17 Aug 2022
الإيمان بما دل عليه حديث النزول
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وَمَا وَصَفَ الرَّسُولُ بِهِ رَبَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ مِن الأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ الَّتِي تلَقَّاهَا أَهْلُ الْمَعْرِفةِ بِالْقَبُولِ ، وَجَبَ الإِيمَانُ بِها كَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : ((يَنْزِلُ ربُّنا إِلَى سَمَاءِ الدُّنيا كُلَّ لَيْلَةٍ حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ ، فَِيَقُولَ ُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ ؟ مَنْ يَسْألُنِي فَأُعْطِِيَه ؟ منْ يَسْتَغفِرُني فَأَغْفِرَ لَهُ ؟)) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (مثلَ قولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يَنْزِلُ رَبُّنا إلى سَماءِ الدُّنْيا كُلَّ لَيْلَةٍ، حينَ يَبْقى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرِ، فَيَقولُ: مَنْ يَدْعوني فَأسْتَجيبَ لَهُ، مَنْ يَسْألُني فَأعْطِيهُ، مَنْ يَسْتغْفِرُني فَأغْفِرَ لَهُ)). متفق عليه(1) ).
الشرح:
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): ( (1) فصلٌ في أحاديثِ الصِّفاتِ
الحديثُ الأوَّلُ في إثْباتِ نزولِ اللهِ إلى السَّماءِ الدُّنْيا هذا
الحديثُ قَالَ بعضُ أهلِ العلمِ: إنَّهُ مِنَ الأحاديثِ المتواترةِ،
واتَّفقواعلى أنَّهُ مِنَ الأحاديثِ المشهورةِ المستفيضةِ عِنْدَ أهلِ
العلمِ بالسُّنَّةِ.
قولُهُ: ((ينزلُ ربنُّا إلى السَّماءِ
الدُّنْيا)): نزولُهُ تعالَى حقيقِيٌّ؛ لأنَّهُ كمَا مرَّ عليَنْا مِنْ
قبلُ: أنَّ كلَّ شيءٍ كانَ الضَّميرُ يعودُ فيهِ إلى اللهِ؛ فهو يُنْسَبُ
إليه حقيقةً.
فعَليْنَا أنْ نؤمنَ بهِ ونصدِّقَ ونقولَ: ينزلُ
رَبُّنَا إلى السَّماءِ الدُّنْيا، وهي أقربُ السَّماواتِ إلى الأرضِ،
والسَّماواتُ سبعٌ، وإنمَّا ينزلُ عزَّ وجلَّ في هذا الوقتِ مِنَ اللَّيلِ
للقُربِ مِنْ عبادهِ جلَّ وعلا؛ كَما يقربُ منهم عشيةَ عرفةَ؛ حيثُ يباهِي
بالواقفينَ الملائكةَ.
وقولُهُ: ((كلَّ ليلةٍ)): يشملُ جميعَ ليالي العامِ.
((حينَ يبقى ثُلثُ اللَّيلِ الآخِرِ)) واللَّيلُ
يبتدئُ مِنْ غروبِ الشَّمسِ اتِّفاقًا لكنْ حصلَ الخلافُ في انتهائِهِ هَلْ
يكونُ بطلوعِ الفجرِ أو بطلوعِ الشَّمسِ , والظَّاهرُ أنَّ الليلَ
الشَّرعيَّ ينتهِي بطلوعِ الفجرِ واللَّيلَ الفَلَكِيَّ ينتهِي بطلوعِ
الشَّمسِ.
وقولُهُ: ((فيقولُ: مَنْ يَدْعُوني)): ((مَنْ)):
استفهامٌ للتَّشْويقِ؛ كقولِهِ تعالَى: (هَل أَدُلُّكُم عَلَى تِجاَرَةٍ
تُنجِيكُم من عَذَابٍ أَلِيمٍ)) [الصَّفّ: 10].
و((يَدْعُوني))؛ أيْ: يقولُ: يا ربِّ!
وقولُهُ: ((فأسْتَجِيبَ له)): بالنَّصبِ؛ لأنَّها جوابُ الطَّلبِ.
((مَنْ يسألُني)): يقولُ: أسألُكَ الجنَّةَ، أو نحوَ ذلِكَ.
((مَنْ يستغفِرُنِي)): فيقولُ: اللَّهمَّ اغفرْ لي، أو: أستغفرُك اللَّهمَّ!
((فأغفرَ لَهُ)): والمغفرةُ سترُ الذَّنبِ والتَّجاوزِ عَنْهُ.
بهذا يتبيَّنُ لكلِّ إنسانٍ قرأَ هذا الحديثَ،
أنَّ المرادَ بالنُّزولِ هُنا نزولُ اللهِ نفسِه، ولا نحتاجُ أنْ نقولَ:
بذاتِه؛ ما دامَ الفعلُ أُضيفَ إليه؛ فَهُوَ لَهُ، لكنَّ بعضَ العلماءِ
قَالُوا: ينزلُ بذاتِه؛ لأنَّهم لجؤوا إلى ذلِكَ، واضطرُوا إليه؛ لأنَّ
هناك مَنْ حرَّفوا الحديثَ وقَالُُوا: الَّذِي ينزلُ أمرُ اللهِ! وقَالَ
آخرونَ: بلْ الَّذِي ينزلُ رحمةُ اللهِ! وقَالَ آخرونَ: بلْ الَّذِي ينزلُ
مَلَكٌ من ملائكةِ اللهِ!
وهذا باطلٌ؛ فإنَّ نزولَ أمرِ اللهِ دائَمًا
وأبدًا، ولا يختصُّ نزولهُ في الثُّلثِ الأخيرِ مِنَ اللَّيلِ؛ قَالَ اللهُ
تعالَى: (يُدَبّرُ الأَمرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الأَرضِ ثُمَّ يَعرُجُ
إِلَيهِ) [السَّجدة: 5]، وقَالَ: (وَإِلَيهِ يُرجَعُ الأَمرُ كُلُّهُ)
[هود: 123].
وأمَّا قولهُمُ: تنزلُ رحمةُ اللهِ إلى السَّماءِ
الدُّنْيا حينَ يبقى ثُلثُ اللَّيلِ الآخِرِ! فسبحانَ اللهِ! الرَّحمةُ
لا تنزلُ إلَّا في هذا الوقتِ!؟ قَالَ اللهُ تعالَى: (وَمَا بِكُم من
نِعمَةٍ فَمِنَ اللهِ) [النحل: 53]؛ كلُّ النَّعمِ مِنَ اللهِ، وهِيَ مِنْ
آثارِ رحمتِهِ، وهي تترَى كلَّ وقتٍ!!
ثمَّ نقولُ: أيُّ فائدةٍ لنا بنزولِ الرَّحمةِ إلى السَّماءِ الدُّنْيا؟!
ثُمَّ نقولُ لِمَنْ قَالَ: إنَّهُ ملَكٌ مِنْ
ملائكتِهِ: هَلْ مِنَ المعقولِ أنَّ الملَكَ مِنْ ملائكةِ اللهِ يقولُ: مَن
يدعوني فأستجيبَ له …إلخ؟!
فتبيَّنَ بهذا أنَّ هذِهِ الأقوالَ تحريفٌ باطلٌ يبطلُهُ الحديثُ.
وواللهِ؛ لَيْسوا أعلمَ باللهِ مِنْ رسولِ اللهِ،
ولَيْسُوا أنصحَ لعبادِ اللهِ، مِنْ رسولِ اللهِ ولَيْسُوا أفصحَ في
قولِهِم مِنْ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!!
يقولُونَ: كَيْفَ تقولونَ: إنَّ اللهَ ينزلُ؟!
إذا نزلَ؛ أيْنَ العُلُوُّ؟! وإذا نزَلَ؛ أينَ الاستواءُ على العرشِ؟! إذا
نَزَلَ؛ فالنُّزولُ حركةٌ وانتقَالٌ!! إذا نزلَ؛ فالنُّزولُ حادِثٌ،
والحوادثُ لا تقومُ إلاَّ بحادثٍ!!
فنقولُ: هذا جدالٌ بالباطلِ، ولَيْسَ بمانعٍ مِنَ
القولِ بحقيقةِ النُّزولِ!! هَلْ أَنتُم أعلمُ بما يستحقُّهُ اللهُ عزَّ
وجلَّ مِنْ أصحابِ الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟!
فأصحابُ الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ما قَالُوا هذه الاحتمالاتِ أبدًا؛ قَالُوا: سمِعْنا وآمَنَّا
وقبِلْنا وصَدَّقْنَا.
وأَنْتُم أيُّها الخالفونَ المخالفُونَ تأتونَ الآنَ وتجادلُونَ بالباطلِ وتقولُونَ: كَيْفَ؟! وكَيْفَ؟!
نحنُ نقولُ: ينزلُ، ولا نتكلَّمُ عَنْ استوائِه على العرشِ؛ هَلْ يخلُو منهِ العرشُ أو لا يخلُو؟!
أمَّا العُلُوّ؛ فنقولُ: ينزلُ، لكنَّه عالٍ عزَّ
وجلَّ على خلقِهِ؛ لأنَّهُ لَيْسَ معنَى النُّزولِ أنَّ السَّماءَ
تُقِلُّه، وأنَّ السَّماوات الأخرى تُظِلُّه؛ إذ أنَّهُ لا يحيطُ به شيءٌ
من مخلوقاتِهِ.
فنقولُ: هو ينزلُ حقيقةً مع علوِّهِ حقيقةً، ولَيْسَ كمثلِهِ شيءٌ.
أمَّا الاستواءُ على العرشِ فهو فعلٌ، لَيْسَ
مِنْ صفاتِ الذَّاتِ، ولَيْسَ لنا حقٌّ - فيما أرى- أنْ نتكلَّمَ هَلْ
يخلُو مِنْهُ العرشُ أو لا يخلُو، بلْ نسكُتُ كَما سكَتَ عَنْ ذلِكَ
الصَّحابةُ رَضِي اللهُ عَنْهُم.
وإذا كانَ علماءُ أهلِ السُّنَّةِ لهم في هذا ثلاثةُ أقوالٍ: قولٍ بأنَّهُ يخلُو، وقولٍ بأنَّهُ لا يخلُو، وقولٍ بالتَّوقُّفِ.
وشيخُ الإسلامِ رحمَهُ اللهُ في ((الرِّسالةِ
العَرْشِيَّةِ)) يقولُ: إنَّه لا يخلُو مِنْهُ العرشُ؛ لأنَّ أدلَّةَ
استوائِه على العرشِ مُحْكَمَةٌ، والحديثُ هذا مُحْكَمٌ، واللهُ عزَّ وجلَّ
لا تُقاسُ صفاتُهُ بصفاتِ الخلقِ؛ فيجبُ علينا أنْ نبقيَ نصوصَ الاستواءِ
على إحكامِها، ونصَّ النُّزولِ على إحكامِهِ، ونقولُ: هو مستوٍ على
عرشِهِ، نازلٌ إلى السَّماءِ الدُّنْيا، واللهُ أعلمُ بكيفيَّةِ ذلِكَ،
وعقولُنا أقصرُ وأدنَى وأحقرُ مِنْ أنْ تحيطَ باللهِ عزَّ وجلَّ.
القولُ الثَّاني: التوقُّفُ؛ يقولُونَ: لا نقولُ: يخلُو، ولا: لا يخلُو.
والثَّالثُ: أنَّهُ يخلُو مِنْهُ العرشُ.
وأوردَ المتأخِّرونَ الَّذِين عرفُوا أنَّ الأرضَ
كُرويَّةٌ وأنَّ الشَّمسَ تدورُ على الأرضِ إشكالاً؛ قَالُوا: كَيْفَ
ينزلُ في ثلثِ اللَّيلِ؟! وثُلثُ اللَّيلِ إذا انتقلَ عَنِ المملكةِ
العربيةِ السُّعوديةِ؛ ذهبَ إلى أوروبا وما قاربهَا؟! أفيكونُ نازلاً
دائمًا؟!
فنقولُ: آمِنْ أولاً بأنَّ اللهَ ينزلُ في هذا
الوقت المعيَّنِ، وإذا آمنْتَ؛ لَيْسَ عَلَيْكَ شيءٌ وراءَ ذلكَ، لا تقُلْ:
كَيْفَ؟! وكَيْفَ؟! بَلْ قُلْ: إذا كانَ ثُلثُ اللَّيلِ في السُّعوديةِ؛
فاللهُ نازلٌ، وإذا كانَ في أمْرِيكا ثُلثُ اللَّيلِ؛ يكونُ نزولُ اللهِ
أيضًا، وإذا طلعَ الفجرُ؛ انتهى وقتُ النُّزولِ في كلِّ مكانٍ بحسْبِهِ.
إذاً؛ موقفُنَا أنْ نقولَ: إنّا نؤمنُ بما وصلَ
إليْنَا عَنْ طريقِ محمَّدٍ رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ بأنَّ
اللهُ ينزلُ إلى السَّماءِ الدُّنْياحينَ يبقى الثُلثُ الآخِرُ مِنَ
اللَّيلِ، ويقولُ: مَنْ يدعوني فأستجيبَ له؟ مَنْ يسألني فأعطيَه؟ مَنْ
يستغفرنِي فأغفرَ له؟!
مِنْ فوائدِ هذا الحديثِ:
أولاً: إثباتُ العُلُوِّ للهِ مِنْ قولِهِ: ((ينزلُ)).
ثانياً: إثباتُ الأفعالِ الاختياريَّةِ الَّتي هي الصِّفاتُ الفعليَّةُ مِنْ قولِهِ: ((ينزل حيَن يبقى ثُلثُ اللَّيلِ الآخِرِ)).
ثالثًا: إثباتُ القولِ للهِ مِنْ قوله: ((يقولُ)).
رابعًا: إثباتُ الكَرَمِ للهِ عزَّ وجلَّ مِنْ قولِهِ: ((مَن يدعُوني... مَن يسألُني … مَن يستغفِرُني …)).
وفيه مِنَ النَّاحيةِ المَسْلَكِيَّة:
أنَّهُ ينبغِي للإنسانِ أنْ يغتنمَ هذا الجزءَ مِنَ اللَّيلِ، فيسألُ اللهَ عزَّ وجلَّ ويدعُوه ويستغفرُهُ.
ما دام الرَّبُّ سبحانَهُ يقولُ: ((من يدعوني …
من يستغفرني …))، و(مَن): للتَّشْويقِ؛ فينبغِي لنا أنْ نستغلَّ هذِهِ
الفرصةَ؛ لأنَّهُ لَيْسَ لكَ مِنَ العُمْرِ إلا ما أمضيْتَهُ في طاعةِ
اللهِ، وستمرُّ بِكَ الأيامُ؛ فإذا نزلَ بِكَ الموتُ؛ فكأنَّك وُلِدْتَ
تِلْكَ السَّاعةِ، وكلُّ ما مضَى لَيْسَ بشيءٍ).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ مُحمَّد خَليل هَرَّاس رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): ( ((فَمِنْ ذلك: مثلُ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يَنْزِلُ
رَبُّنا إِلى السَّماءِ الدُّنيا كُلَّ لَيْلَةٍ حينَ يَبْقَى ثُلُثُ
اللَّيْلِ الآخِرُ، فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجيبَ لَهُ؟ مَنْ
يَسْأَلُني فَأُعطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فأَغْفِرَ لَهُ؟)). متَّفَقٌ عليه (1)).
الشرح:
قال الشيخ محمد خليل هراس (ت: 1395هـ): ((1) قولُهُ: (فمِن ذلكَ: مثلُ قولِهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلمَ…) إلخ. الكلامُ على هذا الحديثِ مِن جهتَينِ:-
الأولى:
صحَّتُهُ مِن جهةِ النَّقلِ، وقَدْ ذكرَ المُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللُهُ
أَنَّهُ متَّفقٌ عليهِ. ويقولُ الذَّهبيُّ في كتابِهِ ( العُلُوُّ للعليِّ
الغفَّارِ ):
( إنَّ أحاديثَ النُّزولِ متواترةٌ، تفيدُ القطعَ )، وعلى هذا؛ فلا مجالَ لإِنكارٍ أو جُحُودٍ.
الثَّانيةُ: ما يفيدُهُ هذا الحديثُ، وهوَ إخبارُهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلمَ بنُزُولِ الرَّبِّ تباركَ وتعالى كلَّ ليلةٍ … إلخ.
ومعنى هذا أنَّ
النُُّّزولَ صفةٌ للهِ عزَّ وجلَّ على ما يليقُ بجلالِهِ وعظمتِهِ، فهوَ لا
يُمَاثلُ نزولَ الخلقِ؛ كمَا أنَّ استواءَهُ لا يُمَاثلُ استواءَ الخلقِ.
يقولُ شيخُ الإِسلامِ
رَحِمَهُ اللُهُ في تفسيرِ سورةِ الإِخلاصِ: (( فالرَّبُّ سبحانَهُ إذَا
وصفَهُ رسولُهُ بأنَّهُ ينـزلُ إلى سماءِ الدُّنيا كلَّ ليلةٍ، وأنَّهُ
يدنُو عشيَّةَ عرفةَ إلى الحُجَّاجِ، وأنَّهُ كلَّمَ مُوسى بالوادي الأيمنِ
في البُقعةِ المباركةِ مِن الشَّجرةِ، وأنَّهُ استوى إلى السَّماءِ وهيَ
دخانٌ، فقالَ لهَا وللأرضِ: ائْتِيَا طوعًا أو كرهًا؛ لمْ يلزمْ مِن ذلكَ
أنْ تكونَ هذهِ الأفعالُ مِن جنسِ ما نشاهدُهُ مِن نُزُولِ هذهِ الأعيانِ
المشهودةِ حتَّى يُقالَ: ذلكَ يستلزمُ تفريغَ مكانٍَ وشغلَ آخرَ )).
فأهلُ السُّنَّةِ
والجماعةِ يؤمنون بالنُّزُولِ صفةً حقيقيَّةً للهِ عزَّ وجلَّ، على
الكيفيَّةِ التَّي يشاءُ، فيُثبِتُون النُّـزولَ كمَا يُثبتون جميعَ
الصِّفاتِ التَّي ثبتَتْ في الكتابِ والسُّنَّةِ، ويقفون عندَ ذلكَ، فلا
يُكيِّفون ولا يمثِّلون ولا ينفُون ولا يعطِّلون، ويقولون: إنَّ الرَّسُولَ
أخبرنَا أَنَّهُ ينزلُ، ولكنَّهُ لمْ يخبرْنَا كيفَ ينزلُ، وقَدْ
عَلِمْنَا أَنَّهُ فعَّالٌ لِمَا يريدُ، وأنَّهُ على كلِّ شيءٍ قدْيرٌ.
ولهذا ترى خواصَّ
المؤمنينَ يتعرَّضون في هذا الوقتِ الجليلِ لألطافِ رَبِّهمْ ومواهبِهِ،
فيقومون لعبوديَّتِهِ؛ خاضعينَ خاشعينَ، داعينَ متضرِّعينَ، يرجونَ منهُ
حصولَ مطالبِهِمْ التَّي وعدَهُمْ بهَا على لسانِ رسولِهِ صَلَّى اللهُ
عليهِ وَسَلمَ).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ: صالح بن فوزان الفوزان
ثم ذكر الشيخُ أمثلةً مما ورد في السُّنَّةِ مِن صفاتِ الله عزَّ وجلَّ، فقال:
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (فَمِنْ ذلك: مثلُ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((
يَنْزِلُ رَبُّنا إِلى السَّماءِ الدُّنيا كُلَّ لَيْلَةٍ حينَ يَبْقَى
ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعوني فَأَسْتَجيبَ لَهُ؟
مَن يَسْأَلُني فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فأَغْفِرَ لَهُ؟ )). متَّفَقٌ عليه.(1)).
الشرح:
قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: ((1)قولُه:
(يَنْزِلُ رَبُّنَا) أي نزولاً يليقُ بجلالهِ، نؤمنُ به ولا نشبِّهُهُ
بنزولِ المخلوقِ؛ لأنَّه سبحانَه (لَيْسَ كَمِثْلهِ شَيْءٌ) (إِلَى سَمَاءِ
الدُّنْيَا) أي السَّماءِ الدُّنيا مِن إضافةِ الموصوفِ إلى صفتِه (حِينَ
يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ) برفعِ الآخرِ صفةً لثُلُثٍ، وفي هذا
تعيينٌ لوقتِ النُّزولِ الإلهيِّ. قولُه (فَأَسْتَجِيبَ له) بالنَّصْبِ
عَلى جوابِ الاستفهامِ، وكذا قولُه: (فَأُعْطِيَه) و(أَغْفِرَ لَهُ)
وقولُه: (فَأسْتَجِيبَ له) أي أُجِيبُ دعوتَه.
والشَّاهدُ مِن الحديثِ:
أنَّ فيه ثبوتَ النُّزولِ الإلهيِّ وهو مِن صفاتِ الأفعالِ، وفي الحديثِ
أيضاً إثباتُ العلوِّ للهِ تعالى. فإنَّ النُّزولَ يكونُ مِن العلوِّ، وفيه
الرَّدُّ عَلى مَن أوّل الحديثَ بأنَّ معناه نزولُ رحمتِه أو أمرِه؛ لأنَّ
الأصلَ الحقيقةُ وعدمُ الحذفِ. ولأنَّه قال: (مَنْ يَدْعُوني
فَأَسْتَجِيبَ لَهُ) فهل يُعقلُ أن تقولَ رحمتُه أو أمرُه هذا المقالَ.
وفي الحديثِ إثباتُ
الكَلامِ للهِ تعالى حيثُ جاء فيه (فَيَقُولُ إلخ) وفيه إثباتُ الإعطاءِ
والإجابةِ والمغفرةِ للهِ سبحانَه، وهي صفاتُ أفعالٍ. وقولُه: (مُتَّفقٌ
عليه) أي بين البخاريِّ ومسلمٍ).
الروضة الندية للشيخ: زيد بن عبد العزيز بن فياض رحمه الله
المتن:
قال أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (مثلُ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( يَنْزِلُ رَبُّنا إِلى السَّماءِ الدُّنيا كُلَّ لَيْلَةٍ حينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ ، فَيَقُولُ : مَن يَدْعوني فَأَسْتَجيبَ لَهُ ؟ مَن يَسْأَلُني فَأُعطِيَهُ ، مَن يستَغْفِرُنِي فأَغْفِرَ لَه ُ؟ )) . متَّفَقٌ عليه (1)).
الشرح:
قال الشيخ زيد بن عبد العزيز بن فياض (ت: 1416هـ): ((1)
هَذَا حَدِيثٌ عظيمُ الشَّأْنِ تَلقَّاهُ أَهْلُ السُّنَّةِ بالقبولِ .
وأفْرَدَهُ غيرُ واحدٍ بالتَّأليفِ ، وقَالَ عُثمانُ بنُ سعيدٍ
الدَّارِمِيُّ : إِنَّه أَغيظُ حَدِيثٍ للجَهْمِيَّةِ . وفيه إثباتُ نزولِه
تَعَالَى عَلَى ما يَليقُ به سُبْحَانَهُ والنزولُ صِفَةٌ فِعليَّةٌ مِن
أفعالِ اللهِ الاختِياريَّةِ التي يَفعلُها بمشِيئتِهِ وقُدْرتِه متى شَاءَ
وكَيْفَ شَاءَ .
(( ونزولُ الرَّبِّ
تبارك وتَعَالَى إلى سماءِ الدُّنْيا قد تَواترتِ الأخبارُ به عَن رسولِ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رواه عنه نحوُ ثَمَانِيةٍ وعِشرينَ
نَفْساً مِن الصَّحَابَةِ . وهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّه كَانَ يُبَلِّغُه
فِي كُلِّ مَوْطنٍ ومَجْمَعٍ فكَيْفَ تَكُونُ حَقيقتُه مُحالاً وباطِلاً
وهُوَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتكَلَّمُ بها دَائِماً ويُعيدُها
ويُبدِيها مرَّةً بعدَ مَرَّةٍ ولا يَقرِنُ باللَّفظِ ما يَدُلُّ عَلَى
مَجازِه بوَجْهٍ بل يأتي بما يَدُلُّ عَلَى إرادةِ الحقيقةِ كقَوْلِهِ :
يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيلَةٍ إلى سماءِ الدُّنْيا فيَقُولُ :
وَعِزَّتِي وَجَلاَلِي لاَ أَسْأَلُ عَن عِبَادِي غَيْرِي . وقَوْلِهِ :
مَنْ ذا الَّذِي يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ ، وقَوْلِه فيَكُونُ ذَلِكَ
حتى يَطلعَ الفجرُ ثُمَّ يَعْلو كُرْسِيَّهُ فهَذَا كُلُّه بَيانٌ لإرادةِ
الحقيقةِ ومَانِعٌ مِن حَمْلِه عَلَى المَجَاز ))ِ .
ولِمُسلِمٍ
عَن أبي هُرَيْرَةَ وأبي سعيدٍ الخُدريِّ أَنَّهما شَهِدَا عَلَى رسولِ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّه قَالَ : إِنَّ
اللهَ يُمْهِلُ حَتَّى إِذَا كَانَ ثُلُثُ اللَّيْلِ هَبَطَ إِلَى
السَّماءِ الدُّنْيا فَنَادَى : هَلْ مِن مُذْنِبٍ يَتُوبُ ؟ هَلْ مِن
مُسْتَغْفِرٍ ؟ هَلْ مِن سَائِلٍ ؟ وفِي المُسْنَدِ عَن أبي هُرَيْرَةَ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ
اللهَ يُمْهِلُ حَتَّى إذا ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيلِ الأَوَّلُ نَزَلَ إِلَى
سَمَاءِ الدُّنْيا فيَقُولُ : أَنَا الْمَلِكُ مَن ذا الَّذِي
يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ . وفِي بَعْضِ رواياتِ الحَدِيثِ حتى يَنْفَجِرَ الْفَجْرُ ، وفِي بَعْضِها حتى تَطْلعَ الشَّمسُ .
(( فهَذِهِ خمسةُ
ألفاظٍ تنفِي المَجَازَ : نِسْبَةُ النُّزولِ إليه سُبْحَانَهُ ، ونَسْبَةُ
القَوْلِ إليه وقَوْلُه :(( أَنَا الْمَلِكُ )) وقَوْله :((يَسْتغْفِرُني
)) وقَوْله :(( فَأَغْفِرَ له )) .
وقَالَ أبو عُمرَ بنُ
عبدِ البرِّ : هَذَا حَدِيثٌ ثَابتٌ مِن جِهةِ النَّقلِ صحيحُ الإسنادِ لا
يَختلِفُ أَهْلُ الحَدِيثِ فِي صِحَّتِه ، وهُوَ حَدِيثٌ منقُولٌ مِن طُرقٍ
سِوى هَذِهِ مِن أَخبارِ العُدولِ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وفيه دليلٌ عَلَى أَنَّ اللهَ عز وجل فِي السَّماءِ عَلَى
العرْشِ مِن فوقِ سبعِ سَمَاواتٍ كما قَالَ الجماعةُ ، وهُوَ حُجَّتُهم
عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِ : إِنَّ اللهَ فِي كُلِّ مكَانٍ ،
ولَيْسَ عَلَى العرْشِ ا.ه .
وفِي بَعْضِ رواياتِ هَذَا الحَدِيثِ : إِنَّ
اللهَ يُمهلُ حتى يَمضيَ شطرُ الليلِ الأَوَّلُ ثُمَّ يأمُرُ مُنادِياً
ينُادِي ويَقُولُ : هل مِن دَاعٍ يُسْتَجابُ لَهُ هَلْ مِن مُسْتَغْفِر
يُغْفَرُ له هَلْ مِن سَائِلٍ يُعْطَى . رواه النَّسائِيُّ وإسنادهُ ثِقاتٌ
. ولا مُنافاةَ بين هَذَا وبينَ قَوْلِه : يَنْزِلُ رَبُّنَا فيَقُولُ.
وهل يسوغُ أَنْ يُقَالَ : إِنَّ المنادِيَ يَقُولُ : أنَا الملِكُ ويَقُولُ
لا أسألُ عَن عِبادي غَيْرِي ويَقُولُ : مَن يَستغفِرُني فَأغفِرَ له ؟!
وأيُّ بُعْدٍ فِي أَنْ يأمُرَ مُنادياً يُنادي هل مِن سائلٍ فَيُستجابَ له .
ثُمَّ يَقُولُ هُوَ سُبْحَانَهُ : مَن يَسألُني فأستجيبَ له ؟ وهل هَذَا
ألا أَبْلغُ فِي الكرمِ والإحْسانِ أَنْ يأمرَ مُنادِيَه يَقُولُ ذَلِكَ
ثُمَّ يَقُولُ هُوَ سُبْحَانَهُ بنَفْسِه . وتَتَصادقُ الرِّواياتُ كُلُّها
عَن رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا نُصدِّقُ بَعْضَها
ونُكَذِّبُ ما هُوَ أصَحُّ منه .
قَوْلُه ((حين يَبْقَى
ثُلثُ الليلِ الآخِرُ )) برفعِ الآخِرِ لأَنَّه صِفَةُ الثَّالثِ . ولم
تخَتلفِ الرِّواياتُ عَن الزُّهْرِيِّ فِي تَعَيُّنِ الوقتِ . واختلفتِ
الرِّوَايَاتُ عَن أبي هُرَيْرَةَ وغيرِه . قَالَ التِّرْمِذِيُّ : روايةُ
أبي هُرَيْرَةَ أصحُّ الرِّوَايَاتِ فِي ذَلِكَ . ويُقَوِّي ذَلِكَ : أَنَّ
الرِّوَايَاتِ المُخالفةَ اخْتُلِفَ فِيهَا عَلَى رُواتِها . وسَلكَ
بَعْضُهم طَريقَ الجمْعِ . وذَلِكَ أَنَّ الرِّوَايَاتِ انْحصرتْ فِي سِتَّةِ أشياءَ :
( أوَّلُها ) هذه .
( ثَانِيها ) إذا مضى الثُّلثُ الأَوَّلُ .
( ثَالِثُها ) الثُّلثُ الأَوَّلُ أو النِّصفُ .
( رَابِعُها ) النِّصفُ .
( خامِسُها ) النِّصفُ أو الثُّلثُ الأخِيرُ .
( سَادِسُها ) الإطلاقُ .
فأما الرِّوَايَاتُ
المُطلقةُ فهِيَ محمولةٌ عَلَى المُقيَّدةِ . وأما التي بِأَوْ . فإِنْ
كَانَتْ ( أو ) للشَّكِّ فَالمجزومُ به مُقدَّمٌ عَلَى المشْكوكِ فيه .
وإِنْ كَانَتْ للتَّردُّدِ بين حَالينِ فُيجمَعُ بين تلك الرِّوَايَاتِ
بأَنَّ ذَلِكَ يقعُ بحسبِ اختلافِ الأحوالِ لِكَوْنِ أوقاتِ اللَّيلِ
تختلفُ فِي الزَّمَانِ وفِي الآفاقِ باختلافِ تَقدُّمِ دخولِ الليلِ عندَ
قومٍ ، وتأخُّرِه عند قومٍ. وقَالَ بعضُهم : يُحتملُ أَنْ يَكُونَ
النُّزولُ يقعُ فِي الثُّلثِ الأَوَّلِ والقَوْلُ يقعُ فِي النِّصفِ وفِي
الثُّلثِ الثَّاني . وقَالَ بَعضُهم : يُحملُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ يقعُ فِي
جميعِ الأوقاتِ التي وَردتْ بها الأخبارُ . ويُحملُ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُعلِمَ بأحدِ الأُمُورِ فِي وقتٍ
فَأعلَمهم به . ثُمَّ أُعلِمَ به فِي وقتٍ آخرَ فأعلَمهم به . فَنَقَلَ
الصَّحَابَةُ ذَلِكَ عنه واللهُ أعلمُ (( وهَذِهِ الألفاظُ لا تَعارُضَ
بينها بحمدِ اللهِ فإِنَّها قد اتَّفقتْ عَلَى دوامِ النُّزولِ الإلهِيِّ
إِلَى طلوعِ الفجْرِ. واتفقَتْ عَلَى حُصولِه فِي الشَّطرِ الثّانِي مِن
الليلِ . واختلفتْ فِي أوَّلِه عَلَى ثلاثةِ أوْجُهٍ :
( أحدها ) أَنَّه أوَّلُ الثُّلثِ الثَّانِي.
( والثَّانِي ) أَنَّه أوَّلُ الشَّطرِ الثَّانِي.
( والثَّالثُ ) أَنَّه أوَّلُ الثُّلثِ الأخِيرِ .
وإذا تَأمَّلْتَ هاتين الرِّوايتينِ لم تَجِدْ بينهما تَعارُضاً . بَقِيَتْ روايةُ : إذا مضى ثلثُ الليلِ الأَوَّلُ ، وهِيَ تَحتملُ ثلاثةَ أوْجُهٍ :
( أحدُها ) أَنْ لا تَكُونَ مَحفوظةً ، وتَكُونَ مِن قِبلِ حِفْظِ الرَّاوِي . فإِنَّ أكثرَ الأَحَادِيثِ عَلَى الثُّلثِ الأخيرِ .
( الثَّانِي )
أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ الثُّلثِ الأَوَّلِ والشَّطْرِ والثُّلثِ الأخيرِ
عَلَى حَسبِ اختلافِ بِلادِ الإسلامِ فِي ذَلِكَ ويَكُونُ النُّزولُ فِي
وقتٍ واحدٍ ، وهُوَ ثلثُ اللَّيْلِ الأخيرِ عندَ قَوْمٍ وَوَسطُه عندَ
آخَرِين وثلثُه الأَوَّلُ عندَ غَيْرِهم . فيصِحُّ نِسبتُه إِلَى الأوقاتِ
الثَّلاثَةِ وهُوَ حاصِلٌ فِي وقتٍ واحدٍ ، ولَمَّا كَانَتْ رُقْعةُ
الإسلامِ ما بين طَرَفَيِ المشرقِ والمغربِ مِن المعمورِ فِي الأرضِ كَانَ
التَّفاوتُ قَرِيباً مِن هَذَا القدْرِ .
( الثَّالِثُ )
أَنَّ للنُّزولِ الإلهِيِّ شَأْناً عَظيماً . لَيْسَ شَأْنُه كَشأْنِ
غَيرِه . فإِنَّ قدومَ مَلِكِ السَّمَاوَاتِ والأرضِ إِلَى هَذِهِ
الدُّنْيا التي تَلِينا . ولا ريْبَ أَنَّ للسَّمَاواتِ وَأملاَكِها عندَ
هُبوطِ الرَّبِّ تَعالَى ونزُولِه إِلَى سماءِ الدُّنْيا شَأْناً وَحالاً
وفِي بَعْضِ الآثارِ : إِنَّ السَّمَاوَاتِ تَأخذُها رَجفةٌ وَيَسجُدُ
أهْلُها جَمِيعاً . ومِن عوائدِ الملوكِ – ولله المثلُ الأعْلَى – أَنَّهم
إذا أرَادُوا القدومَ إِلَى بلدٍ أو مكَانٍ غيرِ مَكَانِهم المعْروفِ بهم
أَنْ يُقدِّمُوا بين يَديْ مُوافاتِهم إليه ما يَنبغِي تَقدِيمُه وهَذَا
مِن تمامِ مصالحِ مُلْكِهم . وهكذا شَأْنُ الرَّبِّ تَعالَى أَنْ يُقدِّمَ
بين يدَيْ ما يُريدُ فِعلَه مِن الأُمُورِ العِظامِ كِتابةَ ذَلِكَ وإعلامَ
ملائكَتِه به وإعلامَ رُسلِه . وإذا كَانَ اللهُ تَعالَى يَتقدَّمُ إِلَى
ملائكتِه ورُسُلِه بإعلامِهِم بما يُريدُ فِعْلَه مِن الأُمُورِ العِظامِ .
فلا يُنْكَرَ أَنْ يَتقدَّمَ إِلَى أَهْلِ سَمَاواتِه بِنزولِه ويَحْدثَ
للسَّماواتِ وللملائكَةِ مِن عَظَمةِ ذَلِكَ الأمْرَِ قَبْلَ وُقوعِه ما
يُناسبُ ذَلِكَ الأمْرَ وهكذا يفعلُ سُبْحَانَهُ إذا جاءَ يومَ القِيامَةِ
فَتَتناثرُ السَّمَاوَاتُ والملائكةُ قبلَ النُّزولِ . فَيُسَمَّى ذَلِكَ
نُزولاً لأَنَّه مِن مُقدِّماتِه ومُتَّصِلاً به كما أطلقَ سُبْحَانَهُ
عَلَى وقتِ الزَّلزلةِ والرَّجفةِ المُتَّصِلةِ بالسَّاعةِ أَنَّها يومُ
القِيامَةِ والسَّاعةُ . وذَلِكَ موجودٌ فِي الْقُرْآنِ فَمُقدماتُ
الشَّيءِ ومَبادِيه كثيراً ما يَدخُلُ فِي مُسَمَّى اسْمِه وهَذَا الوَجْهُ
أقوى الوُجوهِ .
وقَد اتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ اللهَ يَنزلُ ويجِيءُ ونحوِ ذَلِكَ عَلَى ما جاءتْ به النُّصُوصُ .
واخْتلفُوا : هل
يُقَالُ : يَنزلُ بذاتِه ، أو لا يُقَالُ ذَلِكَ ؟ قِيلَ : ينْزِلُ بذَاتِه
قاله الإِمَامُ أبو القاسمِ مِن الشَّافِعِيَّةِ ؛ وهُوَ قَوْلُ طَائفةٍ
مِن أَهْلِ الحَدِيثِ والسُّنَّةِ والصُّوفِيَّةِ والمُتَكلِّمينَ .
وَرُوِي فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ مرفوعٌ لا يَثبتُ رَفْعُه. وقالتْ طائفةٌ منهم
لا يَنزِلُ بِذاتِه ، وقالتْ فِرقةٌ أخرى : نَقولُ : يَنزِلُ ولا نَقُولُ
بذاتِه ولا بغيرِ ذاتِه بل نُطْلِقُ اللَّفظِ كما أطْلَقه رسولُ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
والقَوْلُ بإِنَّه
يَخْلو منه العَرْشُ قَوْلٌ ضَعيفٌ (( وفِي الجُملةِ فالقائِلُونَ بأَنَّه
يخلُو منه العرشُ طائفةٌ قَليلةٌ مِن أَهْلِ الحَدِيثِ ، وجُمهورُهم عَلَى
أَنَّه لا يَخلُو منه العرشُ ، وهُوَ المأثورُ عَن الأئمَّةِ المُعروفينَ
بالسُّنَّةِ . ولم يُنقلْ عَن أحدٍ منهم بإسنادٍ صحيحٍ ، ولا ضعيفٍ أَنَّ
العرْشَ يَخلو منه وكثيرٌ مِن أَهْلِ الحَدِيثِ يَتوقَّفُ عَنْ أَنْ
يُقَالَ يَخْلُو أو لا يَخلُو . . وأمَّا الجَزْمُ بخلُوِّ العرشِ فلم
يَبلغْنا إلا عَن طائفةٍ قليلةٍ منهم . والقَوْلُ الثَّالثُ وهُوَ
الصَّوابُ ، وهُوَ المأثورُ عَن سلفِ الأُمَّةِ وأئِمَّتِها أَنَّه لا
يزالُ فوقَ العرشِ ولا يخلُو العرشُ منه مَعَ دُنُوِّه ونُزولِه إِلَى
سماءِ الدُّنْيا ، ولا يَكُونُ العرشُ فَوقَه وكذَلِكَ يومَ القِيامَةِ .
كما جاءَ به الْكِتَابُ والسُّنَّةُ . ولَيْسَ نزولُهُ كنزولِ أجسامِ بني
آدَمَ مِن السَّطحِ إِلَى الأرضِ بحَيْثُ يَبقى السَّقفُ فَوقَهم ، بل
اللهُ مُنَزَّهٌ عَن ذَلِكَ .
(( قَوْلهُ
((فَأَسْتجِيبَ له )) بالنَّصبِ عَلَى جوابِ الاستفهامِ ، وبالرَّفعِ عَلَى
الاستئنافِ . وكذا قَوْلُهُ (( فَأُعْطِيَهُ )) و (( أَغْفِرَ )) له
وليسَتْ السُِّنُ فِي قَوْلِهِ (( فَأَسْتَجِيبَ له )) للطَّلبِ بل
أَسْتجِيبُ بمَعْنى أُجيبُ . قَالَ أبو الْوَفاءِ ابنُ عَقِيلٍ : قَد
نَدَبَ اللهُ إِلَى الدُّعاءِ وفِي ذَلِكَ مَعَانٍ ( أَحَدُها ) الوجودُ فإِنَّ مَن لَيْسَ بِمَوجودٍ لا يُدْعَى ( الثَّانِي ) الْغِنَى . فإِنَّ الفَقِيرَ لا يُدعى ( الثَّالِثُ ) السَّمْعُ فإِنَّ الأصَمَّ لا يُدْعَى .
( الرَّابِعُ ) الكرمُ فإِنَّ البخيلَ لا يُدْعَى . ( الخَامِسُ ) الرَّحمةُ فإِنَّ القاسِيَ لا يُدْعَى . ( السَّادِسُ )
القُدرةُ فإِنَّ العاجِزَ لا يُدْعَى ا.ه (( قَوْلُه مَنْ يَدْعُوني ))
إلخ لم تَختلفِ الرِّوَايَاتُ عَلَى الزُّهْرِيِّ فِي الاقتصارِ عَلَى
الثَّلاثةِ المذكورةِ وهِيَ الدُّعاءُ والسُّؤالُ والاستغفارُ .
والفرْقُ بين الثَّلاثةِ :
أَنَّ المطلوبَ إمَّا لِدفعِ المَضَارِّ ، أو جَلْبِ المَسَارِّ . وذَلِكَ
إمَّا دِينيٌّ ، وإِمَّا دُنيويٌّ . ففِي الاستغفارِ إشارةٌ إِلَى
الأَوَّلِ ، وفِي السُّؤالِ إشارةٌ إِلَى الثَّانِي ، وفِي الدُّعاءِ
إشَارةٌ إِلَى الثَّالثِ . وقَالَ الكَرْمَانِيُّ : يُحْمَلُ أَنْ يُقَالَ :
الدُّعاءُ ما لاَ طلبَ فيه نحوَ باللهِ ، والسُّؤالُ الطَّلبُ . وأَنْ
يُقَالَ : المقصودُ واحِدٌ وإِنْ اخْتَلفَ . انْتَهَى . وزاد سعيدٌ عَن أبي
هُرَيْرَةَ : وهل مِن تائبٍ فَأَتوبَ عَلَيْهِ . وزاد أبو جَعْفرٍ عنه .
مَنْ ذا الَّذِي يَسْتَرْزِقُنِي فَأَرْزُقَهُ مَنْ ذا الَّذِي
يَسْتَكْشِفُ الضُّرَّ فَأَكْشِفَ عنه. وزَادَ عطاءٌ مَوْلى أُمِّ
صُبَيَّةَ عنه أَلاَ سَقِيمٌ يَسْتَشْفِِي فَيُشْفَى . وَمَعانِيها
دَاخِلةٌ فيما تَقَدَّمَ . وزاد سعيدُ بنُ مَرْجَانَةَ : مَنْ ذا الَّذِي
يُقْرِضُ غَيْرَ عَدِيمٍ . ولا ظَلُومٍ . وفيه تَحْريضٌ عَلَى عملِ
الطَّاعةِ وإشارةٌ إِلَى جزيلِ الثَّوابِ عليها . وزادَ حَجَّاجُ بنُ أبي
مَنيعٍ عَن جَدِّه عَن الزُّهْرِيِّ سَندِ الدَّارَقُطْنِيِّ فِي آخرِ
الحَدِيثِ : حتى الفَجْرِ . وفِي روايةِ يحيى بنِ أبي كَثيرٍ عندَ مُسْلِمٍ
. حتى يَنْفَجِرَ الفَجْرُ . وفِي روايةِ مُحَمَّدِ بنِ عُمرَ بنِ
سَلَمَةَ : حتى يَطلعَ الفجرُ . وكذا اتَّفقَ مُعظمُ الرُّواةِ عَلَى
ذَلِكَ إلا أَنَّ فِي روايةِ نافعِ بنِ جُبيرٍ عَن أبي هُرَيْرَةَ عندَ
النَّسائِيِّ حتى تَرَجَّلُ الشَّمسُ . وهِيَ شَاذَّةٌ . وزادَ يُونسُ فِي
رِوايتِه عَن الزُّهْرِيِّ فِي آخرِه أيضاً : ولذا كَانُوا يُفضِّلونَ
صلاةَ آخرِ اللَّيْلِ عَلَى أوَّلِه . أَخْرَجَها الدَّارَقُطنيُّ أيضاً .
وله مِن روايةِ ابنِ سَمْعَانَ عَن الزُّهْرِيِّ ما يُشيرُ إِلَى أَنَّ
قائِلَ ذَلِكَ هُوَ الزُّهْرِيُّ . وفِي الحَدِيثِ مِن الفوائدِ : تفضيلُ
صلاةِ آخِرِ اللَّيْلِ عَلَى أوَّلِه ، وأَنَّ آخِرَ اللَّيْلِ أفضلُ
للدُّعاءِ والاستغفارِ يَشهدُ له قَوْلُه :{ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ }
وأَنَّ الدُّعَاءَ فِي
ذَلِكَ الوقتِ مُجابٌ . ولا يُعترضُ عَلَى ذَلِكَ بِتخلُّفِه عَن بَعْضِ
الدَّاعينَ لأَنَّ سببَ التَّخَلُّفِ وقوعُ الخللِ فِي شَرْطٍ مِن شُروطِ
الدُّعَاءِ كالاحترازِ فِي المَطْعمِ والمَشْربِ . أو لاستعجالِ الدَّاعِي ،
أو بأَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ بِإِثْمٍ أو قَطيعةِ رَحمٍ أو تَحصلُ
الإجَابةُ وَيتأخَّرُ وجودُ المطلوبِ لِمصْلحةِ العبدِ أو لأمْرٍ يُريدُه
اللهُ).
التنبيهات السنية للشيخ: عبد العزيز بن ناصر الرشيد رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): ( ((مثلُ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَنْزِلُ
رَبُّنا إِلى السَّماءِ الدُّنيا كُلَّ لَيْلَةٍ حينَ يَبْقَى ثُلُثُ
اللَّيْلِ الآخِرُ، فَيَقُولُ: مَن يَدْعوني فَأَسْتَجيبَ لَهُ؟ مَن
يَسْأَلُني فَأُعطِيَهُ، مَن يستَغْفِرُنِي فأَغْفِرَ لَهُ؟)). متَّفَقٌ عليه.(1)).
الشرح:
قال الشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد (ت: 1408هـ): ((1)
قَولُهُ: ((يَنْزِلُ رَبُّنَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا)): الحديثَ،
هذا الحديثُ رواه البخاريُّ ومسلمٌ وغيرُهما مِن حديثِ أبي هريرةَ.
هذا ممَّا تواترتْ فيه
الأدلَّةُ عن رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-، فرواه نحوٌ مِن
ثمانيةٍ وعشرينَ نَفْسًا مِن الصَّحابةِ عن النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ
وسلَّمَ- فينـزلُ -سُبْحَانَهُ- نزولاً يليقُ بجلالِه وعظمتِه، لا
نعطِّلُهُ ولا نشبِّهُهُ بنُزولِ خلقِه، ليسَ كمثلِه شيءٌ، فيجبُ الإيمانُ
بذلك إيمانًا خاليًا مِن التَّعطيلِ والتَّمثيلِ.
قَولُهُ: ((فَأَسْتَجِيبَ لَهُ)): بالنَّصبِ على جوابِ الاستفهامِ، وقيلَ: بالرَّفع ِعلى الاستئنافِ، وكذا مَا بعدَه، أفادَ هذا الحديثُ فوائدَ:
الأولى:
فيه إثباتُ نزولِ الرَّبِّ إلى السَّماءِ الدُّنْيَا كلَّ ليلةٍ كما يليقُ
بجلالِه وعظمَتِه، فنُثبِتُ النُّزولَ للهِ حقيقةً، وأمَّا كُنْهُ نزولِه
وكيفيَّتِه فلا يعلمُها إلا هو -سُبْحَانَهُ- كما قال مالكٌ: الاستواءُ
معلومٌ والكيفُ مجهولٌ، وكذلِكَ يُقالُ في النُّزولِ والإتيانِ والمجيءِ
وغيرِ ذلكَ مِن صفاتِه الفعليَّةِ والذاتيَّةِ.
ثانيًا:
فيه إثباتُ العلوِّ للهِ سُبْحَانَهُ، فإنَّ النُّزولَ والتَّنـزيلَ
والإنزالَ هو مجيءُ الشَّيءِ والإتيانِ بهِ مِن علوٍّ إلى أسْفَلَ، هذا هو
المفهومُ مِن لُغةِ العَرَبِ، قال تعالى: (وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ
مَاءً طَهُورًا).
ثالثًا:
فيه الرَّدُ على الجهميَّةِ والمعتزلَةِ المُنكرينَ لنُزولِه -سُبْحَانَهُ
وتعالَى- زعمًا منهم أنَّ هذا مِن مجازِ الحذفِ، والتَّقديرِ ينزلُ أمرُه
أو رحمتُه، وهذا باطلٌ مِن وجوهٍ عديدةٍ:
(الأوَّلِ): أنَّ الأصْلَ عدمُ الحذفِ.
(الثاني):
أنَّه قال مَن يدعوني فأستجيبَ له، فهلْ أمْرُه أو رحمتُه تقولُ مَن
يَدعوني، هذا ممَّا لا يُعْقَلُ أنْ يكونَ القائِلُ له غيرَ اللهِ، فلم
يكنْ إلاَّ نزولَه -سُبْحَانَهُ- بذاتِه، هذا هو صريحُ الأدلَّةِ
والمعقولِ.
(الثَّالثِ):
أنه حدَّدَ لنُزولِه ثُلثَ اللَّيلِ الآخِرَ، ولوْ كانَ أمرَه أو رحمَتَه
لم يحدِّدْ ذلكَ بثلثِ الليلِ، فإنَّ أمْرَه ورحمتَه ينـزلانِ في كلِّ
وقتٍ.
(الرَّابعِ): فيه إثباتُ أفعالِ اللهِ الاختياريَّةِ.
(الخامِسِ): فيه إثباتُ القولِ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالى-.
(السَّادسِ): فيه إثباتُ أنَّ كلامَه -سُبْحَانَهُ- بحرفٍ وصوتٍ، إذْ لا يُعْقَلُ النِّدَاءُ إلا مَا كان حرفًا وصوتًا.
قال الحافِظُ ابنُ
رَجَبٍ رحمه اللهُ: ومِن البِدَعِ الَّتي أنْكرَها أحمدُ في القرآنِ قولُ
مَن قال: إنَّ اللهَ تكلَّم بغيرِ صوتٍ، وأنكرَ هذا القولَ وبدَّعَ قائلَه،
وقدْ قيلَ: إنَّ الحارِثَ المحاسبيَّ إنَّما هَجَرَهُ أحمدُ لأجلِ ذلكَ.
انتهى.
(السَّابعِ): فيه إثباتُ أنَّ صِفَةَ الكلامِ صفةٌ فعليةٌ، كما أنَّها مِن الصِّفاتِ الذَّاتيَّةِ أيضًا.
(الثَّامِنِ):
فيه الرَّدُّ على الجهميَّةِ وأضرابِهِمْ القائلينَ: بأنَّه -سُبْحَانَهُ-
في كلِّ مكانٍ بذاتِه، فَلَوْ كانَ في كلِّ مكانٍ لم يقلْ ينـزلُ ربُّنَا.
(التَّاسِعِ): أن صفةَ النُّزولِ مِنْ الصِّفاتِ الفعليَّةِ، ودليلُه النَّقلُ كما تقدَّمَ.
(العاشرِ):
فيهِ الرَّدُّ على مَن زعمَ أنَّ الَّذي ينزلُ مَلَكٌ مِن الملائكةِ،
فإنَّ المَلَكَ لاَ يقولُ: مَن يسألُني فأعطيَه، فإنَّ هؤلاءِ الجهميَّةَ
المعطِّلةَ الَّذين ينفونَ نزولَه -سُبْحَانَهُ- وينفونَ كلامَه يقولونَ
زعمًا منهم إن هذا مجازٌ، والتَّقديرُ في قَولِهِ: فيقولُ أي فيأمُرُ
مَلَكًا يقولُ ذلك عنه، كما يُقالُ: نادى السُّلطانُ، أي أنه أَمَر
مُناديًا، ويقولونَ فيما ثبَتَ أنه قالَ ويقولُ وتكلَّم ويُكَلِّمُ ممَّا
لا حصْرَ له، كلُّ هذا مجازٌ، وقَولُهُم باطلٌ مِن وجوهٍ، منها: أنَّ
المنادِيَ عنه غيرُه، كمنادِي السُّلطانِ يقولُ: أمَرَ السُّلطانُ بكذا، لا
يقولُ إني آمُركم بكذا وأنهاكُم عَنْ كذا، واللهُ -سُبْحَانَهُ- يقولُ في
تكليمه موسى: (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَـهَ إِلا أَنَا) والحديثُ فيقولُ: ((مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ)) وإذا كانَ القائِلُ مَلَكًا قالَ -كَمَا في الصَّحِيحين-: ((إِذَا
أَحَبَّ اللهُ عَبْدًا نَادَى فِي السَّمَاءِ يَا جِبْرِيلُ إِنِّي
أُحِبُّ فُلاَنًا فَأَحِبَّهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ وَيُنَادِي فِي
السَّمَاءِ إنَّ اللهَ يُحِبُّ فُلاَنًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ
السَّمَاءِ وَيُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الأرْضِ)). فقالَ في ندائِه عن اللهِ إنَّ اللهَ يحبُّ فلانًا فأحبُّوه، وفي نداءِ الرَّبِّ يقولُ: مَن يدعوني فأستجيبَ لهُ ؟
(فإنْ قيلَ): فقد
رُوِيَ أنَّه يأمرُ مناديًا فينادِي، قيلَ هذا ليسَ في الصَّحيحِ، فإنْ
صحَّ أمكنَ الجمعُ بين الخبرينِ بأنْ يُناديَ هو ويأمرَ مناديًا ينادي،
أمَّا أنْ يُعارضَ بهذا النَّقلِ الصَّحيحِ المستفيضِ الَّذي اتَّفق أهلُ
العلمِ على صحَّتِه وتلقِّيهِ بالقبولِ مع أنَّه صريحٌ بأنَّ اللهَ هو
الَّذي يقولُ:((مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟)) فلا يجوزُ. انتهى.
مِن كلامِ شيخِ الإسلامِ تقيِّ الدِّينِ بتصرُّفٍ.
(الحاديَ عشرَ): فيه دليلٌ على امتدادِ هذا الوقتِ أيْ وقتِ النُّزولِ الإلهيِّ إلى إضاءَةِ الفجرِ.
(الثَّانيَ عشرَ): فيه الحثُّ على الدُّعاءِ والاستغفارِ في جميعِ الوقتِ المذكورِ.
(الثَّالثَ عشرَ): فيه دليلٌ على فضْلِ الدُّعاءِ.
(الرَّابعَ عشرَ):
فيه دليلٌ على نفعِ الدُّعاءِ، والرَّدِّ على جهلةِ المتصوِّفةِ القائلين
بأنَّ الدُّعاءَ لا ينفعُ، وهو قولٌ مردودٌ بأدلَّةِ الكتابِ والسُّنَّةِ
مع أدلَّةِ العقلِ، فإنَّ المُشركين كانوا يعرفونَ نفْعَ الدُّعاءِ، قال
تعالى: (فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) الآيةَ. فضلاً عن غيرِهِمْ.
(الخامسَ عشرَ): فيه أنَّ الدُّعاءَ مِن أفضلِ الطَّاعاتِ، فلا يجوزُ صرفُه لغيرِ اللهِ، ومَن دعا غيرَ اللهِ فهو مشركٌ كافرٌ.
(السَّادسَ عشرَ): الدُّعاءُ لغةً:
السُّؤالُ والطَّلبُ. سواءً كانَ بلسانِ الحالِ أو بلسانِ المقالِ،
فالدُّعاءُ ينقسمُ إلى قسمينِ: دعاءِ عبادةٍ ودعاءِ مسألةٍ. فالأوَّلُ: هو
سائرُ الطَّاعاتِ مِن تسبيحٍ وتكبيرٍِ وتهليلٍ وغيرِ ذلك؛ لأنَّ عامِلَ ذلك
هو سائلٌ في المعنى، والثاني: هو دعاءُ المسألَةِ، وهو طلبُ ما ينفعُ
الدَّاعي مِن جلبِ نفعٍ أو دفعِ ضرٍّ.
(السَّابعَ عشرَ): إنَّ الدعاءَ والاستغفارَ وغيرَهما مِن أنواعِ العباداتِ يختلفُ فضلُها بحسبِ الزَّمانِ والمكانِ.
(الثَّامنَ عشرَ): إنَّ ثلثَ اللَّيلِ الآخِرَ مظنَّةُ الإجابَةِ وإنَّ آخِرَ اللَّيلِ أفضلُ للدُّعاءِ والاستغفارِ، ويشهدُ لَهُ قَولُهُ تعالى: (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحَارِ)، وقال: (كَانُواْ قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ) وفيه أنَّ الدُّعاءَ في ذلكَ الوقتِ مجابٌ، وتخلُّفَ الإجابةِ عن بعضِ الدَّاعينَ قد يكونُ بسببِ إخلالٍ ببعضِ شروطِ الدُّعاءِ.
(التَّاسعَ عشرَ):
فيهِ تفضيلُ صلاةِ الوترِ آخرَ اللَّيلِ، لكنَّ ذلكَ في حقِّ مَنْ طمعَ
أنْْ يقومَ آخِرَ اللَّيلِ، وفيه تفضيلُ صلاةِ آخِرِ اللَّيلِ.
(العشرونَ): فيه تلطُّفه -سُبْحَانَهُ- بعبادِه ورحمتُه بهم وكونُه -سُبْحَانَهُ- يأمرهُمْ بدعائِه واستغفارِه.
قَولُهُ: (الحديثَ): أي
اقرأإِ الحديثَ على النَّصبِ، والمصنِّفُ رحمهُ اللهُ ذكرَ الشَّاهدَ مِن
هذا الحديثِ، ففيه إشارةٌ إلى أنَّهُ لا يَرى بأسًا باختصارِ الحديثِ، وقد
صرَّحَ علماءُ الفقهِ بجوازِه بشروطٍ ذكرَها علماءُ الفنِّ في كُتبِهمْ.
قَولُهُ: (متَّفقٌ عليه): أي رواه البخاريُّ ومسلمٌ، وهذا مِن حديثِ أبي هريرةَ وأنسٍ رضي اللهُ عنهما، وفي روايةٍ لمسلمٍ: ((لَلَّهُ
أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ
أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضٍ فَلاَةٍ فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ
وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأَيِسَ مِنْهَا، فَأَتَى شَجَرَةً
فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا، قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ فَبَيْنَمَا هُوَ
كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةٌ عِنْدَهُ، فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا
ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا
رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ)). انتهى.
قالَ ابنُ القيِّمِ
رحمهُ اللهُ: الفرحُ لذَّةٌ تقعُ في القلبِ بإدراكِ المحبوبِ ونيلِ
المُشْتَهى، فيتولَّدُ مِن إدراكِه حالةٌ تُسمَّى الفرحَ والسرورَ، قال:
والفرحُ صفةُ كمالٍ، ولهذا يوصفُ -سُبْحَانَهُ- بأعلى أنواعِه وأكمَلِهَا،
كَفَرَحِه -سُبْحَانَهُ- بتوبةِ عبدِه، إلى أن قالَ: والفرحُ بالشَّيءِ
فوقَ الرِّضَا به، فإنَّ الرِّضا طمأنينةٌ وسكونٌ وانشراحٌ، والفرحُ لذَّةٌ
وبهجةٌ وسرورٌ، فكلُّ فرحٍ راضٍ، وليسَ كلُّ راضٍ فرحًا، انتهى. (مدارجُ) ).