11 Nov 2008
الإيمان بصفة المعية على ما يليق بالله جل وعلا
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وَقَوْلُهُ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}[سُورَةُ الْحَدِيدِ : 4] ، {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[سُورَةُ الْمُجَادَلَةِ : 7] ،{لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}[سُورَةُ التَّوْبَةِ : 40] ، {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى}[سُورَةُ طَهَ : 46] ، {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ}[سُورَةُ النَّحْلِ : 128] ، {وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[سُورَةُ الأَنْفَالِ : 46] ، {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}[سُورَةُ البقرة : 249]).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ مُحمَّد خَليل هَرَّاس رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): ({
هُوَ الَّذي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ في سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ
اسْتَوَى عَلى العَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ في الأَرْضِ ومَا يَخْرُجُ
مِنْها وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ
مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }، وقَوْلُهُ: {
مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا
خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ
إِلاَّ هُوَ مَعَُهمْ أَيْنَمَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا
عَمِلُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }، { لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا }، وقَوْلُهُ: {
إِنَّني مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى }، { إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ
اتَّقَوْا وَالَّذينَ هُمْ مُحْسِنُونَ }، { وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ
الصَّابِرِينَ }، { كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيْلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثيرةً
بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } (1) ).
الشرح:
قال الشيخ محمد خليل هراس (ت: 1395هـ): ((1) قولُهُ: { هُوَ الَّذي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ … } إلخ. تَضَمَّنَتْ هذهِ الآيةُ الكريمةُ إثباتَ صفةِ المعيَّةِ لهُ عزَّ وجلَّ، وهيَ على نوعَينِ:
1 – معيَّةٌ عامَّةٌ:
شاملةٌ لجميعِ المخلوقاتِ، فهوَ سبحانَهُ معَ كلِّ شيءٍ بعلمِهِ وقُدرتِهِ
وقهرِهِ وإحاطتِهِ، لا يغيبُ عنهُ شيءٌ، ولا يُعجزُهُ، وهذهِ المعيَّةُ
المذكورةُ في الآيةِ.
ففي هذهِ الآيةِ يُخبرُ
عن نفسِهِ سبحانَهُ بأنَّهُ هوَ وحدَهُ الذي خلقَ السَّماواتِ والأرضَ –
يعني: أوجدَهُما على تقدْيرٍ وترتيبٍ سابقٍ في مُدَّةِ ستَّةِ أيَّامٍ -،
ثمَّ علا بعدَ ذلكَ وارتفعَ على عرشِهِ؛ لتدبيرِ أمورِ خلقِهِ. وهوَ معَ
كونِهِ فوقَ عرشِهِ لا يغيبُ عنهُ شيءٌ مِن العالَمَيْنِ العُلويِّ
والسُّفليِّ، فهوَ { يَعْلَمُ مَا يَلِجُ }، أي: يدخلُ { في الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِن السَّماءِ وَمَا يَعْرُجُ }؛
أي: يَصْعَدُ ( فيهَا )، ولا شكَّ أنَّ مَنْ كانَ علمُهُ وقَدْرتُهُ
مُحيطَيْنِ بجميعِ الأشياءِ؛ فهوَ معَ كلِّ شيءٍ، ولذلكَ قالَ: {وَهُو مَعَكُمْ أَيْنَما كُنْتُمْ وَاللهِ بِما تَعَمَلونَ بَصيرٌ }.
قولُهُ: { مَا يَكُونُ مِن نَجْوى … }
إلخ. يُثبتُ سبحانَهُ شمولَ علمِهِ وإحاطتِهِ بجميعِ الأشياءِ، وأنَّهُ لا
يخفى عليهِ نجوى المُتناجِينَ، وأنَّهُ شهيدٌ على الأشياءِ كلِّهَا،
مطَّلِعٌ عليهَا.
وإضافةُ ( نَجْوى ) إلى ثلاثةٍ مِن إضافةِ الصِّفةِ إلى الموصوفِ، والتَّقديرُ: ما يكونُ مِن ثلاثةٍ نجوى: أيْ: متناجِينَ.
2 –
وأَمَّا الآياتُ الباقيةُ؛ فهيَ في إثباتِ المعيَّةِ الخاصَّةِ التَّي هيَ
معيَّتُهُ لرُسُلِهِ تعالى وأوليائِهِ بالنَّصرِ والتَّأيِيدِ والمحبَّةِ
والتَّوفيقِ والإِلهَامِ.
فقولُهُ تعالى: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا } حكايةٌ
عمَّا قالَهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لأبي بكرٍ الصدِّيقِ وهمَا في
الغارِ، فقَدْ أحاطَ المشركون بفمِ الغارِ عندَما خرجوا في طلبِهِ عليهِ
السَّلامُ، فلمَّا رأى أبو بكرٍ ذلكَ انزَعَجَ، وقالَ:
((وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ! لَوْ نَظَرَ أَحَدُهُمْ تَحْتَ قَدَمِهِ لأَبْصَرَنَا )).
فَقالَ لَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلمَ مَا حَكَاهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ هُنَا: { لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا }.
فالمرادُ بالمعيَّةِ هنَا معيةُ النَّصرِ والعصمةِ مِن الأعداءِ.
وأَمَّا قولُهُ: { إِنَّني مَعَكمَا أَسْمَعُ وَأَرَى }؛
فقَدْ تقدَّمَ الكلامُ عليهِ، وأنَّهَا خطابٌ لموسى وهَارونَ عليهِما
السَّلامُ أنْ لا يخافَا بطشَ فرعونَ بِهِمَا؛ لأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ
معهمَا بِنَصْرِهِ وتأيِيدِهِ.
وكذلكَ بقيَّةُ الآياتِ
يُخبرُ اللهُ فيهَا عن معيَّتِهِ للمتَّقِينَ الَّذينَ يراقبُون اللهَ
عزَّ وجلَّ في أمْرِهِ ونهيِهِ، ويحفظون حدودَهُ، وللمُحسنِينَ الَّذينَ
يلتزمون الإِحسانَ في كلِّ شيءٍ، والإِحسانُ يكونُ في كلِّ شيءٍ بحسبِهِ،
فهوَ في العبادَةِ – مَثلاً – أنْ تعبُدَ اللهَ كأنَّكَ تراهُ، فإنْ لمْ
تكنْ تراهُ فإنَّهُ يراكَ؛ كمَا جاءَ في حديثِ جبريلَ عليهِ السَّلامُ.
وكذلكَ يُخبرُ عن
معيَّتِهِ للصَّابرينَ الَّذينَ يحبسون أُنفُسَهُمْ على ما تكرَهُ،
ويتحمَّلون المشاقَّ والأذى في سبيلِ اللهِ وابتغاءِ وجهِهِ؛ صبرًا على
طاعةِ اللهِ، وصبرًا عن معصيتِهِ، وصبرًا على قضائِهِ).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وقوله
(هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوات وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ
اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ
مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ
مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [الحديد:
4] (1)
(مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ
خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ
إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا
عَمِلُواْ يَوْمَ الْقِياَمَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ)
[المجادلة: 7].
وقوله (لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا)
[التوبة: 40] (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) [طه: 46]. (إِنَّ
اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ) [النحل:
128].وقولُهُ: (وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال:
46]. (كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةَ بِإِذْنِ اللهِ
وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة: 249] ).
الشرح:
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (إثباتُ معيَّةِ اللَّهِ لخلقهِ
(1) شرعَ
المؤلِّفُ بَسْوقِ أدلةِ المعيةِ، أيْ: أدلةِ معيةِ اللَّهِ تَعَالَى
لخلقِه، وناسَبَ أنْ يذكرَها بعدَ العلُوِّ؛ لأنَّهُ قَدْ يبدُو للإنسانِ
أنَّ هُناك تناقضاً بينَ كونِهِ فَوْقَ كُلِّ شيءٍ، وكونهِ مَعَ العبادِ،
فكَانَ مِنَ المناسبِ جداً أنْ يذكرَ الآياتِ الَّتِي تُثبتُ معيَّةَ
اللَّهِ للخلقِ بعدَ ذكرِ آياتِ العلُوِّ.
وفِي معيةِ اللَّهِ تَعَالَى لخلقِه مباحثُ:
المبحثُ الأولُ فِي أقسامِها:
معيةُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ تنقسم إِلَى قسمينِ: عامَّةٍ، وخاصَّةٍ.
والخاصَّةُ تنقسمُ إِلَى قسمينِ: مقيَّدةٍ بشخصٍ، ومقيَّدةٍ بوصفٍ.
-أمَّا العامةُ، فَهِيَ الَّتِي تشملُ كُلَّ أحدٍ
مِنْ مؤمنٍ وكافرٍ وبرٍّ وفاجرٍ. ودليلَهُُا قولُهُ تَعَالَى: (وَهُوَ
مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنُتمْ) [الحديد: 4].
I- أمَّا
الخاصَّةُ المقيَّدةُ بوصفٍ، فمثلُ قولِهِ تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ
الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ) [النحل: 182].
II- وأمَّا
الخاصَّةُ المقيَّدةُ بشخصٍ معينٍ، فمثلُ قولِهِ تَعَالَى عَنْ نبيِّهِ:
(إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) [التوبة:
40]، وقَالَ لموسَى وهارونَ: (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) [طه:
46].
وهذِهِ أخصُ مِنَ المقيدةِ بوصفٍ.
فالمعيَّةُ درجاتٌ: عامةٌ مطلقةٌ، وخاصَّةٌ مقيَّدةٌ بوصفٍ، وخاصَّةٌ مقيدةٌ بشخصٍ.
فأخصُ أنواعِ المعيةِ مَا قُيِّدَ بشخصٍ، ثُمَّ مَا قُيِّدَ بوصفٍ، ثُمَّ مَا كَانَ عامًّا.
فالمعيَّةُ العامَّةُ تَستلزمُ الإحاطةَ بالخلقِ
علماً وقدرةً، وسمعاً وبصراً وسلطاناً، وغيرَ ذلِكَ مِنْ معاني ربوبيتِه،
والمعيةُ الخاصَّةُ بنوعَيْها تستلزمُ مَعَ ذلِكَ النَّصرَ والتأييدَ.
المبحثُ الثَّاني: هَلِ المعيةُ حقيقيَّةٌ، أوْ
هِيَ كنايةٌ عَنْ علمِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، وسمعهِ وبصرِه، وقدرتهِ
وسلطانِه وغيرِ ذلِكَ مِنْ معاني ربوبيتِه؟
أكثرُ عباراتِ السَّلَفِ رحمَهم اللَّهُ يقولون:
إنهَّا كنايةٌ عَنِ العلمِ، وعَنِ السَّمعِ والبصرِ، والقُدرةِ ومَا
أشَبْهَ ذلِكَ، فيجعلُون معنى قولِهِ: (وَهُوَ مَعَكُمْ)، أيْ: وهُوَ عالمٌ
بِكُم، سميعٌ لأقوالِكم، بصيرٌ بأعمالِكم، قادرٌ علَيْكم، حاكمٌ بينكم…
وهكذا، فيفسّرُونها بلازمِها.
واختارَ شيخُ الإسلامِ رحمَه اللَّهُ فِي هَذَا
الكتابِ، وغيرِه، أنهَّا عَلَى حقيقتِها، وأنَّ كونَه معنا حقٌ عَلَى
حقيقتِه، لكنْ لَيْسَتْ معيتُه كمعيةِ الإنسانِ للإنسانِ الَّتِي يمكنُ أنْ
يكونَ الإنسانُ مَعَ الإنسانِ فِي مكانهِ؛ لأنَّ معيةَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ
ثابتةٌ لَهُ وهُوَ فِي علُوّه، فَهُوَ مَعَنا، وهُوَ عالٍ عَلَى عرشِه
فَوْقَ كل شيءٍ، ولاَ يمكنُ بأيِ حالٍ مِنَ الأحوالِ أنْ يكونَ مَعَنا فِي
الأمكنةِ الَّتِي نَحْنُ فيِها.
وعَلَى هَذَا، فإنَّه يحتاجُ إِلَى الجمعِ بينَها وبينَ العلو.
والمؤلِّفُ عقَدَ لَهُا فصلاً خاصّاً سيأتِي
بيانهُ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وأنَّه لاَ منافاةَ بينَ العلُو
والمعيةِ؛ لأنَّ اللَّهَ تَعَالَى ليسَ كمثلَهُِ شيءٌ فِي جميعِ صفاتهِ،
فَهُوَ علي فِي دنُوه، قريبٌ فِي علُوه.
وضربَ شيخُ الإسلامِ رحمَه اللَّهُ لذلِكَ مثلاً
بالقمرِ، قالَ: إنَّه يُقالُ: مَا زلْنا نسيرُ والقمرُ مَعَنا، وهُوَ
موضوعٌ فِي السَّماءِ، وهُوَ مِنْ أصغرِ المخلوقاتِ، فكَيْفَ لاَ يكونُ
الخالقُ عزَّ وجلَّ مَعَ الخلقِ، الَّذِي الخلقُ بالنِّسبةِ إِلَيْهِ
لَيْسُوا بشيءٍ، وَهُوَ فَوْقَ سماواتهِ؟!
ومَا قالَهُ -رحمَهُ اللَّهُ-، فِيهِ دفعُ حجةِ
بعضِ أهلِ التَّعطيلِ حَيْثُ احتجُّوا عَلَى أهلِ السُّنَّةِ، فَقَالَوا:
أنتْمُ تمنعونَ التَّأويلَ، وأنتْمُ تؤولونَ فِي المعيةِ، تقولُون: المعيةُ
بمعنى العلمِ والسَّمعِ والبصرِ والقُدرةِ والسلطانِ ومَا أشَبْهَ ذلِكَ.
فنقولُ: إنَّ المعيةَ حقٌ عَلَى حقيقتِها،
لكنَّها لَيْسَتْ فِي المفهومِ الَّذِي فهمَه الجهميَّةُ ونحوُهم، بأنَّه
مَعَ النَّاسِ فِي كُلِّ مكانٍ، وتفسيرُ بعضِ السلفِ لَهَُا بالعلمِ ونحوِه
تفسيرٌ باللازمِ.
المبحثُ الثَّالثُ: هَلِ المعيةُ مِنَ الصِّفاتِ الذاتيَّةِ أوْ مِنَ الصِّفاتِ الفِعليَّةِ؟
فِيهِ تفصيلٌ:
-أمَّا المعيةُ العامةُ، فهِيَ ذاتيَّةٌ؛ لأنَّ
اللَّهَ لَمْ يزلْ ولاَ يزالُ محيطاً بالخلقِ، علماً وقدرةً، وسلطاناً،
وغيرَ ذلِكَ مِنْ معاني ربوبيتِه.
-وأمَّا المعيَّةُ الخاصَّةُ، فهِيَ صفةٌ
فِعليَّةٌ، لأنهَّا تابعةٌ لمشيئةِ اللَّهِ، وكُلُّ صفةٍ مقرونةٍ بسببٍ
هِيَ مِنَ الصِّفاتِ الفِعليَّةِ، فَقَدْ سبقَ لنَا أنَّ الرضى مِنَ
الصِّفاتِ الفِعليَّةِ، لأنَّه مقرونٌ بسببٍ، إِذَا وُجِدَ السَّببُ
الَّذِي بهِ يرضى اللَّهُ، وُجِدَ الرضى، وكذلِكَ المعيةُ الخاصَّةُ، إِذَا
وُجِدَتِ التقوى أوْ غيرُها مِنْ أسبابِها فِي شخصٍ، كَانَ اللَّهُ
مَعَهُ.
المبحثُ الرَّابعُ فِي المعيةِ: هَلْ هِيَ حقيقيَّةٌ أوْ لا؟
ذكرْنا ذلِكَ، وأنَّ مِنَ السَّلفِ مَنْ فسرَّها
باللازِم، وهُوَ الَّذِي لاَ يكادُ يرى الإنسانُ سواه. ومِنْهم مَنْ قالَ:
هِيَ عَلَى حقيقتِها، لكنَّها معيةٌ تليقُ باللَّهِ، خاصَّةٌ بهِ.
وَهَذَا صريحُ كلامِ المؤلِّفِ هُنا فِي هَذَا
الكتابِ وغيرِه، لكنْ تُصانُ عَنِ الظُّنونِ الكاذبةِ، مثلُ أنْ يُظَنَّ
أنَّ اللَّهَ مَعَنا فِي الأرضِ، ونحوَ ذلِكَ، فإنَّ هَذَا باطلٌ مستحيلٌ!
المبحثُ الخامسُ فِي المعيةِ: هَلْ بينَها وبينَ العلو تناقضٌ؟
الجوابُ: لاَ تناقضَ بينَهما، لوجوهٍ ثلاثةٍ:
الوجهُ الأوَّلُ: أنَّ اللَّهَ جمعَ بينهَمَا فيمَا وصفَ بهِ نَفْسَه، ولو كانا يتناقضان، مَا صحَّ أنْ يصفَ اللَّهُ بهِمَا نَفْسَه.
الوجهُ الثَّاني: أنْ نقولَ: ليسَ بينَ العلُوِّ
والمعيةِ تعارضٌ، أصلاً، إذْ مِنَ الممكنِ أنْ يكونَ الشَّيءُ عالياً وهُوَ
مَعَكَ، ومِنْه مَا يقولُهُ العربُ: القمرَ مَعَنا ونَحْنُ نسيرُ،
والشَّمسُ معنا ونَحْنُ نسيرُ، والقطبُ مَعَنا ونَحْنُ نسيرُ، مَعَ أنَّ
القمرَ والشَّمسَ والقطبَ كلَهَُّا فِي السَّماءِ، فَإِذَا أمكنَ اجتماعُ
العلوِّ والمعيَّةِ فِي المخلوقِ، فاجتماعُهمَا فِي الخالقِ مِنْ بابٍ
أوْلى.
أرأيْتَ لَوَ أنَّ إنساناً عَلَى جبلٍ عالٍ،
وقَالَ للجنودِ: اذهبوا إِلَى مكانٍ بعيدٍ فِي المعركةِ، وأنا مَعَكم،
وهُوَ واضعُ المنظارِ عَلَى عَيْنيَه، ينظرُ إِلَيْهِم مِنْ بعيدٍ، فصارَ
مَعَهم؛ لأنَّهُ الآنَ يبصرُهم كأنهَّم بينَ يَدَيْهِ، وهُوَ بعيدٌ عَنْهم،
فالأمرُ ممكنٌ فِي حقِ المخلوقِ، فكَيْفَ لاَ يمكنُ فِي حقِ الخالقِ؟!
الوجهُ الثَّالثُ: أنَّهُ لو تعذَّرَ اجتماعُهمَا
فِي حقِّ المخلوقِ، لَمْ يكنْ متعذراً فِي حقِّ الخالقِ؛ لأنَّ اللَّهَ
أعظمُ وأجلُّ، ولاَ يمكنُ أنْ تْقاسَ صفاتُ الخالقِ بصفاتِ المخلوقين،
لظهورِ التَّبايُنِ بينَ الخالقِ والمخلوقِ.
والرَّسولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يقولُ فِي سفَرِه: ((اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ،
وَالخَلِيفَةُ فِي الأَهْلِ))، فجمعَ بينَ كونِهِ صاحباً لَهُ وخليفةً لَهُ
فِي أهلَهُِ، مَعَ أنَّهُ بالنِّسبةِ للمخلوقِ غيرُ ممكنٍ، لاَ يمكنُ أنْ
يكونَ شخصٌ مَا صاحباً لك فِي السفرِ وخليفةً لَكَ فِي أهلِكَ.
وثبَتَ فِي الحديثِ الصحيحِ: أنَّ اللَّهَ عزَّ
وجلَّ يقولُ إِذَا قَالَ المصلِّي: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَلَمِينَ): ((حَمِدَنِي عَبْدِي)).
كَمْ مِنْ مصلٍّ يقولُ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)!
لاَ يُحصَوْنَ.
وكَمْ مِنْ مصلِّينَ، أحدُهمَا يقولُ: (الْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَلَمِينَ)، والثَّاني يقولُ: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ
وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، وكُلُّ واحدٍ مِنْهمَا لَهُ ردٌّ، الَّذِي يقولُ:
(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَلَمِينَ): يقولُ اللَّهُ لَهُ: ((حَمِدَنِي
عبديِ)). والَّذِي يقولُ: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ):
يقولُ اللَّهُ لَهُ: ((هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ))…
إذاً، يمكنُ أنْ يكونَ اللَّهُ مَعَنا حقّاً،
وهُوَ عَلَى عرشِهِ فِي السَّماءِ حقًّا، ولاَ يفهمُ أحدٌ أنهَّمَا
يتعارضانِ، إلاَّ مَنْ أرادَ أنْ يمثلَ اللَّهَ بخلقِهِ، ويجعلَ معيةَ
الخالقِ كمعيةِ المخلوقِ.
ونَحْنُ بيَّنّا إمكَانَ الجمعِ بينَ نصوصِ
العلوِّ ونصوصِ المعيةِ، فإنْ تبيَّنَ ذلِكَ، وإلاَّ، فالواجبُ أنْ يقولَ
العبدُ: آمنتُ باللَّهِ ورسولِهِ، وصدّقْتُ بمَا قَالَ اللَّهُ عَنْ
نَفْسهِ ورسولِه، ولاَ يقولُ: كَيْفَ يمكنُ؟! منكراً ذلِكَ!
إِذَا قالَ: كَيْفَ يمكنُ؟! قلنْا: سؤالُك هَذَا
بدعةٌ، لَمْ يسألْ عَنْه الصَّحابةُ، وهُم خيرٌ مِنْكَ، ومسئولُهُم أعلمُ
مِنْ مسئُولِكَ وأصدقُ وأفصحُ وأنصحُ، علَيْكَ أنْ تُصَدِّقَ، لاَ تقلْ:
كيفَ؟ ولاَ لم؟ ولكنْ سلِّم تسليماً.
تنبيهٌ:
تأمَّلْ فِي الآيةِ، تجدْ كُلَّ الضمائرِ تعودُ
عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: (خَلَقَ السَّمَاوات وَالأَرْضَ فِي
سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى)، (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ)،
فكذلِكَ ضميرُ (وَهُوَ مَعَكُمْ)، فيجبُ عَلَيْنَا أنْ نؤمنَ بظاهرِ الآيةِ
الكريمةِ، ونعلمَ علمَ اليقينِ، أنَّ هذِهِ المعيَّةَ لاَ تقتضي أنْ يكونَ
اللَّهُ معَنَا فِي الأرضِ، بَلْ هُوَ مَعَنا مَعَ استوائهِ عَلَى العرشِ.
هذِهِ المعيةُ، إِذَا آمَنَّا بِها، تُوجبُ لنا
خشيةَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ وتقواه. وَلِهَذَا جاءَ فِي الحديثِ: ((أَفْضَلُ
الإِيمَانِ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ مَعَكَ حَيْثُمَّا كُنْتَ)).
أمَّا أهلُ الحلولِ، فَقَالَوا: إنَّ اللَّهَ
معَنَا بذاتهِ فِي أمكِنَتِنا، إنْ كنتَ فِي المسجدِ، فاللَّهُ مَعَكَ فِي
المسجدِ! والذينَ فِي السُّوقِ اللَّهُ معَهَم فِي السوقِ!! والَّذِينَ فِي
الحمَّاماتِ اللَّهُ معَهَم فِي الحمَّاماتِ!!
مَا نزَّهوهُ عَنِ الأقذارِ والأنتانِ وأماكنِ اللَّهُوَ والرفثِ!!
المبحثُ السَّادسُ: فِي شِبْهَةِ القائلين بأنَّ اللَّه مَعَنا فِي أمكنتِنا والردِّ عَلَيْهُم:
شِبْهتُهم: يقولونَ: هَذَا ظاهرُ اللَّفظِ:
(وَهُوَ مَعَكُمْ)؛ لأنَّ كُلَّ الضمائرِ تعودُ عَلَى اللَّهِ: (هُوَ
الَّذِى خَلَقَ)، (ثُمَّ اسْتَوَى)، (يَعْلَمُ)، (وَهُوَ مَعَكُمْ)، وإِذَا
كَانَ مَعَنا، فنَحْنُ لاَ نفهمُ مِنَ المعيةِ إِلَّا المخالطةَ أو
المصاحبةَ فِي المكانِ!!
والردُّ عَلَيْهُم مِنْ وجوهٍ:
أَوَّلاً: أنَّ ظاهرَها لَيْسَ كمَا ذكرتُم، إذْ
لَوْ كَانَ الظاهرُ كَمَا ذكرتمُ، لكَانَ فِي الآيةِ تناقضٌ: أنْ يكونَ
مستوياً عَلَى العرشِ، وهُوَ مَعَ كُلِّ إنسانٍ فِي أي مكانٍ! والتَّناقضُ
فِي كلامِ اللَّهِ تَعَالَى مستحيلٌ.
ثانياً: قولُكُم: ((إنَّ المعيةَ لاَ تعقلُ
إِلَّا مَعَ المخالطةِ أو المصاحبةِ فِي المكانِ))! هَذَا ممنوعٌ، فالمعيةُ
فِي اللُّغةِ العربيَّةِ اسمٌ لمطلقِ المصاحبةِ، وهِيَ أوسعُ مدلولاً ممَا
زعمْتُم، فقدْ تقتضِي الاختلاطَ، وقدْ تقتضي المصاحبةَ فِي المكانِ، وقدْ
تقتضي مطلقَ المصاحبةِ وإنْ اختلفَ المكانُ، هذِهِ ثلاثةُ أشياءَ:
1-مثالُ المعيةِ الَّتِي تقتضي المخالطةَ: أنْ يقالَ: اسقوني لبناً مَعَ ماءٍ، أيْ: مخلوطاً بماءٍ.
2-ومثالُ المعيةِ الَّتِي تقتضي المصاحبةَ فِي المكانِ: قولُكَ: وجدتُ فلاناً مَعَ فلانٍ، يمشيانِ جميعاً، وينزلانِ جميعاً.
3-ومثالُ المعيةِ الَّتِي لاَ تقتضي الاختلاطَ،
ولاَ المشاركةَ فِي المكانِ: أنْ يُقالَ: فلانٌ مَعَ جنودِهِ، وإنْ كَانَ
هُوَ فِي غرفةِ القيادةِ، لكنْ يوجهُهُم. فهَذَا ليسَ فِيهِ اختلاطٌ ولاَ
مشاركةٌ فِي مكانٍ.
ويُقالُ: زوجةُ فلانٍ مَعَه، وإنْ كانَتْ هِيَ فِي المشرقِ وهُوَ فِي المغربِ.
فالمعيةُ إذاً كَمَا قَالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ
تيميةَ -رحمَهُ اللَّهُ-، وكَمَا هُوَ ظاهرٌ مِنْ شواهدِ اللُّغةِ:
مدلولُها مطلقُ المصاحبةِ، ثُمَّ هِيَ بحسبِ مَا تُضافُ إِليه.
فَإِذَا قِيلَ: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ
اتَّقَواْ) [النحل: 128]، فلاَ يقتضِي ذلِكَ لاَ اختلاطاً ولاَ مشاركةً فِي
المكانِ، بَلْ هِيَ معيةٌ لائقةٌ باللَّهِ، ومقتضاها النَّصرُ والتأييدُ.
ثالثاً: نقولُ: وصفْكُم اللَّهَ بهَذَا! مِنْ
أبطلِ الباطلِ وأشدِ التَّنقصِ لِلَّهِ عزَّ وجلَّ، واللَّهُ عزَّ وجلَّ
ذكَرَ هاهُنَا عن نَفْسِه متمدحاً، أنَّهُ مَعَ علُوِّه عَلَى عرشِه،
فَهُوَ مَعَ الخلقِ، وإنْ كانوا أسفلَ مِنْه، فَإِذَا جعلْتُم اللَّهَ فِي
الأرضِ، فهَذَا نقصٌ.
إِذَا جعلْتُم اللَّهَ نَفْسَهُ مَعَكُم فِي
كُلِّ مكانٍ، وأنْتُم تدخلونَ الكنيفَ، هَذَا أعظمُ النَّقصِ، ولاَ تستطيعُ
أنْ تقولَهُ ولاَ لملكٍ مِنْ ملوكِ الدُّنْيَا: إنَّكَ أنْتَ فِي الكنيفِ!
لكنْ كَيْفَ تقولَهُ لِلَّهِ عزَّ وجلَّ؟! وهَلْ هَذَا إِلَّا أعظمُ
النَّقصِ والعياذُ باللَّهِ؟!
رابعاً: يلزمُ عَلَى قولِكُم هَذَا أحدُ أمرينِ
لاَ ثالثَ لَهما، وكلاهمَا ممتنعٌ: إمَا أنْ يكونَ اللَّهُ متجزِّئاً،
كُلُّ جزءٍ مِنْهُ فِي مكانٍ.
وإمَّا أنْ يكونَ متعدِّداً، يعني: كُلَّ إلَهٍ فِي جهةٍ. ضرورةُ تعددِ الأمكنةِ.
خامساً: أنْ نقولَ: قولُكُم هَذَا أيضاً يستلزمُ
أنْ يكونَ اللَّهُ حالاًّ فِي الخلقِ، فكُلُّ مكانٍ فِي الخلقِ، فاللَّهُ
تَعَالَى فِيهِ، وصارَ هَذَا سُلَّماً لقولِ أهلِ وحدةِ الوجودِ.
فأنْتَ ترى أنَّ هَذَا القولَ باطلٌ، ومقتَضَى هَذَا القولِ الكفرُ.
وَلِهَذَا نَرى أنَّ مَنْ قالَ: إنَّ اللَّهَ
مَعَنا فِي الأرضِ، فَهُوَ كافرٌ، يُستتابُ، ويبينُ لَهُ الحقُّ، فإنْ
رجعَ، وإلاَّ، وجبَ قتلُه.
وهذِهِ آياتُ المعيَّةِ:
الآيةُ الأولى: قولُهُ تَعَالَى: (هُوَ الَّذِى
خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى
الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا
يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ
مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [الحديد: 4]:
والشَّاهِدُ فِيهَا قولُهُ: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ)، وهذِهِ
مِنَ المعيَّةِ العامَّةِ، لأنَّها تقتضِي الإحاطةَ بالخلقِ علماً وقدرة
وسلطاناً وسمعاً وبصراً وغيرَ ذلِكَ من معاني الرُّبوبيَّةِ.
الآيةُ الثَّانِيَةُ: قولُهُ: (مَا يَكُونُ مِن
نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ
سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ
أَيْنَ مَا كَانُواْ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ
الْقِياَمَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [المجادلة: 7].
(مَا يَكُونُ): (يَكُونُ)، تامةٌ يعني: مَا يوجدُ.
وقولُهُ: (مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ): قيِلَ: إنهَّا
مِنْ بابِ إضافةِ الصِّفةِ إِلَى الموصوفِ، وأصلَهُا: مِنْ ثلاثةِ نجوى،
ومعنى (نجْوَى)، أيْ: متناجين.
وقولُهُ: (إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ)، ولَمْ يقلْ:
إلاَّ هُوَ ثالثُهم؛ لأنَّهُ مِنَ غيرِ الجنسِ، وإِذَا كَانَ مِنْ غيرِ
الجنسِ، فإنَّهُ يؤتى بالعددِ التَّالي، أمَّا إِذَا كَانَ مِنَ الجنسِ،
فإنَّه يؤتى بنَفْسِ العددِ، انظرْ إِلَى قولِهِ تَعَالَى عن النَّصارى:
(لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ)
[المائدة: 73]، ولمْ يقولُوا: ثالثُ اثنينِ؛ لأنَّهُ مِنَ الجنسِ عَلَى
زعمِهم! فعندَهم كُلُّ الثلاثةِ آلَهةٌ، فلَمَّا كَانَ مِنَ الجنسِ عَلَى
زعمِهم، قالوُا فِيهِ: ثالثُ ثلاثةٍ.
قولُهُ: (وَلاَ خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ
سَادِسُهُمْ) ذَكَرَ العددَ الفردي ثلاثةَ وخمسةَ، وسكتَ عَنِ العددِ
الزوجِيِّ، لكنَّهُ داخلٌ فِي قولِهِ: (وَلاَ أَدْنَى مِن ذلِكَ): الأدنى
من ثلاثةٍ اثنانِ، (وَلاَ أَكْثَرَ) مِنْ خمسةٍ، ستةٍ فمَا فوق.
مَا من اثنينِ فأكثرَ يتناجيانِ بأيِّ مكانٍ مِنَ الأرضِ، إِلَّا واللَّهُ عزَّ وجلَّ مَعَهم.
وهذِهِ المعيةُ عامَّةٌ، لأنَّها تشملُ كُلَّ
أحدٍ: المؤمنِ، والكافرِ، والبَرِّ، والفاجرِ، ومقتضاها الإحاطةُ بِهم
علماً وقدرةً، وسمعاً وبصراً، وسلطاناً وتدبيراً، وغير ذلِكَ.
وقولُهُ: (ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ
يَوْمَ الْقِياَمَةِ)، يعني: أنَّ هذِهِ المعيَّةَ تقتضي إحصاءَ مَا
عملُوه، فَإِذَا كَانَ يومُ القيامةِ، نبَّأَهم بمَا عملوا، يعني: أخبرَهم
بهِ وحاسبَهُم عَلَيْهِِ؛ لأنَّ المرادَ بالإنباءِ لازمهُ، وهُوَ
المحاسبةُ، لكنْ إنْ كانوا مؤمنينَ، فإنَّ اللَّهَ تَعَالَى يحصِي
أعمالَهم، ثُمَّ يقولُ: ((سَتَرتُها عَلَيْكَ فِي الدُّنْيا، وَأَنا
أَغْفِرُها لَكَ اليَوْمَ)).
وقولُهُ عزَّ وجلَّ: (إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ): كُلُّ شيءٍ موجودٌ أوْ معدومٌ، جائزٌ أوْ واجبٌ أوْ
ممتنعٌ، كُلُّ شيءٍ، فاللَّهُ عليمٌ به.
وقدْ سبقَ لنَا الكلامُ عَلَى صفةِ العلمِ، وأنَّ
علمَ اللَّهِ يتعلَّقُ بكُلِّ شيءٍ، حَتَّى بالواجبِ والمستحيلِ،
والصَّغيرِ والكبيرِ، والظَّاهرِ والخفيِّ.
الآيةُ الثَّالثةُ: قولُهُ: (لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) [التوبة: 40].
الخطابُ لأبي بكرٍ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (إِلَّا تَنصُرُوهُ
فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِي
اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ
إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) [التوبة: 40]:
أَوَّلاً: نصرَهُ حينَ الإخراجِ و(إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ).
ثانياً: وعندَ المكثِ فِي الغار (إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ).
ثالثاً: عندَ الشدةِ، حينمَا وقفَ المشركونَ عَلَى فمِ الغارِ: (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ).
فهذِهِ ثلاثةُ مواقعَ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا نصرَه لنبِّيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَهَذَا الثَّالثُ، حينَ وقفَ المشركونَ
عَلَيْهِم، يقول أبو بكرٍ: ((يَا رَسُول اللَّه! لَوْ نَظَرَ أَحَدُهم إِلى
قَدَمِهِ، لأَبْصَرَنا))، يعني: إننا عَلَى خطرٍ، كقولِ أصحابِ موسى لمَا
وصلُوا إِلَى البحرِ: (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) [الشعراء: 16]، فَقَالَ:
(كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّى سَيَهْدِينِ) [الشعراء: 62]، وهُنا قَالَ
النَّبيُّ صلى اللَّه عَلَيْهِ وسَلَّمَ لأبي بكرٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ:
(لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَناَ). فطمأَنَه، وأدخلَ الأمنَ فِي
نَفْسِه، وعللَّ ذلِكَ بقولِهِ: (إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا).
وقولُهُ هنا: (لاَ تَحْزَنْ): نَهْيٌّ يشملُ الَهمَّ ممَا وقعَ ومَا سيقعُ، فَهُوَ صالحٌ للماضِي والمستقبلِ.
والحزنُ: تألُّمُ النَفْسِ وشدةُ همِّها.
(إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا): وهذِهِ المعيَّةُ
خاصَّةٌ، مقيَّدةٌ بالنَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبي
بكرٍ، وتقتضِي مَعَ الإحاطةِ الَّتِي هِيَ المعيَّةُ العامَّةُ النَّصرَ
والتأييدَ.
وَلِهَذَا وقفَتْ قريشُ عَلَى الغارِ، ولَمْ يبصرُوهما! أعمى اللَّهُ أبصارَهم.
وأمَّا قولُ مِنْ قالَ: فجاءَتِ العنكبوتُ
فنسجَتْ عَلَى بابِ الغارِ، والحمامةُ وقعَتْ عَلَى بابِ الغارِ، فلَمَّا
جاءَ المشركونَ، وإِذَا عَلَى الغارِ حمامةٌ وعشُّ عنكبوتٍ، فَقَالَوا:
لَيْسَ فِيهِ أحدٌ، فانصرِفوا. فهَذَا باطلٌ!!
الحمايةُ الإلَهِيَةُ والآيةُ البالغةُ أنْ يكونَ
الغارُ مفتوحاً صافياً، لَيْسَ فِيهِ مانعٌ حسِيٌّ، ومَعَ ذلِكَ لاَ
يرُونَ مَنْ فِيهِ، هذِهِ هِيَ الآيةُ!! أمَّا أنْ تأتيَ حمامةٌ وعنكبوتٌ
تعشّشُ، فهَذَا بعيدٌ، وخلافُ قولِهِ: (لو نظرَ أحدُهم إِلَى قدمهِ،
لأبصرَنا)).
المهمُّ أنَّ بعضَ المؤرخينَ –عفا اللَّهُ عَنْهم- يأتونَ بأشياءَ غريبةٍ شاذةٍ منكرةٍ لاَ يقبلَهُا العقلُ ولاَ يصحُّ بها النَّقلُ.
الآيةُ الرَّابعةُ: قولُهُ: (إِنَّنِى مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) [طه: 46].
هَذَا الخطابُ لموسى وهارونَ، لمَا أمَرَهُم
اللَّهُ عزَّ وجلَّ أنْ يذهبا إِلَى فرعونَ، قالَ: (اذْهَبَا إِلَى
فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى، فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّنَاً لَّعَلَّهُ
يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى، قَالاَ رَبَّنَا إِنَّنَا نَخاَفُ أَن يَفْرُطَ
عَلَيْنَا أَوْ أن يَطْغَى، قَالَ لاَ تَخَافَا إِنَّنِى مَعَكُمَا
أَسْمَعُ وَأَرَى) [طه: 43-46].
فقولُهُ: (أَسْمَعُ وَأَرَى): جملةٌ استئنافيةٌ
لبيانِ مقتضَى هذِهِ المعيةِ الخاصَّةِ، وَهُوَ السَّمعُ والرؤيةُ، وَهَذَا
سمعٌ ورؤيةٌ خاصَّانِ، تقتضيانِ النَّصرَ والتأييدَ والحمايةَ مِنْ فرعونَ
الَّذِي قالاَ عَنْه: (إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أن
يَطْغَى).
الآيةُ الخامسةُ: قولِهِ: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ) [النحل: 128].
هذِهِ جاءَتْ بعدَ قولِهِ: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ
فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهوَ
خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ، وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلاَ
تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِى ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ) [النحل:
126-127].
عقوبةُ الجانِي بمثلِ مَا عوقبَ بهِ مِنْ بابِ
التقوى، وبأكثرِ ظلمٍ وعدوانٍ، والعفو إحسانٌ، وَلِهَذَا قالَ: (إِنَّ
اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ).
والمعيةُ هُنا خاصَّةٌ مقيدةٌ بصفةٍ: كُلُّ مَنْ كَانَ مِنَ المتقين المحسنين، فاللَّهُ مَعَهُ.
وَهَذَا يثمرُ لنَا بالنِّسبةِ للحالةِ
المسلكيَّةِ: الحرصَ عَلَى الإحسانِ والتقوى، فإنَّ كُلَّ إنسانٍ يحبُّ أنْ
يكونَ اللَّهُ معَهَ.
الآيةُ السَّادسةُ: قولُهُ: (وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال: 46].
سبقَ لنَا أنَّ الصبرَ حبسُ النَفْسِ عَلَى طاعِة
اللَّهِ، وحبسُها عَنْ معصيةِ اللَّهِ، وحبسُها عن التَّسخُّطِ عَلَى
أقدارِ اللَّهِ، سواءٌ باللِّسانِ أوْ بالقلبِ أوْ بالجوارحِ.
وأفضلُ أنواعِ الصبرِ: الصبرِ عَلَى طاعةِ
اللَّهِ، ثُمَّ عَنْ معصيةِ اللَّهِ؛ لأنَّ فِيهِمَا اختياراً: إنْ شاءَ
الإنسانُ فعلَ المأمورَ، وإنْ شاءَ لَمْ يفعلْ، وإنْ شاءَ تركَ المحرَّمَ
وإنْ شاءَ مَا تركَه، ثُمَّ عَلَى أقدارِ اللَّهِ؛ لأنَّ أقدارَ اللَّهِ
واقعةٌ شِئْتَ أمْ أبَيْتَ، فإمّا أنْ تصبرَ صبرَ الكرامِ، وإمَا أنْ تسلوَ
سلوَ البهائِم.
والصبرُ درجةٌ عاليةٌ لاَ تُنالُ إِلَّا بشيءٍ
يصبرُ عَلَيْهِ، أمَّا مَنْ فُرِشَتْ لَهُ الأرضُ وروداً، وصارَ النَّاسُ
ينظرونَ إِلَى مَا يريدُ، فإنَّه لاَ بدَّ أنْ ينالَهُ شيءٌ مِنَ التعبِ
النَفْسِي أو البدنِيِّ الداخلِيِّ أو الخارجِيِّ.
وَلِهَذَا جَمَعَ اللَّهُ لنبيِّه عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ بينَ الشُّكرِ والصبرِ.
فالشكرُ، كَانَ يقومُ حَتَّى تتورمَ قدماه، فيقولُ: ((أَفَلاَ أَكونُ عَبْداً شَكُوراً؟)).
والصبرُ: صبرٌ عَلَى مَا أُوذي، فَقَدْ أُوذي مِنْ قومِهِ ومِنْ غيرِهم مِنَ اليهودِ والمنافقينَ، ومَعَ ذلِكَ، فَهُوَ صابرٌ.
الآيةُ السَّابعةُ: قولُهُ: (كَم مِّن فِئَةٍ
قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ
الصَّابِرِينَ) [البقرة: 249].
(كَم): خبريَّةٌ، تفيدُ التَّكثيرَ، يعنِي: فئةً
قليلةً غلبَتْ فئةً كثيرةً عدَّةَ مراتٍ، أوْ فئاتٍ قليلةً متعددةً، غلبَتْ
فئاتٍ كثيرةً متعددةً، لكنْ لاَ بحولِهم ولاَ بقوَّتِهم، بَلْ بإذنِ
اللَّهِ، أيْ: بإرادتهِ وقدرتهِ.
ومِنْ ذلِكَ: أصحابُ طالوتَ غلبوا عدوَّهم وكانوا كثيرينَ.
ومِنْ ذلِكَ: أصحابُ بدرٍ غلبوا قريشاً وهُم كثيرونَ.
أصحابُ بدرٍ خرجوا لغيرِ قتالٍ، بَلْ لأخذِ عيرِ
أبي سفيانَ، وأبو سفيانَ لمَا علِمَ بِهِم، أرسلَ صارخاً إِلَى أهلِ مكَّةَ
يقولُ: أنقذوا عيرَكم، محمَّدٌ وأصحابهُ خرجوا إلينا يريدونَ أخذَ العيرِ.
والعيرُ فِيهَا أرزاقٌ كثيرةٌ لقريشٍ، فخرجَتْ قريشٌ بأشرافِها وأعيانِها،
وخيلائِها وبطرِها، يظهرُونَ القُوَّةَ والفخرَ والعزَّةَ، حَتَّى قَالَ
أبو جهلٍ: واللَّهِ، لاَ نرجعُ حَتَّى نقدمَ بدراً، فنقيمُ فِيهَا ثلاثاً،
ننحرُ الجزورَ، ونسقِي الخمورَ، وتعزفُ علينا القيانُ، وتسمعُ بنا العربُ،
فلاَ يزالونَ يهابونَنا أبداً.
فالحمدُ لِلَّهِ، غَنَّوا عَلَى قتلِه هُوَ ومَنْ مَعَه!
كَانَ هؤلاءِ القومُ مَا بين تسعمائةٍ وألفٍ،
كُلَّ يومٍ ينحرُونَ مِنَ الإبلِ تسعاً إِلَى عشرٍ، والنَّبيُّ عليْهِ
الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ هُوَ وأصحابهُ ثلاثَمِائَةٍ وأربعةَ عشْرةَ رجلاً،
مَعَهُم سبعونَ بعيراً وفرسان فَقَطْ يتعاقبونهَا، ومَعَ ذلِكَ قتلوا
الصناديدَ العظماءَ لقريشٍ حَتَّى جِيفوا وانتفخُوا مِنَ الشَّمسِ، وسُحبوا
إِلَى قليبٍ مِنْ قلبِ بدرٍ خبيثةٍ.
فـ(كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً
كَثِيرَةَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِريِنَ)؛ لأنَّ الفئةَ
القليلةَ صبرَتْ، (وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِريِنَ) صبرَتْ كُلَّ أنواعِ
الصبرِ، عَلَى طاعةِ اللَّهِ، وعن معصيةِ اللَّهِ، وعَلَى مَا أصابهَا مِنَ
الجهدِ والتَّعبِ والمشقةِ فِي تحمِّلِ أعباءِ الجهادِ، (وَاللَّهُ مَعَ
الصَّابِريِنَ).
انتهَتْ آياتُ المعيةِ، وسيأتِي للمؤلِّفِ رحمَه اللَّهُ فصلٌ كاملٌ فِي تقريرِها.
فمَا هِيَ الثمراتُ الَّتِي نستفيدُها بأنَّ اللَّهَ مَعَنا؟
أَوَّلاً: الإيمانُ بإحاطةِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ
بكُلِّ شيءٍ، وأنَّهُ مَعَ علُوّه فَهُوَ مَعَ خلقِه، لاَ يغيبُ عَنْهُ
شيءٌ مِنْ أحوالِهم أبداً.
ثانياً: أنَّنَا إِذَا عَلِمْنا ذلِكَ وآمَنَّا
بهِ، فإنَّ ذلِكَ يوجبُ لنا كمالَ مراقبَتهِ بالقيامِ بطاعتهِ وتركِ
معصيتهِ، بحَيْثُ لاَ يفقدُنا حَيْثُ أمرَنا، ولاَ يجدُنا حَيْثُ نهَانا،
وهذِهِ ثمرةٌ عظيمةٌ لِمَنْ آمنَ بهذِهِ المعيةِ).
التنبيهات اللطيفة فيما احتوت عليه الواسطية من المباحث المنيفة لابن سعدي رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وقوله: (هُوَ
الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ
اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ
مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ
مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [الحديد: 4].
وقوله: (مَا
يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ
إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ
هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [المجادلة: 7].
وقوله: (لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) [التوبة: 40]. وقوله: (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) [طه: 46]. (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ) [النحل: 128]. (وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال: 46]. (كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة: 249].([1]) ).
الشرح:
قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): (([1]) ومن أصول أهل السُّنة والجماعة إثبات معية الله كقوله تعالى: (مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ) وهذه المعية تدل على إحاطة علمه بالعباد ومجازاته لهم بأعمالهم. وفيها ذكر المعيّة الخاصة كقوله (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) (لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) وهذه الآيات تدل مع العلم المحيط على العناية بمن تعلقت به تلك المعية وأن الله معهم بعونه وحفظه وكلاءته وتوفيقه. وإذا أردت أن تعرف هل المراد المعية العامة أو الخاصة فانظر إلى سياق الآيات، فإن كان المقام مقام تخويف ومحاسبة للعباد على أعمالهم، وحثّ على المراقبة، فإن المعية عامة، مثل قوله: (مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ) الآية، وإن كان المقام مقام لطف وعناية من الله بأنبيائه وأصفيائه، وقد رتبت المعية على الاتصاف بالأوصاف الحميدة، فإن المعية معية خاصة، وهو أغلب إطلاقاتها في القرآن مثل: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِين) (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) ونحوها).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ: صالح بن فوزان الفوزان
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): ((
هُوَ الَّذي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ في سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ
اسْتَوَى عَلى العَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ في الأَرْضِ ومَا يَخْرُجُ
مِنْها وَمَا يَنْزِلُ مِن السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ
مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ )، وقَوْلُهُ: (
مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا
خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ
إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا
عَمِلُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ )، ( لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا )، وقَوْلُهُ: (
إِنَّني مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى )، ( إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ
اتَّقَوْا وَالَّذينَ هُمْ مُحْسِنُونَ )، ( وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ
الصَّابِرِينَ )، ( كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثيرةً
بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ).(1)).
الشرح:
قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: ((1)قولُه تعالى: (هُوَ الَّذي خَلَقَ السَّماواتِ ـ إلى قولِه ـ وَمَا يَعْرُجُ فِيها) تقدَّم تفسيرُه. وقولُه: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ)
أي هو معكم بعِلْمِه رقيبٌ عليكم شَهيدٌ عَلى أعمالِكم، حيثُ كنتم وأين
كنتم في برٍّ أو بحرٍ في ليلٍ أو نهارٍ في البيوتِ أو القِفَارِ، الجميعُ
في علمِه عَلى السَّواءِ وتحت سمعِه وبصرِه. يسمعُ كَلامَكم ويرى مكانَكم،
وهذا مَحَلُّ الشَّاهدِ مِن الآيةِ الكريمةِ ففيه إثباتُ المعيّةِ العامّةِ
(وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) لا يخفى عليه شيءٌ مِن أعمالِكم.
وقولُه تعالى: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاَثةٍ)
النَّجوى السِّرُّ، والمعنَى: ما يُوجَدُ مِن تَنَاجي ثلاثةٍ (إِلاَّ هُوَ
رَابِعُهُم وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ) أي جاعلُهم أربعةً
وجاعلُهم سِتَّةً، مِن حيثُ إنَّه سبحانَه يشاركُهُم في الاطِّلاعِ عَلى
تلك النَّجوى، وتخصيصُ هذيْنِ العدديْنِ بالذِّكرِ؛ لأنَّ أغلبَعاداتِ
المتناجِينَ أَن يكونوا ثلاثةً أو خمسةً، أو أنَّ سببَ النُّزولِ تناجِي
ثلاثةٍ في واقعةٍ وخمسةٍفي واقعةٍ أخرى.وإلاّ فهوسبحانَه مع كُلِّ عددٍ،
قَلَّ أو كَثُر، ولهذا قال تعالى: (وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ) أي: ولا أقلَّ مِن العددِ المذكورِ كالوَاحدِ والاثنيْنِ، ولا أكثرَ منه كالسِّتَّةِ والسَّبعَةِ (إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ) بعلمِه يعلمُ ما يتناجَوْن به ولا يخفى عليه شيءٌ منه.
قال المفسِّرونَ:
إنَّ المنافقين واليهودَ كانوا يتناجوْن فيما بينهم، ويُوهمون المؤمنينَ
أنَّهم يتناجوْن فيما يسُوؤهم، فيحزنون لذلك، فلما طال ذلك وكَثُر؛ شكَوْا
إلى رسولِ الله صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ فأمرهم أَن لا يتناجوْا دون
المسلمين، فلم ينتهوا عن ذلك وعادوا إلى مناجاتِهم، فأنزل اللهُ هذه
الآياتِ.
وقولُه تعالى: (أَيْنَمَا كَانُوا) معناه إحاطةُ علمِه سبحانَه بكُلِّ تَنَاجٍ يَقعُ منهم في أيِّ مَكانٍ (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ) أي يخبرُهم سبحانَه (بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامةِ) ويُجَازِيهم عَلى ذلك، وفي هذا تهديدٌ لهم وتوبيخٌ (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) لا يخفى عليه شيْءٌ.
والشَّاهدُ مِن الآيةِ: أنَّ فيها إثباتَ معيّةِ اللهِ لخلقهِ، وهي معيّةٌ عامَّةٌ مقتضاها الإحاطَةُ والعلمُ بجميعِ أعمالِهم، ولهذا يقولُ الإمامُ أحمدُ رحمه اللهُ: افتتحَ الآيةَ بالعِلْمِ واختتمها بالعِلْمِ.
وقولُه تعالى: (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا)
هذا خطابٌ مِن النَّبيِّ صَلى اللهُ عَلَيْه وَسَلمَ لصاحبِه أبي
بكرٍ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حينما كانا في الغارِ وقتَ الهجرةِ، وقد لحِقَ
بهما المشركون، فَحَزِنَ أبو بكرٍ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، خَوفًا عَلى
النبَّيِّ صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ مِن أذى الكُفَّارِ، فقال له
النَّبيُّ صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ (لاَ تَحْزَنْ) أي دَعِ الحزْنَ
(إِنَّ اللهَ مَعَنَا) بنصرِه وعوْنِه وتأييدِه. ومَن كان اللهُ معه فلن
يُغلبَ، ومن لا يُغلبُ لا يحِقُّ له أنْ يحْزَنَ.
والشَّاهدُ مِن الآيةِ: أَنَّ فيها إثباتَ المعيّةِ الخاصّةِ بالمؤمنين التي مقتضاها النَّصْرُ والتَّأييدُ.
وقولُه تعالى لموسى وهارونَ عليهما السَّلامُ: (إِنَّنِي مَعَكُمَا أسْمَعُ وَأَرَى) أي لا تخافا مِن فرعونَ (إِنَّنِي مَعَكُمَا) تعليلٌ للنَّهْيِ أي معكما بالنَّصْرِ لَكُما، والمعونةِ عَلى ِفرعونَ، (أَسْمَعُ) كَلامَكُمَا وكَلامَه (وأرى) مكانَكُما ومكانه، لا يخفى عليَّ مِن أمرِكم شيْءٌ.
والشَّاهدُ مِن الآيةِ:
أنَّ فيها إثباتَ المعيّةِ الخاصّةِ في حَقِّ اللهِ تعالى لأوليائِه
بالنَّصرِ والتَّأييدِ، كما أنَّ فيها إثباتَ السَّمعِ والبصرِ له سبحانَه
وتعالى، وقولُه تعالى: (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذين اتَّقَوْا) أي تركوا المحرماتِ والمعاصيَ عَلى اختلافِ أنواعِهَا (وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)
بتأديةِ الطَّاعاتِ والقيامِ بما أُمروا به، فهو سبحانَه مع هؤلاءِ
بتأييدِه ونصرِه ومعونتِه، وهذه معيَّةٌ خاصَّةٌ هي مَحلُّ الشَّاهدِ مِن
الآيةِ الكريمةِ.
وقولُه: (وَاصْبِروُا)
هذا أمرٌ بالصَّبْرِ وهو حبسُ النَّفْسِ، والمرادُ هنا الصَّبرُ عَلى
شدائدِ الحربِ التي بين المسلمين وبين الكفارِ، ثم علَّل هذا الأمرَ
بقولِه: (إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرينَ) فهو سبحانَه مع الصَّابِرين في كُلِّ أمرٍ ينبغي الصَّبرُ فيه.
والشَّاهدُ مِن الآيةِ الكريمةِ: أنَّ فيها إثباتَ مَعِيَّةِ اللهِ للصَّابرين عَلى طاعتهِ والمجاهدين في سبيلِه، قال الإمامُ الشوكانيُّ: ويا حبذا هذه المعيَّةُ التي لا يَغلِبُ مَن رُزِقَهَا غَالِبٌ، ولا يُؤْتَى صاحبُها مِن جهةٍ مِن الجهاتِ وإن كانت كثيرةً. اهـ
وقولُه تعالى: (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً) الفئةُ: الجَمَاعَةُ والقِطعةُ منهم (بِإذْنِ اللهِ) أي بإرادتِه وقضائِه ومشيئتِه، (وَاللهُ مَعَ الصَّابِرينَ)
هذا محلُّ الشَّاهدِ مِن الآيةِ الكريمةِ وهو إثباتُ مَعيّةِ اللهِ
سبحانَه للصَّابرين عَلى الجهادِ في سبيلهِ، وهي مَعِيَّةٌ خاصَّةٌ مقتضاها
النَّصرُ والتأييدُ.
ما يُستفادُ مِن مجموعِ الآياتِ السَّابقةِ: أفادت إثباتَ المعيّةِ، وأنَّها نوعان:
النَّوعُ الأوَّلُ:
مَعيَّةٌ عامَّةٌ، كما في الآيتيْن الأولييْن، ومقتضى هذه المعيّةِ
إحاطتُه سبحانَه بخلْقِه، وعلمُه بأعمالهِم خيرِها وشرِّها، ومجازاتُهم
عليها.
النَّوعُ الثاني:
معيّةٌ خاصَّةٌ بعبادهِ المؤمنين، ومقتضاها النَّصرُ والتَّأييدُ
والحِفظُ، وهذا النَّوعُ تدلُّ عليه الآياتُ الخمسُ الباقيةُ التي أوردها
المؤلِّفُ رحمه اللهُ. ومعيَّتُه سبحانَه لا تنافي عُلُوَّه عَلى خَلْقِه
واستواءه عَلى عرشِه.فإنَّ قُرْبَهُ سبحانَه ومعيَّتَهُ ليست كقُرْبِ
المخلوقِ ومعيَّةِ المخلوقِ للمخلوقِ: فإنَّه سبحانَه (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)،
ولأنَّ المعيَّةَ: مُطْلَقُ المقارنةِ، لا تقتضي مُماسَّةً ولا مُحاذاةً.
تقولُ العربُ: مازلنا نمشي والقمرُ مَعَنا، مع أنَّه فوقَهم والمسافةُ
بينهم وبينه بعيدةٌ. فَعُلُوُّ اللهِ جلَّ جلالُه ومعيَّتُه لخلقِه لا
تَنَافي بينهما. وسيأتي لهذا مزيدُ بيانٍ إنْ شاء اللهُ).
الروضة الندية للشيخ: زيد بن عبد العزيز بن فياض رحمه الله
المتن:
قال أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وقوله: { هُوَ الَّذي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ في سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلى العَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ في الأَرْضِ ومَا يَخْرُجُ مِنْها وَمَا يَنْزِلُ مِن السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } ، وقَوْلُهُ :{ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } ، قوله :{ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا } ، { إِنَّني مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } ، { إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذينَ هُمْ مُحْسِنُونَ } ، { وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } ، { كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثيرةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } (1) ).
الشرح:
قال الشيخ زيد بن عبد العزيز بن فياض (ت: 1416هـ): ((1)
فِي هَذِهِ الآيَاتِ إِثْباتُ مَعِيَّةِ اللهِ . لِخلْقِهِ ،
وَالْمَعِيَّةُ الْوَارِدَةُ فِي الْكِتَابِ والسُّنَّةِ نَوْعانِ :
مَعِيَّةٌ عَامَّةٌ ومِن مُقْتَضَاها الْعِلْمُ وَالإحَاطةُ والاطِّلاعُ ، قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُه فِي آيةِ الُمَجَادَلَةِ : اْبتَدَأَهَا بالْعِلْمِ وَخَتَمها به حَيْثُ قَالَ :{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } . ثم قَالَ فِي آخِرِها :{ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } .
والنَّوعُ الثَّانِي
مِن الْمَعِيَّةِ الْمَعِيَّةُ الخَاصَّةُ ومِن مُقْتضَاها النَّصْرُ
والتَّأْييدُ والتَّوفِيقُ ونحوُ ذَلِكَ . وهِيَ الْمَذْكُورةُ فِي مِثلِ
قَوْلِه تَعَالَى :{ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } فهَذِهِ الْمَعِيَّةُ المَذْكُورةُ فِي قَوْلِه تَعَالَى :{ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ } الآيةَ وقَوْلهِ :{ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِن اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ }
فإِنَّ هَذِهِ الْمَعِيَّةَ تَقْتَضِي عِلْمَه ، وَاطِّلاعَهُ ،
وَمُراقَبَتَهُ لأعْمَالِهم . فهِيَ مُقْتضِيةٌ لِتَخْويفِ العِبَادِ
مِنْهُ ، والْمَعِيَّةُ الأْولىَ تَقْتَضِي حِفْظَه وَحِياطَتَهُ
وَنَصْرَهُ ، وَمَعِيَّتُهُ سُبْحَانَهُ لا تُنافِي عُلُوَّه واسْتِواءَه
عَلَى عَرْشِه ، وَمُبَاينَتَهُ لِخَلْقِه .
(( ولَيْس فِي ظَاهِرِ قَوْلِه :{ وَهُوَ مَعَكُمْ }
وَنَحْوِها ولا فِي حَقيقَتِها : أَنَّه مُختَلِطٌ بالْمَخْلوقاتِ
مُمْتزِجٌ بِهَا . ولاَ تَدُلُّ لَفْظَةُ (( مَعَ )) عَلَى هذا بِوجْهٍ مِن
الوُجوهِ . فَضْلاً عنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ حَقِيقةَ اللَّفظِ ومَوْضُوعَهُ
. فإِنَّ (( مَعَ )) فِي كلامِ العَربِ للصُّحْبةِ اللاَّئِقَةِ ، وهِيَ
تَختِلفُ باخْتلافِ مُتعلَّقاتِها وَمَصْحُوبِها ؛ فَكَوْنُ نَفْسِ
الإِنْسَانِ ( مَعَهُ ) لَوْنٌ . وَكَوْنُ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ
وَقُوَّتِهِ مَعَهُ لَوْنٌ . وكَوْنُ زَوْجَتِهِ مَعَهُ لَوْنٌ ، وكَوْن
أمِيرِهِ وَرَئِيسِه مَعَهُ لَونٌ وكَوْنُ مَالِه مَعَهُ لَوْنٌ .
فَالْمَعِيَّةُ ثَابِتَةٌ فِي هذا كُلِّه مَع تَنَوُّعِها واخْتِلاَفِها
فَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ : زَوْجَتُه مَعَهُ وبَيْنَهما شُقَّةٌ بَعِيدةٌ .
وكذَلِكَ يُقَالُ مع فُلانٍ دَارُ كذا ، وَضَيْعَةُ كذا . فَتَأَمَّلْ
نُصوصَ الْمَعِيَّةِ فِي الْقُرْآنِ كقَوْلِه تَعَالَى :{ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } وقَوْله :{
وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ } { وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ } {
وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ } { فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ
} { وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } {فَلَمَّا
جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنواْ مَعَهُ } { وَالَّذِينَ آمَنواْ مَعَهُ
نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } { فَاكْتُبْنَا مَعَ
الشَّاهِدِينَ } { فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُمْ مَّعَكَ } { وَنَطْمَعُ
أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ } وأضعافِ
ذَلِكَ . هل يَقْتَضِي مَوضِعٌ وَاحِدٌ منها مُخالَطَةً فِي الذَّواتِ
الْتِصَاقاً وَامْتِزَاجاً ؟ فكيفَ تكُونُ حَقِيقةُ الْمَعِيَّةِ فِي حقِّ
الرَّبِّ تَعَالَى كذَلِكَ حتى يُدَّعى أَنَّه مَجَازٌ لاَ حَقِيقَةٌ .
فلَيْسَ فِي ذَلِكَ ما يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَاتَهُ تَعَالَى فيهم ، ولا
مُلاَصِقَةٌ لهم ، ولاَ مُخَالِطَةٌ ، ولا مُجاوِرةٌ بِوَجْهٍ مِن الوُجوهِ
. وغَايةُ ما تَدُلُّ عَلَيْهِ ( مَعَ ) الْمُصاحبةُ والمُوافَقَةُ
والمُقارَنَةُ فِي أمْرٍ مِن الأُمُورِ . وهذا الاقْتِرانُ فِي كُلِّ
مَوْضِعٍ بِحَسْبِهِ يَلزمُه لَوازِمُ بِحَسَبِ مُتَعَلِّقِهِ . فإِذَا
قِيلَ : اللهُ مع خَلْقِه بِطريقِ العُمومِ كَانَ مِن لوازمِ ذَلِكَ
عِلْمُه بهم ، وَتَدْبِيرُه لهم وَقُدْرَتُه عليهم .
وإذا كَانَ ذَلِكَ خَاصاًّ كقَوْلِه :{ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ } كَانَ مِن لوازمِ ذَلِكَ مَعِيَّتُه لهم بالنُّصْرةِ والتَّأْييدِ والْمَعُونةِ فَمَعِيَّةُ اللهِ مع عَبْدِه نَوْعانِ :
عَامَّةٌ وخَاصَّةٌ .
وقد اشْتَمَلَ
الْقُرْآنُ عَلَى النَّوْعينِ . ولَيْسَ ذَلِكَ بِطريقِ الاِشْتِراكِ
اللَّفظيِّ . بل حَقِيقتُها ما تَقدَّمَ مِن الصُّحْبَةِ اللاَّئِقَةِ .
وقد أخْبرَ اللهُ تَعَالَى أَنَّه مع خَلْقِه . مع كَوْنِه مُستَوِياً
عَلَى عَرْشِهِ . وَقَرَنَ بينَ الأمْرَينِ كما قَالَ تَعَالَى :{
هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ
اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا
يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِن السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا
وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }
فأخْبَرَ أَنَّه خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرْضَ وأَنَّه اسْتَوى عَلَى
العرْشِ وأَنَّه مَعَ خَلْقِه يُبْصِرُ أعْمَالَهُم مِن فوقِ عَرْشِه .
فَعُلُوُّه لا يُناقِضُ مَعِيَّتَهُ ، وَمَعِيَّتُه لا تُبْطِلُ عُلُوَّه .
بل كِلاَهُمَا حَقٌّ .
فمِن الْمَعِيَّةِ الخَاصَّةِ قَوْلُه :{ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } { وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } ومِن العَامَّةِ قَوْلُه :{ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ }
الآيةَ . فَنَبَّه سُبْحَانَهُ بالثَّلاثَةِ عَلَى العَدَدِ الذي يجمَعُ
الشَّفعَ وَالوِتْرَ ولا يُمكِّنُ أهْلَه أنْ يَنْقَسِموا فِي النَّجْوى
قِسمينِ ونَبَّهَ بالخَمْسَةِ عَلَى العَدَدِ الَّذِي يَجْمَعُهما .
ويُمَكِّنُ أهْلَه أَنْ يَنْقَسِموا فيها قِسْمَينِ ، فيَكُونُ مَعَ كُلِّ
العَددَينِ فَالمُشْتركِونَ فِي النَّجْوى : إِمَّا شَفْعٌ فَقَطْ . أو
وِتْرٌ فَقَطْ أو كِلاَ الْقِسْمينِ . وأقَلُّ أقسامِ الوِتْرِ
المُتَناجِينَ ثَلاَثةٌ وَأَقَلُّ أَنْواعِ الشَّفعِ اثْنَانِ .
وأقَلُّ أقْسامِ
النَّوعَينِ إذا اجْتَمَعا خَمْسةٌ فَذَكَرَ أَدْنَى مَرَاتِبِ طَائِفَةِ
الوِتْرِ وَأَدْنَى مَرَاتِبِ النَّوْعَينِ إذا اجْتَمَعا . ثُمَّ ذَكَرَ
مَعِيَّتَهُ العَامَّةَ لِمَا هُوَ أدْنى مِن ذَلِكَ أو أكْثَرُ .
وَتَأَمَّلْ كَيْفَ جَعَلَ نَفْسَهُ رَابِعَ الثَّلاثَةِ وَسَادِسَ
الْخَمسَةِ . إذ هُوَ غَيْرُهم سُبْحَانَهُ بالحَقِيقةِ . لا يَجْتمعُونَ
مَعَهُ فِي جِنْسٍ ، ولا فَصْلٍ ، وقَالَ :{ لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ }
فإِنَّهم سَاوَوْا بَيْنَه وبينَ الاثْنَيْنِ فِي الإلَهِيَّةِ :
والْعَربُ تَقولُ : رَابِعُ أرْبَعةٍ ، وَخَامِسُ خَمْسَةٍ ، وَثَالِثُ
ثَلاَثةٍ لِمَا يَكُونُ فِي المُضافِ إليه مِن جِنْسِ المُضافِ كما قَالَ
تَعَالَى :{ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ }
رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ وَصَدِيقُه ، فإِنْ كَانَ مِن
غيرِ جِنْسِه قَالُوا : رَابِعُ ثَلاثةٍ وَخَامِسُ أَرْبعةٍ ، وَسَادِسُ
خَمْسةٍ . وقَالَ تَعَالَى فِي الْمَعِيَّةِ الْخَاصَّةِ لمُوسَى وأَخِيه :{ إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } ، وقَالَ فِي العَامَّةِ :{ فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُونَ }
فَتَأَمَّلْ كيفَ أفْردَ ضَميرَ نَفْسِه حَيْثُ أفْرَدَ مُوسَى وأخَاهُ
عَن فِرعونَ ، وكيفَ جمَعَ الضَّمِيرَ لمَّا أدْخَلَ فِرعونَ مَعهما فِي
الذِّكْرِ فَجَعَلَ الخَاصَّ مَعَ الْمَعِيَّةِ الْخَاصَّةِ ، والعامَّ
مَعَ العامَّةِ )) ).
التنبيهات السنية للشيخ: عبد العزيز بن ناصر الرشيد رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وقوله تعالى: (
هُوَ الَّذي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ في سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ
اسْتَوَى عَلى العَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ في الأَرْضِ ومَا يَخْرُجُ
مِنْها وَمَا يَنْزِلُ مِن السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ
مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ).(1)
وقَوْلُهُ: (
مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا
خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ
إِلاَّ هُوَ مَعَُهمْ أَيْنَمَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا
عَمِلُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ).(2)
وقوله ( لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا )، وقَوْلُهُ: ( إِنَّني مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى )، ( إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذينَ هُمْ مُحْسِنُونَ).(3)
وقوله ( وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ )، وقوله تعالى ( كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيْلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثيرةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)).
الشرح:
قال الشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد (ت: 1408هـ): ((1) قَولُهُ: (هُوَ الَّذي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ في سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلى العَرْشِ) فيه إثباتُ الأفعالِ الاختياريـَّةِ للرَّبِّ سُبْحَانَهُ، وهي تنقسمُ إلى قسمين:
لازمةٍ كالاستواءِ والمجيءِ والنُّزولِ، ومتعدِّيةٍ كالخلقِ والرِّزقِ
والإحياءِ والإماتةِ ونحوِ ذلك، فهو -سُبْحَانَهُ- موصوفٌ بالنَّوعين وقد
جمعهُما في هذهِ الآيةِ، وفيها بيانُ أنَّ الَخلقَ غيرُ المخلوقِ؛ لأنَّ
نفسَ خلقِه السَّماواتِ والأرضَ غيرُ السَّماواتِ والأرضِ، وفيها دليلٌ على
مُبايَنَةِ الرَّبِّ -سُبْحَانَهُ- لخلقِه، فإنَّه لم يخلقْه في ذاتِه، بل
خلقَهم خارجًا عن ذاتِه، ثمَّ بانَ عنهم باستوائِه على عرشِه، وهو يعلمُ
ما هم عليه فيراهُم وينفذُه بصرُه فيهم ويحيطُ بهم علمًا وقدرةً وإرادةً
وسمعًا وبصرًا، وهذا معنى كونِه معهم أينما كانوا.
قَولُهُ: (وَهُوَ مَعَكُمْ):
أي معكُم بعلمِه، وقد حكى غيرُ واحدٍ الإجماعَ على أنَّ المرادَ بهذه:
معيَّةُ العلمِ ولا شكَّ في إرادةِ ذلك، فعلمهُ بهم وبصرهُ نافِذٌ فيهم،
فهو -سُبْحَانَهُ- مطَّلعٌ على خلقِه لا يغيبُ عنه من أمورِهم شيءٌ، فإنَّ
((معَ)) في لغةِ العربِ لا تقتضي أنْ يكونَ أحدُ الشَّيئينِ مختلطًا
بالآخرِ، كقَولِهِ سُبْحَانَهُ: (اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ)
وجاءت المعيَّـةُ في القرآنِ عامَّةً وخاصَّةً، فالعامَّةُ كما في هذه
الآيةِ، فافتتح الكلامَ بالعلمِ وختمَهُ بالعلمِ، فدلَّ على أنَّه معهم
بالعلمِ، ولهذا قال ابنُ عبَّاسٍ والضَّحَّاكُ وسفيانُ وأحمدُ والثَّوريُّ:
وهو معهم بعلمِه.
أمَّا المعيَّةُ الخاصَّةُ فكقَولِهِ: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)
فهو مع المتَّقينَ دونَ الظَّالمين، فلو كانَ معنى المعيَّةِ أنَّهُ في
كلِّ مكانٍ بذاتِه لتناقضَ الخبرُ الخاصُّ والعامُّ، بل المعنى أنَّه معَ
هؤلاءِ بنصْرِه وحفظِه وتأييده دونَ أولئك.
وقد أخبرَ في هذه
الآيةِ وغيرِها: أنَّهُ -سُبْحَانَهُ- مع خلقِه مع كونِه مستويًا على
عرشِه، وقَرَنَ بين الأمرين كما قالَ سُبْحَانَهُ: ((هُوَ الَّذي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ في سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلى العَرْشِ)
الآية، فأخبر أنَّه اسْتوى على عرشِه وأنَّه معَ خلقه، يُبصِرُ أعمالَهم
من فوقِ عرشِه، كما في حديث الأوعالِ، فعلوُّه -سُبْحَانَهُ- لا يُناقِضُ
معيَّتَه، ومعيَّتُه لا تُبطِلُ عُلُوَّهُ، فكلاهما حقٌّ، فهذه الآيةُ فيها
إثباتُ صفةِ الخلقِ كما تقدَّمَ، وفيها الرَّدُّ على مَنْ زعم قِدَمَ هذهِ
المخلوقاتِ، وأنَّها لم تزلْ ولا تزالُ، وفيها إثباتُ الأفعالِ
الاختياريَّةِ، وفيها أنَّ هذه المخلوقاتِ خُلِقَت في ستَّةِ أيامٍ، وفيها
إثباتُ الاستواءِ، وفيها إثباتُ العرشِ، وفيها دليلٌ على أنَّ الاستواءَ
صفةُ فعلٍ، وفيها دليلٌ على إثباتِ صفةِ العلمِ، ودليلٌ على شمولِ العلمِ
لكلَّ شيءٍ مِن الكُلِّـيَّاتِ والجزئيَّاتِ، وفيها إثباتُ معيَّتِه
-سُبْحَانَهُ- لخلقِه وأنَّها لا تُناقضُ عُلوَّه واستواءَه على العرشِ، بل
كلاهما حقٌّ.
وفيها إشارةٌ إلى النَّدبِ إلى استحضارِ قربِه واطَّلاعِه كما في الحديثِ: ((الإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ)).
(2) قَولُهُ: (مَا يَكُونُ): أي يوجدُ فكانَ تامـَّةٌ.
قَولُهُ: (مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ): النَّجوى إسرارُ ثلاثةٍ، فالنَّجوى الإسرارُ.
قَولُهُ (رَابِعُهُمْ):
لمَّا كان -سُبْحَانَهُ وتعالَى- ليسَ من جنسِ خلْقهِ جعلَ نفسَهُ رابعَ
الثَّلاثةِ وسادسَ الخمسةِ، إذ هو غيرُهم بالحقيقةِ، والعربُ تقولُ: رابعُ
أربعةٍ وخامسُ خمسةٍ لِمَا يكونُ فيه المضافُ إليه من جنسِ المضافِ، فإذا
كان المضافُ إليه من غيرِ جنسِه قالوا رابعُ ثلاثةٍ وسادسُ خمسةٍ ونحوُ
ذلك، أفاده ابنُ القيِّم في (الصَّواعقِ).
قَولُهُ: (إِلاَّ هُوَ مَعَُهمْ):
أي مُطَّلِعٌ عليهم يسمعُ كلامَهم ويعلمُ سرَّهُم ونَجْواهم، ورسلُه مع
ذلك تكتبُ ما يتناجَونَ به مع علمِه وسمعِه، كما قال سُبْحَانَهُ: (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ) قال ابنُ كثيرٍ رحمه اللهُ:
ولهذا حكى غيرُ واحدٍ الإجماعَ على أنَّ المرادَ بهذه الآيةِ مَعِيَّةُ
علمِه سُبْحَانَهُ، ولا شكَّ في إرادةِ ذلك، ولكنَّ سمعَهُ أيضًا مع علمِهِ
بهم، وبصرَهُ نافِذٌ فيهم، فهو -سُبْحَانَهُ- مُطَّلعٌ على خلقِه لا يغيبُ
عنه من أمرِهم شيءٌ.
قَولُهُ: ( ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ): أي يخبرُهم يومَ القيامةِ بجميعِ أعمالِهم، قال تعالى: (وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا).
قَولُهُ: (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ):
قال الإمامُ أحمدُ: افتتحَ الآيةَ بالعلمِ واختَتمها بالعلم، وقال أبو
عمرَ بنُ عبدِ البرِّ رحمه اللهُ: أجمعَ العلماءُ من الصَّحابة والتَّابعين
الَّذين حُملَ عنهم التَّأويلُ – أي تفسيرُ القرآنِ – قالوا في تأويلِ
قَولِهِ: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ ) الآيةَ هو على عرشِه وعلمُه بكلِّ مكانٍ، وما خالفَهُم في ذلك مَن يُحتجُّ بقَولِهِ.
(3) قَولُهُ: (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا): كانَ هذا القولُ عامَ الهجرةِ،
لماَّ هَمَّ المشركونَ بقَتلِ النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- أو
حبسِه أو نفيِه فخرجَ منهم هاربًا صَحِبَهُ صَدِيقُهُ وَصَاحِبُهُ أَبُو
بكرٍ، فلجأ إلى غارِ ثورٍ ثلاثةَ أيامٍ ليَرجعَ الطَّلبُ الَّذين خرجُوا في
آثارِهم ثمَّ يسيرونَ نحوَ المدينةِ، فخافَ أبو بكرٍ على النَّبيِّ -صلَّى
اللهُ عليهِ وسلَّمَ-، فجعلَ النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-
يُسَكِّنُهُ وَيُثَبِّتُهُ وَيَقُولُ: ((مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُما))
كما
رَوى الإمامُ أحمدُ في مسندِه عن أنسٍ أنَّ أبا بكرٍ حدَّثَهُ قالَ: قلتُ
للنَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- ونحَنُ في الغارِ: لَوْ أَنَّ
أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلى قَدَمَيْهِ لأََبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ،
فَقالَ رسولُ الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُما)) أخرجَاه في الصَّحيحينِ، ولذلك قالَ العلماءُ: من أنكرَ صُحبةَ أبي بكرٍ فهو كافرٌ، لإنكارِه كلامَ اللهِ وليسَ ذلك لغيرِ أبي بكرٍ.
قَولُهُ: (لاَ تَحْزَنْ): الحزنُ هو ضدُّ السُّرورِ.
وقَولُهُ: (إِنَّ اللهَ مَعَنَا): أي بِنصرِه وحفظهِ وكلاءَتهِ، ومَن كان اللهُ معه فلا خوفَ عليه.
قَولُهُ: (إِنَّني مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) قد تقدَّم الكلامُ على هذهِ الآيةِ الكريمةِ فارجعْ إليه.
وقَولُهُ: (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذينَ هُمْ مُحْسِنُونَ):
أي معهم بنصرِه وحفظِه وتأييدِه، وهذه معيَّةٌ خاصَّةٌ، وأمَّا المعيَّةُ
العامَّةُ فبالسَّمعِ والبصَرِ والعلمِ كما تقدَّم في قَولِهِ: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ) فهي مقتضيةٌ لتخويفِ العبادِ منه.
قَولُهُ: (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ):
في هذه الآيةِ الأمرُ بالصـَّبرِ وهو دليلٌ على وجوبِه، وهو شاملٌ لأنواعِ
الصـَّبرِ الثَّلاثةِ، فإنَّ حذفَ المعمولِ يُؤذِنُ بالعمومِ.
وقَولُهُ: (إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ): أي بحفظِه ونصرِه وتأييدِه، وهذه معيَّةٌ خاصَّةٌ.
قَولُهُ: (فِئَةٍ): أي جماعةٍ، وهي جمعٌ لا واحدَ له من لفظِه.
قَولُهُ: (بِإِذْنِ اللهِ): أي بقضائِه وإرادته ومشيئتِه.
أفادتْ
هذه الآيةُ -كالآيةِ السَّابقةِ- الحثَّ على الصَّبرِ، وأنَّه أعظمُ سببٍ
في تحصيلِ المقصودِ، وفيه أيضًا المعيَّةُ الخاصَّةُ للصَّابرين، وأنَّ
اللهَ ضمنَ لهم النَّصرَ، وفي حديثِ ابنِ عبَّاسٍ أنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ))
وفيها أنَّ النَّصرَ من عندِ اللهِ -سُبْحَانَهُ- وتعالى، لا عن كثرةِ
عددٍ ولا عُدَّةٍ، وإنَّما تلك أسبابٌ، وقد أمرَ اللهُ -سُبْحَانَهُ
وتعالَى- بتعاطِيها واتَّخاذِها كما قال سُبْحَانَهُ: (وَأَعِدَّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّنْ قُوَّةٍ)
أفادتْ هذه الآياتُ المتقدِّمةُ إثباتَ المعيَّةِ، فالآيتانِ الأُوليانِ
فيهما إثباتُ المعيَّةِ العامَّةِ، والخمسُ الآياتِ الأخيرةُ فيها إثباتُ
المعيَّةِ الخاصَّةِ، ومعيَّتُه -سُبْحَانَهُ- لا تُنافي علوَّه على خلقِه
واستوائِه على عرشِه، بل تجامعُه، فإنَّ قُربَه -سُبْحَانَهُ- ومعيَّتَه
ليست كقربِ المخلوقِ ومعيَّتِهِ (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).
قَولُهُ: (وَهُوَ الَّذي فِي السَّماء إِلَـهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَـهٌ):
أي هو إلهُ ومعبودُ أهلِ السَّماواتِ والأرضِ، كما تقولُ فلانٌ أميرٌ في
خُراسانَ وفي العراقِ، فلا يدلُّ على أنَّه فيهما جميعًا , وكذلك قَولُهُ: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ)
فسَّرهُ أئمَّةُ العلمِ كالإمامِ أحمدَ وغيرِه أنَّه المعبودُ في
السَّماواتِ والأرضِ، فهذه الآياتُ لا تُخالِفُ الآياتِ الَّتي فيها إثباتُ
علوِّه -سُبْحَانَهُ- واستوائِه على عرشِه، بل تُجامعُها، فإنَّ قربَهُ
ومعيَّته كما يليقُ بجلالِه وعظمتِه، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ).