاطَةُ تتضمَّنُ العُلُوَّ والسَِّعَةَ والعَظَمةَ ، فإذا
كانت السماواتُ السبعُ والأرَضونَ السبعُ في قبْضتِه فلو وقَعتْ حصاةٌ أو
دُلِّيَ بحبْلٍ لسَقطَ في قبْضتِه سبحانه ، والحديثُ لم يقَل فيه : إنه
يَهبطُ على جميعِ ذاتِه ، فهذا لا يقولُه ولا يَفْهمه عاقِلٌ ، ولا هو
مَذهَبُ أَحدٍ مِن أهْلِ الأرضِ ألبتَّةَ ، لا الحُلُولِيَّةُِ ، ولا
الاتِّحادِيَّةُِ ، ولا الفِرْعَونِيَّةُ، ولا القائِلونَ بأنه في كُلِّ
مكانٍ بِذاتِه ، وطوائفُ بني آدمَ كلُّهمْ متَّفِقونَ على أنَّ اللَّهَ
تعالى ليس تحت العالَمِ فقولُه (( لَوْ دَلَّيْتُمْ بِحَبْلٍ لَهَبَطَ عَلَى اللَّهِ ))إذا
هَبَطَ في قَبْضَتِه المحيطةِ بالعالَمِ فقد هَبَطَ عليه، والعالَمُ في
قبضَتِه وهو فوقَ عرشِه ، ولو أنَّ أحَدَنا أمْسَكَ بيَدِه أو رِجْلِه
كُرَةً قبَضَتْها يدُه مِن جميعِ جوانِبها ، ثم وقعَتْ حصاةٌ مِن أعْلى
الكُرَةِ إلى أسْفَلِها لوقعَتَ في يدِه وهبطَتْ عليه ، ولم يَلْزَمْ مِن
ذلك أنْ تكونَ الكُرَةُ والحَصاةُ فوقَه وهو تحتَها - ولِلَّهِ المَثَلُ
الأعلى - وأمَّا تأويلُ الترمذيِّ وغيرِه له بالعِلمِ فقال شيخُنا : وهو
ظاهِرُ الفسادِ مِن جنسِ تأويلاتِ الجهميةِ .
بل بتقدير ثُبوتِه فإنما يدُلُّ على الإحاطةِ ، والإحاطةُ ثابتةٌ عَقْلاً ونَقْلاً وفِطرَةً كما تقدم )) .
ولولاه لمَا رَفَعَ
الصحابةُ أصواتَهم بالذكِرِ ، الحديثُ خرجَّاه في الصحيحَيْنِ عن أبي موسى
الأشعريِّ وفي بعضِ طُرُقِه لمَّا تَوَجَّهَ رَسولُ اللَّهِ صلى اللَّه
عليه وسلم إلى خَيْبَرَ أو غَزا خَيْبَرَ أشْرَفَ الناسُ على وادٍ فرفعوا
أصواتَهُم بالتكبيرِ اللَّهُ أكبرُ لا إِلَهَ إلاَّ اللَّهُ فقالَ رسولُ
اللَّهِ صلى اللَّه عليه وسلم : " أرْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ "
الحديثَ ، وفي آخِرِه قال أبو موسى : وأَتَى عَلَيَّ رسولُ اللَّهِ صلى
اللَّه عليه وسلم وأنا أقولُ في نَفْسي : لا حَوْلَ ولا قوةَ إلا باللَّهِ
فقال :
يا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ : " أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ لا حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ باللَّهِ
(( وهذا السِّياقُ يُوهِمُ أنَّ ذلك وَقَعَ وَهُمْ ذاهِبونَ إلى خيبرَ ،
وليس كذلك بْل إنَّما وقَعَ ذلك حَالَ رُجوعِهِم ؛ لأنَّ أبا موسى إنما
قَدِمَ بعد فتْحِ خَيْبَرَ ، وعلى هذا ففي السياقِ حذْفٌ تقديرُه: لمَّا
توجَّهَ النبيُّ صلى اللَّه عليه وسلم إلى خيبرَ فحاصَرَها ففتَحَها
ففَزِعَ فرَجَعَ أشْرَفَ على الناسِ إلخ )) .
قولُه (( أرْبَعُوا ))
بفَتْحِ المُوحَّدةِ . أيِ ارْفُقُوا بضَمِّ الفاءِ ، قال يعقوبُ بنُ
السِّكِّيتِ : رَبَعَ الرجُلُ يَربَعُ إذا رَفَقَ وَكَفَّ . وحكى ابنُ
التِّينِ : أنه وقَعَ في رِوايَتِه بكَسْرِ المُوحَّدةِ ، وأنه في كُتُبِ
أهلِ اللغةِ وبعضِ كُتُبِ الحَديثِ بفَتْحِها .
وقولُه : " فإنَّكُمْ لاَ تَدْعُونَ أَصَمَّ " إلخ قال الكَرْمانيُّ : لو جاءتِ الروايةُ :
لا تَدْعُونَ أصمَّ ولا
أعْمَى لَكانَ أَظْهرَ في المناسَبةِ ، لكنه لمَّا كانَ الغائبُ كالأعمى
في عدمِ الرؤيةِ نُفِيَ لازِمُه ليكونَ أبْلَغَ وأَشْمَلَ ، وزادَ قريباً
لأنَّ البَعيدَ وإنْ كان ممَّن يَسْمَعُ ويُبصِرُ لكنه لبُعدِه قد لا
يَسمْعُ ولا يُبصِرُ .
ومناسَبةُ الغائبِ
ظاهرةٌ مِن أجْلِ النَّهْيِ عن رَفْعِ الصوتِ . قال ابنُ بطَّالٍ : في هذا
الحديثِ نفْيُ الآفةِ المانِعةِ مِن السمعِ والآفةِ المانِعةِ مِن النظَرِ ،
وإثباتُ كونِه سميعاً بصيراً قريباً يَستلْزِمُ أنْ لا تَصِحَّ أَضدادُ
هذه الصفاتِ عليه )).
وقال ابنُ بطَّالٍ :
كان عليه السلامُ مُعَلِّماً لأُمَّتِه فلا يَراهُمْ على حالةٍ مِن الخيرِ
إلاَّ أحَبَّ لهمُ الزيادةَ فأحَبَّ للذين رَفَعوا أصواتَهم بكلمةِ
الإخلاصِ والتكبيرِ أنْ يُضِيفوا إليها التَّبَرِّيَ مِن الحَوْلِ
والقُوَّةِ فيَجْمُعوا بينَ التوحيدِ والإيمانِ بالقدَرِ . وقد جاءَ في
الحديثِ : " إذَا قَالَ العَبدُ: لاَ حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلاَّ باللَّهِ ، قَالَ اللَّهُ : أَسْلَمَ عَبْدِي وَاسْتَسْلَمَ " .
قولُه " مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ "
سمَّى هذه الكلمةَ كَنْزاً ؛ لأنها كالكَنْزِ في نَفاسَتِه وصِيانَتِه .
وحاصِلُه أنَّ المُرادَ أنها مِن ذَخائرِ الجنةِ أوْ مِن مُحَصِّلاتِ
نفائسِ الجنةِ .
قالَ النَّوَوِيُّ :
المعنى أنَّ قَوْلَها يُحَصِّلُ ثَواباً نَفْسِياًّ يُدَّخَرُ لِصاحِبِه في
الجنةِ . وأخرجَ أحمدُ والترمذيُّ وصحَّحهُ ابنُ حِبَّانَ عَنْ أبي أيوبَ
أنَّ النبيَّ صلى اللَّه عليه وسلم ليلةَ أُسْرِيَ به مَرَّ على
إِبْرَاهِيمَ -على نَبِيِّنَا وعليه الصلاةُ والسلامُ - فقال : يا محمدُ :
مُرْ أُمَّتَكَ أَنْ يُكْثِرُوا مِن غِراسِ الجنةِ ، قال : وما غِرَاسُ
الجنةِ ؟ قال : لا حولَ ولا قوَّةَ إلا باللَّهِ .
قولُه (( لا تَدْعُونَ ))
كذا أُطْلِقَ على التكبيرِ ونحوِه دعاءٌ مِن جهةِ أنه بمعنى النداءِ ؛
لِكوْنِ الذاكِرِ يريدُ إسماعَ مَن ذَكَرَه والشهادةَ له وتقدَّمَ حديثُ
جابرٍ بلفظِ : كُنَّا إذا صَعِدْنا كَبَّرْنا ، وإذا نَزَلْنا سَبَّحْنَا .
ومناسَبَةُ التكبيرِ عندَ الصعودِ إلى المكانِ المُرْتَفِعِ أنَّ
الاستعلاءَ والارتفاعَ محبوبٌ للنفوسِ لِما فيه مِن استِشعارِ الكبرياءِ
فشُرِعَ لمَن تَلبَّسَ به أنْ يَذْكُرَ كِبرياءَ اللَّهِ تعالى ، وأنه
أكبرُ مِن كُلِّ شيءٍ فيُكَبِّرُه لِيَشْكُرَ له ذلك فيَزيدَه مِن فَضْلِه ،
ومُناسَبةُ التسبيحِ عندَ الهبوطِ ؛ لِكوْنِ المكانِ المُنْخفضِ مَحَلُّ
ضيق ، فيُشْرَعُ فيه التسبيحُ ؛ لأنه مِن أسبابِ الفرَجِ ، كما وَقَعَ في
قصةِ يونُسَ عليه السلامُ حين سَبَّحَ في الظُّلُماتِ فنُجِّيَ مِن الغَمِّ
، فأخبَرَ صلى اللَّه عليه وسلم وهو أَعْلَمُ الخَلْقِ بِرَبِّه أنه تعالى
أقْرَبُ إلى أحدِهم مِن عُنُقِ راحِلَتِه ، وأخبَرَ أنه فوقَ سماواتِه على
عرشِه مُطَّلِعٌ على خَلْقِه ، يَرى أعمالَهم ، ويَعلَمُ ما في بُطونِهِم ،
وهذا حقٌّ لا يُنَاقِضُ أحدُهما الآخَرَ )) .
والقُرْبُ المذكورُ في
الكِتابِ والسُّنَّةِ قُرْبٌ خاصٌّ مِن عابِديهِ وسَائِلِيه ودَاعِيه ، وهو
مِن ثَمَرَةِ التَّعَبُّدِ باسِمه الباطنِ ، فقال تعالى :{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } فهذا قُرْبُه مِن داعِيه ، وقال :( إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ
) فذَكَرَ الخبَرَ وهو قريبٌ عن لفظِ الرحمةِ ، وهي مُؤَنَّثةٌ إيذاناً
بقُرْبِه تعالى مِن المُحْسنِينَ ، فكأنه قال إنَّ اللَّهَ برحْمَتِه قريبٌ
مِن المُحْسنِينَ . وفي الصحيحِ عن النبيِّ صلى اللَّه عليه وسلم ، قال :(( أَقْرَبُ ما يَكُونُ العبدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ )) و (( أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنْ عَبْدِهِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ )) فهذا قُرْبٌ خاصٌّ غيرُ قُرْبِ الإحاطةِ والبُطونِ .
وقولُه في حديثِ أبي موسى : " إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ " .
فهذا قُرْبُه مِن داعِيه وذاكِريه يعني فأيُّ حاجَةٍ بكم إلى رَفْعِ
الأصواتِ وهو لِقُرْبِه يَسمَعُها وإنْ خُفِضَتْ، كما يَسْمَعُها إذا
رُفِعَتْ ، فإنه سميعٌ قريبٌ ؟ وهذا القُربُ مِن لوازمِ المَعِيَّةِ ،
فكُلَّما كان الحُبُّ أَعْظَمَ كان القُربُ أَكْثَرَ)) .
التنبيهات السنية للشيخ: عبد العزيز بن ناصر الرشيد رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (( وقَوْلُهُ: صلى الله عليه وسلم (( أَفْضَلُ الإِيمانِ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ اللهَ مَعَكَ حَيْثُما كُنْتَ )) حديثٌ حسنٌ.(1)
وقَوْلُهُ: ((
إِذا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلى الصَّلاةِ؛ فَلا يَبْصُقَنَّ قِبَلَ وَجْهِهِ،
وَلا عَنْ يَمِيْنِهِ؛ فَإِنَّ اللهَ قِبَلَ وَجْهِهِ، وَلَكِنْ عَنْ
يَسَارِهِ، أَو تَحْتَ قَدَمِهِ )). متَّفقٌ عليهِ ).(2)
( وقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((
اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَاواتِ السَّبْعِ [ وَالأَرْضِ ] وَرَبَّ العَرْشِ
العَظيمِ، رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، فَالِقَ الحَبِّ والنَّوَى،
مُنْزِلَ التَّوْراةِ وَالإِنْجِيلِ وَالقُرْآنَ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ [
نَفْسِي وَمِنْ شَرِّ ] كُلِّ دَابَّةٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا،
أَنْتَ الأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الآخِرُ فَلَيْسَ
بَعْدَكَ شَيْءٌ وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ وَأَنْتَ
البَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ، اقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ وَأَغْنِني
مِنَ الفَقْرِ )). [روايةُ] مُسْلِمٍ ).(3)).
الشرح:
قال الشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد (ت: 1408هـ): ((1) قَولُهُ: (أَفْضَلُ الإيمَانِ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ اللهَ مَعَكَ))
إلخ، في هذا الحديثِ دليلٌ على إثباتِ معيَّتِه -سُبْحَانَهُ وتعالى-
والمعيَّةُ تنقسمُ إلى قِسمينِ وقدْ تقدَّمَ الكلامُ عليها. وهذا الحديثُ
فيهِ ذِكْرُ المعيَّةِ العامَّةِ، وهي معيةُ العِلْمِ والاطِّلاعِ، وقدْ
تكاثرتِ الأدلَّةُ بالنَّدبِ إلى استحضارِ قُربِه -سُبْحَانَهُ- في حالِ
العباداتِ، كقَولِهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ)) وقَولِهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((إِنَّ اللهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ فِي صَلاَتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ))
قالَ ابنُ رجبٍ رحمه اللهُ: ومَن فهمَ مِن هذه الأحاديثِ تشبيهًا أو
حلولاً أو اتِّحادًا فإنما أُتِيَ مِن جهلِه وسوءِ فهمِه عن اللهِ ورسولِه،
واللهُ ورسولُه بريئانِ مِن ذلك كلِّه، فسبحان مَن ليس كمثلِه شيءٌ وهو
السميعُ البصيرُ. انتهى.
وفي هذا الحديثِ دليلٌ
على أنَّ الإيمانَ يتفاضلُ، ودليلٌ على أنَّ بعضَ خصالِ الإيمانِ أفضلُ مِن
بعضٍ، وفيه دليلٌ على أفضلِيَّةِ عملِ القلبِ، ودليلٌ على أنَّ أعمالَ
القلوبِ داخلةٌ في مُسمَّى الإيمانِ، وفيه الردُّ على مَن زعمَ أنَّ
الإيمانَ لا يزيدُ ولا ينقصُ، وفيه دليلٌ على أنَّ الإحسانَ أكملُ مراتبِ
الدِّينِ، وهو أنْ يعبدَ العبدُ ربَّهُ كأنَّه يراهُ فيستحضرُ قُربَ اللهِ
واطِّلاعَهُ وأنَّه بينَ يدَيهِ وذلكَ يوجبُ الخشيةَ والخوفَ والتعظيمَ،
ويوجبُ النُّصحَ في العبادةِ وبذلَ الجهدِ في تحسينها وإتمامِهَا، فيجمعُ
العبدُ بينَ الإيمانِ بعلوِّ اللهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- واستحضارِ قربهِ،
ولا منافاةَ بينَ الأمرينِ.
(2) قَولُهُ: ((إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلاَةِ))
إلخ: هذا الحديثُ رواهُ البخاريُّ ومسلمٌ، وغيرُهما عن جماعةٍ مِن
الصَّحابَةِ، منهم أنسٌ وأبو هريرةَ وجابرُ بنُ عبدِ اللهِ وابنُ عمرَ
وغيرُهُم.
قَولُهُ: ((يَبْصُقُ)): أي يَتفلُ والبصاقُ والبزاقُ لغتانِ، والبصاقُ لغةٌ قليلةٌ.
قَولُهُ: ((قِبَلَ))
بكسرِ القافِ وفتحِ الباءِ، أي مواجِهَ، في هذا الحديثِ فوائِدُ، فيه
دليلٌ على قُربِ اللهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- وإحاطتهِ كما يليقُ بجلالهِ
وعظمتهِ كما قالَ سُبْحَانَهُ: (وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ)
فإذا كانَ محيطًا بالعالمِ فهوَ فوقهُ بالذَّاتِ عالٍ عليهِ مِن كلِّ وجهٍ
وبكلِّ معنًى، فالإحاطةُ تتضمَّنُ العلوَّ والسعةَ والعظمَةَ، وإحاطتُهُ
-سُبْحَانَهُ- بخلقهِ لا تَنفيِ مباينتَهُ ولا علوَّهُ على مخلوقاتهِ بلْ
هو -سُبْحَانَهُ- فوقَ خلقهِ محيطٌ بهمْ مُباينٌ لهم. انتهى مِن
(الصَّواعقِ) باختصارٍ.
قالَ الشيخُ تقيُّ
الدينِ رحمهُ اللهُ في (الحمويةِ): وكذلكَ العبدُ إذا قامَ يُصلِّي فإنهُ
يستقبلُ ربَّهُ وهوَ فوقهُ، فيدعوهُ مِن تلقائِه لا عن يمينِهِ ولا عن
شمالِه، ويدعوهُ مِن العلوِّ لا مِن السفلِ، كما إذا قُدِّرَ أنَّه يخاطبُ
القمرَ فإنَّه لا يَتوجَّهُ إليه إلاَّ بوجههِ مع كونهِ فوقَه، ا هـ. وقدْ
نَزَع بهذا الحديثِ بعضُ المعتزلةِ إلى أنَّ اللهَ في كلِّ مكانٍ بذاتِه،
وهذا جهْلٌ فاضحٌ، والأدلةُ المتواترةُ تردُّ ذلكَ، وتفيدُ علوَّ اللهِ
واستواءَهُ على عرشِه، وأيضاً فإنَّ آخرَ الحديثِ ينقضُ قَولَهُمْ وهو
قَولُهُ: ((أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ)) وفي الحديثِ
إشارةٌ للندبِ إلى استحضارِ قُرْبِه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- ومَعيَّتِهِ في
حالِ العبادةِ، فإنَّ ذلكَ يوجبُ الخشيةَ والخوفَ مِن اللهِ، ويدعو إلى
إتمامِ العبادةِ على الوجهِ اللائِقِ، وفيه دليلٌ على القيامِ في الصَّلاةِ
وأنَّ العملَ اليسيرَ لا يُبطلُ الصلاةَ، وفيه دليلٌ على جوازِ البصاقِ
وهو يُصلِّي، وفيه دليلٌ على النَّدبِ إلى إزالَةِ المستقذَرِ أو ما
يتنزَّهُ عنه مِن المسجدِ، وفيها أنَّ النفخَ والتنحنحَ في الصَّلاة
جائزان؛ لأنَّ النُّخَامةَ لا بُدَّ أن يقعَ معها شيءٌ مِن ذلك، وفيه
النَّهيُ عنِ البُصَاقِ قبَِلَ وجهِهِ والنَّهيُ عن البصاقِ عن يمينِه
تشريفًا لها، وفي روايةِ البخارِيِّ ((ولا عن يمينه فإنَّ عن يمينِه مَلَكَين))،
وفيه جوازُ البصاقِ تحتَ قدمِه وعن يسارِه، والمرادُ إذا كان خارجَ
المسجِد، فأمَّا في المسجِد فلا يجوزُ البصاقُ في أرضِ المسجدِ مطلقًا،
لحديثِ ((الْبُصَاقُ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ وَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا))
فهذا مخصِّصٌ للحديثِ المتقدِّم، فإذَا بَدرَه البُصاقُ في المسجدِ بصقَ
في ثوبِه ودلَّك بعضَها في بعضٍ كما دلَّت على ذلكَ الأحاديثُ المخصِّصَةُ
لما تقدَّم، واستفيدَ مِن الحديثِ تحريمُ البُصاقِ إلى القِبلَة، سواءٌ كان
في المسجدِ أو لاَ، وفي صَحيحَي ابنِ خُزيمَةَ وابنِ حبَّانَ من حديثِ
حذيفةَ رضي اللهُ عنه مرفوعًا (( مَن تَفَلَ تجاهَ القبلَةِ جاءَ يومَ القيامةِ وتفلُه بينَ عينيِه))،
ولأبي داودَ وابنِ حبَّانَ مِن حديثِ السَّائبِ بن خلاَّدٍ أنَّ رجلاً
أمَّ قومًا فبصَقَ في القِبْلةِ فلما فرغَ قال رسولُ الله -صلَّى اللهُ
عليهِ وسلَّمَ-: ((لاَ يُصَلِّي لَكُمْ))
الحديثَ، وفيه أَنَّكَ قد آذيتَ اللهَ ورسولَه، وفي هذه الآياتِ دليلٌ على
أنَّ النُّخَامةَ والبُصَاقَ طَاهرانِ، ودليلٌ على صيانةِ المساجدِ
وتَعظيمِها.
(3) قَولُهُ: ((اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ))
إلخ: هذا الحديثُ أخرجَه مسلمٌ مِن حديثِ سهيلٍ قال: كان أبو صالحٍ
يأمُرُنَا إذا أرادَ أحدُنَا أنْ ينامَ أن يضْطَجِعَ على شِقِّه الأيمنِ ثم
يقولُ: ((اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ)) الحديثَ، قال: وكان يَروي ذلك عن أبي هريرةَ وأخرجَه أيضًا أهلُ السُّنَنِ.
قَولُهُ: ((اللَّهُمَّ)): أصلُه يا اللهُ، فالميمُ عِوَضٌ عن ياءٍ، ولذلكَ لا يُجمعُ بينهُمَا، وشذَّ قولُ بعضِ العربِ
إنِّي إذَا ما حَدَثٌ ألَمَّا أَقُولُ يَا اللَّهُمَّ يا اللَّهمَّا
قال الحسنُ البصريُّ: اللهمَّ مجمَعُ الدُّعاءِ، وقال النَّضرُ بن الشُّمَيْلٍ: مَن قال اللهمَّ فقد دعا اللهَ بجميعِ أسمائِه.
قَولُهُ: ((رَبَّ)): تأتي لفظةُ ربَّ بمعنى المُربِّي والمالِكِ والخالِقِ.
وقَولُهُ: ((رَبَّ السَّماواتِ السَّبْعِ)): أي هو خالِقُ العالَمِ العلويِّ.
قَولُهُ: ((وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)): أي الكبيِرُ، في الحديثِ: ((مَا
السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرَضُونَ السَّبْعُ وَمَا بَيْنَهُنَّ وَمَا
فِيهِنَّ فِي الْكُرْسِيِّ إِلاَّ كَحَلَقَةٍ مُلْقَاةٍ فِي أَرْضٍ فَلاَةٍ
وَأَنَّ الْكُرْسِيَّ بِمَا فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَرْشِ كَتِلْكَ
الْحَلَقَةِ فِي تِلْكَ الْفَلاَةِ)) وقال الضحَّاكُ عن ابنِ عباسٍ
رضي اللهُ عنهما: إنما سُمِّي عرشًا لارتفاعِه. وعن ابنِ عباسٍ رضي اللهُ
عنه: العرشُ لا يقدرُ قدْرَه إلاَّ اللهُ، فيه إثباتُ عظمَةِ العرشِ،
وأنَّه أعظمُ المخلوقاتِ، وأنَّه مخلوقٌ، ومنه يُستفادُ عظمةُ الباري
بعظمَةِ مخلوقَاتِه، وفيه الرَّدُّ على مَن زعمَ أنَّ العرشَ ليسَ بمخلوقٍ،
أو أنَّ عرشَهُ مُلكُه، أو قُدرَتُه، وقدْ تقدَّم الكلامُ على هذا.
قَولُهُ: ((رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ)):
فيه إثباتُ عمومِ ربوبيَّتِه ومُلكِه، وأنَّه خالقُ كلِّ شيءٍ، وأنَّه
المنعِمُ الحقيقيُّ على سائِرِ الخلقِ، وفيها الرَّدُّ على القَدَرِيَّةِ
الذين يزعُمون أن العبدَ يخلقُ فِعلَ نفسِه، فإنَّ ربوبيَّته العامَّةَ
وقدرتَه التَّامَّةَ تشملُ أفعالَ خلقِه، فمَن زعَمَ أنَّ العبدَ يخلقُ
فعلَ نفسِه فقدْ أثبتَ خالِقًا مع اللهِ، ولم يُدخلْ أفعالَ خلقهِ في عمومِ
قُدرتهِ وربوبيَّتِهِ.
قَولُهُ: ((فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى)): أي شاقُّ، والفلقُ الشَّقُّ، أي الَّذي يشقُّ حبَّ الطعامِ ونوى التمرِ ونحوَهما للإنباتِ، والنَّوى عجمُ التمرِ ونحوِه.
قَولُهُ: ((مُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ)):
أي مُنزلُ التوراةِ على موسى، والإنجيلِ على عيسى، والقرآنِ على محمَّدٍ،
فيهِ دليلٌ على أنَّ هذه الكتبَ مِن كلامِ اللهِ، وأنها منـزَّلةٌ مِن عندِ
اللهِ، وأنها غيرُ مخلوقَةٍ، خلافًا لأهلِ البدعِ الذينَ يزعمونَ أنَّ
كلامَ اللهِ مخلوقٌ، أو أنها كلامُ غيرِه، وفيه دليلٌ على علوِّ اللهِ
سُبْحَانَهُ؛ لأنَّ الإنزالَ والنـزولَ والتنـزيلَ المعقولَ عندَ العربِ لا
يكونُ إلاَّ مِن أعلى إلى أسفَلَ.
قَولُهُ: ((أَعُوذُ)):
أي ألتجئُ وأعتصمُ وألتصقُ بجنابِ اللهِ مِن شرِّ كلِّ ذي شرٍّ، والعياذُ
يكونُ لدفعِ الشَّرِّ، واللِّياذُ يكونُ لطلبِ الخيرِ كما قال المُتنبِّي:
يا مَن ألوذُ بهِ فيما أؤمله ومَن أعوذُ بهِ ممَّا أحــاذرُهُ
لا يجبرُ الناسَ عظماً أنتَ كاسرُه ولا يهيضونَ عظماً أنتَ جابرُه
قَولُهُ: ((دَابَّةٍ)): الدابَّةُ لغَةً: كل ما دبَّ على وجهِ الأرضِ، وأُطلقَ عرفًا على ذواتِ الأربَعِ.
قَولُهُ: ((بِنَاصِيَتِهَا)):
أي تحتَ قهرهِ وسلطانهِ سُبْحَانَهُ، أي أعوذُ بكَ مِن شرِّ كلِّ شيءٍ مِن
المخلوقاتِ؛ لأَنها كلَّها في سُلطانهِ وهوَ آخذٌ بنواصيها متصرِّفٌ فيها
يصرِّفُها كيفَ يشاءُ، والنَّاصيةُ مقدَّمُ الرَّأسِ.
قَولُهُ: ((أَنْتَ الأوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ)):
هذا تفسيرُ رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- فلا تفسيرَ أكمَلُ
مِن تفسيرِه، ففيه دليلٌ على أوَّلِيَّتِه -سُبْحَانَهُ- وأنَّه قَبْلَ
كلِّ شيءٍ، ففيه الردُّ على مَن زَعَم قِدَمَ هذه المخلوقاتِ، وفيه دليلٌ
على أبديَّتِه -سُبْحَانَهُ- وبقائِه بعدَ كلِّ شيءٍ، وفيه دليلٌ على
عُلوِّه -سُبْحَانَهُ- على خلقِه وفوقيَّتِه واستوائِه على عرشِه، فإنَّ
الظَّاهِرَ هو العالي المرتفعُ.
قَولُهُ: ((وَأَنْتَ الْبَاطِنُ)):
فيه دليلٌ على قُربِه -سُبْحَانَهُ- وإحاطتِه وأنَّه أقربُ إلى كلِّ شيءٍ
مِن نفسِه، وقُربُه -سُبْحَانَهُ- لا يُنافي ما ذُكِرَ مِن علوِّه
وفوقِيَّتِه، فإنه ليسَ كمثلهِ شيءٌ، وليسَ قربهُ كقربِ الأجسامِ بعضِها
منْ بعضٍ – تعالى اللهُ أنْ يُشبهَه شيءٌ منْ خلقهِ – فهذهِ الأسماءُ
الأربعةُ متقابلةٌ، اسمانِ منها لأزليَّةِ الربِّ وأبديَّتهِ، واسمانِ
لعلوهِ وقربِهِ.
وقَولُهُ: ((اقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ)): هذا فعلُ دعاءٍ، أي أدِّ، قَولُهُ: ((الدَّيْنَ)): أي واحدُ الدُّيونِ، والمرادُ بهِ حقوقُ اللهِ وحقوقُ عبادهِ كلُّها من جميعِ الأنواعِ.
قَولُهُ: ((اغْنِني)): الغِنى بالكسرِ والقصرِ هو عدمُ الحاجةِ، وبفتحِ الغينِ النفعُ وبالكسرِ مع المدِّ الأصواتُ المُطربةُ، كما قال بعضُهم:
غناءُ الصوتِ ممدودٌ بما يستجلبُ الطـربَ ... وكلُّ غِنًى فمقصورٌ كذا نطقتْ به العـرَبُ
والفقرَ بالفتحِ ضدُّ الغِنى، وهو في اصطلاحِ الفقهاءِ: من وجدَ أقلَّ من نصفِ كفايتهِ أو لم يجدْ شيئًا أصلاً، وأمَّا المسكينُ فهو: منْ وجدَ نصفَ كفايتهِ فأكثَرَ، فالفقيرُ أشدُّ حاجةً من المسكينِ، لكنْ إذا أُطلقَ الفقيرُ دخلَ فيه المسكينُ وبالعكسِ، وإذا ذُكرا معًا فُسِّرَ كلُّ واحدٍ منهما بتفسيرٍ، كالإسلامِ والإيمانِ إذا اجتمعا افترَقا، وإذا افترقا اجتمعَا، وفي الحديثِ من الفوائدِ غيرِ ما تقدَّمَ: دعاءُ اللهِ بأسمائهِ وصفاتِه، وهذا مما تكرَّرَ في الأحاديثِ، وهذا هو التوسلُ الشرعيُّ والمتوسلُ بهذه الوسيلةِ جديرٌ بالإجابَةِ).