الدروس
course cover
الإيمان بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق
11 Nov 2008
11 Nov 2008

3510

0

0

course cover
العقيدة الواسطية

القسم السادس

الإيمان بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق
11 Nov 2008
11 Nov 2008

11 Nov 2008

3510

0

0


0

0

0

0

0

الإيمان بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): ({وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ}[سُورَةُ التَّوْبَةِ : 6] ، {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[سُورَةُ البَقَرَةِ : 75] ، {يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا}[سُورَةُ الفَتْحِ : 15] ، {وَاتْلُ مَا أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَاب رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ}[سُورَةُ الْكَهْفِ : 27] ، {إِنَّ هََذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}[سُورَةُ النَّمْلِ : 76] ، {وَهََذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ}[سُورَةُ الأَنْعَامِ : 55] ، {لَوْ أَنزَلْنَا هََذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}[سُورَةُ الْحَشْرِ : 21] ، {وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ * وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهََذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ}[سُورَةُ النَّحْلِ : 101- 103]).

هيئة الإشراف

#2

17 Dec 2008

شرح العقيدة الواسطية للشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): ((وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) [التوبة: 6]: (1) (وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِمَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [البقرة: 75].
(يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلامَ اللهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذلِكَمْ قَالَ اللهُ مِن قَبْلُ) [الفتح: 15]. (وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كَتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ) [الكهف: 27]. (إِنَّ هَذَا الْقُرْءَانَ يَقُصُّ عَلَى بَنِى إِسْرَائيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) [النمل: 76].
(وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَهُ مُبَارَكٌ) [الأنعام: 155].(لوأنزلنا هذا الْقُرْآنِ علي جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله) (وَإِذَا بَدَّلْنَا ءَايَةً مَّكَانَ ءَايَةٍ واللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرِ بَلْ أكْثَرْهُمْ لاَ يَعْلَمُون، قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ) [النحل: 101-103]
).


الشرح:

قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (إثباتُ أنَّ القرآنَ كلامُ اللَّهِ تَعَالَى
(1) ثُمَّ ذَكَرَ المؤلِّفُ رحمَه اللَّهُ الآياتِ الدَّالَّةِ عَلَى أنَّ القرآنَ كلامُ اللَّهِ.
وهذِهِ المسألةُ وقعَ فِيهَا النِّزاعُ الكثيرُ بينَ المعتزلةِ وأهلِ السُّنَّةِ، وحصلَ بها شرٌّ كثيرٌ عَلَى أهلِ السُّنَّةِ، ومِمَنْ أُوذي فِي اللَّهِ فِي ذلِكَ الإمامُ أحمدُ بنُ حنبلٍ رحمَه اللَّهُ، إمامُ أهلِ السُّنَّةِ، الَّذِي قَالَ فِيهِ بعضُ العلماءِ: ((إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَفِظَ الإسلامَ (أوْ قالَ: نَصرَه) بأبي بكرٍ يومَ الردَّةِ، وبالإمامِ أحمدَ يومَ المحنةِ)).
والمحنةُ: هُوَ أنَّ المأمونَ عفا اللَّهُ عنَّا وعَنْهُ أجبرَ النَّاسَ عَلَى أنْ يقولُوا بخلقِ القرآنِ، حَتَّى إنَّهُ صارَ يمتحنُ العلماءَ، ويقتلُهم إِذَا لَمْ يجيبُوا، وأكثرُ العلماءِ رأَوْا أنَّهم فِي فسحةٍ مِنَ الأمرِ، وصاروا يتأوَّلونَ:
-إمَّا بأنَّ الحالَ حالُ إكراهٍ، والمكرهُ إِذَا قَالَ الكفرُ وقلبُه مطمئنٌ بالإيمانِ، فإنَّهُ معفو عَنْهُ.
-وإمَّا بتنزيلِ اللَّفظِ عَلَى غيرِ ظاهرِه، يتأولونَ، فيقولُونَ مثلاً: القرآنُ والتوراةُ والإنجيلُ والزبورُ، هذِهِ مخلوقةٌ. وَهُوَ يتأوَّلُ أصابِعَهُ.
أمَّا الإمامُ أحمدُ ومحمَّدٌ بنُ نوحٍ رحمَهمَا اللَّهُ، فأبيا ذلِكَ، وقالا: القرآنُ كلامُ اللَّهِ منزَلٌ غيرُ مخلوقٍ، ورأيا أنَّ الإكراهَ فِي هَذَا المقامِ لاَ يسوغُ لَهَمَا أنْ يقولاَ خلافَ الحقِّ؛ لأنَّ المقامَ مَقامُ جهادٍ، والإكراهُ يقتضي العفوَ إِذَا كانتِ المسألةُ شخصيةً، بمعنى: أنْ تكونَ عَلَى الشَّخصِ نَفْسِه. أمَّا إِذَا كانَتِ المسألةُ لحفظِ شريعةِ اللَّهِ، فالواجبُ أنْ يتبرَّعَ الإنسانُ برقبتِه، لحفظِ شريعةِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ.
لو قَالَ الإمامُ أحمدُ فِي ذلِكَ الوقتِ: إنَّ القرآنَ مخلوقٌ، ولو بتأويلٍ، أوْ لدفعِ الإكراهِ، لقَالَ النَّاسُ كلُّهم: القرآنُ مخلوقٌ! وحينئذٍ يتغيرُ المجتمعُ الإسلاميُ مِنْ أجلِ دفعِ الإكراهِ، لكنَّهُ صمَّمَ، فصارَتِ العاقبةُ لَه، ولِلَّهِ الحمدُ.
المهمُ أنَّ القولَ فِي القرآنِ، جزءٌ مِنَ القولِ فِي كلامِ اللَّهِ عَلَى العمومِ، لكنْ لَمَّا وقعَتْ فِيهِ المحنةُ، وصارَ محكُّ النزاعِ بينَ المعتزلةِ وأهلِ السُّنَّةِ، صارَ النَّاسُ يفردوُن القولَ فِي القرآنِ بكلامٍ خاصٍّ.
والمؤلِّفُ -رحمَهُ اللَّهُ- مِنَ الآنِ ساقَ الآياتِ الدَّالَّةَ عَلَى أنَّ القرآنَ كلامُ اللَّهِ فِي آياتٍ متعدِّدةٍ.
الآيةُ الأولى: قولُهُ: (وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ) [التوبة: 6]:
(أَحَدٌ): هذِهِ اسمٌ، و(إنْ): أداةُ الشَّرطِ، والاسمُ إِذَا وَلِيَ أداةَ الشرطِ، فَقَدْ وَلِيَ أداةً لاَ يليِها إلاَّ الفعلُ، فاختلفَ النَّحويونَ فِي هَذَا:
فقَالَ بعضُهمْ: إنَّهُ فاعلٌ لفعلٍ محذوفٍ يفسِّرُه مَا بعدَه، وعَلَيْهِ يكونُ (أَحَدٌ) فاعلٌ لفعلٍ محذوفٍ، والتقديرُ: وإنْ استجارَك أحدٌ مِنَ المشركينَ، فأَجِرْهُ، ومثلُها: (إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ) [الإنشقاق: 1]، فـ(السَّمَاءُ): فاعلٌ لفعلٍ محذوفٍ، والتقديرُ: إِذَا انشقَتِ السَّماءُ.
القولُ الثَّاني: وهُوَ قولُ الكوفيينَ، وهُم فِي الغالبِ أسهلُ مِنَ البصريينَ: أنَّ (أَحَدٌ) فاعلٌ مقدَّمٌ، والفعلُ (استجارَ) مؤخَّرٌ، ولاَ حاجةَ للتَّقديرِ.
والقولُ الثَّالثُ: أنَّ ورودَ الأسماءِ بعدَ أدواتِ الشرطِ فِي القرآنِ كثيراً يدلُّ عَلَى عدمِ امتناعِه، وعَلَى هَذَا القولِ يكونُ الاسمُ الواقعُ بعدَ أداةِ الشَّرطِ مبتدأً إِذَا كَانَ مرفوعاً، فيكونُ (أَحَدٌ): مبتدأٌ، و(اسْتَجَارَكَ): خبرُ المبتدأَ.
والقاعدةُ عندِي أنَّ مَا كَانَ أسهلَ مِنْ أقوالِ النَّحويينَ، فَهُوَ المتبَّعُ، حَيْثُ لاَ مانعَ شرعاً مِنْ ذلِكَ.
قولُهُ: (اسْتَجَارَكَ)، أيْ: طلبَ جوارَكَ، والجوارَ: بمعنى العصمةِ والحمايةِ.
(حَتَّى يَسْمَعَ): (حَتَّى): للغايةِ، والمعنى: إنْ أحدٌ استجارَك ليسمعَ كلامَ اللَّهِ، فأجرْه حَتَّى يسمعَ كلامِ اللَّهِ، أيْ: القرآنِ، وَهَذَا بالاتِّفاقِ.
وإنَّمَا قالَ: (فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ)؛ لأنَّ سماعَ كلامِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ مؤثِّرٌ ولاَ بدَّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ فِى ذلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَمْعَ وَهُوَ شَهِيَدٌ) [ق: 37]، وكَمْ مِنْ إنسانٍ سمِعَ كلامَ اللَّهِ فآمنَ، لكنْ بشرطِ أنْ يكونَ يفهمُهُ تماماً.
وقولُهُ: (كَلامَ اللَّهِ): أضافَ الكلامَ إِلَى نَفْسِه، فَقَالَ: (كَلامَ اللَّهِ)، فدلَّ هَذَا عَلَى أنَّ القرآنَ كلامُ اللَّهِ، وهُوَ كذلِكَ.
وعقيدةُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ فِي القرآنِ، يقولونَ: إنَّ القرآنَ كلامُ اللَّهِ، منزلٌ، غيرُ مخلوقٍ، مِنْهُ بدأَ، وإِلَيْهِ يعودُ.
-قولُهُم: ((كلامُ اللَّهِ)): دليلُهُ: قولُهُ تَعَالَى هُنا: (فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ) [التوبة: 6]، وبمَا يأتي مِنَ الآياتِ:
-وقولُهُم: ((مُنَزَّلٌ)): دليلُهُ: قولُهُ تَعَالَى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) [البقرة: 185]، وقولَه: (إِنَّا أَنزَلْناَهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القدر:1]، وقولَه: (وَقُرْءَاناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْناَهُ تَنزِيلاً) [الإسراء: 106].
-وقولُهُم: ((غيرُ مخلوقٍ)): دليلُهُ: قولُهُ تَعَالَى: (أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ) [الأعراف: 54]، فجعَلَ الخلقَ شيئاً، والأمرَ شيئًا آخرَ؛ لأنَّ العطفَ يقتضِي المغايرةَ، والقرآنُ مِنَ الأمرِ، بدليلِ قولَهِ تَعَالَى: (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَهُ نُوراً نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا) [الشورى: 52]، فَإِذَا كَانَ القرآنُ أمراً، وهُوَ قسيمٌ للخلقِ، صارَ غيرَ مخلوقٍ؛ لأنَّهُ لو كَانَ مخلوقاً، مَا صحَّ التقسيمُ. وَهَذَا دليلٌ سمعِيٌّ.
أمَا الدَّليلُ العقلِيُّ، فنقولُ: القرآنُ كلامُ اللَّهِ، والكلامُ ليسَ عيناً قائمةً بنَفْسِها حَتَّى يكونَ بائناً مِنَ اللَّهِ، ولو كَانَ عيناً قائمةً بنَفْسِها بائنةً مِنَ اللَّهِ، لقُلْنا: إنَّهُ مخلوقٌ، لكنَّ الكلامَ صفةٌ للمتكلَّمِ بهِ، فَإِذَا كَانَ صفةً للمتكلِّمِ بهِ، وكَانَ مِنَ اللَّهِ، كَانَ غَيْرَ مخلوقٍ؛ لأنَّ صفاتِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ كلَّها غيرُ مخلوقةٍ.
وأيضاً، لو كَانَ مخلوقاً، لبطلَ مدلولُ الأمرِ والنَّهْيِ، والخبرِ والاستخبارِ؛ لأنَّ هذِهِ الصِّيغَ لو كانَتْ مخلوقةً، لكانَتْ مجرَّدَ أشكالِ خُلِقَتْ عَلَى هذِهِ الصورةِ لاَ دلالةَ لَهَا عَلَى معناها، كَمَا يكونُ شكلُ النجومِ والشَّمسِ والقمرِ ونحوِها.
-وقولُهُم: ((مِنْهُ بدأ))، أيْ: هُوَ الَّذِي ابتدأَ بهِ، وتكلَّمَ بهِ أَوَّلاً.
والقرآنُ أُضيفَ إِلَى اللَّهِ، وإِلَى جبريلَ، وإِلَى محمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
مثالُ الأوَّلِ: قولُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: (فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ) [التوبة: 6]، فيكونُ مِنْهُ بدأَ، أيْ: مِنَ اللَّهِ جلَّ جلالُهُ، ومِنْهُ: حرفُ جرٍ وضميرٌ قُدِّمَ عَلَى عاملَهِ لفائدةِ الحصرِ والاختصاصِ.
ومثالُ الثَّاني –إضافتُه إِلَى جبريلَ-: قولُهُ تَعَالَى: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، ذِى قُوَّةٍ عِندَ ذِى الْعَرْشِ مَكِينٍ) [التكوير:19-20].
ومثالُ الثَّالثِ –إضافتهُ إِلَى محمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ -: قولُهُ تَعَالَى: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ) [الحاقة: 40-41]، لكنْ أَضيفَ إِلَيْهِمَا لأنهَّمَا يبلغانه، لاَ لأنهَّمَا ابتدآه.
-وقولُهُم: ((وإِلَيْهِ يعودُ)): فِي معناهُ وجهانِ:
الأوَّلُ: أنَّهُ كَمَا جاءَ فِي بعضِ الآثارِ: يُسْرَى عَلَيْهِ فِي ليلةٍ، فيصبحُ النَّاسُ لَيْسَ بينَ أيدِيهم قرآنٌ، لاَ فِي صدورِهم، ولاَ فِي مصاحفِهم، يرفعُهُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ.
وَهَذَا –واللَّهُ أعلَمُ- حينَمَا يُعرِضُ عَنْهُ النَّاسُ إعراضاً كُلِّيًّا، لاَ يتلوُنَه لفظاً ولاَ عقيدةً ولاَ عمَلاً، فإِنَّهُ يُرفَعُ؛ لأنَّ القرآنَ أشرفُ مِنْ أنْ يبقى بينَ يدي أُناسٍ هجرُوه، وأعرضُوا عَنْهُ، فلاَ يقدِّرونُه قدرَهُ، وَهَذَا –واللَّهُ أعلمُ- نظيرُ هدمِ الكعبةِ فِي آخرِ الزمانِ، حَيْثُ يأتي رجلٌ مِنَ الحبشةِ قصيرٌ أفحجُ أسودُ، يأتي بجنودِه مِنَ البحرِ إِلَى المسجدِ الحرامِ، وينقضُ الكعبةَ حجراً حجراً، كلمَا نقضَ حجراً، مدَّه للذي يليهِ… وَهَكَذَا يتمادونَ الأحجارَ إِلَى أنْ يرموُها فِي البحرِ، واللَّهُ عزَّ وجلَّ يُمكِّنُّهم مِنْ ذلِكَ، مَعَ أنَّ أبرهةَ جاءَ بخيلِهِ ورَجْلِهِ وفِيَلِهِ، فقصَمَهُ اللَّهُ قبلَ أنْ يَصِلَ إِلَى المسجدِ؛ لأنَّ اللَّهَ علِمَ أنَّهُ سيُبْعَثُ هَذَا النَّبيُّ، وتعادُ إِلَى المسجدِ هيبتُه وعظمتُه، ولكنْ فِي آخرِ الزَّمانِ لنْ يُبْعَثَ نبيٌ بعدَ محمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ ، وإِذَا أعرضَ النَّاسُ عَنْ تعظيمِ هَذَا البيتِ نهائيّاً، فإنَّهُ يُسلطُ عَلَيْهِ هَذَا الرجلَ مِنَ الحبشةِ، فهَذَا نظيرُ رفعِ القرآنِ. واللَّهُ أعلمُ.
الوجهُ الثَّاني: فِي معنى قولِهم: ((وإِلَيْهِ يعودُ)): أنَّهُ يعودُ إِلَى اللَّهِ وصفاً، أيْ أنَّهُ لاَ يوصفُ بهِ أحدٌ سوى اللَّهِ، فيكونُ المتكلِّمُ بالقرآنِ هُوَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ، وَهُوَ الموصوفُ بهِ.
ولاَ مانعَ مِنْ أنْ نقولَ: إنَّ المعنيينِ كلاهمَا صحيحٌ.
هَذَا كلامُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ فِي القرآنِ الكريمِ.
ويرى المعتزلةُ أنَّ القرآنَ مخلوقٌ، ولَيْسَ كلامَ اللَّهِ!
ويستدلونَ لذلِكَ بقولِ اللَّهِ تَعَالَى: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) [الزمر: 62]، والقرآنُ شيءٌ، فيدخلُ فِي عمومِ قولِهِ: (كُلِّ شَيْءٍ)، ولأنَّهُ مَا ثمَّ إِلَّا خالقٌ ومخلوقٌ، واللَّهُ خالقٌ، ومَا سواهُ مخلوقٌ.
والجوابُ مِنْ وجهِيَنِ:
الأولِ: أنَّ القرآنَ كلامُ اللَّهِ تَعَالَى، وهُوَ صفةٌ مِنْ صفاتِ اللَّهِ، وصفاتِ الخالقِ غيرِ مخلوقةٍ.
الثَّاني: أنَّ مثلَ هَذَا التَّعبيرِ (كُلِّ شَيْءٍ) عامٌ قَدْ يُرادُ بهِ الخاصُ، مثلُ قولَهِ تَعَالَى عَنْ ملكةِ سبأَ: (وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ) [النمل: 23]، وقَدْ خرجَ شيءٌ كثيرٌ لَمْ يدخلْ فِي ملكِها مِنْهُ شيءٌ، مثلُ ملكِ سليمانَ.
فإنْ قَالَ قائلٌ: هَلْ هُناكَ فرقٌ كبيرٌ بينَ قولِنا: إنَّهُ منزلٌ، وقولنُا: إنَّهُ مخلوقٌ؟
فالجوابُ: نَعَمْ، بينَهمَا فرقٌ كبيرٌ، جرَتْ بسببهِ المحنةُ الكبرى فِي عصرِ الإمامِ أحمدَ.
فَإِذَا قُلْنا: إِنَّهُ مُنَزَّلٌ، فهَذَا مَا جاءَ بهِ القرآنُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (تَبَارَكَ الَّذِى نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ) [الفرقان: 1].
وإِذَا قُلْنا: إنَّهُ مخلوقٌ، لزمَ مِنْ ذلِكَ:
أَوَّلاً: تكذيبٌ للقرآنِ؛ لأنَّ اللَّهَ يقولُ: (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا) [الشورى: 52]، فجعلَهُ اللَّهُ تَعَالَى مُوحًى إِلَى الرَّسولِ عَلَيْهِِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ ، ولو كَانَ مخلوقاً، مَا صحَّ أنْ يكونَ مُوحىً، فَإِذَا كَانَ وحياً، لزمَ ألاَّ يكونَ مخلوقاً؛ لأنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي تكلَّمَ بهِ.
ثانياً: إِذَا قُلنْا: إنَّهُ مخلوقٌ، فإنَّهُ يلزمُ عَلَى ذلِكَ إبطالُ مدلولِ الأمرِ والنَّهْي، والخبرِ والاستخبارِ؛ لأنَّ هذِهِ الصِّيغَ لو كانَتْ مخلوقةً، لكانَتْ مجرَّدَ شكلٍ خُلِقَ عَلَى هذِهِ الصُّورةِ، كَمَا خُلِقَتِ الشَّمسُ عَلَى صورتِها، والقمرُ عَلَى صورتِه، والنَّجمُ عَلَى صورتهِ… وهكذا، ولَمْ تكنْ أمراً ولاَ نهِيَاً ولاَ خبراً ولاَ استخباراً، فمثلاً: كلمةُ (قلْ) (لاَ تقلْ) (قَالَ فلانُ) (هَلْ قَالَ فلانُ) كلُّها نقوشٌ عَلَى هذِهِ الصورةِ، فتبطلُ دلالتُها عَلَى الأمرِ والنَّهي، والخبرِ والاستخبارِ، وتبقى كأنَّها صورٌ ونقوشٌ لاَ تفيدُ شيئاً.
وَلِهَذَا قَالَ ابنُ القيِّمِ فِي ((النونيةِ)): ((إنَّ هَذَا القولَ يبطلُ بهِ الأمرُ والنَّهْيُ؛ لأنَّ الأمرَ كأنَّهُ شيءٌ خُلِقَ عَلَى هذِهِ الصورةِ دونَ أنْ يعتبرَ مدلولَهَ، والنَّهيُ خُلِقَ عَلَى هذِهِ الصُّورةِ دونَ أنْ يُقصدَ مدلولُه، وكذلِكَ الخبرُ والاستخبارُ)).
ثالثاً: إِذَا قُلنْا: إنَّ القرآنَ مخلوقٌ، وقدْ أضافَه إِلَى نَفْسِه إضافةَ خلقٍ، صحَّ أنْ نطلقَ عَلَى كُلِّ كلامٍ مِنَ البشرِ وغيرِهم أنَّهُ كلامُ اللَّهِ؛ لأنَّ كُلَّ كلامِ الخلقِ مخلوقٌ، وبهَذَا التزمَ أهلُ الحلولِ والاتحادِ، حَيْثُ يقولُ قائلُهم:
وَكُلُّ كَلامٍ فِي الوُجودِ كَلامُهُ سَوَاءٌ عَلَيْنا نَثْرُهُ وَنِظامُهُ
وَهَذَا اللازمُ باطلٌ، وإِذَا بَطَلَ اللازمُ بَطَلَ الملزومُ.
فهذِهِ ثلاثةُ أوجهٍ تُبطلُ القولَ بأنَّهُ مخلوقٌ.
والوجهُ الرَّابعُ: أنْ نقولَ: إِذَا جوَّزتمُ أنْ يكونَ الكلامَ – وَهُوَ معنى لاَ يقومُ إِلَّا بمتكِّلمٍ- مخلوقاً، لزمَكُم أنْ تجوِّزوا أنْ تكونَ جميعُ صفاتِ اللَّهِ مخلوقةً؛ إذْ لاَ فرقَ، فقولوا إذاً: سَمْعُه مخلوقٌ، وبصرُه مخلوقٌ… وهكذا.
فإنْ أبيْتُم إِلَّا أنْ تقولوا: إنَّ السَّمعَ معنىً قائمٌ بالسَّامعِ لاَ يسمعُ مِنْهُِ ولاَ يُرى، بخلافِ الكلامِ، فإنَّهُ جائزٌ أنَّ اللَّهَ يخلقُ أصواتاً فِي الَهواءِ فتُسمعُ!!
قُلنْا لَكُم: لو خَلَقَ أصواتاً فِي الَهواءِ، فَسُمِعَتْ، لكَانَ المسموعُ وصفاً لِلَّهِواءِ، وَهَذَا أنتْمُ بأنَفْسِكم لاَ تقولوُنَه، فكَيْفَ تعيدونَ الصِّفةَ إِلَى غيرِ موصوفِها؟!
هذِهِ وجوهٌ أربعةٌ، كُلُّهَا تدلُّ عَلَى أنَّ القولَ بخلقِ القرآنِ باطلٌ، ولَوْ لَمْ يكنْ مِنهُ إِلَّا إبطالُ الأمرِ والنَّهي، والخبرِ والاستخبارِ، لكَانَ ذلِكَ كافياً.
الآيةُ الثَّانِيَةُ: قولُهُ: (وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِمَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [البقرة: 75].
هَذَا فِي سياقِ قولِهِ تَعَالَى: (أَفَتَطْمَعُونَ أن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ)، يعني: لاَ تَطْمَعُوا أنْ يؤمِنوا لكم، أيْ: اليهودُ.
(فَرِيقٌ مِّنْهُمْ): طائفةٌ مِنْهُم، وهُمْ علماؤُهُم.
(يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ): يحُتملُ أنْ يرادَ بهِ القرآنُ، وَهُوَ ظاهرُ صنيعِ المؤلِّفِ، فيكونُ دليلاً عَلَى أنَّ القرآنَ كلامُ اللَّهِ. ويحتملُ أنْ يرادَ بهِ كلامُ اللَّهِ تَعَالَى لموسى حينَ اختارَ موسى سبعين رجلاً لميقاتِ اللَّهِ تَعَالَى، فكلَّمَه اللَّهُ وهُم يسمعُونَ، فحرَّفُوا كلامَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ بعدِ مَا عقلوُه وهُم يعلمونَ. ولَمْ أرَ الاحتمالَ الأوَّلَ لأحدٍ مِنَ المفسِّرينَ.
وأيًّا كانَ، ففِيهِ إثباتٌ أنَّ كلامَ اللَّهِ بصوتٍ مسموعٍ، والكلامُ صفةُ المتكلِّمِ، ولَيْسَ شيئًا بائناً مِنْهُِ، فوجبَ أنْ يكونَ القرآنُ كلامَ اللَّهِ لاَ كلامَ غيرهِ:
(ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ): (يُحَرِّفُونَهُ): أيْ: يغيرِّوُن معناهُ.
وقولُهُ: (مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ): هَذَا أشدُّ فِي قبحِ عمَلِهِم، وجرأتِهِم عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: أنْ يحرِّفوا الشَّيءَ مِنْ بعدِ مَا عقلُوه، ووصلَ إِلَى عقولِهم، وهُم يعلمُونَ أنَّهم محرِّفونَ لَه؛ لأنَّ الَّذِي يحِّرفُ المَعْنَى عَنْ جهلٍ، أهونُ مِنَ الَّذِي يحرِّفُه بعدَ العقلِ والعلمِ.
الآيةُ الثَّالثةُ: قولُهُ: (يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذلِكَمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ) [الفتح: 15].
فِي هذِهِ الآيةِ إثباتُ أنَّ القرآنَ كلامُ اللَّهِ، لقولِهِ: (يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلَمَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذلِكَمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ).
والضَّميرُ يعودُ عَلَى الأعرابِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فيهُمْ :(سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ)[الفتح:15]، فهؤلاءِ أرادوا أنْ يبدِّلُوا كلامَ اللَّهِ، فيَخرجوا مَعَ الرَّسولِ عَلَيْهِِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ ، ولكنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنمَّا كتبَ المغانمَ لقومٍ معيَّنِينَ، للَّذِينَ غَزَوْ فِي الحديبيةِ، وأمَّا مَنْ تبعوهُ لأخذِ الغنائمِ فقطْ، فلاَ حقَّ لَهم فِيهِا.
وفِي الآيةِ أيضاً إثباتُ القولِ لِلَّهِ تَعَالَى، لقولِهِ (كَذلِكَمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ).
الآيةُ الرَّابعةُ: قولُهُ: (وَاتْلُ مَا أُوحِىَ إِلَيْكَ مِن كَتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ) [الكهف: 27].
قولُهُ: (مَا أُوحِىَ إِلَيكَ)، يعني: القرآنَ، والوحيُ لاَ يكونُ إِلَّا قولاً، فَهُوَ إذاً غيرُ مخلوقٍ.
وقولُهُ: (مِن كِتَابِ رَبِّكَ): أضافَه إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لأنَّهُ هُوَ الَّذِي تكلَّمَ بهِ، أنزلَهُ عَلَى محمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بواسطةِ جبريلَ الأمينِ.
(لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَتِهِ)، يعني: لاَ أحدَ يبدِّلُ كلماتِ اللَّهِ، أمَّا اللَّهُ عزَّ وجلَّ، فيبدِّلُ آيةً مكَانَ آيةٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَإِذَا بَدَّلْنَا ءَايَةً مَّكَانَ ءَايَةٍ واللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ) [النحل: 101].
وقولُهُ: (لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ): يشملُ الكلماتِ الكونيَّةَ والشَّرعيَّةَ:
-أمَّا الكونيَّةُ، فلاَ يُستثنى مِنْها شيءٌ، لاَ يمكنُ لأحدٍ أنْ يبدِّلَ كلماتِ اللَّهِ الكونيَّةَ:
إِذَا قضى اللَّهُ عَلَى شخصٍ بالموتِ، مَا استطاعَ أحدٌ أنْ يبدِّلَ ذلِكَ.
إِذَا قضى اللَّهُ تَعَالَى بالفقرِ، مَا استطاعَ أحدٌ أنْ يبدِّلَ ذلِكَ.
إِذَا قضى اللَّهُ تَعَالَى بالجدبِ، مَا استطاعَ أحدٌ أنْ يبدِّلَ ذلِكَ.
وكُلُّ هذِهِ الأُمورِ الَّتِي تحدثُ فِي الكونِ، فإنهَّا بقولِهِ، لقولَهُ تَعَالَى: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) [يس: 82].
-أمَّا الكلماتُ الشَّرعيَّةُ، فإنَّها قَدْ تُبدَّلُ مِنْ قِبَلِ أهلِ الكفرِ والنِّفاقِ، فيبدِّلُونَ الكلماتِ: إمَّا بالمعنى، وإمَا باللَّفظِ، إنْ استطاعوا، أوْ بِهما.
وفِي قولِهِ: (لِكَلِماَتِهِ) دليلٌ عَلَى أنَّ القرآنَ كلامُ اللَّهِ تَعَالَى.
الآيةُ الخامسةُ: قولُهُ: (إِنَّ هَذَا الْقُرْءَانَ يَقُصُّ عَلَى بَنِى إِسْرَءِيلَ أَكْثَرَ الَّذِى هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) [النمل: 76].
الشَّاهِدُ قولُهُ: (يَقُصُّ)، والقصصُ لاَ يكونُ إِلَّا قولاً، فَإِذَا كَانَ القرآنُ هُوَ الَّذِي يقصُّ، فَهُوَ كلامُ اللَّهِ؛ لأنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي قصَّ هذِهِ القصصَ، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْءَانَ) [يوسف: 3]، وحينئذٍ يكونُ القرآنُ كلامَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ).

هيئة الإشراف

#3

17 Dec 2008

شرح العقيدة الواسطية للشيخ مُحمَّد خَليل هَرَّاس رحمه الله

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (( وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ المُشْرِكينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ )، ( وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمُعونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمونَ )، ( يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ )، (وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ )، وقَوْلُهُ: ( إِنَّ هَذا القُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَني إِسْرَائيلَ أَكْثَرَ الَّذي هُمْ فيهِ يَخْتَلِفونَ )، ( {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ }، { لَوْ أَنْزَلْنَا هذا القُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ}، {وَإِذا بَدَّلْنَا آيَةً مَكانَ آيَةٍ واللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمونَ. قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذينَ آمَنُوا وَهُدَىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمينَ. وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لَسَانُ الَّذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبينٌ }(1)).

الشرح:

قال الشيخ محمد خليل هراس (ت: 1395هـ): ((1) قولُهُ: { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ المُشْرِكينَ … } إلخ. هذهِ الآياتُ الكريمةُ تُفيدُ أنَّ القرآنَ المَتلوَّ المسموعَ المكتوبَ بَينَ دفَّتَيِ المُصحفِ هوَ كلامُ اللهِ على الحقيقةِ، وليسَ فقطْ عبارةً أو حكايةً عن كلامِ اللهِ؛ كمَا تقولُ الأشعريَّةُ.
وإضافتُهُ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ تدلُّ على أَنَّهُ صفةٌ لهُ قائمةٌ بهِ، وليستْ كإِضافةِ البيتِ أو النَّاقةِ؛ فإنَّهَا إضافةُ معنى إلى الذَّاتِ، تدلُّ على ثُبُوتِ المعنى لتلكَ الذَّاتِ؛ بخلافِ إضافةِ البيتِ أو النَّاقةِ؛ فإنَّهَا إضافةُ أعيانٍ، وهذا يردُّ على المعتزلَةِ في قولِهِمْ: إنَّهُ مخلوقٌ منفصلٌ عن اللهِ.
ودلَّتْ هذهِِ الآياتُ أيضًا على أنَّ القرآنَ منـزَّلٌ مِن عندِ اللهِ، بمعنى أنَّ اللهَ تَكَلَّمَ بهِ بصوتٍ سَمِعَهُ جبريلُ عليهِ السَّلامُ، فنزلَ بهِ، وأدَّاهُ إلى رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلمَ كمَا سمعَهُ مِن الرَّبِّ جلَّ شأنُهُ.
وخُلاَصةُ القولِ في ذلكَ: أنَّ القرآنَ العربيَّ كلامُ اللهِ، منزَّلٌ، غيرُ مخلوقٍ، منهُ بدأَ، وإليهِ يعودُ، واللهُ تَكَلَّمَ بهِ على الحقيقةِ، فهوَ كلامُهُ حقيقةً، لا كلامُ غيرِهِ، وإذَا قرأَ النَّاسُ القرآنَ أو كتبوهُ في المصاحفِ لمْ يُخرجْهُ ذلكَ عن أنْ يكونَ كلامَ اللهِ؛ فإنَّ الكلامَ إنَّمَا يُضافُ حقيقةً إلى مَنْ قالَهُ مبتدئًا، لا إلى مَنْ بلَّغهُ مؤدِّيًا، واللهُ تَكَلَّمَ بحروفِهِ ومعانِيهِ بلفظِ نفسِهِ، ليسَ شيءٌ منهُ كلامًا لغيرِهِ، لا لجبريلَ، ولا لمحمدٍ، ولا لغيرِهِمْا، واللهُ تَكَلَّمَ بهِ أيضًا بصوتِ نفسِهِ، فإذَا قرأَهُ العبادُ قرؤُوهُ بصوتِ أنفُسِهِمْ، فإذَا قالَ القارئُ مَثلاً: { الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ }؛ كانَ هذا الكلامُ المسموعُ منهُ كلامَ اللهِ، لا كلامَ نفسِهِ، وكانَ هوَ قرأَهُ بصوتِ نفسِهِ لا بصوتِ اللهِ.
وكمَا أنَّ القرآنَ كلامُ اللهِ، فكذلكَ هوَ كتابُهُ؛ لأنَّهُ كتبَهُ في اللَّوحِ المحفوظِ، ولأنَّهُ مكتوبٌ في المصاحفِ, قالَ تعالى:
{ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَريمٌ في كِتابٍ مَكْنونٍ }.
وقالَ: { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ. في لَوْحٍ مَحْفوظٍ }.
وقالَ: { في صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ. مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ، بِأَيْدي سَفَرَةٍ. كِرَامٍ بَرَرَةٍ }.
والقرآنُ في الأصلِ مصدرٌ كالقِرَاءَةِ؛ كمَا في قولِهِ تعالى: { إِنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كانَ مَشْهُودًا }.
ويرادُ بهِ هنَا أنْ يكُونَ عَلَمًا على هذا المُنـزَّلِ مِن عندِ اللهِ، المكتوبِ بينَ دفَّتَيِ المصحفِ، المتعبَّدِ بتلاوتِهِ، المتحدَّى بأقصرِ سورةٍ منهُ.
وقولُهُ: { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القُدُسِ مِن رَبِّكَ بِالحَقِّ }. يدُلُّ أنَّ ابتداءَ نزولِهِ مِن عندِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وأنَّ رُوحَ القُدسِ جبريلَ عليهِ السَّلامُ تلقَّاهُ عن اللهِ سبحانَهُ بالكيفيَّةِ التَّي يعلمُهَا).

هيئة الإشراف

#4

17 Dec 2008

شرح العقيدة الواسطية للشيخ: صالح بن فوزان الفوزان


قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: (وقولُه تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) الذين أُمرتَ بقتالهِم (اسْتَجَارَكَ) يا محمّدُ، أي طلَب جِوَارَكَ وحِمَايتكَ وأمَانكَ (فَأَجِرْهُ) أي كنْ له جارًا ومُؤَمِّناً (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) منك ويتدبَّرَه ويقِفَ عَلى حقيقةِ ما تدعو إليه.
والشَّاهدُ مِن الآيةِ: أنَّ فيها إثباتَ الكَلامِ للهِ تعالى. وأنَّ الذي يُتْلى هو كَلامُ اللهِ، وقولُه: (وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) أي اليهودِ، والفريقُ اسمُ جمعٍ لا واحدَ له مِن لفظِه (يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ) أي التَّورَاةَ (ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ) أي يتأوَّلونه عَلى غيِر تأويلهِ (مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ) أي فَهِمُوه، ومع هذا يخالفونه عَلى بصيرةٍ (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنَّهم مخطئون فيما ذهبوا إليه مِن تحريفهِ وتأويلِه.
والشَّاهدُ مِن الآيةِ الكريمةِ: أنَّ فيها إثباتَ الكَلامِ للهِ تعالى، وأنَّ التَّوراةَ مِن كَلامِه تعالى، وأن اليهودَ حرَّفوها وغيَّروا فيها وبدَّلُوا.
وقولُه تعالى: (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ) (يُرِيدُونَ) أي المُخَلَّفُونَ مِن الأعرابِ الذين اختاروا المُقَامَ في أهليهم وشُغْلِهِم، وتركوا المسيرَ مع رسولِ الله صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ حين خرج عَامَ الحديبيَةِ (أنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ) أي يغيِّروا كَلامَ اللهِ الذي وعَد به أهلَ الحديبيةِ خاصَّةً بغنيمةِ خيبرَ (قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا) هذا نفيٌ في معنَى النَّهيِ، أي لا تتَّبعونا (كَذَلِكُمْ قَالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ) أي وعَد اللهُ أهلَ الحديبيةِ أنَّ غنيمةَ خيبرَ لهم خاصَّةً0
والشَّاهدُ مِن الآيةِ الكريمةِ: أنَّ فيها إثباتَ الكَلامِ للهِ، وإثباتَ القولِ له، وأنَّ اللهَ سبحانَه يتكلَّمُ ويقولُ متى شاء إذا شاء، وأنَّه لا يجوزُ تبديلُ كَلامِه سبحانَه، بل يجبُ العملُ به واتِّباعُه.
وقوله (وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ) أمر اللهُ نبيَّه أن يواظبَ عَلى تلاوةِ الكتابِ الْمُوحَى إليه.
الوَحْيُ: هو الإعلامُ بسرعةٍ وخَفَاءٍ، وله كيفيَّاتٌ مذكورةٌ في كتبِ أصولِ التفسيرِ (مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ) بيانٌ للّذي أُوحِي إليه (لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِماتهِ) أي لا مُغيِّرَ لها ولا مُحرِّفَ ولا مُزِيلَ.
والشَّاهدُ مِن الآيةِ: إثباتُ الكَلماتِ للهِ تعالى.
قولُه: (إِنَّ هَذاَ الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ) وهم حَمَلةُ التَّوراةِ والإنجيلِ (أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) كاختلافِهم في عيسى، فاليهودُ افتروْا في حَقِّه والنَّصارى غَلَوْا فيه.فجاء القرآنُ بالقولِ الوسَطِ الحقِّ؛ أنَّه عبدُ اللهِ ورسولُه، وكلمتُهُ ألقاها إلى مريمَ ورُوحٌ منه.
والشَّاهدُ مِن الآيةِ الكريمةِ: أنَّ فيها إثباتَ أنَّ القرآنَ كَلامُ اللهِ تعالى لما تضمَّنه مِن الإحاطةِ بالكتبِ السَّابقةِ والحكمِ في الخلافِ بين طوائفِ أهلِ الكتابِ بالقسطِ، وهذا لا يكونُ إلاَّ مِن عندِ اللهِ.
ويستفادُ من مجموعِ الآياتِ التي ساقها المؤلِّفُ: إثباتُ الكَلامِ للهِ، ومذهبُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعَةِ إثباتُ ما دلَّ عليه الكتابُ والسُّنَّةُ مِن أنَّ اللهَ موصوفٌ بالكَلامِ، وكَلاُمه سبحانَه مِن صفاتِه الذَّاتيَّةِ لقيامِه به واتَّصافِه به، ومِن صفاتِه الفعليَّةِ الواقعةِ بمشيئتِه وقدرتِه، فيتكلّمُ إذا شاءَ كيفَ شاءَ بما يشاءُ، ولم يزلْ متكلِّما ولا يزالُ متكلِّما؛ لأنَّه لم يزلْ ولا يزالُ كاملاً، والكَلامُ مِن صفاتِ الكمالِ، ولأنَّ اللهَ وَصَفَ به نفسه َووَصَفَهُ به رسولُه. وسيأتي ذكرُ مذهبِ المخالفينَ في هذه المسألةِ مع الرَّدِّ عليهم إنْ شاءَ اللهُ.
وقولـه: ( وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ )، ( لَوْ أَنْزَلْنَا هذا القُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ )، (وَإِذا بَدَّلْنَا آيَةً مَكانَ آيَةٍ واللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمونَ. قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذينَ آمَنُوا وَهُدَىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمينَ. وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لَسَانُ الَّذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبينٌ ).

لمَّا أورد المؤلِّفُ رحمه اللهُ الآياتِ الدالَّةَ عَلى إثباتِ الكَلام للهِ، تعالى وأنَّ القرآنَ العظيمَ مِن كَلامِه سبحانَه شَرعَ في سياقِ الآياتِ الدَّالَّةِ عَلى أنَّ القرآنَ منزَّلٌ مِن عندِ اللهِ، فقولُه تعالى: (وَهَذَا) الإشارةُ إلى القرآنِ الكريمِ، واسمُ الإشارةِ مبتدأٌ خَبرُه (كِتابٌ) و(أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ) صِفَتانِ لكتابٍ، وقدَّم صفةَ الإنزالِ؛ لأنَّ الكفَّارَ ينكرُونَها، والمبارَكُ كثيرُ البركةِ لما هو مُشْتمِلٌ عليه مِن المنافعِ الدينيّةِ والدنيويّةِ.وقولُه تعالى: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) هذا إخبارٌ عَن عَظمةِ القرآنِ، وأنَّه حَقيقٌ بأن تخشعَ له القلوبُ، فإنَّه لو أُنزِلَ عَلى جَبلٍ مع كونِه في غايةِ القسوةِ وشدّةِ الصَّلابةِ، لو فَهِمَ هذا القرآنَ، لخشع وتَصَدَّعَ مِن خوفِ اللهِ، حَذَرًا مِن عقابِه، فكيف يليقُ بكم أَيُّها البشرُ أن لا تلينَ قلوبُكُم وتخشعَ. وقد فَهِمْتُمْ عَن اللهِ أمرَه وتدبَّرتم كتابَه.
وقولُه تعالى: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ) هذا شُرُوعٌ منه سبحانَه في ذكرِ شُبْهَةٍ كُفْرِيَّةٍ حوْلَ القرآنِ الكريمِ مع الرَّدِّ عليها.
وقولُه: (بَدَّلْنَا) معنَى التَّبديلِ رفعُ الشيْءِ مع وضعِ غيرِه مكانَه، وتبديلُ الآيةِ رفعُها بأخرى غيِرها وهو نسخُها بآيةٍ سواها. (قَالُوا) أي: كُفَّارُ قريشٍ الجاهلون للْحِكْمةِ في النَّسخِ، (إِنَّمَا أَنْتَ) يا محمَّدُ (مُفْتَرٍ) أي كاذبٌ مُخْتَلِقٌ مُتَقَوِّلٌ عَلى اللهِ، حيثُ تزعمُ أنَّه أمرَكَ بشيءٍ، ثم تزعمُ أنَّه أمرَكَ بخِلافِه، فردَّ اللهُ عليهم بما يُفِيدُ جَهْلَهُمْ، فقال: (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ) شيئًا مِن العلمِ أصلاً، أو لا يعلَمون الحكمةَ في النَّسخِ، فإنَّه مَبْنيٌّ عَلى المصالحِ، التي يعلمُها اللهُ سبحانَه، فقد يكونُ في شَرْعِ هذا الشيْءِ مصلحةٌ مؤقَّتةٌ بوقتٍ، ثم تكونُ المصلحةُ بعد ذلك الوقتِ في شرعِ غيرِه. ولو انكشفَ الغطاءُ لهؤلاءِ الكفرةِ، لعلِموا أنَّ ذلك وجهُ الصَّوابِ، ومنهجُ العدلِ والرِّفْقِ واللُّطْفِ.
ثم ردّ عليهم في زعمِهم أنَّ هذا التَّبديلَ مِن عندِ محمَّدٍ، وأنَّه بذلك مُفْتَرٍ عَلى اللهِ، فقال سبحانَه: (قُلْ نَزَّلَهُ) أي: القرآنَ (رُوحُ القُدُسِ) أي جبريلُ، والقُدُسُ الطُّهْرُ. المعنى: نزَّله الرُّوحُ المُطَهَّرُ، فهو مِن إضافةِ الموصوفِ إلى صفتهِ (مِن رَبِّكَ) أي ابتداءُ تنـزيلِه مِن عندِ اللهِ سبحانَه (بالحَقِّ) في محلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ ـ أي متَّصفاً بكونِه حَقًّا(لِيُثَبِّتَ الَّذين آمنوا) عَلى الإيمانِ فيقولون: كُلٌّ مِن النَّاسخِ والمنسوخِ مِن عندِ رَبِّنا، ولأنَّهم إذا عَرفوا ما في النَّسخِ مِن المصالحِ، ثبتوا عَلى الإيمانِ (وَهُدًى وَبُشْرَى للْمُسْلِمِينَ) معطوفان عَلى محلِّ لِيُثَبِّتَ ـ أي تثبيتا لهم وهدايةً وبُشْرى.
ثم ذكر سبحانَه شُبهةً أخرى مِن شُبَهِهِم، فقال: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشرٌ) أي ولقد نعلمُ أنَّ هؤلاءِ الكفَّارَ يقولون: إنَّما يعلِّمُ محمدًا القرآنَ بشرٌ مِن بني آدمَ، وليس مَلَكًا مِن الملائكةِ، وهذا البشَرُ الذي يعلِّمُه كان قد درَس التَّوراةَ والإنجيلَ والكتبَ الأعجميَّة؛ لأنَّ محمَّدًا رجلٌ أُمِّيٌّ لا يمكنُ أن يأتيَ بما ذُكِر في القرآنِ مِن أخبارِ القُرونِ الأولى.
فردَّ اللهُ عليهم بقولِه: (لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيهِ أَعْجَمِيٌّ) أي لسانُ الذي يميلون إليه ويزعمون أنَّه يعلِّمُك يا محمَّدُ أعجميٌّ ـ أي غيرُ عربيٍّ ـ فهو لا يتكلَّمُ العربيّةَ (وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبيٌّ مُبِينٌ) أي وهذا القرآنُ ذو بلاغةٍ عربيّةٍ وبيانٍ واضحٍ، فكيف تزعمون أنَّ بشرًا يعلِّمُه النبيَّ صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ مِن العَجَمِ، وقد عَجَزتم أنتم عَن مُعَارضتِه أو معارضةِ سورةٍ أو سُورٍ منه وأنتم أهلُ اللِّسانِ العربيِّ، ورجالُ الفصاحةِ، وقادةُ البلاغةِ.
ما يستفادُ مِن الآيات: يستفادُ مِن هذه الآياتِ الكريمةِ إثباتُ أنَّ القرآنَ مُنزَّلٌ مِن عندِ اللهِ، تعالى وأنَّه كَلامُه جلَّ وعلا لا كَلامُ غيرِه مِن الملائكةِ أو البشرِ ـ والرَّدُّ عَلى مَن زعَمَ أنَّه كَلامُ مخلوقٍ ـ وفي الآياتِ أيضا إثباتُ العلوِّ للهِ سبحانَه، لأنَّ الإنزالَ لا يكونُ إلاَّ مِن أعْلى، واللهُ أعْلمُ).

هيئة الإشراف

#5

17 Dec 2008

الروضة الندية للشيخ: زيد بن عبد العزيز بن فياض رحمه الله


قال الشيخ زيد بن عبد العزيز بن فياض (ت: 1416هـ): (وقَالَ تَعَالَى :{ وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ } ففيه إخبارٌ بأَنَّه أَنْزلَ الْقُرْآنَ .
ولفظُ الإِنْزالِ فِي الْقُرْآنِ قد يَرِدُ مُقيَّداً بالإِنْزالِ منه كَنُزولِ الْقُرْآنِ ، وقد يَرِدُ مُقَيَّداً بالإِنْزالِ مِن السَّماءِ ويُرادُ به العُلُوُّ فيتَناولُ نزولَ المطرِ مِن السَّحابِ ، ونزولَ الملائكةِ مِن عندِ اللهِ ، وغيرَ ذَلِكَ . وقد يَرِدُ مُطلقاً فلا يخْتَصُّ بنوعٍ مِن الإِنْزالِ . بل ربما يَتناولُ الإِنْزالَ مِن رؤوسِ الجبالِ كقَوْله :{ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } والإِنْزالَ مِن ظهورِ الحَيوانِ كإِنْزالِ الفحْلِ الماءَ وغيرَ ذَلِكَ . فقَوْلُه :{ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ } بَيانٌ لِنُزولِ جِبريلَ به مِن اللهِ عز وجل . فإِنَّ رُوحَ القُدسِ هنا هُوَ جبريلُ بدليلِ قَوْلِه تَعَالَى :{ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ } وهُوَ الرُّوحُ الأمينُ كما فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :{ وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِن الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ } وفِي قَوْلِهِ (الأَمِينُ) دلالةٌ عَلَى أَنَّه مُؤْتمَنٌ عَلَى ما أُرْسِلَ به لا يَزيدُ فيه ولا يَنقُصُ . فإِنَّ الرَّسُول َ الخائنَ قد يُغيِّرُ الرِّسالةَ .
وفِي قَوْلِهِ :{ مُنَزَّلٌ مِن رَّبِّكَ } دلالةٌ عَلَى بُطْلانِ قَوْلِ مَن يَقُولُ : إِنَّه كَلاَمٌ مخلوقٌ خَلَقَه فِي جِسمٍ مِن الأجسامِ المخلوقةِ كما هُوَ قَوْلُ الْجَهْمِيَّةِ الذين يَقُولُونَ بخَلْقِ الْقُرْآنِ مِن الْمُعْتَزِلَةِ والنَّجَّاريَّةِ والضَّراريَّةِ وغَيْرِهم . فإِنَّ السَّلَفَ كَانُوا يُسمُّونَ كُلَّ مَنْ نَفَى الصِّفاتِ وقَالَ : إِنَّ الْقُرْآنَ مخلوقٌ وإِنَّ اللهَ لا يُرى فِي الآخِرةِ جَهْمِياًّ . كما تُبطِلُ قَوْلَ مَن يَجعلُه فَاضَ عَلَى نفسِ النَّبِيِّ مِن العقلِ الفَعَّالِ أو غيرِه . وقَوْلُ مَن قَالَ : إِنَّ الْقُرْآنَ العربيَّ لَيْسَ مُنَزَّلاً مِن اللهِ بل مخلوقٌ إِمَّا فِي جبريلَ أو مُحَمَّدٍ أو جسمٍ غيرِهما كما يَقُولُ ذَلِكَ الكُلاَّبيَّةُ والأشْعَرِيَّةُ . الذين يَقُولُونَ : إِنَّ الْقُرْآنَ العربيَّ لَيْسَ هُوَ كَلاَمَ اللهِ وإِنَّما كلامُه المَعنىّ القائمُ بذاتِه . والْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ خُلِقَ لِيَدُلَّ عَلَى ذَلِكَ المَعْنى . ثُمَّ إِمَّا أَنْ يَكُونَ خَلَقَ بَعْضَ الأجسامِ: الهواءَ أو غيرَه أو ألْهَمَهُ جبريلَ فعَبَّرَ عنه بالْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ أو أَنْ يَكُونَ جبريلُ أخذَهُ مِن اللَّوحِ المحفوظِ أو غيرِه . والْقُرْآنُ اسمٌ للقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ لَفْظِه وَمعْنَاه . بدليلِ قَوْلِه تَعَالَى :{ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ } وإِنَّما يُقرأُ الْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ لا يُقرأُ مَعانِيهِ المُحَدَّدةُ وكذَلِكَ قَوْلُه :{ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً } والْكِتَابُ اسمٌ للكَلاَمِ الْعَرَبِيِّ بالضَّرورةِ والاتِّفاقِ . فإِنَّ الكلاَّبيَّةَ أو بَعضَهم يُفرِّقُ بينَ كَلاَمِ اللهِ وكتابِ اللهِ. فيَقُولُ : كَلاَمُ اللهِ هُوَ المَعْنى القائمُ بالذَّاتِ وهُوَ غيرُ مخلوقٍ . وكتابُه هُوَ المَنظومُ المُؤلَّفُ الْعَرَبِيُّ وهُوَ المخلوقُ .
والْقُرْآنُ يُرادُ به تَارةً هَذَا وتارةً هَذَا . واللهُ تَعَالَى قد سَمَّى نَفْسَ مجموعِ اللَّفظِ والمَعْنى قُرآناً وكِتاباً وكَلاَماً فقَالَ :{ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآن مُّبِينٍ } وقَالَ :{ وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِن الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ } الآْيَةَ فَبيَّنَ أَنَّ الذي سَمِعوه هُوَ الْقُرْآنُ وهُوَ الْكِتَابُ .
لكن لفظُ الْكِتَابِ قد يُرادُ به المكتوبُ فيَكُونُ هُوَ الْكَلاَمَ ، وقد يُرادُ به ما يُكتبُ فيه كقَوْله :{ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } الآْيَةِ . وقَالَ :{ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ كِتَاباً } الآْيَةَ فقَوْلُه :{ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً } يتناولُ نزولَ الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ عَلَى كُلِّ قَوْلٍ . فُعلِمَ أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ يُنزَّلُ مِن اللهِ لا مِن الهواءِ ولا مِن اللَّوحِ ولا مِن جِسمٍ آخَرَ ولا مِن جبريلَ ولا مُحَمَّدٍ ولا غيرِهما .
وكَوْنُ الْقُرْآنِ مكتوباً فِي اللَّوحِ المَحفوظِ وفِي صُحُفٍ مُطَهَّرةٍ بأيدي الملائكةِ لا ينُافِي أَنْ يَكُونَ جبريلُ نَزلَ به مِن اللهِ سواءً كَتبَه اللهُ قبلَ أَنْ يُرْسِلَ به جبريلَ أو غيرَ ذَلِكَ . وإذا كَانَ قد أَنْزلَه مكتوباً إلى بيتِ العِزَّةَ جُملةً واحدةً فِي ليلةِ القَدْرِ فقد كَتَبه كُلَّهُ قَبلَ أَنْ يُنزلَه . واللهُ تَعَالَى يعلمُ ما كَانَ وما لا يَكُونُ أَنْ لو كَانَ كَيْفَ يَكُونُ . وهُوَ سُبْحَانَهُ قَدَّرَ مَقاديرَ الخلائقِ وكَتَبَ أعمالَ الْعِبَادِ قبل أَنْ يَعملُوها ، كما ثَبَتَ ذَلِكَ بالْكِتَابِ والسُّنَّةِ وآثارِ السَّلَفِ . ثُمَّ إِنَّه يأمرُ الملائكةَ بكتابَتِها بعدَ ما يَعملُونها فَيقابِلُ مِن الكتابةِ المُتقدِّمةِ عَلَى الوجودِ والْكتابةِ المُتأخِّرةِ عنها فلا يَكُونُ بينهما تَفاوتٌ . هكذا قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ وغيرُه مِن السَّلَفِ وهُوَ حقٌّ فإذا كَانَ ما يَخلقُه بائنِاً منه قد كُتِبَ قبْلَ أَنْ يَخلُقَه فكَيْفَ يُستبعدُ أَنْ يَكتبَ كلامَه الَّذِي يُرسلُ به مَلائكتَه . قَبْلَ أَنْ يُرسلَهم به .
(( وقَد افْترقَ النَّاسُ فِي مسألةِ الْكَلاَمِ عَلَى تَسعةِ أقوالٍ :
أحدُها : أَنَّ كَلاَمَ اللهِ ما يَفيضُ عَلَى النُّفوسِ إمَّا مِن العقلِ الفعَّالِ عندَ بعضِهم أو مِن غيرِه . وهَذَا قَوْلُ الصَّائبةِ والمُتفلسِفةِ .
وثَانِيها : أَنَّه مخلوقٌ مُنفصِلٌ عنه . وهَذَا قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ .
وثالِثُها : أَنَّه مَعنًى واحدٌ قائمٌ بذاتِ اللهِ هُوَ الأمرُ والنَّهْيُ والخبرُ والاستخبارُ . وإِْنّ عُبِّرَ عنه بالعربِيَّةِ كَانَ قُرآناً ، وإِنْ عُبِّرَ عنه بالعبْرانِيَّةِ كَانَ تَوراةً . وهَذَا قَوْلُ ابنِ كُلاَّبٍ ومَن وَافَقَهُ كالأشْعريِّ وغيرِه .
ورابِعُها : أَنَّه حروفٌ وأصواتٌ أَزليَّةٌ مُجتمِعةٌ فِي الأزلِ . وهَذَا قَوْلُ طائفةٍ مِن أَهْلِ الْكَلاَمِ ومِن أَهْلِ الحَدِيثِ .
وخامِسُها : أَنَّه حروفٌ وأصواتٌ لكن تَكلَّمَ اللهُ بها بعد أَنْ لم يَكُنْ مُتكَلِّماً . وهَذَا قَوْلُ الكرَّاميَّةِ وغَيْرِهم .
وسادسِهُا : أَنَّ كلامَه يَرجعُ إلى ما يُحدِثُه مِن عِلمِه وإرادَتِه القائِمةِ بذاتِه وهَذَا يَقُولُهُ صاحبُ المُعتَبرِ ويَميلُ إليه الرَّازيُّ فِي المَطالبِ العاليِةِ .
وسابِعُها : أَنَّ كلامَه يَتضمَّنُ معنًى قائماً بذاتِه هُوَ ما خَلَقَهُ فِي غيرِه . وهَذَا قَوْلُ أبي منصورٍ المَاتُريديِّ .
وثامِنُها : أَنَّه مُشترَكٌ بين المَعْنى القديمِ القائمِ بالذَّاتِ ، وبين ما يَخلقُه فِي غيرِه مِن الأصواتِ . وهَذَا قَوْلُ أبي المعَالي ومَن اتَّبعَهُ .
وتاسِعُها : أَنَّه تَعَالَى لم يَزلْ مُتكلِّماً إذا شَاءَ ومتى شَاءَ وكَيْفَ شَاء وهُوَ يتكَلَّمُ بصوتٍ يُسمَعُ وأَنَّ نوعَ الْكَلاَمِ قديمٌ وإِنْ لم يَكُنِ الصَّوتُ الُمعَيَّنُ قديماً. وهَذَا المأثورُ عَن أئمَّةِ الحَدِيثِ والسُّنَّةِ .
(( واستَدَلَّ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى خلقِ الْقُرْآنِ بقَوْله :{ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } قالوا والْقُرْآنُ شيءٌ فَيدخلُ فِي عمومِ كُلٍّ فيَكُونُ مخلوقاً . وهَذَا مِن أعجبِ العَجبِ فإِنَّ أفعالَ الْعِبَادِ كُلَّها عندَهم غيرُ مخلوقةٍ لله تَعَالَى وإِنَّما يخلُقها الْعِبَادُ جميعَها فأخْرجوها مِن عمومِ (( كُلِّ )) وأدْخَلوا كَلاَمَ اللهِ فِي عمومِها مَعَ أَنَّه صِفَةٌ مِن صفاتِه به تَكُونُ الأشياءُ المخلوقةُ إذ بأمْرِه تَكُونُ المخلوقاتُ .
قَالَ تَعَالَى :{ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ } ففَرْقٌ بين الخلقِ والأمرِ فلو كَانَ الأمرُ مخلوقاً لَلزِمَ أَنْ يَكُونَ مخلوقاً بأمْرٍ آخرَ والآخرُ بآخرَ إلى ما لا نِهايةَ له فيلزمُ التَّسلسُلُ وهُوَ باطلٌ وَطَردُ باطلِهم أَنْ تَكُونَ جميعُ صِفاتِه تَعَالَى مخلوقةً كالْعِلْمِ والقُدرةِ وغيرِها وذَلِكَ صريحُ الكُفرِ . وكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُتكلِّماً بكَلاَمٍ يقومُ بِغيرِه ؟ ولو صَحَّ ذَلِكَ للزِمَ أَنْ يَكُونَ ما أحْدَثَهُ مِن الْكَلاَمِ فِي الجَماداتِ كلامَه وكذَلِكَ أيضاً ما خَلَقَه فِي الحيوانَاتِ ، بل يلزمُ أَنْ يَكُونَ مُتَكَلِّماً بكُلِّ كَلاَمٍ خلقَه فِي غيرِه زُوراً كَانَ أو كَذباً أو كُفراً وهَذَياناً تَعَالَى اللهُ عَن ذَلِكَ ، وقد طَرَدَ هَذَا الاتِّحاديَّةُ فقَالَ ابنُ عَربيٍّ :
وكُـلُّ كَـلاَمٍ فِـي الوجـودِ  كـلامُـه ... ســواءٌ عليـنـا نَـثْـرُه ونِـظـامُـه

ولو صَحَّ أَنْ يُوصفَ أحدٌ بصِفَةٍ قامَتْ بغيرِه لَصحَّ أَنْ يُقَالَ للبَصيرِ أعْمَى وللأعْمَى بَصيرٌ لإِنَّ البَصيرَ قد قام وَصْفُ العَمَى بغيرِه والأعْمَى قد قامَ وصْفُ البصرِ بغيرِه ، ولصَحَّ أَنْ يُوصفَ اللهُ تَعَالَى بالصِّفاتِ التي خَلقَها فِي غيرِه مِن الألْوانِ والرَّوائحِ والطُّعومِ والطُّولِ والقِصرِ ، ونحوِ ذَلِكَ . وقَالَ الإِمَامُ عبدُ العزيزِ المكِّيُّ فِي مُناظرتِه لبِشْرٍ المَرِّيسيِّ : إِنْ قَالَ بِشْرٌ :
إِنَّ اللهَ خلَقَ كلامَه فِي نَفْسِه . فهَذَا مُحالٌ ، لأَنَّ اللهَ لا يَكُونُ مَحَّلاً للحوادثِ المخلوقةِ ولا يَكُونُ منه شيءٌ مخلوقٌ. وإِنْ قَالَ : خَلَقَه فِي غيرِه فهُوَ كَلاَمُ ذَلِكَ الغيرِ . وإِنْ قَالَ خلَقَه قائماً بنفسِه وذاتِه فهَذَا محُالٌ ، لا يَكُونُ الْكَلاَمُ إلا مِن متكَلِّمٍ كما لا تَكُونُ الإرادةُ إلا مِن مُريدٍ ولا الْعِلْمُ إلا مِن عالِمٍ ولا يُعقلُ كَلاَمٌ قائمٌ بنفسِه يَتكلَّمُ بذاتِه . فلمَّا استحالَ مِن هَذِهِ الجهاتِ أَنْ يَكُونَ مخلوقاً عُلمَ أَنَّه صِفَةُ اللهِ ا.ه وعمومُ كُلٍّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ بِحسَبِه ، ويُعرفُ ذَلِكَ بالقَرائنِ ألا تَرَى إلى قَوْلِهِ تَعَالَى :{ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأْصْبَحُوا لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ } ومساكِنُهم شيءٌ ولم تدخلْ فِي عمومِ كُلِّ شيءٍ دمَّرتْه الرِّيحُ . وذَلِكَ لأَنَّ الْمُرَادَ تُدمِّرُ كُلَّ شيءٍ يَقبلُ التَّدميرَ بالرِّيحِ عادةً وما يَستحقُّ التَّدميرَ . وكذا قَوْلُه تَعَالَى حِكايةً عَن بِلقيسَ { وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ } الْمُرَادُ مِن كُلِّ شيءٍ يحَتاجُ إليه الملوكُ والْمُرَادُ مِن قَوْلِه :{ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } أي كُلُّ شيءٍ مخلوقٌ وكُلُّ موجودٍ سوى اللهِ فهُوَ مخلوقٌ . فدَخَلَ فِي هَذَا العمومِ أفعالُ الْعِبَادِ حَتماً ولم يدخلْ فِي العمومِ الخالقُ تَعَالَى . وصفاتُه ليست غيرَه لأَنَّه تَعَالَى هُوَ الموصوفُ بصفاتِ الكمالِ ، وصفاتُه مُلازمةٌ لذَاتِه المُقدَّسةِ لا يُتصوَّرُ انْفصالُ صِفاتِهِ عنه .
وقَالَ ابنُ القَيِّمِ : احتَجَّ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى مخلوقِيَّةِ الْقُرْآنِ بقَوْلِه تَعَالَى :{ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } ونحوِ ذَلِكَ مِن الْآيَاتِ فأجابَ الأكْثرون بإِنَّه عامٌّ مخصوصٌ ،يُخَصُّ مَحلُّ النَّزاعِ كسائرِ الصِّفاتِ مِن الْعِلْمِ ونحوِه .
قَالَ ابنُ عَقِيلٍ فِي الإرشادِ : ووقَعَ لي أَنَّ الْقُرْآنَ لا يَتناولُهُ هَذَا الإخبارُ ولا يَصلحُ لِتناولِه قَالَ : لإِنَّ به حَصلَ عَقْدُ الإعلامِ بكونِه خَالِقاً لكُلِّ شيءٍ وما حَصَلَ به عقدُ الإعلامِ والإخبارِ لم يَكُنْ داخِلاً تحتَ الخبرِ . قَالَ : ولو أنَّ شَخصاً قَالَ : لا أتكلَّمُ اليومَ كَلاَماً إلا كَانَ كذباً لم يدخلْ إخبارُه بذَلِكَ تحتَ ما أَخبرَ به (( قلتُ )) ثُمَّ تَدَبَّرتُ هَذَا فوجَدْتُه مذكوراً فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ مَريمَ :{ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِن البَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمِن صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنَّسِيّاً } وإِنَّما أُمرِتْ بذَلِكَ لئلا تُسألَ عَن ولدِها .
فقولُها { فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً } به حَصلَ إخبارٌ بإِنَّها لا تُكلِّمُ الإِنسَ ولم يَكُنْ ما أخبرتْ به داخلاً تحتَ الخبرِ وإلا كَانَ قولهُا هَذَا مخُالفاً لِنذْرِها ا.ه
وأمَّا استدلاَلهم بقَوْلِه تَعَالَى :{ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً } فما أفسدَهُ مِن استدلالٍ فإِنَّ " جَعَلَ " إذا كَانَ بمعنى خَلقَ يتعدَّى إلى مفعولٍ واحدٍ كقَوْلِه تَعَالَى :{ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ } وإذا تعدَّى إلى مَفعوليْنِ لم يَكُنْ بمعنى خَلَق قَالَ تَعَالَى :{ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً } وكذا قَوْلهُ تَعَالَى :{ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرآناً عَرَبِيّاً } .
وما أفسدَ استدلاَلهم بقَوْلِه تَعَالَى :{ نُودِيَ مِن شَاطِىءِ الْوَادِي الأَيْمِن فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِن الشَّجَرَةِ } عَلَى أَنَّ الْكَلاَمَ خلقَهُ اللهُ فِي الشَّجرةِ فسَمِعَهُ مُوسَى منها . وعَمُوا عمَّا قبلَ هَذِهِ الكلمةِ وما بعدَها فإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ :{ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِىءِ الْوَادِي الأَيْمَنِ } والنِّداءُ هُوَ الْكَلاَمُ مِن بُعدٍ فسَمِعَ مُوسَى النِّداءَ مِن حافَةِ الوادِي ثُمَّ قَالَ :{ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِن الشَّجَرَةِ } أي أَنَّ النِّداءَ كَانَ فِي الُبقعةِ المُباركةِ مِن عندِ الشَّجرةِ ومِن لابتداءِ الغايةِ . ولو كَانَ الْكَلاَمُ مخلوقاً فِي الشَّجرةِ لكَانَتْ الشَّجرةُ هِيَ القَائلةَ :{ يا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } وهل قَالَ :{ إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } غيرُ ربِّ العالَمِين ؟ ولو كَانَ هَذَا الْكَلاَمُ بَدَا مِن غيرِ اللهِ لكَانَ قَوْلُ فرعونَ أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى صِدقاً . إذ كُلٌّ مِن الكلامينِ عندَهم مخلوقٌ قد قالَهُ غيرُ اللهِ . وقد فرَّقوا بينَ الكلامين عَلَى أصولِهم الفاسِدةِ: إِنَّ ذاك كَلاَمٌ خَلقَهُ اللهُ فِي الشَّجرةِ . وهَذَا كَلاَمٌ خَلَقه فرعونُ فَحَرَّفُوا وبَدَّلوا واعتَقَدوا خَالِقاً غيرَ اللهِ .
وأمَّا قَوْلهُ تَعَالَى فِي عيسى عَلَيْهِ السَّلامُ ( وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ ) فالمعنى أَنَّه خَلقَه بالكلمةِ التي أَرسلَ بها جبريلَ عَلَيْهِ السَّلامُ إلى مريمَ فَنَفخَ فِيَهَا الرُّوحَ . فعيسى ناشِئٌ عَن الكلمةِ . ولَيْسَ هُوَ نفْسَ الكلمةِ وقَوْلُه تَعَالَى :{ وَرُوحٌ مِّنْهُ } يَعْني أَنَّه كائنٌ منه تَعَالَى أي هُوَ مُوجِدُه وخالِقُه فهُوَ رُوحٌ مِن الأرواحِ التي خلقَها اللهُ كما قَالَ تَعَالَى :{ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ } أي مخلوقةٌ بأمرِه).

هيئة الإشراف

#6

17 Dec 2008

التنبيهات السنية للشيخ: عبد العزيز بن ناصر الرشيد رحمه الله

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (( وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ المُشْرِكينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأمَنهُ).(1)
وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: ( وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمُعونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمونَ، يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ ).(2)
(وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ )، وقَوْلُهُ تَعَالَى: ( إِنَّ هَذا القُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَني إِسْرَائيلَ أَكْثَرَ الَّذي هُمْ فيهِ مخْتَلِفونَ ).(3)
( وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ )، ( لَوْ أَنْزَلْنَا هذا القُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ )، (وَإِذا بَدَّلْنَا آيَةً مَكانَ آيَةٍ واللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمونَ ). ( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذينَ آمَنُوا وَهُدَىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمينَ ).(4)
( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لَسَانُ الَّذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبينٌ)
).

الشرح:

قال الشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد (ت: 1408هـ): ((1) قَولُهُ: (وَإِنْ أَحَدٌ): أحدٌ مرفوعٌ بفعلٍ يفسِّرهُ استجاركَ، وقَولُهُ: (فَأَجِرْهُ): أي أَمِّنْهُ، وقَولُهُ: (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ): أي حتَّى يسمعَ القرآنَ مبلَّغًا إليه مِن قارئِه، كما قالَ أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ حين قرأ على قريشٍ: (الـم * غُلِبَتِ الرُّومُ ): فقالوا: هذا كلامُك أو كلامُ صاحبِك، فقال: ليس بكلامي ولا بكلامِ صاحبي ولكنَّهُ كلامُ اللهِ، وفي سُننِ أبي داودَ أنَّ رسولَ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- كان يَعْرِضُ نفسَه على النَّاسِ بالموسمِ فيقَولُ: ((أَلاَ رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إِلى قَوْمِهِ لأُبَلِّغَ كَلامَ رَبِّي فَإِنَّ قُرَيْشًا مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلامَ رَبَّي)) فبيَّن أَنَّ ما يُبلغُه ويتلوه هو كلامُ اللهِ لا كلامُه، وفي الآيةِ دليلٌ على أنَّه إذا استَأْمَن مشركٌ ليسمعَ القرآنَ وجب تأمينُه ليُعَلَّمَ دينَ اللهِ وتنتشرَ الدَّعوةُ، ومنها أنَّ رسولَ اللهِ كان يُعطيِ الأمانَ لمَن جاءَه مُسترشدًا أو في رسالةٍ كما جاءَ في الحديبيةِ جماعةٌ من قريشٍ وكذلك مَن قدِمَ من دارِ الحربِ إلى دارِ الإسلامِ في أداءِ رسالةٍ أو تجارةٍ أو طلبِ صلحٍ أو مهادنةٍ أو حملِ جزيةٍ أو طلبٍ من الإمامِ أو نائبِه- أُعطيَ أمانًا ما دامَ متردِّدًا في دارِ الإسلامِ حتَّى يرجعَ إلى مأمنِه ووطنِه، وفيها دليلٌ على إثباتِ صفةِ الكلامِ للهِ وأنَّه يتكلَّمُ وأنَّ القرآنَ كلامُهُ، وفيها دليلٌ على أنَّ الكلامَ إنَّما يُنسبُ إلى مَنْ قاله ابتداءً لا إلى مَن قالَه مبلِّغًا مؤدِّيًا، فإنَّ القارئَ يُبلِّغُ كلامَ اللهِ، وكلامُه -سُبْحَانَهُ- صفةٌ من صفاتِه غيرُ مخلوقٍ، وأمَّا صوتُ القارئِ وكذا المِدادُ والورقُ فهي مخلوقةٌ، لهذهِ الآيةِ ولحديثِ: ((بَيِّنُوا القُرآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ))، فبَيَّنَ أنَّ الأصواتَ الَّتي يُقرأ بها القرآنُ أصواتُنا، والقرآنَ كلامُ اللهِ، فالقرآنُ كلامُ الباري والصَّوتُ صوتُ القارئِ، وفي هذه الآيةِ دليلٌ على أنَّ القرآنَ الَّذي هو سُوَرٌ وآياتٌ وحروفٌ وكلماتٌ هو عَيْنُ كلامهِ -سُبْحَانَهُ- حقًّا لا تَأْلِيفُ مَلَكٍ ولا بشرٍ، وأنَّ حروفَه ومعانيَه عَيْنُ كلامِه -سُبْحَانَهُ- الَّذي تَكلَّمَ به -سُبْحَانَهُ- حقًّا، وبَلَّغه جبريلُ إلى محمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-، وَبَلَّغَهُ محمَّدٌ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- فللرَّسولين منه مجرَّدُ التَّبليغِ والأداءِ لا الوضعِ والإنشاءِ، فإضافتُه إلى الرَّسولِ بقَولِهِ: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ) إضافةُ تبليغٍ وأداءٍ لا إضافةُ وضعٍ وإنشاءٍ، لا كما يقَولُهُ أهلُ الزَّيغِ والافتراءِ، وفيه الرَّدُّ على مَن زعمَ أن‎َّ هذا الموجودَ بين أيدِينا هو عبارةٌ عن كلامِ اللهِ أو حكايةٍ له، فإنَّه -سُبْحَانَهُ- أخبرَ أنَّ الَّذي يُسمعُ كلامُ اللهِ، وعندهم أنَّ الَّذي يُسمعُ ليسَ كلامَ اللهِ على الحقيقةِ، وإنَّما هو مخلوقٌ حُكِيَ به كلامُ اللهِ على أحدِ قَولِهِم، وعِبارةٌ عُبِّرَ بها عن كلامِ اللهِ على القولِ الآخرِ، وهي مخلوقةٌ على القوليْنِ، فالمقروءُ , المكتوبُ والمسموعُ والمحفوظُ ليسَ كلامَ اللهِ، وإنَّما هو عبارةٌ عُبِّرَ بها عنه، كما يُعَبَّرُ عن الَّذي لا ينطقُ ولا يتكلَّمُ مِن أخرسَ أو عاجزٍ، تعالى اللهُ عن قَولِهِم عُلوًّا كبيرًا، وفيه دليلٌ على أنَّ القرآنَ كلامُ اللهِ وأنَّه يُسمعُ وأنَّه غيرُ مخلوقٍ، وفيها الرَّدُّ على مَنْ زعمَ أنَّه مخلوقٌ أو أنَّهُ كلامُ بشرٍ أو مَلَكٍ أو غيرِ ذلك، وفيها أنَّ مَن زعمَ أنَّه كلامُ غيرِ اللهِ فقد كفرَ أو زعمَ أنَّه مخلوقٌ.
قال الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ رحمه اللهُ: ولم يقلْ أحدٌ من السَّلفِ إنَّه مخلوقٌ أو أنَّه قديمٌ، بل الآثارُ متواترةٌ عن السَّلفِ مِن الصَّحابةِ والتَّابعين لهم بإحسانٍ أنَّهم يقولونَ: القرآنُ كلامُ اللهِ، وأوَّلُ مَن عُرفَ عنه أنَّه قال مخلوقٌ الجَعْدُ بِنْ دِرْهَمٍ، وصاحبُه الجهمُ بنُ صفوانَ، وأوَّلُ من عُرِفَ عنه أنه قالَ: هو قَدِيمٌ عبدُ اللهِ بنُ سعيدِ بنِ كلابٍ، أمَّا السَّلفُ فلم يَقُل أحدٌ منهم بواحدٍ من القولينِ، ولم يقلْ أحدٌ مِن السَّلفِ: إنَّ القرآنَ عِبارةٌ عن كلامِ اللهِ وحِكايةٌ له، ولا قالَ منهم أحدٌ إنَّ لَفْظِي بالقرآنِ قديمٌ أو مخلوقٌ، بل كانوا يقولونَ بما دلَّ عليه الكتابُ والسُّنَّةُ من أنَّ هذا القرآنَ كلامُ اللهِ، والنَّاسُ يَقْرءُونه بأصواتِهم ويكتبونَه بِمِدَادِهِم وما بينَ اللوحَينِ كلامُ اللهِ وكلامُ اللهِ غيرُ مخلوقٍ، والمِدَادُ الَّذي يُكتب به القرآنُ مخلوقٌ، والصَّوتُ الَّذي يُقْرأ به هو صوتُ العبدِ، والعبدُ وصوتُه وحركاتُه وسائرُ صفاتِه مخلوقةٌ، فالقرآنُ الَّذي يَقْرؤه المسلمونَ كلامُ الباري، والصَّوتُ صوتُ القارئِ، انتهى.
قال البخاريُّ رحمه اللهُ في كتابِ(خَلْقِ أَفْعَالِ العِبَادِ) بعد ذكرِ هذه الآيةِ والآيةِ الَّتي بعدَها، أي قَولُهُ سُبْحَانَهُ: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجيد * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) وقَولُهُ: (وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَّنْشُورٍ ) قال: ذكرَ اللهُ أنَّ القرآنَ يُحفظُ ويُسَطَرُ، والقرآنُ المُوعى في القلوبِ المَسْطورُ في المصاحفِ المَتْلوُّ بالألسنةِ كلامُ اللهِ ليس بمخلوقٍ، وأمَّا المِدادُ والورقُ والجلدُ فإنَّه مخلوقٌ، انتهى. من (فتحِ البارِي).

(2) قَولُهُ: (فَرِيقٌ): أي طائفةٌ: (مِنْهُمْ): أي أَحْبَارِهِم (يَسْمُعونَ كَلامَ اللهِ): أي التـَّوراةَ.
قَولُهُ: (ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ): أي يُغيِّرونه ويَتأوَّلونه على غيرِ تأويلِه، (مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ): أي فهمُوه (وَهُمْ يَعْلَمونَ): أي أنَّهم مُفترونَ، وإذ كانَ هذا حالُ علمائِهم فكيفَ بِجُهَّالِهِمْ.
في هذه الآيةِ التَّأيِيسُ من إيمانِ اليهودِ الَّذين شاهدَ آباؤُهم ما شاهدُوا، ثمَّ قستْ قلوبُهم ولم ينفعْهُم ما شاهدُوه، وفيها ذمٌّ للمُحَرِّفين للكَلِم عن مواضعِه، وأنَّ التَّحريفَ من صفاتِ اليهودِ، وأفادتْ هذه الآيةُ كغيرِها إثباتَ صفةِ الكلامِ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى-، والرَّدَّ على مَن زعمَ أنَّ اللهَ لا يتكلَّمُ أو أنَّ كلامَه مخلوقٌ، وفيها دليلٌ على أنَّ الكلامَ إنَّما يُنسبُ إلى مَن قاله مُبتدءًا لا إلى من قاله مُبَلِّغًا مُؤَدِّيًا، فإنَّ قَولَهُ: (يَسْمُعونَ كَلاَمَ اللهِ ): أي مِنْ قَارئِه ومُبَلِّغِهِ.
قَولُهُ: (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللهِ): أي مَواعيدَهُ بغنائمِ خَيْبَرَ، أهلُ الحديبيةِ خاصَّةً، لا يشارِكُهم فيها غيرُهم من الأعرابِ والمُتَخلِّفين، فلا يقعُ غيرُ ذلك شرْعا ولا قَدرًا، ولهذا قال: (يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ اللَّهِ) وهو الوعدُ الَّذي وعدَ به أهلَ الحديبيةِ، اختاره ابنُ جريرٍ.
قَولُهُ: (قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا): أي في خيبرَ، وهذا خَبرٌ بمعنى النَّهْي.
قَولُهُ: (كَذَلِكُمْ قَالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ): أي مِنْ قَبْلِ عَوْدِنا مِن قبلِ انصرافِنا مِن مكَّةَ إلى المدينةِ أنَّ غَنيمةَ خيبرَ لِمَن شهدَ الحديبيةَ خاصَّةً دونَ غيرِهِم.
أفادتْ هذه الآيةُ –كغيرِها- إثباتَ صفةِ الكلامِ، وإثباتَ القولِ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى-، وأنَّه قالَ ويقولُ متى شاءَ إذا شاءَ.

(3) قَولُهُ: (وَاتْلُ): أي اتَّبِعْ، والتِّلاوةُ هي الاتَّباعُ، يُقالُ اتْلُ أَثَرَ فلانٍ وتَلَوْتُ أَثَرَه وقَفَوتُه وقَصَصْتُه بمعنى تَبِعْتُ خَلفهُ، ويُسمَّى تَالي الكلامِ تَالِيًا؛ لأَنَّه يُتبِعُ بعضَ الحروفِ بعضًا لا يُخرجُها جملةً واحدةً، وحقيقةُ التِّلاوةِ في هذا الموضعِ وغيرِه هي التِّلاوةُ المطلقةُ التَّامَّةُ، وهي تلاوةُ اللفظِ والمعنى. انتهى. ملخَّصًا مِن كلامِ ابنِ القيِّمِ.
قَولُهُ: (مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ): الوحيُ: لغةً: الإعلامُ في خفاءٍ، وفي الاصطلاحِ إعلامُ اللهِ أنبياءَه بالشَّيءِ، إمَّا بكتابٍ أو رسالةِ مَلَكٍ أو منامٍ أو إِلْهَامٍ.
قَولُهُ: (مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ): أي القرآنِ بدليلِ قَولِهِ: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ ) – إلى قَولِهِ – (إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى) الآيةَ والمَسْمُوعُ واحدٌ، والكتابُ في الأصلِ جِنْسٌ، ثمَّ غَلَبَ على القرآنِ من بين الكُتبِ. انتهى، (الكَوْكَبُ المُنيرُ) ملخَّصًا.
قَولُهُ: (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ): أي لا تُغيَّرُ ولا تُبَدَّلُ، كما قال سُبْحَانَهُ: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) في هذه الآيةِ -كغيرِها- دليلٌ على أنَّ الكتابَ هو القرآنُ، خلافًا للكُلاَّبِيَّة فإنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ- سمَّى نفسَ مَجْموعِ اللفظِ والمعنى قرآنًا وكتابًا وكلامًا، كما تقدَّمَ في قَولِهِ: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ) الآيةَ فبيَّنَ أَنَّ الَّذي سَمِعوه هو القرآنُ، وهو الكتابُ، وقال تعالى: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ) وفي الآيةِ المتقدِّمةِ دليلٌ على أنَّ القرآنَ منَزَّلٌ من عندِ اللهِ، وأنَّه كلامُه، وفيها الحثُّ على تلاوتِه، وأنَّه -سُبْحَانَهُ- ضَمِنَ حفظَه من التَّغييرِ والتَّبديلِ.
قَولُهُ: (إِنَّ هَذا القُرْآنَ): مصدرُ قرأَ، أي جمعَ لِجِمْعِهِ السُّورَ أو ما في الكتبِ السَّابقةِ.
قَولُهُ (يَقُصُّ): أي يُبيِّنُ (عَلى بَني إِسْرَائيلَ) وهم حَمَلَةُ التَّوراةِ (أَكْثَرَ الَّذي هُمْ فيهِ مُخْتَلِفونَ) وذلك كاختلافِهم في أمرِ عيسى وَتَبَايُنِهم فيه، فجاءَ القرآنُ بالقولِ العَدْلِ الحقِّ أنَّه عبدٌ من عبادِ اللهِ ونبيٌّ مِن أنبيائِه، وفي الآيةِ دليلٌ على عظمةِ هذا الكتابِ وَهَيْمَنَتِه على الكتبِ السَّابقةِ، وتَوْضيحِه لما وَقَعَ فيها من اشتباهٍ، وإضافةِ القصصِ والتَّوضيحِ إليه وتضمُّنِ وجوبِ الرُّجوعِ إليه واتَّباعِه.

(4) قَولُهُ: (وَهَذَا كِتَابٌ): أي القرآنُ (مُبَارَكٌ): أي كثيرُ المنافعِ والخيرِ.
قَولُهُ: (لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا): أي مُتَذِلِّلاً (مُتَصَدِّعًا): أي مُتَشَقِّقًا، فإذا كان القرآنُ لو أُنْزلَ على جبلٍ لَخشع وتَصدَّعَ من خوفِ اللهِ فكيفَ يليقُ بكم أيُّها النَّاسُ أنْ لا تَلينَ قلوبُكُم وتخشعَ من خوفِ اللهِ، وقد فَهِمتم عن اللهِ أمرَه ونهيَهُ وتَدَبَّرتُم كتابَه، وفي الآيةِ دليلٌ على عَظَمةِ القرآنِ وأنَّه لو أُنزلَ على جبلٍ لخشعَ وتَصدَّعَ مِن خشيةِ اللهِ، وفيها دليلٌ على أنَّه -سُبْحَانَهُ- خلقَ في الجماداتِ إدراكًا بحيثُ تخشعُ وتُسبِّحُ، وهذا حقيقةٌ كما دلَّتْ على ذلك الأدلَّـةُ ولا يَعلمُ كيفيَّةُ ذلك إلا هوَ سُبْحَانَهُ، وفيها حَثٌّ على الخوفِ من اللهِ والخشوعِ عندَ سماعِ كلامِه، وأنَّه ينبغي أن يُقرأ بتدبُّرٍ وخشوعٍ وإقبالِ قلبٍ وأنَّه ينبغي الرِّقَّـةُ عند سماعِ كلامِ الله والبُكاءِ وتلاوتِه بحزنٍ.
قَولُهُ: (وَإِذا بَدَّلْنَا آيَةً مَكانَ آيَةٍ): أي نسخنَاها وأنزلنَا غيرَها لمصلحةِ العبادِ.
قَولُهُ: ( واللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ): أي هو -سُبْحَانَهُ وتعالَى- أعلمُ بما هو أصلحُ لخلقِه فيما يُغَيِّرُ ويَنْسَخُ من أَحكامِه، وفي الآيةِ دليلٌ على وقوعِ النَّسخِ في القرآنِ، وأنَّه لحكمةٍ ومصلحةٍ يعلمُها سُبْحَانَهُ، فهو أعلمُ بمصلحةِ عبادِه، وفيها دليلٌ على إحاطةِ علمِه -سُبْحَانَهُ- بكلِّ معلومٍ.
قَولُهُ: (قَالُوا): أي الكفَّارُ (إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ): أي كذَّابٌ (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمونَ): أي لا يعلمونَ الحكمةَ في ذلك.
قَولُهُ: (قُلْ نَزَّلَهُ): أي القرآنَ، والتَّنزيلُ والإنزالُ هو مجيءُ الشَّيءِ من أعلى إلى أسفلَ، (رُوحُ القُدُسِ): أي جبريلُ عليه السَّلامُ، فجبريلُ سمعَهُ من اللهِ والنَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- سمعه من جبريلَ، وهو الَّذي نَزَل بالقرآنِ على محمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- كما نصَّ على ذلك أحمدُ وغيرُه من الأئمَّةِ، وجبريلُ هو الرُّوحُ الأمينُ المذكورُ في قَولِهِ سُبْحَانَهُ: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ ) الآيةَ.
ولم يقلْ أحدٌ من السَّلفِ: إنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- سمعَهُ من اللهِ، وإنَّما قال ذلك بعضُ المتأخِّرين، والآيةُ تَرُدُّ عليه. قال ابنُ حجرٍ رحمه اللهُ في شرحِ (البخاريِّ): والمنقولُ عن السَّلفِ اتَّفاقُهم أنَّ القرآنَ كلامُ اللهِ غيرُ مخلوقٍ، تلقَّاهُ جبريلُ عن اللهِ، وبلَّغَه جبريلُ إلى محمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-، وبلَّغه محمَّدٌ إلى أمَّتِه. انتهى.
ففي هذه الآياتِ دليلٌ على أنَّ القرآنَ منَزَّلٌ من عندِ اللهِ، وأنَّه كلامُه، بدأَ منه وظهرَ لا من غيرِه، وأنَّه الَّذي تكلَّم به لا غيرَه، وأمَّا إضافتُه إلى الرَّسولِ في قَولِهِ: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) فإضافةُ تبليغٍ لا إضافةُ إنشاءٍ، والرِّسالةُ تبليغُ كلامِ المُرْسِلِ، ولو لم يكنْ للمُرسلِ كلام يبلِّغُه الرَّسولُ لم يكنْ رسولاً، ولهذا قال غيرُ واحدٍ مِن السَّلفِ: مَن أَنْكرَ أن يكونَ اللهُ مُتكلِّمًا فقد أنكرَ رسالةَ رسلِهِ، فإنَّ حقيقةَ رسالتِهم: تبليغُ كلامِ المرسِلِ، وفيها دليلٌ على علوِّ اللهِ على خلقِه، والتَّنـزيلُ والإنزالُ المذكورُ في القرآنِ ينقسمُ إلى ثلاثةِ أقسامٍ:
إنزالٍ مُطلقٍ كقَولِهِ: (وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ).
الثَّاني: إنزالٍ مِن السَّماءِ كقَولِهِ: (وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّماءِ مَاءً طَهُورًا).
الثَّالثِ: إنزالٍ منه -سُبْحَانَهُ- كقَولِهِ: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ).
فأخبرَ أَنَّ القرآنَ منَزَّلٌ منه، والمطرَ مُنَزَّلٌ من السَّماءِ، والحديدَ منَزَّلٌ نزولاً مطلقًا، ففرَّقَ -سُبْحَانَهُ- بين النُّزولِ منه والنُّزولِ من السَّماءِ، وحُكمُ المجرورِ بِمِنْ في هذا البابِ حكمُ المضافِ، والمضافُ ينقسمُ إلى قِسمين: إضافةِ أَعْيَانٍ وإضافةِ معانٍ، فإضافةُ الأعيانِ إليه -سُبْحَانَهُ- من بابِ إضافةِ المخلوقِ إلى خالقِه، كبيتِ اللهِ وناقةِ اللهِ ونحوِ ذلك، أمَّا إضافةُ المعاني إلى اللهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- فهي من بابِ إضافةِ الصِّفةِ إلى الموصوفِ، كسمعِ اللهِ وبصرِه وعلمِه وقُدرتِه، فهذا يمتنعُ أنْ يكونَ المضافُ مخلوقًا، بل هو صفةٌ قائمةٌ به وهكذا حُكمُ المجرورِ بمن، فإضافةُ القرآنِ إليه -سُبْحَانَهُ- من بابِ إضافةِ الصِّفةِ إلى الموصوفِ، لا من بابِ إضافةِ المخلوقِ إلى خالقِه خلافًا للمبتدعةِ من المعتزلةِ والجهميَّةِ وأشباههِم، وفي هذه الآيةِ الرَّدُّ على مَن زعمَ أنَّ القرآنَ مخلوقٌ، أو أنَّه كلامُ بشرٍ وغيرِه، فمَن زعمَ ذلك فهو كافرٌ باللهِ العظيمِ، كما رُوِيَ ذلك عن السَّلفِ، وفيها دليلٌ على أنَّ جبريلَ نَزَل به من عندِ الله، فإنَّه (رُوحُ الْقُدُسِ) وهو أيضا الرُّوحُ الأمينُ، وفي قَولِهِ: (الأَمِينُ) دليلٌ على أنَّه مُؤْتمنٌ على ما أُرْسلَ به، فلا يَزيدُ عليه ولا يُنقِصُ، وفيها دليلٌ على أنَّ الرَّسولَ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- سَمِعَهُ من جبريلَ وهو الَّذي نَزَل به عليه من عندِ اللهِ، وجبريلُ سمعَه من اللهِ، والصَّحابةُ سمعُوه من النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-، وفيها الرَّدُّ على مَن قالَ إنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- سمعَ القرآنَ من اللهِ، وفيها الدَّلالةُ على بُطلانِ قولِ مَن قالَ إنَّه مخلوقٌ خلقَهُ اللهُ في جسمٍ من الأجسامِ المخلوقةِ، كما هو قولُ الجهميَّةِ القائِلين بخلقِ القرآنِ، وفيها الدَّلالةُ على بُطلانِ قولِ مَن قال إنَّه فَاضَ على النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- من العقلِ الفَعَّالِ أو غيرِه، كما يقَولُهُ طَوَائِفُ من الفلاسفةِ والصَّابئةِ، وهذا القولُ أشدُّ كفرًا من الَّذي قبلَه، وفيها الدَّليلُ على بُطلانِ قولِ مَن يقولُ: إنَّ القرآنَ العربيَّ ليس مُنزَّلاً مِن اللهِ بل مَخلوق، إمَّا في جبريلَ أو محمَّدٍ أو جُرْمٍ آخرَ كالهواءِ، كما يقولُ ذلك الكُلاَّبيَّةُ والأَشعريَّةُ القائلونَ بأنَّ القرآنَ العربيَّ ليسَ هو كلامَ اللهِ، وإنَّما كلامُه المعنى القائمُ بذاتِه، والقرآنُ العربيُّ خُلقَ ليدلَّ على ذلك المَعنى، وهذا يُوافقُ قولَ المعتزلةِ ونحوِهم في إثباتِ خلقِ القرآنِ، وفيها أنَّ السَّفيرَ بينَ اللهِ ورسولِه محمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- هو جبريلُ عليه السَّلامُ، وفيها الرَّدُّ على مَن زعم أنَّ كلامَ اللهِ هو المعنى النَّفْسيُّ، فإنَّ جبريلَ سَمِعه مِن اللهِ والمعنى المُجَرَّدُ لا يُسْمعُ، وفيها دليلٌ أنَّ القرآنَ نزلَ باللغةِ العربيَّةِ وتكلَّم اللهُ -سُبْحَانَهُ- بالقرآنِ بها، وفيها الرَّدُّ على مَن زعمَ أنَّه يجوزُ ترجمةُ القرآنِ باللغاتِ الأعجميَّةِ؛ لأنَّ القرآنَ مُعجزٌ بلفظِه ومعناه.
قَولُهُ: (بِالحَقِّ): أي بالصِّدقِ والعدلِ: (لِيُثَبَّتَ الَّذينَ آمَنُوا): أي يزيدَهم يقينًا وإيمانًا.
قَولُهُ: (وَهُدًى): أي بيانٌ ونورٌ وبصيرةٌ، ويُطلقُ الهُدى ويُرادُ به ما يَقِرُّ في القلبِ من الإيمانِ، وهذا لا يقدرُ على خَلْقِه في قلوبِ العبادِ إلا اللهُ، قال تعالى (إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) الآيةَ، ويُطلقُ ويُرادُ به بيانُ الحقِّ وتوضيحُه والدَّلالةُ عليهِ والإرشادُ إليه قال تعالى: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ). انتهى. من ابنِ كثيرٍ، وخُصِّصتِ الهدايةُ بالمسلمين لاختصاصِهم بالنَّفعِ بالقرآنِ؛ لأنَّه هو بنفسِه هُدًى، ولكن لا ينالُه إلا الأبرارُ كما قال تعالى: (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ).
قَولُهُ: (وبُشْرَى): البُشرى والبِشارةُ هو أوَّلُ خَبَرٍ سَارٍّ، والبُشرى يرادُ بها أمرانِ:
أحدُهما بشارةُ المُخْبِرِ، والثَّاني سرورُ المُخْبَرِ، قال تعالى: (لَهُمُ البُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ) فُسِّرتِ البُشرى بهذا وبهذا، قِيلَ وسُمِّيتْ بُشرى؛ لأنَّها تُؤثِّرُ في بَشَرَةِ الوجهِ، ولذلك كانَتْ نوعين: بُشرى سارَّةٌ تُؤَثِّرُ فيه نضارةً وبَهجةً، وبُشرى مُحزنةٌ تُؤَثِّرُ فيه سوءًا وعُبوسا، ولكن إذا أُطلقتْ كانت للسُّرورِ، وإذا قُيِّدتْ كانت بحسبِ ما قُيِّدت به، أمَّا البَشارةُ بالفتحِ فهي نضارةُ الوجهِ وحسنُه، وأمَّا البُشارة بالضَّمِّ فهو ما يُعطاه المبشَّرُ.
وقَولُهُ: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولونَ): أي كُفـَّارُ مكـَّةَ: (إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) والبشرُ الإنسانُ ذكرًا كان أو أُنثى، وهو في الأصلِ جمعُ بَشَرةٍ، وهو ظاهرُ الجلدِ، سمَّوْه بشرًا لُظهورِ أَبْشَارِهم خلافًا لغيرِهم من الحيوانِ، أي إنَّ الَّذي يُعَلِّمُ النَّبيَّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- آدمِيٌّ، وذلك أنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- كان يجلسُ إلى رجلٍ أعجميٍّ في مكَّةَ، وكان ذلك الرَّجلُ يقرأُ في الكُتبِ السَّابقةِ، فقالتْ قريشٌ: إنَّ هذا الرَّجلَ كان يُعلِّمُ محمَّدًا، فَأَكْذَبَهُمُ اللهُ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- بقَولِهِ: (لِسَانُ الَّذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبينٌ).
قَولُهُ: (لسَانُ): أي لغةُ (الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ): أي يَميلون ويُشيرون إليه أنَّه يُعلِّمُ محمَّدًا -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- أعجميٌّ أي لا يتكلَّمُ بالعربيَّةِ، والعَجَمِيُّ المنسوبُ إلى العَجمِ وإن كان فصيحًا.
قَولُهُ: (لسانُ): أي لغةُ، كما في هذه الآيةِ، وفي قَولِهِ سُبْحَانَهُ: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ) ويطلقُ اللسانُ ويرادُ به الذِّكرُ الحَسَنُ كما قال تعالى عن إبراهيمَ: (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ) ويُطلَقُ ويرادُ به الجَارِحَةُ، كما قال سُبْحَانَهُ: (لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ) الآيةَ.
قَولُهُ: (وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبينٌ): أي وهذا القرآنُ لسانٌ عربيٌّ مبينٌ، أي بَيِّنٌ واضحٌ فكيفَ يكونُ الَّذي يقَولُهُ أعجميًّا؟!).