11 Nov 2008
الإيمان بصفة الكلام والصوت لله تعالى
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: ((يَقُولُ
اللُه تَعَالَى: يَا آدمُ. فَيَقُولُ : لَبَّيْكَ ، وَسَعْدَيكَ ،
فَيُنَادِي بِصَوْتٍ : إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُخْرِجَ منْ
ذُرِّيَّتِكَ بَعْثًا إِلَى النَّارِ)) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَقَوْلُهُ : ((مَا منْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَه تُرْجُمَان)) ).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (قوله:
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يَقُولُ اللهُ تَعالى: يا آدَمُ!
فَيَقولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ. فَيُنادِي بِصَوْتٍ: إن اللهَ يَأمُرُكَ
أنْ تُخْرِجَ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ بَعْثًا إلى النَّار …)) متفق عليه.(1)
قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((ما
مِنْكُمْ مِنْ أحَدٍ إلاَّ سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ، ولَيْسَ بَيْنَهُ
وَبَيْنَهُ تَرْجُمانٌ)). (2) ).
الشرح:
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (الحديثُ السَّادسُ: في إثْباتِ الكلامِ والصَّوتِ
(1) يخبرُ النَّبيُّ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ ربِّهُ أنَّهُ يقولُ:
يا آدمُ! وهذا يومُ القيامةِ، فيجيبُ آدمُ: ((لبَّيْكَ وسَعْدَيْكَ)).
((لبيك))؛ بمعنَى: إجابةٌ مع إجابةٍ، وهو مثنَّى لفظًا، ومعناه: الجمعُ، وَلِهَذَا يُعربُ على أنَّهُ ملحقٌّ بالمثنَّى.
و((سَعْدَيْكَ))؛ يعني: إسعادًا بعدَ إسعادٍ؛ فأنا ألبي قولَكَ وأسألُك أنْ تسعدَنِي وتعينَنِي.
قَالَ: ((فينادي))؛ أيْ: اللهُ؛ فالفاعلُ هُوَ اللهُ عزَّ وجلَّ.
وقولُهُ: ((بصوتٍ)): هذا مِنْ بابِ التأكيدِ؛
لأنَّ النِّداءَ لا يكونُ إلَّا بصوتٍ مرتفعٍ؛ فهو كقولِهِ تعالَى: (وَلاَ
طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمثَالُكُم) [الأنعام: 38]؛
فالطَّائرُ الَّذِي يطيرُ؛ إنَّما يطيرُ بجناحَيْهِ، وهذا مِنْ بابِ
التأكيدِ.
وقولُهُ: ((إنَّ اللهَ يأمرُكَ أنْ تُخْرِجَ مِنْ
ذرِّيَّتِكَ بعثًا إلى النَّارِ)): ولم يَقُلْ: إنيِّ آمرُكَ! وهذا مِنْ
بابِ الكِبرياءِ والعظمةِ؛ حيثُ كنَّى عَنْ نفسِهِ تعالَى بكنيةِ الغائبِ،
فقَالَ: ((إنَّ الله يأمُركَ))؛ كَما يقولُ المِلكُ لجنودِهِ: إنَّ المِلكَ
يأمُركُم بكَذا وكَذا؛ تفاخرًا وتعاظمًا، واللهُ سبحانَه هو المتكبِّرُ
وهو العظيمُ.
وجاءَ في القرآنِ مثلُ هذا: (إِنَّ اللهَ
يَأمُرُكُم أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهلِهَا) [النساء: 58]، ولمْ
يَقْلُ: إنيِّ آمرُكُم.
وقولُهُ: ((أنْ تخرِجَ مِنْ ذرِّيَّتِكَ بعثًا إلى النَّارِ))؛ أيْ: مبعوثاً.
والحديثُ الآخرُ؛ قَالَ: ((يَا رَبِّ! وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تسعُمِائةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسعونَ)).
الحديثُ السَّابعُ في إثْباتِ الكلامِ أيضًا
(2) ((ما)): نافية.
((مِنْ أحدٍ)): مبتدأٌ؛ دخلَتْ عَلَيْهِ (مِنْ) الزَّائدةُ للتوكيدِ؛ يعني: ما مِنْكُم مِنْ أحدٍ.
((إلاَّ سيكلمُهُ ربُّه))؛ يعني: هذِهِ حالُهُ؛
سيكلِّمُهُ اللهُ عزَّ وجلَّ؛ ((لَيْسَ بيْنَهَ وبينَهُ ترجمانُ))، وذلِكَ
يومَ القيامةِ.
والتَّرْجُمانُ: هو الَّذِي يكونُ واسطةً بَيْنَ
متكلمَيْنِ مختلفَيْنِ في اللُّغةِ، يَنْقُلُ إلى أحدِهِما كلامَ الآخَرِ
باللُّغةِ الَّتي يفهَمُها.
ويُشترَطُ في المترجِمِ أربعةُ شروطٍ: الأمانةُ،
وأنْ يكونَ عالمًا باللُّغةِ الَّتي يترجِمُ مِنْها، وباللُّغةِ الَّتي
يترجِمُ إليها، وبالموضوعِ الَّذِي يترجِمُهُ.
وفي هذا الحديثِ مِنْ صفاتِ اللهِ: الكلامِ، وأنَّهُ بصوتٍ مسموعٍ مفهومٍ.
الفوائدُ المسْلَكيَّةُ في الحديثِ الأوَّلِ:
((يقولُ اللهُ: يا آدمُ!)): فيه بيانٌ أنَّ الإنسانَ إذا عَلِمَ بذلِكَ؛
فإنَّهُ يحذرُ ويخافُ أنْ يكونَ مِنَ التِّسعِمائةِ والتسعةِ والتسعينَ.
وفي الحديثِ الثَّاني: يخافُ الإنسانُ مِنْ ذلِكَ
الكلامِ الَّذِي يجريِ بينَهُ وبَيْنَ ربِّه عزَّ وجلَّ أنْ يفتضِحَ
بَيْنَ يديِ اللهِ إذا كلَّمَهُ تعالَى بذنوبِه، فيقلِعُ عَنِ الذُّنوبِ،
ويخافُ مِنَ اللهِ عزَّ وجلَّ).
التنبيهات اللطيفة فيما احتوت عليه الواسطية من المباحث المنيفة لابن سعدي رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وقوله صلى الله عليه وسلم: ((يقول
الله تعالى: يا آدمُ. فيقول: لبيكَ وسَعْدَيكَ. فَيُنادى بصوتٍ: إنّ الله
يأْمُرُكَ أنْ تُخْرِجَ من ذُرِّيتِكَ بعثاً إلى النار)) متفق عليه.
وقوله: ((ما منكم من أحَدٍ إلا سيُكَلِّمُهُ رَبُّه ليس بينَهُ وبينَه تَرْجُمان)) ([1]) ).
الشرح:
قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): ( ([1]) وقوله صلى الله عليه وسلم: ((ما منكم من أحَدٍ إلا سيُكَلِّمُهُ رَبُّه ليس بينَهُ وبينَه تَرْجُمان)) وهذا أيضاً إثبات لتكليمه لجميع العباد بلا واسطة، وتكليمه لعباده نوعان (نوع بلا واسطة) كما في هذا الحديث، فالتكليم هنا تكليم محاسبة ويكون مع البَرّ والفاجر، وأما قوله تعالى: (لاَ يُكَلِّمُهُمُ) فالمنفيُّ كلام خاص وهو الكلام الذي يسرُّ المتكلم. (ونوع بواسطة) وهو كلامه تعالى لرسله من الملائكة بأمره ونواهيه وإخباره لأنبيائه ورسله من البشر).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ مُحمَّد خَليل هَرَّاس رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): ( (وقَوْلُهُ: ((يَقُولُ تَعَالى يَا آدَمُ! فَيَقولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ. فَيُنادي
بصَوْتٍ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُخْرِجَ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ بَعْثًا
إِلى النَّارِ )). متَّفَقٌ عليهِ. وقوله: (( ما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ وَلَيْسَ بينَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمانٌ )) ) (1) ).
الشرح:
قال الشيخ محمد خليل هراس (ت: 1395هـ): ((1) قولُهُ: (( يقولُ تعالى: يا آدمُ … ))
إلخ. في هذينِ الحديثينِ إثباتُ القولِ والنِّداءِ والتَّكليمِ للهِ عزَّ
وجلَّ، وقَدْ سبقَ أنْ بيَّنَا مذهبَ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ في ذلكَ،
وأَنَّهُمْ يُؤمنون بأنَّ هذهِ صفاتَ أفعالٍ لهُ سبحانَهُ تابعةً لمشيئتِهِ
وحكمتِهِ، فهوَ قالَ، ويقولُ، ونادَى، وينادِي، وكلَّمَ، ويُكلِّمُ، وأنَّ
قولَهُ ونداءَهُ وتكليمَهُ إنَّمَا يكونُ بحروفٍ وأصواتٍ يسمعُهَا مَنْ
يُنَا ديهِ ويكلِّمُهُ، وفي هذا ردٌّ على الأشاعرةِ في قولِهِمْ: إنَّ
كلامَهُ قديمٌ، وأنَّهُ بلا حرفٍ ولا صوتٍ.
وقَدْ دلَّ الحديثُ
الثاني على أَنَّهُ سبحانَهُ سيكلِّمُ جميعَ عبادِهِ بلا واسطةٍ، وهذا
تكليمٌ عامٌّ؛ لأنَّهُ تكليمُ محاسبةٍ، فهوَ يشملُ المؤمنَ والكافرَ
والبَرَّ والفاجرَ، ولا ينافيهِ قولُهُ تعالى: { وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ }؛
لأنَّ المنفيَّ هنَا هوَ التَّكليمُ بما يسرُّ المكلَّمَ، وهوَ تكليمٌ
خاصٌّ، ويقابلُهُ تكليمُهُ سبحانَهُ لأهلِ الجنَّةِ تكليمَ محبَّةٍ ورضوانٍ
وإحسانٍ).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ: صالح بن فوزان الفوزان
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وقَوْلُهُ: ((
يَقُولُ تَعَالى يَا آدَمُ! فَيَقولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ. فَيُنادي
بصَوْتٍ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُخْرِجَ مِن ذُرِّيَّتِكَ بَعْثاً
إِلى النَّارِ )). متَّفق عليه. وقوله: (( ما مِنْكُمْ مِن أَحَدٍ إِلاَّ سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ وَلَيْسَ بينَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمانٌ )). (1)).
الشرح:
قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: ( (1)قولُه: (لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ)
لبيَّك أي أنا مُقِيمٌ عَلى طاعتِك مِن: ألبَّ بالمكانِ. إذا أقام وهو
منصوبٌ عَلى المصدرِ. وثُنيِّ للتَّأكيدِ، وسَعْدَيْك: مِن المساعدةِ وهي
المطاوعةُ أي: مساعدةٌ في طاعتِك بعد مساعدةٍ. قولُه: (فَيُنَادِي) بكسرِ الدَّالِ، والمنادِي هو اللهُ تعالى (بِصَوْتٍ) تأكيدٌ لقولِه (يُنَادِي) لأنَّ النِّداءَ لا يكونُ إلاَّ بصوتٍ، وهذا كقولِه تعالى: (وَكلّم اللهُ مُوسىَ تَكْلِيماً) قولُه: (بَعْثاً إِلى النَّارِ) البعثُ هنا بمعنَى المبعوثِ الموجَّهِ إليها. ومعنَى ذلك مَيِّزْ أهلَ النَّارِ عَن غيرِهم.
والشَّاهدُ مِن الحديثِ:
أنَّ فيه إثباتَ القولِ مِن اللهِ والنِّداءِ بصوتٍ يُسْمَعُ، وأنَّ ذلك
سيحْصُلُ يومَ القيامةِ، ففيه أنَّ اللهَ يقولُ وينادي متى شاء وكما
يَشاءُ.
وقولُه: (مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ) الخِطابُ للصَّحَابةِ، وهو عَامٌّ لجميعِ المؤمنين (إِلاّ سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ) أي بلا واسطةٍ (لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ) التَّرْجُمانُ مَن يعبِّرُ بلُغةٍ عَن لُغَةٍ، أي: ينقلُ الكَلامَ مِن لُغةٍ إلى لُغةٍ أخرى.
والشَّاهدُ مِن الحديثِ:
أنَّ فيه إثباتَ تكليمِ اللهِ سبحانَه لعبادِه.وأنَّه سبحانَه يتكلَّمُ
إذا شاء. فكَلامُهُ مِن صفاتِه الفعليّةِ.وأنَّه يكلِّمُ كُلَّ مؤمنٍ يومَ
القيامةِ).
الروضة الندية للشيخ: زيد بن عبد العزيز بن فياض رحمه الله
المتن:
قال أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وقَوْلُهُ: (يَقُولُ تَعَالى يَا آدَمُ فَيَقولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ. فَيُنادِي بصَوْتٍ : إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُخْرِجَ مِن ذُرِّيَّتِكَ بَعْثاً إِلى النَّارِ ) . متَّفق عليه . وقوله: (( ما مِنْكُمْ مِن أَحَدٍ إِلاَّ سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ وَلَيْسَ بينَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمانٌ. متفق عليه))(1) ).
الشرح:
قال الشيخ زيد بن عبد العزيز بن فياض (ت: 1416هـ): ((1) رَوَى البًخاريُّ ومسلمٌ في صَحِيحيهِما عن أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ قال : قال رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقولُ
اللهُ تَعالى يومَ القيامةِ : يا آدمُ ، فيقولُ : لَبَّيْكَ وسَعْدَيْكَ
فَيُنادِي بِصوتٍ : إنَّ اللهَ يَأمرُكَ أنْ تُخرِجَ مِن ذُرِّيَّتِكَ
بَعْثاً إلى النَّارِ ! قال : يا رَبِّ وما بَعْثُ النَّارِ ؟ قال مِن
كُلِّ ألفٍ – أُرَاهُ قال : - تِسْعُمِائَةٍ وتِسعةٌ وتِسعون ، فَحِينئذٍ
تَضعُ الحاملُ حَمْلَها ويَشيبُ الوَليدُ ، وتَرى النَّاسَ سُكَارى وما هُم
بِسُكارَى ولكِنَّ عَذابَ اللهِ شَديدٌ فَشَقَّ ذلك على النَّاسِ حتى
تَغيرتْ وُجوهُهم قال النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن
يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ تِسعُمائةٍ وتسعةٌ وتِسعون ، ومِنكم واحدٌ أنتم في
الأرضِ كالشَّعْرَةِ السَّوْدَاءِ في جَنْبِ الثَّوْرِ الأبيضِ ، أو
كالشَّعْرَةِ البَيضاءِ في جَنْبِ الثَّوْرِ الأسودِ ، إنِّي لاَرْجو أنْ
تَكونوا رُبُعَ أهلِ الجَنَّةِ فَكَبَّرْنَا ثُمَّ قال : ثُلُثَ أهلِ الجَنَّةِ فَكَبَّرْنَا ثُمَّ قال . شَطْرَ أهلِ الجَنَّةِ فَكَبَّرْنَا .
ورَوى هذا المعنى
جَماعةٌ مِن الصَّحابَةِ مِنهم أبو هريرةَ وابنُ مسعودٍ وأنسُ بنُ مالكٍ
وعِمْرَانُ بنُ حُصَيْنٍ وعبدُ اللهِ بنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهم .
قولُه (( لَبَّيْكَ وسَعديكَ )) (( لَبَّيْكَ ))
لَفظٌ مُثنَّى عندَ سِيبَوَيْهِ ومَن تَبِعَهُ . وقال يونسُ : هو اسمٌ
مُفردٌ وألِفُه إنَّما انقلبتْ ياءً لاتِّصَالِها بالضَّمِيرِ ( كَلَدَيَّ
وعَلَيَّ ) وَرُدَّ بأنَّها قُلِبَتْ ياءً مع المُظْهَرِ . وعن الفَرَّاءِ :
وهو مَنصوبٌ على المَصْدرِ وأصلُه لَبَّالَكَ ، مُثَنَّىً علَى التَّأكيدِ
. أيْ إلبَاباً بعدَ إلبابٍ . وهذه التَّثْنِيَةُ ليست حقيقةً . بَلْ هي
للتَّكْثِير أو المُبالغَةِ ومعناه : إجابةً بعدَ إجابةٍ أو إجابةً لازمةً
وقِيلَ : معنى لَبَّيْكَ : اتِّجَاهِي وقَصْدِي إليكَ مَأخوذٌ مِن قَولِهم :
دَارِي تَلبُّ دَارَكَ أي تُواجهُها وقِيلَ : معناه مَحبَّتي لكَ، مأخوذةٌ
مِن قولِهم : امرأةٌ لَبَّةٌ أيْ مُحِبَّةٌ وقِيلَ : إخلاصِي لكَ مِن
قولِهم حبٌّ لُبَابٌ وهو العَرَبُ . وقِيلَ خاضعاً لكَ والأوَّلُ أظْهَرُ
وأشْهَرُ )) .
(( وسَعْدَيْكَ مِن
المُساعدةِ ، وهي المُطاوعَةُ . ومعناها : مُساعدةٌ في طَاعتِكَ وما تُحبُّ
بعدَ مُساعدةٍ . قال الحَرْبِيُّ : ولم يُسْمَعْ سَعْدَيْكَ مُفرداً ،
والتَّثْنِيَةُ في لَبَّيْكَ كالتَّثْنِيَةِ في قولِه تعالى {ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ}
وليس المرادُ ما يَشْفَعُ الوَاحِدَ فَقَطْ . وكذا سَعْدَيْكَ
ودَوَالَيْكَ . وقد اشْتَمَلَتْ كلماتُ التَّلْبِيَةِ على فَوائدَ عَظيمةٍ أحدُها : أنَّ قولَه (( لَبَّيْكَ ))
يتضمَّنُ إجابةَ داعٍ دَعاكَ ، ومُنادٍ نَاداكَ . ولا يَصِحُّ في لُغَةٍ
ولا عَقْلٍ إجابةُ مَن لا يَتكلَّمُ ولا يَدعو مَن أجَابَهُ ( الثَّانِيةُ ) أنَّها تَتضمَّنُ المَحبَّةَ . ولا يُقالُ لَبَّيْكَ إلا لِمَن تُحِبُّهُ وتُعَظِّمُهُ ( الثَّالثَةُ ) أنَّها تَتضمَّنُ التزامَ دوامِ العُبوديَّةِ ، ولهذا قِيلَ: مِن الإقامةِ . أيْ أنا مُقيمٌ على طَاعتِكَ . ( الرَّابِعةُ ) أنَّها تَتضمَّنُ الخُضُوعَ والذُّلَّ أيْ خُضوعاً بعدَ خُضوعٍ مِن قولِهم أنا مُلَبٍّ بينَ يَديكَ . أي خاضعٌ ذليلٌ
( الخَامسةُ ) أنَّها تَتضمَّنُ الإخلاصَ ولهذا قيل : إنَّها مِن اللُّبِّ وهو الخالصُ .
( السَّادِسَةُ ) أنَّها تَتضمَّنُ الإقرارَ بسمعِ الرَّبِّ تعالى إذ يَستحيلُ أنْ يقولَ الرَّجُلُ لِمَن لا يَسمعُ دُعاءَهُ لَبَّيْكَ ( السَّابعةُ ) أنَّها تَتضمَّنُ التَّقَرُّبَ مِن اللهِ تعالى ولهذا قِيل إنَّها مِن الإلبابِ وهو التَّقَرُّبُ .
(( فَيُنادِي ))
بكسرِ الدَّالِ أي اللهُ . وفي رِوايةِ أبي ذَرٍّ بفتحِ الدَّالِ والبناءِ
للمجهولِ . ولا يُنافي روايةَ الأكثرِ . فالمُبهمُ في روايةِ أبي ذَرٍّ قد
بَيَّنَتْهُ الرِّواياتُ الصَّحيحةُ الأُخرَى .
وأمَّا ما رواه الإمامُ
أحمدُ عن ابنِ مسعودٍ : أنَّ اللهَ يَبعثُ يومَ القيامةِ مُنادِياً : يا
آدمُ إنَّ اللهَ يَأمرُكَ - الحديثَ - فَلا مُنافاةَ بينه وبينَ ما تقدَّمَ
، إذِ المرادُ - واللهُ أعلمُ - أنَّ النِّداءَ يَقعُ مِن اللهِ ويقعُ مِن
المَلَكِ أيضاً .
وقد دَلَّ الحديثُ على
أنَّ اللهَ يَتكلَّمُ ويُنادِي بصوتٍ ففيه، إثباتُ الصَّوتِ للهِ وأنَّه
تعالى يَتكلَّمُ بِحَرْفٍ وصوتٍ . كما قال ابنُ مسعودٍ عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَن قَرَأَ القرآنَ
فَلَهُ بِكلِّ حرفٍ حسنةٌ والحسنةُ بعَشْرِ أمثالِها أمَا إنِّي لا أقولُ (
الم ) حرفٌ ولكنْ ألفٌ حرفٌ ولامٌ حرفٌ ومِيمٌ حرفٌ أخرجَه التِّرمذِيُّ وصحَّحهُ .
(( واستدلَّ البخاريُّ
في كتابِ خَلْقِ أفعالِ العِبادِ على أنَّ اللهَ يَتكلَّمُ كيف شاء ، وأنَّ
أصواتَ العِبادِ مُؤلَّفةٌ حرفاً حرفاً فيها التَّطريبُ بالهَمْزِ
والتَّرجيعُ، بحديثِ أُمِّ سَلمةَ ثُمَّ ساقه عن طَريقِ يَعْلَى بنِ
مَمْلَكٍ ( بفتحِ الميمِ واللامِ بينهما ميمٌ ساكنةٌ ثم كافٌ ) أنَّه سألَ
أُمَّ سلمةَ عن قراءةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وصَلاتِه فذَكَرَتِ الحديثَ وما فيه ونَعتَتْ قِراءتَه فإذا قِراءتُه حرفاً
حرفاً . وهذا أخرجَه أبو دَاوُدَ والتِّرْمِذِيُّ وغيرُهما . وقال عبدُ
اللهِ بنُ أحمدَ بنُ حنبلٍ في كتابِ السُّنَّةِ : سألتُ أبي عن قَوم يقولون
: لمَّا كَلَّمَ اللهُ موسى لم يَتكلَّمْ بصوتٍ فقال أبِي بَلْ تَكَلَّمَ
بصوتٍ . هذه الأحاديثُ تُرْوَى كمَا جاءتْ وذَكَرَ حديثَ ابنِ مسعودٍ
وغيرِه )) وقولُه (( ما مِنكم مِن أحَدٍ إلا سَيُكلِّمُه ربُّه ليس بينَه وبينَه تَرْجُمَانٌ
(( خرَّجاه في الصَّحِيحينِ عن عَدِيِّ بنِ حاتمٍ الطَّائيِّ وتمامُه :
ثُمَ يَنظرُ فلا يَرى شيئاً قُدَّامَهُ ثُمَّ يَنظرُ بينَ يَديهِ
فَتَستقبِلُه النَّارُ فمَن استطاعَ مِنكم أنْ يَتَّقِيَ النَّارَ ولو
شِقَّ تمرةٍ . وفي لفظٍ لهما قال النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ اتَّقُوا النَّارَ ثُمَّ أعْرضَ وأشاحَ ثُمَّ قال اتَّقُوا اللهَ ثُمَّ أعْرضَ وأشاحَ ثلاثاً حتى ظَنَّنَا أنَّه يَنظرُ إليها ثُمَّ قال : اتَّقُوا النَّارَ ولو بِشِقِّ تمرةٍ فمَن لم يَجَدْ فَبكلمةٍ طَيِّبَةٍ .
(( قولُه ما مِنكم مِن
أحَدٍ : ظَاهرُ الخطابِ للصَّحابةِ ويَلتحِقُ بهم المؤمنون كُلُّهُم
سَابِقُهم ومُقَصِّرُهُم أشارَ إلى ذَلِكَ ابنُ أبي جَمْرَةَ )) ((
والتَّرْجُمَانُ : بفتحِ التَّاءِ المُثَنَّاةِ وضمِّ الجيمِ ورَجَّحَهُ
النَوَوِيُّ في شرحِ مسلمٍ ويجوزُ ضمُّ التَّاءِ إِتِْبَاعاً . ويجوزُ فتحُ
الجيمِ مع فتحِ أوَّلِه . حكَاهُ الجَوْهَرِيُّ . ولم يُصَرِّحُوا
بالرَّابعةِ وهي ضمُّ أوَّلِه وفتحُ الجيمِ .
والتَّرْجُمَانُ : المُعَبِّرُ عن لُغَةٍ وهو مُعَرَّبٌ . وقِيلَ عَرَبِيٌّ )) .
(( وقُدَّامَهُ بضمِّ
القافِ وتشديدِ الدَّالِ - أيْ أمَامَهُ وأيمنَ وأشْأَمَ بالنَّصبِ فيهما
على الظَّرفيَّةِ . والمرادُ بهما اليمينُ والشِّمالُ . قال ابنُ
هُبَيْرَةَ : نَظَرُ اليمينِ والشِّمالِ هنا كالمَِثَلِ لاِنَّ الإنسانَ
مِن شَأْنِه إذا دَهَمَهُ أمْرٌ أنْ يَلتفِتَ يَميناً وشِمالاً يَطلبُ
الغَوْثَ . ( قُلتُ ) ويُحتملُ : أنْ يكونَ سببُ الالتفاتِ أنَّه
يَتَرَجَّى أنْ يَجِدَ طَريقاً يَذهبُ فيها لِيحصلَ له النَّجاةُ مِن
النَّارِ فلا يَرى إلا ما يُفْضِي بِه إلى النَّارِ .
قولُه ثُمَّ ينظرُ بينَ
يَديِه فَتَستقبِلُه النَّارُ قال ابنُ هُبَيْرَةَ : والسَّببُ في ذلك
أنَّ النَّارَ تكونُ في مَمَرِّهِ فلا يُمكنُه أنْ يَحِيدَ عنها . إذ لا
بُدَّ له مِن المُرورِ على الصِّراطِ . قولُه فمَن استطاعَ مِنكم أن
يَتَّقِيَ النَّارَ ولو بِشِقِّ تمرةٍ ، زَادَ وَكِيعٌ رِوايتَهُ
فَلْيَفعلْ ، وفي رِوايةِ عيسى : فاتَّقُوا النَّارَ ولو بِشِقِّ تمرةٍ ،
أيْ اجعلوا بَينكم وبينَها وِقَايةً مِن الصَّدقةِ وعَملِ البِرِّ ولو
بِشيءٍ يَسِيرٍ )) .
(( وشِقُّ التَّمرةِ
بكسرِ المُعْجَمَةِ نِصفُها أو جانبُها أيْ ولو كانَ الاتِّقَاءُ
بالتَّصدُّقِ بشِقِّ تمرةٍ واحدةٍ فإنَّه يُفيدُ . وفي الطَّبرانِيِّ مِن
حَديثِ فَضَالَةَ بنِ عُبيدٍ مرفوعاً : اجعلوا بَينكم وبينَ النَّارِ
حِجاباً ولو بِشِقِّ تَمرةٍ . وفي الحديثِ : الحَثُّ على الصَّدقَةِ بِمَا
قَلَّ وما جَلَّ وأنْ لا يَحتقِرَ ما يَتَصَدَّقُ بِه وأنَّ اليَسيرَ مِن
الصَّدقَةِ يَستُرُ المُتَصِدِّقَ مِن النَّارِ .
قَولُه فإنْ لم يَجدْ
فبكلمةٍ طيِّبةٍ . قال ابنُ هُبَيْرَةَ : المُرادُ بالكلمةِ الطَّيِّبَةِ
هنا ما يَدُلُّ على هُدًى أو يَرُدُّ عن رَدًى أو يُصلحُ بينَ اثنينِ أو
يَفصلُ بينَ مُتنازِعَينِ أو يَحُلُّ مُشكلاً أو يَكشفُ غامضاً أو يَدفعُ
ثائِراً أو يُسَكِّنُ غَضَباً ، واللهُ سُبحانَه وتعالى أعلمُ .
وفي الحديثينِ إثباتُ صفةِ الكلامِ والنِّداءِ للهِ حقيقةً .
(( ولفظُ النِّداءِ
الإلهِيِّ قد تَكرَّرَ في الكتابِ والسُّنَّةِ تِكراراً مُطَّرِداً في
مَحَالِّهِ مُتنوِّعاً تَنَوُّعاً يَمنعُ حَملَهُ على المَجازِ فأخبرَ
تعالى أنَّه نادَى الأبوينِ في الجَنَّةِ ونادَى كَلِيمَهُ وأنَّه يُنادِي
عِبادَهُ يومَ القيامةِ . وقد ذكرَ اللهُ النِّداءَ في تِسعةِ مَواضِعَ مِن
القرآنِ أخبرَ فيها عن نِدائِه بنفسِه . ولا حاجةَ أنْ يُقَيَّدَ
النِّداءُ بالصَّوتِ فإنَّه بمعناه وحقيقتِه باتِّفاقِ أهلِ اللُّغَةِ فإذا
انتفَى الصَّوتُ انتفَى النِّداءُ قَطْعاً كما في الحديثِ الصّحيحِ الذي
رَوَاهُ البخاريُّ عن أبي هُريرةَ أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قال : إذا قضَى اللهُ الأمْرَ في السَّماءِ
ضَربتِ الملائكةُ بِأجنحتِها خُضْعاناً لِقَولِه كأنَّه سلسلةٌ على
صَفْوَانٍ فإذا فُزِّعَ عن قُلوبِهم قالوا ماذا قال رَبُّكم قالوا الحَقَّ
وهو العَلِيُّ الكَبيرُ . وروى أبو داودَ عن عبدِ اللهِ قال : قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا
تَكلَّمَ اللهُ بالوحيِ سَمِعَ أهلُ السَّماواتِ صلصلةً كَجَرَّةِ
السِّلسلةِ على الصَّفَّاءِ فَيُصعقون ولا يَزالون كذلك حتى يَأتيَهم
جِبرائِيلُ فإذا جاءهم جَبرائِيلُ فُزِّعَ عن قلوبِهم فيقولون : يا
جَبرائِيلُ ماذا قال رَبُّكَ ؟ قال : الحَقَّ، فَيُنادِون : الحَقَّ
الحَقَّ . وإسنادُه ثِقاتٌ . وقد فَسَّرَ الصَّحابةُ الآيةَ بِمَا يُوافقُ هذا الحديثَ الصَّحيحَ .
فَرَوى ابنُ
مَرْدَوَيْهِ عن ابنِ عبَّاسٍ قال : لمَّا أوْحَى الجَبَّارُ جَلَّ جَلالُه
إلى محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعا الرَّسولَ مِن
الملائكةِ لِيَبعثَه بالوَحيِ فَسمعتِ الملائكةُ صوتَ الجَبَّارِ يَتكلَّمُ
بالوَحيِ فَلمَّا كُشِفَ عن قُلوبِهم فَسألوا عمَّا قال اللهُ تعالى ،
قالوا الحَقَّ عَلِمُوا أنَّ اللهَ لا يقولُ إلا حَقًّا وأنَّه مُنْجِزٌ ما
وَعَدَ .
وروى أبو يَعْلى المَوْصِلِيُّ عن عبدِ اللهِ بنِ أُنَيْسٍ قال : سمعتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ : يَحشرُ
اللهُ العِبادَ أو قال يَحشرُ النَّاسَ قال وَأَوْمَأ بِيدِه إلى الشَّامِ
عُرَاةً غُرْلًا بُهْمَاً قلتُ وما بُهماً قال ليس مَعهم شيءٌ قال
فَيُنادِيهم بصوتٍ يَسمعُه مَن بَعُدَ كما يَسمعُه مَن قَرُبَ : أنَا
المَلِكُ أنَا الدَّيَّانُ ، ورَوَاهُ أحمدُ .
ورَوَى البًخاريُّ
أوَّلَهُ في الصَّحيحِ مُعَلَّقاً . وفي تَفسيرِ شَيْبَانَ عن قَتَادَةَ
{فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ} قال : صَوتُ
رَبِّ العَالَمِينَ . ذَكرهُ ابنُ خُزَيْمَةَ . والأحاديثُ والآثَارُ عن
السَّلفِ في ذلك كثيرةٌ جِدًّا . وتَقدَّمَ حديثُ أبي سعيدٍ في الصحيحِ
الذي بَلَّغَنَاهُ الصَّحابَةُ والتَّابِعون وتَابَعُوهم ، وسائِرُ
الأُمَّةِ تَلَقَّتْهُ بالقَبُولِ . وتَقييدُه بالصَّوتِ إيضاحاً وتأكيداً
كما قُيِّدَ التَّكْلِيمُ بالمصدرِ في قَولِه {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} وفي الصَّحَيحينِ عن أبي هُريرةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : إذا أحَبَّ اللهُ عبداً نادى جِبرائِيلُ : إنَّ اللهَ قد أحبَّ فُلاناً فَأَحِبَّهُ - الحديثَ - والذي تعقِلُه الأُمَمُ مِن النِّداءِ إنَّما هو الصَّوتُ المَسموعُِ كما قال تعالى: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} وقال: {إَنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} وهذا النِّداءُ هو رَفْعُ أصواتِهم الذي نَهَى اللهُ عنه المُؤمنينَ وأثْنَى عليهم بِغَضِّهَا في قَولِه :{إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ}
الآيةَ . وكُلُّ ما في القرآنِ العظيمِ مِن ذِكْرِ كَلامِه وتَكليمِه
وأمرِه ونَهيِهِ ، دَالٌّ على أنَّه تَكَلَّمَ حقيقةً لا مَجازاً . وكذلك
نُصوصُ الوَحيِ الخَاصِّ كقَولِه {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ} .
وقد نَوَّعَ اللهُ هذه الصِّفةَ في إطلاقِها عليه تَنويعاً يَستحيلُ معه نَفْيُ حَقائِقِها بَلْ ليس في الصِّفاتِ الإلهيَّة أظهرُ من صِفةِ الكلامِ والعُلُوِّ والفِعْلِ والقُدْرَةِ بل حقيقةُ الإرسالِ تَبلغُ كلامَ الرَّبِّ تَباركَ وتَعالَى . وإذا انتَفَتْ مِنه حقيقةُ الكلامِ انتَفَتْ حقيقةُ الرِّسالةِ والنُّبُوَّةِ . والرَّبُّ تَباركَ وتَعالَى يَخلقُ بكلامِه وقَولِه كما قال تعالى (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) فإذا انتَفَتْ حقيقةُ الكلامِ انتَفَى الخَلْقُ . وقد عاب اللهُ آلهةَ المُشركينَ بأنَّها لا تَكَلَّمُ ، ولا تُكَلِّمُ عابِديها ، ولا تَرجِعُ إليهم قولاً والجَهْمِيَّةُ وصَفُوا الرَّبَّ تَباركَ وتَعالَى بصفةِ هذه الآلهَةِ . وقد ضَربَ اللهُ تعالى لِكلامِه واستمرارِه ودَوامِه المَثَلَ بالبحرِ يَمُدُّهُ مِن بَعدِه سَبْعَةُ أبْحُرٍ وأشْجَارُ الأرْضِ كُلُّهَا أقْلامٌ فَيَفْنَى المِدادُ والأقلامُ ولا تَنفدُ كلماتُه أفَهَذَا صفةُ مَن لا يَتكلَّمُ ولا يَقومُ بِه كلامٌ ؟ فإذا كان كلامُه وتَكليمُهُ وخطابُه ونِداؤُه وقَولُه وأمْرُهُ ونهيُه ووصيَّتُه وعَهدُه وإذنُه وحُكمُه وإنباؤُه وإخبارُه وشهادتُه كُلُّ ذلك مَجازًا لا حقيقةً له بَطَلَتِ الحقائِقُ كُلُّها ، فإنَّ الحقائقَ إنَّما حَقَّتْ بكلماتِ تَكوينِه (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) فما حَقَّتِ الحقائِقُ إلا بقَولِه وفِعْلِهِ )) ) .
التنبيهات السنية للشيخ: عبد العزيز بن ناصر الرشيد رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): ( (وقَوْلُهُ: ((
يَقُولُ الله تَعَالى يَا آدَمُ! فَيَقولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ.
فَيُنادي بصَوْتٍ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُخْرِجَ مِن ذُرِّيَّتِكَ
بَعْثاً إِلى النَّارِ )). متَّفق عليه.(1)
وقوله:صلى الله عليه وسلم (( ما مِنْكُمْ مِن أَحَدٍ إِلاَّ سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ وَلَيْسَ بينَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمانٌ )) ).(2)).
الشرح:
قال الشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد (ت: 1408هـ): ((1) قَولُهُ: ((يَقُولُ اللهُ)): إلخ هذا الحديثُ رواه البخاريُّ ومسلمٌ في صحيحهِمَا، مِن حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ، وتمامُه: ((قَالَ:
وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٍ
وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ، فَذَلِكَ حِينَ يَشِيبُ الصَّغِيرُ وَتَضَعُ كُلُّ
ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى
وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ)) فاشتدَّ ذلكَ عليهمْ، فقالوا: يا رسولَ اللهِ، أيُّنا ذَلكَ الرَّجُلُ؟ قال: ((أَبْشِرُوا
فَإِنَّ مِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ
وَمِنْكُمْ وَاحِدٌ، أَنْتُمْ فِي الأرْضِ كَالشَّعْرَةِ السَّوْدَاءِ فِي
جَنْبِ الثَّوْرِ الأبْيَضِ، أَوْ كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي جَنْبِ
الثَّوْرِ الأسْوَدِ، إِنِّي لاَرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبْعَ أَهْلِ
الْجَنَّةِ)) فكبَّرْنَا، ثم قال ((ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ)) فكبَّرنا، ثم قال: ((شَطْرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ)) فكبَّرنا، وروى هذا المعنى جماعةٌ مِن الصَّحابَةِ.
قَولُهُ: ((لَبَّيْكَ)): لبيكَ من ألبَّ بالمكانِ إذا أقامَ به، أي أنا مقيمٌ على طاعتِكَ.
قَولُهُ: ((وَسَعْدَيْكَ)): مِن المُساعدةِ وهي المُطاوعةُ، ومعناها إسعادٌ بعدَ إسعادٍ، قال ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ: وقد اشتملَتْ كلماتُ التلبيةِ على فوائدَ عظيمةٍ:
أوَّلاً:
أنَّ قَولَهُ لبَّيْكَ يتضَّمنُ إجَابَةَ داعٍ دعاكَ ومنادٍ نادَاكَ، ولا
يصحُّ في لغةٍ ولا عَقْلٍ إجابَةُ مَن لا يتكلَّمُ ولا يدعُو مَن أجابَه.
ثانيًا: أنها تتضمنُ المحبةَ، ولا يُقالُ لبَّيكَ إلا لمنْ تُحِبُّهُ وتُعظِّمُه.
ثالثًا: إنها تَتضمَّنُ التزامَ دوامِ العُبوديَّةِ، ولهذا قيلَ مِن الإقامَةِ، أي أنا مقيمٌ على طاعتِكَ.
رابعًا: أنها تَتضمَّنُ الخضوعَ والذُّلَّ، أي خضوعًا بعدَ خُضوعٍ مِن قَولِهِم: أنا مُلبٍّ بينَ يديكَ، أي خاضِعٌ ذليلٌ.
خامسًا: أنها تتضمَّنُ الإخلاصَ، ولهذا قيلَ: إنها مِنَ اللَّبِّ وهو الخالصُ.
سادسًا: أنها تتضمَّنُ الإقرارَ بسمعِ الرَّبِّ إذ يستحيلُ أن يقولَ الرَّجُلُ لمَنْ لا يُسمعُ دَعاؤه لبَّيكَ.
سابعًا: أنها تتضمَّنُ التقرُّبَ مِن اللهِ، ولهذا قيلَ: إنها مِن الألبابِ وهو التقرُّبُ، انتهى.
قَولُهُ: ((فَيُنَادِي)): بكسرِ الدَّالِ، أي اللهُ -سُبْحَانَهُ- وتعالى.
قَولُهُ: ((بِصَوْتٍ)):
فيه إثباتُ الصَّوتِ حقيقةً كما يليقُ باللهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى-،
وصوتُه مِن صفاتِ ذاتِه لا يشبِهُ خَلْقَهُ ولاَ حاجةَ أن يقيَّدَ
النِّداءُ بصوتٍ، فإنَّه بمعناهُ، فإذا انتفى الصوتُ انْتَفى النِّداءُ،
ولهذا قيَّده بالصوتِ إيضاحًا وتأكيدًا كما قيَّدَ التَّكْلِيمَ بالمصدرِ
في قَولِهِ: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا).
قَولُهُ: ((بَعْثًا إِلَى النَّارِ)):
البعثُ هنا هو بمعنى المبعوثِ الموجَّهِ إليها، ومعناه ميَّزَ أهْلَ
النَّارِ مِن غيرِهم، انتهى، وإنما خصَّ آدمَ بذلِكَ لكونِه والدَ الجميعِ،
ولِكَوْنِه كان قد عَرف أهلَ السَّعَادةِ مِن أهْلِ الشَّقاءِ، فقد رآه
النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- ليلةَ الإسراءِ، وعن يمينِه أسودةٌ
وعن يسارِه أسودَةٌ، الحديثَ. انتهى. مِن (فتحِِ البَارِي)، أفادَ هذا
الحديثُ إثباتَ صفةِ القولِ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- وأنه قال ويقولُ
متى شاءَ إذا شاءَ كما يليقُ بجلالِه وأفادَ إثباتَ النِّدَاء للهِ
-سُبْحَانَهُ وتعالَى- وأنَّه نداءُ حقيقَةٍ بصوتٍ.
وفيه أنَّ النِّداءَ
والقَوْلَ يكونُ يومَ القيامَةِ، فهذا مِن أدلَّةِ الأفعالِ الاختياريَّةِ،
وأفادَ إثباتَ صفةِ الكلامِ، وأنها صفةُ ذاتٍ وفعلٍ، فإنَّه -سُبْحَانَهُ-
متَّصفٌ بهذه الصِّفةِ ويتكلَّمُ متى شاءَ إذا شاءَ كيفَ شاءَ، فكلامُه
-سُبْحَانَهُ- قديمُ النَّوعِ حادثُ الآحادِ.
قال ابنُ القيِّمِ رحمه
اللهُ: وقد دلَّ القرآنُ وصريحُ السُّنَّةِ والمعقولُ وكلامُ السَّلَفِ
على أنَّ اللهَ يتكلَّمُ بمشيئَتِهِ، كمَا دلَّ على أنَّ كلامَه صفةٌ
قائمةٌ بذاتِه، وهي صفةُ ذاتٍ وفعلٍ، كما قال تعالى: (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).
انتهى، وفيه دليلٌ على أنَّ اللهَ يتكلمُ بحرفٍ وصوتٍ، ولأنَّ النداءَ لا
يكونُ إلا بحرفٍ وصوتٍ بإجماعِ أهلِ اللغةِ، وكانَ أئمةُ السُّنَّةِ
يعدُّونَ مَن أنْكَر تكلُّمَه بصوتٍ مِن الجهميَّةِ، كما قال الإمامُ أحمدُ
لمَّا سُئِلَ عمَّن قالَ إنَّ اللهَ لا يتكلَّمُ بصوتٍ؟ فقال: هؤلاءِ إنما
يَدوُرون على التَّعْطِيلِ.
قالَ شيخُ الإسلامِ
تقيُّ الدِّينِ بنُ تيميَةَ: أوَّلُ ما ظهرَ إنكارُ أنَّ اللهَ يتكلَّمُ
بصوتٍ في أثناءِ المائةِ الثَّالثةِ لَمَّا ظهرتِ الجهميَّةُ والمعطِّلَةُ،
وقالَ عبدُ اللهِ بنُ أحمدَ في كتابِ (السُّنَّةِ): قلتُ لأبي: يا أبتي،
إنهم يقولون: إنَّ اللهَ لا يتكلَّمُ بصوتٍ! فقالَ: بلى يتكلَّمُ بصوتٍ.
وقال البخاريُّ رحمه اللهُ في كتابِ (خلقِ أفعالِ العبادِ): ويذكرُ عن
النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- أنه كانَ يحبُّ أنْ يكونَ الرجلُ
خافِضًا مِن الصوتِ، ويكرهُ أن يكونَ رفيعَ الصوتِ، وأنَّ اللهَ يُنادي
بصوتٍ يسمعهُ مَن بَعُدَ، كما يسمعُهُ مَنْ قَرُبَ، وليس هذا لغيرِ اللهِ،
قال: وفي هذا دليلٌ على أنَّ صوتَهُ لا يُشبهُ أصواتَ الخلقِ؛ لأنَّ صوتَ
اللهِ يسمَعُهُ مَن بعُدَ كما يسمَعُه مَن قربَ وأنَّ الملائكةَ يصعقونَ
مِن صوتِه، وساقَ حديثَ جابرٍ أنَّه سَمِعَ عبدَ اللهِ بنَ أنيسٍ يقولُ:
سمعتُ رسولَ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- يقولُ: ((يَحْشُرُ
اللهَ الْعِبَادَ فَيُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا
يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ: أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الدَّيَّانُ))
الحديثَ، ثمَّ احتجَّ بحديثِ أبي سعيدٍ المتقدِّمِ، فهذانِ إِماما أهلِ
السُّنَّةِ على الإطلاقِ، أحمدُ بنُ حنبلٍ، والبخاريُّ وكلُّ أهْلِ
السُّنَّةِ على قَولِهِمَا وقَدْ صرَّح بذلِكَ وحكاهُ إجماعًا حربُ بنُ
إسماعيلَ، صاحبُ الإمامِ أحمدَ بنِ حنبلٍ وإسحاقَ، وصرَّح بهِ غيرُه، وقد
احتجَّ بحديثِ ابنِ مسعودٍ وغيرِه، وأخبرَ أنَّ المُنكرِين لِذَلك هُمْ
الجهميَّةُ، وقدْ روى في إثباتِ الحرفِ والصَّوتِ في كلامِ اللهِ أكْثَرَ
مِن أربعينَ حديثًا، بعضُها صِحاحٌ وبعضُها حِسانٌ ويُحتجُّ بها، أخرجَهَا
الضِّياءُ المقدِسيُّ وغيرُه، وأخرجَ أحمدُ غالِبَها واحتجَّ بهِ، واحتجَّ
بها البخاريُّ وغيرُه مِن أئمَّةِ الحديثِ، فقد صحَّحوا رحمَهُم اللهُ هذه
الأحاديثَ واعتقدوهَا واعتمدُوا عليها مُنَزِّهِينَ اللهَ عمَّا لا يليقُ
بجلالِه، كما قالُوا في سائرِ الصِّفاتِ مِن النزولِ والاستواءِ والمجيءِ
والسَّمعِ والبصرِ والعينِ وغيرِها، فأثْبَتُوا هذه الصِّفاتِ كمَا يليقُ
باللهِ إثباتًا بِلا تمثيلٍ وتنـزيهًا بلا تعطيلٍ، وفي الحديثِ دليلٌ على
أنَّ اللهَ نادى آدَمَ وكلَّمه، وفيها الرَّدُ على مَن زعَم أنَّ كلامَ
اللهِ هو المعنى النَّفسيُّ، فإنَّ آدمَ عليه السلامُ سمعَ كلامَ اللهِ،
والمعنى المجرَّدُ لا يُسْمَعُ، وفيه الرَّدُّ على مَن زعمَ أن كلامَ اللهِ
شيءٌ واحدٌ لا يتجزَّأُ ولا يتبعَّضُ.
(2) قَولُهُ: ((مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ)): إلخ هذا الحديثُ رواه البخارِيُّ ومسلِمٌ مِن حديثِ عديِّ بنِ حاتِمٍ، قال: قال رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-:
((مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَ سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ ثُمَّ يَنْظُرُ فَلاَ
يَرَى شَيْئًا قُدَّامَهُ، ثُمَّ يَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ
فَتَسْتَقْبِلُهُ النَّارُ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَّقِيَ
النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ)) هذا لفظُ البخاريِّ، وفي روايةٍ لهما قال النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((اتَّقُوا النَّارَ))، ثم أعرضَ وأشاحَ، ثم قال: ((اتَّقُوا النَّارَ)) ثم أعرضَ وأشاحَ ثلاثًا حتى ظننَّا أنَّه ينظرُ إليها، ثم قال: ((اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ)).
قَولُهُ: ((مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ)):
الحديثُ ظاهِرُ الخطابِ للصَّحابةِ، ويلتحقُ بهم المؤمنونَ كلُّهم
سابِقُهُمْ ومُقَصِّرُهُم، انتهى. والمرادُ أنَّه يكلِّمُهم بِلا واسِطَةٍ،
فتكليمُه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- نوعانِ:
الأوَّلُ: بِلا واسطةٍ، كما في هذا الحديثِ.
الثَّاني: بواسطةٍ وقدْ تقدَّمتِ الإشارةُ إليهِ.
قَولُهُ: ((تُرْجُمَانٌ)): هو مَن يعبِّرُ بلغةٍ عن لغةٍ كما قال بعضُهم:
ومَنْ يفسِّرْ لغةً بلغةٍ مترجمٌ عندَ أهيلِ اللُّغَةِ
أفاد هذا الحديثُ
إثباتَ صفةِ الكلامِ لله -سُبْحَانَهُ وتعالَى-، والرَّدِّ على الجهميةِ
والأشاعرَةِ مِن نُفاةِ صفةِ الكلامِ، فإنَّ الكلامَ صفةُ كمالٍ، وأدلَّةُ
ذلكَ مِن الكتابِ والسُّنَّةِ أظهرُ شيءٍ وأبْيَنْهُ، وأفادَ هذا الحديثُ:
أنَّه يكلِّمُ جميعَ النَّاسِ، وأمَّا قَولُهُ سُبْحَانَهُ وتعالى: (لاَ يُكَلِّمُهُم وَلاَ يُزَكِّيِهمْ) الآيةَ، فالمرادُ لا يكلِّمُهمْ كلامًا يسرُّهم).