11 Nov 2008
الإيمان بصفة الرِّجْل والقدم
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: ((لاَ تَزَالُ جَهَنَّمُ يُلْقَى فِيهَا ، وتَقُولُ : هَلْ منْ مَزِيدٍ؟ حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ فِيهَا - وَفِي رِوَايَة: عَلَيْهَا - قَدَمَهُ ؛ فَيَنْزَوِيَ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ ، وَتَقُولُ : قَطْ قَطْ)) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا تَزالُ جَهَنَّمُ يُلْقى فيها، وَهِيَ تَقولُ: هَلْ مِنْ مَزيدٍ؛ حتّى يَضَعَ رَبُّ العِزَّةِ فيها رِجْلَهُ (وفي رواية: عليها قَدَمَهُ)، فيَنْزَوي بَعْضُها إلى بَعْضٍ، فَتَقولُ: قَطْ قَطْ)). متفق عليه.(1)).
الشرح:
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): ( (1) الحديثُ الخامسُ: في إثْباتِ الرِّجلِ أو القَدَمِ
(8)
قولُهُ: ((لا تزالُ جهنَّمُ يُلْقى فيها)): هذا يومُ القيامةِ؛ يعني:
يُلقى فيها النَّاسُ والحجارةُ؛ لأنَّ اللهَ تعالَى يقولُ: (فَاتَّقُوا
النَّارَ الَّتِى وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ) [البقرة: 24]، وقَدْ
يُقَالُ: يُلقى فيها النَّاسُ فَقَطْ، وأنَّ الحجارةَ لم تزلْ موجودةً
فيها، والعِلْمُ عندَ اللهِ.
((يُلْقى فيها)): في هذا دليلٌ على أنَّ أهلَها -
والعياذُ باللهِ – يُلْقَونَ فيها إلقاءً لا يدخلونَ مكرَّميَن، بَلْ
يُدَعُّونَ إلى نارِ جهنَّمَ دَعًّا؛ (كُلَّمَا أُلقِىَ فِيهَا فَوْجٌ
سَأَلَهُم خَزَنَتُهَا أَلَم يَأتِكُم نَذِيرٌ) [الملك: 8].
قوله: ((وهِيَ تقولُ: هَلْ مِنْ مزيدٍ؟)):
(هَلْ): للطَّلبِ؛ يعني: زيدُوا. وأبعدَ النَّجْعةَ مَنْ قَالَ: إنَّ
الاستفهامَ هنا للنَّفِي، والمعنَى على زعمِهِ: لا مزيدَ على ما فيَّ،
والدَّليلُ على بطلانِ هذا التأويلِ:
قوله: ((حتَّى يضعَ ربُّ العزَّةِ فيها رجلَهُ
(وفي رواية: عليها قدَمَهُ))): لأنَّ هذا يدلُّ على أنَّها تطلبُ زيادةً،
وإلاَّ؛ لمَا وضَعَ اللهُ عليها رجلَهُ حتَّى ينزوِيَ بعضُها إلى بعضٍ؛
فكأنَّما تطلبُ بشوقٍ إلى مَنْ يُلقَى فيها زيادةً على ما فيها.
قولُهُ: ((حتَّى يضعَ ربُّ العزَّةِ)): عَبَّر بربِّ العزَّةِ؛ لأنَّ المقامَ مقامُ عِزَّةٍ وغَلَبةٍ وقهرٍ.
وهنا (ربُّ)؛ بمعنَى: صاحبِ، ولَيْسَتْ بمعنَى خالقٍ؛ لأنَّ العزَّةَ صفةٌ مِنْ صفاتِ اللهِ، وصفاتُ اللهِ تعالَى غيرُ مخلوقةٍ.
وقوله: ((فيها رجلَهُ))، وفي روايةٍ: ((عليها
قَدَمَه)): (في) و(على): معناهما واحدٌ هنا، والظَّاهرُ أنَّ (في) بمعنَى
(على)؛ كقولِهِ: (وَلأُصَلِّبَنَّكُم في جُذُوعِ النَّخلِ) [طه: 71]؛ أيْ:
عَلَيْها.
أمَّا الرِّجْلُ والقَدَمُ؛ فمعناهما واحدٌ،
وسُمِّيتْ رِجْلُ الإنسانِ قَدَمًا؛ لأنَّها تتقدَّمُ في المشيِ؛ فإنَّ
الإنسانَ لا يستطيعُ أنْ يمشِيَ برجلِهِ إلَّا إذا قدَّمَها.
قولُهُ: ((فينزوي بعضُها إلى بعضٍ))؛ يعني: ينضمُ بعضُها إلى بعضٍ مِنْ عظمةِ قَدَمِ البارِي عزَّ وجلَّ.
قولُهُ: ((وتقولُ: قَطْ قَطْ))؛ بمعنَى: حسبِي حسبِي؛ يعني: لا أريدُ أحداً.
في هذا الحديثِ مِنَ الصِّفاتِ:
أولاً: إثباتُ القولِ مِنَ الجمادِ؛ لقولِهِ:
((وهِيَ تقولُ))، وكذلِكَ: ((فتقولُ: قَطْ قَطْ))، وهُوَ دليلٌ على قدرةِ
اللهِ الَّذِي أنطقَ كلَّ شيءٍ.
ثانياً: التَّحذيرُ مِنَ النَّارِ؛ لقولِهِ: ((لاَ تَزَالُ جَهَنَّمُ يُلْقَى فِيهَا، وَهِي تَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟)).
ثالثًا: إثباتُ فضلِ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ فإنَّ
اللهَ تعالَى تكفَّلَ للنَّارِ بأنْ يملأَها كَمَا قَالَ: (لأَمْلأَنَّ
جهنَّمَ مِنَ الجنَّةِ والنَّاسِ أَجمَعِينَ) [هود: 119]؛ فإذا دخَلَها
أهلُها، وبَقِيَ فيها فضلٌ، وقَالَتْ: هَلْ مِنْ مزيدٍ؟ وضعَ اللهُ عليها
رجلَهُ، فانزوى بعضُها إلى بعضٍ، وامتلأتْ بهذا الانزواءِ.
وهذا مِنْ فضلِ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ وإلاَّ؛ فإنَّ
اللهَ قادرٌ على أنْ يخلقَ أقوامًا ويكمِّلَ ملأها بهِم، ولكنَّه عزَّ
وجلَّ لا يعذِّبُ أحدًا بغيرِ ذنبٍ؛ بخلافِ الجنَّةِ، فيبقَى فيها فضلٌ
عَمَّنْ دخلَها مِنْ أهلِ الدُّنْيا، فيخلقُ اللهُ أقوامًا يومَ القيامةِ
ويُدخلُهُم الجنَّةَ بفضلِهِ ورحمتِهِ.
رابعاً: أنَّ للهِ تعالَى رِجْلاً وقَدَماً
حقيقيةً، لا تماثلُ أرجلَ المخلوقينَ، ويُسمِّى أهلُ السُّنَّةِ مثلَ هذِهِ
الصِّفةِ: الصِّفةَ الذَّاتيةَ الخَبريةَ؛ لأنَّها لم تُعلَمْ إلِّا
بالخبرِ، ولأنَّ مُسمَّاها أبعاضٌ لنا وأجزاءٌ، لكنْ لا نقولُ بالنِّسبَةِ
للهِ: إنهَّا أبعاضٌ وأجزاءٌ؛ لأنَّ هذا ممتنعٌ على اللهِ عزَّ وجلَّ.
وخالفَ الأشاعرةُ وأهلُ التَّحريفِ في ذلِكَ،
فقَالُوا: ((يضعُ عليها رِجلَهُ))؛ يعني: طائفةً مِنْ عبادِهِ مستحقِّينَ
للدُّخولِ، والرِّجْلُ تأتي بمعنَى الطَّائفةِ؛ كَما في حديثِ أيوبَ عليِه
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؛ أرسلَ اللهُ إليه رِجْلَ جرادٍ مِنْ ذهبٍ؛ يعني:
طائفةً مِنْ جرادٍ.
وهذا تحريفٌ باطلٌ؛ لأنَّ قولَهُ: ((عَلَيْها)): يمنعُ ذلِكَ.
وأيضاً؛ لا يمكنُ أنْ يضيفَ اللهُ عزَّ وجلَّ أهلَ النَّارِ إلى نفسِهِ؛ لأنَّ إضافةَ الشَّيءِ إلى اللهِ تكريمٌ وتشريفٌ.
وقَالُوا في القَدَمِ: قدمٌ؛ بمعنَى: مقدمٍ؛ أيْ: يضعُ اللهُ تعالَى عليها مقدمَهُ؛ أيْ: مَنْ يقدِّمُهُم إلى النَّارِ.
وهذا باطلٌ أيضاً؛ فإنَّ أهلَ النَّارِ لا
يُقَدِّمُهَم البارِي عزَّ وجلَّ، ولكنَّهم (يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ
جهنَّمَ دَعًّا) [الطور: 13]، ويلقون فيها إلقاءً؛ فهؤلاءِ المحرِّفونَ
فرُّوا مِنْ شيءٍ ووقعُوا في شرٍّ منه؛ فرُّوا مِنْ تنزيِه اللهِ عَنِ
القدمِ والرِّجْلِ، لكنَّهم وقعُوا في السَّفَهِ ومجانبةِ الحكمةِ في
أفعالِ اللهِ عزَّ وجلَّ.
والحاصلُ أنَّهُ يجبُ عَلَينا أنْ نؤمنَ بأنَّ
للهِ تعالَى قَدَماً، وإنْ شئْناَ؛ قُلنْا: رِجْلاً؛ على سبيلِ الحقيقةِ؛
مع عدمِ المماثلِة، ولا نكيِّفُ الرِّجْلَ؛ لأنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبَرَنا بأنَّ للهِ تعالَى رِجْلاً أو قَدَمًا، ولم
يخبرْنَا كَيْفَ هذِهِ الرِّجْلُ أو القَدَمُ، وقَدْ قَالَ اللهُ تعالَى:
(قُل إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّىَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنهَا وَمَا بَطَنَ
والإِثمَ والبَغىَ بِغَيرِ الحَقِّ وَأَن تُشرِكُوا باللهِ مَا لَم يُنَزّل
بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعلَمُونَ)
[الأعراف: 33].
والفائدةُ المسْلَكيَّةُ مِنْ هذا الحديثِ: هو
الحَذَرُ الشَّديدُ مِنْ عملِ أهلِ النَّارِ؛ خشيةَ أنْ يُلقى الإنسانُ
فيها كما يُلقَى غيرُهُ).
التنبيهات اللطيفة فيما احتوت عليه الواسطية من المباحث المنيفة لابن سعدي رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا
تزالُ جهنّمُ يُلقى فيها وهي تقولُ هَلْ مِن مزيدٍ؟ حتى يَضَعَ ربُّ
العِزَّةِ فيها رِجْلَهُ -وفي رواية- عليها قَدَمَهُ فَيَنْزَوي بعضُها إلى
بعضٍ فتقولُ قَطِ قَطِ)) متفق عليه([1]) ).
الشرح:
قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): ( ([1]) وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تزالُ جهنّمُ يُلقى فيها وهي تقولُ هَلْ مِن مزيدٍ؟ حتى يَضَعَ ربُّ العِزَّةِ فيها رِجْلَهُ -وفي رواية- عليها قَدَمَهُ فَيَنْزَوي بعضُها إلى بعضٍ فتقولُ قطْ قَطْ)) متفق عليه. وهذه الصفة تجري مجرى بقية الصِّفات، وتثبت لله حقاً على الوجه اللائق بعظمته، وذلك أن الله وعد النار مِلأَها كما قال: (لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) فلما كان من مقتضى رحمته أن لا يعذب أحداً بغير جرم وكانت النار في غاية الكبر والسّعة حقق وعده تعالى ووضع عليها قدمه فتلاقى طرفاها ولم يبق فيها فضل عن أهلها. وأما الجنّة فإنه يبقى فيها فضل عن أهلها مع كثرتهم فيقول الله تعالى: (يا آدمُ. فيقول: لبيكَ وسَعْدَيكَ. فَيُنادى بصوتٍ: إنّ الله يأْمُرُكَ أنْ تُخْرِجَ من ذُرِّيتِكَ بعثاً إلى النار) متفق عليه. ففي هذا الحديث إثبات القول من الله، والنّداء لآدم، وأنه نداء حقيقة بصوت، وهذا من فضل الله لا يشكل على المؤمنين، فإن النداء والقول من أنواع الكلام، وكلام الله صفة من صفاته، والصفة تتبع الموصوف وفيها أن القول والنداء يكون في يوم القيامة، وهذا من أدلة الأفعال الاختيارية، وكم لهذه المسألة من براهين من الكتاب والسُّنة).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ مُحمَّد خَليل هَرَّاس رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (( وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((
لا تَزَالُ جَهَنَّمُ يُلْقَى فِيها وَهِيَ تَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيْدٍ؟
حَتَّى يَضَعَ رَبُّ العِزَّةِ فِيها رِجْلَهُ [ وفي روايةٍ: عَلَيْهَا
قَدَمَهُ ] فَيَنْزَوِي بَعْضُها إِلى بَعْضٍ، فَتَقولُ: قَطٍ قَطٍ )) متَّفَقٌ عليهِ ) (1) ).
الشرح:
قال الشيخ محمد خليل هراس (ت: 1395هـ): ((48) قولُهُ: (لا تَزَالُ جَهَنَّمُ … )
إلخ. في هذا الحديثِ إثباتُ الرِّجْلِ وَالقَدَمِ للهِ عزَّ وجلَّ، وهذهِ
الصِّفةُ تُجرَى مَجْرَى بقيَّةِ الصِّفاتِ، فتُثبَتُ للهِ على الوجهِ
اللائِقِ بعظمتِهِ سبحانَهُ.
والحكمةُ في وضعِ رجلِهِ سبحانَهُ في النَّارِ أَنَّهُ قَدْ وَعَدَ أنْ يملأَهَا؛ كمَا في قولِهِ تعالى: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِن الجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعينَ}.
ولمَّا كانَ مقتضى
رحمتِهِ وعدلِهِ أنْ لا يعذِّبَ أحدًا بغيرِ ذنبٍ، وكانَتِ النَّارُ في
غايةِ العُمقِ والسِّعَةِ؛ حقَّقَ وعدهُ تعالى، فوضعَ فيهَا قدمَهُ،
فحينئذٍ يَتَلاقى طَرَفَاهَا، ولا يبقى فيهَا فَضْلٌ عن أهلِهَا.
وأَمَّا الجنَّةُ؛
فإنَّهُ يبقى فيهَا فضلٌ عن أهلِهَا معَ كثرةِ ما أعطَاهُمْ وأوسعَ لهمْ،
فيُنشئُ اللهُ لهَا خلقًا آخرينَ؛ كمَا ثبتَ بذلكَ الحديثُ).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ: صالح بن فوزان الفوزان
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((
لا تَزَالُ جَهَنَّمُ يُلْقَى فِيها وَهِيَ تَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟
حَتَّى يَضَعَ رَبُّ العِزَّةِ فِيها رِجْلَهُ وفي روايةٍ: عَلَيْهَا
قَدَمَهُ فَيَنْزَوِي بَعْضُها إِلى بَعْضٍ، فَتَقولُ: قَطٍ قَطٍ )) متَّفق عليه.(1)).
الشرح:
قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: ((1)قوله (لاَ تَزَالُ جَهَنَّمُ) جهنَّمُ اسمٌ مِن أسماءِ النَّارِ، قيل: سمِّيت بذلك لبُعدِ قَعْرِهَا، وقيل: لظلمتِها، من الجُهُومةِ وهي الظُّلْمةُ، (يُلْقَى فِيهَا) أي يُطْرَحُ فيها أهلُهَا (وَهِيَ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) أي تطلبُ الزِّيادةَ لسَعَتِهَا، وقد وعدها اللهُ أنْ يملأَها (حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ فِيهَا رِجْلَهُ)
لمَّا كانتِ النَّارُ في غايةِ الكِبَرِ والسَّعةِ وقد وعدها اللهُ
مِلْئَهَا، وكان مقتضى رحمتِه سبحانَه أن لا يعذِّبَ أحدًا بغيرِ جُرْمٍ،
حقَّق وعدَه ووضَع عليها رِجْلَه (فَينْزَوِى بَعْضُهَا إِلى بَعْضٍ) أي يَنْضَمُّ بعْضُهَا إلى بعضٍ، ويتلاقى طَرَفاها، ولا يبقى فيها فَضْلٌ عَن أهلِهَا (فَتَقُولُ قَطٍ قَطٍ) أي حَسْبي ويكفيني.
والشَّاهدُ مِن
الحديثِ: أنَّ فيه إثباتَ الرِّجْلِ والقَدَم للهِ تعالى عَلى الوجهِ
اللاَّئقِ به سبحانَه، وهو مِن صفاتِ الذَّاتِ كالوجهِ واليدِ. واللهُ
تعالى أعلمُ.
وقد غَلطَ في تفسيرِ هذا الحديثِ المُعَطِّلةُ، حيثُ قالوا: (قَدَمَهُ) نوْعٌ مِن الخلْقِ، وقالوا (رِجْلَهُ) جماعةٌ مِن النَّاسِ، كما يقالُ رِجْلُ جَرادٍ. والرَّدُّ عَلى هذا، أن يقالَ: إنَّ النَّبيَّ صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ، قال: (حَتَّى يَضَعَ) ولم يقلْ: حتى يُلقِي. كما قال في أوَّلِ الحديثِ (يُلْقَى فِيهَا) وأيضا القَدمُ لا يصحُّ تفسيرُه بالقومِ، لا حقيقةً ولا مجازاً).
الروضة الندية للشيخ: زيد بن عبد العزيز بن فياض رحمه الله
المتن:
قال أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): ( ((وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لا تَزَالُ جَهَنَّمُ يُلْقَى فِيها وَهِيَ تَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ؟ حَتَّى يَضَعَ رَبُّ العِزَّةِ فِيها رِجْلَهُ - وفي روايةٍ : عَلَيْهَا قَدَمَهُ - فَيَنْزَوِي بَعْضُها إِلى بَعْضٍ، فَتَقولُ: قَط قَط . متَّفق عليه))(1) ).
الشرح:
قال الشيخ زيد بن عبد العزيز بن فياض (ت: 1416هـ): ((1)
هذا الحديثُ خرَّجَاه في الصَّحِيحَيْنِ مِن حَديثِ أنسِ بنِ مالكٍ
وتَمامُهُ وتَقولُ قَطْ قَطْ وَعِزَّتِكَ وَكرمِكَ ولا يَزالُ في الجنَّةِ
فَضلٌ حتى يُنشئَ اللهُ خَلْقاً آخَرَ فَيُسْكِنَهُم اللهُ تعالى في فُضولِ
الجنَّةِ . وروى البخاريُّ ومسلمٌ عن أبي هريرةَ قال : قال رسولُ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : تَحَاجَّت الجنَّةُ
والنَّارُ فقالت النَّارُ أُوثِرْتُ بالمُتكبِّرينَ والمُتجبِّرِينَ .
وقالت الجنَّةُ ما لي لا يَدخلُنِي إلا ضُعفاءُ النَّاسِ وسَقَطُهم ؟ قال
اللهُ عَزَّ وجَلَّ للجنَّةِ : إنما أنتِ رحمتي أَرْحَمُ بكِ مَن أشاءُ مِن
عِبَادي وقال للنَّارِ : إنَّما أنتِ عَذابِي أُعَذِّبُ بكِ مَن أشاءُ مِن
عِبادي ، ولِكُلِّ واحدةٍ مِنكما مِلْؤُهَا . فأمَّا النَّارُ فلا تَمتلئُ
حتَّى يَضعَ رِجْلَهُ فيها فَتقولَ قَطْ قَطْ فهنالكِ تَمتلئُ ويَنزوي
بَعضُها إلى بعضٍ ولا يظلِمُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ من خلقه أحداً . وأمَّا
الجنَّةُ فإنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ يُنشئُ لهَا خَلْقاً آخَرَ . وروى مسلمٌ مِن حَديثِ أبي سعيدٍ نَحوَهُ، وقد رَوى أحمدُ عن أبي سعيدٍ أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: افتخَرَت
الجَنَّة والنَّار فَذكرَ الحَديثَ وفيه فَيُلقَى في النَّارِ أهلُها
فَتقولُ : هَلْ مِن مَزيدٍ قال ويُلقى فِيها وتقولُ هَلْ مِن مَزيدٍ ويُلقى
فِيها وتقولُ هَلْ مِن مَزيدٍ حتى يَأتيَها عَزَّ وجَلَّ فَيضعَ قَدَمَهُ
عليها فَتنزويَ وتَقولَ قَدْنِي قَدْنِي . وأمَّا الجَنَّةُ فَيبقَى فيها
ما شاءَ اللهُ تعالى أنْ يَبقى فَيُنشئَ اللهُ سُبحانَه وتَعالى لها
خَلْقاً ما يَشاءُ . وهذه الأحاديثُ وما في مَعناها مُوافِقَةٌ لِقولِه تعالى {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ} أي هل مِن زِيادةٍ تَطلبُ مَزيداً مِن الجِنِّ والإنْسِ .
(( ومَن قال : إنَّ ذلك
للنَّفيِ فقد أخطأ فإنَّ الحديثَ الصحيحَ يردُّ هذا التَّأويلَ )) (( ففي
قولِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا تَزالُ جَهنَّمُ تَقولُ
هَلْ مِن مَزيدٍ دليلٌ واضحٌ على أنَّ ذلك بمعنى الاستزَادَةِ لا بمعنى
النَّفيِ لاِنَّ قَولَهُ (( لا تَزالُ )) دليلٌ على اتصالِه قَولاً بَعد
قَولٍ )) .
(( والخِطابُ والجَوابُ
للنَّارِ حَقيقةٌ فَيُنطقُها اللهُ بذلك كما يُنطِقُ الجَوارحَ وهو
المُختارُ فإنَّ اللهَ على كُلِّ شيءٍ قديرٌ ، وأُمُورُ الآخِرَةِ كُلُّها
أوْ جُلُّهَا على خِلافِ ما تُعرفُ في الدُّنْيَا . وقد دَلَّت الأحاديثُ
على تَحقيقِ الحَقيقةِ فلا وَجْهَ للعُدولِ إلى المَجَازِ كما رُوِيَ مِن
زَفْرَتِها ، وهُجومِها على النَّاسِ يومَ الحَشْرِ وجَرِّ المَلائكةِ لها
بالسَّلاسِلِ وقَولِها (( جُزْ يا مُؤمنُ فإنَّ نُوركَ قَدْ أطْفَأ لَهَبِي
)) ونَحْوِ ذلك مِمَّا يَدُلُّ على حَياتِها الحَقيقيَّةِ وإدراكِها فإنَّ
مُطلقَ الجَماداتِ لها تلك الحَقيقةُِ فَكيف بالدَّارَيْنِ
المُشْتَمِلَتَيْنِ على الشُّؤُونِ العَجِيبَةِ والأفْعَالِ الغَريبَةِ
(وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ) )) .
قوله (( فتقولَ قَطْ قَطْ ))
أيْ حَسْبِي ويَكفيني ، وقَطْ بالتَّخفيفِ سَاكناً ، ويَجُوزُ الكَسْرُ
بغيرِ إشْبَاعٍ . ووقعَ في بعضِ نسخِ البخاريِّ عن أبي ذَرٍّ (( قَطِي
قَطِي )) بالإشْباعِ ، وقَطْنِي قَطْنِي بِزيادةِ نُونٍ مُشْبَعَةٍ )) ففي
هذا الحديثِ إثباتُ صفةِ قَدَمِ الرَّحمنِ جلَّ وعَلا حقيقةً على ما يَليقُ
بِه . وقدْ قالَ ابنُ عبَّاسٍ وأبو موسى في قَولِه تَعالى (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ)
الكُرسِيُّ مَوضعُ قَدَمَيِ الرَّحمنِ . وفي الصَّحَيحينِ عن أبي هُريرةَ
وأنسِ بنِ مالكٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال
اللهُ عَزَّ وجَلَّ : إذا تَقرَّبَ العبدُ إليَّ شِبراً
تَقرَّبتُ منه ذِراعاً ، وإذا تَقرَّبَ إليَّ ذِراعاً تَقرَّبتُ منه باعاً
، وإذا أتَانِي يَمشي أَتيتُه هَرْولةً .
ففي ذلكَ إثباتُ صفةِ
مَقْدِمَيْنِ للرَّحمنِ مِن غَيرِ تَكييفٍ وإثباتُهما صفةُ كمالٍ وعدمُهما
نَقصٌ يَتنزَّه اللهُ عنه (( وقد غَلِطَ في هذا الحديثِ المُعَطِّلَةُ
الذين أَوَّلُوا قَولَهُ (( قدَمَه)) بِنوعٍ مِن الخَلْقِ كما قالوا : الذين تَقدَّمَ في عِلْمِهِ أنَّهم أهلُ النَّارِ حتى قالوا في قَولِه (( رِجلَه )) كما يُقالُ : رِجْلٌ مِن جَرَادٍ )) وغَلطُهم مِن وُجوهٍ فإنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال (( حتَّى يَضعَ )) ولم يَقُلْ : حتى يُلْقِيَ كما قال في قَولهِ : (( لا يَزالُ يُلقي فيها )) .
( الثَّاني ) أنَّ قَولَهُ (( قدَمَه )) لا يُفهم منه هذا لا حقيقةً ولا مَجازاً كما تَدلُّ عليه الإضافةُ .
( الثَّالثُ )
أنَّ أولئك المُؤخَّرِينَ إنْ كانوا مِن أصَاغِرِ المُعذَّبِينَ فلا وجهَ
لانْزِوَائِهَا ، واكْتِفَائِهم بِهم ، فإنَّ ذلك إنما يكونُ بأمرٍ عظيمٍ ،
وإنْ كانوا مِن أكابرِ المُجرِمينِ فَهُم في الدَّرْكِ الأسفلِ ، وفي
أوَّلِ المُعَذَّبِينَ لا في أوَاخِرِهِمْ .
( الرَّابعُ ) أنَّ قَولَهُ (( فَينزِويَ بعضُها إلى بَعضٍ )) دليلٌ على أنَّها تَنضمُّ على مَن فيها فَتضيقُ بهم مِن غيرِ أنْ يُلْقَى فِيها شيءٌ .
( الخَامِس ) أنَّ قَولَه (( لا يَزالُ يُلقى فِيها وتقولُ : هَلْ مِن مَزيدٍ حتى يَضعَ فيها قَدَمَهُ ))
جعلَ الوضعَ الغايةَ التي إليها يَنتهي الإلقاءُ ويكونُ عندها الانْزِواءُ
فَيقضي ذلك أنْ تكونَ الغايةُ أعظمَ ممَّا قَبْلها . وليسَ في قولِ
المُعَطِّلَةِ مَعنى لِلَّفْظِ (( قدَمَه )) إلا
وقد اشتركَ فيه الأوَّلُ والآخِرُ والأوَّلُ أحَقُّ بِه مِن الآخِرِ وقد
يَغْلَطُ في الحديثِ قومٌ آخَرونَ مُمَثِّلةٌ أو غَيرُهُم فَيتوهَّمُون
أنَّ قَدَمَ الرَّبِّ تَدخلُ جَهَنَّمَ . وقد تَوَّهَمَ ذلك على أهْلِ
الإثباتِ قَوْمٌ مِن المُعَطِّلِةَ حتَّى قالوا : كيفَ يَدخُلُ بعضُ
الرَّبِّ النَّارَ واللهُ تعالى يقولُ (لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا) وهذا جَهْلٌ مِمَّن تَوهَّمَهُ أو نَقَلَهُ عن أهلِ السُّنَّةِ والحديثِ فِإنَّ الحديثَ (( حتى يَضعَ رَبُّ العِزَّةِ عليها – وفي روايةٍ – فيها فَينزَوِيَ بعضُها إلى بعضٍ وتقولَ : قَطْ قَطْ وَعِزَّتِكَ ))
. فَدَلَّ ذلك على أنَّها تَضايقَتْ على مَن كان فيها فامتلأتْ بهم كما
أقسم على نَفسِه أنَّه لَيَمْلاَنَّهَا مِن الجِنَّةِ والنَّاسِ أجْمَعِينَ
. فكيف تَمتلئُ بشيءٍ غيرِ ذلك مِن خَالقٍ أو مَخلوقٍ ؟ وإنَّما المعنى
أنَّه تُوضَعُ القَدَمُ المُضَافُ إلى الرَّبِّ تعالى فَتنزَوِيَ وتَضيقَ
بِمَن فيها . والوَاحِدُ مِن الخَلْقِ قد يَرْكُضُ مُتحرِّكاً مِن الأجسامِ
فَيسكُنَ أو ساكناً فَيتحرَّكَ ، وَيَرْكُضَ جبَلاً فَيتفَجَّرَ منه ماءٌ .
كما قال تعالى (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ) وقد يَضعُ يَدَهُ على المريضِ فَيَبْرَأَ ، وعلى الغَضبانِ فَيَرضى فَظهر بُطْلاَنُ قولِ الجَهْمِيَّةِ : إنَّ المرادَ بقوله (( قدَمَه ))
الأشقياءُ أوْ غيرُ ذلك مِن التَّأويلاتِ المُخَالِفَةِ لِظَاهرِ الحَديثِ
. (( وهلْ اسْتزادَتِ النَّارُ إلا بعدَ مَصِيرِ الأشقياءِ إليها ،
وإلقاءِ اللهِ إيَّاهُمْ فيها ؟ أَفَيُلْقِيهم فيها ثانيةً وقد ألقَاهُم
فيها قَبْلُ فَلَمْ تَمتلئْ ؟ كأنَّه في زَعْمِ هذا المُدَّعِي حَبَسَ عنها
الأشقياءَ وألقى فيها السُّعَدَاءَ فلما استَزَادَت ألقَى فيها الأشقياءَ
بعدُ حتى مَلأها ، وإنَّما أرادَ اللهُ بقولِه (لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّة وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) الَّذِينَ
حقَّ عليهم العَذابُ ولها خَزَنَةٌ يَدخلُونها مَلائكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ
غيرُ مُعذَّبِينَ بها . وفيها كِلابٌ وحَيَّاتٌ وعَقَارِبُ قال (عَلَيْهَا
تِسْعَةَ عَشَرَ * وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّار إِلاَّ مَلاَئِكَةً
وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ) فَلا يَدفعُ هذه الآياتِ قولُه {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الِجنَّة وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} كما لا يَدفعُ هذه الآيةَ قولُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (( ويَضعُ الجَبَّارُ فيها قَدَمَهُ ))
فإذا كَانتْ جَهنَّمُ لا تَضُرُّ الخَزَنَةَ الذين يَدخلُونها ويَقومون
عليها فكيفَ تَضُرُّ الذي سَخَّرَها لهم ؟ فهذه الآثَارُ التي رُوِيَتْ عن
رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذِكْرِ القَدَمِ لا
تَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ الذي ذَهبت إليه الجَهْمِيِّةُ )) ).
التنبيهات السنية للشيخ: عبد العزيز بن ناصر الرشيد رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): ( (وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((
لا تَزَالُ جَهَنَّمُ يُلْقَى فِيها وَهِيَ تَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيْدٍ؟
حَتَّى يَضَعَ رَبُّ العِزَّةِ فِيها رِجْلَهُ [ وفي روايةٍ: قَدَمَهُ ]
فَيَنْزَوِي بَعْضُها إِلى بَعْضٍ، فَتَقولُ: قَط قَط)) متَّفق عليه).(1)).
الشرح:
قال الشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد (ت: 1408هـ): ( (1) قَولُهُ: ((لاَ تَزَالُ جَهَنَّمُ)):
إلخ هذا الحديثُ، رواه البخاريُّ ومسلِمٌ مِن حديثِ أنسِ بنِ مالكٍ،
وتمامُهُ ((وَتَقُولُ قَطْ قَطْ وَعِزَّتِكَ وَكَرَمِكَ وَلاَ يَزَالُ فِي
الْجَنَّةِ فَضْلٌ حَتَّى يُنْشِئَ لَهَا خَلْقًا آخَرَ فَيُسْكِنَهُمُ
اللهُ فِي فُضُولِ الْجَنَّةِ)).
قَولُهُ: ((جَهَنَّمُ)):
هو عَلمٌ على طبقةٍ مِن طبقاتِ النَّارِ، أعاذَنا اللهُ منها، قالَ يونسُ
أوْ أكثرُ النحويِّين: هِي أعجميَّةٌ لاَ تنصرفُ للعُجمَةِ والتَّعريفِ،
قيلَ: سُمِّيت بذلك لبُعدِ قَعْرِها.
قَولُهُ: ((يُلْقَى فِيها)): أي يُطرحُ ((وَهِيَ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ)) أيْ هل مِن زيادةٍ تطلبُ الزيادةَ لسعتِهَا وبُعْدِ قَعْرِهَا.
قال ابنُ القيِّمِ رحمه
اللهُ: وأخطأَ مَنْ قال إنَّ ذلكَ للنَّفْيِ، أيْ ليس منْ مزيدٍ، فإنَّ
الحديثَ الصحيحَ يردُّ هذا التأويلَ. انتهى.
قَولُهُ: ((فَيَنْزَوِي)): أي ينضمُّ بعضُها إلى بعضٍ، قال في المصباحِ زَوَيْتُه أيْ جمعْتُه.
قَولُهُ: ((فَتَقُولُ قَطْ قَطْ)):
هو اسمُ فعلٍ بمعنى حسبي أي يكْفِي، هذا الحديثُ فيه دليلٌ على إثباتِ
النَّارِ وأنَّها مخلوقَةٌ، وفيه إثباتُ كلامِ النَّارِ وأنَّها تتكلَّمُ،
وهلْ هذا الكلامُ بلسانِ المقالِ أم بلسانِ الحالِ، فيه قولانِ أصحُّهُما
الأوَّلُ، للحديثِ ولأنَّ الأصْلَ الحقيقةُ، فإنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ
وتعالَى- يخلقُ فيها إدراكًا، واللهُ على كلِّ شيءٍ قديرٌ، وفيه دلالَةٌ
على عِظَمِ سِعَةِ النَّارِ وعمقِ قعرِها بحيثُ تسعُ كلَّ عاصٍ للهِ مِن
حينِ خَلَقَ اللهُ الخَلْقَ وتَطْلُبُ الزيادةَ.
ولمَّا كان مِن مُقتضى
رحمتِه أنْ لا يعذِّبَ أحدًا بغيرِ جُرْمٍ وكانت النَّارُ في غايةِ
السِّعَةِ حقَّقَ وعدَه، فيضعُ عليها قَدَمه، فيتلاقَى طرفَاها ولا يبْقَى
فيها فضلٌ عن أهْلِهَا، وأمَّا الجنَّةُ فيبقى فيها فضلٌ عن أهْلِها
فينشئُُ اللهُ لها خلقًا آخرينَ، كما ثبتَ ذلك في الحديثِ، وفي الحديثِ
دليلٌ على إثباتِ القَدَمِ والرِّجلِ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- كما يليقُ
بجلالِه وعظمَتِه.
قال مُحيي السُّنَّةِ:
القَدَمُ والرِّجلُ في الحديثِ مِن صفاتِ اللهِ المنـزَّهةِ عن
التَّكْييفِ، فالإيمانُ بها فرضٌ، والامتناعُ عن الخوضِ بها واجبٌ،
فالمُهتدي مَن سلكَ طريقَ التَّسليمِ، والخائضُ فيها زائغٌ، والمنكِرُ
معطِّلٌ، والمكيِّفُ مشبِّهٌ، ليسَ كمثْلِهِ شيءٌ وهو السَّميعُ البصيرُ.
انتهى، وفي الحديثِ الرَّدُّ على المعطِّلَةِ الَّذين نَفَوْا صفةَ
القَدَمِ للهِ وأوَّلوا ذلك بنوعٍ مِن الخلقِ، وأوَّلوا قَولَهُ في
الرِّوايةِ الثَّانيةِ التي فيها إثباتُ الرِّجلِ للهِ، وقالوا هذا كما
يقالُ رِجلٌ مِن جَرادٍ، وما زَعموه مِن هذه التَّأويلاتِ الفاسدةِ مردودةٌ مِن وجوهٍ:
أوَّلاً: أنَّ الأصْلَ الحقيقةُ.
ثانيًا: أَنَّه قال: حتى يَضعَ ولم يقلْ حتى يُلْقي، كما قال في قَولِهِ: ((وَلاَ يَزَالُ يُلْقِي فِيهَا)).
ثالثًا:
أَنَّ قَولَهُ قَدَمَه لا يُفهم منه هذا لا حقيقَةً ولا مجازًا، إلى غيرِ
ذلك مِن الوجوهِ الَّتي ذكرَها الشيخُ تَقِيُّ الدِّين وغيرُه في إثباتِ
صِفَةِ القَدَمِ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- حقيقةً، كما يليقُ بجلالِه
وعظمَتِه، والرَّدِّ على مَن زَعَم غيرَ ذلكَ).