الدروس
course cover
الإيمان بصفات الفرح والضحك والعجب لله تعالى على ما يليق به
11 Nov 2008
11 Nov 2008

3832

0

0

course cover
العقيدة الواسطية

القسم السادس

الإيمان بصفات الفرح والضحك والعجب لله تعالى على ما يليق به
11 Nov 2008
11 Nov 2008

11 Nov 2008

3832

0

0


0

0

0

0

0

الإيمان بصفات الفرح والضحك والعجب لله تعالى على ما يليق به

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: ((لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِِهِ منْ أَحَدِكُمْ بِرَاحِلَتِهِ)) الْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم : ((يَضْحَكُ اللهُ إِلَى رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا يَقْتُلُ الآخَرَ ؛ كِلاَهُمَا يَدْخُلُ الجنَّةَ)) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَقَوْلُهُ : ((عَجِبَ رَبُّنا منْ قُنُوطِ عِبَادِهِ ، وقُرْبِ غِيَرِهِ ، يَنْظُرُ إِلَيْكُمْ أَزِلِينَ قَنِطيِنَ ، فَيَظَلُّ يَضْحَكُ ، يَعْلَمُ أَنَّ فرَجَكُمْ قريبٌ)) حَدِيثٌ حَسَنٌ).


هيئة الإشراف

#2

17 Dec 2008

شرح العقيدة الواسطية للشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((للهُ أشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ بِراحِلَتِهِ …)) الحديث، متفق عليه(1)
قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يَضْحَكُ اللهُ إلى رَجُلَيْنِ؛ يَقْتُلُ أحَدُهُما الآخَرَ؛ كِلاهُما يَدْخُلُ الجَنَّةَ)) متفق عليه(2).
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((عَجِبَ رَبُّنا مِنْ قُنوطِ عِبادِهِ وقُرْبِ غِيَرِهِ؛ يَنْظُرُ إِلَيْكُمْ أَزِلينَ قَنِطينَ، فَيَظَلُّ يَضْحَكُ؛ يَعْلَمُ أَنَّ فَرَجَكُمْ قَرِيبٌ)). حديث حسن. (3)
).


الشرح:

قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (الحديثُ الثَّاني في إثْباتِ الفرحِ
(1) ((للهِ)): اللَّامُ هذهِ لامُ الابتداءِ. ((لله)): مبتدأٌ.
((أشدُّ)): خبرُ المبتدأ.
((فرحًا)): تمييزٌ.
قَالَ المؤلِّفُ: ((الحديثُ))؛ أيْ: أكْمِلِ الحديثَ.
والحديثُ أنَّ هذا الرَّجلَ كانَ معهُ راحلتُهُ، عليها طعامُهُ وشرابُهُ، فَضلَّتْ عنهُ، فذهبَ يطلبُهَا، فلم يجدْها، فأيِسَ مِنَ الحياةِ، ثُمَّ اضطجعَ تحتَ شجرةٍ ينتظرُ الموتَ؛ فإذا بخِطامِ ناقتِهِ متعلقًا بالشَّجرةِ … ولا أحدَ يستطيعُ أنْ يقدِّرَ هذا الفرحَ؛ إلاَّ مَنْ وقعَ فيه… فأمسَكَ بخِطامِ النَّاقةِ، وقَالَ: اللَّهمَّ! أنْتَ عبدِي، وأنا ربُّكَ؛ أخطأَ مِنْ شدَّةِ الفرحِ؛ لم يملكْ كَيْفَ يتصرَّفُ في الكلامِ!!
فاللهُ عزَّ وجلَّ أَفْرَحُ بتوبةِ عبدِهِ إذا تابَ إليه مِنْ هذا الرَّجلِ براحلتِهِ، ولَيْسَ اللهُ عزَّ وجلَّ بمحتاجٍ إلى توبتِنا، بَلْ نحنُ مفتقرونَ إليه في كلِّ أحوالِنا، لكنْ لكرمِهِ جلَّ وعلا ومحبَّتِهِ للإحسانِ والفضلِ والجودِ يفرحُ هذا الفرحَ، الَّذِي لا نظيرَ له، بتوبةِ الإنسانِ إذا تابَ إليه.
في هذا الحديثِ: إثباتُ الفرحِ للهِ عزَّ وجلَّ؛ فنقولُ في هذا الفرحِ: إنَّهُ فرحٌ حقيقيٌّ، وَأَشدُّ فَرَحٍ، ولكنَّهُ لَيْسَ كفرحِ المخلوقينَ.
الفرحُ بالنسبةِ للإنسانِ هو نشوةٌ وخِفَّةٌ يجدُها الإنسانُ مِنْ نفسِهِ عندَ حصولِ ما يسرُّه، وَلِهَذَا تشعرُ بأنَّك إذا فرحْتَ بالشَّيءِ كأنَّكَ تمشِي على الهواءِ، لكنْ بالنِّسبةِ للهِ عزَّ وجلَّ لا نفسِّرُ الفرحَ بمثلِ ما نعرفُهُ مِنْ أنفسِنا؛ نقولُ: هو فرحٌ يليقُ بهِ عزَّ وجلَّ؛ مثلُ بقيَّةِ الصِّفاتِ؛ كما أننَّا نقولُ: للهِ ذاتٌ، ولكنْ لا تماثلُ ذواتنِا؛ فلَهُ صفاتٌ لا تماثلُ صفاتِنا؛ لأنَّ الكلامَ عَنِ الصِّفاتِ فرعٌ عَنِ الكلامِ في الذَّاتِ.
فنؤمنُ بأنَّ اللهَ تعالَى لَهُ فرحٌ كما أثبَتَ ذلك أعلمُ الخلقِ بهِ، محمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنصحُ الخلقِ للخلقِ، وأفصحُ الخلقِ فيما ينطقُ بهِ عليهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
ونحنُ على خطرٍ إذا قُلنْا: المرادُ بالفرحِ الثَّوابُ؛ لأنَّ أهلَ التَّحريفِ يقولُونَ: إنَّ اللهَ لا يفرحُ، والمرادُ بفرحِهِ: إثابتُهُ التَّائبَ، أو: إرادةُ الثَّوابِ، لأنَّهُم يثبتونَ أنَّ للهَ تعالَى مخلوقاً بائناً منه هو الثَّوابُ، ويثبتُونَ الإرادةَ؛ فيقولُونَ في الفرحِ: إنَّهُ الثَّوابُ المخلوقُ، أو: إرادةُ الثَّوابِ.
ونحنُ نقولُ: المرادُ بالفرحِ: الفرحُ حقيقةً؛ مِثْلَما أنَّ المرادَ باللهِ عزَّ وجلَّ: نفسُهُ حقيقةً، ولكنَّنا لا نمثِّلُ صفاتِنَا بصفاتِ اللهِ أبدًا.
ويستفادُ مِنْ هذا الحديثِ مع إثْباتِ الفَرَحِ للهِ عزَّ وجلَّ:
كمالُ رحمتِهِ جلَّ وعلا ورأفتِهِ بعبادِه؛ حيثُ يحبُّ رجوعَ العاصِي إليه، هذه المحبَّةُ العظيمةُ … هاربٌ مِنَ اللهِ، ثُمَّ وقفَ ورجعَ إلى اللهِ … يفرحُ اللهُ بِهِ هذا الفرحَ العظيمَ.
ومِنَ النَّاحيةِ المسْلَكيَّةِ: يفيدنُا أنْ نحرصَ على التَّوبةِ غايةَ الحرصِ، كُلَّما فَعَلْنا ذنبًا؛ تُبْنَا إلى اللهِ.
قَالَ اللهُ تعالَى في وصف المتَّقينَ: (وَالَّذِين إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً)؛ أيُّ فاحشةٍ؛ مثلَ: الزِّنى، واللُّواطِ، ونكاحِ ذوات المحارمِ … قَالَ اللهُ تعالَى: (وَلاَ تَنكِحُوا مَا نَكَحَ ءاَبَاؤُكُم منَ النِّساءِ إِلاَّ مَا قَد سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقتًا وَسَاءَ سَبِيلاً) [النساء: 22]، (وَلاَ تَقرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً) [الإسراء: 32]، وقَالَ لُوطٌ لقومِهِ: (أَتَأتُونَ الفَاحِشَةَ) [الأعراف: 80].
إذًا؛ (وَالَّذِين إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَو ظَلَمُوا أَنفُسَهُم ذكرُوا اللهَ)؛ ذكرُوا اللهَ تعالَى في نفوسِهِم؛ ذكرُوا عظمَتَهُ، وذكرُوا عقابَهُ، وذكرُوا ثوابَهُ للتَّائبينَ؛ (فَاستَغفَرُوا لِذُنُوبِهِم)؛ فعلوا ما فعلوا؛ لكنَّهم ذكرُوا اللهَ تعالَى في نفوسِهِم، واستغفروا لذنوبِهِم، فيغفرُ اللهُ لهم، والدَّليلُ: (وَمَن يَغفِرُ الذُّنوبَ إِلاَّ اللهُ) [آل عمران: 135].
فأنْتَ إذا عَلِمْتَ أنَّ اللهَ يفرحُ بتوبتِكَ هذا الفرحَ الَّذِي لا نظيرَ لهُ؛ لا شكَّ أنَّكَ سوفَ تَحْرِصُ غايةَ الحرصِ على التَّوبةِ.
وللتَّوبةِ شروطٌ خمسةٌ:
الأوَّلُ: الإخلاصُ للهِ عزَّ وجلَّ؛ بأنْ لا يحملَكَ على التَّوبةِ مراءاةُ النَّاسِ، أو نيلُ الجاهِ عِنْدَهُم، أو ما أشبَهَ ذلِكَ مِنْ مقاصدِ الدُّنْيا.
الثَّاني: النَّدمُ على المعصيةِ.
الثَّالثُ: الإقلاعُ عَنْها، ومِنَ الإقلاعِ إذا كانَتِ التَّوبةُ في حقٍّ مِنْ حقوقِ الآدميِّينَ: أنْ تردَّ الحقَّ إلى صاحبِهِ.
الرَّابعُ: العزمُ على أنْ لا تعودَ في المستقبلِ.
الخامس: أنْ تكونَ التَّوبةُ في وقتِ القبولِ، وينقطعُ قَبولُ التَّوبةِ بالنِّسبَةِ لعمومِ النَّاسِ بطلوعِ الشَّمسِ مِنْ مغربِها، وبالنِّسبَةِ لكلِّ واحدٍ بحضورِ أجلِهِ.
قَالَ اللهُ تعالَى: (وَلَيسَتِ التَّوبةُ لِلَّذِينَ يَعمَلُونَ السَّيِّاتِ حتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ المَوتُ قَالَ إِنّى تُبْتُ الآنَ) [النساء:1].
وصحَّ عنِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّ زمنَ التَّوبةِ ينقطعُ إذا طلعَتِ الشَّمسُ مِنْ مغربِها، والنَّاسُ يؤمنونَ حينئذٍ، ولكنْ؛ (لاَ يَنفَعُ نَفسًا إيمانُهَا لَم تَكُن ءاَمَنَت مِن قَبلُ أَو كَسَبَت في إِيمَانِهَا خَيرًا) [الأنعام: 158].
هذه خمسةُ شروطٍ؛ إذا تَمَّتْ؛ صحَّتِ التَّوبةُ.
ولكنْ؛ هَلْ يُشترطُ لصحةِ التَّوبةِ أنْ يتوبَ مِنْ جميعِ الذُّنوبِ؟!
فيه خلافٌ، ولكنَّ الصَّحيحَ أنَّهُ لَيْسَ بشرطٍ، وأنَّها تصحُ التَّوبةُ مِنْ ذنبٍ مع الإصرارِ على غيرِه، لكنَّ هذا التَّائبَ لا يَصدُقُ عليه وصفُ التَّائبينَ المطلقُ؛ فيُقَالَ: تابَ توبةً مقيَّدةً، لا مطلقةً.
فَلَوْ كانَ أحدٌ يشربُ الخمرَ ويأكلُ الرِّبا؛ فتابَ مِنْ شربِ الخمرِ؛ صحَّتْ توبتُهُ مِنَ الخمرِ، وبَقِيَ إثمُه في أكلِ الرِّبا، ولا ينالُ منزلةَ التَّائبينَ على الإطلاقِ؛ لأنَّهُ مُصِرٌّ على بعضِ المعاصي.
رجلٌ تمَّتِ الشُّروطُ في حقِّهِ، وعادَ إلى الذَّنبِ مرَّةً أخرى؛ فلا تنتقضُ توبتُهُ الأُولَى؛ لأنَّهُ عزمَ على أنْ لا يعودَ، ولكنْ سوَّلَتْ له نفسُهُ، فعادَ؛ إنَّما يجبُ علَيْهِ أنْ يتوبَ مرَّةً ثانيةً … وهكذا؛ كُلَّما أذنبَ؛ يتوبُ … وفضلُ اللهِ واسعٌ.

الحديثُ الثَّالثُ في إثْباتِ الضَّحكِ:
(2) وفي بعضِ النُّسَخِ: ((يدخلانِ))، وهِيَ صحيحةٌ؛ لأنَّ (كِلا) يجوزُ في خبرِها –سواءً كانَ فعلاً أو اسمًا – مراعاةُ اللَّفظِ ومراعاةُ المعنَى، وقَدْ اجتَمَعا في قولِ الشَّاعرِ يصفُ فرسَيْنِ:
كِلاهُما حِينَ جَدَّ الجَرْيُ بَيْنَهُمَا قَدْ أقْلَعا وَكِلا أنْفَيْهِما رَابِي
الحديثُ يخبرُ فيه النَّبيُّ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أنَّ اللهََ يضْحَكُ إلى رجلَيْنِ؛ عند ملاقاتِهِما يقتلُ أحدُهما الآخرَ؛ كِلاهُما يدخلانِ الجنَّةَ، وأحدُهما لم يقتلِ الآخرَ إلاّ لشدَّةِ العُدوانِ بَيْنَهُما، ثُمَّ يدخلانِ الجنَّةَ بعدَ ذلِكَ، فتزولُ تِلْكَ العداوةُ؛ لأنَّ أحدَهُما كانَ مُسْلِمًا، والآخرَ كانَ كافرًا، فقتلَهُ الكافرُ، فيكونُ هذا المسلمُ شهيدًا، فيدخلُ الجنَّةَ، ثُمَّ مَنَّ اللهُ على هذا الكافرِ، فأسلَمَ، ثم قُتِلَ شهيدًا، أو ماتَ بدونِ قتلٍ؛ فإنَّهُ يدخلُ الجنَّةَ، فيكونُ هذا القاتلُ والمقتولُ كِلاهُما يدخلُ الجنَّةَ، فيضحكُ اللهُ إليهِما.
ففِي هذا إثباتُ الضَّحكِ للهِ عزَّ وجلَّ، وهو ضحكٌ حقيقيٌّ، لكنَّهُ لا يماثلُ ضحكَ المخلوقينَ؛ ضحكٌ يليقُ بجلالِهِ وعظمتِهِ، ولا يمكنُ أنْ نمثِّلَه؛ لأنَّنا لا يجوزُ أنْ نقولَ: إنَّ لله فمًا أو أسنانًا أو ما أشْبَهَ ذلِكَ، لكنْ نثبِتُ الضَّحكَ للهِ على وجهٍ يليقُ بهِ سبحانَه وتعالَى.
فإذا قَالَ قائلٌ: يلزمُ مِنْ إثْباتِ الضَّحكِ أنْ يكونَ اللهُ مماثلاً للمخلوقِ!!
فالجوابُ: لا يلزمُ أنْ يكونَ مماثلاً للمخلوقِ؛ لأنَّ الَّذِي قَالَ: ((يضحكُ)): هو الَّذِي أُنزلَ عليه قولُهُ تعالَى: (لَيسَ كَمِثلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) [الشُّورى: 11].
ومِنْ جهةٍ أخرى؛ فالنَّبيُّ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لا يتكلَّمُ في مثلِ هذا إلَّا عَنْ وحْيٍ؛ لأنَّهُ مِنْ أمورِ الغيبِ، لَيْسَ مِنَ الأمورِ الاجتهاديَّةِ الَّتي قَدْ يجتهدُ فيها الرَّسولُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، ثُمَّ يقرُّه اللهُ على ذلِكَ أو لا يقرُّهُ، ولكنَّهُ مِنَ الأمورِ الغيبيَّةِ الَّتي يتلقَّاها الرَّسولُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ طريقِ الوحيِ.
لو قَالَ قائلٌ: المرادُ بالضَّحكِ الرِّضى؛ لأنَّ الإنسانَ إذا رَضِيَ عَنِ الشَّيءِ؛ سُرَّ بهِ وضَحِكَ، والمرادُ بالرِّضَى الثَّوابُ أو إرادةُ الثَّوابِ؛ كَما قَالَ ذلِكَ أهلُ التَّعطيلِ.
فالجوابُ أنْ نقولَ: هذا تحريفٌ للكَلِمِ عَنْ مواضِعِهِ؛ فما الَّذِي أدراكُم أنَّ المرادَ بالرِّضَى الثَّوابُ؟!
فأنْتُمْ الآنَ قُلْتُم على اللهِ ما لا تعلمونَ مِنْ وجهينِ:
الوجهِ الأوَّلِ: صرَفْتُم النَّصَّ عَنْ ظاهرِه بلا علمٍ.
الثَّاني: أثبتُّم له معنَىً خلافَ الظَّاهرِ بلا علمٍ.
ثُمَّ نقولُ لهم: الإرادةُ؛ إذا قلْتُم: إنهَّا ثابتةٌ للهِ عزَّ وجلَّ؛ فإنَّهُ تنتقضُ قاعدتُكُم؛ لأنَّ للإنسانِ إرادةً؛ كَما قَالَ تعالَى: (مِنكُم من يُريدُ الدُّنْيا وَمِنكُم مَن يُرِيدُ الآخِرَةَ) [آل عمران: 125]؛ فللإنسانِ إرادةٌ، بَلْ للجدارِ إرادةٌ؛ كَمَا قَالَ تعالَى: (فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ) [الكهف: 77]؛ فأنْتُم إمَّا أنْ تَنْفوا الإرادةَ عَنِ اللهِ عزَّ وجلَّ كَما نفَيْتُم ما نَفَيْتُم مِنَ الصِّفاتِ، وإمَّا إنْ تُثبتوا للهِ عزَّ وجلَّ ما أثبَتَهُ لنفسِهِ، وإنْ كانَ للمخلوقِ نظيرُهُ في الاسمِ لا في الحقيقةِ.
والفائدةُ المسْلَكيَّةُ مِنْ هذا الحديثِ: هو أنَّنا إذا عَلِمْنا أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يضحكُ؛ فإنَّنا نرجو مِنْهُ كلَّ خيرٍ.
وَلِهَذَا قَالَ رجلٌ للنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا رسولَ اللهِ! أوَ يضحكُ ربنُّا؟ قَالَ: ((نَعَمْ)). قَالَ: لنْ نعدمَ مِنْ ربٍّ يضحكُ خيرًا.
إذا عَلِمْنا ذلِكَ؛ انفتحَ لنا الأملُ في كلِّ خيرٍ؛ لأنَّ هناكَ فرقًا بينَ إنسانٍ عَبوسٍ لا يكاد يُرى ضاحكًا، وبينَ إنسانٍ يضحَكُ.
وقَدْ كانَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دائمَ البِشرِ كثيرَ التَّبسُّمِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.

الحديثُ الرابعُ: في إثْباتِ العَجَبِ وصِفاتٍ أخْرَى
(3) العَجَبُ: هو استغرابُ الشَّيءِ، ويكونُ ذلِكَ لسَببينِ:
السَّببِ الأوَّلِ: خَفاءُ الأسبابِ على هذا المستغرِبِ للشَّيءِ المتعجَّبِ منه؛ بحيثُ يأتيِه بغتةً بدونِ توقُّعِ، وهذا مستحيلٌ على اللهِ تعالَى؛ لأنَّ اللهَ بكلِّ شيءٍ عليمٌ، لا يخفى عليهِ شيءٌ في الأرضِ ولا في السَّماءِ.
والثَّاني: أنْ يكونَ السببُ فيه خروجُ هذا الشَّيءِ عَنْ نظائرِه وعمّا ينبغِي أنْ يكونَ عَلَيْه؛ بدونِ قصورٍ مِنَ المتعجِّبِ؛ بحيثُ يعملُ عملاً مُستَغْربًا لا ينبغِي أنْ يقعَ مِنْ مِثْلِهِ.
وهذا ثابتٌ للهِ تعالَى؛ لأنَّهُ لَيْسَ عَنْ نقصٍ مِنَ المتعجِّبِ، ولكنَّهُ عجبٌ بالنَّظرِ إلى حالِ المتعجَّبِ منه.
قولُهُ: ((عَجِبَ ربُّنا من قُنوطِ عبادِهِ)): القُنوطُ: أشدُّ اليأسِ. يعجبُ الرَّبُّ عزَّ وجلَّ مِنْ دخولِ اليأسِ الشَّديدِ على قلوبِ العبادِ.
((وقُربِ غِيَرِه)): الواوُ بمعنَى (مَع)؛ يعني: مَعَ قُرْبِ غيَرِهِ.
و(الغِيَر): اسمُ جمعٍ غِيَرَة؛ كطِيَرٍ: اسمُ جمعِ طِيَرَة، وهِيَ اسمٌ بمعنَى التَّغييرِ، وعلى هذا؛ فيكونُ المعنَى: وقربُ تغييرِهِ.
فيعجبُ الرَّبُّ عزَّ وجلَّ؛ كَيْفَ نقنطُ وهو سبحانَهُ وتعالَى قريبُ التَّغييرِ، يُغيِّرُ الحالَ إلى حالٍ أُخرى بكلمةٍ واحدةٍ، وهي: كُنْ، فيكونُ.
وقولُهُ: ((ينظرُ إلَيْكُم أَزِلينَ))؛ أيْ: ينظرُ اللهُ إلينا بعينِهِ.
((أزِلينَ قَنِطينَ)): الأزِلُ: الواقعُ في الشِّدَّةِ. و((قَنِطينَ)): جمعُ قانطٍ، والقانطُ: اليائسُ مِنَ الفرجِ وزوالِ الشِّدَّةِ.
فذَكَرَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حالَ الإنسانِ وحالَ قلبِهِ؛ حالُهُ أنَّهُ واقعٌ في شدَّةٍ، وقلبُهُ قانطٌ يائسٌ مستبعِدٌ للفَرَجِ.
((فيظلُ يضحكُ)): يظلُ يضحكُ مِنْ هذِهِ الحالِ العجيبةِ الغريبةِ؛ كَيْفَ تقنطُ مِنْ رحمةِ أرحمِ الرَّاحمينَ الَّذِي يقولُ للشَّيءِ: كنْ. فيكونُ؟!
((يعلَمُ أنَّ فرجَكُمِ قريبٌ))؛ أيْ: زوالُ شدَّتِكُم قريبٌ.
في هذا الحديثِ عدَّةُ صفاتٍ:
أولاً: العجبُ؛ لقولِهِ: ((عَجِبَ ربنُّا مِنْ قنوطِ عبادِهِ)).
وقد دلَّ على هذِهِ الصِّفةِ القرآنُ الكريمُ؛ قَالَ اللهُ تعالَى: (بَلْ عَجِبتُ وَيَسخَرُونَ) [الصَّافَّات: 12]؛ على قراءةِ ضمِّ التَّاءِ.
ثانياً: وفيه أيضاً بيانُ قدرةِ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ لقولِهِ: ((وقرب غِيَره))، وأنَّهُ عزَّ وجلَّ تامُّ القدرةِ، إذا أرادَ؛ غيَّرَ الحالَ مِنْ حالٍ إلى ضدِّها في وقتٍ قريبٍ.
ثالثاً: وفيه أيضًا مِنْ إثْباتِ النَّظرِ؛ لقولِهِ: ((ينظرُ إليكُم)).
رابعاً: وفيه إثباتُ الضَّحكِ؛ لقولِهِ: ((فيظلُّ يضحكُ)).
خامساً: وكذلِكَ العلمُ؛ ((يعلَمُ أنَّ فرجَكُم قريبٌ)).
سادساً: والرَّحمةُ؛ لأنَّ الفرجَ مِنَ اللهِ دليلٌ على رحمةِ اللهِ بعبادِهِ.
وكلُّ هذه الصِّفاتِ الَّتي دلَّ عليها الحديثُ يجبُ عليَنْا أنْ نثبتَهَا للهِ عزَّ وجلَّ حقًّا على حقيقتِها، ولا نتأوَّلُ فيِها.
والفائدةُ المسْلَكيَّةُ في هذا: أنَّ الإنسانَ إذا عَلِمَ ذلِكَ مِنَ اللهِ سبحانَهُ وتعالَى؛ حذِرَ مِنْ هذا الأمرِ، وهو القنوطُ مِنْ رحمةِ اللهِ، وَلِهَذَا؛ كانَ القنوطُ مِنْ رحمةِ اللهِ مِنَ الكبائرِ:
قَالَ اللهُ تعالَى: (قَالَ وَمَن يَقنَطُ مِن رَّحمَةِ رَبّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ) [الحجر: 56].
وقَالَ تعالَى: (وَلاَ تَايئَسُوا مِن رَّوحِ اللهِ إِنَّهُ لاَ يَاْيْئَسُ مِن رَّوحِ اللهِ إِلاَّ القَومُ الكَافِرُونَ) [يوسف: 87].
فالقنوطُ مِنْ رحمةِ اللهِ، واستبعادُ الرَّحمةِ: مِنْ كبائرِ الذُّنوبِ، والواجبُ على الإنسانِ أنْ يحسنَ الظَّنَّ بربِّهِ؛ إنْ دعَاه؛ أحسنَ الظَّنَّ بِه بأنَّه سيجيبُهُ، وإنْ تعبَّد له بمقتضى شرعِهِ؛ فليحسنِ الظَّنَّ بأنَّ اللهَ سَوْفَ يقبلُ منه، وإنْ وقعَتْ بهِ شدَّةٌ؛ فليحسنِ الظَّنَّ َ بأنَّ اللهَ سَوْفَ يزيلُها؛ لقولِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا)).
بَلْ قَدْ قَالَ اللهُ تعالَى: (فَإِنَّ مَعَ العُسرِ يُسرًا إِنَّ مَعَ العُسرِ يُسرًا) [الشرح: 5 – 6]، ولنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَينِ؛ كما يُروى عَن ابنِ عبَّاسٍ رَضِي اللهُ عَنْهُ).

هيئة الإشراف

#3

17 Dec 2008

التنبيهات اللطيفة فيما احتوت عليه الواسطية من المباحث المنيفة لابن سعدي رحمه الله

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لله أشدُّ فرحاً بتوبة عبدِه المؤمن التائبِ من أحدكم براحلتِهِ))([1]) متفق عليه.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((يضْحَكُ اللهُ إلى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهما الآخرَ كِلاهما يَدْخُلُ الجنَّةَ))([2]) متفق عليه.
وقوله: ((عَجِبَ رَبُّنا من قُنوطِ عبادِهِ وقُرْبِ غِيَرِهِ، ينْظُرُ إليكم أزلين قَنِطيِنَ فيَظَلُّ يَضْحَكُ يَعْلَمُ أن فرَجَكم قريبٌ)) حديث حسن([3]).
).

الشرح:

قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): (([1]) وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لله أشدُّ فرحاً بتوبة عبدِه المؤمن التائبِ من أحدكم براحلتِه.. الحديث)) متفق عليه. وهذا فرح جودٍ وإحسانٍ، لأنه جلَّ جلاله ينوع جوده وكرمه على عباده في جميع الوجوه، ويحبّ من عباده أن يسلكوا كل طريق يوصلهم إلى رحمة الله وإحسانه، ويكره لهم ضدّ ذلك، فإنه تعالى جعل لرحمته وكرمه أسباباً بيّنها لعباده، وحثّهم على سلوكها وأعانهم عليها ونهاهم عما ينافيها ويمنعها، فإذا عصوه وبارزوه بالذنوب فقد تعرضوا لعقوباته التي لا يحب منهم أن يتعرضوا لها، فإذا رجعوا إلى التّوبة والإنابة فرح بذلك أعظم فرح يقدر، فإنه ليس في الدنيا نظير فرح هذا الذي في أرض فلاة مهلكة، وقد انفلتت منه راحلته التي عليها مادة حياته من طعام وشراب وركوب، فأيس منها وجلس ينظر الموت، فإذا هو بها واقفة على رأسه، فأخذ بخطامها وكاد الفرح أن يقضي عليه، وقال من الدّهشة وشدة الفرح ((اللهم أنت عبدي وأنا ربك)) فتبارك الرّب الكريم الجواد الذي لا يُحصي العباد ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني عليه عباده، وهذا الفرح تبع لغيره من الصفات كما تقدم. إن الكلام على الصفات يتبع الكلام على الذات فهذا فرح لا يشبه فرح أحد من خلْقه لا في ذاته ولا في أسبابه ولا في غاياته، فسببه الرحمة والإحسان، وغايته إتمام نعمته على التائبين المنيبين.

([2])وقوله صلى الله عليه وسلم: ((يضْحَكُ اللهُ إلى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهما الآخرَ كِلاهما يَدْخُلُ الجنَّةَ)) متفق عليه. وهذا أيضاً من كمال وجمال إحسانه وسعة رحمته.
فإن المسلم يقاتل في سبيل الله ويقتله الكافر فيكرم الله المسلم بالشهادة، ثم يمن الله على ذلك الكافر والقاتل فيهديه للإسلام فيدخلان الجنّة جميعاً، وهذا من تفريع جوده المتتابع على عباده من كل وجه، والضّحك يكون من الأمور المعجبة التي تخرج عن نظائرها، وهذه الحالة المذكورة كذلك، فإن تسليط الكافر على قتل المسلم في بادئ الأمر أمر غير محبوب، ثم هذا المتجرئ على القتل يتبادر لأذهان كثير من الناس أنه يبقى على ضلاله ويعاقب في الدنيا والآخرة، ولكن رحمة الله وإحسانه فوق ذلك كله وفوق ما يظنّ الظانون ويتوهم المتوهمون، وكذلك لما دعا النبيُّ صلّى الله عليه وسلم على أناس من رؤساء المشركين لعنادهم وأذيتهم بالطّرد من رحمة الله أنزل الله قوله: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) الآية فتاب عليهم بعد ذلك وحسُن إسلامُ كثير منهم.

([3]) وقوله صلى الله عليه وسلم: ((عَجِبَ رَبُّنا من قُنوطِ عبادِهِ وقُرْبِ غِيَرِهِ، ينْظُرُ إليكم أزلين قَنِطيِنَ فيَظَلُّ يَضْحَكُ يَعْلَمُ أن فرَجَكم قريبٌ)) حديث حسن. وهذا العجب الذي وصف الرسول به ربّه من آثار رحمة الله وهو من كماله تعالى والله تعالى ليس كمثله شيء في جميع نعوته، فإذا تأخر الغيث عن العباد مع فقرهم وشدّة حاجتهم استولى عليهم اليأس والقنوط، وصار نظرهم قاصراً على الأسباب الظاهرة وحسبوا أن لا يكون وراءها فرج من القريب المجيب، فيعجب الله منهم، وهذا محل عجب كيف يقنطون و رحمته وسعت كل شيء والأسباب لحصولها قد توفّرت، فإن حاجة العباد وضرورتهم من الأسباب لرحمته، والدّعاء لحصول الغيث والرجاء لله من الأسباب ووقوع الغيث بعد امتناعه مدّة طويلة وحصول الضرورة، يعجب أن يكون لفضل الله وإحسانه موقع كبير وأثر عجيب كما قال تعالى: (فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ) الآيات والله تعالى قدّر من ألطافِهِ وعوائده الجميلة أن الفرج مع الكرْب وأن اليُسر مع العُسر وأن الضرورة لا تدوم، فإن حصل مع ذلك قوة التجاء وشدة طمع بفضل الله ودعاء، فتح الله عليهم من خزائن جودِه ما لا يخطر بالبال. ولفظة (قُرْبِ خيرِه) رُويت في بعض الأحاديث بلفظة (غيره) أي تغييره الشدّة بالرّخاء).

هيئة الإشراف

#4

17 Dec 2008

شرح العقيدة الواسطية للشيخ مُحمَّد خَليل هَرَّاس رحمه الله

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): ( (وقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبِدِهِ المُؤِمِنِ التَّائِبِ مِنْ أَحَدِكُمْ بِرَاحِلَتِهِ )). مُتَّفَقٌ عليِه)(1).
(وقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( يَضْحَكُ اللهُ إِلى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُما الآخَرَ؛ كِلاهُما يَدْخُلُ الجَنَّةَ )). مُتَّقَقٌ عليهِ)(2).
( وقَوْلُهُ: (( عَجِبَ رَبُّنَا مِنْ قُنُوطِ عِبادِهِ وَقُرْبِ خَيْرِهِ، يَنْظُرُ إِلَيْكُمْ آزلينَ قَنِطِينَ، فَيَظَلُّ يَضْحَكُ يَعْلَمُ أَنَّ فَرَجَكُمْ قَرِيبٌ)). حديثٌ حسنٌ )(3)
).

الشرح:

قال الشيخ محمد خليل هراس (ت: 1395هـ): ((1) قولُهُ: ( للهُ أَشَدُّ فَرَحًا … ) إلخ. تَتِمَّةُ هذا الحديثِ؛ كمَا في البخاريِّ وغيرِهِ:
(( للهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ المُؤْمِنِ مِن رَجُلٍ بِأَرْضٍ فَلاةٍ دَوِيَّةٍ مَهْلَكَةٍ وَمَعَهُ رَاحِلَتُهُ عليهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَنَزَلَ عَنْهَا، فَنَامَ وَرَاحِلَتُهُ عندَ رَأْسِهِ، فَاسْتَيْقَظَ وقَدْ ذَهَبَتْ، فَذَهَبَ في طَلَبِهَا، فَلَمْ يَقْدِرْ عليهَا، حتَّى أَدْرَكَهُ المَوْتُ مِنَ العَطَشِ، فَقالَ: وَاللهِ لأَرْجِعَنَّ فَلأَمُوتَنَّ حيثُ كَانَ رَحْلِي، فَرَجَعَ، فَنَا مَ، فَاسْتَيْقَظَ، فَإِذَا رَاحِلَتُهُ عندَ رَأْسِهِ، فَقالَ: اللهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ. أَخْطَأَ مِن شِدَّةِ الفَرَحِ )).
وفي هذا الحديثِ إثباتُ صفةِ الفرحِ للهِ عزَّ وجلَّ، والكلامُ فيهِ كالكلامِ في غيرِهِ مِن الصِّفاتِ: أَنَّهُ صفةٌ حقيقيَّةٌ للهِ عزَّ وجلَّ، على ما يليقُ بهِ، وهوَ مِن صفاتِ الفعلِ التَّابعةِ لمشيئتِهِ تعالى وقُدرتِهِ، فَيحْدُثُ لهُ هذا المعنى المعبَّرُ عنهُ بالفرحِ عندَما يُحدِثُ عبدَهُ التَّوبةَ والإِنابةَ إليهِ، وهوَ مستلزمٌ ِلرِضَاهُ عن عبدِهِ التَّائِبِ، وقبولِهِ توبتَهُ.
وإذَا كانَ الفرحُ في المخلوقِ على أنْواعٍ؛ فقَدْ يكونُ فرحَ خِفَّةٍ وسرورٍ وطربٍ، وقَدْ يكونُ فرحَ أَشَرٍ وَبَطَرٍ؛ فاللهُ عزَّ وجلَّ منزَّهٌ عن ذلكَ كلِّهِ، فَفَرَحُهُ لا يُشبِهُ فرحَ أحدٍ مِن خلقِهِ، لا في ذاتِهِ، ولا في أسبابِهِ، ولا في غاياتِهِ، فسببُهُ كمَالُ رحمتِهِ وإحسانِهِ التَّي يحبُّ مِن عبادِهِ أنْ يتعرَّضوا لهَا، وغايتُهُ إتمامُ نعمتِهِ على التَّائبِينَ المُنِيبينَ.
وأَمَّا تفسيرُ الفرحِ بلازمِهِ، وهوَ الرِّضَى، وتفسيرُ الرِّضَا بإرادةِ الثَّوابِ؛ فكلُّ ذلكَ نفيٌ وتعطيلٌ لفرحِهِ ورضاهُ سبحانَهُ، أَوجبَهُ سوءُ ظنِّ هؤلاءِ المعطِّلةِ بربِّهمْ، حيثُ توهَّموا أنَّ هذهِِ المعانِي تكونُ فيهِ كمَا هيَ في المخلوقِ، تعالى اللهُ عن تَشبِيهِهِمْ وتعطيلِهِمْ.

(2) قولُهُ: (( يَضْحَكُ اللهُ إِلى رَجُلَيْنِ … )) إلخ. يُثبتُ أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ الضَّحكَ للهِ عزَّ وجلَّ – كمَا أفادَهُ هذا الحديثُ وغيرُهُ – على المعنى الذي يليقُ بهِ سبحانَهُ، والذي لا يُشْبِهُهُ ضحكُ المخلوقِينَ عندَما يستخفُّهمْ الفرحُ، أو يستفزُّهمُ الطَّربُ، بلْ هوَ معنى يحدثُ في ذاتِهِ عندَ وجودِ مقتضِيهِ، وإنَّمَا يحدثُ بمشيئتِهِ وحكمتِهِ؛ فإنَّ الضَّحكَ إنَّمَا ينشأُ في المخلوقِ عندَ إدراكِهِ لأمرٍ عجيبٍ يخرجُ عن نظائرِهِ، وهذهِ الحالةُ المذكورةُ في هذا الحديثِ كذلكَ؛ فإنَّ تسليطَ الكافرِ على قتلِ المسلمِ مَدعاةٌ في بادئِ الرَّأيِ لسخطِ اللهِ على هذا الكافرِ، وخذلانِهِ، ومعاقبتِهِ في الدُّنيا والآخرةِ، فإذَا منَّ اللهُ على هذا الكافرِ بعدَ ذلكَ بالتَّوبةِ، وهداهُ للدُّخولِ في الإِسلامِ، وقاتلَ في سبيلِ اللهِ حتَّى يَسْتَشِهدَ فيدخلَ الجنَّةَ؛ كانَ ذلكَ مِن الأمورِ العجيبةِ حقًّا.
وهذا مِن كمَالِ رحمتِهِ وإحسانِهِ وَسِعَةِ فضلِهِ على عبادِهِ سبحانَهُ؛ فإنَّ المسلمَ يقاتلُ في سبيلِ اللهِ، ويقتلُهُ الكافرُ، فيكرِمُ اللهُ المسلمَ بالشَّهَادةِ، ثمَّ يمنُّ على ذلكَ القاتلِ، فيهديهِ للإِسلامِ والاستشهَادِ في سبيلِهِ، فيدخُلانِ الجنَّةَ جميعًا.
وأَمَّا تأويلُ ضحكِهِ سبحانَهُ بالرِّضا أو القبولِ أو أنَّ الشَّيءَ حلَّ عندَهُ بمحلِّ ما يضحكُ منهُ، وليسَ هناكَ في الحقيقةِ ضَحِكٌ؛ فهوَ نفيٌ لِمَا أثبتَهُ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلمَ لرَبِّهِ، فلا يُلْتَفَتُ إليهِ.

(3) قولُهُ: (( عَجِبَ ربُّنَا … )) إلخ. هذا الحديثُ يثبتُ للهِ عزَّ وجلَّ صفةَ العَجَبِ، وفي معناهُ قولُهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ:
(( عَجِبَ رَبُّكَ مِن شَابٍّ لَيْسَ لَهُ صَبْوَةٌ )).
وقرأَ ابنُ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: ( بَلْ عَجِبْتُ ويَسْخَرونَ )؛ بضمِّ التَّاءِ على أَنَّهُا ضميرٌ للرَّبِّ جلَّ شأنُهُ.
وليسَ عجبُهُ سبحانَهُ ناشِئًا عن خفاءٍ في الأسبابِ أو جهلٍ بحقائِقِ الأمورِ؛ كمَا هوَ الحالُ في عجبِ المخلوقِينَ، بلْ هوَ معنى يحدثُ لهُ سبحانَهُ على مقتضَى مشيئتِهِ وحكمتِهِ وعندَ وجودِ مقتضيهِ، وهوَ الشَّيءُ الذي يستحقُّ أنْ يُتَعَجَّبَ منهُ.
وهذا العجبُ الذي وصفَ بهِ الرَّسولُ ربَّهُ هنَا مِن آثارِ رحمتِهِ، وهوَ مِن كمَالِهِ تعالى، فإذَا تأخَّرَ الغيثُ عن العبادِ معَ فقرِهمْ وشدَّةِ حاجتِهِمْ، واستولى عليهِمْ اليأسُ والقُنُوطُ، وصارَ نظرُهُمُ قاصرًا على الأسبابِ الظَّاهرةِ، وحسبُوا أنْ لا يكونَ وراءَهَا فرجٌ مِن القريبِ المُجِيبِ؛ فيعجبُ اللهُ مِنْهُمْ.
وهذا مَحلٌّ عجيبٌ حقًّا، إذْ كيفَ يَقنطونَ ورحمتُهُ وَسِعَتْ كلَّ شيءٍ، والأسبابُ لحصولِهَا قَدْ توفَّرت؟! فإنَّ حاجةَ العبادِ وضرورتِهِمْ مِن أسبابِ رحمتِهِ، وكذا الدُّعاءُ بحصولِ الغيثِ والرجاءِ في اللهِ مِن أسبابِهَا، وقَدْ جرتْ عادتُهُ سبحانَهُ في خلقِهِ أنَّ الفرجَ معَ الكربِ، وأنَّ اليُسرَ معَ العُسرِ، وأنَّ الشِّدَّةَ لا تدومُ، فإذَا انضمَّ إلى ذلكَ قوةُ التِجاءٍ وطمعٍ في فضلِ اللهِ، وتضرُّعٍ إليهِ ودعاءٍ؛ فتحَ اللهُ عليهِمْ مِن خزائنِ رحمتِهِ ما لا يخطرُ على البالِ.
والقُنوطُ مَصْدَرُ ( قَنَطَ )، وهوَ اليأسُ مِن رحمةِ اللهِ؛ قالَ تعالى: ( وَمَنْ يَقْنَطُ مِن رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ ).
قولُهُ: (وَقُرْبِ خَيْرِهِ)؛ أي: فضلُهُ ورحمتُهُ. وقَدْ رُوِيَ: (غِيَرِه) والغِيَرُ: اسمٌ مِن قولِكَ: غَيَّرَ الشَّيءَ فتغيَّرَ.
وفي حديثِ الاستسقاءِ: (مَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ يَلْقَ الغِيَرَ)؛ أي: تَغَيُّرَ الحالِ، وانتقالُها مِن الصَّلاحِ إلى الفسادِ.
قولُهُ: ((آزِلِينَ قَنِطِينَ): حالانِ مِن الضَّميرِ المجرورِ في (إِلَيْكُم).
و (آزِلِينَ): جمعُ آزِلٍ، اسمُ فاعلٍ مِن الأزْلِ؛ بمعنى: الشِّدَّةِ والضِّيقِ. يُقالُ: أَزِلَ الرَّجلُ يأزَلُ أزَلاً، مِن بابِ فَرِحَ؛ أي: صارَ في ضيقٍ وجدبٍ).

هيئة الإشراف

#5

17 Dec 2008

شرح العقيدة الواسطية للشيخ: صالح بن فوزان الفوزان

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (- إثباتُ أنَّ اللهَ يفرحُ ويضحكُ
وقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحاً بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ المُؤمِنِ التَّائِبِ مِنْ أَحَدِكُمْ بِرَاحِلَتِهِ )) الحديث. مُتَّفَقٌ عليه. وقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( يَضْحَكُ اللهُ إِلى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُما الآخَرَ؛ كِلاهُما يَدْخُلُ الجَنَّةَ )). مُتَّقَقٌ عليهِ.(1)

2- إثباتُ أنَّ اللهََ يَعْجَبُ ويضحكُ

وقَوْلُهُ: (( عَجِبَ رَبُّنَا مِنْ قُنُوطِ عِبادِهِ وَقُرْبِ غِيَرِهِ، يَنْظُرُ إِلَيْكُمْ أَزلينَ قَنِطِينَ، فَيَظَلُّ يَضْحَكُ يَعْلَمُ أَنَّ فَرَجَكُمْ قَرِيبٌ)). حديثٌ حسنٌ.(2)).

الشرح:

قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: ((1)(للهُ) اللامُ لامُ الابتداءِ (أَشَدُّ فَرَحاً) منصوبٌ عَلى التَّمييزِ، والفرحُ في اللُّغةِ السُّرورُ ولذَّةُ القلبِ (بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ) التَّوبةُ هي الإقلاعُ عنِ الذَّنْبِ والرُّجوعُ إلى الطَّاعةِ (برَاحِلَتِه) الرَّاحِلةُ النَّاقةُ التي تصْلُحُ أنْ ترْحلَ (الْحَدِيثَ) منصوبٌ بفعلٍ مُقَدَّرٍ، أي: أكملِ الحديثَ؛ لأنَّ المصنِّفَ اقتصر عَلى الشَّاهدِ منه، وهو إثباتُ الفرَحِ للهِ سبحانَه عَلى ما يليقُ بجلالهِ، وهو صفةُ كمالٍ لا يُشْبهُه فرحُ أحَدٍ مِن خلْقِه، بل هو كسائرِ صفاتِه. وهو فرحُ إحسانٍ وبرٍّ ولُطْفٍ، لا فرحُ محتاجٍ إلى توبةِ عبدهِ، ينتفعُ بها فإنَّه سبحانَه لا تنفعُه طاعةُ المطيعِ، ولا تضرُّه مَعصيةُ العاصي.
وقولُه صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ: (يَضْحَكُ اللهُ إِلىَ رَجُلَيْنِ ـ إلخ) قد بيَّن النَّبيُّ صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ في آخرِ الحديثِ سببَ ذلك في قولِه: ((يُقَاتِلُ هَذا فيِ سَبِيلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فيُسْتَشْهَدُ ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ عَلى القَاتِل فَيُسْلِمُ فَيُقَاتِلُ فَي سَبِيلِ اللهِ عَزَّ وَجلَّ فَيُسْتَشْهَدُ)) وهذا مِن كمالِ إحسانِ اللهِ سبحانَه وسَعةِ رحمتهِ، فإنَّ المسلمَ يقاتلُ في سبيلِ اللهِ فيقتلُه الكافرُ، فيُكْرِمُ اللهُ المسلمَ بالشَّهادةِ، ثم يمنُّ اللهُ عَلى ذلك الكافرِ القاتلِ فيهديه للإسلامِ، فيدخلانِ الجنَّةَ جميعا، فهذا أمرٌ عجيبٌ، والضَّحكُ يكونُ مِن الأمورِ المُعْجِبَةِ التي تَخْرُجُ عن نظائِرها.
والشَّاهدُ مِن الحديثِ: إثباتُ الضَّحكِ لله سبحانَه وهو صِفةٌ مِن صفاتِه الفعليَّةِ التي نُثبتها له عَلى ما يليقُ بجلالِه وعظمتِه، ليس كضحكِ المخلوقِ.

(2) (عَجِبَ رَبُّنَا) قال في المصباحِ: التَّعجُّبُ يُستعملُ عَلى وَجْهيْن: أحدُهما ما يحْمَدُه الفاعلُ، ومعناه: الاستحسانُ والإخبارُ عَن رضاه به، والثَّاني ما يكرهُه، ومعناه الإنكارُ والذَّمُّ له (مِن قُنُوطِ عِبَادِه) القنوطُ شدَّةُ اليأسِ مِن الشيْءِ، والمرادُ هنا اليأسُ مِن نزولِ المطرِ وزوالِ القحْط (وَقُرْبِ غِيَرِه) غِيَره بكسرِ الغين وفتحِ الياء أي: تغييرِه الحالَ مِن شدّةٍ إلى رخَاءٍ (يَنْظُرُ إِلَيْكُمْ أَزِلِينَ) الأزْلُ بسكونِ الزَّاي الضِّيقُ. وقد أَزَلَ الرَّجُلُ. يَأْزِلُ أَزْلاً صار في ضيقٍ وجَدْبٍ.
(فَيَظَلُّ يَضْحَكُ) هذا مِن صفاتِه الفعليَّةِ التي لا يُشْبهُه فيها شيءٌ مِن مخلوقاتِه، ففي الحديثِ إثباتُ صِفتيْن مِن صِفاتِ اللهِ الفعليّةِ هما: العَجَبُ والضَّحِكُ، وهما صفتان تليقانِ بجلالهِ، ليستا كعَجَبِ المخلوقِ وضحكِ المخلوقِ، وفي الحديث أيضاً إثباتُ النَّظرِ للهِ سبحانَه، وهو مِن صفاتِه الفعليَّةِ أيضاً، فإنَّه ينظرُ إلى عبادِه، ولا يخفى عليه شيءٌ في الأرضِ ولا في السَّماءِ).

هيئة الإشراف

#6

17 Dec 2008

الروضة الندية للشيخ: زيد بن عبد العزيز بن فياض رحمه الله

المتن:

قال أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحاً بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ المُؤْمِنِ التَّائِبِ مِنْ أَحَدِكُمْ بِرَاحِلَتِهِ )) . الحديث مُتَّفَقٌ عليِه
وقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :(( يَضْحَكُ اللهُ إِلى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُما الآخَرَ ؛ كِلاهُما يَدْخُلُ الجَنَّةَ)) . مُتَّقَقٌ عليهِ .
وقَوْلُهُ : ((عَجِبَ رَبُّنَا مِنْ قُنُوطِ عِبادِهِ وَقُرْبِ خَيْرِهِ ، يَنْظُرُ إِلَيْكُمْ أَزِلِينَ قَنِطِينَ ، فَيَظَلُّ يَضْحَكُ يَعْلَمُ أَنَّ فَرَجَكُمْ قَرِيبٌ)) . حديثٌ حسنٌ
).


الشرح:

قال الشيخ زيد بن عبد العزيز بن فياض (ت: 1416هـ): (روى هَذَا الحَدِيثََ جماعةٌ مِن الصَّحَابَةِ منهم ابنُ مسعودٍ وأَنَسُ بنُ مالكٍ وأبو هُرَيْرَةَ والبراءُ بنُ عازبٍ والنُّعمانُ بنُ بَشيرٍ وغَيْرُهم . ولفظُ حَدِيثِ ابنِ مسعودٍ عندَ البُخارِيِّ فِي الدَّعواتِ . عَن الحارثِ بنِ سُوَيْدٍ . قَالَ : حَدَّثَنا عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ حَدِيثينِ أحَدُهما عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والآخرُ عَن نَفْسِه قَالَ : إِنَّ المؤمِنَ يَرى ذُنوبَه كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تحتَ جَبلٍ يخافُ أَنْ يَقعَ عَلَيْهِ ، وإِنَّ الفاجِرَ يَرَى ذنُوبهُ كذُبابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِه فقَالَ به هكذا – قَالَ أبو شِهابٍ – بيدِهِ فوقَ أَنْفِه – ثُمَّ قَالَ : اللهُ أفْرَحُ بِتَوْبَةِ الْعَبْدِ مِن رَجُلٍ نَزَلَ مَنْزِلاً ، وبِهِ مَهْلَكَةٌ ومَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَوَضَعَ رَأْسَهُ فنَامَ نَوْمَةً ، فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ رَاحِلَتُهُ حَتَّى اشْتَدَّ عَلَيْهِ الحَرُّ وَالْعَطَشُ ما شَاءَ اللهُ قَالَ : أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِي فَنَامَ نَوْمَةً ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فإذا رَاحِلَتُه عِنْدَهُ .
وعَن أَنَسٍ قَالَ : قَالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : للهُ أفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِن أحَدِكُمْ سَقَطَ عَلَى بَعِيرِهِ وقَدْ أَضَلَّهُ فِي أَرْضٍ فَلاَةٍ . مُتَّفقٌ عَلَيْهِ ولِمُسْلِمٍ : للهُ أَشَدُّ فَرَحاً بتوبةِ عَبدِه حينَ يتوبُ إليه مِن أحدِكم كَانَ عَلَى راحِلَتِه بِأرْضٍ فَلاةٍ فَانْفَلَتَتْ منه وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وشَرَابُهُ فَأَيِسَ مِنْهَا فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا وَقَدْ أَيِسَ مِن رَاحِلَتِه فَبيْنَمَا هُوَ كذَلِكَ إذ هُوَ بها قَائِمَةً عِنْدَهُ فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا ثُمَّ قَالَ مِن شِدَّةِ الْفَرَحِ : اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وأَنَا رَبُّكَ ، أخْطَأَ مِن شِدَّةِ الفَرَحِ . وفِي حَدِيثِ البراءِ عندَ مُسْلِمٍ قَالَ: قَالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كَيْفَ تَقُولُونَ بِفَرَحِ رَجُلٍ انْفَلَتَتْ مِنْهُ رَاحِلَتُهُ بِأَرْضٍ قَفْرٍ لَيْسَ بِهَا طَعَامٌ وَلاَ شَرَابٌ، وَعَلَيْهَا لَهُ طَعَامٌ وشَرَابٌ فَطَلَبَها حتَّى شَقَّ عَلَيْهِ ثُمَّ مَرَّتْ بِجِذْعِ شَجَرَةٍ فَتَعَلَّقَ زِمَامُهَا فَوَجَدَهَا مُتَعَلِّقَةً بِه ، قلنا : شَدِيداً يا رسولَ اللهِ . فقَالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمَا واللهِ للهُ أَشَدُّ فَرَحاً بِتوبَةِ عَبْدِه مِن الرَّجُلِ بِرَاحِلَتِه .
وفِي هَذَا الحَدِيثِ : إثباتُ صِفَةِ الفرحِ للهِ وأَنَّه تَعالَى يَفرحُ بتوبةِ عبدِهِ . والفرحُ صِفَةٌ فِعْلِيَّةٌ اخْتِيارِيَّةٌ .
(( وقد ثَبَت فِي الصِّحاحِ مِن غيرِ وَجْهٍ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ اللهَ يَفْرَحُ بِتَوْبَةِ التَّائِبِ أَشَدَّ مِن فَرَحِ مَنْ فَقَدَ رَاحِلَتَهُ بِأَرْضٍ دَوِّيَّةٍ مُهْلِكَةٍ ثُمَّ وَجَدَهَا بَعْدَ الْيَأْسِ فهَذَا الفرحُ منه لِتوْبَةِ التَّائبِ يُناسِبُ مَحَبَّتَه له وَمَودَّتَه له )) .
((فهَذَا الكَشْفُ والبَيانُ والإيضاحُ لا مَزِيدَ عَلَيْهِ فِي ثبوتِ هَذِهِ الصِّفَةِ ، ونَفْيِ الإجْمالِ عنها والاحتمالِ )) وَفَرَحُه تَعالَى بِتَوبةِ التَّائِبِ لأنَّ رَحْمَتَهُ سَبَقَتْ غَضَبَهُ .
(( وَكُلُّ مَا كانَ مِن صِفةِ الرَّحْمَةِ فَهُوَ غَالبٌ لِمَا كانَ مِن صِفةِ الغَضبِ فَإنَّه سُبحانَه لا يَكونُ إلا رَحِيماً ، وَرحْمَتُهُ مِن لَوازِمِ ذَاتِهِ كَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَحَياتِهِ وَسمعِهِ وبَصرِهِ وإحسانِهِ فَيَستحيلُ أنْ يكونَ على خِلافِ ذَلكَ وليسَ كَذلكَ غَضَبُهُ فَإنَّهُ ليسَ مِن لَوازِمِ ذَاتِهِ ، ولا يكونُ غَضْبانَ دائماً غَضَباً لا يُتَصوَّرُ انْفِكَاكُهُ . . وَرحْمَتُه وَسِعَتْ كُلَّ شيءٍ ، وَغَضَبُهُ لمْ يَسَعْ كُلَّ شيءٍ وهُوَ سُبْحَانَهُ كَتَبَ على نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ولم يَكتبْ علَى نَفسِهِ الغَضَبَ . وَوَسِعَ كُلَّ شيءٍ رَحمةً وَعِلماً ولمْ يَسَعْ كُلَّ شيءٍ غَضَباً وانْتِقاماً . . وَقدْ ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَرحِهِ بِتَوْبَةِ العَبدِ مَثَلاً ، ليسَ في المَفْرُوحِ بِهِ أبلغُ مِنهُ . وهذا الْفَرَحُ إنَّمَا كانَ بِفِعْلِ المَأْمُورِ به وهو التَّوْبَةُ . فقدر الذَّنْبِ لِمَا يَترتَّبُ عليه مِن هذا الْفَرَحِ العَظيمِ الذي وَجَدَهُ أحَبَّ إليه مِن فَوَاتِ ما يَكْرَهُ . وليسَ المُرَادُ بذلك أنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِن أفرادِ ما يُحِبُّ أحَبَّ إليه مِن فَوَاتِ كُلِّ فَرْدٍ مِمَّا يَكْرَهُ حتَّى تَكُونَ رَكْعَتَا الضُّحَى أحَبَّ إليه مِن فَواتِ قَتْلِ مُسلمٍ . وإنَّمَا المُرادُ أنَّ جِنسَ فِعْلِ المَأمُورَاتِ أفضلُ مِن جِنْسِ تَرْكِ المَحْظُوراتِ ، كمَا إذَا فَضِّلَ الذَّكَرُ على الأُنْثَى ، والإِنْسِيُّ على المَلَكِ فَالمُرَادُ الجِنْسُ لا الأَعْيَانُ )) .
(( والْفَرَحُ إنَّمَا يكونُ بِحُصُولِ المَحبوبِ والمُذنِبُ كالعبدِ الآبِقِ مِن مَولاهُ الفَارِّ مِنه فإذا تابَ فهو كالعائدِ إلى مَولاه وإلى طَاعتِهِ . وهذا المَثَلُ الذي ضَربَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَيِّنُ مِن مَحَبَّةِ اللهِ وفَرحِهِ بِتَوْبَةِ العبدِ ، ومِن كَراهَتِه لِمَعاصِيهِ ما يُبَيِّنُ أنَّ ذلكَ أعظمُ مِن التَّمْثِيلِ بالعبدِ الآبِقِ . فَإنَّ الإنسانَ إذا فَقَدَ الدَّابَّةَ التي عليها طَعامُهُ وشَرابُهُ في الأرضِ المُهْلِكَةِ فإنَّهُ يَحصُلُ عنده ما اللهُ بهِ عَليمٌ مِن التَّأذِّي مِن جِهةِ فَقْدِ الطَّعامِ والشَّرابِ والمَرْكَبِ وَكونِ الأرضِ مَفازةً لا يُمكنهُ الخَلاصُ مِنها وإذا طَلبَها فلم يَجِدْهَا يَئِسَ واطمَأنَّ إلى الموتِ واستيقظَ فوجدها كأنَّ عِندهُ مِن الْفَرَحِ ما لا يُمكنُ التَّعبيرُ عنه بُوجودِ ما يُحبُّهُ ويَرضَاهُ بَعدَ الفَقْدِ المُنَافِي لِذلك . وهذَا يُبَيِّنُ مِن مَحبِّةِ اللهِ للتَّوبةِ المُتضمِّنَةِ الإيمانَ والعملَ الصَّالح َ؛ ومِن كَرَاهتِه لِخِلافِ ذلك ما يَرُدُّ على مُنكِري الفِرقِ مِن الجَهْمِيَّة والقَدرِيَّةِ فإنَّ الطَّائفتينِ تَجعلُ جميعَ الأشياءِ بالنسبةِ إليه سَواءً .
ثُمَّ القَدَرِيِّةُ يقولون : هو يَقصدُ نَفْعَ العبدِ لِكونِ ذلك حسَناً ولا يَقصدُ الظُّلْمَ لِكونِهِ قَبيحاً . وَالجَهْمِيَّةُ يقولون إذا كان لا فَرْقَ بالنسبةِ إليه بَينَ هذا وهذا امْتَنعَ أنْ يَكونَ عِنده شيءٌ حسنٌ وشيءٌ قبيحٌ . وإنَّما يَرجعُ ذلك إلى أمورٍ إضافيةٍ للعِبَادِ فَالحَسَنُ بالنسبةِ إلى العبدِ ما يُلائمُهُ والقبيحُ بالعكسِ . ومِن هنا جعلوا المحبَّةَ والإرادةَ سَواءً . فلو أثبتوا أنَّه سُبحانه يُحبُّ ويَفْرَحُ بِحُصولِ مَحْبُوبِهِ كما أخبرَ به الرُّسُلُ تَبيَّنَ لهم حِكمتُهُ وتَبَيَّنَ أيضاً أنَّه يَفعلُ الأفعالَ لِحِكْمَةٍ )) .
(( وقَولُهُ في آخِرِ الحديثِ : ثُم قالَ مِن شِدَّةِ الْفَرَحِ : اللهمَّ أنتَ عَبْدِي و أنَا رَبُّكَ . قالَ القاضي عِيَاضٌ فِيه: إنَّ ما قَالَهُ الإنسانُ مِن مِثْلِ هذا في حَالِ دَهشتِهِ وذُهولِه لا يُؤاخذُ بِه . وكذا حِكايتُه عنه على طريقٍ عِلميٍّ وفَائدةٍ شَرعيَّةٍ لا علَى الهَزْلِ والمُحَاكَاةِ والعَبَثِ . ويَدُلُّ على ذلك حِكايةُ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك ولو كانَ مُنكَراً ما حَاكَاهُ واللهُ أعلمُ .
و قَولُهُ( يَضحكُ اللهُ ) الخ تَمَامُ الحَديثِ فَقالوا كيفَ يا رسولَ اللهِ ؟ قال : يُقاتِلُ هذا في سبيلِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ فَيُسْتَشْهَدُ ثُمَّ يَتوبُ اللهُ على القاتلِ فَيُسْلِمُ فَيُقَاتِلُ في سبيلِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ فَيُسْتَشْهَدُ . أخرجَاه مِن حديثِ أبي هُريرَةَ ، ورَوى الإِمامُ أحمدُ في المُسنَدِ عن أبي هُريرةَ يَبلغُ به النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ لَيضحَكُ مِن الرَّجُلينِ قتَلَ أحَدُهما الآخَر ، يَدْخُلاَنِ الجنَّةَ جَميعاً . يَقولُ : كانَ كافراً قَتَلَ مُسلماً ثُمَّ إنَّ الكَافرَ أسلمَ قبلَ أنْ يَموتَ فَأدخَلَهُمَا اللهُ عَزَّ وجَلَّ الجنَّةَ . وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مُطَوَّلاً.
قولُهُ (( عَجِبَ رَبُّنَا مِن قُنُوطِ عِبادِهِ )) رَوى ابنُ مَاجَةَ وابْنُ خُزيمَةَ عن عَائشةَ قالتْ : قال رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ لَيَضحكُ مِن إيَاسَةِ العِبادِ وقُنوطِهِم وقُرْبِه مِنهم ، قُلتُ : يا رسولَ اللهِ ، بِأبي أنتَ وأُمِّي أوَ يَضحكُ رَبُّنَا ؟ قالَ : إي والذي نَفسي بيدِه إنَّهُ لَيضحكُ ، قالتْ فقلتُ إذًا لا يُعدِمُنا خيراً إذَا ضَحِكَ . وروى عبدُ اللهِ بنُ أحمدَ في السُّنَّةِ والبَيهقِيُّ والدَّارِمِيُّ عن أبي رَزِينٍ العُقَيْلِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّه قالَ : ضَحِكَ رَبُّنَا مِن قُنُوطِ عِبادِه وقُرْبِ غِيَرِهِ قالَ أبو رَزِينٍ أَيَضحكُ الرَّبُّ يا رسولَ اللهِ ؟ قال نَعمْ . قال : لن نُعْدَمَ مِن رَبٍّ يَضحكُ خَيراً .
وفي حديثِ لَقِيط بنِ عامرٍ - الطَّويلِ - وفيه قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَنَّ رَبُّكَ بمفاتيحَ خَمْسٍ لا يَعلمُها إلا اللهُ - وأشارَ بيدهِ - فقلتُ ما هُنَّ يا رسولَ اللهِ ؟ قالَ . عِلْمُ المَنِيَّةِ : قد عَلِمَ مَنِيَّةَ أحَدِكُم ولا تَعلمُونه وعلمَ المَنِيَّ حِين يكونُ في الرَّحِم قد عَلِمَهُ وما تعلمونه . وعلمَ ما في غَدٍ . قد عَلِمَ ما أنتَ طَاعِمٌ ولا تَعلمُه . وعلمَ يومَ الغَيثِ : يُشْرِفُ عَليكُم أزِِلِينَ مُشْفِقيِنِ فَيَظَلُّ يَضحكُ قد عَلِمَ أنَّ غَوْثَكُم إلى قريبٍ، قال لَقِيطٌ . فقلتُ لن نُعْدَمَ مِن رَبٍّ يَضحكُ خيراً قال وعلمَ يومَ السَّاعَةِ . رَواه عبدُ اللهِ بنُ أحمدَ في مُسَندِ أبيهِ وأبو الشَّيخِ الأصْبَهَانِيُّ والطَّبَرَانِيُّ وعبدُ اللهِ بنُ حِبَّانَ وغَيرُهُم .
قَولُه (( مِن قُنُوطِ عِبادِه )) القُنوطُ اليأسُ مِن الشيءِ والمرادُ هنا اليأسُ مِن نُزولِ المَطرِ ، وزَوالِ القَحْطِ . وَالغِيَرُ . بكَسرِ الغَينِ وفتحِ اليَاءِ - أي تَغييرُ الحالِ ، وتَبديلُها مِن المَحْلِ والجَدْبِ إلى الرَّخاءِ واليُسْرِ . قال في النِّهايةِ : وفي حديثِ الاستسقاءِ مَن يَكفرْ باللهِ يلقَ الغِيَرَ - أي تَغييرَ الحالِ وانتقَالَها مِن الصَّلاحِ إلى الفَسادِ . والغِيَرُ الاسمُ مِن قَولِكَ غَيَّرْتُ الشيءَ فَتغيَّرَ اه
( أزِلِينِ ) الأَزْلُ بِسُكونِ الزَّايِ : الضِّيقُ والحَبْسُ : وَأَزَلَ الرَّجلُ صارَ في ضِيقٍ . وفي النهايةِ . الأزْلُ الشِّدَّةُ والضِّيقُ وقد أََزَِلَ الرَّجلُ يَأْزِلُ أزْلاً ، أي صارَ في ضِيقٍ وجَدْبٍ كأنَّه أرادَ مِن شِدَّةِ يَأسكُم وقُنوطِكُم ا.ه .
(( فَالأزْلُ بسكونِ الزَّايِ – الشِّدَّةُ . والأَزِلُ على وَزنِ كَتِفٍ . هو الذي أصابه الأزْلُ واشتدَّ به حتَّى كَادَ يَقْنَطُ . وقَولُه فَيظَلُّ (( يَضحكُ )) هو مِن صفاتِ أفعالهِ سبحانه وتعالى التي لا يُشبهه فيها شَيءٌ مِن مَخلوقَاتِه فإنَّه كَصِفاتِ ذَاتِه )) .
فَِفِي هَذينِ الحَديثينِ إثباتُ صِفةِ الضَّحِكِ والعَجَبِ للهِ وهُما من صِفاتِ الأفعالِ الاخْتِيَارِيَّةِ ؛ (( وأحاديثُ الضحكِ مُتواترةٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ )) وفي الصَّحيحينِ عن ابْنِ مَسعودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال إنَّ آخِرَ أهلِ الجنةِ دُخولاً الجنةَ رجلٌ يَمشي على الصِّراطِ فَينكَبُّ مَرَّةً ويَمشي مرَّةً – وفيه – فَيقولُ اللهُ له : أَيُرضيكَ أنْ أُعْطِيَكَ مِن الجنَّةِ مِثلَ الدُّنيا ومِثلَها مَعها ؟ قال فيقولُ : أَتَهْزَأُ بِي وأنتَ رَبُّ العِزَّةِ ؟ فَضَحِكَ عبدُ اللهِ حتَّى بَانتْ نَواجِذُهُ ثم قال : ألا تَسألوني لِمَ ضَحكتُ : قالوا:لم ضَحكتَ ؟ قال لِضَحِكِ رسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قال لنَا رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ألا تَسألوني لِمَ ضَحكتُ ؟ قالوا لِمَ ضَحِكتَ ؟ قال : لِضَحِكَ الرَّبَّ تَباركَ وتَعالَى حِينَ قال : أَتهزَأُ بي وأنتَ رَبُّ العِزَّةِ ؟!
والأحاديثُ بذلكَ كثيرةٌ جِدًّا . وفيها الرَّدُّ على الجَهمِيَّةِ والمُعتزلَةِ . وقال نُفَاةُ الصِّفاتِ : إنَّ الضَّحِكَ خِفَّةُ رُوحٍ ولا يَليقُ باللهِ . وقالوا : التَّعَجُّبُ : استعظامٌ للمُتَعَجَّبِ مِنه . وهذا فَاسدٌ . فإنَّ (( قولَ القائلِ )) إنَّ الضَّحِكَ خِفَّةُ رُوحٍ ليسَ بصحيحٍ وإنْ كان ذلك قَد يُقارنُه . ثُمَّ قولُ القائلِ خِفَّةُ الرُّوحِ إنْ أرادَ به وَصْفاً مَذموماً فَهَذَا يكونُ لِمَا لا يَنبغي أنْ يُضحكَ مِنه ، وإلاَّ فَالضَّحِكُ في مَوضعِه المُناسِبِ له صِفةُ مَدحٍ وكمَالٍ . وإذا قُدِّرَ حَيَّانِ أحدُهما يَضحكُ مِمَّا يُضحكُ مِنه والآخَرُ لا يَضحكُ قَطُّ كانَ الأوَّلُ أكملَ مِن الثَّانِي . ولِهذا قال أبو رُزَيْقٍ العُقَيْلِيُّ : (( لنْ نَعدَمَ مِن رَبٍّ يَضحكُ خَيرًا )) فَجَعَلَ الأعرَابِيُّ العاقلُ بصحَّةِ فِطرتِه ضَحِكَهُ دَليلاً على إحسانِه وإنعَامِه فَدَلَّ على أنَّ هذا الوَصْفَ مَقرونٌ بالإحسانِ المحمودِ ، وأنَّه مِن صفاتِ الكمالِ . والشخصُ العَبوسُ الذي لا يَضحكُ قَطُّ هو مَذمومٌ بذلكَ وقدْ قِيلَ في اليومِ الشَّديدِ العَذابِ إِنَّه {يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} . وقدْ رُوِيَ أنَّ الملائكةَ قالتْ لاِدَمَ : حَيَّاكَ اللهُ وَبَيَّاكَ - أي أضحككَ . والإنسانُ حيوانٌ ناطِقٌ ضاحكٌ . وما يُميِّزُ الإنسانَ عن البَهِيمَةِ صِفةُ كَمالٍ فكما أنَّ النُّطقَ صفةُ كمالٍ فكذلك الضحكُ صفةُ كمالٍ ، فمَن يَتكلَّمُ أكملُ مِمَّن لا يَتكلَّمُ ، ومَن يضحكُ أكملُ مِمَّن لا يَضحكُ . وإذا كان الضَّحِكُ فِينَا مُستلزِماً لشيءٍ مِن النَّقْصِ فاللهُ مُنَزَّهٌ عن ذلك .
وذلك الأكثرُ مُخْتَصٌّ لا عَامٌّ فليسَ حَقيقةُ الضحكِ مُطلقا مَقرونةً بالنَّقصِ، كما أنَّ ذَواتَنَا وصِفاتِنَا مَقرونةٌ بالنَّقصِ ، وَوجُودَنَا مَقرونٌ بالنَّقصِ ولا يَلزُم أن لا يكونَ الرَّبُّ موجوداً وأنْ لا تَكونَ له ذَاتٌ . وأما قَولُه : التَّعجُّبُ استِعظامٌ لِلمُتَعَجَّبِ منه فَيقالُ : نَعَمْ . وقد يكونُ مَقروناً بِجَهلٍ بِسَببِ التَّعَجُّبِ وقد يكونُ لِمَا خَرجَ عن نَظائِرِهِ . واللهُ تعالى بكلِّ شيءٍ عليمٌ . فلا يجوزُ عليه أنْ لا يَعلمَ سببَ ما تَعجَّبَ منه . بل يَتعجَّبُ لِخُروجِهِ عن نَظائِرِهِ تَعظيماً له . واللهُ تعالى يُعظِّمُ ما هو عَظيمٌ . إما لِعظَمةِ سَببهِ ، أو لِعظمتِه فإنَّه وَصفَ بعضَ الخيرِ بأنه عظيمٌ ، ووصفَ بعضَ الشَّرِّ بأنه عظيمٌ . فقال تعالى {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} وقال : {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} وقال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً * وَإِذاً لآتَيْنَاهُمْ مِّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيماً} وقال: {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} وقال: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) ولهذا قال تعالى: {بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ} على قراءةِ الضَّمِّ فهنا هو عَجِبَ مِن كُفرهِم مع وُضوحِ الأدلَّةِ . وقال النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للذي آثَر هو وامرأتُه ضَيفَهُمَا (( لقد عَجِبَ اللهُ )) وفي لفظٍ في الصحيحِ (( لقد ضَحِكَ اللهُ الليلةَ مِن صُنْعِكُمَا البَارِحَةَ )) وقال (( إنَّ الرَّبَّ لَيعجبُ مِن عَبدِهِ إذا قال ربِّ اغفرْ لي فإنَّه لا يَغفرُ الذُّنوبَ إلا أنتَ ، يقولُ عَلِمَ عبدي أنَّه لا يَغفرُ الذُّنوبَ إلا أنَا )) وقال (( عَجِبَ رَبُّكَ مِن شَابٍّ ليستْ له صَبْوَةٌ )) وقال (( عَجِبَ رَبُّكَ مِن راعِي غَنمٍ على رأسِ شَظِيَّةٍ يُؤذِّنُ ويُقيمُ فيقولُ اللهُ : اُنظُروا إلى عَبدي أو كما قال ، ونحو ذلك)) ).

هيئة الإشراف

#7

17 Dec 2008

التنبيهات السنية للشيخ: عبد العزيز بن ناصر الرشيد رحمه الله

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (( وقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحاً بِتَوْبَةِ عَبِدِهِ المُؤِمِنِ التَّائِبِ مِنْ أَحَدِكُمْ بِرَاحِلَتِهِ )). مُتَّفَقٌ عليِه).(1)
( وقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( يَضْحَكُ اللهُ إِلى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُما الآخَرَ؛ كِلاهُما يَدْخُلُ الجَنَّةَ )). مُتَّقَقٌ عليهِ).(2)
( وقَوْلُهُ: صلى الله عليه وسلم (( عَجِبَ رَبُّنَا مِنْ قُنُوطِ عِبادِهِ وَقُرْبِ خَيْرِهِ، يَنْظُرُ إِلَيْكُمْ أَزلينَ قَنِطِينَ، فَيَظَلُّ يَضْحَكُ يَعْلَمُ أَنَّ فَرَجَكُمْ قَرِيبٌ)). حديثٌ حسنٌ ).(3)
).

الشرح:

قال الشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد (ت: 1408هـ): ((1) وقَولُهُ: (بِرَاحِلَتِهِ): الرَّاحلةُ مِنْ الإبلِ ما كان صالحًا لأنْ يُرحلَ.
وقَولُهُ: (لَلَّهُ أشَدُّ فَرَحًا): اللاَّمُ لامُ الابتداءِ والفرحُ تقدَّم كلامُ ابنِ القيِّمِ فيهِ، في هذا الحديثِ فوائدُ. منها إثباتُ الفرحِ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى-، كما يليقُ بجلالهِ وعظمَتِه، وهذه الفرحةُ منهُ فرحةُ إحسانٍ وبِرٍّ ولطفٍ، لا فرحةُ محتاجٍ إلى توبةِ عبدِه منتفعًا بها، فإنَّه -سُبْحَانَهُ- لا تنفَعُه الطَّاعةُ ولا تضرُّه المعصيةُ.
ثانيًا: أَنَّ فرحَه -سُبْحَانَهُ- بتفاضلٍ. ثالثًا: فيه فضلُ التوبةِ إلى اللهِ -سُبْحَانَهُ- وتعالى. رابعًا: أنه -سُبْحَانَهُ- يقبلُ توبَةَ عبدِهِ ويفرحُ بها إذا وقعتْ على الوجهِ المعتَبَرِ شرعًا، خامِسًا: فيه دليلٌ على أنَّ الإنسانَ إذا جَرى على لسانِهِ كلمةُ كفرٍ مِنْ شدَّةِ دهشٍ ونحوِ ذلكَ أو حَكى كُفرًا أنَّهُ لا يُكَفَّرُ بذلِكَ ولا يؤاخَذُ بهِ.
قالَ ابنُ القيِّمِ رحمهُ اللهُ: وفي الحديثِ مِنْ قواعدِ العلمِ "أنَّ اللَّفظَ الَّذي يجري على لسانِ العبدِ خطأً مِن فَرَحٍ شديدٍ أو غيظٍ شديدٍ ونحوِه لا يؤاخَذُ بهِ"، ولهذا لم يكنْ كافرًا بقَولِهِ: أنتَ عبدي وأنَا ربُّكَ.

(2) وقَولُهُ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((يَضْحَكُ اللهُ إِلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الآخَرُ كِلاَهُمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ)) مُتَّفَقٌ عليه، أيْ مِنْ حديثِ أبي هريرةَ، وتمامُه (يُقَاتِلُ هَذَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلُ ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ عَلَى الْقَاتِلِ فَيُسْتَشْهَدُ)). انتهى. وروى هذا الحديثَ أحمدُ ومالكٌ والنسائيُّ وابنُ ماجةَ وابنُ حبَّانَ ورواه البيهقيُّ في (الأسماءِ والصِّفاتِ).
في هذا الحديثِ فوائدُ:
أولاً: إثباتُ الضحكِ لله -سُبْحَانَهُ وتعالَى- كما يليقُ بجلالهِ وعظمتِه.
ثانيًا: فيه فضلُ الجهادِ في سبيلِ اللهِ، وعظمِ أجرِ المجاهِدِ، وقدْ تكاثرتِ الأدلةُ في الحثِّ على الجهادِ في سبيلِ اللهِ.
ثالثًا: فيه فضلُ القتلِ في سبيلِ اللهِ، وأنَّ المقتولَ في سبيلِ اللهِ يدخلُ الجنةَ قالَ ابنُ عبدِ البَرِّ: يستفادُ منْ الحديثِ أنَّ كلَّ مَنْ قُتِلَ في سبيلِ اللهِ يدخلُ الجنَّةَ.
رابعًا: فيه أنَّ القتلَ في سبيلِ اللهِ يكفِّرُ الذُّنوبَ.
خامساً: فيه أنَّ التوبةَ تأتي على سائرِ الذُّنوبِ حتى ذنبِ القتلِ.

(3) قَولُهُ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((عَجِبَ رَبُّنَا)) إلخ: هذا الحديثُ رواهُ أحمدُ، وابنُهُ عبدُ اللهِ في حديثٍ طويلٍ ولفظهُ ((ضَحِكَ رَبُّنَا مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ وَقُرْبِ خَيْرِهِ)) إلخ.
قَولُهُ: ((عَجِبَ)) العَجَبُ لغةً: استحسانُ الشَّيءِ ويكونُ لاستقباحِ الشَّيءِ.
قَولُهُ: ((مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ)): القنوطُ هوَ شدَّةُ اليأسِ.
قَولُهُ: ((وَقُرْبِ خَيْرِهِ)): أيّ تَغيِيرهِ الحالَ مْن حالِ شدةٍ إلى حالِ رخاءٍ.
قَولُهُ: ((أَزَلِينَ)): الأزلُ بالسكونِ: الشدّةُ والضِّيقُ، والأزِلُ على وزنِ كَتفٍ: هو الَّذي أصابهُ الأزلُ واشتدَّ بهِ الحالُ حتى كادَ يقنَطُ، وهذا الحديثُ كقَولِهِ –سُبْحَانَهُ وتعالى: (وَهُوَ الَّذي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ) والمعنى أنَّهُ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- يعجبُ مِنْ قنوطِ عبادهِ عندَ احتباسِ القطرِ عنهمْ، وقنوطِهمْ ويأْسِهمْ مِن الرَّحمةِ، وقد اقتربَ وقتُ فرجهِ ورحمتِهِ لعبادهِ بإنزالِ الغيثِ عليهمْ، وتغييرهِ لحالِهمْ وهم لا يَشعرونَ فعندَ تَناهي الكرْبِ يكونُ الفرجُ كما قيلَ: ((اشتدِّي أزمةُ تَنفرجِي)) وكما في الحديثِ: ((وَإِنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)) ففي هذا الحديثِ كغيرهِ مِن الأحاديثِ المتكاثرةِ جدًّا إثباتُ الضَّحكِ والعجبِ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- حقيقةً كما يليقُ بجلالهِ وعظمتِه، والأحاديثُ في إثباتِ الضَّحكِ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- متواترَةٌ، وفيه الردُّ على المعطِّلةِ من الجهميَّةِ والمعتزلةِ وغيرِهم الذينَ ينفونَ الضَّحكَ والعجبَ ويؤولونَ ذلكَ بتأويلاتٍ فاسدةٍ، وفيه إثباتُ النظرِ للهِ –سُبْحَانَهُ وتعالى- وكلُّ هذه مِن الصِّفاتِ الفعليَّةِ فنثْبتُها للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- حسبَ ما جاءت بذلكَ الأدلَّةُ المتكاثرَةُ، وليسَ في إثباتِ هذه الصِّفاتِ محذورٌ ألبتَّةَ، فإنه ضحكٌ ليسَ كمثلهِ شيءٌ، وعجبٌ ليسَ كمثلهِ شيءٌ، وحكمهُ حكمُ رضاهُ ومحبَّتُهُ وإرادتهُ وسمْعُهُ وبصرُهُ وسائرُ صفاتِه، فالبابُ واحدٌ لا تمثيلَ ولا تعطيلَ، فالقولُ في الصِّفاتِ كالقولِ في الذَّاتِ، فكما أنَّنا نعتقدُ أنَّ للهِ ذاتًا لا تشبهُ الذَّواتَ فالصِّفاتُ يُحذى فيها حذوَ الذَّاتِ، والصِّفاتِ حُكمُها واحدٌ، وبابُها واحدٌ، فإذا أَثبتْنا بعضًا ونفيْنَا البعضَ الآخرَ تناقضْنَا؛ لأنَّ الأدلَّةَ التي أثبتتْ تلك الصفةَ هي التي ثبتَ بها النوعُ الآخرُ مِن الصِّفاتِ، فإثباتُ بعضٍ ونفيُ بعضٍ تناقُضٌ.
قَولُهُ: ((حديثٌ حسنٌ)): الحسنُ اصطلاحًا: هو ما عُرِفَ مخرجهُ واشتهرتْ رجالُه، وشروطهُ شروطُ الصَّحيحِ، إلاَّ أنَّ الضَّبطَ يكونُ أقَلَّ وأخفَّ مِنَ الصَّحيحِ، وهذا هو الحسنُ لذاتِه، وأمَّا الحسنُ لغيرِه فهو ما اختلَّتْ فيه شروطُ الصَّحيحِ لكن انجَبَرَ بمجيئِه مِن طُرقٍ أخرَى، والحسنُ يشارِكُ الصَّحيحَ في الاحتجاجِ بهِ).