الدروس
course cover
الإيمان برؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة
11 Nov 2008
11 Nov 2008

3585

0

0

course cover
العقيدة الواسطية

القسم السادس

الإيمان برؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة
11 Nov 2008
11 Nov 2008

11 Nov 2008

3585

0

0


0

0

0

0

0

الإيمان برؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (قَوْلُهُ : {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}[سُورَةُ الْقِيَامَةِ : 22- 23] ، {عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ}[سُورَةُ الْمُطَفِّفِينَ : 23] ، {لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}[سُورَةُ يُونُسَ : 26] ، {لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ}[سُورَةُ ق : 35] ، وهََذَا البابُ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى كثيرٌ. منْ تَدَبَّرَ القُرآنَ طَالِبًا لِلْهُدَى منْهُ تَبَيَّنَ لَهُ طَرِيقُ الْحَقِّ).

هيئة الإشراف

#2

16 Dec 2008

التنبيهات اللطيفة فيما احتوت عليه الواسطية من المباحث المنيفة لابن سعدي رحمه الله


المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وقوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) [القيامة: 22- 23]. (عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ) [المطففين: 23]. (لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) [يونس: 26]. وقوله: (لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) [ق: 35].[1]
وهذا البابُ في كتابِ اللهِ تعالى كثيرٌ. مَنْ تدبَّرَ القُرآنَ طالباً للهُدَى منه تبيَّنَ له طريقُ الحقِّ([2])
).

الشرح:

قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): (([1]) ومن أصول أهل السُّنة والجماعة الثابتة، إثبات رؤية المؤمنين لربهم في دار القرار والتنعُّم برؤيته وقربه ورضوانه ويدل على ذلك من الآيات التي ذكرها المصنِّف قوله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ) أي جميلة ناعمة حسَنة (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) وهذا صريح في نظرهم إلى ربهم، وكذلك قوله (عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ) أي إلى ما أعطاهم من النعيم الذي أجلّه وأعظمه النظر إلى ربهم، وكذلك قوله: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ) أي وفوا مقام الإحسان (الحُسنى) التي هي الجنّة (وَزِيادةٌ) وهي النّظر إلى وجه الله الكريم، وكذلك قوله (لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ).
([2])ذكر المصنِّف رحمه الله في هذا الموضوع عدة آيات وكلها داخلة في الإيمان بالله، ويتضح معناها عموماً وخصوصاً بذكر أصول وضوابط نوضحها فيما يأتي:
منها أن هذه النصوص القرآنية تنطبق عليها القاعدة المتفق عليها بين السلف وهو أنه يجب الإيمان بجميع الأسماء الحسنى وما دلّت عليه من الصفات وما نشأ عنها من الأفعال، مثال ذلك: القدرة، يجب علينا الإيمان بأنه على كل شيء قدير، والإيمان بكمال قدرة الله، والإيمان بأن قدرته شاملة لجميع الكائنات، وبأنه عليم ذو علم محيط، وأنه يعلم الأشياء كلها. وهكذا بقية الأسماء الحسنى، على هذا النمط، كما في هذه الآيات التي ذكر المصنِّف من الأسماء الحُسنى فإنها داخلة في الإيمان بالله، وما فيها من ذكر الصفات مثل عزة الله وقدرته وعلمه وحكمته وإرادته ومشيئته وكلامه وأمره وقوله ونحوها، فإنها داخلة في الإيمان بالله، وما فيها من ذكر الأفعال المطلقة والمقيدة مثل: (يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) ويعلم كذا وكذا، ويحكم ويريد وسمع ويسمع ويرى وأسمع وأرى وقال ويقول وكلّم ويكلِّم ونادى وناجى ونحوها من الأفعال فإنها داخلة في الإيمان بأفعاله تعالى، فعلى العبد الإيمان بكلّ ذلك إجمالاً وتفصيلاً وإطلاقاً وتقييداً على الوجه اللائق بجلال الله وعظمته وأن يعلم أن صفاته لا تشبهها صفات المخلوقين، كما أن ذاته لا تشبهها ذوات المخلوقين.
ومن الأصول المتفق عليها بين السلف التي دلّت عليها هذه النصوص أن صفات الباري قسمان:
- صفات ذاتية لا تنفك عنها الذات كصفة الحياة، والعلم، والقدرة، والقوة، والعزة، والملك، والعظمة، والكبرياء ونحوها كالعلوّ المطلق.
- وصفات فعلية: تتعلق بها أفعاله في كل وقت وآن وزمان، ولها آثارها في الخلق والأمر، فيؤمنون بأنه تعالى فعّال لما يريد، وأنه لم يزل ولا يزال يقول ويتكلم ويخلق ويدبر الأمور، وأن أفعاله تقع شيئاً فشيئاً تبعاً لحكمه وإرادته. فإن شرائعه وأوامره ونواهيه الشرعية لا تزال تقع شيئاً فشيئاً، وقد دلّ على هذا الأصل الكبير ما في هذه النصوص من ذكر قال ويقولُ وسمع ويسمع وكلّم ويكلِّم ونادى وناجى وعلم وكتب ويكتب وجاء ويجيء وأتى ويأتي وأوحى ويوحي ونحوها من الأفعال المتنوعة التي تقع مقيدة بأوقاتها كما سمعت في هذه النصوص المذكورة آنفاً، وهذا أكبر الأصول وأعظمها ولقد صنّف فيه المؤلف مصنَّفاً مستقلاً، وهو المسمى بالأفعال الاختيارية. فعلى المؤمن الإيمان بكل ما نسبه الله لنفسه من الأفعال المتعلقة بذاته كالاستواء على العرش والمجيء والإتيان والنزول إلى السماء الدنيا والقول ونحوها، والمتعلِّقة بخلقه كالخلق والرزق وأنواع التدبير.

فصل
اعلم أنّ أهل السُّنة والجماعة وهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وأهل القرون المفضَّلة متفقون على إثبات جميع ما ورد في الكتاب والسُّنة من صفات الله، لا فرق بين الذاتية منها كالعلم والقدرة والإرادة والحياة والسمع والبصر ونحوها، ولا بين الفعلية كالرضى والغضب والمحبّة والكراهية، وكذلك لا فرق بين إثبات الوجه واليدين ونحوها، وبين الاستواء على العرش والنزول إلى السماء الدنيا كل ليلة وغيرها، وكلها يثبتونها من غير نفي لشيء منها ولا تأويل ولا تحريف ولا تمثيل، وهذا هو الحق، وهو الصراط المستقيم، وهو الطريق المنْجي من عذاب الله والهدي والنور، وخالفهم في هذا الأصل طائفتان من أهل البدع.
إحداهما: الجهمية والمعتزلة على اختلاف طوائفهم فإنهم نفوا جميع الصفات ولم يثبتوا إلا الأسماء والأحكام، والآيات السابقة كلها تنقض قولهم وتبطله، وكذلك كلامهم هذا ينقض بعضه بعضاً، فإن إثبات الأسماء والأحكام بلا أوصاف تقوم بالله محال عقلاً، كما أنه باطل سمعاً.
الطائفة الثانية: الأشعرية ومن تبعهم، وهم أخف حالاً وأهون من المعتزلة لأنهم وافقوا أهل السنة في شيء ووافقوا المعتزلة في شيء. وافقوا أهل السُّنة في إثبات الصفات السّبع وهي الحياة والكلام والعلم والسمع والبصر والإرادة والقُدرة، ووافقوا المعتزلة في بقية الصِّفات، والجميع محجوجون بالكتاب والسُّنة وإجماع الصحابة والقرون المفضّلة على الإثبات العام، وأما النّفي للصفات كلها أو التناقض، فإنه مخالف للكتاب والسُّنة، ومناف للعقل الصحيح، فلا يثبت للعبد إيمان إلا بالإيمان المحض والعمل بما جاء به الرسول بلا شرط ولا قيد، والدوران مع النصوص الشرعية إثباتاً ونفياً).

هيئة الإشراف

#3

17 Dec 2008

شرح العقيدة الواسطية للشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (إثبات أن القرآن مُنَزَّل من الله تعالى: (1)
قَوْلُهُ: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) [القيامة: 22-23].(2) (عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ) [المطففين: 24]. (للَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) [يونس: 26].
(لَهُمْ مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) [ق: 35].
((وهذَا البَابُ فِي كِتَابِ اللهِ كَثِيرٌ، وَمَنْ تَدَبَّرَ القُرْآنَ طَالِباً للهُدَى؛ تَبَيَّنَ لَهُ طَرِيقُ الحقِّ)) (3)
).


الشرح:

قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (إثباتُ أنَّ القرآنَ منزَّلٌ مِن اللَّهِ تعالى
(1) ذكَرَ المؤلِّفُ رحمَه اللَّهُ الآياتِ الَّتِي فِيهَا أنَّ القرآنَ منزَّلٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى:
الآيةُ الأولى: قولُهُ: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَهُ مُبَارَكٌ) [الأنعام: 155].
(وَهَذَا): المشارُ إِلَيْهِ القرآنُ.
(كِتَابٌ)، أيْ: مكتوبٌ؛ لأنَّهُ مكتوبٌ فِي اللَّوحِ المحفوظِ، ومكتوبٌ فِي الصُحُفِ الَّتِي بأيدي السفرةِ، ومكتوبٌ فِي المصاحفِ الَّتِي بأيدينا.
وقولُهُ: (مُبَارَكٌ)، أيْ: ذو بركةٍ.
فُهَوُ مباركٌ؛ لأنَّهُ شفاءٌ لِمَا فِي الصدورِ، إِذَا قرأَه الإنسانُ بتدَّبرٍ وتفكُّرٍ، فإنَّهُ يشفِي القلبَ مِنَ المرضِ، وقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنينَ) [الإسراء: 82].
مبارَكٌ فِي اتِّباعهِ، إذْ بهِ صلاحُ الأعمالِ الظَّاهرةِ والباطنةِ.
مبارَكٌ فِي آثارِه العظيمةِ، فَقَدْ جاهدَ المسلمونَ بهِ بلادَ الكُفْرِ؛ لأنَّ اللَّهَ يقولُ: (وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً) [الفرقان: 52]، والمسلمونَ فتحوا مشارقَ الأرضِ ومغاربَها بهَذَا القرآنِ حَتَّى ملكُوها، ولو رجعْنا إِلَيْهِ، لملكْنا مشارقَ الأرضِ ومغاربَها، كَمَا ملكَها أسلافنُا، ونسألُ اللَّهَ ذلِكَ.
مبارَكٌ فِي أنَّ مَنْ قرأَه، فَلَهُ بكُلِّ حرفٍ عشْرُ حسناتٍ، فكلمةُ (قالَ) مثلاً فِيهَا ثلاثونَ حسنةً، وَهَذَا مِنْ بركةِ القرآنِ، فنَحْنُ نحصِّلُ خيراتٍ كثيرةً لاَ تحُصى بقراءةِ آياتٍ وجيزةٍ مِنْ كلامِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ.
والحاصلُ: أنَّ القرآنَ كتابٌ مبارَكٌ، فكُلُّ أنواعِ البركةِ حاصلةٌ بِهَذَا القرآنِ العظيمِ.
والشَّاهِدُ فِي قولِهِ: (أَنزَلْناَهُ).
وثبوتُ نزولِهِ مِنَ اللَّهِ دليلٌ عَلَى أنَّهُ كلامُهُ.
الآيةُ الثَّانِيَةُ: قولُهُ: (لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرءَانَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) [الحشر: 21].
الجبلُ مِنْ أقسى مَا يكونُ، والحجارةُ الَّتِي مِنها تتكَّونُ الجبالُ هِيَ مضربُ المثلِ فِي القساوةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذلِكَ فَهِىَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) [البقرة: 74]، ولو نُزِّلَ هَذَا القرآنُ عَلَى جبلٍ، لرأيْتَ هَذَا الجبلَ خاشعاً متصدِّعاً مِنْ خشيةِ اللَّهِ.
(خاَشِعاً)، أيْ: ذليلاً:
ومِنْ شدَّةِ خشيتِه لِلَّهِ يكونُ (مُّتَصَدِّعاً) يتفلقُّ ويتفتقُّ.
وَهُوَ ينزلُ عَلَى قُلوبِنا، وقلوبُنا –إِلَّا أنْ يشاءَ اللَّهُ- تضمرُ وتقسُو، لاَ تتفتَّحُ ولاَ تتقبَّلُ.
فالَّذِينَ آمنوا إِذَا نزلَتْ عَلَيْهِم الآياتُ، زادتَهم إيماناً، والَّذِينَ فِي قلوبهِمْ مرضٌ، تزيدُهم رجساً إِلَى رجسِهم، والعياذُ باللَّهِ!
ومعنى ذَلِكَ: أنَّ قلوبَهم تتصلبُ وتقسُو أكثرَ، وتزدادُ رجساً إِلَى رجسِها، نعوذُ باللَّهِ مِنْ ذلِكَ!
وَهَذَا القرآنُ لو أُنزلَ عَلَى جبلٍ، لتصدَّعَ الجبلُ وخشعَ، لعظمةِ مَا أُنزلَ عَلَيْهِ مِنْ كلامِ اللَّهِ.
وفِي هَذَا دليلٌ عَلَى أنَّ للجبلِ إحساساً؛ لأنَّهُ يخشعُ ويتصدعُ، والأمرُ كذلِكَ، قَالَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أُحُدٍ: ((هَذَا أُحُدٌ جَبَلٌ يُحبُّنا وَنُحبُّه)).
وبهَذَا الحديثِ نعرفُ الردَّ عَلَى المثبتينَ للمجازِ فِي القرآنِ، والَّذِينَ يرفعوُن دائماً عَلَمَهُم مستدلِّينَ بهذِهِ الآيةِ: (فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ) [الكهف: 77]، يقولُ: كَيْفَ يريدُ الجدارَ؟!
فنقولُ: يا سُبْحَانََ اللَّهِ! العليمُ الخبيرُ يقولُ: (يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ)، وأنْتَ تقولُ: لاَ يريدُ! أهَذَا معقولٌ؟
فلَيْسَ مِنْ حقِّكَ بعدَ هَذَا أنْ تقولَ: كَيْفَ يريدُ؟!
وَهَذَا يجعلنُا نسألُ أنَفْسَنا: هَلْ نَحْنُ أُوتينِا عِلمَ كُلِّ شيءٍ؟
فنجيبُ بالقولِ بأنَّنَا مَا أُوتينا مِنَ العلمِ إِلَّا قليلاً.
فقولُ مَنْ يعلمُ الغيبَ والشهادةَ: (يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ): لاَ يسوغُ لنَا أنْ نعترضَ عَلَيْهِ، فنقولُ: لاَ إرادةَ للجدارِ! ولاَ يريدُ أنْ ينقضَّ!
وَهَذَا مَنْ مفاسدِ المجازِ؛ لأنَّهُ يلزمُ مِنْهُ نَفْيُ مَا أثبَتَهُ القرآنُ.
ألَيْسَ اللَّهُ تَعَالَى يقولُ: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوات السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [الإسراء: 44]، هَلْ تسِّبحُ بلاَ إرادةٍ؟!
يقولُ: (تُسَبِّحُ لَه): اللامُ للتَّخصيصِ، إذاً، هِيَ مخلصةٌ، وهَلْ يتُصورُ إخلاصٌ بلاَ إرادةٍ؟! إذاً، هِيَ تريدُ، وكُلُّ شيءٍ يريدُ؛ لأنَّ اللَّهَ يقولُ: (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ)، وأظنَّهُ لاَ يخفى علينا جميعاً أنَّ هَذَا مِنْ صيغِ العمومِ، فـ(إنْ): نافيةٌ بمعنى (ما)، و(من شَيْءٍ): نكرةٌ فِي سياقِ النَّفْيِ، (إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ)، فيعمُّ كُلَّ شيءٍ.
فيا أخي المسلمَ! إِذَا رأيْتَ قلبَك لاَ يتأثرُ بالقرآنِ، فاتَّهِمْ نفَسَكَ؛ لأنَّ اللَّهَ أخبرَ أنَّ هَذَا القرآنَ لو نُزِّل عَلَى جبلٍ لتصدَّعَ، وقلبُكَ يُتلى عَلَيْهِ القرآنُ، ولاَ يتأثرُ.
أسألُ اللَّهَ أنْ يعينَني وإياكُم.
الآيةُ الثَّالثةُ والرَّابعةُ والخامسةُ: قولُهُ: (وَإِذَا بَدَّلْنَا ءَايَةً مَّكَانَ ءَايَةٍ واللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرِ بَلْ أكْثَرْهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ، قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِىٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِىٌّ مُّبِينٌ) [النحل: 101-103].
قولُهُ عزَّ وجلَّ: (وَإِذَا بَدَّلْنَا ءَايَةً مَّكَانَ ءَايَةٍ): قولَه: (بَدَّلْنَا)، أيْ: جعلْنا آيةً مكَانَ آيةٍ.
وَهَذَا إشارةٌ إِلَى النَّسخِ المذكورِ فِي قولِهِ تَعَالَى: (مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) [البقرة: 106].
فاللَّهُ سُبْحَانَهُ إِذَا نسخَ آيةً، جعلَ بدَلَهَا آيةً، سواء نسَخَها لفظاً، أوْ نسَخَها حكماً.
وقولُهُ: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ): هذِهِ جملةٌ اعتراضيةٌ، وهِيَ مِنْ أحسنِ مَا يكونُ فِي هَذَا الموضعِ، والمَعْنَى أنَّ تبديلَنا للآيةِ بدلَ الآيةِ لَيْسَ سَفَهاً وعبثاً، بَلْ هُوَ صادرٌ عَنْ علمٍ بمَا يصلحُ الخلقَ، فنبدِّلُ آيةً مكَانَ آيةٍ، لعلْمِنا أنَّ ذلِكَ أصلحُ للخلقِ وأنفعُ لَهم.
وفِيهَا أيضاً فائدةٌ أخرى، وهِيَ أنَّ هَذَا التَّبديلَ لَيْسَ مِنْ عملِ الرَّسولِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ ، بَلْ هُوَ مِنَ اللَّهِ، أنزلَهُ بعلمِه، وأبدَلَ آيةً مكَانَ آيةٍ بعلمِه، ولَيْسَ مِنْكَ أيُّها الرَّسولُ.
قَالَ تَعَالَى: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْءَانٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ) [يونس: 15]، فمَاذَا كَانَ الجوابُ؟ كَانَ الجوابُ بأنْ أجابَ عَنْ شيءٍ مِنْ كلامِهم، وترَكَ شيئًا فقَالَ تَعَالَى: (قُلْ مَا يَكُونُ لِى أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِى) [يونس: 15]، ولَمْ يقلْ: ولاَ آتي بقرآنٍ غيرهِ. لماذا؟ لأنَّهُ قَدْ يأتِي بتبديلٍ مِنْ عندهِ، وإِذَا كَانَ لاَ يمكنهُ تبديلَه، فالإتيانُ بغيرهِ أَوْلى بالامتناعِ.
فالمهُّم: أنَّ الَّذِي يبدِّلُ آيةً مكَانَ آيةٍ، سواءٌ لفظُها أوْ حكمُها، هُوَ اللَّهُ سُبْحَانََهُ.
قولُهُ: (قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرِ): الجملةُ جوابٌ (وَإِذَا).
قولُهُ: (إِنَّمَا أَنتَ): الخطابُ هُنا لمحمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قولُهُ: (مُفْتَرِ)، أيْ: كذابٍ، بالأمسِ تقولُ لنَا كَذا، واليومَ تقولُ لنَا كَذا، هَذَا كذبٌ، إنَّمَا أنْتَ مفترٍ!!
لكنَّ هَذَا القولَ الَّذِي يقولونَه إزاءَ إتيانِه بآيةٍ مكَانَ آيةٍ، هُوَ قولُ سَفَهٍ، ولو أنَّهم أمعنوا النَّظرَ، لعلِمُوا علمَ اليقينِ أنَّ الَّذِي يأتِي بآيةٍ مكَانَ آيةٍ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانََهُ، وذلِكَ يدلُّ عَلَى صدقهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنَّ الكذَّابَ يحذرُ غايةَ الحذرِ أنْ يأتَيَ بكلامٍ غيرِ كلامِه الأوَّلِ؛ لأنَّهُ يَخشى أنْ يُطَّلعَ عَلَى كذبهِ، فلو كَانَ كاذباً كَمَا يدعوُن أنَّ ذلِكَ مِنْ علامةِ الكذبِ، مَا أُتِيَ بشيءٍ يخالفُ الأوَّلَ؛ لأنَّهُ إِذَا أتى بشيءٍ يخالفُ الأوَّلَ عَلَى زعمِهِم تبينَ كذبُهُ، بَلْ إتيانُهُ بمَا يخالفُ الأوَّلَ دليلٌ عَلَى صدقِهِ بلاَ شكٍّ.
وَلِهَذَا قَالَ هنا: (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ)، وَهَذَا إضرابٌ إبْطالِيٌّ، معناه: بَلْ لَسْتَ مفترياً، ولكنَّ أكثرَهُم لاَ يعلمونَ، ولو أنَّهُم كانوا مِنْ ذوي العلمِ، لعلِمُوا أنَّهُ إِذَا بُدلتْ آيةٌ مكَانَ آيةٍ فإنمَّا ذلِكَ دليلٌ عَلَى صدقِ الرَّسولِ عَلَيْهِِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ .
قولُهُ تَعَالَى: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ): (رُوحُ الْقُدُسِ): هُوَ جبريلُ، ووصفَهُ بذلِكَ لطهارتهِ مِنَ الخيانةِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ ، وَلِهَذَا قَالَ فِي آيةٍ أخرى (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، ذِى قُوَّةٍ عِندَ ذِى الْعَرْشِ مَكِينٍ، مُّطَاعٍ ثُمَّ أَمِينٍ) [التكوير: 19-21].
قولُهُ: (مِن رَّبِّكَ): قالَ: (مِن رَّبِّكَ)، ولَمْ يَقُلْ: مِنْ ربِّ العالمين، إشارةً إِلَى الرُّبوبيَّةِ الخاصَّةِ، ربوبيةِ اللَّهِ للنبيِّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ ، وهِيَ ربوبيةٌ أخصُّ الخاصَّةِ.
وقولُهُ: (بِالْحَقِّ): إمَّا أنْ يكونَ وصفاً للنَّازلِ أوْ للمنزولِ بهِ. فإنْ كَانَ وصفاً للنازلِ، فمعناهُ: أنَّ نزولَهُ حقٌّ، ولَيْسَ بكذبٍ.
وإنْ كَانَ وصفاً للمنزولِ بهِ، فمعناه: أنَّ مَا جاءَ بهِ فَهُوَ حقٌ.
وكلاهمَا مرادٌ، فَهُوَ حقٌ مِنْ عندِ اللَّهِ، ونازلٌ بالحقِ.
قَالَ اللُه تَعَالَى: (وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبالْحَقِّ نَزَلَ) [الإسراء: 105]، فالقرآنُ حقٌّ، ومَا نَزَلَ بهِ فَهُوَ حقٌّ.
قولُهُ: (لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ): هَذَا تعليلٌ وثُمَّرةٌ عظيمةٌ، يثبِّتُ الَّذِينَ آمنوا بهِ، ويمكِّنُهم مِنَ الحقِّ، ويقوِّيهم عَلَيْهِِ.
قولُهُ: (وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ)، أيْ: هدىً يهتدونَ بهِ، ومناراً يستنيُرونَ بهِ، وبشارةٌ لَهَم يستبشرونُ بهِ.
بشارةٌ؛ لأنَّ مَنْ عَمِلَ بهِ، واستسلمَ لَهُ كَانَ ذلِكَ دليلاً عَلَى أنَّهُ مِنْ أهلِ السعادةِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى) [الليل: 5-7].
وَلِهَذَا ينبغي للإنسانِ أنْ يفرحَ إِذَا رأى مِنْ نَفْسِه الخيرَ والثَّباتَ عليِه والإقبالَ عليِه.
يفرحُ؛ لأنَّ هذِهِ بشارةٌ لَه، فإنَّ الرَّسولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمَا حدَّثَ أصحابَهُ، قالَ: ((مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَ وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدَهُ مِنَ الجَنَّةِ وَمَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ)). قالوا: أفلاَ ندعُ العملَ ونتكِّلُ؟ قال: ((لا، اعْمَلُوا، فَكُل مُيَسَّر لمَا خُلِقَ لَه))، ثُمَّ قرأ: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى، وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) [الليل: 5-10])).
فَإِذَا رأيْتَ مِنْ نَفْسِكَ أنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ قَدْ منَّ عليكَ بالَهدايةِ، والتوفيقِ والعملِ الصالحِ ومحبَّةِ الخيرِ وأهلِ الخيرِ، فأبشِرْ، فإنَّ فِي هَذَا دليلاً عَلَى أنَّكَ مِنْ أهلِ اليُسرى، الَّذِينَ كُتِبَتْ لَهم السَّعادةُ.
وَلِهَذَا قَالَ هنا: (وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ).
قولُهُ: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ)، قالَ: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ)، ولَمْ يقلْ: لقدْ علمِنْا؛ لأنَّ قولَهم هَذَا يتجدَّدُ، فكَانَ التَّعبيرُ بالمضارعِ أولى مِنَ التَّعبيرِ بالماضِي؛ لأنَّهُ لَوْ قالَ: لقدْ علمِنْا، لتبادرَ إِلَى ذهنِ بعضِ النَّاسِ أنَّ المعنى: عَلِمْنا أنَّهم قالوا ذلِكَ سابقاً، لاَ أنَّهم يستمرونَ عَلَيْهِ.
وسببُ نزولِ هذِهِ الآيةِ أنَّ قريشاً قالَتْ: إنَّ هَذَا القرآنَ الَّذِي يأتِي بهِ محمَّدٌ ليسَ مِنْ عندِ ربِّهِ، وإنمَّا هُوَ مِنْ شخصٍ يُعلمُهُ ويقصُّ عَلَيْهِِ مِنْ قصصِ الأولين، ويأتِي ليقولَ لنا: هَذَا مِنْ عندِ اللَّهِ! أعوذُ باللَّهِ!!
ادَّعوا أنَّهُ كلامُ البشرِ! والعجيبُ أنَّهم يدَّعوُن أنَّهُ كلامُ البشرِ، ويُقالُ لَهم: ائتوا بمثلِه! ولاَ يستطيعوُن!!
وقدْ أبطلَ اللَّهُ افتراءَهم هَذَا بقولِهِ تَعَالَى: (لِسَانُ الَّذِى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِىٌّ)، ومعنى (يُلْحِدُونَ)، أيْ: يميلوُن؛ لأنَّ قولَهم هَذَا ميلٌ عَنِ الصَّوابِ بعيدٌ عنِ الحقِ.
والأعجميُّ: هُوَ الَّذِي لاَ يفصحُ بالكلامِ، وإنْ كَانَ عربيّاً. والعجميُّ بدونِ همزةٍ هو: المنسوبُ إِلَى العجمِ، وإنْ كَانَ يتكلَّمُ بالعربيَّةِ.
فلسانُ هَذَا الَّذِي يلحدوُن إِلَيْهِ أعجميٌّ، لاَ يفصحُ بالكلامِ العربِي.
وأمَّا القرآنُ، فإنَّ اللَّهَ قَالَ فِيهِ: (وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ). بَيِّنٌ فِي نَفْسه، مُبَيِّنٌ لغيرِه.
فالقرآنُ كلامٌ عربيٌّ، وَهُوَ أفصحُ الكلامِ، كَيْفَ يأتي مِنْ هَذَا الرجلِ الأعجميِّ، الَّذِي لسانُهُ لاَ يفصحُ بالكلامِ؟!
والشَّاهِدُ هُوَ قولُهُ: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ)، وقولُهُ: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ)، وقولُهُ: (وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ).
وكُلُّ هذِهِ تدلُّ عَلَى أنَّ القرآنَ كلامُ اللَّهِ تَعَالَى منزلٌ مِنْ عندِه.
والمؤلِّفُ ترَكَ الآيةَ الَّتِي بعدَها؛ لأنَّهُ ليسَ فِيهَا شاهدٌ، ولكنَّها مفيدةٌ، فنذكرُها: قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآياَتِ اللَّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ)[النحل:104-105].
ومعنى هذِهِ الآيةِ: أنَّ الَّذِينَ لاَ يؤمنونَ بآياتِ اللَّهِ لاَ يهديِهم اللَّهُ، ولاَ ينتفعونُ بآياتهِ، والعياذُ باللَّهِ، فالَهدايةُ مسدودةٌ عَلَيْهِِم.
وهذِهِ الحقيقةُ فِيهَا فائدةٌ كبيرةٌ، وهِيَ: أنَّ مَنْ لَمْ يؤمنْ بآياتِ اللَّهِ لاَ يهديهِ اللَّهُ.
ومفهومُ المخالفةِ فِيها: أنَّ مَنْ آمنَ بآياتِ اللَّهِ، هداه اللَّهُ.
مثالُ ذلِكَ: أنَّنَا نجدُ مِنْ لمَ يؤمنْ بالآياتِ، لَمْ يهتدِ لبيانِ وجهِها، مثلُ قولِ بعضِهم: كَيْفَ ينزلُ اللَّهُ إِلَى السَّماءِ الدُّنْيَا، وَهُوَ فِي العلوُ؟!
فنقولُ: آمِنْ تهتدِ! فَإِذَا آمنْتَ بأنَّهُ ينزلُ حقيقةً، علمْتَ أنَّ هَذَا لَيْسَ بمستحيلٍ: لأنَّهُ فِي جانبِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، ولاَ يماثلُهُ شيءٌ.
ونجدُ مَنْ يقولُ فِي قولِهِ تَعَالَى: (جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ) [الكهف: 77]: كَيْفَ يريدُ الجدارُ؟
فنقولُ: آمِنْ بأنَّ الجدارَ يريدُ يتبيَّنُ لكَ أنَّ هَذَا لَيْسَ بغريبٍ.
وهذِهِ قاعدةٌ ينبغِي أنْ تكونَ أساسيةً عندَك، وهِيَ: آمِنْ تهتدِ!
والَّذِينَ لاَ يؤمنُونَ بآياتِ اللَّهِ لاَ يهديِهِم اللَّهُ، ويَبْقَى القُرآنُ عَلَيْهِم عمًى –والعياذُ باللَّهِ- ولاَ يستطيعوُنَ الاهتداءَ بهِ، نسألُ اللَّهَ لنَا ولَكُم الَهدايةَ.
مَا نستفيدُه مِنَ النَّاحيةِ المسلكيَّةِ مِنْ هذِهِ الآياتِ:
نستفيدُ أنَّنا إِذَا عَلِمْنا أنَّ هَذَا القرآن تكلَّمَ بهِ ربُّ العالمينَ، أوجبَ لنَا ذلِكَ تعظيمَ هَذَا القرآنِ، واحترامِه، وامتثالِ مَا جاءَ فِيهِ مِنَ الأوامرِ، وتركِ مَا فِيهِ مِنَ المِنْهُِيَاتِ والمحذوراتِ، وتصديقِ مَا جاءَ فِيهِ مِنَ الأخبارِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وعَنْ مخلوقاتهِ السَّابقةِ واللاَّحقةِ.
إثباتُ رؤيةِ المؤمِنينَ لرَبِّهمْ يومَ القيامةِ

(2) ذكَرَ المؤلِّفُ -رحمَهُ اللَّهُ- آياتِ إثباتِ رؤيةِ اللَّهِ تَعَالَى.
الآيةُ الأولى: قَوْلُهُ: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) [القيامة: 22-23].
قولُهُ: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ)، يعني بذلِكَ: اليومِ الآخرِ.
قولُهُ: (نَّاضِرَةٌ)، أيْ: حسنةٌ، مِنَ النَّضارةِ، بالضَّادِ، وهِيَ: الحُسنُ، يدلُّ عَلَى ذلِكَ قولُهُ تَعَالَى: (فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرةً وَسُرُوراً) [الإنسان: 11]، أيْ: حسناً فِي وجوهِهِم، وسروراً فِي قلوبِهم.
قولُهُ: (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ): (نَاظِرَةٌ)، بالظَّاءِ، مِنَ النَّظرِ، وهُنا عُدِّي النَّظرُ بـ(إلى) الدَّالَّةِ عَلَى الغايةِ، وهُوَ نظرٌ صادرٌ مِنَ الوجوهِ، والنظرُ الصَّادرُ مِنَ الوجوهِ يكونُ بالعينِ، بخلافِ النَّظرِ الصادرِ مِنَ القلوبِ، فإنَّهُ يكونُ بالبصيرةِ والتدَبُّرِ والتَّفكُّرِ، فهُنَا صدَرَ النظرُ مِنَ الوجوهِ إِلَى الربِّ عزَّ وجلَّ، لقولِهِ: (إِلَى رَبِّهَا).
فتفيدُ الآيةُ الكريمةُ: أنَّ هذِهِ الوجوهَ النَّاضرةَ الحسنةَ تنظرُ إِلَى رَبِّها عزَّ وجلَّ، فتزدادُ حُسناً إِلَى حُسنِها.
وانظرْ كَيْفَ جعَلَ هذِهِ الوجوهَ مستعدةً متهِيَئةً للنظرِ إِلَى وجهِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، لكونهِا نضرةً حسنةً متهِيَئةً للنظرِ إِلَى وجهِ اللَّهِ.
ففِي هذِهِ الآيةِ دليلٌ عَلَى أنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يُرى بالأبصارِ.
وَهَذَا هُوَ قولُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ.
واستدلُّوا لذلِكَ بالآياتِ الَّتِي ساقَها المؤلِّفُ، واستدلُّوا أيضا بالأحاديثِ المتواترةِ عَنِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والَّتِي نقلَهَا عَنْهُ صحابةٌ كثيرونَ ونقلَهَا عَنْ هؤلاءِ الصَّحابةِ تابعوُن كثيروُن، ونَقَلَهَا عَنِ التَّابعينَ مِنْ تابعِ التابعينَ كثيرونَ… وهكذا.
والنَّصوصُ فِيهَا قطعيَّةُ الثُّبوتِ والدَّلالةِ، لأنهَّا فِي كتابِ اللَّهِ تَعَالَى، وفِي سُنَّةِ رسولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المتواترةِ.
وأنشدُوا فِي هَذَا المعنى:
مِمَّا تَوَاتَرَ حَديثُ مَنْ كَذَبْ وَمَنْ بَنَى لِلَّهِ بَيْتاً واحْتَسَبْ
وَرُؤْيَةٌ شَفاعَةٌ وَالحَوْضُ وَمَسْحُ خُفَّيْنِ وهذي بَعْضُ
فالمرادُ بقولِهِ: ((ورؤيةٌ)): رؤيةُ المؤمنينَ لرَبِّهم.
وأهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ يقولونَ: إنَّ النَّظرَ هُنَا بالبصرِ حقيقةٌ.
ولاَ يلزمُ مِنْهُ الإدراكُ؛ لأنَّ اللَّهَ تَعَالَى يقولُ: (لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ) [الأنعام: 103]، كَمَا أنَّ العلمَ بالقلبِ أيضاً لاَ يلزمُ مِنْهُ الإدراكُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) [طه: 110].
ونَحْنُ نعلمُ ربَّنا بقلوبِنا، لكنْ لاَ ندركُ كيفيَّتَه وحقيقتَه، وفِي يومِ القيامةِ نرى ربَّنا بأبصارِنا، ولكنْ لاَ تدرِكُه أبصارنُا.
الآيةَ الثَّانِيَةَ: قولُهُ: (عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ) [المطففين: 23].
(الأَرَائِكِ): جمعُ أريكةٍ، وهِيَ السَّريرُ الجميلُ المغطَّى بمَا يشبَهُ النَّاموسيَّةَ.
(يَنظُرُونَ): لَمْ يذكرْ المنظورَ إِلَيْهِ، فيكونُ عامًّا لكُلِّ مَا يتنعَّمونَ بالنَّظرِ إِلَيْهِ.
وأعظمُهُ وأنعمُهُ النظرُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، لقولِهِ تَعَالَى: (تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) [المطففين: 24]، فسياقُ الآيةِ يشبَهُ قولَه: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)، فَهُم ينظروُن إِلَى كُلِّ مَا يتنعمونَ بالنظرِ إِلَيْهِ.
ومِنْهُ النَّظرُ إِلَى قرناءِ السُّوءِ يعذبَّوُن فِي الجحيمِ، كمَا قَالَ تَعَالَى: (قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّى كَانَ لِى قَرِينٌ، يَقُولُ أَءِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ، أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُراباً وَعِظَماً أَءِنَّا لَمَدِينُونَ، قَالَ)، أيْ: لأصحابهِ: (هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ): (هَلْ): للتشويقِ… يطلعوُن عَلَى ماذا؟! عَلَى هَذَا القرينِ، (فَاطَّلَعَ فَرَءَاهُ فِى سَوَاءِ الْجَحِيمِ)!! أعوذُ باللَّهِ! رآه فِي سوائِها، أيْ: فِي أصلَهِا، وقعرهِا… سُبْحَانََ اللَّهِ! هَذَا فِي أعَلَى عليِّينَ، وَهَذَا فِي أسفلِ سافلينَ، وينظرُ إِلَيْهِ مَعَ بُعْدَ المسافةِ العظيمةِ!
لكنَّ نظرَ أهلِ الجنَّةِ ليسَ كنظرِ أهلِ الدُّنْيَا، هَنَاكَ ينظرُ الإنسانُ فِي ملكِهِ فِي الجنَّةِ مسيرةَ أَلفِي عامٍ، ينظرُ أقصاه كَمَا ينظرُ أدنَاه، مِنْ كمالِ النَّعيمِ؛ لأنَّ الإنسانَ لو كَانَ نظرُهُ كنظرهِ فِي الدُّنْيَا، مَا استمتعَ بنعيمِ الجنَّةِ؛ لأنَّهُ ينظرُ إِلَى مدًى قريبٍ، فيَخفَى عَلَيْهِ شيءٌ كثيرٌ مِنْهُ.
اطلَّعَ مِنْ أعَلَى عِلِّيينَ إِلَى أسفلِ سافلينَ، فرآهُ فِي سواءِ الجحيمِ.
قَالَ يخاطبُهُ: (تَاللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ)، وَهَذَا يدلُّ عَلَى أنَّهُ كَانَ دائماً يحاولُ أنْ يضلَّه، وَلِهَذَا قالَ: (إِن كِدتَّ)، يعني: إنَّكَ قاربْتَ، و(إِن) هذِهِ المخففةُ لاَ الثقِيلَةُ، (وَلَولاَ نِعْمَةُ رَبِّى لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتينَ) إِلَى آخرِ الآياتِ [الصافات: 54-58].
أقولُ: إنَّ النَّاسَ سابقاً يمارونَ فِي مثلِ هَذَا، كَيْفَ يكونُ فِي أعَلَى مكانٍ، ويخاطبُ مَنْ ينظرُ إِلَيْهِ ويكلِّمُهُ فِي أسفلِ مكانٍ؟!
ولكنْ ظهرَتِ الآنَ أشياءُ مِنْ صنعِ البشرِ، كالأقمارِ الصناعيةِ، والتليفوناتِ التليفزيونيَّةِ… وغيرِ ذلِكَ، يرى الإنسانُ مِنْ خلالَهِا مَنْ يكلِّمُهُ وينظرُ إِلَيْهِ وَهُوَ بعيدٌ.
مَعَ أنَّهُ لاَ يمكنُ أنْ نقيسَ مَا فِي الآخرةِ عَلَى مَا فِي الدُّنْيَا.
إذاً، (يَنظُرُونَ): عامَّةً: ينظرونُ إِلَى اللَّهِ، وينظرونَ مَا لَهم مِنَ النَّعيِمِ، وينظرونَ مَا يحصلُ لأهلِ النَّارِ مِنَ العذابِ…
إِذَا قَالَ قائلٌ: هَذَا فِيهِ إشكالٌ!! كَيْفَ ينظرونَ إِلَى أهلِ النَّارِ ينكتونُ عَلَيْهِم ويوبِّخونَهُم؟!
فنقولُ: واللَّهِ، مَا أكثرَ مَا أذاقَ أهلُ النَّارِ أهلَ الجنةِ فِي الدُّنْيَا مِنَ العذابِ والبلاءِ والمضايقةِ!!
قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ يَضْحَكُونَ): يضحكونَ، سواءٌ فِي مجالسِهِم، أوْ مَعَهُم، (وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ، وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ انقَلَبُواْ فَكِهِيَنَ)، أيْ: انقلبوا متنعِّمينَ بأقوالِهم، (وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُواْ إِنَّ هَؤُلاَءِ لَضَالُّونَ…)!! قَالَ اللُه تَعَالَى: (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ، عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ…) [المطففين: 29-35]، ينظرونُ إلَيْهِم وهُم –والعياذُ باللَّهِ- فِي سواءِ الجحيمِ.
إذاً، يكونُ هَذَا مِنْ تمامِ عدلِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، بأنْ جعَلَ هؤلاءِ الَّذِي كانوا يضايَقُونَ فِي دارِ الدُّنْيَا، جَعَلَهم الآنَ يفرحونُ بنعمةِ اللَّهِ عَلَيْهُم، ويوبِّخونَ هؤلاءِ الَّذِينَ فِي سواءِ الجحيمِ.
الآيةُ الثَّالثةُ: قولُهُ: (للَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) [يونس: 26].
قولُهُ: (للَّذِينَ): خبرٌ مقدمٌ.
و(الْحُسْنَى): مبتدأٌ مؤخرٌ، وهِيَ الجنةُ.
(وَزِيَادَةٌ): هِيَ: النظرُ إِلَى وجهِ اللَّهِ.
هكذا فسَّرَه النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا ثَبَتَ ذلِكَ فِي ((صحيحِ مسلمٍ)) وغيرِه.
ففِي هذِهِ الآيةِ دليلٌ عَلَى ثبوتِ رؤيةِ اللَّهِ مِنْ تفسيرِ الرَّسولِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ ، وَهُوَ أعلمُ النَّاسِ بمعاني القرآنِ بلاَ شكٍ، وقَدْ فسَّرَها بالنَّظرِ إِلَى وجهِ اللَّهِ، وهِيَ زيادةٌ عَلَى نعيمِ الجنةِ.
إذاً، فهِيَ نعيمٌ ليسَ مِنْ جنسِ النَّعيمِ فِي الجنَّةِ؛ لأنَّ جنسَ النَّعيمِ فِي الجنةِ نعيمُ بدنٍ، أَنَّهَارٌ، وثِمَارٌ، وفواكهُ، وأزواجٌ مطهَّرةٌ… وسرورُ القلبِ فِيهَا تبعٌ، لكنَّ النَّظرَ إِلَى وجهِ اللَّهِ نعيمُ قلبٍ، لاَ يَرى أهلُ الجنةِ نعيماً أفضلَ مِنْهُ، نسألُ اللَّهَ أنْ يجعلَنَا ممن يراهُ.
وَهَذَا نعيمٌ مَا لَهُ مِنْ نظيرٍ أبداً، لاَ فواكهَ، ولاَ أَنْهارَ، ولاَ غيرَها أبداً، وَلِهَذَا قالَ: (وَزِيَادَةٌ)، أيْ: زيادةٌ عَلَى الحسنى.
الآيةُ الرَّابعةُ: قولُهُ: (لَهمْ مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) [ق: 35].
قولُهُ: (لَهمْ مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا)، أيْ: فِي الجنَّةِ كُلُّ مَا يشاءُونَ.
وقدْ وَرَدَ فِي الحديثِ الصحيحِ أنَّ رجلاً قَالَ للنبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا رسولَ اللَّهِ! أفِي الجَّنةِ خيلٌ؟ فإنيِّ أحبُّ الخيلَ. فَقَالَ: ((إِنْ يُدْخِلكَ اللَّهُ الجَنَّةَ فَلاَ تَشَاءُ أَنْ تَرْكَبَ فَرساً، مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ، تَطيرُ بِكَ فِي الجنَّةِ شِئْتَ إِلاَ فَعَلَتْ)). وقَالَ الأعرابيُّ: يا رسولَ اللَّهِ! أفِي الجنةِ إبلٌ؟ فإني أحبُّ الإبلَ. قالَ: ((يَا أَعْرابي! إِنْ يُدْخِلَكَ اللَّهُ الجَنَّةَ، أَصَبْتَ فِيها مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ وَلَذَّتْ عَيْنُكَ)).
فَإِذَا اشتهى أيَّ شيءٍ، فإنَّهُ يكونُ ويتحقَّقُ، حَتَّى إنَّ بعضَ العلماءِ يقولُ: لو اشتَهَى الولدَ لكَانَ لَهُ ولدٌ، فكُلُّ شيءٍ يشتهوُنَهُ فَهُوَ لَهمْ.
قَالَ تَعَالَى: (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيَهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [الزخرف: 71].
وقولُهُ: (وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ)، أيْ: مزيدٌ عَلَى مَا يشاءونَ.
يعني: أنَّ الإنسانَ إِذَا شاءَ شيئاً، يُعطى إيَّاه، ويُعطى زيادةً، كَمَا جاءَ فِي الحديثِ الصَّحيحِ فِي آخرِ أهلِ الجنَّةِ دخولاً، يعطيِهِ اللَّهُ عزَّ وجلَّ نعيماً، ونعيماً… ويقولُ: رضيِتُ. يقولُ لَه: ((لَكَ مِثْلَهُ وَعَشْرَةُ أَمْثَالِهِ)). فَهُوَ أكثرُ ممَا يشاءُ.
وفسَّرَ المزيدَ كثيرٌ مِنَ العلماءِ بمَا فسَّرَ بهِ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزِّيادةَ، وهِيَ: النَّظرُ إِلَى وجهِ اللَّهِ الكريمِ.
فتكونُ الآياتُ الَّتِي ساقَها المؤلِّفُ لإثباتِ رؤيةِ اللَّهِ تَعَالَى أربعاً.
وهَنَاكَ آيةٌ خامسةٌ استدلَّ بِها الشَّافعيُّ -رحمَهُ اللَّهُ-، وهِيَ قولُهُ تَعَالَى فِي الفجارِ: (كلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ) [المطففين: 15].
ووجهُ الدَّلالةِ أنَّهُ مَا حُجِبَ هؤلاءِ فِي الغضبِ، إِلَّا رآه أُولئكَ فِي الرِّضَى، فَإِذَا كَانَ أهلُ الغضبِ محجوبينَ عَنِ اللَّهِ، فأهلُ الرِّضى يرَوْنَ اللَّهَ عزَّ وجلَّ.
وَهَذَا استدلالٌ قويٌ جِدًّا؛ لأنَّهُ لو كَانَ الكُلُّ محجوبينَ، لَمْ يكنْ مزبةٌ لذكرِ هؤلاءِ.
وعَلَى هَذَا، فنقولُ: الآياتُ خمسٌ، ويمكنُ أنْ نلحِقَ بها قولَ اللَّهِ تَعَالَى: (لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ) [الأنعام: 103]، عَلَى مَا سنقرِرُه فِي الردِّ عَلَى النُّفاةِ إنْ شاءَ اللَّهُ.
فهَذَا قولُ أهلِ السُّنَّةِ فِي رؤيةِ اللَّهِ تَعَالَى وأدلَّتُهُم، وهِيَ ظاهرةٌ جليَّةٌ، لاَ ينكرُها إلاَّ جاهلٌ أوْ مكابرٌ.
وخالفَهَمُ فِي ذلِكَ طوائفُ مِنْ أهلِ التَّعطيلِ مِنَ الجهميَّةِ والمعتزلةِ والأشاعرةِ وغيرِهم، واستدلّوُا بأدلَّةٍ سمعيَّةٍ متشابهةٍ، وأدلَّةٍ عقليَّةٍ متداعيةٍ:
أمَّا الأدلِّةُ السَّمعيَّةُ:
فالأوَّلُ: قولُهُ تَعَالَى: (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ قَال لَن تَرَانِى وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِى فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً) [الأعراف: 143].
ووجهُ الدَّلالةِ أنَّ (لَنْ) للنَّفيِ المؤبَّدِ، والنَّفْيُ خبرٌ، وخبرُ اللَّهِ تَعَالَى صدقٌ، لاَ يدخلُهُ النَّسخُ.
والردُّ عَلَيْهِِم مِنْ وجوهٍ:
-الأوَّلُ: منعُ كونِ (لَنْ) للنَّفيِ المؤبَّدِ؛ لأنَّهُ مجرَّدُ دَعْوى: قَالَ ابنُ مالِكٍ فِي ((الكافيةِ)):
وَمَنْ رَأى النَّفْيَ بِلَنْ مُؤَبَّداً فَقَوْلَهُ ارْدُدْ وَسِواهُ فَاعْضُدا
-الثَّاني: أنَّ موسى عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ لَمْ يطلبْ مِنَ اللَّهِ الرُّؤيةَ فِي الآخرةِ، وإنمَّا طلبَ رؤيةً حاضرةً، لقولِهِ: (أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ)، أيْ: الآنَ. فقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَه: (لَن تَرَانِي)، يعني: لَنْ تستطيعَ أنْ تَرانِيَ الآنَ، ثُمَّ ضربَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ مثلاً بالجبلِ حَيْثُ تجَلَّى اللَّهُ تَعَالَى لَهُ فجعلَهُ دكًّا، فَقَالَ: (وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَراَنِى)، فلمَّا رأى موسَى مَا حصلَ للجبلِ، عَلِمَ أنَّهُ هُوَ لاَ طاقةَ لَهُ برؤيةِ اللَّهِ، وخرَّ صَعِقاً لَهولِ مَا رأى.
ونَحْنُ نقولُ: إنَّ رؤيةَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا مستحيلةٌ؛ لأنَّ الحالَ البشريَّةَ لاَ تستطيعُ تحمُّلََ رؤيةِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، كَيْفَ وقَدْ قَالَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ربِّه عزَّ وجلَّ: ((حِجَابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انتهى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ)).
أمَّا رؤيةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الآخرةِ فممكنُةُ؛ لأنَّ النَّاسَ فِي ذلِكَ اليومِ يكونُونَ فِي عالَمٍ آخرَ، تختلفُ فِيهِ أحوالُهُم عَنْ حالِهِم فِي الدُّنْيَا، كَمَا يُعْلَمُ ذلِكَ مِن نصوصِ الكتابِ والسُّنَّةِ فيمَا يجريِ للنَّاسِ فِي عَرْصاتِ القيامةِ، وفِي مقرِّهِم فِي دارِ النَّعيمِ أو الجحيمِ.
-الوجهُ الثَّالثُ: أنْ يُقالَ: استحالةُ رؤيةِ اللَّهِ فِي الآخرةِ عندَ المنكرين لَهَا مبنيةٌ عَلَى أنَّ إثباتهَا يتضمَّنُ نقصاً فِي حقِّ اللَّهِ تَعَالَى! كَمَا يعلِّلُونَ نفيَهُم بذلِكَ، وحينئذٍ يكونُ سؤالُ موسى لربِّهِ الرُّؤيةَ دائراً بينَ الجهلِ بمَا يجبُ لِلَّهِ ويستحيلُ فِي حقِّهِ، أو الاعتداءِ فِي دعائهِ حينَ طَلَبَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يليقُ بهِ، إنْ كَانَ عالِماً بأنَّ ذلِكَ مستحيلٌ فِي حقِّ اللَّهِ، وحينئذٍ يكونُ هؤلاءِ النَّافونَ أعلَمَ مِنْ موسى فيمَا يجبُ لِلَّهِ تَعَالَى ويستحيلُ فِي حقِّهِ!! وَهَذَا غايةُ الضَّلالِ!
وبهَذَا الوجْهِ يتبيَّنُ أنَّ فِي الآيةِ دليلاً عَلَيْهِِم لاَ دليلاً لَهم.
وهكذا، كُلُّ دليلٍ مِنَ الكتابِ والسُّنَّةِ الصَّحيحةِ يستدَلُّ بهِ عَلَى باطلٍ أوْ نَفْيِ حقٍّ فسَيَكُونُ دليلاً عَلَى من أوردَهُ، لاَ دليلاً لَه.
الدَّليلُ الثَّاني لنُفاةِ رؤيةِ اللَّهِ تَعَالَى: قولُهُ تَعَالَى: (لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الأنعام: 103].
والردُّ عَلَيْهِِمْ: أنَّ الآيةَ فِيهَا نَفْيُ الإدراكِ، والرُّؤيةُ لاَ تستلزمُ الإدراكَ، ألاَ تَرَى أنَّ الرَّجُلَ يرَى الشَّمسَ ولاَ يُحِيطُ بهِا إدراكاً؟!
فَإِذَا أثبتْنَا أنَّ اللَّه تَعَالَى يُرى، لَمْ يلزمْ أنْ يكونَ يُدْرِكُ بهذِهِ الرُّؤيةِ؛ لأنَّ الإدراكَ أخصُّ مِنْ مطلقِ الرؤيةِ.
وَلِهَذَا نقولُ: إنَّ نفيَ الإدراكِ يدلُّ عَلَى وجودِ أصلِ الرُّؤيةِ؛ لأنَّ نفَي الأخصِّ يدلُّ عَلَى وجودِ الأعمِّ، ولَوْ كَانَ الأعمُّ منتفياً، لوجَبَ نفْيُهُ، وقِيلَ: لاَ تراهُ الأبصارُ،لأنَّ نفيَهُ يقتضِي نفيَ الأخصِّ، ولاَ عكسَ، ولأنَّهُ، لَوْ كَانَ الأعمُّ منتفياً، لكَانَ نفْيَ الأخصِّ إيهاماً وتلبيساً ينزَّهُ عَنْهُ كلامُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ.
وعَلَى هَذَا، يكونُ فِي الآيةِ دليلٌ عَلَيْهِم لاَ دليلَ لَهَمُ.
وأمَّا أدلةُ نُفاةِ الرُّؤيةِ العقليَّةِ، فَقَالَوا: لو كَانَ اللَّهُ يُرى، لزمَ أنْ يكونَ جسماً، والجسمُ ممتنعٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى؛ لأنَّهُ يستلزمُ التَّشبيهَ والتَّمثيلَ.
والردُّ عَلَيْهِم: أنَّهُ إنْ كَانَ يلزمُ مِنْ رؤيةِ اللَّهِ تَعَالَى أنْ يكونَ جسماً، فليكنْ ذلِكَ، لكنَّنا نعلمُ علمَ اليقينِ أنَّهُ لاَ يماثلُ أجسامَ المخلوقينَ؛ لأنَّ اللَّهَ تَعَالَى يقولُ: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى: 11].
عَلَى أنَّ القولَ بالجسمِ نفياً أوْ إثباتاً ممَا أحدثَهُ المتكلِّمونَ، ولَيْسَ فِي الكتابِ والسُّنَّةِ إثباتُهُ ولاَ نفيُهُ.
وقدْ أجابَ النُّفاةُ عَنْ أدلَّةِ أهلِ الإثباتِ بأجوبةٍ باردةٍ، فحرَّفُوها تحريفاً لاَ يَخْفَى عَلَى أحدٍ، ولَيْسَ هَذَا موضعَ ذكرِها، وهِيَ مذكورةٌ فِي الكتبِ المطوَّلِةِ.
مَا نستفيدُهُ مِنَ النَّاحيةِ المسلكيَّةِ مِنْ هذِهِ الآياتِ:
أمَّا فِي مسألةِ الرُّؤيةِ، فمَا أعظمَ أثرَها عَلَى الاتجاهِ المسلكيِّ؛ لأنَّ الإنسانَ إِذَا وجدَ أنَّ غايةَ مَا يصلُ إِلَيْهِ مِنَ الثَّوابِ هُوَ النَّظرُ إِلَى وجهِ اللَّهِ، كانتِ الدُّنْيَا كلُّها رخيصةً عندَه، وكُلُّ شيءٍ يرخصُ عندَه فِي جانبِ الوصولِ إِلَى رؤيةِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ؛ لأنهَّا غايةُ كُلِّ طالبٍ، ومنتهى المطالبِ.
فَإِذَا عَلِمْتَ أنَّكَ سوفَ ترى ربَّكَ عياناً بالبصرِ، فواللَّهِ لاَ تُساوِي الدُّنْيَا عندَكَ شيئاً.
فكُلُّ الدُّنْيَا ليسَ بشيءٍ؛ لأنَّ النَّظرَ إِلَى وجهِ اللَّهِ هُوَ الثُمَّرةُ، الَّتِي يتسابقُ فِيهَا المتسابقونَ، ويسعى إِلَيْهِا السَّاعونَ، وهِيَ غايةُ المرامِ مِنْ كُلِّ شيءٍ.
فَإِذَا علِمْتَ هَذَا، فَهَلْ تسعى إِلَى الوصولِ إِلَى ذلِكَ أم لا؟!
والجوابُ: نَعَمْ، أسعى إِلَى الوصولِ إِلَى ذلِكَ بدونِ ترددٍ.
وإنكارُ الرُّؤيةِ فِي الحقيقةِ حرمانٌ عظيمٌ، لكنَّ الإيمانَ بها يسوقُ الإنسانَ سوقاً عظيماً إِلَى الوصولِ إِلَى هذِهِ الغايةِ، فَهُوَ يسيرٌ ولِلَّهِ الحمدُ، فالدِّينُ كلُّه يُسْرٌ، حَتَّى إِذَا وُجِدَ الحَرجُ تيسَّرَ الدِّينُ، فأصلُهُ ميسَّرٌ، وإِذَا وُجِدَ الحَرجُ تيسَّرَ ثانيةً، وإِذَا لَمْ يُمكن القيامُ بهِ أبداً سقَطَ، فلاَ واجبَ مَعَ العَجْز، ولاَ حرامَ مَعَ الضَّرورةِ.
قوله (هذا الباب) الإشارة هنا إلي باب الاسماء والصفات .

(3) قولُهُ: (فِي كتابِ اللَّهِ كثيرٌ) ): ولذلِكَ، مَا مِنْ آيةٍ مِنْ كتابِ اللَّهِ، إِلَّا وتجدُ فِيهَا غالباً اسماً مِنْ أسماءِ اللَّهِ، أوْ فعلاً مِنْ أفعالِهِ، أوْ حُكماً مِنْ أحكامِهِ، بَلْ لو شِئْتَ لقُلْتَ: كُلُّ آيةٍ فِي كتابِ اللَّهِ فهِيَ صفةٌ مِنْ صفاتِ اللَّهِ؛ لأنَّ القرآنَ الكريمَ كلامُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، فكُلُّ آيةٍ مِنْهُ فهِيَ صفةٌ مِنْ صفاتِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ.
وقولُهُ: ((وَمَنْ تَدَبَّرَ القُرآنَ)): تدَبُّرُ الشَّيءَ، معناه: التفكرُّ فِيهِ، كأنَّ الإنسانَ يستدبِرُهُ مرَّةً ويستقبِلُهُ أخرى، فَهُوَ يكرِّرُ اللَّفظَ ليَفهمَ المعنَى.
فالَّذِي يتدبَّرُ القرآنَ بهَذَا الفعلِ، وأمَّا النِيَّةُ، فهِيَ أنْ يكونَ ((طالِباً لِلْهُدَى)) مِنْهُ، فَلَيْسَ قصْدُه بتدبُّرِ القرآنِ أنْ ينتصِرَ لقولِهِ، أوْ أنْ يتَّخذَ مِنْهُ مجادلةً بالباطلِ، ولكنَّ قصْدَهُ طلبُ الحقِّ، فإنَّهُ سوفَ تكونُ النَّتيجةُ قولَ المؤلِّفِ: ((تَبَيَّنَ لَهُ طَريقُ الحَقِّ)).
ومَا أعْظَمَها مِن نتيجةٍ!!
لكنَّها مسبوقةٌ بأمرينِ: التَّدَبُّرُ، وحُسنُ النيَّةِ، بأنْ يكونَ الإنسانُ طالباً لِلْهُدَى مِن القرآنِ، فحينئذٍ يتبيَّنُ لَهُ طريقُ الحقِّ.
والدَّليلُ عَلَى ذلِكَ عدَّةُ آياتٍ، مِنْهُا:
قولُ اللَّهِ تبارك وَتَعَالَى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) [النحل: 44].
وقَالَ تَعَالَى: (كِتَابٌ أَنزَلْنَهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُواْ ءَايَتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَبِ) [ص: 29].
وقَالَ تَعَالَى: (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ ءَابَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ) [المؤمنونَ: 68].
وقَالَ تَعَالَى: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ) [القمر: 32].
… والآياتُ فِي هَذَا كثيرة، تدلُّ عَلَى أن مَنْ تدبَّرَ القرآنَ –لكن بهذِهِ النِيَّةُ، وهِيَ طَلَبُ الْهُدى مِنْهُ-، لاَ بدَّ أنْ يَصِلَ إِلَى النَّتيجةِ، وهِيَ تبيُّنُ طريقِ الحقِّ.
أمَّا مَنْ تدبَّرَ القرآنَ ليضربَ بعضَه ببعضٍ، وليجادِلَ بالباطلِ، ولينصُرَ قولَه، كَمَا يُوجَدُ عِنْدَ أهَلْ البدعِ وأهْلِ الزَّيْغِ فإِنَّهُ يَعْمَى عن الحقِّ والعياذُ باللَّهِ:
لأنَّ اللَّهَ تَعَالَى يقول: (هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَبَ مِنْهُ ءَايَتٌ مُّحْكَمَتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَبِ وَأُخَرُ مُتَشَبِهَتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَبَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّسِخُونَ فِى الْعِلْمِ) [آل عمران: 7]، عَلَى تقديرِ (أما)، أيْ: وأمَّا الرَّاسخونَ فِي العلمِ، (فيَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا) [آل عمران: 7]، وإِذَا قالوا هَذَا القولَ، فسيهتدونَ إِلَى بيانِ هَذَا المتشابِهِ، ثُمَّ قال: (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُواْ الأَلْبَبِ) [آل عمران: 7].
وقَالَ تَعَالَى: (قُل هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِى ءَاذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ) [فصلت: 44] ).

هيئة الإشراف

#4

17 Dec 2008

شرح العقيدة الواسطية للشيخ مُحمَّد خَليل هَرَّاس رحمه الله

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وَقَوْلُهُ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ. إِلى رَبِّها نَاظِرَةٌ }، { عَلَى الأَرَائِكَ يَنْظُرُونَ }، { لِلَّذينَ أَحْسَنُوا الحُسْنَى وَزِيَادَةٌ }، وقَوْلُهُ: { لَهُمْ مَا يَشَاؤُونَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيْدٌ }، وهذا البابُ في كِتابِ اللهِ كَثيرٌ، مَنْ تَدَبَّرَ القُرآنَ طالِبًا للهُدى مِنْهُ؛ تَبَيَّنَ لهُ طريقُ الحَقِّ (1)).

الشرح:

قال الشيخ محمد خليل هراس (ت: 1395هـ): ((1) قولُهُ: { وُجُوهٌ يَوْمَئذٍ نَاضِرةٌ … } إلخ. هذهِ الآياتُ تُثبتُ رؤيةَ المؤمنينَ للهِ عزَّ وجلَّ يومَ القيامةِ في الجنَّةِ.
وقَدْ نفاهَا المعتزلَةُ؛ بناءً على نفيِهِم الجهةَ عن اللهِ؛ لأنَّ المرئيَّ يجبُ أنْ يكونَ في جِهةٍ مِن الرَّائِي، وما دامتْ الجهةُ مستحيلَةٌ، وهيَ شرطٌ في الرُّؤيةِ؛ فالرُّؤيةُ كذلكَ مستحيلةٌ.
واحتجُّوا مِن النَّقلِ بقولِهِ تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصارُ }، وقولِهِ لموسى عليهِ السَّلامُ حينَ سألَهُ الرُّؤيةَ: { لَنْ تَرَاني ولكِنِ انْظُرْ إِلى الجَبَلِ فإنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي }.
وأَمَّا الأشاعرةُ؛ فَهُمْ معَ نفيِهِمْ الجِهةَ كالمعتزلةِ يُثبتون الرُّؤيةَ، ولذلكَ حارُوا في تفسيرِ تلكَ الرُّؤيةِ، فمِنْهُمْ مَنْ قالَ: يرونَهُ مِن جميعِ الجهَاتِ، ومِنْهُمْ مَنْ جعلَهَا رُؤيةً بالبصيرةِ لا بالبصرِ، وقالَ: المقصودُ زيادةُ الانكشافِ والتَّجلِّي حتَّى كأنَّهَا رؤيةُ عينٍ.
وهذهِ الآياتُ التَّي أوردَهَا المؤلِّفُ حُجَّةٌ على المعتزلةِ في نفيِهِمُ الرُّؤيةَ؛ فإنَّ الآيةَ الأولى عُدِّي النَّظرُ فيهَا بِـ ( إِلى )، فيكونُ بمعنى الإِبصارِ؛ يُقالُ: نظرتُ إليهِ وأبصرتُهُ بمعنى، وَمُتَعَلَّقُ النَّظرِ هوَ الرَّبُ جلَّ شأنُهُ.
وأَمَّا ما يتكلَّفهُ المعتزلةُ مِن جعلِهِمْ ( ناظرَةٌ ) بمعنى منتظرةٌ، و ( إلى ) بمعنى: النِّعمةِ، والتَّقدْيرُ: ثوابُ رَبِّهَا منتظرةٌ؛ فهوَ تأويلٌ مُضحكٌ.
وأَمَّا الآيةُ الثانيةُ؛ فتُفِيدُ أنَّ أهلَ الجنَّةِ، وهمْ على أرائِكِهِمْ – يعني: أَسِرَّتِهمْ، جمعُ أَرِيكةٍ – ينظرون إلى رَبِّهمْ.
وأَمَّا الآيتانِ الأخِيرتانِ؛ فقَدْ صحَّ عن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلمَ تفسيرُ الزِّيادةِ بالنَّظرِ إلى وجهِ اللهِ عزَّ وجلَّ.
ويشهدُ لذلكَ أيضًا قولُهُ تعالى في حقِّ الكفَّارِ: ( كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبونَ ). فدلَّ حَجْبُ هؤلاءِ على أنَّ أولياءَهُ يرونَهُ.
وأحاديثُ الرُّؤيةِ متواترةٌ في هذا المعنى عندَ أهلِ العلمِ بالحديثِ، لا ينكرُهَا إلاَّ مُلحدٌ زِنديقٌ.
وأَمَّا ما احتجَّ بهِ المُعتزِلَةُ مِن قولِهِ تعالى: { لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصارُ }؛ فَلا حُجَّةَ لهمْ فيهِ؛ لأنَّ نفيَ الإِدراكِ لا يستلزمُ نفيَ الرُّؤيةِ، فالمرادُ أنَّ الأبصارَ تراهُ، ولكنْ لا تحيطُ بهِ رُؤيةً؛ كمَا أنَّ العقولَ تعلمُهُ ولكنْ لا تحيطُ بهِ عِلمًا؛ لأنَّ الإِدراكَ هوَ الرُّؤيةُ على جِهةِ الإِحاطةِ، فهوَ رُؤيةٌ خاصَّةٌ، ونفيٌ الخاصِّ لا يستلزمُ نفيَ مطلقِ الرُّؤيةِ.
وكذلكَ اسْتِدْلاَلُهُمْ على نَفْيُ الرُّؤيةِ بقولِهِ تعالى لِمُوسى عليهِ السَّلامُ: ( لَنْ تَرانِي ) لا يَصلُحُ دليلاً، بلْ الآيةُ تدلُّ على الرُّؤيةِ مِن وُجُوهٍ كثيرةٍ؛ مِنهَا:
1 – وُقُوعُ السُّؤالِ مِن مُوسى، وهوَ رسولُ اللهِ وكليمُهُ، وهوَ أعلمُ بما يستحيلُ في حقِّ اللهِ مِن هؤلاءِ المُعتزِلَةِ، فلو كانَتِ الرُّؤيةُ مُمتنِعَةً لَمَا طلبَهَا.
2 – أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ علَّقَ الرُّؤيةَ على استقرارِ الجبلِ حالَ التَّجلِّي، وهوَ ممكنٌ، والمعلَّقُ على الممكنِ ممكنٌ.
3 – أنَّ اللهَ تجلَّى للجبلِ بالفعلِ، وهوَ جمادٌ، فلا يمتنِعُ إذًا أنْ يتجلَّى لأهلِ محبَّتِهِ وأصفيائِهِ.
وأَمَّا قولُهُم: إنَّ ( لَنْ ) لتأبِيدِ النَّفيِ، وأَنَّهُا تدلُّ على عدمِ وُقُوعِ الرُّؤيةِ أصلاً؛ فهوَ كَذِبٌ على اللُّغةِ، فقَدْ قالَ تعالى حكايةً عن الكفَّارِ: { ولَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا }، ثمَّ قالَ: { ونَا دَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ }، فأخبرَ عن عدمِ تمنِّيهِمْ للموتِ بِـ (لَنْ)، ثمَّ أخبرَ عن تمنِّيهمْ لهُ وَهُمْ في النَّارِ.
وإذًا؛ فمعنى قولِهِ: { لَنْ تَرَاني }: لنْ تستطيعَ رُؤيتِي في الدُّنيا؛ لضعفِ قُوَى البشرِ فيهَا عن رؤيتِهِ سبحانَهُ، ولو كانَتِ الرُّؤيةُ ممتنعةً لذاتِهَا؛ لقالَ: إنِّي لا أُرَى، أو لا يجوزُ رُؤيَتِي، أو لستُ بمرئيٍّ … ونحوَ ذلكَ، واللهُ أعلمُ.
مباحثُ عامَّةٌ حولَ آياتِ الصِّفاتِ:
إنَّ النَّاظِرَ في آياتِ الصِّفاتِ التَّي ساقَهَا المؤلِّفُ رَحِمَهُ اللُهُ يستطيعُ أنْ يستنبِطَ منهَا قواعدَ وأصولاً هَامَّةً يجبُ الرُّجوعُ إِلَيْهَا في هذا البابِ:
الأصلُ الأوَّلُ: اتَّفقَ السَّلَفُ على أَنَّهُ يجبُ الإِيمانُ بجميعِ الأسماءِ الحُسنى، وما دلَّتْ عليهِ مِن الصِّفاتِ، وما ينشأُ عنها مِن الأفعالِ.
مثالُ ذلكَ القُدرةُ مثلاً، يجبُ الإِيمانُ بأنَّهُ سبحانَهُ على كلِّ شيءٍ قديرٌ، والإِيمانُ بكمَالِ قُدرتِهِ، والإِيمانُ بأنَّ قدْرتَهُ نشأَتْ عنهُا جميعُ الكائناتِ.. وهكذا بقيَّةُ الأسماءِ الحُسنى على هذا النَّمَطِ.
وعلى هذا؛ فما وردَ في هذهِِ الآياتِ التَّي ساقَهَا المصنِّفُ مِن الأسماءِ الحُسنى؛ فإنَّهَا داخلةٌ في الإِيمانِ بالاسمِ.
وما فيهَا مِن ذِكرِ الصِّفاتِ؛ مثلُ: عزَّةِ اللهِ، وقُدرتِهِ، وعلمِهِ، وحكمتِهِ، وإرادتِهِ، ومشيئتِهِ؛ فإنَّهَا داخلةٌ في الإِيمانِ بالصِّفاتِ.
وما فيهَا مِن ذِكرِ الأفعالِ المُطلَقةِ والمقيَّدةِ، مِثلُ: يعلمُ كذا، ويحكمُ ما يُريدُ، ويرى، ويسمعُ، ويُنادِي، ويُناجِي، وكلَّمَ، ويكلِّمُ؛ فإنَّهَا داخلةٌ في الإِيمانِ بالأفعالِ.
الأصلُ الثَّانِي: دلَّتْ هذهِ النُّصوصُ القرآنيَّةُ على أنَّ صفاتَ البارِي قِسمانِ:
1 – صفاتٌ ذاتيَّةٌ لا تنفكُّ عنها الذَّاتُ، بلْ هيَ لازمةٌ لهَا أزلاً وأبدًا، ولا تتعلََّقُ بهَا مشيئتُهُ تعالى وقُدرتُهُ، وذلكَ كصِفاتِ: الحياةِ، والعلمِ، والقدْرةِ، والقوَّةِ، والعزَّةِ، والمُلكِ، والعظمةِ، والكبرياءِ، والمجدِ، والجلالِ … إلخ.
2 – صفاتٌ فعليَّةٌ تتعلَّقُ بهَا مشيئتُهُ وقُدرتُهُ كلَّ وقتٍ وآنٍ، وتحدثُ بمشيئتِهِ وقُدرتِهِ آحادُ تلكَ الصِّفاتِ مِن الأفعالِ، وإنْ كانَ هوَ لمْ يزلْ موصوفًا بهَا، بمعنى أنَّ نوعَهَا قدْيمٌ، وأفرادُهَا حادثَةٌ، فهوَ سبحانَهُ لمْ يزلْ فعّالاً لِمَا يُريدُ، ولمْ يزلْ ولا يزالُ يقولُ ويتَكَلَّمُ ويخلقُ ويُدبِّرُ الأمورَ، وأفعالُهُ تقعُ شيئًا فشيئًا؛ تبعًا لحكمتِهِ وإرادتِهِ.
فعلى المؤمنِ الإِيمانُ بكلِّ ما نسبَهُ اللهُ لنفسِهِ مِن الأفعالِ المتعلِّقةِ بذاتِهِ؛ كالاستواءِ على العرشِ، والمجيءِ، والإِتيانِ، والنُّزولِ إلى السَّماءِ الدُّنيا، والضَّحكِ، والرِّضى، والغضبِ، والكراهيةِ، والمحبَّةِ. والمتعلِّقةِ بخلقِهِ؛ كالخلقِ، والرِّزقِ، والإِحياءِ، والإماتَةِ، وأنواعِ التَّدبيرِ المختلفةِ.
الأصلُ الثَّالثُ: إثباتُ تفرُّدِ الرَّبِّ جلَّ شأنُهُ بِكُلِّ صفةِ كمَالٍ، وأنَّهُ ليسَ لهُ شريكٌ أو مثيلٌ في شيءٍ مِنهَا.
وما وردَ في الآياتِ السَّابِقةِ مِن إثباتِ المَثَلِ الأعلى لهُ وحدَهُ، ونفيِ النِّدِ والمِثلِ والكُفءِ والسَّمِيِّ والشَّريكِ عنهُ يدُلُّ على ذلكَ؛ كمَا يدُلُّ على أَنَّهُ مُنزَّهٌ عن كلِّ نقصٍ وعيبٍ وآفةٍ.
الأصلُ الرَّابعُ: إثباتُ جميعِ ما وردَ بهِ الكتابُ والسُّنَّةُ مِن الصِّفاتِ، لا فرقَ بينَ الذَّاتيَّةِ منهَا؛ كالعلمِ والقدْرةِ والإِرادةِ والحياةِ والسَّمعِ والبصرِ ونحوِهَا، والفعليَّةِ؛ كالرِّضَا والمحبَّةِ والغضبِ والكراهَةِ، وكذلكَ لا فرقَ بينَ إثباتِ الوجهِ واليدينِ ونحوِهِمَا، وبينَ الاستواءِ على العرشِ والنُّزولِ، فكلُّهَا مما اتَّفَقَ السَّلفُ على إثباتِهِ بلا تأويلٍ ولا تعطيلٍ، وبلا تشبيهٍ وتمثيلٍ.
والمُخَالِفُ في هذا الأصلِ فريقانِ:
1 - الْجَهْمِيَّةُ: ينفُون الأسماءَ والصِّفاتِ جميعًا.
2 – المُعْتَزِلَةُ: فإنَّهمْ ينفُون جميعَ الصِّفاتِ، ويُثبتون الأسماءَ والأحكامَ، فيقولون: عليمٌ بلا عِلمٍ، وقَديرٌ بلا قُدرةٍ، وحيٌّ بلا حياةٍ … إلخ.
وهذا القولُ في غايةِ الفسادِ؛ فإنَّ إثباتَ موصوفٍ بلا صِفةٍ، وإثباتَ ما للصِّفةِ للذَّاتِ المجرَّدةِ: مُحالٌ في العقلِ؛ كمَا هوَ باطلٌ في الشَّرعِ.
أَمَّا الأشعريةُ ومَنْ تَبِعَهُم؛ فإنَّهمْ يوافِقُون أهلَ السُّنَّةِ في إثباتِ سبعِ صفاتٍ يُسَمُّونَهَا صفاتَ المعانِي، ويدَّعون ثُبُوتَهَا بالعقلِ، وهيَ: الحياةُ، والعلمُ، والقدْرةُ، والإِرادةُ، والسَّمعُ، والبصرُ، والكلامُ.
ولكنَّهمْ وافقوا المُعتزِلَةَ في نفيِ ما عدا هذهِِ السَّبعِ مِن الصِّفاتِ الخبريَّةِ التَّي صحَّ بهَا الخبرُ.
والكلُّ محجُوجون بالكتابِ والسُّنَّةِ وإجماعِ الصَّحابةِ والقرونِ المفضَّلةِ على الإِثباتِ العامِّ).

هيئة الإشراف

#5

17 Dec 2008

شرح العقيدة الواسطية للشيخ: صالح بن فوزان الفوزان

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وَقَوْلُهُ: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ. إِلى رَبِّها نَاظِرَةٌ )، ( عَلَى الأَرَائِكَ يَنْظُرُونَ )، ( لِلَّذينَ أَحْسَنُوا الحُسْنَى وَزِيَادَةٌ )، وقَوْلُهُ: ( لَهُمْ مَا يَشَاؤُونَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ )، وهذا البابُ في كِتابِ اللهِ كَثيرٌ، مَنْ تَدَبَّرَ القُرآنَ طالِباً للهُدى مِنْهُ؛ تَبَيَّنَ لهُ طريقُ الحَقِّ.(1)).

الشرح:

قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: ((40)قولُه تعالى: (وُجُوهٌ) أي وجوهُ المؤمنين (يَومَئِذٍ) أي يومَ القيامةِ (نَاضِرَةٌ) بالضَّادِ مِن النَّضَارةِ وهي البهَاءُ والحُسنُ. أي ناعِمةٌ غَضَّةٌ حَسَنةٌ مُضِيئةٌ مُشْرِقةٌ (إلى رَبِّهَا) أي: خالِقهَا (نَاظِرَةٌ) أي تنظرُ إليه بأبصارِها كما تواترت به الأحاديثُ الصَّحيحةُ، وأجمع عليه الصَّحابةُ والتَّابعون وسلفُ الأُمَّةِ، واتَّفق عليه أئمَّةُ الإسلامِ، فالشَّاهدُ مِن الآيةِ الكريمةِ: إثباتُ رؤيةِ المؤمنينَ لرَبِّهم يومَ القيامةِ ـ وقولُه: (عَلى الأَرائِكِ) جَمعُ أريكةٍ وهي السُّررُ (يَنْظرونَ) إلى اللهِ عزّ وجلّ. وأمَّا الكفَّارُ فقد تقدَّم في الآياتِ التي قبل هذه الآيات أنَّهم (عَنْ رَبّهِمْ يَوْمَئذٍ لَمحْجُوبُونَ).
والشَّاهِدُ مِن الآيةِ: إثباتُ رؤيةِ المؤمنين لرَبِّهم عزَّ وجلَّ.
وقولُه تعالى: (للَّذيِنَ أَحْسَنُوا) بالقيامِ بما أوجبه اللهُ عليهم مِن الأعمالِ والكفِّ عما نهاهم عنه مِن المعاصي (الحُسْنَى) أي: المثوبةُ الحسنى. وقيلَ: الجنَّةُ. (وَزِيَادَةٌ) وهي النَّظرُ إلى وجهِ اللهِ الكريم، كما ثبت تفسيرُها بذلك عَن رسولِ اللهِ صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ في صحيحِ مسلمٍ وغيرِه، وكما فسَّرها بذلك سَلَفُ هذه الأُمَّةِ، وعَلى ذلك يكونُ الشَّاهِدُ مِن الآيةِ الكريمةِ: إثباتَ رؤيةِ المؤمنين لرَبِّهم يومَ القيامةِ.
وقولُه تعالى: (لَهُمْ مَا يَشاءُونَ فِيهَا) أي للمؤمنين في الجنَّةِ ما تشتهي أنفسُهم وتَلَذُّ أعينهُم مِن فُنونِ النَّعيمِ وأنواعِ الخيرِ (وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) أي زيادةٌ عَلى ذلك، وهو النَّظرُ إلى وجِه اللهِ الكريمِ. وهذا هو الشَّاهدُ مِن الآيةِ الكريمةِ، وهو إثباتُ النَّظرِ إلى وجِه اللهِ الكريمِ في الجنَّةِ.
ما يُستفادُ مِن الآياتِ الكريمةِ:
يستفادُ منها إثباتُ رؤيةِ المؤمنين لرَبِّهم يومَ القيامةِ، وأنَّها أعظمُ النَّعيمِ الذي ينالونه. وهذا هو قولُ الصَّحابةِ والتَّابعين وأئمّةِ المسلمين، خلافا للرَّافضةِ والجهميّةِ والمعتزلة، الذين ينفُونَ الرُّؤيةَ ويخالفونَ بذلك الكتابَ والسُّنَّةَ وإجماعَ سلفِ الأمةِ وأئمَّتَها، ويعتمدون عَلى شُبهٍ واهيةٍ وتعليلاتٍ باطلةٍ منها:
1-قولُهم: إنَّ إثباتَ الرُّؤيةِ يلزمُ منه إثباتُ أنَّ اللهَ في جِهةٍ، ولو كان في جهةٍ لكان جسمًا، والله منـزَّهٌ عن ذلك. والجوابُ عَن هذه الشُّبهةِ أن نقولَ: لفظُ الجهةِ فيه إجمالٌ. فإن أُرِيدَ بالجهةِ أنَّه حَالٌّ في شيءٍ مِن مخلوقاتِه، فهذا باطلٌ، والأدلةُ تردُّه، وهذا لا يلزمُ مِن إثباتِ الرؤيةِ، وإن أُرِيد بالجهةِ أنَّه سبحانَه فوقَ مخلوقاتِه، فهذا ثابتٌ للهِ سبحانَه، ونفيُه باطلٌ، وهو لا يتنافى مع رؤيتِه سبحانَه.
2-استدلُّوا بقولِه تعالى لموسى: (لَنْ تَرَانِي)، والجوابُ عَن هذا الاستدلالِ: أنَّ الآيةَ الكريمةَ واردةٌ في نفيِ الرُّؤيةِ في الدُّنيا، ولا تنفي ثبوتَها في الآخرةِ، كما ثبت في الأدلَّةِ الأُخرى. وحالةُ النَّاسِ في الآخرةِ تختلفُ عن حالتِهم في الدُّنيا.
3- استدلُّوا بقولِه تعالى: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ)، والجوابُ عَن هذا الاستدلالِ: أنَّ الآيةَ إنَّما فيها نفيُ الإدراكِ وليس فيها نفيُ الرُّؤيةِ. والإدراكُ: معناه الإحاطةُ، فاللهُ سبحانَه وتعالى يراه المؤمنون ولا يحيطون به، بل نفيُ الإدراكِ يلزمُ منه وجودُ الرؤيةِ، فِالآيةُ مِن أدلَّةِ إثباتِ الرُّؤيةِ، واللهُ تعالى أعلمُ.
وقولُ المؤلِّفِ رحمه اللهُ: (وَهَذَا الْبَابُ في كِتَابِ اللهِ كَثِيرٌ) أي بابُ إثباتِ أسماءِ اللهِ وصفاتِه في القرآنِ كثيرٌ، وإنما ذكر المؤلِّفُ بعضَه، فقد ورد في آياتٍ كثيرةٍ مِن كتابِ اللهِ إثباتُ أسماءِ اللهِ وصفاتِه عَلى ما يليقُ به، و(مَن تدبَّر القرآنَ) أي تفكَّر فيه وتأمَّل ما يدلُّ عليه مِن الهُدى (تَبَيَّنَ لَهُ طَرِيقُ الْحَقِّ) أي اتَّضح له سبيلُ الصَّوابِ، وتدبُّرُ القرآنِ هو المطلوبُ مِن تلاوتِه، قال تعالى:(كِتَابٌ أَنْزَلْناهُ إِليْكَ مَبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الأَلْبَابِ) وقال تعالى: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) وقال تعالى: (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا القَوْلَ) ).

هيئة الإشراف

#6

17 Dec 2008

الروضة الندية للشيخ: زيد بن عبد العزيز بن فياض رحمه الله

المتن:

قال أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وَقَوْلُهُ :{ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ . إِلى رَبِّها نَاظِرَةٌ } ، { عَلَى الأَرَائِكَ يَنْظُرُونَ } ، { لِلَّذينَ أَحْسَنُوا الحُسْنَى وَزِيَادَةٌ }، وقَوْلُهُ: { لَهُمْ مَا يَشَاؤُونَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ }(1) ).


الشرح:

قال الشيخ زيد بن عبد العزيز بن فياض (ت: 1416هـ): ((1) فِي هَذِهِ الآْيَاتِ إثباتُ رؤيةِ المؤمنين ربَّهم جل وعلا يومَ القِيامَةِ عِيَاناً بأبْصارِهم . ومسألةُ الرُّؤيةِ من أعظم المسائلِ التي وقعَ النِّزاعُ فِيهَا بين أَهْلِ السُّنَّةِ وغَيْرِهم .
(( وقد اتَّفقَ عليها الأَنْبِيَاءُ والمُرسلونَ ، وجميعُ الصَّحابةِ والتَّابعونَ ، وأئمَّةُ الإسلامِ عَلَى تتابعِ القرونِ . والمُخالفُ فِي الرُّؤيةِ الْجَهْمِيَّةُ والْمُعْتَزِلَةُ ومَن اتَّبعهم مِن الخوارجِ والإمامِيَّةِ وقولُهم باطلٌ مَردودٌ بالْكِتَابِ والسُّنَّةِ . قَالَ ابنُ خُزيمةَ : لم يختلفِ المؤمنونَ فِي أَنَّ المؤمنين يَرونَ خالِقَهم يومَ المعادِ ومَن أَنْكرَ ذَلِكَ فلَيْسَ بمؤمِنٍ عندَ المؤمنينَ ا.ه .
قَوْله :{ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ } أي حسنةٌ مُشرقةٌ { إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } ترى اللهَ عِياناً .
(( وإضافةُ النَّظرِ إلى الوَجْهِ الَّذِي هُوَ مَحلُّه فِي هَذِهِ الآْيَةِ ، وتَعدِّيه بأداةِ (( إلى )) الصَّريحةِ فِي نظرِ العينِ ، وإخلاءِ الْكَلاَمِ مِن قرينةٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بالنَّظرِ المضافِ إلى الوَجْهِ المُعدَّى بإلى خلاف حقيقِته وموضوعه صريحٌ فِي أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى أرادَ بذَلِكَ نَظرَ العَينِ التي فِي الوَجْهِ إلى نَفْسِِ الرَّبِّ جل جلاله فإِنَّ النظرَ له عِدَّةُ استعمالاتٍ بحسبِ صلاتِه وتَعدِّيه بنفسِه فإِنْ عُدِّيَ بنفسِه فمعناه التَّوقُّفُ والانْتظارُ . كقَوْلِه :{ انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ } وإِنْ عُدِّيَ بفِي فمعناه التَّفكُّرُ والاعتبارُ كقَوْله :{ أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } وإِنْ عُدِّيَ بإلى فمعناه المُعاينةُ بالأبْصارِ . كقَوْلِهِ :{ انْظُرُواْ إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ } فكَيْفَ إذا أُضيفَ إلى الوَجْهِ الَّذِي هُوَ محلُّ البَصرِ .
(( وقد أخْرجَ عبدُ بنُ حُميدٍ عَن عِكرمةَ إِنْكارَ الرُّؤيةِ . ويُمْكِنُ الجمْعُ بالحَمْلِ عَلَى غيرِ أَهْلِ الجَنَّةِ وأخَرجَ بسندٍ صحيحٍ عَن مُجاهدٍ : ناظِرةٌ : تنظرُ الثَّوابَ . وعَن أبي صالحٍ نحوُه . وأوْردَ الطَّبريُّ الاختلافَ فقَالَ : الأوْلى بالصَّوابِ ما ذكَرْناه عَن الحسنِ وعِكرمةَ وهُوَ ثبوتُ الرُّؤيةِ لمُوافقِته الْأَحَادِيثَ الصَّحيحةَ . وبالَغَ ابنُ عبدِ البرِّ فِي رَدِّ الَّذِي نُقِلَ عَن مُجاهدٍ . وقَالَ : هُوَ شذوذٌ وقد تَمسَّكَ به بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ . وتَمَسَّكوا أيضاً بقَوْلِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ سؤالِ جبريلَ عَن الإسلامِ والإيمانِ والإحْسانِ .
وفيه : أَنْ تَعبدَ اللهَ كَأَنَّك تراه فإِنْ لم تكن تَراهُ فإِنَّه يَراكَ . وتُعُقِّبَ بإِنَّ المَنْفِِيَّ فيه رُؤيتُه فِي الدُّنيا لأَنَّ العبادَةَ خَاصَّةٌ بها . فلو قَالَ قائلٌ : إِنَّ فيه إشارةً إلى جوازِ الرُّؤيةِ فِي الآخرةِ لَما أبعدَ . وقَالَ الْبَيْهَقِيُّ : إذا ثَبَتَ أَنَّ ((ناظِرةٌ )) هنا بمعنى ((رَائِيةٍ )) انْدفعَ قَوْلُ مَن زَعَمَ أَنَّ المعنى ناظرةٌ إلى ثوابِ ربِّها لأَنَّ الأصلَ عدمُ التَّقديرِ . وأُريدَ منطوقُ الآْيَةِ فِي حقِّ المؤمنين بمفهومِ الْآيَةِ الأخْرى فِي حقِّ الكافِرينَ { إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } وقَيْدُها بالقِيامَةِ فِي الآيتين إشارةٌ إلى أَنَّ الرُّؤْيةَ تَحصلُ للمؤمنين فِي الآخرةِ دونَ الدُّنيا ا.ه وقدْ أخْرَجَ أبو العَبَّاسِ السَّرَّاجُ عَن مالكِ بنِ أَنَسٍ وقِيلَ له:يا أبا عبدِ اللهِ ، قَوْلُ اللهِ تَعَالَى :{ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } يَقُولُ قومٌ إلى ثَوابِه ؟ فقَالَ كََذَبوا فأين هم عَن قَوْلِه تَعَالَى :{ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } ومِن حَدِيثِ النَّظرِ؟ إِنَّ كُلَّ موجودٍ يصِحُّ أَنْ يُرى . وهَذَا عَلَى سبيلِ التَّنزلِ وإلا فَصفاتُ الخالقِ لا تُقاسُ عَلَى صفاتِ المخْلُوقين . وَتَعَقَّبَ ابنُ التِّينِ مَن زَعَمَ أَنَّ الرُّؤْيةَِ بمعنى الْعِلْمِ تَتعدَّى إلى مَفعولين تَقُولُ : رأيتُ زَيداً فَقيهاً – أي عَلِمتُه – فإِنْ قُلتَ رأيتُ زَيداً مُنطَلِقاً لم يُفهمْ منه إلا رؤيةُ البصرِ . ويَزيدُهُ تَحقيقاً قَوْلُه فِي الخبرِ : إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ عِيَاناً ،
لأَنَّ اقترَانَ الرُّؤْيةِ بالعِيانِ لا يَحتملُ أَنْ تَكُونَ بمعنى الْعِلْمِ . وقَالَ ابنُ بَطَّالٍ : ذَهبَ أَهْلُ السُّنَّةِ وجمهورُ الأُمَّةِ إلى جوازِ رؤيةِ اللهِ فِي الآخرةِ . وَمَنعَ الخوارجُ والْمُعْتَزِلَة وبَعْضُ المُرجئةِ ، وتَمَسَّكُوا بإِنَّ الرُّؤْيةَ تُوجبُ كَوْنَ المرئيِّ مُحدثاً وحَالاًّ فِي مكَانٍ . وأوَّلُوا قَوْلَه (( ناظِرَةٌ )) بِمُنتظرةٍ وهُوَ خطأٌ لأَنَّه لا يَتعدَّى (( بإلى )) وما تَمسَّكوا به فاسِدٌ لقيامِ الأدلَّةِ عَلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى موجودٌ . والرُّؤْيةُ فِي تَعلُّقِها بالمرئِيِّ بِمنزلةِ الْعِلْمِ فِي تعلُّقِه بالمعلومِ فإذا كَانَ تَعلُّقُ الْعِلْمِ بالمعلومِ لا يُوجبُ حُدوثَه فكذَلِكَ المَرْئِيُّ .
(( وأما ما رُوِيَ عمَّن تَأوَّلَ ذَلِكَ بإِنَّ الْمُرَادَ "بإلى" مُفردُ الآلاءِ ؛ وهِيَ النِّعمُ فقد أبْعَدَ النُّجعةَ وأبطلَ فيما ذَهب إليه . وأين هُوَ مِن قَوْلِه تَعَالَى :{ كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } قَالَ الشَّافِعِيُّ رحِمَه اللهُ : ما حُجِبَ الفُجَّارُ إلا وقد عُلِم أَنَّ المؤمنين يَرونه عز وجل . ثُمَّ تواتَرَتِ الأخبارُ عَن رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما دَلَّ عَلَيْهِ سياقُ الآْيَةِ الكريمةِ وهِيَ قَوْلُه :{ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } .
وقَوْلُه :{ عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ } الأرائكُ جمْعُ أريكةٍ . وهِيَ سريرٌ مفروشٌ .
قَالَ فِي الصِّحاحِ الأريكةُ : سريرٌ مُتَّخذٌ مُزيَّنٌ فِي قُبَّةٍ أو بيتٍ . والجمْعُ الأرائِكُ .
وقَالَ الأزْهَرِيُّ الأريكةُ : كُلُّ ما يُتَّكأُ عَلَيْهِ . (يَنظُرُونَ) إلى وَجْهِ اللهِ وهُوَ أفضلُ نَعيمِ أَهْلِ الجَنَّةِ . فأَهْلُ الجَنَّةِ فِي النَّعيمِ ، والكُفَّارُ فِي الجحيمِ مَحجوبونَ عَن رؤيةِ اللهِ .
(( فجَمَعَ عليهم بينَ نَوعَي العذابِ عذابِ النَّارِ وعذابِ الحِجابِ عنه سُبْحَانَهُ كما جمَعَ لأوْلِيائِهِ بين نَوْعي النَّعيمِ نَعِيمِ التَّمتُّعِ بما فِي الجَنَّةِ وَنعيمِ التَّمتُّعِ برؤيتِه . وذكرَ سُبْحَانَهُ هَذِهِ الأَنْواعَ الأربعةَ فِي هَذِهِ السُّورةِ فقَالَ فِي حقِّ الأبرارِ :{ إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ } ولقد هَضَمَ معنى الآْيَةِ مَن قَالَ : ينظرونَ إلى أعدائِهم يُعذَّبونَ ، أو يَنظرونَ إلى قُصورِهم وبَساتِينِهم ؛ أو يَنظرُ بعضُهم إلى بَعْضٍ ! وكُلُّ هَذَا عدولٌ عَن المقصودِ إلى غيرِه . وإِنَّما المعنى ينَظرونَ إلى وَجْهِ ربِّهم ضِدَّ حالِ الكُفَّارِ الذين هم عَن ربِّهم لَمحجوبون { ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ } ، وتأمَّلْ كَيْفَ قابَلَ سُبْحَانَهُ ما قالَه الكُفَّارُ فِي أعدائِهم فِي الدُّنْيا وسَخِروا به منهم بِضِدِّه فِي القِيامَةِ فإِنَّ الكُفَّارَ كَانُوا إذا مَرَّ بهم المُؤمنونَ يَتغامَزُون ويَضحكُونَ منهم { وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُواْ إِنَّ هَؤُلاَءِ لَضَالُّونَ } فقَالَ تَعَالَى :{ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنواْ مِن الكُفَّارِ يَضْحَكُونَ } مقابَلةً لِتَغامُزِهم وضَحِكِهم منهم . ثُمَّ قَالَ :{ عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ } فأطْلقَ النَّظرَ ولم يُقيِّدْه بمنظورٍ دونَ منظورٍ . وأعَلَى ما نُظِرَ إليه وأجَلُّه وأعْظَمُه هُوَ اللهُ سُبْحَانَهُ . والنَّظرُ إليه أجَلُّ أَنْواعِ النَّظرِ وأفْضلُها وهُوَ أعْلَى مراقبِ الهدايةِ . فقابَلَ بذَلِكَ قولَهم { إِنَّ هَؤُلاَءِ لَضَالُّونَ } فالنَّظرُ إلى الرَّبِّ سُبْحَانَهُ مُرادٌ مِن هذين المَوْضوعين ولابُدَّ . إمَّا بخُصوصِه وإما بالعمومِ والإطلاقِ . ومَن تَأمَّلَ السِّياقَ لم يجدِ الآيتين تَحْتملانِ غيرَ إرادةِ ذَلِكَ خُصوصاً أو عُموماً)) .
قَوْلُه :{ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } الْحُسنى الجَنَّةُ وما شاء اللهُ مِن الثَّوابِ .
والزِّيادةُ النَّظرُ إلى وَجْهِ اللهِ . وفِي الجَنَّةِ ما لا عينٌ رأتْ ولا أُذنٌ سَمِعتْ ولا خَطرَ عَلَى قلبِ بَشَرٍ كما قَالَ تَعَالَى :{ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } وأعْلَى ما أُعطيه أَهْلُ الجَنَّةِ مِن النَّعيمِ النَّظرُ إلى وَجْهِ اللهِ كما روى مُسْلِمٌ فِي صحيحِهِ عَن صُهيبٍ قَالَ : قَرَأَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } قَالَ : إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ وأَهْلُ النَّارِ النَّارَ نَادَى مُنَادٍ :
يا أَهْلَ الجَنَّةِ، إِنَّ لكم عندَ اللهِ مَوْعِداً ويُرِيدُ أَنْ يُنْجِزَكُمُوهُ . فيَقُولُونَ ما هُوَ ؟ ألمْ يُبَيِّضْ وُجُوهَنَا وُيُثَقِّلْ مَوازِينَنَا وَيُدْخِلْنا الجَنَّةَ وَيُزَحْزِحْنَا مِن النَّارِ ؟ قَالَ فَيُكْشَفُ الحِجَابُ فَيَنْظُرونَ إليه فواللهِ ما أعَطَاهُمُ اللهُ شَيْئاً أَحَبَّ إليهم مِن النَّظَرِ إليه وهِيَ الزِّيادةُ. وبذَلِكَ فَسَّرَهَا الصَّحَابَةُ والتَّابِعونَ وأئمَّةُ الإسلامِ (( وقَالَ غيرُ واحدٍ مِن السَّلَفِ فِي الآْيَةِ :{ولا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ } وبعد النَّظرِ إليه ، ولمَّا عَطفَ سُبْحَانَهُ الزِّيادةَ عَلَى الُحسنَى التي هِيَ الجَنَّةُ دَلَّ عَلَى أَنَّها أمْرٌ آخرُ وراءَ الجَنَّةِ ، وقَدرٌ زَائِدٌ عليها. ومَن فَسَّرَ الزِّيادةَ بالمَغْفِرَةِ والرِّضْوانِ فهُوَ مِن لوازمِ رؤيةِ الرَّبِّ تبارك وتَعَالَى ))
(( وهذا الباب من تدبر ؟ في كتاب الله كثير من تدبير القرآن طالباً للهدى منه تبين له طريق الحق).

هيئة الإشراف

#7

17 Dec 2008

التنبيهات السنية للشيخ: عبد العزيز بن ناصر الرشيد رحمه الله

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وَقَوْلُه تَعَالَى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ. إِلى رَبِّها نَاظِرَةٌ ).
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ( عَلَى الأَرَائِكَ يَنْظُرُونَ ).
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ( لِلَّذينَ أَحْسَنُوا الحُسْنَى وَزِيَادَةٌ )،( لَهُمْ مَا يَشَاؤُونَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيْدٌ )، وهذا البابُ في كِتابِ اللهِ كَثيرٌ، مَنْ تَدَبَّرَ القُرآنَ طالِباً للهُدى مِنْهُ؛ تَبَيَّنَ لهُ طريقُ الحَقِّ
).

الشرح:

قال الشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد (ت: 1408هـ): (قَولُهُ: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ): أي وجوهُ المؤمنينَ (يَوْمَئِذٍ): أي يومَ القيامةِ. (نَاضِرَةٌ): بالضَّادِ من النَّضَارة وهي البهاءُ والحسنُ، ومنه نَضْرَةُ النَّعيمِ، وروى ابنُ مَرْدَوَيهِ بسندٍ إلى ابنِ عمرٍو قال: قالَ رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- في قَولِهِ: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ) قال: من الحُسنِ والبَهاءِ ( إِلى رَبِّها نَاظِرَةٌ) قال: في وجهِ اللهِ.
قَولُهُ: (إِلى رَبِّها نَاظِرَةٌ): مِن النَّظرِ بالعينِ، فَيَرَوْنَهُ -سُبْحَانَهُ- في عَرَصةِ القيامةِ، ويراه المؤمنونَ في الجنَّةِ، ولا يجوزُ حملُ النَّظرِ هنا بمعنى الانتظارِ إلى ثوابِ اللهِ، فإنَّه مُعَدَّى بِإِلى، ولا يُعَدَّى بإلي إلا إذا كانَ بمعنى النَّظرِ بالعينِ، وأيضًا فالانتظارُ لا يليقُ في دارِ القرارِ، فهذه الآيةُ صريحةٌ في أنَّ اللهَ يُرى عَيَانًا بالأبصارِ يومَ القيامةِ، وفيها الرَّدُّ على مَن زعَم أنَّ معنى (نَاظِرَةٌ): أي مُنتظرةٌ ثوابَ ربِّها؛ لأنَّ الأصلَ عدمُ التَّقديرِ، ولأنَّ النَّظرَ المُعَدَّى بإلى لا يكونُ إلا بمعنى النَّظرِ، لا سيَّما وقد ذُكرَ الوجهُ الَّذي هو محلُّ النَّظرِ، وقد تواترتِ الأدلَّةُ في إثباتِ النَّظرِ إلى وجهِ اللهِ -سُبْحَانَهُ- وتعالى.
قال ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ في (النُّونيَّةِ):

وَيَرَوْنَـهُ -سُبْحَـانَـهُ- مِــنْ فَوْقِـهِ ... مْنَظَـر العَيَـانِ كَمَـا يُـرى  القَـمَـرَانِ
هَــذَا تَـوَاتَـر عَــنْ رَسُــولِ  اللهِ ... لَــمْ يُنْـكِـرْه إلا فَـاسِـدُ الإِيـمَـانِ

وقال ابنُ حجرٍ:

مِمَّا تَوَاتَر حَديثُ مَن كَذَب ... وَمَنْ بَنى للهُ  بَيْتًا  وَاحْتَسَب
وَرُؤْيَةٌ شَفَاعَـةٌ وَالحَـوْضُ ... وَمَسْحُ خُفَّيْنِ وَهَذي  بَعْض


وفي هذهِ الآيةِ دليلٌ على أنَّ هذه الرُّؤيةَ خاصَّةٌ بالمؤمنينَ، وفيها دليلٌ على أنَّ الرُّؤيَة تحصلُ للمؤمنينَ يومَ القيامةِ دونَ الدُّنْيَا، ولم يَثبتْ أنَّ أحدًا رآه -سُبْحَانَهُ- في الدُّنْيَا، قالَ اللهُ في حقِّ موسى عليه السَّلامُ: (قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي ) أي في الدُّنْيَا، وفي صحيحِ مسلمٍ أنَّ رسولَ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((إِنَّكُمْ لَنْ تَرَوْا رَبَّكُمْ حَتَّى تَمُوتُوا)). واخْتُلِفَ هل حصلتِ الرُّؤيةُ لنبيِّنا محمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-؟ فالأكثرونَ على أنَّه لم يرهُ -سُبْحَانَهُ- وحكاهُ عثمانُ بنُ سعيدٍ الدَّارميُّ بإجماعِ الصَّحابةِ.
قال ابنُ القيِّمِ رحمهُ اللهُ: والنَّاسُ في إثباتِ الرُّؤيةِ وعدمِها طَرفان ووسطٌ، فقِسمٌ غَلَوا في إثباتِها حتَّى أثبتُوها في الدُّنْيَا والآخرةِ، وهم الصُّوفيَّةُ وأَضْرابُهم، وقِسمٌ نَفوها في الدُّنْيَا والآخرةِ وهم الجهميَّةُ والمعتزلةُ، والوسطُ هم أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ الَّذين أثبَتوها في الآخرةِ فقط حسبما تواترتْ به الأدلَّةُ. انتهى.
قَولُهُ: (عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ): الأرائكُ جمعُ أَرِيكَةٍ وهي: السُّرُرُ تَحْتَ الحجَالِ.
قَولُهُ: (يَنْظُرُونَ): أي ينظرونَ إلى وجهِ اللهِ، وهذا مقابلٌ لما وُصفَ به أولئك الفُجَّارُ في قَولِهِ: (كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ) فذُكِرَ عن هؤلاءِ أنَّهم يُبَاحونَ النَّظرَ إلى اللهِ، وهم على سُررِهم وفُرُشِهِمْ وعن أولئكِ الفجَّارِ أنَّهم يُحجبَون عن رؤيتِه، وقد استدلَّ العلماءُ بهذه الآيةِ، أي قَولِهِ: (كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ) على إثباتِ رؤيةِ اللهِ، قالوا: لأنَّه لمَّا حَجَبَ أعداءَه عن رُؤْيَته دلَّ على أنَّ أولياءَه يَرَوْنه.

قَولُهُ: (أَحْسَنُوا): أي في أعمالِهم، وقد تقدَّم الكلامُ على هذا الإحسانِ.
قَولُهُ: (الحُسْنَى): أي الجنَّةُ. (وَزِيَادَةٌ) وهي النَّظرُ إلى وجهِ اللهِ، كما فسَّرها رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- والصَّحابةُ، ولمَّا عطفَ الزِّيادةَ على (الحُسْنَى) دلَّ على أنَّها جزاءٌ آخرُ وراءَ الجنَّةِ وقَدْرٌ زائدٌ عليها، وثبتَ في صحيحِ مسلمٍ عن النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- تفسيرُ الزِّيادةِ بالنَّظرِ إلى وجهِ اللهِ الكريمِ.
قال ابنُ رجبٍ رَحمه اللهُ: وهذا مناسبٌ لجعلِه جزاءً لأهلِ الإحسانِ؛ لأنَّ الإحسانَ هو أنْ يَعْبدَ المؤمنُ ربَّه على وجهِ الحُضورِ والمُراقبةِ كأنَّه يراهُ بقلبِه وينظرُ إليه في حالِ عبادتِه، فكانَ جزاءُ ذلك النَّظرَ إلى وجهِ اللهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- عيانًا في الآخرةِ وعكسُ هذا ما أخبرَ به عن جزاءِ الكُفَّارِ أنَّهم عن ربِّهم محجوبونَ، وذلك جزاءٌ لحالِهم في الدُّنْيَا، وهو تَرَاكُمُ الرَّانِ على قلوبِهم حتَّى حجبتْ عن معرفتِه في الدُّنْيَا، فكانَ جزاؤُهم على ذلك أَنْ حُجِبوا عن رؤيتِه في الآخرةِ. انتهى.
قَولُهُ: (لَهُمْ مَا يَشَاؤُونَ فِيها): أي في الجنَّةِ ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعَتْ ولا خَطَر على قَلبِ بَشَرٍ، كما في حديثِ أبي هريرةَ عن النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِيِنَ مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ)) ثمَّ قرَأ: (فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) رواه البخاريُّ.
قَولُهُ: (وَلَدَيْنا مَزِيدٌ): وهو النَّظرُ إلى وجهِ اللهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- كما قالَ ذلك عليُّ بنُ أبي طالبٍ وأنسٌ وغيرُهم: أفادت الآياتُ إثباتَ الرُّؤيةِ، وأنَّها خاصَّةٌ بيومِ القيامةِ، وأنَّ رؤيَةَ اللهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- من أَجَلِّ نعيمِ الجنَّةِ وأعظمِه.اهـ.
قَولُهُ: (وهذا البابُ): أي بابُ معرفةِ اللهِ بأسمائِه وصفاتِه وأفعالِه وما يستحقُّه -سُبْحَانَهُ- من إفرادِه بالعبادةِ وتركِ عبادةِ ما سواه.
قَولُهُ: (في كتابِ اللهِ كثيرٌ): فقد أفصحَ القرآنُ عنه كلَّ الإفصاحِ، وأغلبُ سورِ القرآنِ مُتضمِّنةٌ لذلك، بل كلُّ سورةٍ من القرآنِ، فإنَّ القرآنَ إمَّا خَبَرٌ عن اللهِ وأسمائِه وصفاتِه، وهو التَّوحيدُ العلميُّ الخَبَريُّ، وإمَّا دعوةٌ إلى عبادتِه وحدَه لا شريكَ له، وخَلْعِ ما يُعْبدُ من دونِه وهو التَّوحيدُ الطَلَبِيُّ، وإمَّا أمرٌ ونهيٌ وإلزامٌ بطاعتِه، فذلك من حقوقِ التَّوحيدِ ومُكَمِّلاتِه، وإمَّا خبرٌ عن إكرامِهِ لأهلِ توحيدِه وما فُعِل بهم في الدُّنْيَا وما يُكْرمُهم به في الآخرةِ، فهو جزاؤُه وتوحيدُه، وإمَّا خبرٌ عن أهلِ الشِّركِ وما فُعل بهم في العُقبى من العذابِ، فهو جزاءُ مَن خرجَ من توحيدِه، والقرآنُ كلُّه في التَّوحيدِ وحقوقهِ وجزائهِ وفي الشِّركِ وأهلِه وجزائِهم، فلا تجدُ كتابًا قد تضمَّنَ من البراهينِ والأدلَّـةِ على هذه المطالبِ العاليةِ كما تضمَّنه القرآنُ بأسلوبٍ واضحٍ جَليٍّ، فألفاظُ القرآنِ أفصحُ الألفاظِ وأبينُها وأعظمُها مطابقةً لمعانيها المرادةِ منها، فلا تجدُ كلامًا أحسنَ تفسيرًا ولا أتمَّ بيانًا مِن كلامِه سُبْحَانَهُ، ولهذا سمَّاه بيانًا خلافًا لمَنْ زعمَ أنَّ كلامَ اللهِ ورسولِه لا يفيدُ العلمَ بشيءٍ من أصولِ الدِّينِ ولا يجوزُ أن تُستفادَ معرفةُ اللهِ وأسمائِه وصفاتِه وأفعالِه منه، وعبَّرَ عن ذلك بقَولِهِ: الأدلَّـةُ اللفظيَّةُ لا تُفيدُ اليقينَ.
قالَ الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ بنُ تيميةَ رحمَه اللهُ: وزعَم قومٌ من غَاليةِ أهلِ البدعِ أنَّه لا يَصحُّ الاستدلالُ بالقرآنِ أو الحديثِ على المسائلِ القطعيَّةِ، بناءً على أنَّ الدَّلالةَ اللفظيَّةَ لا تفيدُ اليقينَ، كما زعموا وزعمَ كثيرٌ من أهلِ البدعِ أنَّه لا يُسْتَدلُّ بالأحاديثِ المُتلقَّاةِ بالقبولِ على مسائلِ الصِّفاتِ والقدرِ ونحوِهِما ممَّا يُطْلبُ فيه القطعُ واليقينُ.اهـ.
قَولُهُ: (مَن تدبَّرَ القرآنَ): أي تَفكَّرَ فيه، والفكرُ: هو إِعْمَالُ النَّظرِ في الشَّيءِ، وقد جاءَ في الكتابِ والسُّنَّةِ الحثُّ على التَّدَبُّرِ والتَّفكُّرِ، قال تعالى: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُواْ آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ )، وقال تعالى: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) إلى غيرِ ذلك من الآياتِ الحَاثَّةِ على التَّدبُّرِ وتفهُّمِ معاني القرآنِ، وفيها الرَّدُّ على مَن زعمَ أنَّه لا وصولَ إلى ذلك، وأنَّ بابَ الفهمِ عن اللهِ وعن رسولِه قد أُغلقَ، وبابَ الاجتهادِ قد سُدَّ، وهذا قولٌ باطلٌ تَردُّه أدلَّـةُ الكتابِ والسُّنَّةِ.
قَولُهُ: (طالبًا للهُدى): أي الرَّشادِ (تبيَّنَ له): أي اتَّضَح (طريقُ): أي سبيلُ.
قَولُهُ: (الحقِّ): وهو ضدُّ الباطلِ).