الدروس
course cover
الإيمان ما وصف الله به نفسه من الحديث والقول والكلام والنداء
11 Nov 2008
11 Nov 2008

3320

0

0

course cover
العقيدة الواسطية

القسم السادس

الإيمان ما وصف الله به نفسه من الحديث والقول والكلام والنداء
11 Nov 2008
11 Nov 2008

11 Nov 2008

3320

0

0


0

0

0

0

0

الإيمان ما وصف الله به نفسه من الحديث والقول والكلام والنداء

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا}[سُورَةُ النِّسَاءِ : 87] ، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً}[سُورَةُ النِّسَاءِ : 122] ، {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يا عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ}[سُورَةُ الْمَائِدَةِ : 110]، {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً}[سُورَةُ الأَنْعَامِ : 115] ، {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا}[سُورَةُ النِّسَاءِ : 164] {مِنْهُمْ مَن كَلَّمَ اللَّهُ}[سُورَةُ البَقَرَةِ : 253] ، {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ}[سُورَةُ الأَعْرَافِ : 143] ، {وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا}[سُورَةُ مَرْيَمَ : 52] ، {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[سُورَةُ الشُّعَرَاءِ : 10] ، {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا ألَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ}[سُورَةُ الأَعْرَافِ : 22] ، وقوله: {يوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون}[سورة القصص : 62]، {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فِيقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ}[سُورَةُ القَصَصِ : 65]).

هيئة الإشراف

#2

16 Dec 2008

شرح العقيدة الواسطية للشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (قولُهُ: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً) [النساء: 87] (1) (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً) [النساء: 122]. (وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) [المائدة: 116]. (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً) [الأنعام: 115]. وقولُهُ: (وَكَلَّم اللهُ مُوسَى تَكْلِيماً) (منهم من كلم الله) وقوله (ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه)[النساء: 164]. (وَنَادَيْناَهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً) [مريم: 52]. (وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [الشعراء: 10]. (وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ) [الأعراف: 22]. (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) [القصص: 65] ).


الشرح:

قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (إثباتُ الكلامِ لِلَّهِ تَعَالَى وأنَّ القرآنَ مِن كلامِه تَعَالَى
(1) ذَكَرَ المؤلِّفُ -رحمَهُ اللَّهُ- الآياتِ الدالةَ عَلَى كلامِ اللَّهِ تَعَالَى وأنَّ القرآنَ مِنْ كلامِهُ تَعَالَى.
الآيةِ الأولى والثَّانِيَةِ: قولُهُ: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً) [النساء: 87]، (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً) [النساء: 122].
(وَمَنْ): اسمُ استفهامٍ بمعنى النفِي، وإتيانُ النَّفي بصيغةِ الاستفهامِ أَبلغُ مِنْ إتيانِ النَّفي مجرداً؛ لأنَّهُ يكونُ بالاستفهامِ مشرَباً معنى التَّحدِي، كأنَّهُ يقولُ: لاَ أحدَ أصدقُ مِنَ اللَّهِ حديثاً، وإِذَا كنْتَ تزعمُ خِلافَ ذلِكَ، فمَنْ أصدقُ مِنَ اللَّهِ؟
وقولُهُ: (حَدِيثاً) و(قِيلاً): تمييزٌ لـ(أَصْدَقُ).
وإثباتُ الكلامِ فِي هاتينِ الآيتينِ يُؤْخَذُ مِنْ: قولِهِ: (أَصْدَقُ)؛ لأنَّ الصِّدقَ يوصفُ بهِ الكلامُ، وقولُهُ: (حَدِيثاً)؛ لأنَّ الحديثَ هُوَ الكلامُ، ومِنْ قولِهِ الآيةُ الثَّانِيَةُ. (قِيلاً)، يعني: قولاً، والقولَ لاَ يكونُ إِلَّا باللَّفظِ.
ففِيهِمَا إثباتُ الكلامِ لِلَّهِ عزَّ وجلَّ، وأنَّ كلامَه حقٌ وصدقٌ، لَيْسَ فِيهِ كذِبٌ بوجهٍ مِنَ الوجوهِ.
الآيةُ الثَّالثةُ: قولُهُ: (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) [المائدة: 116].
قولُهُ: (يَعِيسَى): مقولُ القولِ، وهِيَ جملةٌ مِنْ حروفٍ: (يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ).
ففِي هَذَا إثباتُ أنَّ اللَّهَ يقولُ، وأنَّ قولَهُ مسموعٌ، فيكونُ بصوتٍ، وأنَّ قولَهُ كلماتٌ وجملٌ، فيكونُ بحرفٍ.
وَلِهَذَا كانَتْ عقيدةُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ: أنَّ اللَّهَ يتكلمُ بكلامٍ حقيقِيٍّ متى شاءَ، كَيْفَ شاءَ، بمَا شاءَ، بحرفٍ وصوتٍ، لاَ يماثلُ أصواتَ المخلوقين.
((متى شاءَ)): باعتبارِ الزَّمنِ.
((بمَا شاءَ)): باعتبارِ الكلامِ، يعني: موضوعَ الكلامِ مِنْ أمرٍ أوْ نهِيَ أوْ غيرِ ذلِكَ.
((كَيْفَ شاءَ))، يعني عَلَى الكيفيَّةِ والصِّفةِ الَّتِي يريدُها سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
قلنْا: إنَّهُ بحرفٍ وصوتٍ لاَ يشبَهُ أصواتَ المخلوقينَ.
الدَّليلُ عَلَى هَذَا مِنَ الآيةِ الكريمةِ (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ): هَذَا حروفٌ.
وبصوتٍ؛ لأنَّ عيسَى يسمعُ مَا قالَ.
لاَ يماثلُ أصواتَ المخلوقينَ؛ لأنَّ اللَّهَ قالَ: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى: 11].
الآيةُ الرَّابعةُ: قولُهُ: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً) [الأنعام: 115].
(كَلِمَتُ)، بالإفرادِ، وفِي قراءةِ (كلماتُ)، بالجمعِ، ومعناها واحدٌ؛ لأنَّ (كَلِمَتُ) مفردٌ مضافٌ فيعمُّ.
تمَّتْ كلماتُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ عَلَى هذينِ الوصفينِ: الصِّدقِ والعدلِ، والَّذِي يوصفُ بالصِّدقِ الخبرُ، والَّذِي يوصفُ بالعَدْلِ الحكمُ، وَلِهَذَا قَالَ المفسِّروُن: صدقاً فِي الأخبارِ، وعدلاً فِي الأحكامِ.
فكلماتُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ فِي الأخبارِ صدقٌ لاَ يعتريِها الكذِبُ بوجهٍ مِنَ الوجوهِ، وفِي الأحكامِ عدلٌ لاَ جورَ فِيهَا بوجهٍ مِنَ الوجوهِ.
هُنَا وُصِفَتِ الكلماتُ بالصِّدقِ والعدلِ. إذاً، فهِيَ أقوالٌ؛ لأنَّ القولَ هُوَ الَّذِي يُقالُ فِيهِ: كاذبٌ أوْ صادقٌ.
الآيةُ الخامسةُ: قولُهُ: (وَكَلَّم اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً) [النساء: 164].
(اللَّهُ): فاعلٌ، فالكلامُ واقعٌ مِنْهُ.
(تَكْلِيماً): مصدرٌ مؤكِّدٌ، والمصدرُ المؤكِّدُ –بكسرِ الكافِ-، قَالَ العلماءُ: إنَّهُ ينفِي احتمالَ المجازِ. فدلَّ عَلَى أنَّهُ كلامٌ حقيقِيٌّ؛ لأنَّ المصدرَ المؤكِّدَ ينفِي احتمالَ المجازِ.
أرأيْتَ لو قلْتَ: جاءَ زيدٌ، فيُفْهَمُ أنَّهُ جاءَ هُوَ نَفْسُه، ويحُتملُ أنْ يكونَ المعنَى: جاءَ خبرُ زيدٍ، وإنْ كَانَ خلافُ الظاهرِ، لكنْ إِذَا أكدْتَ فقلْتَ: جاءَ زيدٌ نَفْسُهُ، أو: جَاءَ زَيْدٌ زيدٌ، انتفى احتمالُ المجازِ.
فكلامُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ لموسى كلامٌ حقيقي بحرفٍ وصوتٍ سمعَه، وَلِهَذَا جرَتْ بَيْنَهمَا محاورةٌ، كَمَا فِي سورةِ طه وغيرِها.
الآيةُ السَّادسةُ: قولُهُ: (مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ) [البقرة 253].
(مِّنْهُم)، أيْ: مِنَ الرُّسُلِ.
(مَن كَلَّمَ اللَّهُ): الاسمُ الكريمُ (اللَّهُ) فاعلُ كلّمَ، ومفعولَهُا محذوفٌ يعودُ عَلَى (مَنْ)، والتقديرُ: كلمَّهُ اللَّهُ.
الآيةُ السَّابعةُ: قولُهُ: (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) [الأعراف: 143].
أفادَتْ هذِهِ الآيةُ أنَّ الكلامَ يتعلقُ بمشيئتِه، وذلِكَ لأنَّ الكلامَ صارَ حينَ المجيءِ، لاَ سابقاً عليْهِ، فدلَّ هَذَا عَلَى أنَّ كلامَه يتعلقُ بمشيئتِهِ.
فيبطلُ بهِ قولُ مَنْ قالَ: إنَّ كلامَهُ هُوَ المَعْنَى القائمُ بالنَفْسِ، وإنَّهُ لاَ يتعلقُ بمشيئتهِ، كَمَا تقولَهُ الأشاعرةُ.
وفِي هذِهِ الآيةِ إبطالُ زعمِ مَنْ زعمَ أنَّ موسى فَقَطْ هُوَ الَّذِي كلَّم اللَّهُ، وحرفُ قولِهِ تَعَالَى: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مَوسَى تَكْلِيماً) إِلَى نصبِ الاسمِ الكريمِ؛ لأنَّهُ فِي هذِهِ الآيةِ لاَ يمكنُه زعمَ ذلِكَ ولاَ تحريفَها.
الآيةُ الثَّامنةُ: قولُهُ: (وَنَادَيْناَهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً) [مريم: 52].
(وَنَادَيْناهُ): ضميرُ الفاعلِ يعودُ إِلَى اللَّهِ، وضميرُ المفعولِ يعودُ إِلَى موسى، أيْ: نادى اللَّهُ موسى.
و(نَجِيًّا): حالٌ، وَهُوَ فعيلٌ بمعنى مفعولٍ، أيْ: مناجِي.
والفرقُ بينَ المناداةِ والمناجاةِ أنَّ المناداةَ تكونُ للبعيدِ والمناجاةَ تكونُ للقريبِ وكلاهمَا كلامٌ.
وكونُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ يتكلَّمُ مناداةً ومناجاةً داخلٌ فِي قولِ السلفِ: ((كَيْفَ شاءَ)).
فهذِهِ الآيةُ ممَا يدلُّ عَلَى أنَّ اللَّهَ يتكلَّمُ كَيْفَ شاءَ، مناداةً كَانَ الكلامُ أوْ مناجاةً.
الآيةُ التَّاسعةُ: قولُهُ: (وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [الشعراء: 10].
(وَإِذْ نَادَى)، يعني: واذكر إذ نادى.
والشَّاهِد قولَه: (رَبُّكَ مُوسَى): فسر النداء بقولَه: (أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).
فالنِّداء يدلُّ عَلَى أنَّهُ بصوتٍ، و(أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ): يدلُّ عَلَى أنَّهُ بحرفٍ.
الآيةُ العاشرةُ: قولُهُ: (وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ) [الأعراف: 22].
(وَنَادَاهُمَا): ضميرُ المفعولِ بهِ يعودُ عَلَى آدمَ وحواءَ.
(أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ): يقرِّرُ أنَّهُ نهاهمَا عَنْ تلْكُمَا الشَّجرةِ، وَهَذَا يدلُّ عَلَى أنَّ اللَّهَ كلَّمَهمَا مِنْ قبلُ، وأنَّ كلامَ اللَّهِ بصوتٍ وحرفٍ، ويدلُّ عَلَى أنَّهُ يتعلقُ بمشيئتهِ، لقولِهِ: (أَلَمْ أَنْهَكُمَا)، فإنَّ هَذَا القولَ بعدَ النهِيَ، فيكونُ متعلقاً بالمشيئةِ.
الآيةُ الحاديةَ عشرةَ: قولُهُ: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) [القصص: 65].
يعني: واذكرْ يومَ يناديِهم، وذلِكَ يومَ القيامةِ، والمنادِي هُوَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (فَيَقُولُ).
وفِي هذِهِ الآيةِ إثباتُ الكلامِ مِنْ وجهِيَن: النِّداءِ والقولِ.
وهذِهِ الآياتُ تدلُّ بمجموعِها عَلَى أنَّ اللَّهَ يتكلَّمُ بكلامٍ حقيِقيٍّ، متى شاءَ، بمَا شاءَ، كَيْفَ شاءَ، بحرفٍ وصوتٍ مسموعٍ، لاَ يماثلُ أصواتَ المخلوقينَ.
وهذِهِ هِيَ العقيدةُ السَّلفيةُ، عقيدةُ أهَلْ السُّنَّةِ والجماعةِ).

هيئة الإشراف

#3

16 Dec 2008

شرح العقيدة الواسطية للشيخ مُحمَّد خَليل هَرَّاس رحمه الله

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وقَوْلُهُ: { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثًا }، { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيْلاً }، { وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيْسى بنَ مَرْيَمَ }، { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً }، وقولُهُ: { وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيمًا }، { مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ }، { وَلَمَّا جَاءَ مُوْسَى لِمِيْقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ }، { وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا }، وقَوْلُهُ: { وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوْسَى أَنِ ائْتِ القَوْمَ الظَّالِمِينَ}، { وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُما الشَّجَرَةِ }، وقَوْلُهُ: { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقولُ مَاذا أَجَبْتُمُ المُرْسَلينَ } (1)).

الشرح:

قال الشيخ محمد خليل هراس (ت: 1395هـ): ((1) تَضَمَّنَتْ هذهِِ الآياتُ إثباتَ صفةِ الكلامِ للهِ عزَّ وجلَّ.
وقَدْ تنازعَ النَّاسُ حولَ هذهِ المسألةِ نِزاعًا كبيرًا:
فمِنْهُمْ مَنْ جعلَ كلامَهُ سبحانَهُ مخلوقًا مُنفصلاً منهُ، وقالَ: إنَّ معنى ( متكلِّمٌ ): خالقٌ للكلامِ. وهمُ المعتزلَةُ.
ومِنْهُمْ مَنْ جعلَهَ لازمًا لذاتِهِ أزَلاً وأبدًا، لا يتعلَّقُ بمشيئتِهِ وقُدرتِهِ، ونفى عنهُ الحرفَ والصَّوتَ، وقالَ: إنَّهُ معنى واحدٌ في الأزلِ. وهمُ الكُلابيَّةُ والأشعريَّةُ.
ومِنْهُمْ مَنْ زعمَ أَنَّهُ حروفٌ وأصواتٌ قدْيمةٌ لازمةً للذَّاتِ، وقالَ: إنَّهَا مقترنةٌ في الأزلِ، فهوَ سبحانَهُ لا يتَكَلَّمَُ بهَا شيئًا بعدَ شيءٍ. وهُمْ بعضُ الغُلاةِ.
ومِنْهُمْ مَنْ جعلَهُ حادثًا قائِمًا بذاتِهِ تعالى، ومتعلِّقًا بمشيئتِهِ وقُدرتِهِ، ولكنْ زعمَ أنَّ لهُ ابتداءً في ذاتِهِ، وأنَّ اللهَ لمْ يكنْ متكلِّمًا في الأزلِ. وهمُ الكرَّاميَّةُ.
ويطولُ بِنَا القولُ لو اشتغلنَا بمناقشةِ هذهِ الأقوالِ وإفسادِهَا، على أنَّ فسادَهَا بيِّنٌ لكلِّ ذي فَهْمٍ سليمٍ، ونظرٍ مستقيمٍ.
وخُلاصةُ مذهبِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ في هذهِِ المسألةِ أنَّ اللهَ تعالى لمْ يزلْ متكلِّمًا إذَا شاءَ، وأنَّ الكلامَ صفةٌ لهُ قائمةٌ بذاتِهِ، يتَكَلَّمَُ بهَا بمشيئتِهِ وقُدرتِهِ، فهوَ لمْ يزلْ ولا يزالُ متكلِّمًا إذَا شاءَ، وما تَكَلَّمَ اللهُ بهِ فهوَ قائمٌ بهِ ليسَ مخلوقًا منفصلاً عنهُ؛ كمَا تقولُ المعتزلَةُ، ولا لازمًا لذاتِهِ لزومَ الحياةِ لهَا؛ كمَا تقولُ الأشاعرةُ، بَلْ هوَ تابعٌ لمشيئتِهِ وقُدرتِهِ.
واللهُ سبحانَهُ نادى موسى بصوتٍ، ونادى آدمَ وحوَّاءَ بصوتٍ، وينادي عبادَهُ يومَ القيامةِ بصوتٍ، ويتَكَلَّمَُ بالوحي بصوتٍ، ولكنَّ الحروفَ والأصواتَ التَّي تَكَلَّمَ اللهُ بهَا صفةٌ لهُ غيرُ مخلوقَةٍ، ولا تُشبِهُ أصواتَ المخلوقِينَ وحروفَهُم؛ كمَا أنَّ عِلمَ اللهِ القائمُ بذاتِهِ ليسَ مثلَ عِلمِ عبادِهِ، فإنَّ اللهَ لا يُماثلُ المخلوقِينَ في شيءٍ مِن صفاتِهِ.
والآيتانِ الُأوليانِ هنَا – وهمَا مِنْ سُورَةِ النِّساءِ – تنفيانِ أنْ يكونَ أحدٌ أصدقَ حديثًا وقولاً مِن اللهِ عزَّ وجلَّ، بلْ هوَ سبحانَهُ أصدقُ مِن كلِّ أحدٍ في كلِّ ما يُخبرُ بهِ، وذلكَ لأنَّ علمَهُ بالحقائِقِ المخبَرِ عنهُا أشملُ وأضبطُ، فهوَ يعلمُهَا على ما هيَ بهِ مِن كلِّ وجهٍ، وعِلْمُ غيرِهِ ليسَ كذلكَ.
وأَمَّا قولُهُ: ( وَإِذْ قالَ اللهِ يَا عِيْسَى … ) إلخ؛ فهوَ حكايةٌ لِمَا سيكونُ يومَ القيامةِ مِن سؤالِ اللهِ لرسولِهِ وكلمتِهِ عيسى عمَّا نسبَهُ إليهِ الَّذين ألَّهُوهُ وأمَّهُ مِن النَّصارى مِن أَنَّهُ هوَ الذي أمرَهُمْ بأنَّْ يتَّخذُوهُ وأمَّهُ إِلَهَيْنِ مِن دونِ اللهِ.
وهذا السُُّّؤالُ لإِظهَارِ براءةِ عيسى عليهِ السَّلامُ، وتسجيلِ الكذبِ والبهتانِ على هؤلاءِ الضَّالِّينَ الأغبياءِ.
وأَمَّا قولُهُ: ( وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً )؛ فالمرادُ صدقًا في أخبارِهِ، وعدلاً في أحكامِهِ؛ لأنَّ كلامَهُ تعالى إِمَّا أخبارٌ، وهيَ كلُّهَا في غايةِ الصَّدقِ، وإِمَّا أمرٌ ونهيٌ، وكلُّهَا في غايةِ العدلِ الذي لا جورَ فيهِ؛ لابتنائِهَا على الحكمةِ والرَّحمةِ.
والمرادُ بالكلمةِ هنَا الكلماتُ؛ لأنَّهَا أُضيفتْ إلى معرفةٍ، فتُفِيدُ معنى الجمعِ؛ كمَا في قولِنا: رحمةُ اللهِ ونعمةُ اللهِ.
وأَمَّا قولُهُ: ( وَكَلَّمَ اللهِ مُوسَى تَكْليمًا ) وما بعدَهَا مِن الآياتِ التَّي تدلُّ على أنَّ اللهَ قدْ نادى موسى وكلَّمَهُ تكليمًا، وناجاهُ حقيقةً مِن وراءِ حجابٍ، وبلا واسطةِ ملَكٍ؛ فهي تردُّ على الأشاعرةِ الَّذينَ يجعلون الكلامَ معنى قائمًا بالنَّفسِ؛ بلا حرفٍ، ولا صوتٍ!
فَيُقَالُ لهمْ: كيفَ سَمِعَ موسى هذا الكلامَ النَّفسيَّ؟
فإنْ قالوا: ألقى اللهُ في قلبِهِ عِلمًا ضروريًّا بالمعاني التَّي يريدُ أنْ يكلِّمَهُ بهَا؛ لمْ يكنْ هناكَ خُصُوصِيَّةٌ لموسى في ذلكَ.
وإنْ قالوا: إنَّ اللهَ خلقَ كلامًا في الشَّجرةِ أو في الهواءِ، ونحوِ ذلكَ؛ لزمَ أنْ تكونَ الشَّجرةُ هيَ التَّي قالَتْ لموسى: { إِنِّي أَنَا رَبُّكَ }.
وكذلكَ تردُّ عليهِمْ هذهِ الآياتُ في جعلِهِمْ الكلامَ معنىً واحدًا في الأزلِ، لا يحدثُ منهُ في ذاتِهِ شيءٌ، فإنَّ اللهَ يقولُ: {وَلَمَّا جَاءَ مُوْسَى لِمِيقاِتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ }؛ فهيَ تفيدُ حُدوثَ الكلامِ عندَ مجيءِ موسى للميقاتِ، ويقولُ: ( وَنَادَيْناهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنْ )؛ فهذا يدُلُّ على حُدُوثِ النِّداءِ عندَ جانبِ الطُّورِ الأيمنِ، والنَِّّداءُ لا يكونُ إلاَّ صوتًا مسموعًا.
وكذلكَ قولُهُ تعالى في شأنِ آدمَ وحواءَ: { وَنَادَاهُمَا رَبُّهُما … } الآيةَ؛ فإنَّ هذا النِّداءَ لمْ يكنْ إلاَّ بعدَ الوُقوعِ في الخطيئَةِ، فهوَ حادثٌ قطعًا.
وكذلكَ قولُهُ تعالى: { وَيَوْمَ يُنَا دِيهِمْ … } إلخ؛ فإنَّ هذا النَّداءَ والقولَ سيكونُ يومَ القيامةِ.
وفي الحديثِ: (( مَا مِن عَبْدٍ إِلاَّ سَيُكَلِّمُهُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ )) ).

هيئة الإشراف

#4

16 Dec 2008

شرح العقيدة الواسطية للشيخ: صالح بن فوزان الفوزان


الشرح:

قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: (قولُه تعالى: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ) أي لا أحدَ أَصْدقُ منه سبحانَه؛ فهو استفهامٌ إنكاريٌّ (حَدِيثاً) أي في حديثِه وخبرِه وأمرِه ووعده ووعيدِه، وقولُه: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً) القيلُ مصدرُ (قال) كالقولِ ـ أي لا أحدَ أصدقُ قولاً من اللهِ عزَّ وجلَّ.
والشَّاهدُ مِن الآيتيْن الكريمتيْن أنَّ فيهما إثباتَ الحديثِ والقيلِ للهِ سبحانَه، ففيهما إثباتُ الكَلامِ له سبحانَه.
وقولُه تعالى: (وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسى بنَ مَرْيَمَ) أي اذكُرْ (إِذْ قَالَ اللهُ)، جمهورُ المفسِّرين ذهب إلى أنَّ هذا القولَ منه سبحانَه يكونُ يومَ القيامةِ، وهو توبيخٌ للَّذين عَبدوا المسيحَ وأمَّهُ مِن النَّصارى. وهي كالآيتيْن السابقتيْن فيها إثباتُ القولِ للهِ تعالى، وأنَّه يقولُ إذا شاء.
وقولُه: (وَتَمَّتْ كلمةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً) المرادُ بالكلمةِ: كَلامُه سبحانَه.وقولُه: (صِدْقاً) أي في أخبارِه سبحانَه (وَعَدْلاً) أي في أحكامِه (وَصِدْقاً وَعَدْلاً) منصوبان عَلى التَّمييزِ، وفي الآيةِ إثباتُ الكَلامِ للهِ تعالى. وقولُه: (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيماً) هذا تشريفٌ لموسى عليه السَّلامُ بأنَّ اللهَ كلَّمَه أي أَسْمعَه كَلامَه، ولهذا يقالُ لَه: الكَلِيمُ و(تَكْلِيماً) مصدرٌ مؤكِّدٌ لدفعِ كونِ التَّكليمِ مجازا. ففي الآيةِ إثباتُ الكَلامِ لله، وأنَّه كلَّم موسى عليه السَّلامُ.
وقولُه تعالى: (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ) أي مِن الرُّسلِ عليهم الصَّلاة والسَّلامُ (مَنْ كَلَّمَ اللهُ) أي أسمعَه كَلامَه بلا واسطةٍ، يعني: موسى ومحمَّداً عليهما الصَّلاة والسَّلامُ، وكذا آدمُ، كما ورد به الحديثُ في صحيحِ ابنِ حِبَّانَ، ففي الآيةِ إثباتُ الكَلامِ للهِ تعالى، وأنَّه كلَّم بعضَ الرُّسُلِ.
وقولُه تعالى: (وَلَمَّا جَاءَ مُوسى لِمِيقَاتِنَا) أي حصَل مجيئُه في الوقتِ الذي واعده اللهُ فيه (وَكلَّمَهُ رَبُّهُ) أي أسمَعه كَلامَه مِن غيرِ واسطةٍ، فالآياتُ فيها إثباتُ الكَلامِ للهِ، وأنَّه يتكلَّمُ متى شاء سبحانَه، وأنَّه كلَّم موسى عليه السَّلامُ بلا واسطةٍ.
وقولُه تعالى: (وَنَادَيْنَاهُ) أي نادى اللهُ تعالى موسى عليه السَّلامُ، والنِّداءُ هو الصَّوتُ المرتفعُ (مِنْ جَانِبِ الطُّورِ): جَبَلٌ بين مِصْرَ ومَدْيَنَ (الأَيْمَنِ) أي الجانبِ الأيمنِ مِن موسى حين ذهب يبتغي مِن النَّارِ التي رآها جَذْوَةً، وليس المرادُ أيمنَ الجبلِ نفسِه، فإنَّ الجبالَ لا يمينَ لها ولا شمالَ. (وَقرَّبنَاهُ) أي أَدْنَينَاهُ حتَّى كلّمناه (نَجِيّاً) أي مُناجِياً. والمُناجاةُ ضدُّ المُناداةِ.
وفي الآيةِ الكريمةِ إثباتُ الكَلامِ للهِ تعالى وأنَّه يُنَادِي ويُنَاجِي، وهما نوعانِ مِن الكَلامِ، فالمناداةُ بصوتٍ مرتفعٍ، والمناجاةُ بصوتٍ غيرِ مرتفعٍ.
وقولُه: (وَإِذْ نَادىَ رَبُّكَ مُوسَى) أي واتلُ أو اذكُرْ ذلك (إِذْ نَادىَ رَبُّكَ مُوسَى) النِّداءُ هو الدُّعاءُ (أَنِ ائْتِ): (أَنْ) يجوزُ أَن تكونَ مُفَسِّرةً وأن تكونَ مصدريّةً، أي اذهبْ إلى (الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) وصَفَهم بالظُّلْمِ؛ لأنَّهم جمعوا بين الكفرِ الذي ظلموا به أنفسَهم وبين المعاصي التي ظلموا بها غيرَهم؛ كاستعبادِهم بني إسرائيلَ وذبحِ أبنائهِم. وفي الآيةِ الكريمةِ: إثباتُ الكَلامِ للهِ تعالى، وأنَّه يُنَادِى مَن شاء مِن عبادِه وَيُسْمِعُهُ كَلامَه.
وقولُه: (وَنَادَاهُمَا رَبّهُمَا أَلَمْ أنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرةِ) أي نادى اللهُ تعالى آدمَ وحوَّاءَ عليهما السَّلامُ، قائلاً لهما: (أَلَمْ أنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ) أي عَن الأكلِ منها، وهذا عِتابٌ مِن اللهِ لهما وتوبيخٌ حيث لم يَحْذَرا ما حَذَّرَهما منه. وفي الآيةِ الكريمةِ إثباتُ الكَلامِ للهِ تعالى، والنِّداءُ منه لآدمَ وزوجِه.
وقولُه تعالى: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ) أي ينادي اللهُ سبحانَه هؤلاءِ المشركين يومَ القيامةِ (فَيَقُولُ) لهم (مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) أي ما كان جوابُكم لمن أُرْسِلَ إليكم مِن النبيّين لماّ بَلَّغوكم رسالاتي، والشَّاهدُ مِن الآيةِ: إثباتُ الكَلامِ للهِ وأنَّه يُنَادِي يومَ القيامةِ).

هيئة الإشراف

#5

16 Dec 2008

الروضة الندية للشيخ: زيد بن عبد العزيز بن فياض رحمه الله


قال الشيخ زيد بن عبد العزيز بن فياض (ت: 1416هـ): (فِي هَذِهِ الآْيَاتِ إثباتُ صِفَةِ الكلامِ لله حَقِيقَةً عَلَى ما يَلِيقُ بِجَلالِهِ تَعَالَى وهُوَ سُبْحَانَهُ قد تَكَلَّمَ بالْقُرْآنِ والكُتُبِ المُنزَّلةِ عَلَى الأَنْبِيَاءِ . وغيرِ ذَلِكَ ويَتَكَلَّمُ إذا شَاءَ مَتَى شَاءَ والْقُرْآنُ كَلامُه تَعَالَى مُنَزَّلٌ غَيرُ مَخلوقٍ وهُوَ كلامُ اللهِ حُروفُه ومَعَانِيهِ وهُوَ سورٌ وآياتٌ وحُروفٌ وكَلِماتٌ قد تَكَلَّمَ بها .
وهَذَا مَذْهَبُ أهلِ السُّنَّةِ والجَمَاعةِ ((وقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ وصَرِيحُ السُّنَّةِ والمَعْقولُ وكلامُ السَّلفِ عَلَى أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ يَتكَلَّمُ بِمَشيئتِهِ ، كما دَلَّ عَلَى أَنَّ كَلامَهُ صِفَةٌ قَائِمةٌ بِذَاتِهِ وهِيَ صِفةُ ذَاتٍ وفِعلٍ .
قَالَ تَعَالَى :{ إِنَّمَا أَمرنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } وتَأَمَّلْ نُصوصَ الْقُرْآنِ مِن أوَّلِه إلى آخِرِه . ونُصوصَ السُّنَّةِ التي إِنْ دُفِعَتْ دُفِعَتِ الرِّسالةُ بِأَجْمَعِها وإِنْ كَانَتْ مَجَازاً كَانَ الوَحْيُ كُلُّهُ مَجَازاً وإِنْ كَانَتْ مِن المُتَشابِهِ كَانَ الوْحَيُ كُلُّه مِن المُتشابِهِ وإِنْ وَجَبَ أَوْ سَاغَ تَأْوِيلُها عَلَى خلافِ ظَاهِرِها سَاغَ تَأْوِيلُ جَميع الْقُرْآنِ والسُّنَّةِ عَلَى خلافِ ظَاهِرِه فإِنَّ مَجِيءَ هَذِهِ النُّصوصِ فِي الْكِتَابِ والسُّنَّةِ وظُهورَ مَعانِيها وتَعَدُّدَ أَنْواعِها ، واخْتلافَ مَرَاتِبِها أظْهرُ مِن كُلِّ ظَاهرٍ وَأَوْضَحُ مِن كُلِّ واضِحٍ . فَكَمْ جُهْدٍ مَا يَبْلُغُ التَّأويلَ والتَّحريفَ والحَمْلَ عَلَى المَجازِ . هَبْ أَنَّ ذَلِكَ يُمْكِنُ فِي مَوْضِعٍ واثْنَينِ وَعَشَرةٍ . أَفَيَسوغُ حَمْلُ أكْثرَ مِن ثلاثةِ آلافٍ وأرْبعةِ آلافٍ مَوْضِعٍ كُلِّها عَلَى المجَازَ وتَأْوِيلُ الجميعِ بما يُخالفُ الظَّاهِرَ . فكُلُّ آيةٍ وكُلُّ حَدِيثٍ إلهِيٍّ وكُلُّ حَدِيثٍ فيه الإِخْبارُ عَما قَالَ اللهُ تَعَالَى أو يقولُ وكُلُّ أثرٍ فيه ذَلِكَ إذا اسْتُقْرِئَتْ زَادَتْ عَلَى هذا العدَدِ . ويكفِي أحاديثُ الشَّفَاعةِ وأحاديثُ الرُّؤيةِ وأحاديثُ الحِسابِ وأحاديثُ تَكلِيمِ اللهِ لِملائِكَتِه وأَنْبيائِهِ ورُسِلِه وأهلِ الجَنَّةِ وأحاديثُ تكليمِ اللهِ لمُوسى وأحاديثُ تَكَلُّمِه عندَ النُّزولِ الإلهِيِّ وأحاديثُ تَكَلُّمِه بالوَحْيِ ، وأحاديثُ تَكْليمِه للشُّهداءِ ، وأحاديثُ تَكليمِ كَافَّةِ عِبَادِه يومَ القيامَةِ بلا تُرجُمَانٍ ولا وَاسطةٍ ، وأحاديثُ تَكْليمِه للشُّفعاءِ يومَ القِيامَةِ حين يَأْذنُ لهم فِي الشَّفاعةِ إلى غيرِ ذَلِكَ .
وقد دَلَّتِ النُّصوصُ النَّبَوِيَّةُ عَلَى أَنَّه تَعَالَى يَتكلَّمُ إذا شاءَ بما شَاءَ وأَنَّ كَلامَه يُسمَعُ وأَنَّ الْقُرْآنَ الْعَزِيزَ الَّذِي هُوَ سورٌ وآياتٌ وحروفٌ وكلماتٌ عينُ كلامِهِ حَقاًّ . لا تَأليفُ مَلَكٍ ولا بَشَرٍ وأَنَّه سُبْحَانَهُ الَّذِي قَالَ بِنَفْسِه ( المص ) و ( حمسق ) و ( كهيعص ) .
(( وأنَّ الْقُرْآنَ جَمِيعَه حُروفَهُ ومَعَانِيَهُ نَفْسُ كَلاَمِهِ الَّذِي تَكَلَّمَ به ولَيْسَ بِمخْلوقٍ ولا بَعْضُهُ قديماً وهُوَ المَعْنى ، وَبعْضُه مَخلوقٌ وهُوَ الكَلِماتُ والحروفُ ولا بَعْضُه كَلامُهُ وَبَعْضُه كلامُ غَيرِهِ . ولا ألفاظُ الْقُرْآنِ وحروفُهُ تَرْجمةٌ تَرْجمَ بها جَبْرائِيلُ أو مُحَمَّدٌ عليهما السَّلامُ عمَّا قَامَ به الرَّبُّ مِن المعْنَى مِِن غيرِ أَنْ يَتكلّمَ اللهُ بها . بل الْقُرْآنُ جَميعُه كلامُ اللهِ حُروفُه وَمَعانِيه تَكَلَّمَ اللهُ به حَقِيقةً . والْقُرْآنُ اسمٌ لهذا النَّظمِ الْعَربيِّ الَّذِي بَلَّغَهُ الرَّسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن جَبْرائِيلَ عَن رَبِّ الْعَالَمِينَ . فَللرَّسُولَينِ مِنه مُجَرَّدُ التَّبْليغِ وَالأدَاءِ لاَ الْوَضْعُ والإِنْشاءُ كَمَا يَقُولُ أهلُ الزَّيْغِ وَالاعْتِداءِ )) .
(( قَوْلُه :{ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً } قَالَ الأئمَّةُ : هَذِهِ الآيةُ أَقْوَى مَا وَرَدَ فِي الرَّدِّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ . قَالَ النَّحَّاسُ : أجمَعَ النَّحْويُّونَ عَلَى أَنَّ الفِعْلَ إذا أُكِّدَ بالمَصْدَرِ لَمْ يَكُنْ مَجَازاً فإِذَا قَالَ تَكْلِيماً وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَلاَماً عَلَى الحَقيقةِ . وأجمَعَ السَّلفُ والخَلَفُ مِن أَهْلِ السُّنَّةِ وغَيْرِهم عَلَى أَنَّ كَلَّمَ هنا مِن الْكَلاَمِ ، وَنَقَلَ الْكَشَّافُ عَن بِدَعِ بَعْضِ التَّفْسيرِ أَنَّه مِن الْكَلْمِ بمَعْنَى الْجَرْحِ وهُوَ مَرْدودٌ بالإِجْماعِ المذْكُورِ )) .
(( ورُوِيَ أَنَّ بَعْضَ الْمُعْتَزِلَةِ قَرَأَ عَلَى بَعْضِ المشَائِخِ " وَكَلَّمَ اللهََ مُوسَى تَكْلِيماً " بِنَصْبِ لفظِ الجَلالةِ ! فقَالَ له : يَا ابْنَ الخَنَّاءِ، كَيْفَ تَصنعُ بقَوْلِه تَعَالَى :{ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } يَعْنِي أَنَّ هَذَا لا يَحْتَمِلُ التَّحرِيفَ ولا التَّأوِيلَ فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ فِي أوَّلِ الآْيَةِ وَحْيَهُ إلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِه ثم خَصَّ مُوسَى مِن بَيْنِهم بِالإِخبارِ بأَنَّه كَلَّمَه . وهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّكْلِيمَ الَّذِي حَصَلَ له أَخَصُّ مِن مُطلَقِ الْوَحْيِ الَّذِي ذُكِرَ فِي أَوَّلِ الآْيَةِ ثُمَّ أَكَّدَهُ بالمَصْدَرِ الحَقِيقِيِّ الَّذِي هُوَ مَصدرُ كَلَّمَ وهُوَ التَّكَلُّمُ رَفْعاً لِما تَوَهَّمَهُ الْمُعَطِّلَةُ والْجَهْمِيَّةُ والْمُعْتَزِلَةُ وغَيْرُهم مِن أَنَّه إِلْهامٌ أو إِشَارةٌ أو تَعْرِيفٌ للمَعْنَى النَّفْسِيِّ بِشَيءٍ غَيْرِ التَّكْلِيمِ فأَكَّدَهُ بالمَصْدرِ المُفِيدِ تَحْقِيقَ النِّسْبةِ وَرَفْعَ تَوَهُّمِ المَجَازِ .
قَالَ الْفَرَّاءُ : الْعَرَبُ تُسَمِّي مَا يُوصَلُ إلى الإِنْسَانِ كَلاَماً بِأَيِّ طَريقٍ وَصَلَ . فَإِذَا حَقَّقْتَهُ بالمَصْدرِ لم يَكُنْ إلا حَقِيقَةَ الْكَلاَمِ كالإرَادَةِ يُقَالُ : فُلانٌ أرَادَ إِرَادَةً يُريدُونَ حَقِيقَةَ الإِرَادَةِ . ويُقَالُ : أَرَادَ الْجِدَارُ ولا يُقَالُ إِرَادَةً لأَنَّه مَجَازٌ غَيرُ حَقِيقَةٍ هَذَا كَلامُهُ . وقَالَ تَعَالَى :{ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ } . وهَذَا تَكْليمٌ غَيْرُ التَّكْليمِ الأوَّلِ الَّذِي أَرْسَلَهُ به إلى فِرعونَ وفِي هَذَا التَّكْلِيمِ الثَّانِي سَألَ النَّظَرَ ، لا فِي الأَوَّلِ (( وفيه أُعْطِيَ الأَلْوَاحَ وكَانَ عَلَى مُواعَدَةٍ مِن اللهِ له والتَّكْلِيمُ الأَوَّلُ لم يَكُنْ عَن مُواعدةٍ وفيه قَالَ اللهُ له :{ قَالَ يَامُوسَى إِنَّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي } أي بِتَكْلِيمي لك بِإجماعِ السَّلفِ . وقد أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ فِي كِتابِه أَنَّه نَادَاهُ وَنَاجَاهُ فالنِّداءُ مِن بُعْدٍ ، وَالنِّجَاءُ مِن قُرْبٍ . تَقُولُ الْعَرَبُ إذا كَبُرَتِ الْحَلْقَةُ فهُوَ نِداءٌ أو نِجَاءٌ .
وقَالَ أَبُوه آدَمُ فِي مُحاجَّتِه : أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاك اللهُ بِكَلاَمِهِ وخَطَّ لك التَّوْرَاةَ بِيدِهِ . وكذَلِكَ يَقُولُ له أَهْلُ المَوقِفِ إذا طَلَبُوا منه الشَّفَاعةَ إلى رَبِّه . وكذَلِكَ فِي حَدِيثِ الإسْراءِ فِي رؤيةِ مُوسَى فِي السَّماءِ السَّادِسَةِ أو السَّابِعَةِ عَلَى اخْتلافِ الرِّوَايةِ . قَالَ : وذَلِكَ بِتَفْضِيلِهِ بكلامِ اللهِ ولو كَانَ التَّكْلِيمُ الَّذِي حَصَلَ له مِن جِنْسِ ما حَصَلَ لِغَيْرِه مِن الأَنْبِيَاءِلم يَكُنْ لهَذَا التَّخْصِيصِ به فِي الأَحَادِيثِ مَعْنًى ولا كَانَ يُسَمَّى كَلِيمَ الرَّحْمَنِ .
وقَالَ تَعَالَى :{ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ } فَفَرْقٌ بين تَكْليمِ الْوَحْيِ ، والتَّكْلِيمِ بإرْسَالِ الرَّسُول ِ والتَّكْلِيمِ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ .
وقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ ( وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً ) أُدْنِىِ حتى سَمِعَ صَرِيفَ الأقْلامِ . وقَالَ الْبَغَوِيُّ :( وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً ) أي مُناجِياً فَالنَّجِيُّ المُنَاجِي كما يُقَالُ جَلِيسٌ وَنَدِيمٌ ا.ه (( ففِي هَذِهِ الآْيَاتِ دَلِيلٌ عَلَى تَكْليمِ مُوسَى . والمَعْنَى الْمُجَرَّدُ لا يُسْمَعُ بالضَّرورةِ . ومَن قَالَ : إِنَّه يُسمَعُ فهُوَ مُكابِرٌ ودَليلٌ أَنَّه نَادَاهُ . وَالنِّدَاءُ لا يَكُونُ إلا صَوْتاً مَسْمُوعاً، لا يُعْقَلُ فِي لُغةِ الْعَرَبِ لَفْظُ النِّداءِ بِغَيْرِ صَوْتٍ مَسْمُوعٍ لا حَقِيقَةً ولا مجازاً . فإِنَّ النِّداءَ وُقِّتَ بِظَرفٍ مُحَدَّدٍ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ النِّداءَ يَقعُ فِي ذَلِكَ الحِينِ دونَ غَيرِهِ .
وجُعٍلَ الظَّرفُ للنِّداءِ لاَ يُسمَعُ النِّداءُ إلاَّ فِيه ، والِكُلاَّبيَّةُ وَمَن وَافَقَهُم مِن أصْحَابِ الأئمَّةِ الأرْبعةِ يَقُولُونَ : إِنَّه لا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئتِه وَقُدرَتِه . بل الْكَلاَمُ المُعَيَّنُ لازِمٌ لِذَاتِه كَلُزومِ الْحَياةِ لِذَاتِه . وَعِندَهم لمَّا جَاءَ مُوسَى لِميقَاتِ رَبِّه سَمِعَ النِّداءَ الْقَديِمَ لا أَنَّه حِينَئذٍ نُودِيَ ولهَذَا يَقُولُونَ إِنَّه يُسْمِعُ كَلامَه لِخلْقِه ، بَدَلَ قَوْلِ النَّاسِ يُكَلِّمُ خَلْقَهُ . وهؤلاء يَردُّونَ عَلَى الْخَلْقِيَّة الذين يَقُولُونَ : الْقُرْآنُ مَخلوقٌ .
ويَقُولُونَ عَن أَنْفُسِهم : إِنَّهم أَهْلُ السُّنَّةِ المُوافِقونَ للسَّلفِ الذين قالوا : الْقُرْآنُ كلامُ اللهِ غيرُ مَخْلوقٍ ولَيْسَ قَولُهم قولَ السَّلفِ لَكِنْ قَولُهم أقربُ إلى قولِ السَّلَفِ مِن وَجهٍ ، وهم يَقُولُونَ : الْكَلاَمُ عِندنا صِفةُ ذاتٍ لا صِفةُ فِعْلٍ والخَلْقِيَّةُ يَقُولُونَ صِفَةُ فِعْلٍ لا صِفَةُ ذَاتٍ . ومَذْهَبُ السَّلَفِ أَنَّه صِفَةُ فِعْلٍ وصِفَةُ ذاتٍ مَعًا فكُلٌّ منهما مُوافِقٌ للسَّلَفِ مِن وَجْهٍ دونَ وَجْهٍ .
فكُلٌّ مِن الْمُعْتَزِلَةِ والأشْعَريَّةِ فِي جِنْسِ مَسائلِ الْكَلاَمِ وأفعالِ اللهِ وافَقُوا السَّلَفَ والأئمَّةَ مِن وَجْهٍ وخالَفُوهم مِن وَجْهٍ ، ولَيْسَ قولُ أحدِهم قولَ السَّلَفِ دونَ الآخَرِ لكِنَّ الأشْعَرِيَّةَ فِي جِنْسِ الصِّفاتِ والقَدَرِ أقْربُ إلى قَوْلِ السَّلَفِ والأئمَّةِ مِن الْمُعْتَزِلَةِ فإِنْ قِيلَ : فقد قَالَ تَعَالَى :{ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } وهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّسُول َ أحْدثَ الْكَلاَمَ العَرَبِيَّ . قِيلَ : هَذَا بَاطِلٌ وذَلِكَ أَنَّ اللهَ ذَكَرَ هَذَا فِي مَوْضِعَينِ . والرَّسُول ُ فِي أحدِ المَوضِعينِ مُحَمَّدٌ والرَّسُول ُ فِي الآْيَةِ الأُخْرى جِبْريلُ . قَالَ تَعَالَى فِي سورةِ الحاقَّةِ :{ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْل شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ } الآْيَةَ . فالرَّسُول ُ هنا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقَالَ فِي سورةِ التَّكويرِ :{ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } فالرَّسُول هُنا جِبْريلُ . فلو كَانَ إضافةً إلى الرَّسُول لِكَوْنِه أحْدَثَ حُروفَهُ أو أحْدَثَ منه شَيئاً لكَانَ الخَبَرانِ مُتَناقضَيْنِ . فإِنَّه إِنْ كَانَ أحدُهما الَّذِي أحْدَثَها امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ الآخَرُ هُوَ الَّذِي أَحْدَثَها وأيضاً فإِنَّه قَالَ :{ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } ولم يَقَلْ : لقَوْلُ مَلكٍ ولا نَبِيٍّ . ولفظُ الرَّسُول ِ يَستلزمُ مُرسلاً له . فدلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الرَّسُول َ مُبَلِّغٌ له عَن مُرْسلِهِ . لا أَنَّه أَنْشَأَ منه شيئاً مِن جهةِ نَفْسِه . وهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّه أَضَافَهُ إلى الرَّسُول ِ لأَِنَّه بَلَّغَه وأَدَّاه لا أَنَّه أَنْشَأ منه شيئاً وَابْتَدَأَهُ .
وأيضاً فإِنَّ اللهَ قد كَفَّرَ مَن جَعَلَه قَوْلَ البَشَرِ . ومُحَمَّدٌ بَشرٌ . فمَن قَالَ : إِنَّه قَوْلُ مُحَمَّدٍ فقد كَفَرَ ومَعَ هَذَا فقد قَالَ :{ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ } فجَعَلَهُ قَوْلَ الرَّسُول ِ البَشَرِيِّ مَعَ تكْفيرِه مَنْ يَقُولُ : إِنَّه قَوْلُ البَشَرِ . فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَاد بذَلِكَ أَنَّ الرَّسُول َ بَلَّغَه عَن مُرسِلِهِ – لا أَنَّه قَوْلُه مِن تِلقاءِ نَفْسِه – وهُوَ كلامُ اللهِ تَعَالَى الَّذِي أرْسَلَهُ .
ولهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعرِضُ نَفْسَهُ عَلَى النَّاسِ بالمَوْقِفِ ويَقُولُ : أَلا رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إِلِى قَوْمِه لاِبَلِّغَ كَلامَ رَبِّي ، فإِنَّ قُرَيْشاً قَدْ مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلاَمَ رَبِّي . رواه أَبُو دَاوُدَ وغيرُهُ . والنَّاسُ يَعلمونَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا تَكَلَّمَ بِكَلامٍ تَكَلَّمَ بِحُروفِه وَمَعانِيهِ بِصَوْتِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ المْبُلِّغُونَ عنه يُبلِّغونَ كَلاَمَه بِحَرَكَاتِهِمْ وأصْواتِهم كما قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "نَضَّرَ اللهُ امْرأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثاً فَبَلَّغَهُ كََما سَمِعَهُ" فالمُسْتمِعُ منه مُبَلِّغٌ حَدِيثَه كما سَمِعَهُ لكن بصوتِ نَفْسِه لا بصوتِ الرَّسُول ِ . فالْكَلاَمُ هُوَ كلامُ الرَّسُول ِ تَكلَّمَ به بِصَوتِه والْمُبَلِّغُ بَلَّغَ كلامَ رسولِ اللهِ بصوتِ نَفْسِه . وإذا كَانَ هَذَا مَعلوماً فِي تَبليغِ كلامِ المَخلوقِ فكلامُ الخالِقِ أوْلَى بذَلِكَ . ولهَذَا قَالَ تَعَالَى :{ وَإِنْ أَحَدٌ مِن الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ } وقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ . فجَعَلَ الْكَلاَمَ كلامَ البَارِي وجَعَلَ الصَّوتَ الَّذِي يَقْرَؤُه العَبْدُ صوتَ القَارِئِ . وأصواتُ العِبادِ ليست هِيَ الصَّوتَ الَّذِي يُنادِي اللهُ به ويَتكَلَّمُ به . كما نَطَقَت النُّصُوصُ بذَلِكَ . بل ولا ومِثلَه . فمَن قَالَ عَن الْقُرْآنِ الَّذِي يَقْرؤه المُسْلِمونَ لَيْسَ هُوَ كلامَ اللهِ أو هُوَ كَلاَمُ غيرِ اللهِ فهُوَ مُلحِدٌ مُبتدِعٌ ضَالٌّ . ومَنْ قَالَ : إِنَّ أصواتَ الْعِبَادِ أو المِدَادَ الَّذِي يُكتبُ به الْقُرْآنُ قَدِيمٌ أزَلِيٌّ فهُوَ مُلْحِدٌ مُبتدِعٌ . بل هَذَا الْقُرْآنُ هُوَ كَلاَمُ اللهِ ، وهُوَ مُثبَتٌ فِي المصَاحفِ وكَلاَمُ اللهِ مُبلَّغٌ عنه مَسموعٌ مِن القُرَّاءِ . لَيْسَ مَسموعاً منه . فالإِنْسَانُ يَرَى الشَّمسَ والقَمرَ والكواكبَ بطريقِ المُباشِرِ ، ويَراها فِي ماءٍ أو مِرآةٍ فهَذِهِ رؤيةٌ مُقَيَّدةٌ بِالواسِطةِ ، وتلك مُطلقةٌ بطريقِ المُباشِرِ . ويُسمَعُ مِن المُبَلِّغِ عنه بِواسطةٍ . والمقصودُ بالسَّماعِ هُوَ كلامُهُ فِي المَوْضِعينِ كما أَنَّ المقصودَ بالرُّؤيةِ هُوَ المَرئِيُّ فِي المَوْضِعينِ .
وإذا قِيلَ لِلمسموعِ إِنَّه كَلاَمُ اللهِ فهُوَ كَلاَمُ اللهِ مَسْموعاً مِن المُبَلِّغِ عنه ، لا مَسموعاً منه . فهُوَ مسموعٌ بِواسطةِ صوتِ العبدِ ، وصوتُ العبدِ مخلوقٌ . وأما كَلاَمُ اللهِ منه فهُوَ غيرُ مخلوقٍ حيثما تَصرَّفَ).

هيئة الإشراف

#6

16 Dec 2008

التنبيهات السنية للشيخ: عبد العزيز بن ناصر الرشيد رحمه الله

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (( وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيْلاً )، ( وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيْسى بنَ مَرْيَمَ )، (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)، وقولُهُ: ( وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً ).(1)
( مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ )، ( وَلَمَّا جَاءَ مُوْسَى لِمِيْقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ ).(2)
( وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيّاً )، وقَوْلُهُ: ( وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوْسَى أَنِ ائْتِ القَوْمَ الظَّالِمِينَ)، (وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُما الشَّجَرَةِ )، وقَوْلُهُ: ( وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقولُ مَاذا أَجَبْتُمُ المُرْسَلينَ ).(3)
).

الشرح:

قال الشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد (ت: 1408هـ): ( (1) قَولُهُ: (وَمَنْ أَصْدَقُ): لفظةُ استفهامٍ، ومعناه لا أحدَ أصدقُ من اللهِ في حديثِه وخبرِه ووعدِه ووعيدِه، وكانَ رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- يقولُ في خُطبتِه: ((إِنَّ أَصْدَقَ الحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-)).
قَولُهُ: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً): أي لا أحدَ أصدقُ مَن اللهِ قولاً ولا خبرًا.
قَولُهُ: (ابنَ مَرْيَمَ): أضافَه إلى أمِّه لأَنَّهُ لا أبَ له، فهو من أمٍّ بِلا أبٍ، ففي هذه الآياتِ إثباتُ القولِ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالى- وأنَّهُ يقولُ متى شاءَ إذا شاءَ، وأنَّ الكلامَ والقولَ المضافَ إليه -سُبْحَانَهُ- قديمُ النَّوعِ حادثُ الأحادِ، وفيه دليلٌ على أنَّه -سُبْحَانَهُ- يتكلَّمُ بحرفٍ وصوتٍ كما يليقُ بجلالِه سُبْحَانَهُ، وفيه الرَّدُّ على مَن زعمَ أنَّ كلامَ اللهِ هو المعنى النَّفسيُّ، إذ المعنى المجرَّدُ لا يُسمعُ.
قَولُهُ: (صِدْقًا): أي صدقًا في الإخبارِ، وعدلاً في الطَّلبِ، فكلُّ ما أخبرَ به -سُبْحَانَهُ- فهو حقٌّ لا مريةَ فيه ولا شكَّ، فكلُّ ما أمَرَ به فهو العدلُ الَّذي لا عدلَ سِواه، وكلُّ ما نهى عنه فباطلٌ؛ لأنَّه لا يَنهى إلا عن مفسدةٍ، والمرادُ بالكلمةِ: أمرُه ونهيهُ ووعدُه ووعيدُه، وكلماتُ اللهِ نوعان: كونيَّةٌ ودينيَّةٌ.
فكلماتُ اللهِ الكونيَّةُ: هي الَّتي استعاذَ النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- بها في قَولِهِ: ((أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لاَ يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلا فَاجِرٌ))، وكقَولِهِ: (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً).
النَّوعُ الثَّاني: الكلماتُ الدِّينيَّةُ: وهي القرآنُ وشرعُ اللهِ الَّذي بَعَثَ به رسولَه، وهي أمرُه ونهيهُ، انتهى. مِن كلامِ الشَّيخِ تقيِّ الدِّينِ بنِ تيميةَ.
قَولُهُ: (لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ): أي ليسَ أحدٌ يعقِّبُ حكمَه -سُبْحَانَهُ- لا في الدُّنْيَا ولا في الآخرةِ.
قَولُهُ: (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ): الَّذي أحاطَ سمعُه بسائرِ الأصواتِ، وأحاطَ علمُه بالظَّواهرِ والخفيَّاتِ.
قَولُهُ: (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيما): خصَّصَ اللهُ نبيَّه موسى عليه السَّلامُ بهذه الصِّفةِ تشريفًا له، ولذا يُقالُ لموسى عليه السَّلامُ الكليمُ، وهذا دليلٌ على أنَّ التَّكليمَ الَّذي حصلَ لموسى عليه السَّلامُ أخصُّ من مُطلقِ الوحيِ، ثم أكَّدَهُ بالمصدرِ الحقيقيِّ رفعًا لِمَا توهَّمه المعطِّلةُ من أنَّه إِلهامٌ أو إشارةٌ أو تعريفٌ للمعنى النَّفسيِّ بِشيءٍ غيرِ التَّكليمِ فأكَّدهُ بالمصدرِ المُفيدِ تحقَّقَ النَّسبةِ ورفعَ توهَّمَ المجازِ، قالَ الفرَّاءُ: إنَّ الكلامَ إذا أُكِّدَ بالمصدرِ ارتفعَ المجازُ وثبتتِ الحقيقةُ، ويُروى أنَّ رجلاً قال لأبي عمرِو بنِ العلاءِ أريدُ أن تَقْرأَ: (وَكَلَّمَ اللهَ مُوسى تَكْلِيما)، بنصبِ لفظِ الجلالةِ فقالَ له: هبْ أنَّي قرأتُ ذلك فما تقولُ في قَولِهِ: (وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) فَبُهِتَ المعتزليُّ.

(2)قَولُهُ: (مِنْهُم مَّنْ كَلَّمَ اللهُ): أي: كلَّمَهُ اللهُ، كموسى عليه السـَّلامُ ومحمَّدٍ وكذلك آدمُ، كما وردَ به الحديثُ المرويُّ في صحيحِ ابنِ حِبَّانَ عن أبي ذرٍّ رَضِي اللهُ عَنْهُ.
قَولُهُ: (لِمِيْقاتِنا): أي للوقتِ الَّذي ضَرَبنا أن نُكَلِّمَه فيه.
قَولُهُ: (وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ): أي كلَّمهُ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- بكلامٍ حقيقيٍّ يليقُ بجلالِه وعظمتِه، وكلَّمهُ بلا واسطةٍ، فهذه الآياتُ أفادتْ إثباتَ صفةِ الكلامِ للهِ، وأَنَّه تكلَّمَ ويتكلَّمُ -سُبْحَانَهُ- وتعالى، والأدلَّـةُ الدَّالَّـةُ على أنَّه يتكلَّمُ أكثرُ من أَنْ تُحصرَ، وفيها الرَّدُّ على مَنْ زعمَ أنَّ كلامَه -سُبْحَانَهُ- معنًى واحدٌ قائمٌ بالنَّفسِ لا يُتصوَّرُ أنْ يُسمعَ، وفيها دليلٌ على أنَّ كلامَه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- حقيقةٌ لا مجازٌ، لأنَّه أكَّده بالمصدرِ، فقال: (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيما)، أكَّدَهُ بالمصدرِ لنفي المجازِ؛ لأنَّ العربَ لا تؤكِّدُ بالمصدرِ إلا إذا أرادتِ الحقيقةَ، وفيها دليلٌ على أنَّ اللهَ لم يَزل مُتَكَلِّما إذا شاءَ ومتى شاءَ وكيفَ شاءَ، وفيها دليلٌ على أَنَّ نوعَ الكلامِ قديمٌ، وإنْ لم يكنِ الصَّوتُ المعيَّنُ قديمًا، فكلامُ اللهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- قديمُ النَّوعِ حادثُ الآحادِ، وتقدَّمتِ الإشارةُ إلى أنَّ كلامَهُ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- نوعانِ: كونيٌَ قدريٌّ به توجدُ الأشياءُ، كما قال سُبْحَانَهُ: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ). الثَّاني: كلامٌ دينيٌّ شرعيٌّ، ومنه كُتُبُه المنَزَّلةُ على رُسلِه، فهو الَّذي تكلَّم بها حقًّا وليست مخلوقةً، بل هي من جُملةِ صفاتِه، وصفاتُه -سُبْحَانَهُ- غيرُ مخلوقةٍ، كما تقدَّمَ في حديثِ خولةَ، وبه استدلَّ الإمامُ أحمدُ وغيرُه على أنَّ كلامَ اللهِ غيرُ مخلوقٍ؛ لأنَّه أمرَ بالاستعاذةِ بكلماتِ اللهِ، والاستعاذةُ بالمخلوقِ شركٌ،فدلَّ على أَنَّ كلامَ اللهِ غيرُ مخلوقٍ، وتكليمُه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- لعبادِه نوعان:
الأوَّلُ: بلا واسطةٍ، كما كلَّم موسى بنَ عمرانَ، وكما كلَّمَ الأبويْنِ، وكذا نادى نبيَّنا ليلةَ الإسراءِ.
الثَّاني: تكليمُه -سُبْحَانَهُ- لعبادِه بواسطةٍ، إمَّا بالوحْيِ الخاصِّ للأنبياءِ، وإمَّا بإرسالِه إليهم رسُولا يكلِّمُهم من أمرِه بما شاءَ.
وفي الآياتِ المتقدِّمةِ أيضًا دليلٌ على أنَّ الكلامَ المضافَ إليه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- من صفاتِه الذَّاتيَّةِ من حيثُ تعلُّقُها بذاتِه واتَّصافُه بها، ومن صفاتِه الفعليَّةِ حيث كانت متعلِّقةً بقدرتِه ومشيئتِه.

(3) قَولُهُ: (وَنَادَيْنَاهُ): أي نادينَا موسى وكلَّمناه بقولِ: (يا موسى إِنَّي أَنَا اللَّهُ )، وقَولُهُ: (الطُّورِ): هو اسمُ جبلٍ بيَن مصرَ ومدينَ، وقَولُهُ: (الأَيْمَنِ): أي الَّذي يلي يمينَ موسى حين أقبلَ من مدينَ، قَولُهُ: (وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا): أي مناجيًا.
وقَولُهُ: (وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوْسَى أَنِ ائْتِ القَوْمَ الظَّالِمِينَ)، وقَولُهُ: (وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُما الشَّجَرَةِ): أي نادى آدمَ وحوَّاءَ.
وقَولُهُ: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقولُ مَاذا أَجَبْتُمُ المُرْسَلينَ): قالَ بعضُ السَّلفِ: ما من فعلةٍ وإنْ صغُرتْ إلا ويُنشرُ لها ديوانانِ لِمَ وكيف، أي لِم فعلتَ وكيفَ فعلتَ ؟،فالأوَّلُ سؤالٌ عن الإخلاصِ، والثَّاني سؤالٌ عن المتابعةِ. فإنَّ اللهَ لا يقبلُ عملاً إلا بهما، فطريقُ التَّخلُّصِ من السَّؤالِ الأوَّلِ: بتجريدِ الإخلاصِ، وطريقُ التَّخلُّصِ مِن السَّؤالِ الثَّاني: بتحقيقِ المتابعةِ. انتهى. من الإغاثةِ، وقال بعضُ السَّلفِ: كلمتانِ يُسأل عنهما الأوَّلونَ والآخِرونَ: ماذا كنتم تعبدونَ وماذا أجبتُم المُرسلينَ؟ فَيُسألُ عن المعبودِ وعن العبادةِ.
أفادتْ هذه الآياتُ إثباتَ صفةِ الكلامِ للهِ، وأنَّه نادى وناجَى، وقد جاءَ النِّداءُ في تسعِ آياتٍ من القرآنِ، وكذلك النَّجاءُ جاء في عدَّةِ آياتٍ , والنِّداءُ هو الصَّوتُ الرَّفيعُ، وضدُّه النَّجاءُ، ففيها إثباتُ أنَّ اللهَ يتكلَّمُ بحرفٍ وصوتٍ يليقُ بجلالِه، إذ لا يُعقلُ النِّداءُ والنجاءُ إلا ما كان حرفًا وصوتًا، وقد استفاضتِ الآثارُ عن النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- والصَّحابةِ والتَّابعين ومَن بعدَهم من أئمَّةِ السُّنَّةِ بذلك، وقال ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ في (النُّونيَّةِ):

واللهُ قـد نَــادى الكلـيـمَ  وقبـلَـه ... سمـعَ النِّـدا فــي الجـنَّـةِ الأبــوانِ
وأتـى النِّـدا فـي تسـعِ آيـاتٍ لــه ... وصفًـا فراجعْـهـا  مــن  الـقـرآنِ
أيصِـحُّ فـي عقـلٍ وفـي نقـلٍ نــداءٌ ... لـيـس مسمـوعًـا لـنـا بـــأذانِ
أم أجمـعَ العلـمـاءُ والعـقـلاءُ مــن ... أهـلِ اللسـانِ وأهـلِ  كُـلِّ  لـسـانِ
إنَّ النِّـدا الصَّـوتُ  الرَّفيـعُ  وضــدُّه ... فهـو النَّـجـاءُ كلاهـمـا  صـوتـانِ
وفي هذه الآياتِ أيضًا الرَّدُّ على مَن زعَم أنَّ كلامَ اللِه هو المعنى النَّفسيُّ، إذ المعنى المجرَّدُ لا يُسمعُ.
وقد ردَّ الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ على مَن زعَم ذلك من تسعين وجهًا، قال ابنُ القيِّمِ في (النُّونيَّةِ):

تِسعون وجهًا بيَّنتْ  بطلانَـه أعني كلامَ النَّفسِ ذي البُطلانِ

قال بعضُ العلماءِ: مَن زعَم أنَّ كلامَ اللهِ هو المعنى النَّفسيُّ فقد زعمَ أنَّ اللهَ لم يُرسِلْ رسولا ولم يُنزِلُ كتابًا، وقال: مَنْ زعمَ أنَّ كلامَ اللهِ هو المعنى النَّفسيُّ فقد زعَم أنَّ اللهَ أخرسَ، وقال ابنُ حجرٍ رحمه اللهُ في شرحِ البخاريِّ: ومَنْ نفى الصَّوتَ فقدْ زعمَ أنَّ اللهَ لم يُسمِعْ أحدًا من ملائكتِه ولا رُسلِه كلامًا بل ألهمَهم إيَّاه إلهامًا، وفيها الرَّدُّ على مَن زَعَمَ أنَّ كلامَ اللهِ هو معنًى قائمٌ بذاتِه لا يتجزَّأُ ولا يتبعَّضُ، فإنَّ الأمرَ لو كانَ كما زَعَموا لكانَ موسى عليه السَّلامُ سَمِعَ جميعَ كلامِ اللهِ، وفيها الرَّدُّ على مَن زعَم أنَّ كلامَ اللِه مخلوقٌ، فإنَّ صفاتِ اللهِ داخلةٌ في مُسمَّى اسمِه، فليسَ اللهُ اسمًا لذاتٍ لا سَمْعَ لها ولا بصرَ ولا حياةَ ولا كلامَ لها، فكلامُهُ وعلمُهُ وحياتُه وقُدرتُه داخلَةٌ في مُسمَّى اسمِه، فهو -سُبْحَانَهُ- بصفاتِه الخالقُ وما سواهُ المخلوقُ، وفي إثباتِ الكلامِ إثباتُ الرِّسالةِ، فإذا انتَفَت صفةُ الكلامِ انتفتْ صفةُ الرِّسالةِ، إذ حقيقةُ الرِّسالةِ تبليغُ كلامِ المرسلِ، ومِن ها هنا قال السَّلفُ: مَن أنكرَ كونَ اللهِ متكلِّمًا فقد أنكرَ رسالةَ الرُّسلِ كلِّهم، والرَّبُّ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- يخلقُ بقَولِهِ وبكلامِه كما قال: (إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ)، فإذا انتفَتْ حقيقةُ الكلامِ عنه فقد انتفى الخلقُ.