الدروس
course cover
الإيمان بعلو الله جل وعلا على خلقه
17 Aug 2022
17 Aug 2022

4450

0

0

course cover
العقيدة الواسطية

القسم الخامس

الإيمان بعلو الله جل وعلا على خلقه
17 Aug 2022
17 Aug 2022

17 Aug 2022

4450

0

0


0

0

0

0

0

الإيمان بعلو الله جل وعلا على خلقه

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): ( {يا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ}[سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ : 55] ، {بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ}[سُورَةُ النِّسَاءِ : 158] ، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}[سُورَةُ فَاطِرٍ : 10] ، {يا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَـلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَـهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا}[سُورَةُ غَافِرٍ : 36، 37] ، {ءَأَمنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ}[سُورَةُ الْمُلْكِ : 16- 17]).

هيئة الإشراف

#2

16 Dec 2008

شرح العقيدة الواسطية للشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وقولُهُ: (يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) (1) [آل عمران: 55]. (بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) [النساء: 158]. (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر: 10]. (يَا هَمَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ، أسْبَابَ السَّمَاوات فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُهُ كَاذِباً) [غافر: 36-37]. (ءَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِي تَمُورُ، أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ) [الملك: 16-17] ).


الشرح:

قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): ( (1) إثباتُ عُلُوِّ اللَّهِ عَلَى مخلوقاتهِ
(45) ذَكَرَ المؤلِّفُ رحَمَهُ اللَّهُ فِي إثباتِ علُوِّ اللَّهِ عَلَى خلقِهِ ستَّ آياتٍ.
الآيةُ الأولى: قولُهُ: (يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَىَّ) [آل عمران: 55].
الخطابُ لعيسَى ابنِ مريمَ الَّذِي خلقَهُ اللَّهُ مِنْ أمٍّ بلاَ أبٍ، وَلِهَذَا يُنْسَبُ إِلَى أُمِّهِ، فيقالُ: عيسَى ابنُ مريمَ.
يقولُ اللَّهُ: (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ): ذكَرَ العلماءُ فِيهَا ثلاثةَ أقوالٍ:
القولُ الأوَّلُ: (مُتَوَفِّيكَ)، بمعنى: قابضُكَ، ومِنْهُ قولُهُم: تَوَفَّى حقَّه، أيْ: قبَضَهُ.
القولُ الثَّاني: (مُتَوَفِّيكَ): مُنيمُكَ؛ لأنَّ النَّومَ وفاةٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَهُوَ الَّذِى يَتَوَفَّاكُم بِالَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيه لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى) [الأنعام: 60].
القولُ الثَّالثُ: أنَّهُ وفاةُ مَوْتٍ: (مُتَوَفِّيكَ): مميتُكَ، ومِنْهُ قولُهُ تَعَالَى: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا) [الزمر: 42].
والقولُ بأنَّ (مُتَوَفِّيكَ) متوفِّيكَ بمعنى مميتُكَ بعيدٌ؛ لأنَّ عيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ لَمْ يَمُتْ، وسينزلُ فِي آخرِ الزَّمانِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَبِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) [النساء: 159]، أيْ: قبلَ موتِ عيسَى عَلَى أحدِ القولينِ، وذلِكَ إِذَا نَزَلَ فِي آخرِ الزَّمانِ. وقِيلَ: قبلَ موتِ الواحدِ، يعني: مَا مِنْ أحدٍ مِنْ أهلِ الكتابِ إِلَّا إِذَا حضرَتْه الوفاةُ، آمَنَ بعيسَى، حَتَّى وإنْ كَانَ يهوديًّا. وَهَذَا القولُ ضعيفٌ.
بَقِيَ النظرُ بينَ وفاةِ القبضِ، ووفاةِ النَّومِ، فنقولُ: إنَّهُ يمكنُ أنْ يجمعَ بَيْنَهما، فيكونُ قابضاً لَهُ حالَ نومِه، أيْ أنَّ اللَّهَ تَعَالَى ألقى عَلَيْهِ النَّومَ، ثُمَّ رفعَه، ولاَ منافاةَ بينَ الأمرَيْن.
قولُهُ: (وَرَافِعُكَ إِلَىَّ): الشَّاهِدُ هنا، فإنَّ (إِلَىَّ) تفيدُ الغايةَ، وقولُهُ: (وَرَافِعُكَ إِلَىَّ): يدلُّ عَلَى أنَّ المرفوعَ إِلَيْهِ كَانَ عالياً، وَهَذَا يدلُّ عَلَى علُو اللَّهِ عزَّ وجلَّ.
فلَوْ قَالَ قائلٌ: المرادُ: رافِعُكَ منزلةً، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالأَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) [آل عمران: 45].
قلْنا: هَذَا لاَ يستقيمُ؛ لأنَّ الرَّفعَ هُنَا عُدِّيَ بحرفٍ يختصُّ بالرفعِ الَّذِي هُوَ الفوقيَّةُ، رفعُ الجسدِ، وليسَ رفعُ المنزلةِ.
واعلَمْ أنَّ علوَّ اللَّهِ عزَّ وجلَّ ينقسمُ إِلَى قسمينِ: علُوٌّ معنويٌّ، وعلُوٌّ ذاتيٌّ:
1-أمَّا العلوُّ المعنويُّ، فَهُوَ ثابتٌ لِلَّهِ بإجماعِ أهلِ القبلةِ، أيْ: بالإجماعِ مِنْ أهلِ البدعِ وأهلِ السُّنَّةِ، كلِّهم يؤمنونَ بأنَّ اللَّهَ تَعَالَى عالٍ علوًّا معنويًّا.
2-وأمَّا العلوُّ الذَّاتِيُّ، فيثبتُه أهلُ السُّنَّةِ، ولاَ يُثبتُه أهلُ البدعةِ، يقولوُنَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى ليسَ عالياً علوًّا ذاتيًّا.
فنبدأُ أَوَّلاً بأدِلَّةِ أهلِ السُّنَّةِ عَلَى عُلوِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الذِّاتِيِّ، فنقولُ:
إنَّ أهلَ السُّنَّةِ استدلُّوا عَلَى علو اللَّهِ تَعَالَى علوّاً ذاتيًّا بالكتابِ والسُّنَّةِ والإجماعِ والعقلِ والفطرةِ:
أَوَّلاً: فالكتابُ تنوعَتْ دلالتهُ عَلَى علُوِّ اللَّهِ، فتارةً بذكرِ العلوِّ، وتارةً بذكرِ الفوقيَّةِ، وتارةً بذِكرِ نزولِ الأشياءِ مِنْ عندِه، وتارةً بذكرِ صعودِها إِلَيْهِ، وتارةً بكونِه فِي السَّماءِ…
1) فالعلوُّ مثلُ قولِهِ: (وَهُوَ الْعَلِىُّ الْعَظِيمُ) [البقرة: 255]، (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى) [الأعلى: 1].
2) والفوقيَّةُ: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ) [الأنعام: 18]، (يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [النحل: 50].
3) ونزولُ الأشياءِ مِنْهُ، مثلُ قولِهِ: (يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ) [السجدة: 5]، (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) [الحجر: 9]… ومَا أشْبَهَ ذلِكَ.
4) وصعودُ الأشياءِ إِلَيْهِ، مثلُ قولِهِ: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر: 10]، ومثلُ قولِهِ: (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ) [المعارج: 4].
5) كونُه فِي السَّماءِ، مثلُ قولِهِ: (أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ) [الملك: 16].
ثانياً: وأمَّا السُّنَّةُ فَقَدْ تواترَتْ عَنِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قولِهِ وفِعْلِهِ وإقرارِه:
1)فأمَّا قولُ الرَّسولِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ :
فجَاءَ بذكرِ العلُوِّ والفوقيَّةِ، ومِنْهُ قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَعْلَى))، وقولُهُ لمَّا ذكرَ السَّماواتِ، قالَ: ((وَاللَّهُ فَوْقَ العَرْشِ)).
وجاءَ بذكرِ أنَّ اللَّهَ فِي السَّماءِ، مثلُ قولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَلاَ تَأْمَنُوني وَأَنا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ)).
2) وأمَّا الفعلُ، فمثلُ رفعِ أصبعهِ إِلَى السَّماءِ، وَهُوَ يخطبُ النَّاسَ فِي أكبرِ جمعٍ، وذلِكَ فِي يومِ عرفَةَ، عامَ حَجَّةِ الوداعِ، فإنَّ الصَّحابةَ لَمْ يجتمعُوا اجتماعاً أكبرَ مِنْ ذلِكَ الجمعِ، إذْ إنَّ الَّذِي حجَّ مَعَهُ بلغَ نحوَ مِائةِ ألفٍ، والَّذِينَ ماتَ عَنْهُم نحو مِائَةٍ وأربعةٍ وعشرينَ ألْفاً. يعني: عامَّةَ المسلمينَ حضرُوا ذلِكَ الجمعَ، فقَالَ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ : ((أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ؟)). قالوا: نَعَمْ. ((ألاَ هَلْ بَلّغْتُ؟)). قالوا: نَعَمْ. ((ألاَ هَلْ بلَّغْتُ؟)). قالوا: نَعَمْ. وكَانَ يقولُ: ((اللَّهمَّ! اشْهَدْ))، يشيرُ إِلَى السَّماءِ بأصبِعهِ، وينكتُها إِلَى النَّاسِ.
ومِنْ ذلِكَ رفعُ يدَيْهِ إِلَى السَّماءِ فِي الدُّعاءِ.
وَهَذَا إثباتٌ للعلوِّ بالفعلِ.
3) وأمَّا التقريرُ، فإنَّهُ فِي حديثِ معاويةَ بنِ الحكمِ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ، أنَّهُ أَتَى بجاريةٍ يريدُ أنْ يعتِقَها، فقَالَ لَهَا النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَيْنَ اللَّهُ؟)). قالَتْ: فِي السَّماءِ. فَقَالَ: ((مَنْ أَنا؟)). قالَتْ: رسولُ اللَّهِ. قال: ((أَعْتِقْهَا، فَإِنَّها مُؤْمِنَةٌ)).
فهذِهِ جاريةٌ لَمْ تتعلَّمْ، والغالبُ عَلَى الجوارِي الجهلُ، لاَ سيَّمَا وهِيَ أمَةٌ غيرُ حرَّةٍ، لاَ تملكُ نَفْسَها، تعلمُ أنَّ ربَّهَا فِي السَّماءِ، وضُلاَّلُ بني آدمَ ينكروُن أنَّ اللَّهَ فِي السَّماءِ، ويقولونَ: إمَّا أنَّهُ لاَ فَوْقَ العالَمِ ولاَ تحتَه ولاَ يمينَ ولاَ شمالَ! أوْ أنَّهُ فِي كُلِّ مكانٍ!!
فهذِهِ مِنْ أدلَّةِ الكتابِ والسُّنَّةِ.
ثالثاً: وأمَّا دلالةُ الإجماعِ، فَقَدْ أجمعَ السَّلفُ عَلَى أنَّ اللَّهَ تَعَالَى بذاتِه فِي السَّماءِ، مِنْ عهدِ الرَّسولِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ ، إِلَى يومِنا هَذَا.
إنْ قُلْتَ: كَيْفَ أجمَعُوا؟
نقولُ: إمرارُهم هذِهِ الآياتِ والأحاديَث، مَعَ تكرارِ العلُوِّ فِيهَا والفوقيِة، ونزولِ الأشياءِ مِنْهُ وصعودِها إِلَيْهِ، دونَ أنْ يأتوا بمَا يخالفُها، إجماعٌ مِنْهُم عَلَى مدلولِها.
وَلِهَذَا لمَّا قَالَ شيخُ الإسلامِ: ((إنَّ السَّلَفَ مجمعونَ عَلَى ذلِكَ، قالَ: ((ولَمْ يَقُلْ أحدٌ مِنْهُم: إنَّ اللَّهَ لَيْسَ فِي السَّماءِ، أو: إنَّ اللَّهَ فِي الأرضِ، أو: إنَّ اللَّهَ لاَ داخلَ العالَمِ ولاَ خارجَه ولاَ متَّصلٌ ولاَ منفصلٌ، أو إنَّه لاَ تجوزُ الإشارةُ الحسيَّةُ إِلَيْهِ)).
رابعاً: وأمَّا دلالةُ العقلِ، فنقولُ: لاَ شكَّ أنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ إمَّا أنْ يكونَ فِي العلو أوْ فِي السفلِ، وكونُه فِي السفلِ مستحيلٌ؛ لأنَّهُ نقصٌ يستلزمُ أنْ يكونَ فوقَه شيءٌ مِنْ مخلوقاتِه، فلاَ يكونُ لَهُ العلوُ التامُ، والسيطرةُ التامةُ، والسُّلطان التَّامُ، فَإِذَا كَانَ السّفلَ مستحيلاً، كَانَ العلوُّ واجباً.
وهناكَ تقريرٌ عقلِيٌّ آخرُ، وهُوَ أنْ نقولَ: إنَّ العلوَّ صفةُ كمالٍ باتَّفاقِ العقلاءِ، وإِذَا كَانَ صفةَ كمالٍ، وجبَ أنْ يكونَ ثابتاً لِلَّهِ؛ لأنَّ كُلَّ صفةِ كمالٍ مطلقةٌ، فهِيَ ثابتةٌ لِلَّهِ.
وقولنُا: ((مطلقةٌ)): احترازاً مِنَ الكمالِ النسبِيِّ، الَّذِي يكونُ كمالاً فِي حالٍ دونَ حالٍ، فالنَّومُ مثلاً نقصٌ، ولكنْ لِمَنْ يحتاجُ إِلَيْهِ ويستعيدُ قوتَه بهِ كمالٌ.
خامساً: وأمَّا دلالةُ الفطرةِ: فأمرٌ لاَ يمكنُ المنازعةُ فِيهَا ولاَ المكابرةُ، فكُلُّ إنسانٍ مفطورٌ عَلَى أنَّ اللَّهَ فِي السَّماءِ، وَلِهَذَا عندَمَا يفجؤُكَ الشَّيءُ الَّذِي لاَ تستطيعُ دفعَه، وإنمَّا تتوجَّهَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بدفعِه، فإنَّ قلبَكَ ينصرفُ إِلَى السَّماءِ، حَتَّى الذينَ ينكرونَ علوَّ الذَّاتِ، لاَ يقدِرُونَ أنْ يُنْزلُوا أيديَهُم إِلَى الأرضِ.
وهذِهِ الفطرةُ لاَ يمكنُ إنكارُهَا.
حَتَّى إنهَّم يقولونَ: إنَّ بعضَ المخلوقاتِ العجماءِ تعرفُ أنَّ اللَّهُ فِي السَّماءِ، كَمَا فِي الحديثِ الَّذِي يُروى أنَّ سليمانَ بنَ داودَ عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ وعَلَى أبيه خرجَ يستسقِي ذاتَ يومٍ بالنَّاسِ، فلمَا خرجَ، رأى نملةً مستلقيةً عَلَى ظهرِها، رافعةً قوائمهَا نحوَ السَّماءِ، تقولُ:
((اللَّهُم! إِنَّا خَلْقٌ مِنْ خَلْقِكَ، لَيْسَ بِنَا غِنًى عَنْ سُقياكَ. فَقَالَ: ارْجِعُوا، فَقَدْ سُقيتُم بِدَعوَةِ غَيرِكُم )). وَهَذَا إلَهامٌ فطرِيٌّ.
فالحاصلُ أنَّ: كونَ اللَّهِ فِي السَّماءِ أمرٌ معلومٌ بالفطرةِ.
واللَّهِ، لولاَ فسادُ فطرةِ هؤلاءِ المنكرينَ لذلِكَ، لعلِمُوا أنَّ اللَّهَ فِي السَّماءِ بدونِ أنْ يطالِعوا أيَّ كتابٍ؛ لأنَّ الأمرَ الَّذِي تدلُّ عَلَيْهِ الفطرةُ لاَ يحتاجُ إِلَى مراجعةِ الكتبِ.
والَّذِينَ أنكروا علوَّ اللَّه عزَّ وجلَّ بذاتهِ يقولُونَ: لو كَانَ فِي العلوِّ بذاتِه، كَانَ فِي جهةٍ، وإِذَا كَانَ فِي جهةٍ، كَانَ محدوداً وجسماً، وَهَذَا ممتنعٌ!
والجوابُ عَنْ قولَهِم: ((إنَّهُ يلزمُ أنْ يكونَ محدوداً وجسماً))، نقولُ:
أَوَّلاً: لاَ يجوزُ إبطالُ دلالةِ النَّصوصِ بمثلِ هذِهِ التَّعليلاتِ، ولو جازَ هَذَا، لأمكنَ كُلُّ شخصٍ لاَ يريدُ مَا يقتضيهِ النَّصُّ أنْ يعلِّلَهَ بمثلِ هذِهِ العللِ العليلةِ.
فَإِذَا كَانَ اللَّهُ أثبتَ لنَفْسهِ العلوَّ، ورسولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أثبَتَ لَهُ العلوَّ، والسَّلَفُ الصَّالِحُ أثبتُوا لَهُ العلوَّ، فلاَ يُقبلُ أنْ يأتِيَ شخصٌ ويقولُ: لاَ يمكنُ أنْ يكونَ علوَّ ذاتٍ؛ لأنَّهُ لو كَانَ علوَّ ذاتٍ، لكَانَ كذا وكذا.
ثانياً: نقولُ: إنْ كَانَ مَا ذكرتمُ لازماً لإثباتِ العلوِّ لزوماً صحيحاً، فلنقلْ به؛ لأنَّ لازمَ كلامِ اللَّهِ ورسولَهِ حقٌّ؛ إذْ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يعلمُ مَا يلزمُ مِنْ كلامِه. فلو كانَتْ نصوصُ العلوِّ تستلزمُ معنىً فاسداً، لبيَّنَه، ولكنَّها لاَ تستلزمُ معنى فاسداً.
ثالثاً: ثُمَّ نقولُ: مَا هُوَ الحدُ والجسمُ الَّذِي أجلبْتُم علينا بخيلكِم ورَجْلِكُم فِيهِا.
أتريدونَ بالحدِّ أنَّ شيئًا مِنَ المخلوقاتِ يحيطُ باللَّهِ؟! فهَذَا باطلٌ ومنتفٍ عَنِ اللَّهِ، وليسَ بلازمٍ مِنْ إثباتِ العلوِّ لِلَّهِ، أوْ تريدُونَ بالحدِّ أنَّ اللَّهَ بائنٌ مِنْ خلقهِ غيرُ حالٍّ فِيهِم؟ فهَذَا حقٌ مِنْ حَيْثُ المعنى، ولكنْ لاَ نطلقُ لفظَه نفياً ولاَ إثباتاً، لعدمِ ورودِ ذلِكَ.
وأمَّا الجسمُ، فنقولُ: مَاذَا تريدونَ بالجسمِ؟ أتريدوُن أنَّهُ جسمٌ مركبٌ مِنْ عظمٍ ولحمٍ وجلدٍ ونحوَ ذلِكَ؟ فهَذَا باطلٌ ومنتفٍ عَنِ اللَّهِ؛ لأنَّ اللَّهَ لَيْسَ كمثلَهِ شيءٌ وَهُوَ السَّميعُ البصيرُ. أم تريدُونَ بالجسمِ مَا هُوَ قائمٌ بنَفْسِه متَّصفٌ بمَا يليقُ بهِ؟ فهَذَا حقٌّ مِنْ حَيْثُ المعنى، لكنْ لاَ نُطلقُ لفظَه نفياً ولاَ إثباتاً، لمَا سبقَ.
وكذلِكَ نقولُ فِي الجهةِ، هَلْ تريدوُن أنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَهُ جهةٌ تحيطُ بهِ؟ فهَذَا باطلٌ، وليسَ بلازمٍ مِنْ إثباتِ علُوِّه. أمْ تريدُونَ جهةَ علوٍّ لاَ تحيطُ باللَّهِ؟ فهَذَا حقٌّ لاَ يصحُّ نفيُه عَنِ اللَّهِ تَعَالَى.
الآيةُ الثَّانِيَةُ: قولُهُ: (بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ) [النساء: 158].
(بَلْ): للإضرابِ الإبطاليِّ، لإبطالِ قولِهِم: (إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهمْ وَإنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينَا، بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيمًا) [النساء: 157- 158]، فكذَّبَهُم اللَّهُ بقولِهِ: (وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينَا، بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ).
والشَّاهِدُ قولُهُ: (بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ)، فإنَّهُ صريحٌ بأنَّ اللَّهَ تَعَالَى عالٍ بذاتِه، إذ الرَّفعُ إِلَى الشَّيءِ يستلزمُ علوَّه.
الآيةُ الثَّالثةُ: قولُهُ: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر: 10].
(إِلَيْهِ): إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ.
(يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ): و(الْكَلِمُ) هُنَا اسمُ جمعٍ، مفردُهُ كلمةٌ، وجمعُ كلمةٍ كلماتٌ، والكَلِمُ الطيِّبُ يشملُ كُلَّ كلمةٍ يُتقرَّبُ بِها إِلَى اللَّهِ، كقراءةِ القرآنِ والذِّكرِ والعلمِ والأمرِ بالمعروفِ والنَّهْيِ عَنِ المنكرِ، فكُلُّ كلمةٍ تُقرِّبُ إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ، فهِيَ كلمةٌ طيِّبةٌ، تصعدُ إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ، وتصلُ إِلَيْهِ، والعملُ الصَّالحُ يرفعُهُ اللَّهُ إِلَيْهِ أيضاً.
فالكلماتُ تصعدُ إِلَى اللَّهِ، والعملُ الصالحُ يرفعهُ اللَّهُ، وَهَذَا يدلُّ عَلَى أنَّ اللَّهَ عالٍ بذاتِه؛ لأنَّ الأشياءَ تصعدُ إِلَيْهِ وتُرفَعُ.
الآيةُ الرَّابعةُ: قولُهُ: (يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أسْبَابَ السَّمَاواتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُهُ كَاذِباً) [غافر: 36-37].
هامانُ وزيرُ فرعونَ، والآمرُ بالبناءِ فرعونُ.
(صَرْحاً)، أيْ: بناءً عالياً.
(لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْباَبَ السَّمَاواتِ) يعني: لعلِّي أبلغُ الطُّرقَ الَّتِي توصِّلُ إِلَى السَّماءِ.
(فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى)، يعني: أنظرُ إِلَيْهِ، وأصلُ إِلَيْهِ مباشرةً؛ لأنَّ موسَى قَالَ لَه: إنَّ اللَّهَ فِي السَّماءِ، فموَّهَ فرعونُ عَلَى قومهِ بطلبِ بناءِ هَذَا الصَّرحِ العالِي ليرقَى عَلَيْهِ ثُمَّ يقولُ: لَمْ أجدْ أحداً، ويحتملُ أنَّهُ قالَهُ عَلَى سبيلِ التَّهكُّمِ، يقولُ: إنَّ موسى قالَ: إنَّ إلَهَهَ فِي السَّماءِ، اجعلُونا نرقى لنرَاه!! تهكُّماً.
وأيًّا كانَ، فَقَدْ قالَ: (وَإِنِّي لأَظُنُهُ كَاذِباً)، للتمويهِ عَلَى قومهِ، وإلاَّ، فَهُوَ يعلمُ أنَّهُ صادقٌ، وقَدْ قَالَ لَهُ موسى: (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءٍ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوات وَالأَرْضِ بَصَائِرَ) [الإسراء: 102]، فلَمْ يقلْ: مَا علمْتُ! بَلْ أقرَّه عَلَى هَذَا الخبرِ المؤكدِ باللامِ و(قد) والقسمِ. واللَّهُ عزَّ وجلَّ يقولُ فِي آيةٍ أخرى: (وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً) [النمل:14].
الشَّاهِدُ مِنْ هَذَا: أنَّ أمْرَ فرعونَ ببناءِ صرحٍ يطَّلعُ بِهِ عَلَى إلَهِ موسى، يدلُّ عَلَى أنَّ موسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لفرعونَ وآلِهِ: إنَّ اللَّهَ فِي السَّماءِ. فيكونُ علوُّ اللَّهِ تَعَالَى ذاتيًّا قدْ جاءَتْ بهِ الشَّرائعُ السَّابقةُ.
الآيةُ الخامسةُ والسَّادسةُ: قولُهُ: (أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرٌ) [الملك: 16-17].
والَّذِي فِي السَّماءِ هُوَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ، لكنَّهُ كنَّى عن نَفْسِه بهَذَا؛ لأنَّ المقامَ مقامُ إظهارِ عظمتهِ، وأنَّهُ فوقَكم، قادرٌ علَيْكم، مسيطرٌ عليكم، مهِيَمنٌ علَيْكم؛ لأنَّ العالي لَهُ سلطةٌ عَلَى من تحتِه.
(فَإِذَا هِيَ تَمُورُ)، أيْ: تضطربُ.
والجوابُ: لاَ نأمنُ واللَّهِ! بَلْ نخافُ عَلَى أنَفْسِنا إِذَا كَثُرَتْ معاصِينا أنْ تُخْسَفَ بِنَا الأرضُ.
والانهِيَاراتُ الَّتِي يسموُّنَها الآنَ: انهِيَاراً أرضيّاً، وانهِيَاراً جبليّاً… ومَا أشَبْهَ ذلِكَ هِيَ نَفْسُ الَّتِي هددَّ اللَّهُ بها هُنا، لكنْ يأتونُ بمثلِ هذِهِ العباراتِ، ليهوِّنُوا الأمرَ عَلَى البسطاءِ مِنَ النَّاسِ.
(أَمْ أَمِنتُم)، يعني: بَلْ أأمنْتُم، و(أمْ) هُنا بمعنى (بَلْ) والَهمزة.
(أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً): الحاصبُ عذابٌ مِنْ فوقِ يحُصبُونَ بهِ، كَمَا فعلَ بالَّذِينَ من قبلِهم، كقومِ لوطٍ، وأصحابِ الفيلِ، والخسفُ مِنْ تحتِ.
فاللَّهُ عزَّ وجلَّ هدّدنَا مِنْ فوقِ ومن تحت، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمْنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمْنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا) [العنكبوت: 40]، أربعةُ أنواعٍ مِنَ العذابِ.
وهُنَا ذكَرَ اللَّهُ نوعينِ مِنْها: الحاصبَ والخسفَ.
والشَّاهِدُ مِنْ هذِهِ الآيةِ هُوَ قولُهُ: (من فِي السَّمَاءِ).
والَّذِي فِي السَّماءِ هُوَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ، وهُوَ دليلٌ عَلَى علوِّ اللَّهِ بذاتِه.
لكنْ هاهنُا إشكالٌ، وهُوَ أنَّ (في) للظرفيةِ، فَإِذَا كَانَ اللَّهُ فِي السَّماءِ، و(في) للظرفيةِ، فإنَّ الظَّرفَ محيطٌ بالمظروفِ! أرأيْتَ لو قلْتَ: الماءُ فِي الكأسِ، فالكأسُ محيطٌ بالماءِ وأوسعُ مِنَ الماءِ! فَإِذَا كَانَ اللَّه يقول: (أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ)، فهَذَا ظاهرُهُ أنَّ السَّماءَ محيطةٌ باللَّهِ، وَهَذَا الظَّاهرُ باطلٌ، وإِذَا كَانَ الظَّاهرُ باطلاً، فإننَّا نعلمُ علمَ اليقينِ أنَّهُ غيرُ مرادٍ لِلَّهِ؛ لأنَّهُ لاَ يمكنُ أنْ يكونَ ظاهرُ الكتابِ والسُّنَّةِ باطلاً.
فمَا الجوابُ عَلَى هَذَا الإشكالِ؟
قَالَ العلماءُ: الجوابُ أنْ نسلكَ أحدَ طريقينِ:
1-فإمَّا أنْ نجعلَ السَّماءَ بمعنى العلوِّ، والسَّماءُ بمعنى العلوِّ واردٌ فِي اللُّغةِ، بَلْ فِي القرآنِ، قَالَ تَعَالَى: (أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةُ بِقَدَرِهَا) [الرعد: 17]، والمرادُ بالسَّماءِ العلُوُّ؛ لأنَّ الماءَ ينزلُ مِنَ السَّحابِ، لاَ مِنَ السَّماءِ الَّتِي هِيَ السَّقفُ المحفوظُ، والسحابُ فِي العلوِّ بينَ السَّماءِ والأرضِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
(وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ) [البقرة: 164].
فيكونُ معنى (منِ فِى السَّمَاءِ)، أيْ: مَنْ فِي العلوِّ.
ولاَ يوجدُ إشكالٌ بعدَ هَذَا، فهُوَ فِي العلوِّ، ليسَ يحاذِيهِ شيءٌ، ولاَ يكونُ فَوْقَهُ شيءٌ.
2-أوْ نجعلُ (في) بمعنى (على)، ونجعلُ السَّماءَ هِيَ السَّقفُ المحفوظُ المرفوعُ، يعني: الأجرامَ السَّماويةَ، وتأتِي (في) بمعنى (على) فِي اللُّغةِ العربيَّةِ، بَلْ فِي القرآنِ الكريمِ، قَالَ فرعونُ لقومِه السَّحرةِ الَّذِينَ آمنوا: (وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ)
[طه: 71]، أيْ: عَلَى جذوعِ النَّخلِ.

فيكونُ معنى (من فِي السَّمَاءِ)، أيْ: مَنْ عَلَى السَّماءِ.
ولاَ إشكالَ بعدَ هَذَا.
فإنْ قلْتَ: كَيْفَ تجمعُ بين َهذِهِ الآيةِ وبينَ قولِهِ تَعَالَى: (وَهُوَ الَّذِى فِي السَّمَاءِ إلَهُ وَفِى الأَرْضِ إِلَهٌ) [الزخرف: 84]، وقولُهُ: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوات وَفِى الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) [الأنعام: 3]؟!
فالجوابُ: أنْ نقولَ:
أمَّا الآيةُ الأولى، فإنَّ اللَّهَ يقولُ: (وَهُوَ الَّذِى فِي السَّمَاءِ إلَهُ وَفِى الأَرْضِ إِلَهٌ) [الزخرف: 84]، فالظرفُ هُنا لألوهِيَتهِ، يعني: أنَّ ألوهِيَتَه ثابتةٌ فِي السَّماءِ وفِي الأرضِ، كَمَا تقولُ: فلانٌ أميرٌ فِي المدينةِ ومكةَ، فَهُوَ نَفْسُه فِي واحدةٍ مِنْهُما، وفيِهمَا جميعاً بإمارتِه وسلطتِه، فاللَّهُ تَعَالَى ألوهِيَتُه فِي السَّماءِ وفِي الأرضِ، وأمَّا هُوَ عزَّ وجلَّ ففِي السَّماءِ.
أمَّا الآيةُ الثَّانِيَةُ: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوات وَفِى الأَرْضِ) [الأنعام: 3]، فنقولُ فِيهَا كَمَا قلنْا فِي الَّتِي قبلَها: (وَهُوَ اللَّهُ)، أيْ: وهُوَ الإلَهُ الَّذِي ألوهيُته فِي السَّماواتِ وفِي الأرضِ، أمَّا هُوَ نَفْسُه، ففِي السَّماءِ. فيكونُ المعنى: هُوَ المألوهُ فِي السَّماواتِ المألوهُ فِي الأرضِ، فألوهِيَتُه فِي السَّماواتِ وفِي الأرضِ.
فتخريجُ هذِهِ الآيةِ كتخريجِ الَّتِي قبلَها.
وقِيلَ: المعنى: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاواتِ)، ثُمَّ تَقِفُ، ثُمَّ تقرأُ: (وَفِى الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) [الأنعامُ: 3]، أيْ أنَّهُ نَفْسُه فِي السَّماواتِ، ويعلمُ سرَّكُم وجَهرَكُم فِي الأرضِ، فلَيْسَ كونُهُ فِي السَّماءِ مَعَ علُوِّهِ بمانعٍ مِنْ علْمِه بسرِّكُم وجهرِكُم فِي الأرضِ.
وَهَذَا المَعْنَى فِيهِ شيءٌ مِنَ الضَّعفِ؛ لأنَّهُ يقتضِي تفكيكَ الآيةِ، وعدمَ ارتباطِ بعضِها ببعضٍ، والصَّوابُ الأوَّلُ: أنْ نقولَ: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاواتِ وَفِى الأَرْضِ)، يعني أنَّ ألوهيتَه ثابتةٌ فِي السَّماواتِ وفِي الأرضِ، فتطابقُ الآيةَ الأخرى.
مِنَ الفوائدِ المسلكيَّةِ فِي هذِهِ الآياتِ:
أنَّ الإنسانَ إِذَا علِمَ بأنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَوْقَ كُلِّ شيءٍ، فإنَّهُ يعرفُ مقدارَ سلطانِه وسيطرتِه عَلَى خلقِه، وحينئذٍ يخافهُ ويعظِّمُه، وإِذَا خافَ الإنسانُ ربَّه وعظَّمَه، فإنَّهُ يتَّقيهِ ويقومُ بالواجبِ ويدَعُ المحرَّمَ).

هيئة الإشراف

#3

16 Dec 2008

التنبيهات اللطيفة فيما احتوت عليه الواسطية من المباحث المنيفة لابن سعدي رحمه الله


المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (إثبات عُلُوِّ الله على مخلوقاته
وقوله: (يا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) [آل عمران: 55]. (بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ) [النساء: 158]. (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر: 10]. ( يا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَـلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَـهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً) [غافر: 36، 37]. وقوله: (أَأَمِنتُمْ مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنتُمْ مِّن فِي السَّمَاءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ) [الملك: 16- 17].[1]
).

الشرح:

قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): (([1]) ومن أصول أهل السُّنة والجماعة الثابتة: إثبات علو الله على خلقه واستوائه على عرشه، وهي من أهم الأصول التي باين بها أهل السنة الجهمية والمعتزلة والأشاعرة، فما في هذه الآيات من ذكر علوّ الله واسمه العلي الأعلى، وصعود الأشياء إليه وعروجها ونزولها منه يدل على العلو، وما صرّح به من استوائه على العرش برهانٌ قاطعٌ على ثبوت ذلك، وقد قيل للإمام مالك: (الرَّحْمَـنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) كيف استوى؟: فقال الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه -أي عن الكيفية- بدعة).

هيئة الإشراف

#4

16 Dec 2008

شرح العقيدة الواسطية للشيخ مُحمَّد خَليل هَرَّاس رحمه الله

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وقَوْلُهُ: { يَا عِيْسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ }، { بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِليهِ }، { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}، { يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ. أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فأَطَّلِعَ إِلى إَلَهِ مُوْسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا }، وَقَوْلُهُ: { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ. أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًَا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرٌ } (1)).

الشرح:

قال الشيخ محمد خليل هراس (ت: 1395هـ): ((1) وقولُهُ: { يَا عِيْسى … } إلخ. هذهِ الآياتُ جاءتْ مؤيِّدةً لِمَا دلَّتْ عليهِ الآياتُ السَّابقةُ مِن عُلُوِّهِ تعالى وارتفاعِهِ فوقَ العرشِ مُباينَاً للخلقِ، ونَا عِيةً على المعطِّلةِ جحودَهُمْ وإنكارَهُمْ لذلكَ، تعالى اللهُ عمَّا يقولون عُلُوًّا كبيرًا.
ففي الآيةِ الأولى يُنادي اللهُ رسولَهُ وكلمتَهُ عيسى بنَ مريمَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بأنَّهُ متوفِّيهِ ورافِعُهُ إليهِ حينَ دبَّرَ اليهودُ قتلَهُ، والضَّميرُ في قولِهِ: ( إِليَّ ) هوَ ضميرُ الرَّبِ جلَّ شأنُهُ، لا يحتملُ غيرَ ذلكَ، فتأويلُهُ بأنَّ المرادَ: إلى مَحلِّ رحمتِي، أو مكانَِ ملائكتِي … إلخ، لا معنى لهُ.
ومِثلُ ذلكَ يُقالُ أيضًا في قولِهِ سبحانَهُ ردًّا على ما ادَّعاهُ اليهودُ مِن قَتلِ عيسى وصَلْبِهِ: { بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ }.
وقَد اختُلِفَ في المرادِ بالتَّوفِّي المذكورِ في الآيةِ، فحملَهُ بعضُهُمْ على الموتِ، والأكثَرون على أنَّ المرادَ بهِ النَّومُ، ولفظُ المُتَوَفَّى يُسْتَعْمَلُ فيهِ؛ قالَ تعالى: { وَهُوَ الَّذي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ }.
ومِنْهُمْ مَنْ زعمَ أنَّ في الكلامِ تقدْيمًا وتأخِيرًا، وأنَّ التَّقدْيرَ: إنِّي رافعُكَ ومُتَوفِّيكَ؛ أيْ: مُمِيتُكَ بعدَ ذلكَ.
والحقُّ أَنَّهُ عليهِ السَّلامُ رُفِعَ حيًّا، وأنَّهُ سينزِلُ قُربَ قِيامِ السَّاعةِ؛ لصحَّةِ الحديثِ بذلكَ.
وأَمَّا قولُهُ سبحانَهُ: { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ }؛ فهوَ صريحٌ أيضًا في صُعودِ أقوالِ العبادِ وأعمالِهِمْ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ، يصعدُ بهَا الكِرامُ الكاتِبُون كلَّ يومٍ عَقِبَ صلاةِ العصرِ، وعقِبَ صلاةِ الفجرِ؛ كمَا جاءَ في الحديثِ: (( فَيَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ، فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ – وَهُوَ أَعْلَمُ – كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: يَا رَبَّنَا, أَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَتَرَكْنَا هُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ )).
وأَمَّا قولُهُ سبحانَهُ حِكايةً عن فرعونَ: { يَا هَامَانُ … } إلخ؛ فهوَ دَليلٌ على أنَّ موسى عليهِ السَّلامُ أخبرَ فرعونَ الطَّاغِيةَ بأنَّ إِلهَهُ في السَّماءِ، فَأَرادَ أنْ يتلمَّسَ الأسبابَ للوُصولِ إليهِ تَموِيهًا على قومِهِ، فأمَرَ وزيرَهُ هامانَ أنْ يبنِيَ لهُ الصَّرْحَ، ثمَّ عقَّبَ على ذلكَ بقولِهِ: { وَإِنِّي لأَظنُّهُ }؛ أي: موسى { كَاذِبًا } فيمَا أخبرَ بهِ مِن كونِ إِلَهِهِ في السَّماءِ، فمَنْ إذًا أَشْبَهُ بفرعونَ وأقربُ إليهِ نسبًا؛ نحنُ أمْ هؤلاءِ المعطِّلةُ؟! إنَّ فرعونَ كَذَّبَ موسى في كونِ إِلَهِهِ في السَّماءِ، وهوَ نفسُ ما يقولُهُ هؤلاءِ.
قولُهُ: ( أَأَمِنْتُمْ … ) إلخ. هَاتانِ الآيتانِ فيهمَا التَّصريحُ بأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ في السَّماءِ، ولا يجوزُ حملُ ذلكَ على أنَّ المرادَ بهِ: العذابُ، أو الأمرُ، أو المَلَكُ؛ كمَا يفعلُ المعطِّلةُ؛ لأنَّهُ قالَ: ( مَنْ )، وهيَ للعاقلِ، وحَمْلُهَا على المَلَكِ إخراجُ اللَّفظِ عن ظاهرِهِ بِلا قرينةٍ تُوجبُ ذلكَ.
ولا يجوزُ أنْ يفُهَمَ مِن قولِهِ: { في السَّماءِ } أنَّ السَّماءَ ظرفٌ لهُ سبحانَهُ، بلْ إنْ أُريدَ بالسَّماءِ هذهِ المعروفةُ؛ فـ ( في ) بمعنى على؛ كمَا في قولِهِ تعالى: { وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ في جُذوعِ النَّخْلِ }، وإنْ أُريدَ بهَا جِهةُ العُلُوِّ؛ فـ ( في ) على حقيقتِهَا؛ فإنَّهُ سبحانَهُ في أَعلى العُلُوِّ).

هيئة الإشراف

#5

16 Dec 2008

شرح العقيدة الواسطية للشيخ: صالح بن فوزان الفوزان

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وقَوْلُهُ: ( يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ )، ( بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِليهِ )، ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)، ( يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ. أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فأَطَّلِعَ إِلى إلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً )، وَقَوْلُهُ: ( أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ. أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ).(1)).

الشرح:

قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: ((1)(يا عِيسَى) خِطابٌ مِن اللهِ تبارك وتعالى لعيسى بنِ مريمَ عليه الصَّلاة والسَّلامُ (إِنِّي مُتَوفِّيكَ) الذي عليه الأكثرُ أنَّ المرادَ بالوفاةِ هنا النَّومُ، كما قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) الآية (60) مِن سورةِ الأنعامِ، وقال تعالى: (اللهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتي لَمْ تَمُتْ فيِ مَنَامِهَا) الآيةَ (42) مِن سورةِ الزُّمر (وَرَافِعُكَ إِليَّ) أي رفعَه اللهُ إليه في السَّماءِ وهو حيٌّ، وهذا مَحَلُّ الشَّاهدِ مِن الآيةِ، وهو إثباتُ العُلُوِّ للهِ؛ لأنَّ الرَّفعَ يكونُ إلى أعلى.
وقولُه: (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) هذا رَدٌّ عَلى اليهودِ الَّذين يدَّعون أنَّهم قتلوا المسيحَ عيسى بنَ مريمَ، فقال تعالى: (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) إلى قولِه (وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا) الآية (157) مِن سورةِ النِّساءِ (بَلْ رَفَعهُ اللهُ إِلَيْهِ) أي رفع اللهُ سبحانَه وتعالى المسيحَ عليه السَّلامُ إليه وهو حيٌّ لم يُقتلْ، وهذا مَحَلُّ الشَّاهدِ؛ لأنَّ فيه إثباتَ علوِّ اللهِ عَلى خلقِه؛ لأنَّ الرَّفعَ يكونُ إلى أعلى.
وقولُه (إلِيهِ يَصْعَدُ) أي: إلى اللهِ سبحانَه، لا إلى غيرِه، يَرتفعُ (الكَلِمُ الطَّيِّبُ) أي: الذِّكرُ والتِّلاوةُ والدُّعاءُ (والعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) أي: العملُ الصَّالحُ يرفعُ الكلمَ الطَّيِّبَ، فإنَّ الكلمَ الطَّيِّبَ لا يُقْبَلُ إلاَّ مع العملِ الصَّالحِ، فمن ذكَرَ اللهَ تعالى ولم يُؤَدِّ فرائضَه: رُدَّ كَلامُه، قال إياسُ بنُ معاويةَ: لولا العملُ الصَّالِحُ لَمْ يُرفَعِ الكَلامُ. وقال الحسنُ وَقتَادةُ: لا يُقبَلُ قولٌ إلاَّ بِعَمَلٍ. والشَّاهدُ مِن الآيةِ: أنَّ فيها إثباتَ علوِّ اللهِ عَلى خلقهِ، لأنَّ الصُّعودَ والرَّفعَ يكونان إلى أعلى.
وقولُه تعالى: (يا هَامَانُ ابنِ لي صَرْحاً) هذا مِن مقولةِ فرعونَ لوزيرِه هامانَ، يأمرُه أنْ يبنيَ له قَصْراً مُنِيفاً عالياً (لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ) أي طُرُقَ السَّماواتِ أو أبوابَها (فَأَطَّلِعَ إلى إلهِ مُوسَى) بنصبِ (فَأَطَّلِعَ) بأنْ مُضْمَرةً بعد فاءِ السَّببيّةِ. ومعنَى مقالتِه هذه تكذيبُ موسى عليه السَّلامُ في أنَّ الله أرسلَه أو أنَّ له إلهاً في السَّماءِ ولذلك، قال: (وَإِنِّي لأَظُنُّه كَاذِباً) أي فيما يدَّعيه مِن الرِّسالةِ أو فيما يدَّعيه بأنَّ له إلهاً في السَّماءِ، والشَّاهدُ مِن الآيةِ: أنَّ فيها إثباتَ علوِّ اللهِ عَلى خلقِه. حيث إنَّ موسى عليه السَّلامُ أخبر بذلك وحاول فرعونُ في تكذيبهِ.
وقولُه تعالى: (أَأَمِنْتُمْ) الأمنُ ضِدُّ الخوفِ (مَنْ في السَّمَاءِ) أي عقوبةَ مَن في السَّماءِ، وهو اللهُ سبحانَه. ومعنَى (في السَّماءِ) أي عَلى السَّماءِ، كقولِه تعالى: (وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فيِ جُذُوعِ النَّخْلِ) وهذا إنْ أُريدَ بالسَّماءِ السَّمَاءُ المبنيّةُ، وإن أُريد بالسَّماءِ مُطْلقُ العلوِّ ففي للظرفيّةِ، أي في العلوِّ (أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ) أي: يقلعَهَا بكم،كما فعل بقارونَ (فَإِذَا هِيَ تَمُورُ) أي تضطربُ وتتحرَّكُ.
(أَمْ أَمِنْتُمْ مِنْ فيِ السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً) أي حجارةً مِن السَّماءِ، كما أرسلها عَلى قومِ لوطٍ وأصحابِ الفيلِ. وقيل: سحابٌ فيه حجارةٌ، وقيل: رِيحٌ فيها حِجارةٌ (فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ) أي إنذاري إذا عاينتم العذابَ ولا ينفعُكم حينذاك هذا العلمُ.
والشَّاهدُ مِن الآيتيْن: أنَّ فيهما إثباتَ علوِّ اللهِ عَلى خلْقِه، حيث صرَّحتا أنَّه سبحانَه في السَّماءِ، فقد دلَّت هذه الآياتُ التي ذكرها المؤلفُ رحمةُ اللهِ عليهِ عَلى إثباتِ العلوِّ. كما دلَّت هذه الآياتُ التي قبلها عَلى إثباتِ استواء اللهِ عَلى العرشِ، والفرقُ بين الاستواء والعلوِّ:
1- أنَّ العلوَّ مِن صفاتِ الذَّاتِ والاستواءَ مِن صِفاتِ الأفعالِ، فعلوُّ اللهِ عَلى خلقِه وصفٌ لازمٌ لذاتِه، والاستواءُ فعلٌ مِن أفعالِه يفعلُه سبحانَه وتعالى بمشيئتِه وقدرتِه إذا شاء، ولذا قال فيه (ثُمَّ اسْتَوَى) وكان ذلك بعد خلقِ السَّماواتِ والأرضِ.
2- أنَّ العلوَّ مِن الصِّفاتِ الثَّابتةِ بالعقلِ والنَّقلِ، والاستواءَ ثابتٌ بالنَّقلِ لا بالعقلِ).

هيئة الإشراف

#6

16 Dec 2008

الروضة الندية للشيخ: زيد بن عبد العزيز بن فياض رحمه الله


قال الشيخ زيد بن عبد العزيز بن فياض (ت: 1416هـ): (وقد نَفَتِ الجَهْمِيَّةُ المعطِّلةُ عُلُوَّ اللَّهِ على خَلْقِه . وقالوا : إنه في كُلِّ مكانٍ بِذاتِه ، وأنه لا داخِلَ العالَمِ ، ولا خارِجَه ، ولا مُباينَه ولا مُحايِثَهُ ، تَعَالَى اللَّهُ عما يقولون ، قَالَ الأوزاعيُّ : كنا نقولُ - والتَّابِعونَ مُتَوافِرون - إنَّ اللَّهَ جلَّ ذِكْرُه فوقَ عَرْشِه ، ونؤمِنُ بما وردَتْ به السُّنَّةُ مِن صِفَاتِه .
وقِيلَ لابنِ المبارَكِ : بِمَ نَعرِفُ ربَّنا ؟ قَالَ : بأنه فوقَ سمواتِه على العرشِ بائنٌ مِن خَلْقِه . وكان مسروقٌ إذا حُدِّثَ عن عائشةَ قَالَ : حدَّثَتْنِي الصِّدِّيقَةُ بنتُ الصِّدِّيقِ المُبَرَّأةُ مِن فوقِ سبْعِ سماواتٍ . وفي الصَّحيحَيْنِ أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لسعدِ بنِ مُعاذٍ : " لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ " .
-والنُّصُوصُ الوارِدةُ المتنوِّعةُ المُحْكمةُ الدَّالَّةُ على عُلُوِّ اللَّهِ على خَلْقِه وكَوْنِه فوقَ عِبادِه تَقْرُبُ مِن عشرين نَوْعاً .
( أحدُها ) : التَّصـريحُ بالفَـوْقيةِ مَقروناً بأداةِ ( مِن ) ألمْعَيِّنَةِ للفَـوْقيةِ بالذَّاتِ كقوله :{ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّنْ فَوْقِهِمْ } . ( الثَّاني ) : ذِكْرُها مجرَّدةً عن الأداةِ كقوله ( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ) . ( الثَّالثُ ) : التَّصريحُ بالعُروجِ ، نحو :{ تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَـةُ وَالـرُّوحُ إِلَيْهِ } . ( الرَّابعُ ) : التَّصـريحُ بالصُّعـودِ إليـه كقـوله :{ إِلَيْهِ يَصْعَـدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } . (الخامسُ ) : التَّصريحُ برَفْعِه بعضَ المخلوقاتِ إليه كقوله :{ بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ } . ( السَّادسُ ) : التَّصريحُ بِالعُلُوِّ المُطْلَقِ، الدَّالِّ على جميـعِ مَراتبِ العُلـُوِّ ذاتاً وقَدْراً وشَرَفاً كقـوله تَعَالَى :{ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيـمُ } { وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَـبِيرُ }. ( السَّابعُ ) : التَّصريحُ بتنزيلِ الكتابِ منه كقولِه :{ تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } . ( الثَّامنُ ) : التَّصريحُ باختصاصِ بعضِ المخلوقاتِ بأنها عندَه وأنَّ بعضَها أقربُ إليه مِن بعضٍ كقولِه :{ إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ } ، { وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ } . ففـرَّقَ بين مَن له عُمـوماً وبين مَن عندَه مِن ملائكَتِـه وعَبيدِه خُصـوصاً . وقولُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الكِتابِ الَّذِي كَتَبَه الرَّبُّ تَعَالَى على نَفْسِه : إنه عنده فوقَ العرشِ . ( التَّاسعُ ) : التَّصريحُ بأنه تَعَالَى في السَّمَاءِ . وهذا عند المفسِّرينَ مِن أهلِ السُّنَّةِ على أَحدِ وجهَيْنِ : إما أنْ تكونَ ( في ) بمعنى ( على ) وإما أنْ يُرادَ بالسَّمَاءِ العُلُوُّ . لا يَخْتلِفون في ذلك ولا يَجوزُ الحَمْـلُ على غيرِه . ( العاشرُ ) : التَّصريحُ بالاستـواءِ مَقروناً بأداةِ ( على ) مختَصًّا بالعرشِ الَّذِي هو أعْلَى المخلوقاتِ مصاحِباً في الأكثرِ لأداةِ ( ثُمَّ ) الدَّالَّةُ على التَّرتيبِ والمُهْلَةِ . (الحادي عشَرَ ) : التَّصريحُ برَفْعِ الأيدي إلى اللَّهِ تَعَالَى كقولِه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ اللَّهَ يَسْتَحِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْراً " . ( الثَّاني عشَرَ ) : التَّصريحُ بنزولِه إلى سماءِ الدُّنْيَا كُلَّ ليلةٍ . ( الثَّالثَ عشَرَ ) : الإشارةُ إليه حِسًّا إلى العُلُوِّ كما أشارَ إليه مَن هو أعْلَـمُ بِرَبِّه وبما يَجِبُ له ويمتنِعُ عليه مِن جميـعِ البَشَرِ لمَّا كان بالمَجْمَعِ الأعْظَمِ الَّذِي لم يَجتمِعْ لأحدٍ مِثلُه في اليومِ الأعظَمِ ، قَالَ لهم : " إِنَّكُمْ مَسْئُولُونَ ، فَمَاذَا أنتم قائِلونَ ؟ " قالوا : نَشْهَدُ أنكَ قد بلَّغْتَ وأدَّيْتَ ، ونَصَحْتَ ، فرَفَعَ أصبعَه الكريمةَ إلى السَّمَاءِ رافِعاً لها إلى مَن هو فَوْقَها وفوقَ كُلِّ شيءٍ قائلاً : " اللَّهُمَّ اشْهَدْ " . ( الرَّابعَ عشَرَ ) : التَّصريحُ بلفظِ الأَيْنِ كقولِ أعْلَمِ الخَلْقِ به ، وأنْصَحِهِم لأُمَّتِه ، وأفْصَحِهم بَياناً عن المعنى الصَّحيحِ بلفظٍ لا يُوهِمُ باطلاً بوجهٍ ( أَيْنَ اللَّهُ ) في غيرِ موضِعٍ . ( الخامسَ عشَرَ ) : شهادَتُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمَن قَالَ : إنَّ ربَّه في السَّمَاءِ بالإيمانِ . ( السَّادسَ عشَرَ ) : إخبارُه تَعَالَى عن فرعونَ أنه رامَ الصُّعودَ إلى السَّمَاءِ ليطَّلِعَ إلى إلهِ مُوسَى فيُكَذِّبَه فيما أخبَرَ به مِن أنه سُبْحَانَهُ فوقَ السَّمَاواتِ فَقَالَ :{ ياهامان ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَـلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَـهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً } فمَن نفَى العُلُوَّ مِن الجَهْمِيَّةِ فهو فِرْعَونيٌّ ، ومَنْ أثْبَتَه فهو مُوسَوِيٌّ مُحَمَّديٌّ . ( السَّابعَ عشَرَ ) : إخبارُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه تَردَّدَ بينَ مُوسَى عليه السَّلام وبين رَبِّه ليلةَ المعراجِ بسبَبِ تخفيفِ الصَّلاةِ ، فيَصعَدُ إلى ربِّه ثم يعودُ إلى مُوسَى عدَّةَ مِرارٍ . ( الثَّامنَ عشَرَ ) : النُّصُوصُ الدَّالَّةُ على رؤيةِ أهلِ الجَنَّةِ له تَعَالَى مِن الكِتابِ والسُّنَّةِ ، وإخبارُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنهم يَرَوْنَهُ كرُؤيةِ الشَّمْسِ والقمرِ ليلةَ البدرِ لَيْسَ دُونه سحابٌ فلا يَرَوْنَهُ إلاَّ مِن فَوْقِهم . كما قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " بَيْنَا أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي نَعِيمِهِمْ إِذْ سَطَعَ لَهُمْ نُورٌ فَرَفَعُوا رُءُوسَهُمْ فَإِذَا الْجَبَّارُ جَلَّ جَلالُهُ قَدْ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَقَالَ : يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ سَلامٌ عَلَيْكُمْ " ثم قرأَ قولَه تَعَالَى :{ سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } " ثُمَّ يَتَوَارَى عَنْهُمْ وتَبْقَى رَحْمَتُهُ وَبَرَكَتُهُ عَلَيْهِمْ فِي دِيَارِهِمْ " رواه الإمامُ أحمدُ في المُسنَدِ وغيرُه مِن حديثِ جابرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . ولا يَتِمُّ إنكارُ الفوقيَّةِ إلا بإنكارِ الرؤيةِ ، ولهذا طرَدَ الجَهْمِيَّةُ الأمْرَيْنِ ، وصدَّقَ بهما أهلُ السُّنَّةِ ، وصارَ مَن أَثْبَتَ الرُّؤيةَ ونفَى العُلُوَّ مُذَبْذَباً بين ذلك لا إلى هَؤُلاَءِ ولا إلى هَؤُلاَءِ . وهذه الأنواعُ مِن الأدلَّةِ لو بُسِطَتْ أفْرَادُها لبَلَغَتْ نحوَ ألفِ دليلٍ . فعلى المتأوِّلِ أنْ يُجِيبَ عن ذلك كلِّه وهيهاتَ له بجـوابٍ صحيحٍ فأمَّا عُلُوُّه تَعَالَى ومباينَتُه للمخلوقاتِ فيُعلمُ بالعقلِ الموافِقِ للسَّمْعِ ، وأما الاستواءُ فطريقُ العِلْمِ به هو السَّمْعُ وعُلُوُّه سُبْحَانَهُ كما هو ثابِتٌ بالسَّمْعِ ثابتٌ بالعقلِ والفِطْرةِ . أمَّا ثُبُوتُه بالعَقْلِ فمِن وُجوهٍ .
أحدُها : العِلمُ البَديهيُّ القاطعُ بأنَّ كُلَّ مَوجودَيْنِ . إمَّا أنْ يكونَ أحدُهما سارياً في الآخَرِ قائماً به كالصِّفَاتِ ، وإمَّا أنْ يكونَ قائماً بنَفْسِه بائناً مِن الآخَرِ .
الثَّاني : أنه لمَّا خَلَقَ العالَمَ ، فإما أنْ يكونَ خَلَقَهُ في ذاتِه أو خارِجاً عن ذاتِه .
( والأوَّلُ ) باطِلٌ بالاتفاقِ . ولأنه يلزَمُ أنْ يكونَ مَحلاًّ للخَسَائِسِ والقاذُوراتِ تَعَالَى اللَّهُ عن ذلك عُلُوًّا كبيراً .
( والثَّاني ) يقتضي كونَ العالَمِ واقعاً خارِجَ ذاتِه فيكونُ منفصِلاً فتَعَيَّنَتِ المبايَنةُ ؛ لِأنَّ القولَ بأنه غَيْرُ متَّصِلٍ بالعالَمِ وغيرُ منفَصِلٍ عنه غيرُ معقولٍ .
( الثَّالثُ ) أنَّ كَوْنَه تَعَالَى لا داخِلَ العالَمِ ولا خارِجَه يقتضِي نفْيَ وجودِه بالكُلِّيَّةِ لأنه غيرُ معقولٍ فيكونُ مَوجوداً إما داخِلَه وإما خارِجَه والأوَّلُ باطِلٌ فتَعَيَّنَ الثَّاني فلزِمَتِ المبايَنةُ .
وأما ثُبوتُه بالفطرةِ فإنَّ الخَلْقَ جميعاً بطِباعِهِم وقلوبِهم السَّليمةِ يرفعون أيدِيَهُم عند الدُّعَاءِ ويقصِدونَ جِهَةَ العُلُوِّ بقُلوبِهم عند التَّضرُّعِ إلى اللَّهِ تَعَالَى ، وقد زعَمَ بعضُهم أنَّ السَّمَاءَ قِبلةُ الدُّعَاءِ ، ولذلك يَقصِدُ النَّاسُ جهةَ العُلُوِّ عند الدُّعَاءِ . وهذا خطأٌ ، فإنَّ وضعَ الجبهةِ في الأرضِ لَيْسَ لِأنَّ اللَّهَ في جهةِ الأرضِ . وأيضاً فإنه لم يَقُلْ أَحدٌ مِن سلَفِ الأُمَّةِ : إِنَّ السَّمَاءَ قِبلةُ الدُّعَاءِ . بل قِبلةُ الدُّعَاءِ هي قِبلةُ الصَّلاةِ فإنه يُسْتَحَبُّ للدَّاعِي أنْ يستقبِلَ القِبلةَ ، فمَن قَالَ : إنَّ للدُّعاءِ قِبلةً غيرَ قِبلةِ الصَّلاةِ فقد ابتدَعَ في الدِّينِ وخالَفَ جماعةَ المسلِمِينَ . والقِبلةُ هي ما يستقبِلُه العابِدُ بوَجْهِه ، كما تُسْتَقْبَلُ الكعبةُ في الصَّـلاةِ والدُّعَاءِ والذِّكْرِ والذَّبحِ ، وكما يُوجَّهُ المُحتضَرُ والمدفونُ ولذلك سُمِّيَتْ وِجْهَةً . والاستقبالُ خِلافُ الاستِدبارِ ، فالاستقبالُ بالوَجْهِ والاستدبارُ بالدُّبُرِ . فأمَّا ما حَاذَاهُ الإنسانُ برأسِه أو يَدَيْهِ أو جَنْبِه فهذا لا يُسَمَّى قِبلةً لا حقيقةً ولا مَجازاً . والموضِعُ الَّذِي تُرفَعُ إليه الأيدي لا يُسمَّى قِبلةً لا حقيقةً ولا مَجازاً ، ولِأنَّ القِبلةَ في الدُّعَاءِ أمْرٌ شَرْعِيٌّ تُتَّبَعُ فيه الشَّرائعُ ، ولم تأْمُرِ الرُّسُلُ أنَّ الدَّاعِيَ يستقبِلُ السَّمَاءَ بوَجهِه ، بل نَهَوْا عن ذلك . ومعلومٌ أنَّ التَّوْحِيدَ بالقلبِ ، واللَّجَأَ والطَّلَبَ الَّذِي يجِدُه الدَّاعي مِن نفْسِه أَمْرٌ فِطريٌّ يفعَلُه المُسْلِمُ والكافرُ والعالِمُ والجاهلُ ، وأكثرُ ما يفعَلُه المضْطَرُ والمُستغيثُ باللَّهِ ، كما فُطِرَ على أنه إذا مَسَّه الضُّرُّ يدعو اللَّهَ مَعَ أنَّ أمْرَ القِبلَةِ مما يَقْبلُ النَّسْخَ والتَّحويلَ ، كما تحوَّلَتِ القِبلةُ مِن الصَّخرةِ إلى الكعبةِ . وأمْرُ التَّوْحِيدِ في الدُّعَاءِ إلى الجهةِ العُلْويَّةِ مَرْكوزٌ في الفِطَرِ والمُسْتَقْبِلُ للكعبةِ يَعلَمُ أنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيْسَ هناك بخِلافِ الدَّاعي فإنه يَتَّجِهُ إلى ربِّهِ وخالِقِه ويَرجو الرَّحْمَةَ أنْ تَنزِلَ مِن عندِه . وأما النَّقْضُ بوضْعِ الجَبهةِ فما أفْسَدَه مِن نقْضٍ ، فإنَّ واضِعَ الجَبهةِ إنما قصْدُه الخضوعُ لمَن فوقَه بالذُّلِّ له ، لا بأنْ يَمِيلَ إليه إذْ هو تحتَه هذا لا يَخْطُرُ في قَلْبِ ساجدٍ . لكن يُحْكَى عن بِشْرٍ المِرِّيسِيِّ أنه سُمِعَ وهو يقولُ في سُجودِهِ : سُبْحَانَ ربِّيَ الأسْفَلِ ‍‌! تَعَالَى عمَّا يقولُ الظَّالِمونَ والجَاحِدونَ عُلُوًّا كبيراً).

هيئة الإشراف

#7

16 Dec 2008

التنبيهات السنية للشيخ: عبد العزيز بن ناصر الرشيد رحمه الله

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وقَوْلُهُ: ( يَا عِيْسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ )،( بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِليهِ )
وقوله: ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ).
وقوله: (وَقَالَ فَرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ. أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فأَطَّلِعَ إِلى إَلَهِ مُوْسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً ).
وَقَوْلُهُ: ( أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ. أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبَاً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرٌ )
).

الشرح:

قال الشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد (ت: 1408هـ): (قَولُهُ: (يَا عِيْسَى إِنَّي مُتوَفِّيكَ): أي قابِضُك من الأرضِ ورافعُك إليَّ من غيرِ موتٍ، من قَولِهِم توفَّيتُ الشَّيءَ واستوفيتُه إذا قبضتُه وأخذتُه تامًّا، انتهى. الخازِن.ُ والتَّوفِّي الاستيفاءُ، وهو يصلحُ لتوفِّي النَّومِ ولتوفِّي الموتِ الَّذي هو فراقُ الرُّوحِ البدنَ، ولم يذكرِ القبضَ الَّذي هو قبضُ الرُّوحِ والبدنِ جميعًا، والصَّوابُ الَّذي عليه المحقِّقون، أنَّ عيسى عليه السَّلامُ لم يمتْ بحيثُ فارقتْ روحُه بدنَه، بل هو حيٌّ مع كونِه تُوفِّي. انتهى. من اختياراتِ الشَّيخِ تقيِّ الدِّينِ بنِ تيميةَ.
قَولُهُ: (وَرَافِعُكَ إِلَيَّ): أي رفعَهُ اللهُ -سُبْحَانَهُ- إلى السَّماءِ وهو حيٌّ، كما قال: (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ )، والضَّميرُ في قَولِهِ: (قَبْلَ مَوْتِهِ) عائدٌ إلى عيسى، وذلك حينَ ينـزلُ إلى الأرضِ قبلَ يومِ القيامةِ، ونزولُ عيسى ثابتٌ وهو أحدُ أشراطِ السَّاعةِ الكبارِ، وفي الصَّحيحين عن أبي هريرةَ أنَّه قال: قالَ رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلاً مُقْسِطًا فَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلُ الخِنْزِيرَ وَيَضَعُ الجِزْيَةَ وَيَفِيضُ المَالُ حَتَّى لاَ يَقْبَلَه أَحَدٌ)). وفي روايةٍ: ((حَتَّى تَكُونَ السَّجْدَةُ الوَاحِدَةُ خَيْراً مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا)) ثمَّ يقولُ: ((اِقرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) وفي هذه الآيةِ إثباتُ الكلامِ للهِ -سُبْحَانَهُ- والرَّدُّ على مَن زعمَ أنَّ كلامَه -سُبْحَانَهُ- معناه المعنى النَّفسيُّ، وفيها دليلٌ أنَّ اللهَ رفَعَ عيسى إلى السَّماءِ وقبضَه إليه، وفيهما دليلٌ على علوِّه -سُبْحَانَهُ- على خلقِه، إذ الرَّفعُ لا يكونُ إلا من أسفلَ إلى أعلى.
قَولُهُ: (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِليهِ): في هذه الآيةِ -كالآيةِ السَّابقةِ- دليلٌ على أنَّ اللهَ رفعَ عيسى عليه السَّلامُ إلى السَّماءِ وقبضَهُ إليه، وفيها دليلٌ على علوِّه -سُبْحَانَهُ- على خلقِه، وفي هذه الآيةِ والَّتي قبلَها الرَّدُّ على اليهودِ الَّذين تَنَقَّصُوهُ وجعلوه ابنَ زِنا، والرَّدُّ على النَّصارى الَّذين غلَوْا فيه ورفعُوه عن مَقَامِ النبوَّةِ إلى مقامِ الرَّبوبيَّةِ، تعالى اللهُ عَن قَولِهِم عُلُوًّا كبيرًا.

قَولُهُ: (إِلَيْهِ): أي إلى اللهِ سُبْحَانَهُ وتعالى. (يَصْعَدُ): أي يرتفعُ والصـُّعودُ: الارتفاعُ، وأمـَّا أصعدَ يُصعَدُ بالضـَّمِّ فمعناه: أبعدُ في الهروبِِ، ومنه (إِذْ تُصْعِدُونَ).
وقَولُهُ: (الكَلِمُ الطَّيِّبُ): يعني الذِّكرَ والتِّلاوةَ والدُّعاءَ، قاله غيرُ واحدٍ من السَّلفِ، انتهى. من ابنِ كثيرٍ.
قَولُهُ: (وَالعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ): قال مجاهدٌ: العملُ الصَّالِحُ يرفعُ الكلمَ الطَّيِّبَ. وقيل الرَّفعُ مِن صفةِ اللهِ سُبْحَانَهُ وتعالى، أي العملُ الصَّالحُ يرفعُه اللهُ، قال سفيانُ بنُ عيينةَ: العملُ الصَّالحُ هو الخالصُ، يعني أنَّ الإخلاصَ يسبِّبُ قبولَ العملِ، كما قالَ سُبْحَانَهُ: (فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا) الآيةَ. وقالَ ابنُ القيَّمِ: العملُ الصَّالحُ هو الخالي من الرِّياءِ المقيَّدِ بالسُّنَّةِ، في هذه الآيةِِ أيضًا دليلٌ على علوِّ اللهِ -سُبْحَانَهُ- وتعالى؛ لأنَّ الصُّعودَ والرَّفعَ لا يكونُ إلا من أسفلَ إلى أعلى.
قَولُهُ: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ): هو ملكُ القبطِ في الدِّيارِ المصريَّةِ، وفرعونُ لقبٌ لكلِّ مَنْ ملكَ مصرَ.

قَولُهُ: (يَا هَامَانُ): أي قالَ فرعونُ لوزيرهِ هامانَ (ابْنِ لِي صَرْحًا): أي قصرًا عاليًا منيفًا.
قَولُهُ: (لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ): أسبابَ: مفردُه سببٌ، والسَّببُ يأتي بمعنى الحبلِ كقَولِهِ: (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ) والطَّريقِ ومنه قَولُهُ (فَأَتْبَعَ سَبَبًا) والبابِ كقَولِهِ: (أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ).
قَولُهُ: (أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ): أي طُرقَها وأبوابَها وما يُؤدِّي إليها، وكلُّ ما أدى إلى شيءٍ فهو سببٌ إليه كالرِّشَا ونحوِه.
قَولُهُ: (فأَطَّلِعَ): بالنَّصبِ على جوابِ الشِّرطِ أي أصعدَ، والاطَّلاعُ هو الصُّعودُ.
قَولُهُ: (إِلى إَلَهِ مُوْسَى وَإِنَّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا): أي في دعواه أنَّ له إلهًا غيري، وأنَّه أرسلَه، ففي هذه الآيةِ دليلٌ على أنَّ موسى عليه السَّلامُ كانَ يقولُ: ربُّه في السَّماءِ وفرعونُ يظنُّه كاذبًا، فمَن نفى العلوَّ من الجهميَّةِ فهو فرعونيٌّ، ومَن أثبتَهُ فهو مُوسَويٌّ محمَّديٌّ، ففيها دليلٌ على إثباتِ علوِّ اللهِ -سُبْحَانَهُ- على خلقِه، وأنَّ موسى عليه السَّلامُ أخبَر أنَّ رَبَّه في السَّماءِ، وعلوُّ اللهِ -سُبْحَانَهُ- على خلقِه ممَّا تواطأَ على إثباتِه العقلُ والنَّقلُ وفَطَرَ اللهُ عليه الخلقَ، وأدلَّـةُ إثباتِ العلوِّ كثيرةٌ جدًّا تزيدُ على ألفِ دليلٍ، قيل لعبدِ اللهِ بنِ المباركِ كيفَ نعرفُ ربَّنا؟ فقال: بأنَّه فوقَ السَّماءِ السَّابعةِ على العرشِ بائنٌ من خلقِه، وقال الأوزاعيُّ: كُنَّا والتَّابعونَ متوافِرون نقولُ: إنَّ اللهَ تعالى بائنٌ من خلقِه، ونؤمنُ بما وردتْ به السُّنَّةُ، وقال أبو عمرٍو الطلمنكيُّ في كتابِ (الأصولِ): أجمعَ المسلمون من أهلِ السُّنَّةِ على أنَّ اللهَ استوى على عرشِه على الحقيقةِ لا على المجازِ، ثمَّ ساقَ بسندِه عن مالكٍ قال: اللهُ في السَّماءِ وَعِلْمُهُ في كلِّ مكانٍ، ثمَّ قال في هذا الكتابِ: أجمعَ المسلمونَ من أهلِ السُّنَّةِ أنَّ معنى قَولِهِ: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ) ونحوِ ذلك من القرآنِ أنَّ ذلك علمُه، وأنَّ اللهَ فوقَ السَّماواتِ بذاتِه مستوٍ على عرشِه كيف شاءَ، هذا لفظُه في كتابهِ، وهذا كَثيرٌ في كلامِ الصَّحابةِ والتَّابعين، والأئمَّةُ أثبتوا ما أثبتَهُ اللهُ في كتابِه على لسانِ رسولِه على الحقيقةِ فيما يليقُ بجلالِِه وعظمتِه، ونفَوا عنه مشابهةَ المخلوقِين ولم يُمَثِّلُوا أو يُعَطِّلُوا.

قَولُهُ: (أَأَمِنْتُمْ): مِن الأمنِ وهو ضدُّ الخوفِ.
قَولُهُ: (مَنْ فِي السَّماء): أي أأمنتم عقابَ مَن في السَّماء، وهو اللهُ إنْ عصيتُموه، وهذا عندَ أَهلِ السُّنَّةِ على أحدِ وجهينِ.
الأوَّلِ: أن تكون ((في)) بمعنى على.
قَولُهُ: (أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ): أي كما خسفَ بقارونَ.
قَولُهُ: (فَإِذَا هِيَ تَمُورُ): أي تضطربُ وتتحرَّكُ.
قَولُهُ: (أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا): أي ريحٌ شديدةٌ سُمِّيت بذلك لأنَّها ترمي الحصباءَ.
قَولُهُ: (فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرٌ): أي إذا رأيتُم ذلك عَلِمتم كيفَ إنذاري حين لا ينفعُكم العلمُ. في هذه الآيةِ إشارةٌ إلى التَّحذيرِ مِن الأمنِ مِنْ مكرِ اللهِ، وفي هذهِ الآيةِ دلالةٌ واضحةٌ على علوِّ اللهِ -سُبْحَانَهُ- على خلقِه، وقد تواترتْ في ذلك الأدلَّةُ واتَّفقتْ على إثباتِ العلوِّ جميعُ الرُّسلِ، وذكر ابنُ القيِّمِ أنَّ أدلَّةَ العلوِّ تزيدُ على ألفِ دليلٍ، وينقسمُ العلوُّ إلى ثلاثةِ أقسامٍ كما تقدَّمتِ الإشارةُ إلى ذلك: علوِّ القدرِ، علوِّ القهرِ، علوِّ الذاتِ، فله العلوُّ الكاملُ من جميعِ الوجوهِ، قال ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ في (النُّونيَّةِ):

إنَّ العـلـوَّ بمطلـقِـه عـلـى الـتَّـعـ ... ـمـيــمِ والإطـــلاقِ بالـبـرهـانِ
ولـه العلـوُّ مـن الـوجـوهِ جميعِـهـا ... ذاتًـا وقهـرًا مــع عـلـوِّ الـشَّـان
وعـلـوُّه فــوقَ الخليـقـةِ  كلِّـهـا ... فُطـرتْ علـيـه الخـلـقُ والثَّـقـلان
كـلٌّ إذا مــا نـابَـه أمــرٌ يُــرى ... متوجِّـهًـا بـضــرورةِ الإنـســانِ
نحـوَ العلـوِّ فليـسَ يطـلـبُ خلـفَـه ... وأمـامَـهُ أو جـانــبَ الإنـســانِ


وكذلك الفوقيَّةُ فإنَّها ثَابِتَةٌ للهِ سُبْحَانَهُ وتعالى، قال اللهُ تعالى: (يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ)، وقَولُهُ: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ) وهي من صفاتِ الذَّاتِ. وفوقَ وعلاَ بمعنًى واحدٍ، وفوقيَّتُه -سُبْحَانَهُ- ثابتةٌ كعلوِّه، تواطأتْ على إثباتِها أدلَّةُ العقلِ والنَّقلِ والفِطَرُ الَّتي لم تتغيَّرْ. وأقسامُ الفوقيَّةِ ثلاثةٌ:
فوقيَّةُ القدرِ. فوقيَّةُ القهرِ. فوقيَّةُ الذَّاتِ، خلافًا للجهميَّة والمعتزلةِ الَّذين يُنكرون فوقيَّةَ الذَّاتِ، قال ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ في (النُّونيَّةِ):

والفوقُ وصفٌ ثابتٌ بالـذَّاتِ ... من كلِّ الوجوهِ لفاطِرِ  الأكوانِ
لكنْ نفاةُ الفوقِ ما  وافَوا  بـه ... جحدُوا كمالَ الفوقِ  للدَّيَّـانِ
بل فسَّرُوه بأنَّ قدْر اللهِ  أعـلا ... لا بفـوقِ الـذَّاتِ  للرَّحمـنِ
قالوا وهذا مثلُ قولِ  النَّاسِ  في ... ذهبٍ يُرى من  خالصِ  العِقْيانِ
هو فوقَ جنسِ  الفضَّةِ  البيضاءِ ... لا بالذَّاتِ بل في مقتضى الأثمانِ
والفوقُ أنواعٌ ثـلاثٌ  كلُّهـا ... للهِ ثابتـةٌ  بــلا  نـكـرانِ
هذا الَّذي قالوا وفوقَ  القهـرِ ... والـفوقيَّةِ العليا على  الأكوانِ


قال ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ: وممَّا ادَّعى المعطِّلةُ مَجازَهُ الفوقيَّةُ، وقد وردَ به القرآنُ مطلقًا بدون حرفٍ، ومقترنًا بحرفٍ.
فالأوَّلُ كقَولِهِ: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ) في موضِعين. والثَّاني: كقَولِهِ سُبْحَانَهُ: (يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّنْ فَوْقِهِمْ) وفي حديثِ الأوعالِ: ((وَالعَرْشُ فَوْقَ ذَلِكَ وَاللهُ فَوْقَ العَرْشِ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيءٌ مِنْ أَعْمَالِكُمْ)) وحقيقةُ الفوقيَّةِ علوُّ ذاتِ الشَّيءِ على غيرِه، فادَّعى الجهميُّ أنَّه مجازٌ في فوقيَّةِ الرُّتبةِ والقهرِ، كما يُقالُ الذَّهبُ فوقَ الفضَّةِ، وهذا وإنْ كانَ ثابتًا للرَّبِّ لكنَّ إنكارَ حقيقةِ فوقيَّتهِ -سُبْحَانَهُ- وحمْلَها على المجازِ باطِلٌ من وجوهٍ عديدةٍ: أحدُها: أنَّ الأصلَ الحقيقةُ والمجازُ خلافُ الأصلِ.
الثَّاني: أنَّ الظَّاهرَ خلافُ ذلك إلى أنْ قال.
الثَّالثُ: أنَّ الفِطَرَ والعقولَ والشَّرائعَ وجميعَ كُتُبِ اللهِ المُنَزَّلةِ على خلافِ ذلك، وساقَ وجوهًا عديدةً في إبطالِ ما ذكروه والرَّدِّ عليهم في (الصَّواعقِ) ).