11 Nov 2008
الإيمان بأن الله في السماء
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: فِي رُقْيَةِ المَرِيضِ: ((رَبَّنَا
اللهُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ تَقَدَّسَ اسْمُكَ ، أَمْرُكَ فِي السمَاءِ
وَالأَرْضِ ، كَمَا رَحْمَتُكَ فِي السَّمَاءِ ، اجْعَلْ رَحْمَتكَ فِي
الأَرْضِ ، اغْفِرْ لَنَا حُوبَنَا وَخَطَايَانَا ، أَنْتَ رَبُّ ا
لطَّيِّبِينَ ، أَنْزِلْ رَحْمَةً مِنْ رَحْمَتِكَ وَشِفَاءً مِنْ
شِفَائِِكَ عَلَى هََذَا الوَجَعِ )) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: ((أَلاَ تَأْمَنُوني وَأَنَا أَمِينُ مِنْ فِي السَّمَاءِ)) رواه البخاري وغيره . وَقَوْلُه ُصلى الله عليه وسلم: ((وَالْعَرْشُ فَوْقَ المَاءِ، وَاللهُ فَوْقَ الْعَرْشِ ، وَهُوَ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ)) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ والترمذي وغيرهما .
وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم للجارية: ((أينَ اللهُ؟)) قَالَتْ : فِي السمَاءِ. قَال : ((مَنْ أَنَا؟)) قَالَتْ : أَنْتَ رَسُولُ اللهِ ، قَالَ : ((أَعْتِقْهَا ؛ فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (قوله
صلى الله عليه وسلم في رُقْيَةِ المريض: ((رَبَّنا اللهُ الَّذي في
السَّماءِ! تَقَدَّسَ اسْمُكَ، أمْرُكَ في السَّماءِ والأرْضِ؛ كَما
رَحْمَتُكَ في السَّماءِ؛ اجْعَلْ رَحْمَتَكَ في الأرْضِ، اغْفِرُ لَنا
حُوبَنا وخَطايانا، أنتَ رَبُّ الطَّيِّبينَ، أنْزِلْ رَحْمَتَكَ وَشِفاءً
مِنْ شِفائِكَ على هذا الوَجِعِ؛ فَيَبْرَأ)). حديث حسن، رواه أبو داود
وغيره.:(1)
قوله: ((أَلا تَأْمَنُوني وَأَنا أَمينُ مَنْ في السَّماءِ))(2)
قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((وَالعَرْشُ فَوْقَ الماءِ، وَاللهُ فَوْقَ العَرْشِ، وَهُوَ يَعْلَمُ ما
أنْتُمْ عَلَيْهِ)). حديث حسن، رواه أبو داود وغيره.(3)
قوله صلى الله عليه وسلم للجارية: ((أيْنَ
اللهُ؟)). قَالَتْ: في السَّمَاءِ. قَالَ: ((مَنْ أَنَا؟)). قالت: أَنْتَ
رَسُولُ اللهِ. قَالَ: ((أعْتِقْها؛ فإنَّها مُؤْمِنَة)). رواه مسلم.(4) ).
الشرح:
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (الحديثُ الثَّامنُ: في إثْباتِ العُلُوِّ للهِ وصفاتِ أخْرَى
(1) قولُهُ: ((في رُقْيَة المريض)): مِنْ بابِ إضافةِ المصدرِ إلى المفعولِ؛ يعني: في الرُّقيةِ إذا قُرأ على المريضِ.
قولُهُ: ((ربَّنا اللهُ الَّذِي في السَّماءِ)): تقدَّم الكلامُ على قولِهِ: ((في السَّماءِ)) في الآياتِ.
وقولُهُ: ((تقدَّسَ اسمُكَ))؛ أيْ: طَهُرَ،
والاسمُ هنا مفردٌ، لكنَّه مضافٌ، فيشملُ كلَّ الأسماءِ؛ أيْ: تقدَّسَتْ
أسماؤكَ مِنْ كلِّ نقصٍ.
((أمرُك في السَّماءِ والأرضِ)): أمرُ اللهِ
نافذٌ في السَّماءِ والأرضِ؛ كَما قَالَ تعالَى: (يُدَبّرُ الأَمرَ مِنَ
السَّماءِ إِلَى الأَرضِ) [السَّجدة: 5]، وقَالَ: (أَلاَ لَهُ الخَلقُ
وَالأَمرُ) [الأعراف: 54].
وقولُهُ: ((كما رحمتُكَ في السَّماءِ؛ اجعلْ
رحمتَكَ في الأرضِ)): الكافُ هنا للتعليلِ، والمرادُ بها التَّوسُّلُ؛
توسلٌ إلى اللهِ تعالَى بجعلِ رحمتِهِ في السَّماءِ أنْ يجعلَها في الأرضِ.
فإنْ قُلْتَ: ألَيْسَ رحمةُ اللهِ في الأرض أيضًا؟!
قُلْنا: هو يقرأُ على المريضِ، والمريضُ يحتاجُ إلى رحمةٍ خاصةٍ يزولُ بها مرضُهُ.
وقولُهُ: ((اغفِرْ لنَا حُوبنَا وخَطايانا)):
الغَفْرُ: سترُ الذَّنبِ والتَّجاوزِ عَنْهُ. والحُوبُ: كبائرُ الإثمِ.
والخَطايا: صغائرُه. هذا إذا جُمعَ بينَهُما، أمَّا إذا افترَقا؛ فَهُما
بمعنَى واحدٍ؛ يعنى: اغفِرْ لنا كبائرَ الإثِم وصغائرَه؛ لأنَّ في المغفرةِ
زوالَ المكروبِ وحصولَ المطلوبِ، ولأنَّ الذُّنوبَ قد تَحُولُ بَيْنَ
الإنسانِ وبَيْنَ توفيقِه؛ فلا يوفَّقُ ولا يُجابُ دعاؤه.
قولُهُ: ((أنْتَ ربُّ الطَّيِّبين)): هذه ربوبيةٌ
خاصةٌ، وأمَّا الربوبيةُ العامةُ؛ فهو ربُّ كلِّ شيءٍ، والربوبيةُ قد
تكونُ خاصةً وعامةً.
واستمعْ إلى قولِ السَّحَرةِ الَّذِين آمنوا:
(قَالُوا ءاَمَنَّا بِرَبّ العَالَمِينَ رَبّ مُوسَى وَهَارُونَ) [الأعراف:
121- 123]؛ حيثُ عمَّمُوا ثُمَّ خَصُّوا.
واستمعْ إلى قولِهِ تعالَى: (إِنَّمَا أُمِرتُ
أَن أَعبُدَ رَبَّ هَذِهِ البَلدَةِ الَّذِى حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ
شَيءٍ) [النمل: 91]؛ ف(رَبَّ هَذِهِ البَلدَةِ): خاصٌّ، (وَلَهُ كُلُّ
شَيءٍ): عامٌّ.
والطَّيِّبونَ: هُم المؤمنون؛ فكلُّ مؤمنٍ؛ فهو
طيِّبٌ، وهذا مِنْ بابِ التَّوسُّلِ بهذِهِ الرُّبوبيةِ الخاصَّةِ، إلى أنْ
يستجيبَ اللهُ الدُّعاءَ ويشفي المريضَ.
قولُهُ: ((أَنْزِلْ رَحْمَةً مِنْ رَحْمَتِكَ
وَشِفاءً مِنْ شِفَائِكَ عَلَى هَذا الوَجَعِ)): هذا الدعاءُ وما سبقَهُ
مِنْ بابِ التَّوسُّلِ.
((أَنْزِلْ رَحْمةً مِنْ رحمتِكَ)): الرَّحمةُ نوعان:
-رحمةٌ هي صفةُ اللهِ؛ فهذِهِ غيرُ مخلوقةٍ وغيرُ
بائنةٍ مِنَ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ مثلُ قولِهِ تعالَى: (وَرَبُّكَ الغَفُورُ
ذُو الرَّحمةِ) [الكهف: ]، ولا يطلبُ نزولها.
-ورحمةٌ مخلوقةٌ، لكنَّها أثرٌ مِنْ آثارِ رحمةِ
اللهِ؛ فأُطْلقَ عليها الرحمَةُ؛ مثلَ قولِهِ تعالَى في الحديثِ
القُدُسِيِّ عَنِ الجنَّةِ: ((أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ
أَشَاءُ)).
كذلِكَ الشِّفاءُ؛ فاللهُ شافٍ، ومِنْهُ
الشِّفاءُ؛ فوصْفُه الشِّفاءُ، وهو فعلٌ من أفعالِهِ، وهو بهذا المعنَى
صفةٌ مِنْ صفاتِهِ، وأمَّا باعتبارِ تعدِّيه إلى المريضِ؛ فهو مخلوقٌ مِنْ
مخلوقاتِهِ؛ فإنَّ الشِّفاءَ زوالُ المرضِ.
قولُهُ: ((فَيَبْرأَ)): بفتحِ الهمزةِ منصوباً؛
لأنَّهُ جوابُ الدُّعاءِ: أنزلْ رحمةً؛ فيبرأَ. أمَّا إذا قُرئَ بالضمِّ
مرفوعاً؛ فإنَّهُ مستأْنَفٌ، ولا يتبعُ الحديثَ، بَلْ يوقفُ عندَ قولِهِ:
((الوَجَعِ))، وتكونُ ((فيبرأُ)): جملةٌ خبريةٌ تفيدُ أنَّ الإنسانَ إذا
قرأَ بهذه الرُّقيةِ؛ فإنَّ المريضَ يبرأُ، ولكنَّ الوجهَ الأوَّلَ أحسنُ
بالنَّصبِ.
الحديثُ التَّاسعُ: في إثْباتِ العُلُوِّ أيضاً
(2) ((أَلَا تَأْمَنُونِي)): فيها إشكالٌ لُغويٌّ، وهو حذفُ نونِ الفعلِ بدونِ ناصبٍ ولا جازمٍ!!
والجوابُ عَنْ هذا: أنَّهُ إذا اتَّصلَتْ نونُ الوقايةِ بفعلٍ مِنَ الأفعالِ الخمسةِ؛ جازَ حذفُ نونِ الرفعِ.
((أَلَا تَأْمَنُونِي))؛ أيْ: ألا تعتبرونِي أميناً.
((وأنا أمينُ مَنْ في السَّماءِ)): والَّذِي في
السَّماءِ هو اللهُ عزَّ وجلَّ، وهو أمينهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
على وحيِهِ، وهو سيِّدُ الأمناءِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، والرَّسولُ
والَّذِي ينزلُ عليه جبريلُ هو أيضاً أمينٌ: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ
كَرِيمٍ، ذِى قُوَّةٍ عِندَ ذِي العَرْشِ مَكِينٍ، مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ)
[التكوير: 19-20].
وهذا الحديثُ له سَبَبٌ، وهو أنَّ النَّبيَّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسَّمَ ذهيبةً بعثَ بِها عليٌّ مِنَ
اليمنِ بينَ أربعةِ نفرٍ، فقَالَ له رجلٌ: نحنُ أحقُّ بهذا مِنْ هؤلاءِ.
فقَالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَلا تَأْمَنُوني
وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّماءِ)).
((ألا)): للعرضِ؛ كأنَّهُ يقولُ: ائمنوني؛ فإنِي أمينُ مَنْ في السَّماءِ!
ويُحْتَملُ أنْ تكونَ الهمزةُ لاستفهامِ الإنكارِ، و(لا): نافيةٌ.
والشَّاهدُ قولُهُ: ((مَنْ في السَّماءِ))، ونقولُ فيها ما قُلْناه فيما سبقَ في الآياتِ.
الحديثُ العاشرُ: في إثْباتِ العُلُوِّ أيضاً
(3) لما ذكَرَ النَّبيُّ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ المسافاتِ الَّتي بَيْنَ السَّماواتِ؛ قَالَ: ((وَالعَرْشُ فَوْقَ المَاءِ)).
ويشهدُ لهذا قولُهُ تعالَى: (وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ) [هود: 7].
قَالَ: ((وَاللهُ فَوْقَ العَرْشِ، وَهُوَ
يَعْلَمُ مَا أَنْتُم عَلَيْهِ)): هو فوقَ العرشِ، ومَعَ ذلِكَ لا يَخفَى
عليه شيءٌ مِنْ أحوالِنا وأعمالِنا، بَلْ قَدْ قَالَ اللهُ تعالَى:
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ)
[ق: 16]؛ يعني: الشَّيءَ الَّذِي في ضميرِكَ يعلُمُه اللهُ؛ مع أنَّهُ ما
بانَ لأحدٍ.
وقولُهُ: ((وهو يَعْلَمُ ما أنْتُم عَلَيْهِ)): يفيدُ إحاطةَ علمِ اللهِ بكلِّ ما نحنُ عَلَيْهِ.
الفائدةُ المسْلَكيَّةُ مِنْ هذا الحديثِ:
وإذا آمَنَّا بهذا الحديثِ؛ فإننَّا نستفيدُ
مِنْه فائدةً مَسْلكيَّةً، وهِيَ تعظيمُ اللهِ عزَّ وجلَّ، وأنَّهُ في
العلُوِّ، وأنَّهُ يعلَمُ ما نحنُ عليه، فنقومُ بطاعتِهِ؛ بحيثُ لا
يَفقدُنا حيثُ أمرَنا، ولا يجدُنا حيثُ نهَانا.
الحديثُ الحادِي عشر: في إثْباتِ العُلُوّ أيضاً
(4) قولُهُ: ((أينَ اللهُ؟)): (أينَ): يُستَفْهَمُ بهِا عَنِ المكانِ.
((قَالَتْ: في السَّماءِ))؛ يعني: على السَّماءِ، أو: في العُلوِّ؛ على حسبِ الاحتمالينِ السَّابقينِ.
((قَالَ: مَنْ أنا؟ قَالَتْ: أنْتَ رسولُ اللهِ. قَالَ: أعتقْها فإنهَّا مؤمنةٌ)).
وعِنْدَ أهلِ التَّعطيلِ هي بقولهِا: ((في
السَّماءِ)): إذا أرادَتْ أنَّهُ في العلوِّ؛ هي كافرةٌ!! لأنهَّم يرَوْنَ
أنَّ مَنْ أثبتَ أنَّ اللهَ في جهةٍ؛ فهو كافرٌ؛ إذْ يقولُونَ: إنَّ
الجهاتِ خاليةٌ مِنْه.
واستفهامُ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بـ (أين) يدلُّ على أنَّ للهِ مكاناً.
ولكنْ يجبُ أنْ نعلمَ أنَّ اللهَ تعالَى لا تحيطُ
بهِ الأمكنةُ؛ لأنَّهُ أكبُر مِنْ كلِّ شيءٍ، وأنَّ ما فوقَ الكونِ عدمٌ،
ما ثَمَّ إلَّا اللهُ؛ فهو فوقَ كلِّ شيءٍ.
وفي قولِهِ: ((أعتقْها؛ فإنِّها مؤمنةٌ)): دليلٌ
على أنَّ عتقَ الكافرِ لَيْسَ بمشروعٍ، وَلِهَذَا لا يجزئُ عتْقُه في
الكفَّاراتٍ؛ لأنَّ بقاءَ الكافرِ عندَك رقيقاً؛ فيه نوعُ حمايةٍ له وسلطةٍ
وإمرةٍ وتقريبٍ مِنَ الإسلامِ؛ فإذا أعتقْتَهُ؛ تحرَّرَ، وإذا تحرَّرَ؛
فَيُخشى مِنْهُ أنْ يرجعَ إلى بلادِ الكفرِ؛ لأنَّ أصلَ الرقِّ هو الكفرُ،
ويبقى مُعِيناً للكافرينَ على المؤمنينَ).
التنبيهات اللطيفة فيما احتوت عليه الواسطية من المباحث المنيفة لابن سعدي رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وقوله: في رُقيةِ المَريضِ: ((ربَّنا
الله الذي في السماءِ تقدَّسَ اسمُكَ، أمرُكَ في السماءِ والأرضِ، كما
رحمَتُكَ في السماءِ، اجعلْ رحْمَتكَ في الأرضِ، اغفرْ لنا حُوبَنا
وخَطايانا أنتَ ربُّ ا لطيبين، أنزلْ رحمةً من رحمَتِكَ وشفاءً من شفائِكَ
على هذا الوجع، فيبرأ)) حديث حسن رواه أبو داود وغيره.
وقوله: ((ألا تأمَنُوني وأنا أمينُ مَنْ في السَّماءِ)) حديث صحيح.
وقوله: ((والعرشُ فوقَ الماءِ، واللهُ فوْقَ العَرْشِ، وهو يعْلَمُ ما أنتم عليه)) حديث حسن رواه أبو داود وغيره.
وقوله للجارية: ((أينَ اللهُ؟)) قالتْ: في السماءِ. قال: ((مَنْ أنا؟)) قالت: أنتَ رسولُ اللهِ، قال: ((أعتِقها فإنَّها مؤمنة)) رواه مسلم([1])).
الشرح:
قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): ( ([1]) وقوله صلى الله عليه وسلم: ((في
رُقيةِ المَريضِ: ربَّنا الله الذي في السماءِ تقدَّسَ اسمُكَ، أمرُكَ في
السماءِ والأرضِ، كما رحمَتُكَ في السماءِ، اجعلْ رحْمَتكَ في الأرضِ،
اغفرْ لنا حُوبَنا وخَطايانا أنتَ ربُّ ا لطيبين، أنزلْ رحمةً من رحمَتِكَ
وشفاءً من شفائِكَ على هذا الوجع، فيبرأ)) حديث حسن رواه أبو داود. وقوله صلى الله عليه وسلم: ((ألا تأمَنُوني وأنا أمينُ مَنْ في السَّماءِ)) حديث صحيح.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((والعرشُ فوقَ الماءِ، واللهُ فوْقَ العَرْشِ، وهو يعْلَمُ ما أنتم عليه)) حديث حسن رواه أبو داود وغيره.
وقوله صلى الله عليه وسلم للجارية: ((أينَ اللهُ؟)) قالتْ: في السماءِ. قال: ((مَنْ أنا؟)) قالت: أنتَ رسولُ اللهِ، قال: ((أعتِقها فإنَّها مؤمنة)) رواه مسلم.
فهذه النصوص وغيرها
المصرِّحة بأنه تعالى في السّماء حق على حقيقتها (وفي) تكون بمعنى على كما
قال كثير من أهل العلم واللغة، وقد وردت في مواضع كثيرة على هذا النحو، قال
تعالى: (وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ)
أي عليها، وقال طائفة من أهل العلم إن معنى في السماء أي في جهة العلوّ،
وعلى الوجهين فهي نصّ في علوّ الله على خلْقه، وفي حديث الرُّقية المذكور
توسّل إلى الله بالثناء عليه بربوبيته وألوهيته وقدسيته وعلوّه وعموم أمره
الشّرعي وأمره القَدَري. فإن الله له الأمر القَدَري الذي ينشأ عنه جميع
الموجودات والحوادث والتدابير القدرية كقوله تعالى: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) (وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ)،
وله الأمر ا لشرعي المتضمن الشرائع التي شرعها لعباده على ألسنة رسله.
فتوسّل إلى الله بذلك، ثم توسّل إليه برحمته التي شملت أهل السماوات كلهم
أن يجعل لأهل الأرض نصيباً وافراً منها، ثم توسّل إليه بسؤال مغفرة الذنوب
وهي الذنب العظيم والخطايا وما دونها، ثم بربوبيته الخاصة للطيبين وهم
الأنبياء وأتباعهم الذين غمرهم بنعم الدين والدنيا الظاهرة والباطنة. فهذه
الوسائل المتنوعة لا يكاد يردّ دعاء من توسل بها، فلهذا دعا الله بعدها
بالشِّفاء الذي لا يدع مرضاً إلا أزاله.
وفي شهادة الرسول
بالإيمان للجارية التي اعترفت بعلوّ الله ورسالة رسوله دليل على أن من أعظم
أوصاف الباري الاعتراف بعلوّه على خلقه ومباينته لهم، وأنه على العرش
استوى، وأنّ هذا أصل الإيمان، وأن من أنكر علوّ الله المطلق من كل وجه فقد
حُرِمَ هذا الإيمان. وقوله: ((والعرشُ فوقَ الماءِ، واللهُ فوْقَ العَرْشِ، وهو يعْلَمُ ما أنتم عليه))
فيه الجمع بين الإيمان بعلوّه على عرشه وفوق مخلوقاته وبين إحاطة علمه
بالموجودات كلها، وقد جمع الله بين الأمرين في عدّة مواضع من كتابه).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ مُحمَّد خَليل هَرَّاس رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): ( (وقَوْلُهُ في رُقْيَةِ المريضِ: ((
رَبَّنا اللهَ الَّذي في السَّماءِ، تَقَدَّسَ اسْمُكَ، أَمْرُكَ في
السَّماءِ وَالأَرْضِ، كَمَا رَحْمَتُكَ في السَّماءِ اجْعَلْ رَحْمَتَكَ
في الأرْضِ، اغْفِرْ لَنا حُوبَنَا وخَطَايَانا، أَنْتَ رَبُّ
الطَّيِّبِينَ، أَنْزِلْ رَحْمَةً مِنْ رَحْمَتِكَ، وشِفَاءً مِنْ
شِفَائِكَ عَلى هذا الوَجِعِ؛ [ فَيَبْرَأَ ] [ حديثٌ حَسَنٌ ]، رواهُ أبو داودَ [ وغيرُهُ ]. وَقَوْلُهُ: (( أَلاَ تَأْمَنُوني وَأَنَا أَمِيْنُ مَنْ فِي السَّمَاءِ )). [ حديثٌ صحيحٌ )). وَقَوْلُهُ: (( وَالعَرْشُ فَوْقَ [ المَاءِ ]، واللهُ فَوْقَ العَرْشِ، وَهُوَ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ )). [حديثٌ حسنٌ، رواهُ أَبو دَاودَ وغَيْرُهُ ]. وَقَوْلُهُ للِجَارِيَةِ: (( أَيْنَ اللهُ )). قالَتْ: في السَّمَاءِ. قالَ: (( مَنْ أَنا؟. قالَتْ: أَنْتَ رَسولُ اللهِ. قالَ: (( أَعْتِقْهَا فَإِنَّها مُؤِمِنَةٌ )). رواهُ مسلمٌ ) (1)).
الشرح:
قال الشيخ محمد خليل هراس (ت: 1395هـ): ((50) قولُهُ: (( رَبَّنَا اللهُ الَّذِي في السَّماءِ … )) إلخ. الحديثُ الأوَّلُ [ والثاني ] صريحٌ في عُلُوِّهِ تعالى وفوقيَّتِهِ، فهوَ كقولِهِ تعالى: { أَأَمِنْتُمْ مَنْ في السَّماءِ }.
وقَدْ سبقَ أنْ قُلنا:
إنَّ هذهِ النُّصوصَ ليسَ المرادُ منهَا أنَّ السَّماءَ ظرفٌ حاوٍ لهُ
سبحانَهُ، بلْ ( في ) إمَّا أنْ تكونَ بمعنى (على)؛ كمَا قالَهُ كثيرٌ مِن
أهلِ العلمِ واللُّغَةِ، و ( في ) تكونُ بمعنى ( على ) في مواضعَ كثيرةٍ؛
مثلِ قولِهِ تعالى: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ في جُذوعِ النَّخْلِ }، وإمَّا أنْ يكونَ المرادُ مِن السَّماءِ جهةَ العُلُوِّ، وعلى الوجهينِ فهي نصٌّ في عُلُوِّهِ تعالى على خلقِهِ.
وفي حديثِ الرُّقيةِ
المذكورِ توسُّلٌ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ بالثناءِ عليهِ برُبُوبيَّتِهِ
وإلاهيَّتِهِ وتقديسِ اسمِهِ وعُلُوِّهِ على خلقِهِ وعمومِ أمرِهِ
الشَّرْعِيِّ وأمرِهِ القدرِيِّ، ثمَّ توسلٌ إليهِ برحمتِهِ الَّتي شملتْ
أهلَ سماواتِهِ جميعًا أنْ يجعلَ لأهلِ الأرضِ نصيبًا منهَا، ثمَّ توسلٌ
إليهِ بسؤالِ مغفرةِ الحَوبِ – وهوَ الذَّنبُ العظيمُ -، ثمَّ الخطايا
التَّي هيَ دونَهُ، ثمَّ توسلٌ إليهِ بربوبيَّتِهِ الخاصَّةِ للطَّيِّبينَ
مِن عبادِهِ، وهمُ الأنبياءُ وأتباعُهُم، التَّي كانَ مِن آثارِهَا أنْ
غمرَهُمْ بنعمِ الدِّينِ والدُّنيا الظاهرةِ والباطنةِ.
فهذهِِ الوسائلُ
المتنوِّعةُ إلى اللهِ لا يكادُ يُرَدُّ دعاءُ مَنْ توسَّلَ بهَا، ولهذا
دَعا اللهَ بعدَهَا بالشِّفَاءِ الذي هوَ شفاءُ اللهِ الذي لا يدعُ مرضًا
إلاَّ أزالَهُ، ولا تعلُّقَ فيهِ لغيرِ اللهِ.
فهلْ يفقَهُ هذا عُبَّادُ القبورِ مِن المتوسِّلِينَ بالذَّواتِ والأشخاصِ والحقِّ والجاهِ والحُرمةِ ونحوِ ذلكَ؟!
وأَمَّا قولُهُ: (( وَالعَرْشُ فَوْقَ المَاءِ … ))
إلخ. ففيهِ الجمعُ بينَ الإِيمانِ بعُلُوِّهِ تعالى على عرشِهِ، وبإحاطةِ
علمِهِ بالموجوداتِ كلِّهَا، فسبحانَ مَنْ هوَ علِيٌّ في دنوِّهِ، قريبٌ في
عُلُوِّهِ.
وأَمَّا الحديثُ
الرابعُ؛ فقَدْ تضمَّنْ شهَادةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلمَ
بالإِيمانِ للجاريةِ التَّي اعترفتْ بِعُلُوِّهِ تعالى على خلقِهِ، فدلَّ
ذلكَ على أنَّ وصفَ العُلُوِّ مِن أعظمِ أوصافِ البارِي جلَّ شأنُهُ، حيثُ
خصَّهُ بالسُّؤَالِ عنهُ دونَ بقيَّةِ الأوصافِ، ودلَّ أيضًا على أنَّ
الإِيمانَ بِعُلُوِّهِ المطلقِ مِن كلِّ وجهٍ هوَ مِن أعظمِ أُصولِ
الإِيمانِ، فمَنْ أنْكرَهُ؛ فقَدْ حُرِمَ الإِيمانَ الصَّحيحَ.
والعجبُ مِن هؤلاءِِ
الحمقى مِن المعطِّلةِ النُّفاةِ زعمُهُمُ أنَّهمْ أعلمُ باللهِ مِن
رسولِهِ، فينفُون عنهُ الأينَ بعدَما وَقَعَ هذا اللَّفظُ بعينِهِ مِن
الرَّسُولِ مرَّةً سائلاً غيرَهُ – كمَا في هذا الحديثِ -، ومرةً مجيبًا
لمَنْ سألَهُ بقولِهِ: أينَ كانَ ربُّنا؟).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ: صالح بن فوزان الفوزان
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وقَوْلُهُ في رُقْيَةِ المريضِ: ((
رَبَّنا اللهَ الَّذي في السَّماءِ، تَقَدَّسَ اسْمُكَ، أَمْرُكَ في
السَّماءِ وَالأَرْضِ، كَمَا رَحْمَتُكَ في السَّماءِ اجْعَلْ رَحْمَتَكَ
في الأرْضِ، اغْفِرْ لَنا حُوبَنَا وخَطَايَانا، أَنْتَ رَبُّ
الطَّيِّبِينَ، أَنْزِلْ رَحْمَةً مِنْ رَحْمَتِكَ، وشِفَاءً مِنْ
شِفَائِكَ عَلى هذا الوَجِعِ؛ فَيَبْرَأَ )) حديثٌ حسنٌ، رواه أبو داود وغيرُه.
وَقَوْلُهُ: (( أَلاَ تَأْمَنُوني وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ )). حديثٌ صحيحٌ.
وَقَوْلُهُ: (( وَالعَرْشُ فَوْقَ المَاءِ، واللهُ فَوْقَ العَرْشِ، وَهُوَ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ )). حديثٌ حسنٌ، رواهُ أَبو دَاودَ وغَيْرُهُ. وَقَوْلُهُ للِجَارِيَةِ: (( أَيْنَ اللهُ؟ )). قالَتْ: في السَّمَاءِ. قالَ: (( مَنْ أَنا؟)). قالَتْ: أَنْتَ رَسولُ اللهِ. قالَ: (( أَعْتِقْهَا فَإِنَّها مُؤمِنَةٌ )). رواهُ مسلمٌ.(1)).
الشرح:
قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: ((1)
(وفي رُقْيَةِ الْمَرِيضِ) أي القراءةُ عَلى المريضِ طلبًا لشفائِه، وهي
مَشْروعةٌ إذا كانت بالقرآنِ والأدعيةِ المباحةِ، وممنوعةٌ إذا كانت
بألفاظٍ شركيَّةٍ أو أعمالٍ شركيَّةٍ (رَبَّنَا اللهَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ) أي: عَلى السَّماءِ، ففي هنا بمعنَى: عَلى. كقولِه تعالى: (فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ) (الآية (2) مِن سورةِ التوبةِ) أي عَلى الأرضِ، ويجوزُ أن تكونَ (في) للظَّرفيّةِ عَلى بابِهَا، ويكونُ المرادُ بالسَّماءِ مُطْلقَ العُلوِّ.
(تَقَدَّسَ اسْمُكَ) أي تقدَّست أسماؤك عَن كُلِّ نقصٍ، فهو مُفْردٌ مُضَافٌ، فيعمُّ جميعَ أسماءِ اللهِ. (أَمْرُكَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ) أي: أمرُك الكَونيُّ القَدَريُّ الذي ينشأُ عنه جميعُ المخلوقاتِ والحوادثِ، ومنه قولُه تعالى: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (الآية (82) مِن سورةِ يس). وأمرُك الشَّرعيُّ المتضمِّنُ للشَّرائعِ التي شَرعَها لعبادِه.
(كَمَا رَحْمَتُكَ فِي السَّمَاءِ اجْعَلْ رَحْمَتَكَ فِي الأَرْضِ) هذا توسُّلٌ إليه برحمتهِ التي شَمِلَت أهلَ السَّماواتِ كُلَّهم أن يجعلَ لأهلِ الأرضِ منها نصيبًا (اغْفِرْ لَنَا حُوبَنَا وَخَطَايَانَا)
هذا طَلَبٌ للمغفرةِ، وهي السِّترُ ووقايةُ الإثمِ، ومنه: المِغْفَرُ الذي
يُلْبَسُ عَلى الرَّأسِ لسترِه ووقايتِه مِن الضَّرْبِ. والحُوبُ: الإثمُ ـ
والخطايا هي الذُّنوبُ.
(أَنْتَ رَبُّ الطَّيِّبِينَ)
هذا توسلٌ آخرُ، (والطَّيِّبينَ) جمعِ طيِّبٍ، وهم النبيُّون وأتباعُهم،
وإضافةُ ربُوبيَّتِه لهؤلاءِ إضافةُ تشريفٍ وتكريمٍ، وإلاَّ فهو سبحانَه
ربُّ كُلِّ شيءٍ ومليكُه (أَنْزِلْ رَحْمَةً مِنْ رَحْمَتِكَ) أي: الرحمةَ المخلوقةَ؛ فإنَّ رحمةَ اللهِ نوعان:
النَّوعُ الأوَّلُ: رحمتُه التي هي صِفَةٌ مِن صفاتِه، كما في قولِه تعالى: (وَرَحْمَتيِ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) الآية (156) مِن سورةِ الأعرافِ).
النَّوعُ الثاني: رحمةٌ تُضَافُ إليه سبحانَه مِن إضافةِ المخلوقِ إلى خالقِه؛كالمذكورةِ في هذا الحديثِ، وكما في حديثِ: ((خَلَقَ اللهُ مِائَة رَحْمَةٍ)) الحديثَ، فطلَب صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ مِن ربِّه إنزالَ هذه الرَّحمةِ عَلى المريضِ لحاجتِه إليها ليشفيَه بها.
والشَّاهدُ مِن الحديثِ:
أنَّ فيه إثباتَ العلوِّ للهِ تعالى، وأنَّه في السَّماءِ، والعلوُّ صِفةٌ
ذاتيّةٌ كما سبق، كما أنَّ في الحديثِ التَّوسُّلَ إلى اللهِ تعالى
بالثَّناءِ عليه بربوبِيَّته وإلهيَّتِه وقُدْسَيَّتِه وعلوِّه وعمومِ
أمرِه وبرحمتهِ، ثم في الحديثِ طلبُ المغفرةِ مِن اللهِ وشفاءِ المرضِ.
وقولُه صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ: (أَلاَ تَأْمَنُوني)
هذا خِطابٌ منه صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ لمَن اعترض عليه في بعضِ
قسمتِه المالَ و(ألا): أداةُ استفتاحٍ وتنبيهٍ (وتَأْمَنُوني) مِن
الأمانةِ، وهي عدمُ المُحَاباةِ والخيانةِ، أي ألا تأمنوني في قِسْمةِ
المالِ (وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ)
وهو اللهُ سبحانَه قد ائتمنني عَلى وَحْيِهِ ورسالتِه وتبليغِ شرْعِه، وكفى
بذلك شهادةً عَلى أمانتِه وصدقِه صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ.
والشَّاهدُ مِن الحديثِ: أنَّ فيه إثباتَ العلوِّ للهِ سبحانَه ـ حيثُ قال: (مَنْ فِي السَّمَاءِ) وسبق شرحُ الجملةِ قريبا.
وقولُه: (وَالْعَرْشُ فَوْقَ ذَلِكَ) تقدَّم تفسيرُ العرشِ، وقولُه: (فَوْقَ ذَلِكَ)
أي فوقَ المخلوقاتِ التي بيّنها الرَّسولُ صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ
لأصحابهِ في الحديثِ الذي ذَكَر فيه بُعْدَ ما بين السَّماءِ والأرضِ وما
بين كُلِّ سماءٍ وسماءٍ وكَثَفَ كُلِّ سماءٍ، والبحرَ الذي فوق السَّماءِ
السَّابعةِ وما بين أسفلِه وأعلاه، وما فوق ذلك البحرِ من الأوْعَالِ
الثَّمانيةِ العظيمةِ، ثم فوق ذلك العرشُ (وَاللهُ فَوْقَ الْعَرْشِ) أي مستوٍ عليه استواءً يليقُ بجلالِه (وَهُوَ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ) بعلمِه المحيطِ الذي لا يخفى عليه شيءٌ.
والشَّاهدُ مِن الحديثِ:
إثباتُ علوِّ اللهِ عَلى عرشِه، وأنَّ عرشَه فوق المخلوقاتِ كُلِّها،
وأنَّ علمَ اللهِ سبحانَه محيطٌ بأعمالِ العبادِ، لا يخفى عليه منها شيءٌ.
(وقَوْلُه
للْجَارِيَةِ) أي: أَمةِ معاويةَ بنِ الحكمِ حينما غَضِب عليها سيِّدُهَا
معاويةُ فلطَمها ثم نَدِم وأخبر رسولَ الله صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ،
وقال: أفلا أُعْتِقُهَا، فقال النبيُّ صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ: "بَلَى
جِئْنِي بِهَا" فأتى بها رسولَ الله صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ، فقال
لها (أَيْنَ اللهُ) فيه دليلٌ عَلى جوازِ
السُّؤالِ عَنِ اللهِ بأينَ (قَالَتْ فِي السَّمَاءِ) أي اللهُ سبحانَه في
السَّماءِ. وتقدم تفسيرُ هذه الكلمةِ. (قال) لها النبيُّ صَلى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلمَ أيضا (مَنْ أَنَا) سألها عَن اعتقادِها فيه (قَالَتْ أَنْتَ رَسُولُ اللهِ) فأقرَّت له بالرِّسالةِ (قال) صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ لسيِّدِهَا: (أَعْتِقْهَا فَإنَّها مُؤْمِنَةٌ) فيه دليلٌ عَلى أن مَن شَهِد هذه الشَّهادةَ أنَّه مؤمنٌ، وأنَّ العتقَ يُشترطُ له الإيمانُ.
والشَّاهدُ مِن الحديثِ: أنَّ فيه دليلاً عَلى عُلُوِّ اللهِ عَلى خلْقِه فوقَ سماواتِه، وأنَّه يُشَارُ إليه في جِهَةِ العلوِّ إشارةً حسيَّةً).
الروضة الندية للشيخ: زيد بن عبد العزيز بن فياض رحمه الله
المتن:
قال أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وقَوْلُهُ في رُقْيَةِ المريضِ : رَبَّنا
اللهَ الَّذي في السَّماءِ، تَقَدَّسَ اسْمُكَ، أَمْرُكَ في السَّماءِ
وَالأَرْضِ ، كَمَا رَحْمَتُكَ في السَّماءِ . اجْعَلْ رَحْمَتَكَ في
الأرْضِ ، اغْفِرْ لَنا حُوبَنَا وخَطَايَانا ، أَنْتَ رَبُّ الطَّيِّبِينَ
، أَنْزِلْ رَحْمَةً مِنْ رَحْمَتِكَ ، وشِفَاءً مِنْ شِفَائِكَ عَلى هذا
الوَجِعِ ؛ [ فَيَبْرَأَ ] [ حديث حسن ]، رواه أبو داود [ وغيره ]. وَقَوْلُهُ :( أَلاَ تَأْمَنُوني وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ ) . حديثٌ صحيحٌ .
وَقَوْلُهُ :( وَالعَرْشُ فَوْقَ [ المَاءِ ]، واللهُ فَوْقَ العَرْشِ، وَهُوَ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ ) . [حديثٌ حسنٌ ، رواهُ أَبو دَاودَ وغَيْرُهُ ]. وَقَوْلُهُ للِجَارِيَةِ :(( أَيْنَ اللهُ )) . قالَتْ : في السَّمَاءِ . قالَ : مَنْ أَنا ؟. قالَتْ : أَنْتَ رَسولُ اللهِ . قالَ :( أَعْتِقْهَا فَإِنَّها مُؤمِنَةٌ ) . رواهُ مسلمٌ (1) ).
الشرح:
قال الشيخ زيد بن عبد العزيز بن فياض (ت: 1416هـ): ((1)
الحديثُ الأوَّلُ رَوَاهُ أبو داودَ في الطِّبِّ عن فَضَالَةَ بنِ عُبيدٍ
عن أبي الدَّرْدَاءِ قال : سمعتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يقولُ : مَنِ اشْتَكَى مِنكم سَيِّئًا أو اشْتَكَاهُ أخٌ له فَلْيَقُلْ : رَبَّنَا اللهُ الذي في السَّماءِ تَقَدَّسَ اسْمُكَ الخ
. وقد رَوَاهُ النَّسائِيُّ والبَيْهَقِيُّ والحاكمُ والطَّبرانِيُّ .
قَولُه تَقَدَّسَ اسْمُكَ أيْ تَنَزَّهَتْ أسمَاؤُكَ عن كُلِّ نقصٍ فهو
مُفردٌ مُضافٌ فَيَعُمُّ جَميعَ أسماءِ اللهِ .
والحُوبُ : الإثْمُ .
وفي النِّهايةِ : الحُوبُ : الإثْمُ . ومِنه الحديثُ : اغْفِرْ لنَا
حُوبَنا أيْ إثْمَنَا - وتُفتحُ الحاءُ وتُضمُّ وقِيلَ : الفتحُ لغةُ
الحجازِ ، والضَّمُّ لغةُ تَميمٍ ا.ه
وفي الآيةِ (إنَّه كَانَ حُوباً كَبِيراً) ويُقالُ فيه الحَوْبَةُ بفتحِ الحاءِ وآخِرُهُ هاءٌ .
وقَولُه : أنتَ رَبُّ
الطَّيِّبِينَ . إضافةُ الرُّبُوبيَّةِ إلى الطَّيِّبِينَ إضافةُ تَشريفٍ
وتَكريمٍ وهو سُبحانَه رَبُّ كُلِّ شيءٍ ومَليكُه . كما قال تعالى (إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيءٍ) . وقَولُه (( ألا تَأمنُونِي وأنا أمِينُ مَن في السَّماءِ
الخ)).
هذا الحديثُ خرَّجاه في
الصَّحَيحينِ عن أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ قال : بَعَثَ عليُّ بنُ أبي طالبٍ
إلى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذُهَيْبَةٍ في أدِيمٍ
مَقْرُوضٍ لم تُحَصَّلْ مِن تُرابِها قال فَقَسَمَها بينَ أربعةٍ ، بينَ
عُيَيْنَةَ بنِ بَدْرٍ ، والأقْرَعِ بنِ حَابِسٍ ، وزَيْدِ الخَيلِ ،
والرَّابِعُ إمَّا عَلْقَمَةُ بنُ عُلُاثَةَ ، وإمَّا عامرُ بنُ
الطُّفَيْلِ فقال رجُلٌ مِن أصحابِه : كُنَّا نحنُ أحَقَّ بهذا مِن هؤلاءِ !
فقالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ألا تَأمنُونِي وأنا أمينُ مَن في السَّماءِ يَأتيني خَبَرُ السَّماءِ صَباحاً ومَساءً ؟ وفي هذا الحديثِ دليلٌ على عُلُوِّ اللهِ على خَلْقِهِ . وقَولُه (( في السَّماءِ )) أيْ علا فَوقَها وارتَفَعَ وكذلك الحديثُ قبلَه .
(( وقد حكَى البَيهقيُّ
عن أبي بكرٍ الضّبعِيِّ قال : العربُ تَضعُ (( في )) مَوضِعَ (( على ))
كقَولِه (فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ) وقَولِه (وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي
جُذُوعِ النَّخْلِ) فكذلك قَولُه (( مَن في السَّماءِ )) أي علَى العَرشِ
فوقَ السَّماءِ كما صَحَّتِ الأخبارُ بذلك وقال مِثلَ ذلك غيرُ واحدٍ .
وقَولُه والعرشُ فوقَ
الماءِ واللهُ فوقَ العرشِ . هذا الحديثُ رَوَاهُ أبو داودَ في سُنَنِهِ
وأحمدُ في مُسْنَدِهِ وغيرُهما . ولفظُ أحمدَ في المُسْنَدِ عن عبَّاسِ بنِ
عبدِ المُطَّلِبِ قال : كُنَّا جُلُوساً مع رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالبَطْحَاءِ فمَرَّتْ سَحابةٌ فقال رسولُ اللهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أتَدرُونَ ما هذا ؟ قال : قُلنا : السَّحابُ . قال : والمُزْنُ . قُلنا : والمُزْنُ . قال : والعَنَانُ . قال : فَسَكَتْنَا . فقال : هل تَدرون كم بينَ السَّماءِ والأرضِ ؟ قُلنا : اللهُ ورسولُه أعلمُ . قال بينهما مَسيرةُ خَمْسِمِائةِ سَنةٍ . ومِن
كُلِّ سَماءٍ إلى سَماءٍ مَسيرةُ خَمْسِمِائةِ سَنةٍ ، وكِثَفُ كُلِّ
سَماءٍ مَسيرةُ خَمْسِمَائةِ سَنةٍ ، وفوقَ السَّماءِ السَّابعةِ بحرٌ بينَ
أسفلِه وأعلاه كما بينَ السَّماءِ والأرضِ ثُمَّ فوقَ ذلك ثَمانِيةُ
أَوْعَالٍ بينَ رُكَبِهِنِّ وأَظْلاَفِهِنِّ كما بينَ السَّماءِ والأرضِ
ثُمَّ فوقَ ذلك العرشُ بينَ أسفلِه وأعلاه كما بينَ السَّماءِ والأرضِ .
واللهُ تَباركَ وتَعالَى فوقَ ذلك . وليس يَخفى عليه مِن أعمالِ بَني آدمَ
شيءٌ .
ورَوَاهُ
التِّرْمِذِيُّ وابنُ مَاجَه وقال التِّرْمِذِيُّ : حَسنٌ غَريبٌ ورَوَاهُ
الحاكمُ والبَيهقِيُّ وغيرُهما . وله شَواهِدُ في الصَّحَيحينِ وغيرِهِما
ويُسَمَّى حديثَ الأَوْعَالِ وقد أَعَلَّ بَعضُهم هذا الحديثَ بأنَّ في
سَندِه الوليدَ بنَ أبي ثَورٍ وقد قال فيه التِّرْمِذِيُّ وغيرُه لا
يُحْتَجُّ بحديثِه وبأنَّ فيه عبدَ اللهِ بنَ عُميرةَ قال البخاريُّ لا
يُعرفُ له سَماعٌ مِن الأحْنَفِ وقال ابنُ القَيِّمِ أمَّا رَدُّ الحديثِ
بالوليدِ بنِ أبي ثَوْرٍ فَفَاسِدٌ فإنَّ الوليدَ لم يَنفردْ به ، بل تابعه
عليه إبراهيمُ بنُ طَهْمَانَ كِلاهُما عن سِمَاكٍ ، ومِن طَريقِه رَوَاهُ
أبو داودَ . ورَوَاهُ أيضاً عن عمرِو بنِ أبي قَيْسٍ عن سِمَاكٍ ومِن
حديثِه رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عن عبدِ بنِ حُمَيْدٍ أخبرَنا عبدُ الرحمنِ
بنُ سعدٍ عن عمرِو بنِ أبي قَيْسٍ .
ورَوَاهُ ابنُ مَاجَه
مِن حَديثِ الوليدِ بنِ أبي ثَوْرٍ عن سِمَاكٍ فأيُّ ذَنبٍ للوليدِ في هذا ؟
وأيُّ تَعَلُّقٍ عليه ؟ وإنَّما ذَنْبُهُ رِوايتُه ما يُخالِفُ قولَ
الجَهْمِيَّةِ وهي عِلَّتُه المُؤَثِّرَةُ عندَ القومِ اه وقال الشَّيخُ في
المُناظَرةِ - وقد احْتَجُّوا عليه بقولِ البخاريِّ السَّابقِ : هذا
الحديثُ مع أنَّه رَوَاهُ أهلُ السُّنَنِ كأبي داودَ وابنِ مَاجَه
والتِّرْمِذِيِّ وغيرِهم فهو مَرويٌّ مِن طَريقينِ مَشهورينِ فَالقَدْحُ في
إحدَاهُما لا يَقْدَحُ في الآخَرِ . وقد رَوَاهُ إمامُ الأئِمَّةِ ابنُ
خُزَيْمَةَ في كتابِ التَّوحيدِ الذي اشترطَ فيه أنْ لا يحْتَجَّ فيه إلا
بِمَا نقلَه العَدْلُ عن العَدْلِ مَوصُولاً إلى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والإثباتُ مُقَدَّمٌ على النَّفْيِ . والبخاريُّ :
إنَّما نَفَى معرفةَ سَماعِه ولم يَنْفِ معرفةَ النَّاسِ بهذا فإذا عَرَفَ
غيرُه ما ثبتَ بِه الإسنادُ كانت معرفتُه وإثباتُه مُقَدَّماً على نَفْيِ
غيرِه وعدمِ معرفتِه .
والحديثُ دليلٌ على عُلُوِّ اللهِ على خَلْقِهِ واستوائِهِ على عَرْشِهِ .
وقَولُه للجَاريةِ (( أينَ اللهُ ))
هذا حديثٌ صحيحٌ رُوِيَ مِن طُرُقٍ مُتَواتِرَةٍ عن مُعاويةَ بنِ الحَكَمِ
السُّلَمِيِّ قال كانتْ لي غَنَمٌ بينَ أُحُدٍ والجَوَّانيَّةِ فيها
جاريةٌ لي فَأطلعتُها ذاتَ يومٍ فإذا الذِّئْبُ قد ذهبَ بِشاةٍ منها
فَأَسِفْتُ فَصَكَكْتُهَا فَأتيتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَذكرتُ لَه فَعَظَّمَ ذلك عَلَيَّ فقلتُ : يا رسولَ اللهِ .
أفَلا أعْتِقُها ؟ قال : ادْعُهَا فَدعوتُها فقال لها : أينَ اللهُ ؟ قالتْ : في السَّماءِ . قال : مَن أنا ؟ قالتْ : أنتَ رسولُ اللهِ . قال : اعْتِقْهَا فإنَّها مُؤمنةٌ
. أخرجَه مسلمٌ في صَحيحِهِ ورَوَاهُ أبو داودَ والنَّسائِيُّ وكثيرون مِن
الأئِمَّةِ وفي بَعضِ رِوايَاتِهِ فإنها مسلمةٌ ورَوى الإمامُ أحمدُ عن
أبي هُريرةَ قال : جاء رجلٌ إلى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِجاريةٍ أعجمِيَّةٍ فقال يا رسولَ اللهِ : إنَّ عَلَيَّ عِتقَ
رَقبةٍ مُؤمنةٍ أفأعْتِقُ هذه ؟ فقال لها رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أينَ اللهُ ؟ قال :
فأشارتْ إلى رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإلى السَّماءِ -
أيْ أنتَ رسولُ اللهِ - فقال رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: اعْتِقْهَا فإنَّها مُؤمنةٌ . وإسنادُه حسنٌ .
ورَوى البَيْهَقِيُّ وابنُ خُزَيْمَةَ عن الشَّرِيدِ بنِ سُوَيْدٍ
الثَّقَفِيِّ قال : قُلتُ : يا رسولَ اللهِ ، إنَّ أُمِّي أَوصَتْ إليَّ
أنْ أعتقَ رقبةً وإنَّ عندي جاريةً سوداءَ نُوبِيَّةً فقال رسولُ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ادْعُ بها ، فقال : مَن رَبُّكِ ؟ قالتْ : اللهُ . قال : فَمَن أنا ؟ قالتْ : أنتَ رسولُ اللهِ . قال : اعْتِقْهَا فإنَّها مُؤمنةٌ .
وفي الحديثِ دليلٌ على
عُلُوِّ اللهِ على خَلْقِهِ واستِوائِهِ علَى عَرشِهِ . وفيه الرَّدُّ علَى
الجَهْمِيَّةِ والمُعْتَزِلَةِ وغَيرِهِم مِن النُّفَاةِ .
(( ولَيْسَ فِي الكتابِ
والسُّنَّةِ وَصْفٌ لَهُ بأنَّه لاَ داخلَ العالمِ ولا خَارجَهُ ولا
مُبَاينَهُ ولا مُدَاخِلَهُ فَيَظُنَّ المُتوَهِّمُ أنَّه إذا وُصِفَ
بالاستواءِ على العرشِ كَانَ استواؤُه كاستواءِ الإنسانِ على ظُهورِ
الفُلْكِ والأنعامِ كقَولِه (وَسَخَّرَلَكُمْ مِّنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُواْ عَلَى ظُهُورِهِ) فَيُتخيَّلُ
لَهُ أنَّه إذا كَانَ مُستوياً على العرشِ كَانَ مُحتاجاً إِلَيْهِ كحاجةِ
المُستوِي على الفُلْكِ والأنعامِ فلَوْ غَرِقَتِ السّفينةُ لَسَقَطَ
المُستوِي عليها و لَوْ عَثَرتِ الدَّابَّةُ لَخَرَّ المستوي عليها فقياسُ
هَذَا أنَّه لَوْ عُدِمَ العرشُ لَسَقَطَ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ وتعالَى .
ثُمَّ يُريدُ - بزَعمِه - أن يَنفيَ هَذَا فيَقُولَ : لَيْسَ استواؤُه
بِقُعودٍ ولا استقرارٍ ولا يُعلمُ أنَّ مُسَمَّى القُعودِ والاستقرارِ
يُقالُ فِيهِ مَا يُقالُ فِي مُسمَّى الاستواءِ فإنْ كَانَتْ الحَاجَةُ
داخلةً فِي ذَلِكَ فلا فَرقَ بَيْنَ الاستواءِ والقُعودِ والاستقرارِ
ولَيْسَ هُوَ بهَذَا المعنَى مُستوِياً ولا مُستقِرًّا ولا قاعِداً وإنْ
لَمْ يَدخُلْ فِي ذَلِكَ إلاَّ مَا يَدخلُ فِي مُسَمَّى الاستواءِ فإثباتُ
أحدِها ونفيُ الآخَرِ تَحَكُّمٌ ، وقد عُلِمَ أنَّ بَيْنَ مُسَمَّى
الاستواءِ والاستقرارِ والقُعودِ فروقاً مَعروفةً ولَكِنَّ المقصودَ هنا :
أنْ يُعلمَ خَطأُ مَن يَنفي الشَّيءَ مَعَ إثباتِ نَظيرِهِ وكَانَ هَذَا
الخطأُ مِن خَطَئِهِ فِي مَفهومِ استوائِه على العرشِ حَيْثُ ظَنَّ أنَّه
مِثلُ استواءِ الإنسانِ على ظُهورِ الأنعامِ والفُلْكِ . ولَيْسَ فِي هَذَا
اللَّفظِ مَا يَدلُّ على ذَلِكَ لأنَّه أضَافَ الاستواءَ إِلَى نَفسِه
الكَريمَةِ . كما أضافَ إِلَيْهِ سائرَ أفعَالِه وصِفَاتِه فَذَكَرَ أنَّه
خَلقَ ثُمَّ استوَى كما ذَكَرَ أنَّه (قَدَّرَ فَهَدَى) وأنَّه بَنَى
السَّمَاءَ بِأيْدٍ وكما ذَكرَ أنَّه مَعَ مُوسَى وهَارُونَ يَسْمَعُ
ويَرَى وأمثالَ ذَلِكَ . فلمْ يَذكُرْ استواءً مُطلقاً يَصلُحُ للمخلوقِ
ولا عَامًّا يَتناولُ المخلوقَ ، كما لَمْ يَذكرْ مثلَ ذَلِكَ فِي سَائرِ
صِفاتِه وإنَّما ذَكرَ استواءً أضافَهُ إِلَى نَفسِه الكَريمَةِ فلَوْ
قُدِّرَ - على وَجْهِ الفَرْضِ المُمْتَنِعِ - أنَّه هُوَ مِثلُ خَلْقِه -
تَعَالَى اللهُ عَنْ ذَلِكَ - لكَانَ استواؤُه مِثلَ استواءِ خَلقِه .
أَمَّا إذا كَانَ هُوَ لَيْسَ مُمَاثِلاً لِخَلقِه بَلْ قَدْ عُلِمَ أنَّه
الغَنِيُّ عَن الخَلْقِ وأنَّه الخَالِقُ للعَرشِ وغيرِه وأنَّ كُلَّ مَا
سِواهُ مُفتقِرٌ إِلَيْهِ وهُوَ الغَنِيُّ عَنْ كُلِّ مَا سِواهُ وهُوَ
لَمْ يَذكرْ إلاَّ استواءً يَخُصُّهُ لَمْ يَذكرْ استواءً يَتناولُ غيرَهُ
ولا يَصلحُ لَهُ كما لَمْ يَذكرْ فِي عِلمِه وقُدرتِه وسَمْعِهِ وخَلقِه
إلاَّ مَا يَختصُّ بِه فكَيْفَ يَجوزُ أنْ يُتوهَّمَ أنَّه إذا كَانَ
مُستوِيًا على العَرشِ كَانَ مُحتاجًا إِلَيْهِ ؟ وأنَّه لَوْ سَقَطَ
العرشُ لَخَرَّ مِن عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ وتَعالَى عمَّا يَقُولُ
الظَّالمون عُلُوًّا كبيرًا . هَلْ هَذَا إلاَّ جَهلٌ مَحضٌ وضَلالٌ مِمَّن
فَهِمَ ذَلِكَ وتَوهَّمَهُ أَوْ ظَنَّهُ ظَاهرَ اللّفظِ ومَدْلُولَهُ أَوْ
جَوَّزَ ذَلِكَ على رَبِّ العَالَمِينَ الغَنِيِّ عَن الخَلْقِ ؟
بَل لَوْ قُدِّرَ أنَّ
جاهلًا فَهِمَ مِثلَ هَذَا وتَوهَّمَهُ لَبُيِّنَ لَهُ أنَّ هَذَا لاَ
يَجوزُ وأنَّه لَمْ يَدلَّ اللّفظُ عَلَيْهِ أَصْلًا كما يَدلُّ على
نَظائِرِه فِي سَائرِ مَا وَصفَ بِه الرَّبُّ نَفْسَهُ . فَلمَّا قَالَ
تَعَالَى (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ)
فهل يُتوهَّمُ أنَّ بِناءَه مِثلُ بِناءِ الآدَمِيِّ المُحتاجِ الَّذِي
يَحتاجُ إِلَى زِنْبِيلٍ ومَجَارِفَ وضَرْبِ لَبِنٍ وأعْوَانٍ ؟
ثُمَّ قَدْ عُلِمَ أنَّ
اللهَ خَلقَ العَالَمَ بَعضَهُ فَوْقَ بَعْضٍ ولم يَجعلْ عَالِيَهُ
مُفتقرًا إِلَى سَافلِه فالهَواءُ فَوْقَ الأََرْضِ ، ولَيْسَ مُفتقرًا
إِلَى حَمْلِ الأََرْضِ لَهُ والسَّحابُ فَوْقَ الأََرْضِ ولَيْسَ مُفتقرًا
إِلَى أنْ تَحْمِلَهُ ، والسَّمواتُ فَوْقَ الأََرْضِ وليستْ مُفتقرةً
إِلَى حَمْلِ الأََرْضِ لَهَا . فالعَلِيُّ الأَعْلَى رَبُّ كُلِّ شيءٍ
ومَليكُه إذا كَانَ فَوْقَ جَمِيعِ خَلْقِهِ كَيْفَ يَجِبُ أنْ يكونَ
مُحتاجًا إِلَى خَلْقِه أَوْ عَرشِه ؟ أَوْ كَيْفَ يَستلزِمُ عُلُوُّهُ
علَى خَلقِه إِلَى هَذَا الافتقارِ وهُوَ بِمُستلزِمٍ فِي المَخلوقاتِ ؟
وقد عُلِمَ أنَّ مَا ثَبَتَ لِمَخلوقٍ من الغَنِيِّ عَنْ غَيرِه فالخَالِقُ
سُبْحَانَهُ وتَعالَى أحقُّ بِه وأولَى وكذَلِكَ قَولُه (أَأَمِنتُمْ مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأََرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ) مَن
تَوَهَّمَ أنَّ مُقتضَى هَذِهِ الآيةِ أنْ يَكونَ اللهُ فِي دَاخِلِ
السَّمواتِ فهُوَ جاهلٌ ضَالٌّ بالاتِّفَاقِ وإنْ كُنَّا إذا قُلْنَا :
إنَّ الشَّمسَ والقمرَ فِي السَّمَاءِ يَقتضي ذَلِكَ فإنَّ حرفَ (( فِي ))
مُتعلِّقٌ بما قَبلَه وما بَعدَه فهُوَ بحسبِ المُضافِ إِلَيْهِ . ولهَذَا
يُفَرَّقُ بَيْنَ كونِ الشّيءِ فِي المكَانِ وكوْنِ الجسمِ فِي الحَيِّزِ
وكَوْنِ العَرَضِ فِي الجسمِ وكونِ الوَجْهِ فِي المِرآةِ وكونِ الكلامِ
فِي الورَقِ فإنَّ لِكُلِّ نَوعٍ مِن هَذِهِ الأنواع خَاصَّةً يَتميَّزُ
بها عَنْ غيرِه وإنْ كَانَ حرفُ (( فِي )) مُستعملًا فِي كُلِّ ذَلِكَ .
فلَوْ قَالَ قَائِلٌ : العَرشُ فِي السَّمَاءِ أمْ فِي الأََرْضِ ؟ لَقِيلَ
لَهُ فِي السَّمَاءِ و لَوْ قِيلَ الجَنَّةُ فِي السَّمَاءِ أمْ فِي
الأََرْضِ ؟ لَقِيلَ : الجَنَّةُ فِي السَّمَاءِ ولا يَلزمُ مِن ذَلِكَ أنْ
يَكونَ العرشُ داخلَ السّمواتِ بَلْ ولا الجَنَّةُ . فقد ثَبتَ فِي
الصّحيحِ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّه قَالَ : : إذا سألتُم اللهَ الجَنَّةَ فَاسألوهُ الفِرْدَوْسَ فإنَّه أَعْلَى الجَنَّةِ وأَوْسَطُ الجَنَّةِ وسَقْفُها عَرشُ الرّحْمَنِ ))
فهَذِهِ الجَنَّةُ سَقْفُها الَّذِي هُوَ العرشُ فَوْقَ الأفْلاَكِ مَعَ
أنَّ كونَ الجَنَّةِ فِي السَّمَاءِ يُرادُ بِه العُلُوُّ سواءٌ كَانَ
فَوْقَ الأفْلاَكِ أَوْ تَحتهَا قَالَ : تَعَالَى (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السّمَاءِ) وقال تَعَالَى (وَأَنْزَلنَا مِنَ السَّمَاء مَاءً طَهُوراً)
ولمَّا كَانَ قَدْ استقرَّ فِي نُفوسِ المُخَاطَبِينَ أنَّ اللهَ هُوَ
العَلِيُّ الأَعْلَى وأنَّه فَوْقَ كُلِّ شيءٍ كَانَ المَفهومُ مِن قَولِه
(فِي السّماءِ) أنَّه فِي العُلُوِّ ، وأنَّه فَوْقَ كُلِّ شيءٍ وكذَلِكَ
الجَارِيَةُ لمَّا قَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(( أَيْنَ الله ؟ قَالَتْ : فِي السَّمَاءِ ))
إنَّما أرادتْ العُلُوَّ مَعَ عَدْلِه تَخْصِيصَهُ بالأجسامِ المَخلوقةِ
وحُلُولِه فِيها . وإذا قِيلَ (( العُلُوُّ )) أنَّه يَتناولُ مَا فَوْقَ
المَخلوقاتِ كُلِّهَا فما فوقَها كُلِّهَا هُوَ فِي السَّمَاءِ ولا يَقتضِي
هَذَا أنْ يَكونَ هُناكَ ظَرْفٌ وُجُودِيٌّ يُحيطُ بِه . إذْ لَيْسَ
فَوْقَ العَالَمِ شيءٌ مَوجودٌ إلاَّ اللهَ . كما لَوْ قِيلَ (( العَرشُ
فِي السَّمَاءِ )) فإنَّه لاَ يَقتضي أنْ يكونَ العَرشُ فِي شيءٍ آخَرَ
مَوجودٍ مَخلوقٍ وإنْ قُدِّرَ أنَّ السَّمَاءَ المُرادُ بها الأفْلاَكُ
كَانَ المرادُ أنَّه عليها كما قَالَ : (وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النّخْلِ) وكما قَالَ : (فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ) وكما قَالَ : (فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ) ويُقالُ : فُلانٌ فِي الجَبَلِ ، وفي السّطحِ ، وإنْ كَانَ أَعْلَى شيءٍ فِيهِ )) .
وفي الحَدِيثِ الرَّدُّ
على مَن أنكرَ جوازَ الإشارةِ الحِسِّيَّةِ إِلَى الرَّبِّ سُبْحَانَهُ .
فقد قَبِلَ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ممَّن شَهِدَ لَهَا
بالإيمانِ الإشارةَ الحِسِّيَّةَ إِلَيْهِ فمَن أنكرَ جوازَ الإشارةِ
الحِسِّيَّةِ إِلَيْهِ فلا بُدَّ مِن أَحَدِ أمرينِ : إمَّا أنْ يَجعلَهُ
مَعدُومًا ، أَوْ مَعنًى مِن المَعاني لاَ ذَاتًا قَائمةً بنفسِها قَالَ
الحَافظُ الذَّهبِيُّ وهكَذَا رَأينا كُلَّ مَن يُسألُ (( أَيْنَ اللهُ ؟
)) أنْ يُبادِرَ بفِطرتِه ويَقُولَ فِي السَّمَاءِ . ففي هَذَا الحَدِيثِ
مَسألتانِ ( إحداهُمَا ) شَرعيَّةُ قَولِ المُسلمِ (( أَيْنَ اللهُ ؟ )) ( وثَانيهُمَا )
قَولُ المَسئولِ (( فِي السَّمَاءِ )) فمَن أنكرَ هَاتَيْنِ المَسألتينِ
فإنَّما يُنكِرُ علَى المُصْطَفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ا.ه
وما أَحْسَنَ مَا قَالَ الشَّيخُ يَحْيَى بنُ يُوسُفَ الصَّرصرِيُّ :
لقـد صَـحَّ إسَـلامُ الجُوَيْرِيَّـةِ الَّـتِـي ... بِأُصْبُعِهـا نَـحْـوَ السَّـمَـاءِ تُشـيـرُ
(( ذكرُ مَعيَّةِ اللهِ لِخَلْقِه وإحاطَتِه بِهِم وقُرْبِه مِنْهُمْ )) ).
التنبيهات السنية للشيخ: عبد العزيز بن ناصر الرشيد رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (( وقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم في رُقْيَةِ المريضِ: ((
رَبَّنا اللهَ الَّذي في السَّماءِ، تَقَدَّسَ اسْمُكَ، أَمْرُكَ في
السَّماءِ وَالأَرْضِ، كَمَا رَحْمَتُكَ في السَّماءِ اجْعَلْ رَحْمَتَكَ
في الأرْضِ، اغْفِرْ لَنا حُوبَنَا وخَطَايَانا، أَنْتَ رَبُّ
الطَّيِّبِينَ، أَنْزِلْ رَحْمَةً مِنْ رَحْمَتِكَ، وشِفَاءً مِنْ
شِفَائِكَ عَلى هذا الوَجِعِ؛ [ فَيَبْرَأَ ] [ حديث حسن ]، رواه أبو داود [ وغيره.(1)
وَقَوْلُهُ: (( أَلاَ تَأْمَنُوني وَأَنَا أَمِيْنُ مَنْ فِي السَّمَاءِ )). [ حديثٌ صحيحٌ )).(2)
وَقَوْلُهُ: صلى الله عليه وسلم (( وَالعَرْشُ فَوْقَ [ المَاءِ ]، واللهُ فَوْقَ العَرْشِ، وَهُوَ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ )). [حديثٌ حسنٌ، رواهُ أَبو دَاودَ وغَيْرُهُ ]. (3)
وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم للِجَارِيَةِ: (( أَيْنَ اللهُ )). قالَتْ: في السَّمَاءِ. قالَ: (( مَنْ أَنا؟. قالَتْ: أَنْتَ رَسولُ اللهِ. قالَ: (( أَعْتِقْهَا فَإِنَّها مُؤِمِنَةٌ )). رواهُ مسلمٌ ).(4)).
الشرح:
قال الشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد (ت: 1408هـ): ((1)
قَولُهُ: ((فِي رُقْيَةِ الْمَرِيضِ)): إلخ. هذا الحديثُ، رواه أبو داودَ
مِن حديثِ أبي الدَّرْداءِ قال: سمعتُ رسولَ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ
وسلَّمَ- يقولُ: ((مَنِ اشْتَكَى مِنْكُمْ شَيْئًا فَلْيَقُلْ رَبُّنَا اللهُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ))
الحديثَ، وأخرجَه النَّسائيُّ أيضًا مِن حديثِ أبي الدَّرْداءِ أنَّه
أتاهُ رجلٌ يذكُرُ أنَّ أبَاه احتبس بولُه وأصابَتْه حصاةٌ فعلَّمه هذا
فرقَاهُ بِها فَبَرَأ، هذا لفظُ النَّسائيِّ وقد رواهُ البيهقيُّ والحاكمُ
والطبرانيُّ.
قَولُهُ: ((فِي
رُقْيَةِ الْمَرِيضِ)): أَي القراءةُ على المريضِ مَن رقاهُ برقيةٍ إذا
قَرأ عليهِ، ففيهِ دليلٌ على إِباحَةِ الرُّقْيَةِ لهذا الحديثِ وغيرِه،
كمَا روى مسلمٌ وأبو داودَ مِن حديثِ عوفِ بنِ مالكٍ أنَّ رسولَ الله
-صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((لاَ بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ تَكُنْ شِرْكًا))، وقَولُهُ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- وقد سُئِلَ عن الرُّقَى: ((مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَنْفَعَهُ))
رواه مسلمٌ وأحمدُ وابنُ ماجةَ مِن حديثِ جابرٍ، وأمَّا ما رواه مسلمٌ في
صحيحهِ من حديثِ جابرٍ أنَّ رسولَ الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- نَهَى
عنِ الرُّقَى، فالمرادُ بها الرُّقَى الَّتي تتضمَّنُ الشركَ وتعظيمَ غيرِ
اللهِ، كغالبِ رُقَى الجاهليةِ، فلا يعارِضُ ما تقدَّم مِن الأحاديثِ في
إباحَةِ الرُّقى، وقال السُّيوطيُّ: قد أجمعَ العلماءُ على جوازِ الرُّقَى
عند اجتماعِ ثلاثةِ شروطٍ:
(1) أنْ تكونَ بكلامِ اللهِ أوْ بأسمائِهِ وصفاتِه.
(2) أنْ تكونَ باللِّسَانِ العربيِّ وما يُعْرَف معناهُ.
(3) أنْ يعتقدَ أنَّ الرُّقْيَةَ لا تؤثِّرُ بذاتها بل بتقديرِ اللهِ. انتهى.
قَولُهُ: ((رَبُّنَا اللهُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ)): فيه إثباتُ العلوِّ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- على الخَلْقِ، وفسَّرَ قَولَهُ سُبْحَانَهُ: ((فِي السَّمَاءِ)) بتفسيرينِ:
الأوَّلِ: أنَّ في بمعنى على، فقَولُهُ في السَّمَاءِ، أي على السَّمَاءِ، كقَولِهِ -سُبْحَانَهُ- وتعالى: (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا)، وقَولُهُ: (فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ) أي عليها.
الثَّاني:
أنَّ المرادَ بالسَّمَاءِ: العلوُّ، فقَولُهُ: ((في السَّمَاءِ))، أي
العلوُّ، والسَّمَاءُ كلُّ ما علاَكَ وأظلَّك، فهو -سُبْحَانَهُ- في جِهَةِ
العلوِّ.
قَولُهُ: ((تَقَدَّسَ اسْمُكَ)):
أي تنَزَّه مِن التَّقْدِيسِ، وهو التَّنـزيهُ عما لا يليقُ، فأسماؤه
-سُبْحَانَهُ وتعالَى- مُنَزَّهَةٌ عنِ العيوبِ والنقائِصِ، وعنْ تأويلِ
المحرِّفين وتشبيهِ الممثِّلين.
قَولُهُ: ((أَمْرُكَ فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ)): أي أمْرُك الكونيُّ الْقَدَرِيُّ، وأمرُكَ الدينيُّ الشِّرعِيُّ، فأمرُه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- ينقسمُ إلى قِسمينِ:
الأوَّلِ: أمرٌ كونيٌّ قَدَرِيٌّ كقَولِهِ سُبْحَانَهُ: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ)، وقَولُهُ سُبْحَانَهُ: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا) الآيةَ.
الثَّاني: الأمرُ الدِّينيُّ الشَّرعيُّ كقَولِهِ سُبْحَانَهُ: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ) الآيةَ، فأمرُه -سُبْحَانَهُ- الكونيُّ نافِذٌ لا رادَّ له، في السَّمَاءِ والأرضِ فلا رادَّ لأمرِه ولا معقِّبَ لحُكْمِه.
قَولُهُ: ((كَمَا رَحْمَتُكَ فِي السَّمَاءِ)): فيه إثباتُ صفةِ الرَّحمةِ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- كما يليقُ بجلالِه.
قَولُهُ: ((أَنْزِلْ رَحْمَةً مِن رَحْمَتِكَ)): فيه إثباتُ العلوِّ، وهذه الرَّحْمَةُ مخلوقَةٌ، فإنَّ الرَّحْمَةَ المضافةَ إليهِ تنقسِمُ إلى قسمين: الأوَّلِ: رحمةٌ تضافُ إليه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- مِن بابِ إضافَةِ الصِّفَةِ إلى الموصوفِ، كقَولِهِ: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ)، وقَولِهُ في الحديثِ: ((بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ)). الثَّاني: رحمةٌ تضافُ إليهِ -سُبْحَانَهُ- مِن بابِ إضافَةِ المخلوقِ إلى خَالِقِه، كَمَا قال في هذَا الحديثِ: ((أَنْزِلْ رَحْمَةً مِنْ رَحْمَتِكَ)) وكما في حديثِ: ((خَلَقَ اللهُ مِائَةَ رَحْمَةٍ)) وقَولُهُ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((قَالَ -سُبْحَانَهُ- لِلْجَنَّةِ: أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ)) وقد تقدَّمَ الكلامُ على هذا البحثِ في الكلامِ على الآياتِ.
قَولُهُ: ((اغْفِرْ لَنَا حُوبَنَا)): هذا فعلُ دعاءٍ مِن الغَفْرِ، وهو السَّتْرُ ووقايةُ الأثَرِ، ومنه المغْفَرُ والجمعُ الغَفِيرُ.
قَولُهُ: ((حُوبَنَا)): الحُوبُ هو الإثمُ، ومنه قَولُهُ: (إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا ).
قَولُهُ: ((وخطايانَا)): الخطايَا هي الذُّنوبُ والآثَامُ.
قَولُهُ: ((أَنْتَ رَبُّ الطَّيِّبِينَ)):
جمْعُ طيِّبٍ، وخصَّهُمْ بالذِّكْرِ لما اتَّصفُوا بهِ مِن الطَّيبِ،
ومعلومٌ أنَّه ربُّ كلِّ شيءٍ، ما يتَّصِفُ بالطِّيبِ والخُبْثِ وغيرِها،
ولكنْ هذه ربوبيةٌ خاصَّةٌ بأنبيائِهِ وعبادِه الصَّالحينَ، لها اختصاصٌ
على الرُّبُوبيَّةِ العامَّةِ للخلْقِ، فإنَّ مَن أعطاهُ اللهُ مِنَ
الكَمَالِ أكثرَ مما أعطى غيرَه، فقد رَبَّهُ وربَّاه رُبُوبيَّةً وتربيةً
أكملَ مِن غيرِه، فالرُّبوبيَّةُ تنقسم إلى قسمينِ:
الأوَّلِ: ربوبيةٌ عامَّةٌ، وهي لسائِرِ الخَلْقِ.
الثَّانِي:
ربوبيةٌ خاصَّةٌ، وهي ربوبيةٌ لأنبيائِه وعبادِه الصَّالِحِين. وفي هذا
الحديثِ إشارةٌ إلى التَّوَسُّلِ بربوبيَّتِه -سُبْحَانَهُ- للطَّيِّبينَ،
وهذا التَّوسُّلُ الشرعيُّ، وهو التَّوسُّلُ بربوبيَّتِهِ -سُبْحَانَهُ-
وأسمائِه وصفاتِه، وهذا التَّوسُّلُ مِن أعظمِ الوسائلِ للحصولِ على
المقصودِ، ولاَ يكادُ يردُّ دعاءَ مَن توسَّلَ بها، فلهذا دعا اللهَ بعدَها
بالشِّفاءِ الَّذي هو شفاءُ اللهِ الَّذي لا يدعُ مرضًا إلاَ أزَالَه،
وفيه أنَّهُ ينبغي أن يأتيَ مِن صفاتِه في كلِّ مقامٍ بما يناسِبُه، كلفظِ
الغفورِ عندَ طلبِ المغفرةِ، والرَّازِقِ عندَ طلَبِ الرِّزْقِ ونحوِ
ذَلِكَ، والقرآنُ والأدعيةُ النبويَّةُ مملوءَةٌ بذلكَ.
قَولُهُ: ((عَلَى هَذَا الْوَجَعِ)): بكسرِ الجيمِ أي المصابُ بالمرضِ.
(2) قَولُهُ: ((أَلاَ تَأْمَنُونِي)):
إلخ هذا الحديثُ أخرجَه في الصَّحِيحينِ عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ قال: بعثَ
عَلِيٌّ مِن اليمنِ بِذُهيبةٍ في أديٍم مقروظٍ لم تحصلْ مِن ترابِها،
فقسَّمَها رسولُ الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- بين أربعةٍ: زيدِ
الخيرِ، والأقرعِ بنِ حابسٍ، وعُيَيْنَةَ بنِ حِصْنٍ، وعلقمةَ بنِ علاثةَ
أو عامِرِ بنِ الطُّفَيلِ (شكَّ عِمَارةُ) فوجَدَ مِن ذلكَ بعض الصَّحابةِ
مِن الأنْصَارِ وغيرِهم، فقال رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((أَلاَ تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ، يَأْتِينِي خَبَرُ السَّمَاءِ صَبَاحًا وَمَسَاءً)) أخرجَه البخاريُّ ومُسْلِمٌ.
قَولُهُ: ((أَلاَ تَأْمَنُونِي)): ألاَ: أداةُ استفتاحٍ.
قَولُهُ: ((وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ)):
أي أمينُ اللهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- الَّذي في السَّمَاءِ على تبليغِ
شرعِه ودينِه، قيلَ إنَّ القائِلَ للنَّبِيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-
هو ذو الخويصرةِ اليمَنِيُّ، فاستأذنَه بعضُ الصَّحابة في قتلِه، فقال
النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((دَعْهُ
فَإِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا، - أي مِن جنسِه – قَوْمٌ
تُحَقِّرُونَ صَلاَتَكُمْ مَعَ صَلاَتِهِمْ، وَقِرَاءَتَكُمْ مَعَ
قِرَاءَتِهِمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ
الرَّمِيَّةِ، فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ فِي
قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ)) الحديثَ، فأوَّلُ بدعَةٍ
وقعت في الإسلامِ فتنةُ الخوارِجِ، وكانَ مبدؤُهم بسببِ الدُّنْيَا حين
قَسَّم النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- غنائمَ حُنينٍ، فكأنَّهم
رأوا في عقَولِهِم الفاسدةِ أنَّه لم يعْدِلْ في القِسْمَةِ، ففاجَئوه
بهذهِ المقالَةِ، ثمَّ كانَ ظهورُهُمْ فِي أيَّامِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ
فقتلَهُم في النَّهْرَوانِ، ثمَّ تشعَّبَتْ منهمْ شعوبٌ وآراءٌ وأهواءٌ
ومقالاتٌ ونِحَلٌ كثيرةٌ منتشرةٌ، ثم حدَثتْ بعدَهم بدعةُ القَدَرِيَّةِ،
ثم المعتزلةِ، ثم الجهميَّةِ، وغيرِ ذلكَ مِن البِدَعِ التي أخبرَ عنها
الصَّادقُ المصدوقُ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- في قَولِهِ: ((وَسَتَفْتَرِقُ هَذِهِ الأمَّةُ عَلَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلاَ وَاحِدَةً)) قَالُوا: وَمَا هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: ((مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي)) أخرجَهُ الحاكمُ في مستدرَكِهِ، أفادَ هذا الحديثُ فوائِدَ:
أوَّلاً: ما كان عليه -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- مِنَ الصَّبرِ والتَّحَمُّلِ لأذى المُنافقين.
ثانيًا:
تركُ النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- هذا المنافِقَ وغيرَه
استبقاءً لانقيادِهم وتأليفًا لقلوبِهم، فإنَّه -صلَّى اللهُ عليهِ
وسلَّمَ- لمَّا استأذنَه بعضُ الصَّحابةِ في قتلِ بعضِ المنافقينَ قال:
((مَعَاذَ اللهِ أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ
أَصْحَابَهُ)).
ثالثًا:
فيهِ دليلٌ لِمَنْ لم يُكَفِّرُ الخوارِجَ، قال النَّوويُّ: ومذهبُ
الشَّافِعيِّ وجماهيرِ أصحابِه وجماهيرِ العلماءِ أنَّ الخوارِجَ لا
يُكَفَّرون، وكذلِكَ الْقَدَرِيَّةُ والمعتزِلَةُ وسائِرِ أَهْلِ
الأهْوَاءِ. انتهى.
رابعًا:
فيه دليلٌ على علوِّ اللهِ على خَلْقِه، فقَولُهُ: ((فِي السَّمَاءِ))
فُسِّرت "في" بمعنى على، أو أنَّ المرادَ بالسَّماءِ العلوُّ، ولا تنافِيَ
بين التفسيرين، وقد تقدَّمَ، فليس معنى قَولِهِ ((فِي السَّمَاءِ)) أنَّ
السَّمَاءَ تُظِلُّه أو تُقلُّه أو تحيطُ به أو تَحويهِ، فإنَّ هذا ما لا
تُوجِبُه اللُّغةُ، وخلافُ ما فَطَر اللهُ عليهِ الخَلْقَ.
قالَ الشَّيخُ تَقِيُّ
الدِّينِ رحمه اللهُ في (الرِّسالَةِ الحمويَّةِ): ثم مَن توهَّم أنَّ كونَ
اللهِ في السَّمَاءِ تحيطُ بِه وتحويهِ فهوَ كاذبٌ إنْ نقلَه عنْ غيرِه
وضالٌّ إنِ اعتقَدَه في ربِّه، ومَا سمعنَا أحدًا يفهمُه مِن اللَّفْظِ،
ولا رأيْنا أحدًا نَقَلَه عَن أحدٍ، ولو سُئِلَ سائرُ المسلمينَ هل
يَفهمونَ مِن قولِ اللهِ ورسولِه أنَّ اللهَ في السَّمَاءِ أنَّ السَّمَاءَ
تحويِه لبادَر كلُّ أحدٍ أنْ يقولَ هذا شيءٌ لعلَّه لم يخطُرْ ببالِنَا،
وإذا كانَ الأمرُ هكذا فمِنَ التَّكلُّفِ أنْ يُجعل ظاهرُ اللَّفْظِ شيئا
مُحَالاً لا يفهمُهُ النَّاسُ منه ثم يريدُ أنْ يتأوَّلَه، بلْ عندَ
المسلمينَ أنَّ اللهَ في السَّمَاءِ وهو على العرْشِ شيءٌ واحدٌ، إذ
السَّماءُ إنَّما يُراد بِه العلوُّ، فالمعنى أن اللهَ في العلوِّ لا في
السُّفْلِ، وقد عَلِمَ المسلمونَ أنَّ كرسيَّه -سُبْحَانَهُ- وسِعَ
السَّمَاواتِ والأرضَ، وأنَّ الكرسيَّ في العرشِ كحَلَقَةٍ ملقاةٍ في أرضٍ
فلاةٍ، وأنَّ العرشَ خَلْقٌ مِن مخلوق اللهِ لا نسبةَ له إلى قُدْرَةِ
اللهِ وعظمَتِه، فكيفَ يتوهَّمُ متوهِّمٌ بعدَ ذلِكَ أنَّ خلقًا يحصرُه أو
يَحويِه، وقال اللهُ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- عن فرعونَ: (لأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ)، وقال: (فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ) بمعنى على، ونحوِ ذلكَ، وهو كلامٌ عربيٌّ حقيقةً لا مجازًا. انتهى.
(3) قَولُهُ: ((وَالْعَرْشُ فَوْقَ ذَلِكَ)):
إلخ: هذا الحديثُ رواهُ أبو داودَ وغيرُه مِن حديثِ العبَّاسِ بنِ عبدِ
المطَّلِبِ، ولفظُ أبي داودَ عن العبَّاسِ بنِ عبدِ المطَّلِبِ قال: كنتُ
في البطحاءِ في عصابَةٍ فيهم رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-
فمرَّت بهم سحابةٌ فنظرَ إليها فقال: ((مَا تُسَمُّونَ هَذِهِ؟)) قالوا: السَّحابَ، قال: ((وَالْمُزْنَ))، وقالوا: والمزنَ، قال: ((وَالْعَنَانَ))، قالوا: والعنانَ. قال أبو داودَ: لم أتقنْ جيِّدًا، قال: ((هَلْ تَدْرُون بُعْدَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ؟)) قالوا لا ندري، قال: ((إِنَّ
بُعْدَ مَا بَيْنَهُمَا إِمَّا وَاحِدَةٌ أَوِ اثْنَتَانِ أَوْ ثَلاَثٌ
وَسَبْعُونَ سَنَةً ثُمَّ السَّمَاءُ فَوْقَهَا كَذَلِكَ، حَتَّى عَدَّ
سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ثُمَّ فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ بَحْرٌ بَيْنَ
أَسْفَلِهِ وَأَعْلاَهُ مِثْلُ مَا بَيْنَ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ، ثُمَّ
فَوْقَ ذَلِكَ ثَمَانِيَةُ أَوْعَالٍ بَيْنَ أَظْلاَفِهِمْ وَرُكَبِهِمْ
مِثْلُ مَا بَيْنَ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ، ثُمَّ عَلَى ظُهُورِهِمُ
الْعَرْشُ بَيْنَ أَسْفَلِهِ وَأَعْلاَهُ مِثْلُ مَا بَيْنَ سَمَاءٍ إِلَى
سَمَاءٍ ثُمَّ اللهُ فَوْقَ ذَلِكَ)). ورواه أيضًا ابنُ ماجةَ والتِّرمذِيُّ وحسَّنَه، ورواهُ الحافِظُ ضياءُ الدِّينِ المقدسيُّ في المختارةِ.
قَولُهُ ((وَالْعَرْشُ فَوْقَ ذَلِكَ)): تقدَّم الكلامُ على العرشِ، أفادَ هذا الحديثُ عدَّةَ فوائدَ.
الأوَّلَ: إثباتُ
العرشِ، وقدْ تكاثَرتِ الأدلَّةُ مِنَ الكتابِ والسُّنَّةِ على إثباتِه،
وفيها الرَّدُّ على مَن نَفَى العَرْشَ وزعَمَ أنَّ معنى عرْشِهِ مُلْكُه
وقُدرَتُه، ولا شكَّ في بُطلانِ ذلك، وفيه دليلٌ على أنَّ الْعَرْشَ فوقَ
المخلوقَاتِ، وأنَّه ليسَ فوقَهُ مِن المخلوقاتِ شيءٌ، وفيه دليلٌ على أنَّ
اللهَ في السَّمَاءِ مستوٍ على العرشِ، فلو كانَ في كلِّ مكانٍ لم يكنْ
لهذا التَّخْصِيصِ معنًى، ولا فيه فائدةٌ، وفيه تفسيرُ الاستواءِ بالعلوِّ،
كما فسَّره الصَّحابةُ والتابعونَ والأئمَّةُ، خلافًا للمعطِّلَةِ مِن
الجهميَّةِ والمعتزِلَةِ ومَنْ أخَذَ عنهم مِن الأشَاعِرَةِ وغيرِهم ممَّن
ألحْدَ في أسماءِ اللهِ وصفاتِه، وصرفَها عن المعنى التي وُضِعتْ له،
ودلَّت عليه مِن إثباتِ صفاتِ اللهِ التي دلَّت على كلامِه جلَّ وعلا،
وفيها إثباتُ فوقيَّتِه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- وعلوِّه على خلْقِه، وهذا
الحديثُ صريحٌ في فوقيَّةِ الذَّاتِ، ففيه الردُّ على مَن زعم أن
الفوقيَّةَ فوقيَّةُ رتبةٍ وشرفٍ، فإنَّ حقيقةَ الفوقيَّةِ علوُّ ذاتِ
الشَّيءِ على غيرِه، وقد تقدَّم ذِكْرُ أنواعِ الفوقيَّةِ، فله
-سُبْحَانَهُ- الفوقيَّةُ التَّامَّةُ والعلوُّ الكامِلُ المطلَقُ، هذا
مذهبُ أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ، وبدَّعُوا وضلَّلوا مَن خالَفَهُ مِن
الجهميَّةِ والمعتَزِلَةِ، وفي هذا الحديثِ إثباتُ علمِه المحيطِ بكلِّ
معلومٍ، فلا تَخفى عليه خافيةٌ، وفيه الجمْعُ بينَ الإيمانِ بعلوِّه على
خَلْقِه واستوائِه على عرْشِه وبين الإيمانِ بإحاطَةِ عِلْمِه بالموجوداتِ
كلِّها، وقد جمعَ بين الأمرين في عدَّةِ مواضِعَ.
(4) قَولُهُ للجارية ((أَيْنَ اللهُ)):
إلخ هذا الحديثُ رواه مسلمٌ مِن حديثِ معاويةَ بنِ الحَكَمِ السُّلَمِيِّ،
وأخرجَه أبو داودَ، والنَّسَائِيُّ، وروى سببَه بألفاظٍ متعدِّدةٍ، وفي
بعضِ ألفاظِه عن الحكمِ بنِ معاوِيَةَ السُّلَمِيِّ قال: اطَّلَعْتُ على
غُنيمةٍ ترعَاها جاريةٌ لي قبلَ أُحُدٍ والجوَّانِيَّةِ فوجدتُ الذِّئبَ قد
أصابَ منها شاةً وأنا مِن بني آدمَ آسَفُ كما يأسفونَ فصككتُها صكَّةً ثم
انصرفتُ إلى رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- فأخبرتُه فعظَّم ذلكَ
علَيَّ، قال: قلتُ يا رسولَ اللهِ: أفَلا أَعْتِقُهَا؟ قال: ((بَلَى جِئْنِي بِهَا)) قال: فجئتُ بها رسولَ الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- فقالَ لها: ((أَيْنَ اللهُ؟)) قالت: في السماءِ، قال: ((مَنْ أَنَا؟)) قالت: أنتَ رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-، قال: ((اعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ)).
قال الحافظُ
الذَّهَبيُّ في كتابِ (العُلُوِّ): هذا حديثٌ صحيحٌ رواهُ جماعةٌ مِن
الثِّقَاتِ، قالَ: وأخْرَجَه مسلمٌ، وأبو داودَ، والنَّسائيُّ، وغيرُ واحدٍ
منَ الأئمةِ في تصانِيفهمْ، يَرُوونه كما جاءَ ولا يَتعرَّضونَ له بتأويلٍ
ولا تحريفٍ، ثم بيَّنَ الذهبيُّ طُرَقهُ واختلافَ ألفاظِهِ.
هذا الحديثُ فيه فوائدُ:
أولاً: فيه جوازُ السُّؤالِ عن اللهِ بأينَ خلافًا للمبتدِعَةِ.
ثانيًا:
فيه جوازُ الإشارةِ إلى العلوِّ، كما جاءَ صريحًا في حديثِ أبي هريرةَ
الَّذي أخرجَه أبو داودَ في بابِ الأيمانِ والنُّذورِ فأشارتْ بأصبُعِهَا
إلى السَّماءِ.
ثالثًا:
فيه إثباتُ العلوِّ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالى، فإنَّ معنى قَولِهِ: ((فِي
السَّمَاءِ)): أي على السَّماءِ، يعني على العرشِ، وقد تقدَّم الكلامُ.
رابعًا: فيه الدَّليلُ على أنَّ مَن شَهِدَ هذه الشهادةَ أنَّه مؤمنٌ.
خامسًا: فيه دليلٌ على أنَّه يُشترطُ في صحَّةِ العتقِ الإيمانُ.
سادسًا:
فيه دليلٌ على أنَّ مَن شَهِدَ هذه الشَّهادةَ يُكتفَى في ذلكَ بإيمانِه
ويُقبلُ منه ذلكَ، ولو لم يُذْكَرْ دليلٌ، فإنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللهُ
عليهِ وسلَّمَ- قَبِلَ منها مجرَّدَ الشَّهادةِ بعلوِّ اللهِ ورسالَةِ
رسولِه، خلافًا للمتكلِّمينَ الَّذين يقولونَ: لا بُدَّ مِن النَّظرِ
والقصدِ إلى النَّظرِ أو الشَّكِّ، فإنَّ هذه أقوالٌ باطلةٌ، فإنَّ معرِفَة
اللهِ -سُبْحَانَهُ- فِطريَّةٌ فَطَرَ اللهُ عليهَا عِبَادَه، كما في
الحديثِ قال: ((كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ)). الحديثَ.
سابعًا: فيه دليلٌ عَلى
أنَّ الاعترافَ بعلوِّ اللهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- وفوقيَّتِه مفطورٌ
عليهِ الخَلْقُ مغروزٌ في نفوسِهمْ، وقدْ جرتْ عادَةُ المسلمينَ عامَّتِهم
وخاصَّتِهم بأنْ يَدعوا ربَّهم عندَ الابتهالِ والرَّغبَةِ إليه، فيرفَعوا
أيديَهُم إلى السَّماءِ وذلك لاستفاضَةِ العِلْمِ عندَهم بأنَّ ربَّهُم
المدعوُّ في السَّماءِ، وقدْ تطابقَ أدلَّةُ العَقْلِ والنَّقلِ على
إثباتِه).