11 Nov 2008
السنة تفسر القرآن وتبينه ووجوب الإيمان بما صح من أحاديث الصفات
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (ثم سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم
تُفَسِّرُ
القُرْآنَ ، وَتُبَيِّنُهُ ، وَتدُلُّ عَلَيْهِ وَتُعَبِّرُ عَنْهُ ،
وَمَا وَصَفَ الرَّسُولُ بِهِ رَبَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ مِن الأَحَادِيثِ
الصِّحَاحِ الَّتِي تلَقَّاهَا أَهْلُ الْمَعْرِفةِ بِالْقَبُولِ ، وَجَبَ
الإِيمَانُ بِها كَذَلِكَ).
التنبيهات اللطيفة فيما احتوت عليه الواسطية من المباحث المنيفة لابن سعدي رحمه الله
قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): ((فالسُّنة
تُفَسِّرُ القرآنَ وتُبَيِّنُهُ، وتدُلُّ عليه وتُعَبِّرُ عنه، وما وصفَ
الرسولُ صلى الله عليه وسلم به ربَّه عزّ وجلّ من الأحاديث الصِّحاح التي
تلقّاها أهلُ المعرفةِ بالقبول، وجب الإيمانُ بها كذلك)
أي إيماناً خالياً من
التعطيل والتحريف ومن التكييف والتمثيل، بل إثبات لها على الوجه اللائق
بعظمة الرّب. وحُكم السُّنة حكم القرآن في ثبوت العلم واليقين والاعتقاد
والعمل، فإن السُّنة توضح القرآن وتبين مجمله وتقيد مطلقه. قال الله تعالى:
(وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) أي السُّنة، وقال تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ) وذلك مثل قوله صلى الله عليه وسلم ((ينزِلُ
ربُّنا إِلى السَّماءِ الدُّنيا حينَ يبْقى ثُلُثُ الليلِ الآخرِ فيقولُ
مَنْ يدْعوني فأستجيب له؟ مَنْ يسألُني فأُعطيه؟ مَن يستغْفِرني فأغفِرَ
له؟) متفق عليه. فهذا الحديث قد استفاض
في الصحاح والسُّنن والمسانيد، واتفق على تلقّيه بالقبول والتصديق بين أهل
السُّنة والجماعة، بل بين جميع المسلمين الذين لم تغيرهم البدع، عرفوا به
عظيم رحمة ربهم وسِعة جوده واعتنائه بعباده وتعرُّضه لحوائجهم الدينية
والدنيوية، وأن نزوله حقيقة كيف يشاء فيثبتون النزول كما يثبتون جميع
الصفات التي ثبتت في الكتاب والسُّنة، ويقفون عند ذلك، فلا يكيِّفون ولا
يمثِّلون ولا ينفون ولا يعطِّلون، ويقولون إن الرسول أخبرنا أنه ينزل ولم
يخبرنا كيف ينزل، وقد علمنا أنه فعال لما يريد وعلى كل شيء قدير، ولهذا كان
خواص المؤمنين يتعرضون في هذا الوقت الجليل لألطاف ربهم ومواهبه فيقومون
بعبوديته خاضعين خاشعين داعين متضرعين، يرجون منه حصول مطالبهم التي وعدهم
إياها على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فيعلمون أن وعده حق ويخشون أن
تُرد أدعيتهم بذنوبهم ومعاصيهم، فيجمعون بين الخوف والرجاء ويعترفون بكمال
نعمة الله عليهم فتمتلئ قلوبهم من التعظيم والإيمان لربهم).
تعليقات ابن باز على شرح
السعدي على الواسطية
قال الشيخ عبد العزيز بن عبد الله ابن باز (ت: 1420هـ): (الاستدلال على إثبات أسماء الله وصفاته من السُّنة
(فصل) ثم في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم([1])؛
فالسُّنة تُفَسِّرُ القرآنَ وتُبَيِّنُهُ وتدُلُّ عليه وتُعَبِّرُ عنه،
وما وصفَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم به ربَّه عزّ وجلّ من الأحاديث
الصِّحاح التي تلقّاها أهلُ المعرفةِ بالقبول، وجب الإيمانُ بها كذلك، فمن ذلك:
([1])
السنة هي الوحي الثاني، والأصل الثاني من أصول الإسلام، وهي توافق وتفسِّر
ما جاء في القرآن، من أسماء الله وصفاته، وتثبتها على حقيقتها، وعلى ما
يليق بجلال الله وعظمته، فقد جاء فيها من الصفات كثير كالنزول، والضحك،
والقدم، والفرح، وغير ذلك مما جاءت به، مما يجب أن يُقرَّ ويُثبت ويُعتقد
حقيقة معناه على الوجه اللائق بالله تعالى، شأن جميع الصفات" ا هـ).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (فصلٌ في سُنَّةِ رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(1)
((فَالسُّنَّةُ تُفَسِّرُ القُرْآنَ وَتُبَيِّنُهُ وَتَدُلُّ عَلَيْهِ وَتُعَبِّرُ عَنْهُ)) (2).
((وَمَا وَصَفَ الرَّسُولُ بِهِ رَبَّه عَزَّ
وَجَلَّ مِن الأَحَادِيثِ الصِّحاحِ الَّتي تَلَقَّاها أَهْلُ المَعْرِفَةِ
بِالقَبُولِ؛ وَجَبَ الإيمانُ بِهَا كَذَلِكَ))(3)).
الشرح:
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): ( (1) السُّنَّة
في اللُّغةِ: الطَّرِيقةُ، ومِنْهُ قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((لَتَرْكَبُنَّ سنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُم))؛ يعني طريقَتَهُم.
وفي الاصطلاحِ: هيَ قولُ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفعلُهُ وإقرارُهُ.
فتشملُ الواجبَ والمستحبَّ.
والسُّنَّةُ هيَ المصدرُ الثَّاني في التشريعِ.
ومعنَى قولِنَا: ((المصدرُ الثَّاني)): يعني: في
العددِ، ولَيْسَ في التَّرتيبِ؛ فإنَّ منزلِتَهَا إذا صحَّتْ عنِ النَّبيِّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كمنزلةِ القرآنِ.
لكنَّ النَّاظرَ في القرآنِ يحتاجُ إلى شيءٍ
واحدٍ، وهو صحَّةُ الدَّلالةِ على الحكْمِ، والنَّاظرُ في السُّنَّةِ
يحتاجُ إلى شيئينِ: الأوّلِ: صحةُ نِسْبَتِها إلى الرَّسولِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والثَّاني: صحَّةُ دلالَتِها على الحكمِ؛ فكانَ
المستدلُّ بالسُّنَّةِ يعاني مِنَ الجهدِ أكثرَ مما يعانِيه المستدلُّ
بالقرآنِ؛ لأنَّ القرآنَ قَدْ كُفِينا سندُهُ؛ فسندُهُ متواترٌ، لَيْسَ فيه
ما يوجبُ الشَّكَّ؛ بخلافِ ما يُنْسَبُ إلى الرَّسولِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فإذا صحَّتِ السُّنَّةُ عَنْ رسولِ الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّم؛ كانَتْ بمنزلةِ القرآنِ تماماً في تصديقِ الخبرِ والعملِ بالحكمِ:
كَمَا قَالَ تعالَى: (وَأَنزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ) [النساء: 113].
وقَالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: ((لاَ أَلْفَيَنَّ أَحَدَكُم مُتَّكِئاً عَلَى أَرِيكَتِهِ؛
يَأْتِيهِ الأَمْرُ مِنْ أَمْرِي؛ يَقولُ: لاَ نَدْرِي! مَا وَجَدْنَا فِي
كِتَابِ اللهِ؛ اتَّبَعْناهُ، أَلَا وَإِنِّي أُوتِيتُ الكِتَابَ
وَمِثْلَهُ مَعَهُ)).
وَلِهَذَا كانَ القولُ الصَّحيحُ أنَّ القرآنَ
يُنسخُ بالسُّنَّةِ إذا صحَّتْ عنِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وأنَّ ذلِكَ جائزٌ عقلاً وشرعاً، ولكنْ لَيْسَ له مثالٌ
مستقيمٌ.
(2) قولُهُ: ((تفسِّرُ القرآنَ))؛ يعني: توضِّحُ المعنَى المرادَ منه: كما في
تفسيرِ قولِهِ تعالَى: (لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)
[يونس: 26]؛ حيثُ فسَّرَها النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بأنَّها النَّظرُ إلى وجهِ اللهِ عزَّ وجلَّ.
وكَمَا فسَّرَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قولَهُ تعالَى: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن
قُوَّةٍ) [الأنفال: 60]، فقَالَ: ((أَلَا إِنَّ القُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلَا
إِنَّ القُوَّةَ الرَّمْيُ)).
و((تبيِّنُه))؛ يعني: تُبَيِّنُ المجمَلَ مِنْهُ؛
حيثُ إنَّ في القرآنِ آياتٍ مجملةً، لكنَّ السُّنَّةَ بَيَّنتْها
ووضَّحَتْها؛ مثلَ:
قولِهِ تعالَى: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) [البقرة: 43]: أمرَ اللهُ بإقامتِها، وبيَّنتِ السُّنَّةُ كفيَّتَها.
وقولِهِ سبحانهَ: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيلِ) [الإسراء: 78].
(لِدُلُوكِ
الشَّمسِ)؛ يعني: مِنْ دلوكِ الشَّمسِ إلى غسقِ اللَّيلِ؛ أيْ: غايةِ
ظلمَتِهِ، وهو نصفُهُ؛ لأنَّ أشدَّ ما يكونُ في ظلمةِ اللَّيلِ نصفُهُ.
فظاهرُ الآيةِ أنَّ هذا وقتٌ واحدٌ، ولكنَّ السُّنَّةَ فصَّلتْ هذا المجمَلَ:
فللظُّهرِ: مِنْ دلوكِ الشَّمسِ إلى أنْ يصيرَ ظِلُّ كلِّ شيءٍ مثلَهُ.
وللعصرِ: مِنْ ذلِكَ إلى اصفرارِ الشَّمسِ في الاختيارِ، ثُمَّ غروبِها في الضَّرورةِ.
وللمغربِ: مِنْ غروبِ الشَّمسِ إلى مغيبِ الشَّفقِ الأحمرِ.
وللعشاءِ: مِنْ مغيبِ الشَّفقِ الأحمرِ إلى نصفِ
اللَّيلِ، ولَيْسَ هناك وقتُ ضرورةٍ للعشاءِ، وَلِهَذَا لو طَهُرَتِ
الحائضُ في منتصفِ اللَّيلِ الأخيرِ؛ لم يجبْ عليها صلاةُ العشاءِ ولا
صلاةُ المغربِ؛ لأنَّ صلاةَ العشاءِ تنتهي بانتصافِ اللَّيلِ، ولم يأتِ في
السُّنَّةِ دليلٌ على أنَّ وقتَ صلاةِ العشاءِ يمتدُّ إلى طلوعِ الفجرِ.
وللفجرِ: مِنْ طلوعِ الفجرِ إلى طلوعِ الشَّمسِ.
وَلِهَذَا قَالَ في نفسِ الآيةِ: (لِدُلُوكِ
الشَّمسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيلِ)، ثم فَصَلَ وقتَ الفجرِ، فقَالَ:
(وَقُرْءَانَ الفَجْرِ) [الإسراء: 78]؛ لأنَّ وقْتَ الفَجْرِ بينَهُ وبينَ
الأوقاتِ الأخرى فاصلٌ مِنْ قَبلهِ ومِنْ بعدِهِ؛ فنصفُ اللَّيلِ الثَّاني
قَبْلَهُ، ونصفُ النَّهارِ الأوَّلِ بعدَهُ.
هذا مِنْ بيانِ السُّنَّةِ حيث بيَّنت الأوقاتَ.
كذلِكَ: (وَءَاتُوا الزَّكَاةَ) [البقرة: 43]؛ بيّنَتِ السُّنَّةُ الأنصبةَ والأموالَ الزَّكَويَّةَ.
و((تدلُّ عليهِ)): هذِهِ كلمةٌ تعمُّ التَّفسيرَ والتَّبيينَ والتَّعبيرَ؛ فالسُّنَّةُ تفسِّرُ القرآنَ وتبيِّنُ القرآنَ.
و((تعبِّرُ عنه))؛ يعني: تأتي بمعانٍ جديدةٍ أو بأحكامٍ جديدةٍ لَيْسَتْ في القرآنِ.
وهذا كثيرٌ؛ فإنَّ كثيراً مِنَ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ استقلَّتْ بها السُّنَّةُ، ولم يأتِ بها القرآنُ.
لكنْ دلَّ على أنَّ لها حكمَ ما جاءَ في القرآنِ
مثلَ قولِهِ تعالَى: (مَن يُطِعِ الرَّسولَ فَقَد أَطَاعَ اللهَ) [النساء:
80]، وقوله: (وَمَا ءاَتَاكُمُ الرَّسولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُم عَنهُ
فَانتَهُوا) [الحشر:7]، وقوله: (وَمَن يَعصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَد ضَلَّ
ضَلَالاً مُّبِينًا) [الأحزاب: 36].
أمَّا الحُكْمُ المعَيَّنُ؛ فالسُّنَّةُ
استقلَّتْ بأحكامٍ كثيرةٍ عَنِ القرآنِ، ومِنْ ذلِكَ ما سيأتينا في أوَّلِ
حديثٍ ذكرَهُ المؤلِّفُ في هذا الفصلِ: ((يَنْزِلُ رَبُّنَا إلى السَّماءِ
الدُّنْيا حِينَ يَبْقَى ثُلثُ اللَّيلِ الآخِرِ …))؛ فإنَّ هذا لَيْسَ في
القرآنِ.
إذاً؛ السُّنَّةُ مقامُها مع القرآنِ على هذهِ الأنواعِ الأربعةِ: تفسيرِ مُشْكَلٍ، وتَبْيِينِ مجملٍ، ودلالةٍ عليه، وتعبيرٍ عنه.
(3) هذه قاعدةٌ مهمةٌ ساقها المؤلِّفُ رحِمَهُ اللهُ:
قولُهُ: ((وما)): هذِهِ شرطيَّةٌ. وفعلُ الشَّرطِ: ((وَصَفَ)).
((وجَبَ الإيمَانُ بِهَا)): هذا جوابُ الشَّرطِ.
فما وصفَ الرَّسولُ به ربَّهُ، وكذلِكَ ما سمَّى
بِهِ ربَّهِ؛ لأنَّ هناك أسماءً مما سمَّى به الرَّسولُ ربَّهِ لم تكنْ
موجودةً في القرآنِ؛ مثلَ (الشَّافي)؛ قَالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَاشْفِ أَنْتَ الشَّافِي، لاَ شِفَاءَ إِلَّا
شِفَاؤُكَ)).
((الرَّبُّ)): لم يأتِ في القرآنِ بدونِ إضافةٍ
لكنْ في السُّنَّةِ قَالَ الرَّسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((أمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ)).
وقَالَ في السِّواكِ: ((مَطْهَرَةٌ لِلفَمِّ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ)).
وظاهرُ كلامِ المؤلِّفِ أنَّهُ يُشترطُ لقبولهِا شرطانِ:
الأوَّلُ: أنْ تكونَ الأحاديثُ صحيحةً.
الثَّاني: أنْ يكونَ أهلُ المعرفةِ يعني
بالأحاديثِ تلقَّوها بالقبولِ، ولكنْ لَيْسَ هذا هو المرادُ، بَلْ مرادُ
الشَّيخِ - رحمَهُ اللهُ- أنَّ الأحاديثَ الصِّحاحَ تلقَّاها أهلُ المعرفةِ
بالقبولِ فتكونُ الصِّفةُ هذه صفةً كاشفةً لا صفةً مقيِّدةً.
فقولُهُ: ((الَّتي تلقَّاهَا)): هذا بيانٌ لحالِ
الأحاديثِ الصَّحيحةِ أيْ أنَّ أهلَ المعرفةِ تلقَّوها بالقبولِ لأنَّهُ
مِنَ المستحيلِ أنْ تكونَ الأحاديثُ صحيحةً، ثُمَّ يرفضُها أهلُ المعرفةِ،
بَلْ سيقبلونَها.
صحيحٌ أنَّ هناكَ أحاديثَ ظاهرُها الصِّحَّةُ،
ولكنْ قَدْ تكونُ معلولةً بعلَّةٍ؛ كانقلابٍ على الرَّاوِي ونحوِه، وهذِهِ
لا تُعَدُّ مِنَ الأحاديثِ الصَّحيحةِ.
قَالَ: ((وَجَبَ الإيمَانُ بها)): لقولِهِ
تعالَى: (يَأَيُّهَا الَّذِين ءَامَنُوا ءَامِنُوا باللهِ وَرَسُولِهِ)
[النساء: 136]، وقولُهُ: (يَأيُّهَا الَّذِين ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسولَ) [النساء: 59]، وقولُهُ تعالَى: (وَيَومَ
يُنَادِيهِم فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبتُمُ المُرسَلِينَ فَعَمِيَت عَلَيِهِمُ
الأَنبَاءُ يَومَئِذٍ فَهُم لاَ يَتَسَاءَلُونَ) [القصص: 65 – 66] …
والنُّصوصُ في هذا كثيرةٌ معلومةٌ.
واعلَمْ أنَّ موقفَ أهلِ الأهواءِ والبدعِ تجاهَ
الأحاديثِ المخالفةِ لأهوائِهم يدورُ على أمرَيْنِ: إمَّا التَّكذيبُ،
وإمَّا التَّحريفُ.
فإنْ كانَ يمكنُهُم تكذيبُهُ؛ كذَّبوهُ؛ كقولهِم في القاعدةِ الباطلةِ: أخبارُ الآحادِ لا تُقبلُ في العقيدةِ!!
وقَدْ ردَّ ابنُ القيِّمِ رحمَهُ اللهُ هذه القاعدةَ وأبطلَهَا بأدِلَّةٍ كثيرةٍ في آخرِ ((مختصَرِ الصَّواعقِ)).
وإنْ كانَ لا يمكنُهُم تكذيبُهُ؛ حرَّفُوه؛ كما حرَّفوا نصوصَ القرآنِ.
أمَّا أهلُ السُّنَّةِ؛ فقبِلوا كلَّ ما صحَّ عنِ
النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الأمورِ العلميةِ والأمورِ
العمليةِ؛ لقيامِ الدَّليلِ على وجوبِ قبولِ ذلكَ.
وقولُهُ: ((كَذَلِك))؛ يعني: كَما يجبُ الإيمَانُ بما في القرآنِ؛ مِنْ غيرِ تحريفٍ، ولا تعطيلٍ، ولا تكييفٍ، ولا تمثيلٍ).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ مُحمَّد خَليل هَرَّاس رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): ((فصلٌ:
ثُمَّ في سنَّةِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فالسُّنَّةُ تُفَسِّرُ القُرْآنَ، وتُبَيِّنُهُ، وتَدُلُّ عَلَيْهِ،
وتُعَبِّرُ عَنْهُ، ومَا وَصَفَ الرَّسُولُ بهِ رَبَّهُ عَزَّ وجَلَّ مِنَ
الأحاديِثِ الصِّحَاحِ الَّتي تَلَقَّاها أَهْلُ المَعْرِفَةِ بالقَبُولِ؛
وَجَبَ الإِيمانُ بِها كَذلكَ ) (1)).
الشرح:
قال الشيخ محمد خليل هراس (ت: 1395هـ): ((1)
قولُهُ: (( ثمَّ في سُنَّةِ رسولِ اللهِ )). عطفٌ على قولِهِ فيمَا
تقدَّمَ: (( وقَدْ دخلَ في هذهِِ الجُملةِ ما وصفَ اللهُ بهِ نفسَهُ في
سورةِ الإِخلاصِ … )) إلخ؛ يعني: ودخلَ فيهَا ما وصفَ بهِ الرَّسُولُ
صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلمَ ربَّهُ فيمَا وردتْ بهِ السُّنَّةُ الصَّحيحةُ.
والسُّنَّةُ هيَ الأصلُ الثَّانِي الذي يجبُ الرُّجوعُ إليهِ، والتَّعويلُ عليهِ بعدَ كتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ قالَ تعالى:
{ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الكِتَابَ والحِكْمَةَ }، والمرادُ بالحكمةِ: السُّنَّةُ.
وقالَ: { وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ }.
وقالَ آمرًا لنساءِ نبيِّهِ: { وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى في بُيُوِتكُنَّ مِن آياتِ اللهِ والحِكْمَةِ }.
وقالَ سبحانَهُ: { وَمَا آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانْتَهُوا }.
وقالَ صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليهِ وآلهِ: (( أَلاَ إِنِّي أُوتِيتُ القُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ )).
وحُكمُ السُّنَّةِ حكمُ
القرآنِ في ثبوتِ العلمِ واليقينِ والاعتقادِ والعملِ؛ فإنَّ السُّنَّةَ
توضيحٌ للقرآنِ، وبيانٌ للمرادِ منهُ: تفصِّلُ مُجملَهُ، وتقيِّدُ مطلقَهُ،
وتخصِّصُ عمومَهُ؛ كمَا قالَ تعالى: { وأَنْزَلْنَا إِليكَ الِذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ للنَا سِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ }.
وأهلُ البدعِ والأهواءِ بإزاءِ السُّنَّةِ الصَّحيحةِ فريقانِ:
1 –
فريقٌ لا يتورَّعُ عن رَدِّهَا وإنكارِهَا إذَا وردتْ بما يُخَالفُ
مذهبَهُ؛ بِدَعوى أَنَّهُا أحاديثُ آحادٍ لا تُفيدُ إلاَّ الظنَّ، والواجبُ
في بابِ الاعتقادِ هوَ اليقينُ، وهؤلاءِ هُمُ المُعتزِلَةُ والفلاسِفَةُ.
2 –وفريقٌ
يثبتُهَا ويعتقدُ بصحَّةِ النَّقلِ، ولكِنَّهُ يشتغلُ بتأويلِهَا؛ كمَا
يشتغلُ بتأويلِ آياتِ الكتابِ، حتَّى يُخرِجَهَا عن معانِيهَا الظَّاهرةِ
إلى ما يريدُهُ مِن معانٍ بالإِلحادِ والتَّحريفِ، وهؤلاءِ هُمْ متأخِّرُوا
الأشعريَّةِ، وأكثرُهُمْ توسُّعًا في هذا البابِ الغزَاليُّ والرَّازيُّ.
قولُهُ: (( ومَا وَصَفَ
الرَّسُولُ بهِ … )) إلخ. يعني: أَنَّهُ كمَا وجبَ الإِيمانُ بكلِّ ما
وصفَ اللهُ بهِ نفسَهُ في كتابِهِ مِن غيرِ تحريفٍ ولا تعطيلٍ ولا تكييفٍ
ولا تمثيلٍ؛ كذلكَ يجبُ الإِيمانُ بكلِّ ما وصفَهُ بهِ أعلمُ الخلقِ
بربِّهِ وبما يجبُ لهُ، وهوَ رسولُهُ الصادقُ المصدوقُ صلواتُ اللهِِ
وسلامُهُ عليهِ وآلهِ.
قولُهُ: (( كذلكَ ))؛
أيْ: إيمانًا مِثلُ ذلكَ الإِيمانِ، خاليًا مِن التَّحريفِ والتَّعطيلِ،
ومِن التَّكييفِ والتَّمثيلِ، بلْ إثباتٌ لهَا على الوجهِ اللائقِ بعظمةِ
الرَّبِّ جلَّ شأنُهُ).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ: صالح بن فوزان الفوزان
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (في
سُنَّةِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَالسُّنَّةُ
تُفَسِّرُ القُرْآنَ وَتُبَيِّنُهُ وَتَدُلُّ عَلَيْهِ وَتُعَبِّرُ عَنْهُ.(1)
وَمَا
وَصَفَ الرَّسُولُ بِهِ رَبَّه عَزَّ وَجَلَّ مِن الأَحَادِيثِ الصِّحاحِ
الَّتي تَلَقَّاها أَهْلُ المَعْرِفَةِ بِالقَبُولِ؛ وَجَبَ الإيمانُ بِهَا
كَذَلِكَ.(2)).
الشرح:
قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: ((1)قولُه:
(ثُمَّ في سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ) هذا عَطْفٌ
عَلى قولِه فيما سَبق: (وَقَدْ دَخَلَ في هَذهِ الْجُمْلَةِ مَا وَصَفَ
اللهُ به نَفْسَه في سُورةِ الإخْلاصِ … إلخ) أي ودخل فيها ما وصف به
الرَّسُولُ صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ رَبَّه فيما وردت به السُّنَّةُ
الصَّحيحةُ؛ لأنَّ السُّنَّةَ هي الأصلُ الثَّاني الذي يجبُ الرُّجُوعُ
إليه بعدكتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ، قال اللهُ تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فيِ شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلى اللهِ والرَّسول) الآية (59) مِن سورةِ النِّساء
ـ والرَّدُّ إلى اللهِ هو الرُّجُوعُ إلى كتابِه، والرَّدُّ إلى رسولِ
اللهِ صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ بعد وفاتِه هو الرُّجُوعُ إلى سُنَّتِه.
والسُّنَّةُ لغةً: الطَّريقةُ، واصطلاحًا: هي ما ورَد عَن رسولِ اللهِ صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ مِن قولٍ أو فعلٍ أو تقريرٍ.
مكانةُ السُّنَّةِ
قال: (فالسُّنَّةُ
تُفَسِّرُ القُرْآنَ) أي تبيِّنُ معانيَه ومقاصدَه ـ فإنَّ النبيَّ صَلى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ يبيِّنُ للنَّاسِ ما أُنزل إليه. قال اللهُ تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِليْكَ الذِّكْرَ لِتُبِّينَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) الآيةَ (44) مِن سورةِ النَّحْلِ.
والسُّنَّةُ أيضا
(تُبيِّن القُرْآنَ) أي توضِّحُ مجملَه كالصَّلاة والصَّومِ والحجِّ
والزَّكاةِ وغالبِ الأحكامِ التي تأتي مجملةً في القرآنِ وتبيِّنها
السُّنَّةُ النَّبويَّةُ.
والسُّنَّةُ أيضا:
(تَدُلُّ عَلى القُرْآنِ وتُعبِّرُ عَنْه) أي تدُلُّ عَلى ما دلَّ عليه
القرآنُ وتعبِّرُ عما عبَّر عنه القرآنُ، فتكونُ موافقةً للقرآنِ، فيكونُ
الحكم ممَّا دلَّ عليه الكتابُ والسُّنَّةُ كأسماءِ اللهِ وصفاتِه.
(2) قولُه:
(وَمَا وصَفَ إلخ) مبتدأٌ خبرُه قولُه: (وَجَبَ الْإيمَانُ بها كَذَلِكَ)
أي كما يجبُ الإيمانُ بما وصف اللهُ به نفسَه في القرآنِ الكريمِ؛ لأنَّ
النَّبيَّ صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ كما وصفه رَبُّه عزَّ وجلَّ بقولِه (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى) فالسُّنَّةُ التي نطَق بها الرَّسُولُ صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ وَحْيٌ مِن اللهِ، كما قال تعالى: (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) فالكتابُ هو القرآنُ، والحكمةُ هي السُّنَّةُ. فيجبُ الإيمانُ بما ورد في السُّنَّةِ، لاسِيَّما في بابِ الاعتقادِ، قال تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَاْنتَهُوا).
لكنْ لابدّ في قَبُولِ
الحديثِ والإيمانِ به مِن ثبوتِه عَن النبيِّ صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ،
ولهذا قال الشيخُ رحمه اللهُ: (مِنَ الأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ) والصِّحاحُ
جمعُ صحيحٍ ـ والحديثُ الصَّحيحُ هو: ما نقلَه راوٍ عَدْلٌ تَامُّ
الضَّبْطِ عَن مثلِه مِن غيرِ شُذوذٍ ولا علّةٍ ـ فهو ما اجتمع فيه خمسةُ شروطٍ:
1- عَدالةُ الرُّواةِ.
2- ضَبطُهم.
3- اتِّصالُ السَّندِ.
4- سلامتُه مِن العلّةِ.
5- سلامتُه مِن الشُّذوذِ.
وقولُه: (تَلقَّاها
أهلُ المعرفةِ) أي قَبِلَها وأخذ بها أهلُ العلمِ بالحديثِ، فلا عبرةَ
بغيرِهم).
الروضة الندية للشيخ: زيد بن عبد العزيز بن فياض رحمه الله
المتن:
قال أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (فُصَّل في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فالسنة تُفَسِّر القرآن وتبينه وتدل عليه وتعبر عنه ، وما وصف به الرسول ربه من الأحاديث الصحاح التى تَلقَّاها أهل المعرفة بالقبول وحب الإيمان بها كذلك).
الشرح:
قال الشيخ زيد بن عبد العزيز بن فياض (ت: 1416هـ): (ثَبَتَ فِي السُّنَنِ عَن المِقدامِ بنِ مَعدِي كَرِبَ رضي اللهُ عنه قَالَ: قَالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَلاَ وإِنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ . ألا يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانَ مُتَّكِئاً عَلَى أَريكَتِهِ يَقُولُ : عليكمْ بهَذَا الْقُرْآنِ فَمَا وَجَدْتُمْ فيه مِن حَلالٍ فأَحِلُّوهُ ومَا وَجَدْتُمْ فيه مِن حَرامٍ فَحَرِّمُوهُ . قَالَ التِّرمذِيُّ : حَدِيثٌ حسنٌ .
وقَالَ الأوْزاعِيُّ عَن حَسَّانَ بنِ عَطِيَّةَ : كَانَ جبريلُ يَنزلُ
بالْقُرْآن والسُّنَّةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ويُعلِّمُه إيَّاها كما يُعلِّمُه الْقُرْآنَ . وَكَما وُصِفَ اللهُ
بالصِّفاتِ العُلَى فِي الْقُرْآنِ كذَلِكَ جاءتِ السُّنَّةُ طاَفحِةً
بذَلِكَ . وهِيَ موافِقةٌ للقُرْآنِ . لا تخُالِفُه أصْلاً ، وأَهْلُ
السُّنَّةِ يُؤمنونَ بذَلِكَ كُلِّه .
وأما أَهْلُ البِدعِ
فقد خَالفُوا فِي ذَلِكَ وَرَدُّوا نُصوصَ السُّنَّةِ وقَالُوا : لا نَقبلُ
أخبارَ الآخادِ فِي المسائلِ الاعتِقاديَّةِ . ومنهم مَن رَدَّها
بالتَّأْويلاتِ المُتعَسِّفةِ . وأَهْلُ السُّنَّةِ يُؤمنونَ بما جاء فِي
الْكِتَابِ والسُّنَّةِ جميعاً .
(( فهَذِهِ
الأَحَادِيثُ تُقرِّرُ نصوصَ الْقُرْآنِ وَتكشِفُ مَعانِيهَا كَشفاً
مُفصَّلاً وتُقرِّبُ الْمُرَادَ وتَدفعُ عنه الاحتِمالاتِ وتُفسِّرُ
المجُملَ منه وتُبيِّنُه وتُوضِّحُه لِتقومَ حُجَّةُ اللهِ به ويُعلمَ
أَنَّ الرَّسُول َ بَيَّنَ ما أُنْزِلَ إليه مِن ربِّه وَأَنَّه بَلَّغ
ألفَاظَهُ ومَعانِيه بَلاغاً مُبيناً حَصَلَ به الْعِلْمُ اليقينُ ، بلاغاً
أقامَ به الحُجَّةَ وقَطَعَ المَعْذِرةَ وَأوْجَبَ الْعِلْمَ وبيَّنَهُ
أحْسنَ البَيانِ وَأوضَحَهُ . ولهَذَا كَانَ أئمَّةُ السَّلَفِ وأتْباعُهم
يَذكُورنَ الآْيَاتِ فِي هَذَا البابِ ثُمَّ يُتْبعونها بالأَحَادِيثِ
المُوافِقةِ لها . كما فَعَلَ البُخارِيُّ ، ومَن قَبلَه ومَن بَعدَهُ مِن
المصَنِّفِينَ فِي السُّنَّةِ)) .
(( ونحن نقُولُ قَولاً
كُلِّياً نُشْهِدُ اللهَ تَعَالَى عَلَيْهِ وملائكَتَه إِنَّه لَيْسَ فِي
حَدِيثِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يُخالفُ
الْقُرْآنَ، ولا ما يخُالفُ صَريحَ العقلِ بل كلامُه بَيانٌ لِلْقُرْآنِ
وتفسيرٌ له وتَفصيلٌ لما أجْملَهُ . وكُلُّ حَدِيثٍ رَدَّه مَن رَدَّ
الحَدِيثَ لزَعْمِه أَنَّه يخُالفُ الْقُرْآنَ فهُوَ موافِقٌ لِلْقُرْآنِ
مُطابقٌ له ، وغايَتُه أَنْ يَكُونَ زائِداً عَلَى ما فِي الْقُرْآنِ ،
وهَذَا الَّذِي أَمَرَ رسولُ اللهِ بقَوْلِه ونهى عَن رَدِّه بقَوْلِه :
لاَ أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئاً عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ
الأَمْرُ مِن أَمْرِي فيَقُولُ لا أَدْرِي ! مَا وَجَدْنَاهُ فِي كِتَابِ
اللهِ اتَّبَعْنَاهُ . فهَذَا الَّذِي وَقعَ مِن وضْعِ قاعدةٍ باطِلةٍ له
لرَدِّ الأَحَادِيثِ بها بِقولِهم فِي كُلِّ حَدِيثٍ زائدٍ عَلَى ما فِي
الْقُرْآنِ : هَذَا زيادةٌ عَلَى النَّصِّ فيَكُونُ نَسْخاً والْقُرْآنُ لا
يُنسخُ بالسُّنَّةِ .
فهَذَا بِعينِه الذي
حَذَّرَ منه رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ
ونَهاهم عنه وأخبَرَهم أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَوْحى إليه الْكِتَابَ
ومِثلَهُ مَعَهُ . فَمَن رَدَّ السُّنَّةَ الصَّحيحةَ بغيرِ سُنَّةٍ
تَكُونُ مُقاومِةً لها مُتأخِّرةً عنها نَاسِخةً لها فقد رَدَّ عَلَى رسولِ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَدَّ وَحْيَ اللهِ .
والمقصودُ أَنَّ
أئمَّةَ الإسلامِ جَميعَهم عَلَى هَذِهِ الطَّريقةِ:الأخْذِ بحَدِيثِ رسولِ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا صَحَّ ولم يَأتِ بعدَه حَدِيثٌ
آخرُ يَنسخُه : ولا يُعارِضُونه بالْقُرْآنِ ولا بالإجْماعِ ويَعْلمونَ
أَنَّ هَذِهِ المُعارضةَ مِن أبطلِ الباطلِ )) .
قَوْلهُ: مِن
الأَحَادِيثِ الصِّحاحِ – أي أَنَّه يجبُ الإيمانُ بما صَحَّ مِن
الأَحَادِيثِ أو اتَّفقَ السَّلَفُ عَلَى قَبولِه . فأما ما فِي إسنادِه
مقَالٌ واختلفَ العُلماءُ فِي قَبولِه وتأويلِه فإِنَّه لا يُتعرَّضُ له
بتقريرٍ بل يُروى فِي الجُملةِ وتُبَيَّنُ حالُهُ).
التنبيهات السنية للشيخ: عبد العزيز بن ناصر الرشيد رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (( فصلٌ في سنَّةِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالسُّنَّةُ تُفَسِّرُ القُرْآنَ.(1)
وتُبَيِّنُهُ، وتَدُلُّ عَلَيْهِ، وتُعَبِّرُ عَنْهُ.(2).
ومَا
وَصَفَ الرَّسُولُ بهِ رَبَّهُ عَزَّ وجَلَّ مِنَ الأحاديِثِ الصِّحَاحِ
الَّتي تَلَقَّاها أَهْلُ المَعْرِفَةِ بالقَبُولِ؛ وَجَبَ الإِيمانُ بِها
كَذلكَ).(3)).
الشرح:
قال الشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد (ت: 1408هـ): ((1) (الفصلُ): لغةً الحاجزُ بين الشـَّيئينِ، واصطلاحًا:
هو اسمٌ لجملةٍ مِن العلمِ تحتَه فروعٌ ومسائلُ غالبًا، لمـَّا ذكرَ
لمؤلِّفُ أدلَّةَ الكتابِ أتبعها بأدلَّـةِ السُّنَّةِ، جريًا على عادةِ
السَّلفِ الصَّالحِ رحمهم اللهُ وأتباعِهِم، فإنَّهم كانوا يذكرونَ الآياتِ
في البابِ ثمَّ يُتبعُونها بالأحاديثِ الموافِقةِ لها، كما فعلَ البخاريُّ
ومَن قبلَه ومَن بعدَه مِن المصنِّفين في السُّنَّة يَحتَجُّونَ على
أحاديثِ النُّزولِ والرَّؤيةِ والتَّكلُّمِ والوجهِ واليدينِ والإتيانِ
ونحوِ ذلك بما في القرآنِ، ويُثبتونَ بذلك اتَّفاقَ دلالةِ القرآنِ
والسُّنَّةِ عليها، وأنَّهما من مشكاةٍ واحدةٍ، ولا ينكرُ ذلك مَن له أدنى
معرفةٍ وإيمانٍ، فإنَّ السُّنَّةَ كالكتابِ في إفادةِ العلمِ واليقينِ، وفي
وجوبِ القبولِ واعتقادِ ما تضمَّنته، خلافًا لما عليه أهلُ البدعِ الَّذين
قالوا: لا يُحتَجُّ بكلامِ رسولِ الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- على
شيءٍ من الصِّفاتِ، وقالوا في تلك الأدلَّةِ: إنَّها ظواهرُ لفظيَّةٌ لا
تفيدُ اليقينَ، وزعموا أنَّ الَّذي يفيدُ اليقينَ هو نُحاتةُ أفكارِهم
وسفالةُ أذهانهِم، وهذا إبطالٌ لدينِ الإسلامِ رأسًا.
قَولُهُ: (سُنَّةِ رسولِ اللهِ): السُّنَّةُ لغةً: الطَّريقةُ، وعُرفًا:
هي أقوالُ النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- وأفعالُه وتقريراتُهُ،
وتُطَلقُ السُّنَّةُ تارةً على ما يُقابلُ القرآنَ، كما هنا وكما في حديثِ:
((يَؤُمُّ القَّوْمَ أَقْرَؤهُمْ لِكِتَابِ اللهِ، فَإنْ كَانُوا فيِ القِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ))،
وتُطلقُ تارةً على ما يُقابِلُ الفرضَ وغيرَه من الأحكامِ الخمسةِ، وربما
لا يُرادُ بها إلا ما يُقابلُ الفروضَ كفروضِ الوضوءِ وسُننِه، وتُطلقُ
تارةً على ما يُقابلُ البدعةَ، فيُقالُ أهلُ السُّنَّةِ والبدعةِ.
قَولُهُ: (فالسُّنَّةُ تفسِّرُ القرآنَ): أي تُبيِّنُه وتوضِّحُه، والتَّفسيرُ في الأصلِ هو الكشفُ والإيضاحُ، وفي الاصطلاحِ: توضيحُ معنى الآيةِ وشأنِهَا والسَّببِ الَّذي أُنزلتْ فيه بلفظٍ يدلُّ عليه دلالةً ظاهرةً. انتهى. مِن التَّعريفاتِ.
فتفسيرُ اللفظِ تَبيينُ معناهُ وتوضيحُه، ويكونُ بذكرِ لفظٍ أوضحَ من المفسَّرِ، ويكونُ أيضًا بذكْرِ ضِدِّ الشَّيءِ كما قيل:
والضِّدُّ يُظهرُ حسنَهُ الضِّدُّ وَبِضِّدِها تتبيَّنُ الأشياءُ
فإنَّ النَّبيَّ -صلَّى
اللهُ عليهِ وسلَّمَ- بيَّن لأصحابِه القرآنَ، لفظَه ومعناه، فَبَلَّغهم
معانيَه كما بلَّغَهم ألفاظَه، ولا يحصلُ البيانُ والبلاغُ المقصودُ إلا
بذلك، كما قال -سُبْحَانَهُ- وتعالى: (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ).
وأيضًا فإنَّ اللهَ
أنزلَ على نبيِّهِ الحكمةَ كما أنزلَ القرآنَ، والحكمةُ هي: السُّنَّةُ كما
قاله غيرُ واحدٍ من السَّلفِ، وقالَ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((أَلاَ وَإِنِّي أُوتِيتُ الكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ)) رواه أصحابُ السُّننِ من حديثِ المقدامِ بنِ مَعْدي كرِبَ، وقال سُبْحَانَهُ: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى)،
وإنـَّما يحسنُ الاستدلالُ على معاني القرآنِ بما رواه الثـِّقاتُ عن
رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-، ثمَّ يتبعُ ذلك بما قالَهُ
الصَّحابةُ والتَّابعون وأئمَّةُ الهُدى، ولا شكَّ أنَّ تفسيرَ القرآنِ
بهذه الطَّريقةِ خيرٌ ممَّا هو مأخوذٌ عن أئمَّةِ الضَّلالِ وشيوخِ
التَّجهُّمِ والاعتزالِ، الَّذين أحدثوا في الإسلامِ بدعًا وضلالاتٍ
وفَرَّقوا دينهَم وكانوا شيعًا، وَنَبذوا كتابَ اللهِ وسُنَّةَ رسولهِ
وراءَ ظهورِهم.
(2) قَولُهُ: (وتُبيـِّنُه): أي توضِّحُه وتكشفُ معناه، والبيانُ اصطلاحًا:
قيل: هو إخراجُ المعنى من حَيِّزِ الإشكالِ إلى حيـِّزِ التَّجلِّي
والوضوحِ، فالسُّنَّةُ كما أشارَ إليها المؤلِّفُ تُبيِّنُ مجملَ الكتابِ،
كما في الصَّلاةِ والصَّومِ والحجِّ والبيعِ، وغالبِ الأحكامِ الَّتي جاء
تفصيلُها في السُّنَّةِ، والبيانِ يحصلُ بالقولِ وبالفعلِ وبالإقرارِ على
الفعلِ.
قال ابنُ القيِّمِ رحمه
اللهُ: وبيانُ النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- أقسامٌ، بيانُه
لألفاظِ الوحْيِ ومعانيه بقَولِهِ أو فعلِه أو إقرارِه، بيانٌ للقرآنِ،
وبيانٌ ابتدائيٌّ يَبْتدئُ النَّاسُ أو يَسألُونه، وبيانُه بالقولِ والفعلِ
لمُجْمَلاتِ القرآنِ. انتهى.
قَولُهُ: (وتَدلُّ
عليه): من الدِّلالةِ بكسرِ الدَّالِ وفتحِها، وهو ما يقتَضِيه اللفظُ عند
إطلاقِه، واسمُ الفاعلِ دَالٌّ ودليلٌ وهو المَبَيِّنُ والكاشفُ، ودلالةُ اللفظِ الوَضْعِيَّةُ تنقسمُ إلى ثلاثةِ أقسامٍ: دلالةٍ مُطابقةٍ، ودلالةِ تَضَمُّنٍ، ودلالةِ الْتِزَامٍ، فدلالةُ المطابقةِ:
هي دلالةُ اللفظِ على تَمامِ المعنى الَّذي وُضِعَ له، كدلالةِ الرَّجلِ
على الإنسانِ الذَّكرِ ودلالةِ المرأةِ على الإنسانِ الأنْثى، وسُمِّيتْ
مطابقةً لِتَطَابُقِ الفَهمِ والوَضعِ فيها، ودلالةُ التَّضمُّنِ:
هي دلالةُ اللفظِ على جزءِ مُسمَّاه، كدلالةِ لفظِ الأربعةِ على الواحدِ
رُبْعِها، وسُمِّيت تضمُّنًا؛ لأنَّ بعضَ المعنى مفهومٌ من ضِمنِ كُلِّه
ضَرورةً، ودلالةُ الالتزامِ: هي دلالةُ اللفظِ على خارجٍ من مُسمَّاه ولازمِ المعنى، كلزومِ الزوجيَّةِ للفظِ أربعةٌ.
قَولُهُ: (وتعبِّرُ
عنه): أي تُبينُ وتُعربُ، ويُقالُ: هو عِبارةٌ عن كذا أي بمعناه ومُساوٍ له
في الدَّلالةِ، فظهرَ ممَّا تقدَّمَ أنَّ السُّنَّةَ تُفسِّرُ القرآنَ
وتُبيِّنُ مُجملَه وتُقيِّدُ مطلقَه إلى غيرِ ذلك.
قال ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ: السُّنَّةُ مع القرآنِ على ثلاثةِ أوجهٍ:
أحدِها: أنْ تكونَ موافقةً له من كلِّ وجهٍ، فيكونُ تَوارُدُ الكتابِ والسُّنَّةِ على الحكمِ من بابِ تَواردِ الأدلَّةِ وتَضَافرِها.
الثَّاني: أَنْ تكونَ بيانًا لما أُريدَ بالقرآنِ وتفسيرًا له.
الثَّالثِ: أنْ تكونَ مُوجِبةً لحكمٍ سَكتَ القرآنُ عن إيجابِه، أو تَحريمِ ما سَكتَ القرآنُ عن تحريمِه، ولا تَخْرجُ عن هذه الأقسامِ.
(3)
قَولُهُ: (وما وصفَ الرَّسولُ به ربَّهُ عز وجل من الأحاديثِ): جَمعُ
حديثٍ وهو لُغةً: ضِدُّ القديمِ، واصطلاحًا: ما أُضيفَ إلى النَّبيِّ
-صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- قَوْلاً أو فِعلاً أو تَقريرًا.
قَولُهُ: (الصِّحاحِ): مِن الصِّحةِ هو لغةً: ضدُّ السَّقَمِ، واصطلاحًا: هو ما نَقَلَهُ العدْلُ الضَّابطُ عن مثلهِ مِن غيرِ شذوذٍ ولا علَّةٍ، فهو مَا جمعَ خمسةَ شروطٍ:
عدالةِ الرُّواةِ وضبطِهمْ، واتصالِ السَّندِ، وأنْ لا يكونَ فيه شذوذٌ،
وأن لا يكونَ فيه عِلَّةٌ، وهذه الشُّروطُ شروطُ الصحيحِ لذاته، أمَّا
الصَّحيحُ لغيرِه، فهو ما اختلَّ فيه شرطٌ مِن هذه الشُّروطِ، ولكن انجبرَ
بمجيئِهِ مِن طُرقٍ أخرى، وحُكْمُ الصَّحيحِ القبولُ.
قَولُهُ:( تلقَّاها): أيْ قَبِلَها وأَخَذَها، يقالُ تلقَّى القولَ وتلقَّنه وتلقَّفه.
قَولُهُ: (أهلُ
المعرفةِ): أي أهلُ العلمِ بالحديثِ، وهم علماءُ الحديثِ العالِمُون
بأحوالِ نبيِّهم الضَّابطون لأقوالِه وأفعالِه، والمُعتنُون بها، ولا
عِبْرةَ بمَن عدَاهُم مِن المتكلِّمينَ وغيرِهِم، فإنَّ الاعتبارَ في كلِّ
عِلْمٍ بأهلِ العِلْم بهِ دونَ غيرِهِم.
فهذه الأخبارُ تُفِيدُ
العِلْمَ عند مَنْ له عنايةٌ بمعرفةِ ما جاءَ بهِ الرَّسولُ -صلَّى اللهُ
عليهِ وسلَّمَ- ومعرفةِ أحوالِ دعوتِه على التَّفصيلِ، فإنَّ أهلَ الحديثِ
لهمْ فِقهٌ خاصٌّ في الحديثِ مختصُّون بمعرفتِه، كما يختصُّ البصيرُ في
معرفةِ النقودِ، جيِّدِها ورديئِها، خالِصِها ومشوبِهَا، وقد امْتحِنَ
غَيرُ واحدٍ مِن هؤلاءِ العلماءِ في زمنِ أبي زُرْعةَ وأبي حاتمٍ فوجدَ
الأمرُ على ذلك، فقال السائلُ: أشهدُ أنَّ هذا العلمَ إلهامٌ، قال الأعمشُ:
كان إبراهيمُ النخعيُّ صيرفيًّا في الحديثِ، كنتُ أسمعُ مِن الرِّجالِ
فأعرِضُ عليه ما سمِعْتُه، وقالَ الأوزاعيُّ: كنَّا نسمعُ الحديثَ فنعرضُهُ
على أصحابِنَا كما نعرضُ الدرهمَ الزَّائفَ على الصيارفِ، فما عَرفوا
أخذنَا ومَا أنكَروا تركنَا، وقدْ رُوِيَ مثلُ هذا عنْ أحمدَ بنِ حنبلٍ
وغيرِه.
قَولُهُ: (المعرفةِ): المعرفةُ في اللُّغةِ:
بمعنى العلمِ، قالَ في شرحِ (مختصرِ التَّحريرِ): يطلقُ العِلْمُ ويرادُ
به معنى المعرفَةِ، ويرادُ بها العلمُ، وذكرَ ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ
فروقًا بينَ العلمِ والمعرفةِ لفظيَّةً ومعنويةً، فاللَّفظيةُ أنَّ فعلَ
المعرفةِ يقعُ على مفعولٍ واحدٍ، تقولُ عرفتُ الدَّارَ، وفعلُ العلمِ يقتضي
مَفعولينِ، كقَولِهِ: (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ) الآيةَ، وإنْ وقعَ على مفعولٍ كان بمعنى المعرفةِ كقَولِهِ: (وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ)
وأمَّا الفروقُ المعنويَّةُ فذكرَ عدَّةَ فروقٍ، منها أنَّ المعرفَةَ
تتعلَّقُ بذاتِ الشَّيءِ، والعلمُ يتعلَّقُ بأحوالِه، فتقولُ عَرَفْتُ
أباكَ وعَلِمْتُه صالحًا، وساقَ عدَّةَ فروقٍ في (المدَارجِ).
قَولُهُ: (بالقبولِ
وجبَ الإيمانُ بها كذلك): أي كما يجبُ الإيمانُ بالقرآنِ، فإنَّ اللهَ
أنْزَلَ على رسولِه وحيَيْنِ، فأوجبَ على عبادِه الإيمانَ بهما والعملَ بما
فيهما وهما الكتابُ والسُّنَّةُ، قال تعالى: (وَأَنزَلَ عليك الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)
والحكمَةُ هي السُّنَّةُ باتفاقِ السَّلَفِ، وما أخبرَ به الرَّسولُ
-صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- عَنِ اللهِ فهو في وجوبِ تصديقِه والإيمانِ به
كمَا أخبَر بهِ الرَّبُ على لسانِ رسولِه، وهذا أصلٌ متفقٌ عليهِ بينَ
عُلماءِ الإسلامِ لا ينُكرُه إلا مَن ليسَ منهم.
وفي السُّنَنِ مِن حديثِ المِقْدَامِ بنِ معدِي كَرِبَ أنَّ رسولَ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((أَلاَ إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ)) فهذه الأخبارُ الَّتي زعمَ هؤلاءِ أنَّه لاَ يستفادُ منها علمٌ نزَلَ بها جبريلُ مِن عندِ اللهِ كمَا نزلَ بالقرآنِ، قال تعالى: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ). انتهى. مِن (الصَّواعقِ) باختصارٍ.
والمقبولُ في هذا البابِ مِن أنواعِ السُّنَّة أربعةُ أنواعٍ، كما أشارَ إلى ذلكَ ابنُ القيِّمِ رحمهُ اللهُ في (الصَّواعقِ): (الأوَّلُ) ما تواترَ لفظًا ومعنًى. (الثَّاني) ما تواترَ معنًى. (الثَّالثُ): أخبارٌ مستفيضَةٌ متلقَّاةٌ بالقبولِ. (الرَّابعُ)
أخبارُ آحادٍ ثبتتْ بنقلِ الْعَدْلِ الضَّابطِ عن مثلِه، فهذهِ الأنواعُ
هي المقبولَةُ في بابِ العِلميَّاتِ، فإنَّ هذا البابَ لا يُبْنى إلاَّ على
ما ثبتَ بطريقٍ لا كلامَ فيهِ، فهذه الأنواعُ الأربعةُ مفيدةٌ للعلمِ
واليقينِ موجبةٌ للعلمِ والعملِ جميعًا.
قالَ الشَّيخُ تقِيُّ
الدِّينِ بنُ تيميةَ رحمَه اللهُ: الَّذي عليه الأُصُولِيِّون مِن أصحابِ
أبي حنيفةَ والشافعيِّ وأحمدَ أنَّ خبَرَ الواحدِ إذا تلقَّته الأمَّةُ
بالقبولِ تصْدِيقاً له وعملاً به يوجبُ العلمَ، إلاَّ فرقةً قليلةً
اتَّبعوا طائفةً مِن أهلِ الكلامِ أنكرُوا ذلك، وقال في (الكوكبِ المنيرِ):
ويُعملُ بآحادِ الأحاديثِ في أصولِ الدِّياناتِ، وحكى ذلك ابنُ عبدِ
البرِّ رحمه اللهُ إجماعًا، قالَ الإمامُ أحمدُ رحمه الله: لا تتعدَّى
القرآنَ والحديثَ، وقال العلاَّمةُ ابنُ قاضِي الجبلِ: مذهبُ الحنابلةِ
أنَّ أخبَارَ الآحادِ المتلقَّاةِ بالقبولِ تصلُحُ لإثباتِ أصولِ
الدِّياناتِ، ذكرَه أبو يَعْلى والشيخُ تقيُّ الدِّينِ في عقيدَتِه،
والأدلَّةُ على قبولِ خبرِ الآحادِ كثيرةٌ جدًّا، وقدْ ذكرَ ابنُ القيِّمِ
هذا القولَ في كتابِه (الصَّواعقِ) وأفاضَ في ذكرِ الأدلَّةِ على ذلك،
وكذلكَ ذكرَهُ في (النُّونيَّةِ)، وقالَ ابنُ القاصِّ: لا خلافَ بينَ أهلِ
الفقهِ في قَبُولِ خَبَرِ الآحادِ، انتهى).