11 Nov 2008
الإيمان باستواء الله على عرشه
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وَقَوْلُهُ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ]سورة طه: 5] {ثم استوى على العرش} فِي سبعة مَوَاضِعَ :
في سورة الأعراف: [54] قوله: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ). وقال في سورة يونس عليه السلام: [40]: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ).
وقال في سورة الرعد: [2]: (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) وقال في سورة طه: [5]: (الرَّحْمَـنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى). وقال في سورة الفرقان: [59]: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَـنُ).
وقال في سورة ألم السجدة: [4]: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ).وقال في سورة الحديد: [4]: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) ).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وقوله (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) [طه: 5]. (1) (ثُمَّ استَوَى عَلَى العَرشِ) في سبعة مواضع، في سورة الأعراف وقوله: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوات وَالأَرضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استَوَى عَلَى العَرشِ) [الأعراف: 54].وقال في سورة يونس عليه السلام:(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوات وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)[يونس:3]. وقال فيسورة الرعد: (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) [الرعد: 2].وقال في سورة طه: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)[طه: 5]. في سورةِ الفرقانِ قولُهُ: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ)[الفرقان:59]. في سورةِ ألم السجدةِ قالَ: (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوات وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)[السجدة:4]. في سورةِ الحديدِ قالَ: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوات وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) [الحديد: 4]).
الشرح:
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): ( (1) استواءُ اللَّهِ عَلَى عَرْشِهِ
(44) ذَكَرَ المؤلِّفُ -رحمَهُ اللَّهُ- ثبوتَ استواءِ اللَّهِ عَلَى عرشهِ وأنَّهُ فِي سبعةِ مواضعَ مِنَ القرآنِ:
الموضعُ الأوَّلُ: قولُهُ فِي سورةِ الأعرافِ:
(إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوات وَالأَرضَ فِي
سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استَوَى عَلَى العَرشِ) [الأعراف: 54].
(اللَّهُ) خبرُ (إِنَّ).
(خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالأَرضَ): أوجدَهمَا مِنَ العدمِ عَلَى وجهِ الإحكامِ والإتقانِ.
(فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ): ومدَّةُ هذِهِ الأيامِ
كأيامِنا الَّتِي نعرفُ؛ لأنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذكرَها
منكَّرةً، فَتُحْمَلُ عَلَى مَا كَانَ معروفاً.
وأوَّلُ هذِهِ الأيامِ يومُ الأحدِ، وآخرُها يومُ الجمعةِ.
مِنْهُا أربعةُ أيامٍ للأرضِ، ويومانِ للسَّماءِ، كَمَا فصَّلَ اللَّه ذلِكَ فِي سورةِ فُصِّلَتْ:
(قُل أَئِنَّكُم لَتكفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ
الأَرضَ فِي يَومَينِ وَتَجعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذلِكَ رَبُّ
العَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا
وقدَّرَ فِيهَا أَقْواَتَهَا فِي أَربَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً
لّلسَّائِلِينَ) [فصلت: 9 – 10]، فصارتْ أربعةً. (ثُمَّ استَوَى إِلَى
السَّمَاءِ وَهِىَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرضِ ائتِيَا طَوْعًا أَوْ
كَرْهًا قَالَتَا أَتَينَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي
يَومَينِ)[فصلت: 11– 12].
وقولُهُ: (ثُمَّ استَوَى عَلَى العَرشِ): (ثُمَّ): للتَّرتيبِ.
(استَوَى)، بمعنى: عَلاَ.
و(العَرشِ): هُوَ ذلِكَ السَّقْفُ المحيطُ
بالمخلوقاتِ، ولاَ نعلمُ مادَّةَ هَذَا العرشِ؛ لأنَّهُ لَمْ يَرِدْ عَنِ
النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديثٌ صحيحٌ يبيِّنَ مِنْ
أينَ خُلِقَ هَذَا العرشُ، لكنَّنا نعلمُ أنَّهُ أكبرُ المخلوقاتِ الَّتِي
نعرِفُها.
وأصلُ العرشِ فِي اللُّغةِ: السَّريرُ الَّذِي
يختصُّ بهِ الملكُ، ومعلومٌ أنَّ السَّريرَ الَّذِي يختصُّ بهِ المُلْكُ
سَيَكُونُ سَريراً عظيماً فَخْماً لاَ نَظِيرَ لَهُ.
وفِي هذِهِ الآيةِ مِنْ صِفاتِ اللَّهِ تَعَالَى
عدَّةُ صفاتٍ، لكنَّ المؤلِّفَ ساقَها لإثباتِ صفةٍ واحدةٍ، وهِيَ
الاستواءُ عَلَى العرشِ.
وأهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ يؤمنونَ بأنَّ
اللَّهَ تَعَالَى مستوٍ عَلَى عرشِه استواءً يليقُ بجلالَهِ ولاَ يماثلُ
استواءَ المخلوقِينَ.
فإنْ سَأَلْتَ: مَا معنى الاستواءِ عندَهم؟ فمعناهُ العلوُّ والاستقرارُ.
وقَدْ وردَ عَنِ السَّلَفِ فِي تفسيرهِ أربعةُ معانٍ: الأوَّلُ: علا.
والثَّاني: ارتفعَ. والثَّالثُ: صَعِدَ. والرَّابعُ: استقرَّ.
لكنْ (عَلا) و(ارتَفَعَ) و(صَعِدَ) معناها واحدٌ، وأمَّا (استقرَّ)، فَهُوَ يختلفُ عَنْها.
ودليلُهم فِي ذلِكَ: أنَّها فِي جميعِ مواردِها
فِي اللُّغةِ العربيَّةِ لَمْ تأتِ إِلَّا لِهَذَا المَعْنَى إِذَا كانَتْ
متعديةً بـ(على).
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (فَإِذَا استَوَيتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الفُلكِ) [المؤمنونَ: 28].
وقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَجَعَلَ لَكُم مّنَ
الفُلكِ وَالأَنعَامِ مَا تَركَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ
تَذكُرُوا نِعمَةَ رَبِّكُم إِذَا استَوَيتُمْ عَلَيهِ) [الزخرف: 12].
وفسَّرَه أهلُ التَّعطيلِ بأنَّ المرادَ بهِ
الاستيلاءُ، وقالُوا: معنى: (ثُمَّ استَوَى عَلَى العَرشِ) [الأعراف: 54]،
يعنِي: ثُمَّ استولَى عليِه.
واستدلُّوا لتَحريفِهِمْ هَذَا بدليلٍ موجِبٍ وبدليلٍ سالبٍ:
-أمَّا الدَّليلُ الموجِبُ، فَقَالَُوا: إنَّنَا نستدِلُّ بقولِ الشَّاعِرِ:
قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلى العِراقِ مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ أوْ دَمٍ مِهْراقِ
(بِشرٌ): ابنُ مروانَ، (استوى)، يعني: استولَى عَلَى العراقِ.
قالُوا: وَهَذَا بيتٌ مِنْ رجلٍ عربيٍّ، ولاَ
يمكنُ أنْ يكونَ المرادُ بهِ استوى عَلَى العراقِ، يعني علاَ عَلَى
العراقِ! لاَ سيمَّا أنَّهُ فِي ذلِكَ الوقتِ لاَ طائراتٍ يمكنُ أنْ يعلوَ
عَلَى العراقِ بِها.
-أمَّا الدَّليلُ السَّلبيُّ، فَقَالَُوا: لو
أثبتْنا أنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ مستوٍ عَلَى عرشِه بالمَعْنَى الَّذِي
تقولُونَ، وهُوَ العلوُّ والاستقرارُ، لزمَ مِنْ ذلِكَ أنْ يكونَ محتاجاً
إِلَى العرشِ، وَهَذَا مستحيلٌ، واستحالةُ اللاَّزمِ تدلُّ عَلَى استحالةِ
الملزومِ.
ولزمَ مِنْ ذلِكَ أنْ يكونَ جسماً؛ لأنَّ استواءَ شيءٍ عَلَى شيءٍ بمعنى علوِّه عَلَيْهِ يعني أنَّه جسمٌ.
ولزمَ أنْ يكونَ محدوداً؛ لأنَّ المستويَ عَلَى
الشَّيءِ يكونُ محدوداً، إِذَا استويْتَ عَلَى البعيرِ، فأنْتَ محدودٌ فِي
منطقةٍ معينةٍ محصورٌ بها، وعَلَى محدودٍ أيضاً.
هذِهِ الأشياءُ الثَّلاثةُ الَّتِي زعمُوا أنهَّا تلزمُ مِنْ إثباتِ أنَّ الاستواءَ بمعنَى العلوِّ والارتفاعِ.
والرَّدُّ عَلَيْهِمْ مِنْ وجوهٍ:
أَوَّلاً: تفسيرُكُمْ هَذَا مخالفٌ لتَفسيرِ
السَّلَفِ الَّذِي أجمعوُا عَلَيْه، والدَّليلُ عَلَى إجماعِهمْ أنَّهُ
لَمْ يُنقَلْ عَنْهُم أنَّهم قالوا بهِ وخالَفوا الظَّاهرَ، ولَوْ كانوا
يرَوْنَ خلافَ ظاهرِه، لنُقلَ إلينَا، فمَا مِنْهم أحدٌ قالَ: إنَّ
(استوَى) بمعنى (استولَى) أبداً.
ثانياً: أنَّهُ مخالِفٌ لظاهرِ اللَّفظِ؛ لأنَّ
مادةَ الاستواءِ إِذَا تعدَّتْ بـ(على)، فهِيَ بمعنى العلوِّ والاستقرارِ،
هَذَا ظاهرُ اللَّفظِ، وهذِهِ مواردُها فِي القرآنِ وفِي كلامِ العربِ.
ثالثاً: أنَّه يلزمُ عَلَيْهِ لوازمُ باطلةٌ:
1- يلزمُ أنْ
يكونَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ حينَ خَلْقِ السَّماواتِ والأرضِ ليسَ مستولياً
عَلَى عرشِهِ؛ لأنَّ اللَّهَ يقولُ: (خَلَقَ السَّمَاوات وَالأَرْضَ فِي
سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) [الأعراف: 54]، و(ثُمَّ)
تفيدُ التَّرتيبِ، فيُلزمُ أنْ يكونَ العَرشُ قبلَ تمامِ خَلْقِ
السَّماواتِ والأرضِ لغَيرِ اللَّهِ.
2- أنَّ الغالِبَ مِنْ كلمةِ (استولَى) أنهَّا لاَ تكونُ إلاَّ بَعدَ مغالبةٍ! ولاَ أَحدَ يَغالِبُ اللَّهَ.
أيْنَ المَفَرُّ والإلَهُ الطَّالِبُ والأشْرَمُ المَغْلوبُ لَيْسَ الغالِبُ
3- مِنَ اللَّوازمِ الباطلةِ أنَّهُ يصحُّ أنْ نقولَ: إنَّ اللَّهَ استوى عَلَى الأرضِ والشَّجرِ والجبالِ؛ لأنَّهُ مستولٍ عليْها.
وهذِهِ لوازمُ باطلةٌ، وبطلانُ اللاَّزمِ يدلُّ عَلَى بطلانِ الملزومِ.
وأمَّا استدلالُهُم بالبيتِ، فنقولُ:
1- أثبتِوُا لنا سَنَدَ هَذَا البيتِ وثِقَةَ رجالِه، ولنْ يجدُوا إِلَى ذلِكَ سبيلاً.
2- مَنْ هَذَا
القائلُ؟ أفلاَ يمكنُ أنْ يكونَ قالَهُ بعدَ تغيُّرِ اللِّسانِ؟ لأنَّ
كُلَّ قولٍ يُستدَّلُ بهِ عَلَى اللُّغةِ العربيَّةِ بعدَ تغيُّرِ اللُّغةِ
العربيَّةِ فإنَّهُ ليسَ بدليلٍ؛ لأنَّ العربيَّةَ بدأَتْ تتغيَّرُ حينَ
اتسعَتِ الفتوحُ ودخلَ العجمُ مَعَ العربِ فاختلفَ اللِّسانُ، وَهَذَا
فِيهِ احتمالُ أنَّهُ بعدَ تغيُّرِ اللسانِ.
3- إنَّ
تفسيرَكُم ((استوَى بِشْرٌ عَلَى العراقِ)) بـ(استولَى) تفسيرٌ تعضِّدُهُ
القرينةُ؛ لأنَّهُ مِنَ المتعذَّرِ أنَّ بِشراً يَصْعَدُ فَوْقَ العراقِ
فيستوِي عَلَيْهِ كَمَا يَستوِي عَلَى السَّريرِ أوْ عَلَى ظَهرِ
الدَّابَّةِ، فَلِهَذَا نلجأُ إِلَى تفسيرِهِ بـ(استولَى).
هَذَا نقولُهُ مِنْ بابِ التَّنَزُّلِ، وإلا،
فعندَنا فِي هَذَا جوابٌ آخرُ: أنْ نقولَ: الاستواءُ فِي البيتِ بمعنى
العلوِّ؛ لأنَّ العلوَّ نوعانِ:
1-علوٌّ حسيٌّ، كاستوائِنا عَلَى السَّريرِ.
2-وعلو معنويٌّ، بمعنى السَّيطرةِ والغَلَبِة.
فيكونُ معنى ((استوى بِشرٌ عَلَى العراقِ))، يعني: علاَ عُلوَّ غلبةٍ وقهرٍ.
وأمَّا قولُكُم: إنَّهُ يلزمُ مِنْ تفسيرِ الاستواءِ بالعُلُوِّ أنْ يكونَ اللَّهُ جسماً.
فجوابُهُ: كُلُّ شيءٍ يلزمُ مِنْ كتابِ اللَّهِ
وسُنَّةِ رسولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهُوَ حقٌّ،
ويَجِبُّ عَلَيْنَا أنْ نلتزِمَ بهِ، ولكنَّ الشَّأنَ كُلُّ الشَّأنِ أنْ
يكونَ هَذَا مِنْ لازمِ كلامِ اللَّهِ ورسولِهِ؛ لأنَّهُ قَدْ يمنعُ أنْ
يكونَ لازِماً، فَإِذَا ثبتَ أنَّهُ لازمٌ، فليَكنْ، ولاَ حَرَجَ عَلَيْنَا
إِذَا قلنْا بهِ.
ثُمَّ نقولُ: مَاذَا تعنونَ بالجسمِ الممتنعِ؟
إنْ أردتُم بهِ أنَّهُ ليسَ لِلَّهِ ذاتٌ
تتَّصِفُ بالصِّفاتِ اللاَّزمةِ لَهَا اللائقةِ بِها، فقولُكُم باطلٌ؛
لأنَّ لِلَّهِ ذاتاً حقيقيَّةً متَّصِفةً بالصِّفاتِ، وأنَّ لَهُ وجهاً
ويداً وعيناً وقَدَماً، وقُولوا مَا شئْتُمْ مِنَ اللَّوازمِ الَّتِي هِيَ
لازمُ حقٍّ.
وإنْ أردتُم بالجسمِ الَّذِي قلْتُم يمتنعُ أنْ
يكونَ اللَّهُ جسماً: الجسمُ المركَّبُ مِنَ العظامِ واللَّحمِ والدَّمِ
ومَا أشَبَهَ ذلِكَ، فهَذَا ممتنعٌ عَلَى اللَّهِ، وليسَ بلازمٍ مِنَ
القولِ بأنَّ استواءَ اللَّهِ عَلَى العرشِ علوُّه عَلَيْهِ.
وأمَّا قولُهم: إنَّهُ يلزمُ أنْ يكونَ محدوداً.
فجوابُهُ أنْ نقولَ بالتَّفصيلِ: مَاذَا تعنُونَ بالحدِّ؟
إنْ أردتمُ أنْ يكونَ محدوداً، أيْ: يكونَ
مبايناً للخلقِ منفصلاً عَنْهم، كَمَا تكونُ أرضٌ لزيدٍ وأرض لعَمْرٍ،
فهذِهِ محدودةٌ منفصلةٌ عَنْ هذِهِ، وهذِهِ منفصلةٌ عَنْ هذِهِ، فهَذَا
حقٌّ ليسَ فِيهِ شيءٌ مِنَ النَّقصِ.
وإنْ أردتُم بكونِه محدوداً: أنَّ العرشَ محيطٌ
بهِ، فهَذَا باطلٌ، وليسَ بلازمٍ، فإنَّ اللَّهَ تَعَالَى مستوٍ عَلَى
العرشِ، وإنْ كَانَ عزَّ وجلَّ أكبرَ مِنَ العرشِ ومِنْ غيرِ العرشِ، ولاَ
يلزمُ أنْ يكونَ العرشُ محيطاً بهِ، بَلْ لاَ يمكنُ أنْ يكونَ محيطاً بهِ؛
لأنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعظمُ مِنْ كُلِّ شيءٍ وأكبرُ مِنْ
كُلِّ شيءٍ، والأرضُ جميعاً قبضتُه يومَ القيامةِ، والسَّماواتُ مطوياتٌ
بيمينِه.
وأمَّا قولُهُم: يلزمُ أنْ يكونَ محتاجاً إِلَى العرشِ.
فنقولُ: لاَ يلزمُ؛ لأنَّ معنى كونِه مستوياً
عَلَى العرشِ: أنَّهُ فَوْقَ العرشِ، لكنَّهُ عُلُوٌّ خاصٌّ، وليسَ معناه
أنَّ العرشَ يُقِلُّه أبداً، فالعرشُ لاَ يُقلُّه، والسَّماءُ لاَ تُقلُّه،
وَهَذَا اللاَّزمُ الَّذِي ادعيتُموهٌ ممتنعٌ؛ لأنَّهُ نقصٌ بالنِّسبةِ
إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ، وليسَ بلازمٍ مِنَ الاستواءِ الحقيقِيِّ،
لأنَّنَا لَسْنَا نقولُ: إنَّ معنَى (اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)، يعني:
أنَّ العرشَ يقلُّه ويحملُه، فالعرشُ محمولٌ: (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ
فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثُمّاَنِيَةٌ) [الحاقة: 17]، وتحملُهُ الملائكةُ
الآنَ، لكنَّهُ ليسَ حامِلاً لِلَّهِ عزَّ وجلَّ؛ لأنَّ اللَّهَ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ليْسَ محتاجاً إِلَيْهِ، ولاَ مفتقراً إِلَيْهِ،
وبهَذَا تَبطلُ حُجَجُهُم السَّلبيَّةُ.
وخلاصةُ ردِّنا لكلامِهم مِنْ عدَّةِ أوجهٍ:
أَوَّلاً: أنَّ قولَهَم هَذَا مخالفٌ لظاهرِ النَّصِّ.
ثانياً: مخالفٌ لإجماعِ الصَّحابةِ وإجماعِ السَّلَفِ قاطبةً.
ثالثاً: أنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي اللُّغةِ
العربيَّةِ أنَّ (استوى) بمعنى (استولى)، والبيتُ الَّذِي احتجُّوا بهِ
عَلَى ذلِكَ لاَ يَتِمُّ بهِ الاستدلالُ.
رابعاً: أنَّهُ يلزمُ عَلَيْهِ لوازمٌ باطلةٌ:
-مِنْهُا: أنْ يكونَ العرشُ قبلَ خلقِ السَّماواتِ والأرضِ ملكاً لغيرِ اللَّهِ.
-أنَّ كلمةَ (استولى) تُعطي فِي الغالبِ أنَّ هُناكَ مغالبةً بينَ اللَّهِ وبينَ غيرهِ، فاستولَى عَلَيْهِ وغلبَهُ.
-أنَّهُ يصحُّ أنْ نقولَ –عَلَى زعمِكُم-: أنَّ
اللَّهَ استوى عَلَى الأرضِ والشَّجرِ والجبالِ والإنسانِ والبعيرِ؛
لأنَّهُ (استولَى) عَلَى هذِهِ الأشياءِ، فَإِذَا صحَّ أنْ نُطْلِقَ كلمةَ
(استولَى) عَلَى شيءٍ، صحَّ أنْ نُطلقَ (استوَى) عَلَى ذلِكَ الشَّيءِ،
لأنَّهمَا مترادفانِ عَلَى زعمِكمْ.
فبهذِهِ الأوجِهِ يتبيَّنُ أنَّ تفسيرَهم باطلٌ.
ولَمَّا كَانَ أبو المعالي الجُوينيُّ –عفا
اللَّهُ عَنْهُ- يقرِّرُ مذهبَ الأشاعرةِ، وينكرُ استواءَ اللَّهِ عَلَى
العرشِ، بَلْ وينكرُ عُلوَّ اللَّهِ بذاتهِ، قال: "كَانَ اللَّهُ تَعَالَى
ولَمْ يكنْ شيءٌ غيرُه، وهُوَ الآنَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ". وَهُوَ
يريدُ أنْ ينكرَ استواءَ اللَّهِ عَلَى العرشِ، يعني: كَانَ ولاَ عرشَ،
وَهُوَ الآنَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، إذاً: لَمْ يستوِ عَلَى العرشِ.
فقَالَ لَهُ أبو العلاءِ الَهمذانيُّ: يا أُستاذُ! دعْنا من ذكرِ العرشِ
والاستواءِ عَلَى العرشِ – يعني: لأنَّ دليلَهُ سمعيٌّ، ولولاَ أنَّ
اللَّهَ أخبرَنا بِهِ مَا علمْناه- أخبِرْنا عَنْ هذِهِ الضَّرورةِ الَّتِي
نجدُ فِي نفوسِنا: مَا قَالَ عارفٌ قطُّ: يا أللَّهُ! إِلَّا وجدَ مِنْ
قلبهِ ضرورةً بطلبِ العلوِّ. فَبُهِتَ أبو المعالي، وجعلَ يضربُ عَلَى
رأسِه: حيَّرَنِي الَهمذانيُّ، حَيَّرِني الَهمذانيُّ! وذلِكَ؛ لأنَّ هَذَا
دليلٌ فطريٌّ، لاَ أحدَ ينكرُه.
الموضعُ الثَّاني: فِي سورةِ يونُس، قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاواتِ
وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) [يونس:
3].
نقولُ فِيهَا مَا قلْنا فِي الآيةِ الأُولى.
الموضعُ الثَّالثُ: فِي سورةِ الرَّعدِ قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى: (اللَّهُ الَّذِى رَفَعَ السَّمَاواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ
تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) [الرعد: 2].
(رَفَعَ السَّمَاوات بِغَيْرِ عَمَدٍ): (بِغَيْرِ
عَمَدٍ): هَلْ يعني: ليسَ لَهَا عمدٌ مطلقاً؟ أَوْ لَهَا عمدٌ لكنَّها
غيرُ مرئيَّةٍ لنَا؟
فِيهِ خلافٌ بينَ المفسِّرينَ، فَمِنْهم مَنْ
قالَ: إنَّ جملةَ (تَرَوْنَهَا) صفةٌ لـ(عَمَدٍ)، أيْ: بغيرِ عمدٍ مرئيَّةٍ
لَكُم، ولَهَا عَمَدٌ غيرُ مرئيةٍ. ومِنْهُم مَنْ قالَ: إنَّ جملةَ
(تَرَوْنَهَا) جملةٌ مستأنفةٌ، معناها: ترونَها كذلِكَ بغيرِ عمدٍ. وَهَذَا
الأخيرُ أقربُ، فإنَّ السَّماواتِ ليْسَ لَهَا عَمَدٌ مرئيةٌ ولاَ غيرُ
مرئيةٍ، ولو كَانَ لَهَا عَمَدٌ، لكانَتْ مرئيةً فِي الغالبِ، وإنْ كَانَ
اللَّهُ تَعَالَى قَدْ يحجبُ عَنَّا بعضَ المخلوقاتِ الجِسْمِيَّةِ لحكمةٍ
يريدُها.
وقولُهُ: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ): هَذَا الشَّاهِدُ، ويُقالُ فِي معناها مَا سَبَقَ.
الموضعُ الرَّابعُ: فِي سورةِ طه قالَ: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) [طه: 5].
قدَمَّ (عَلَى الْعَرْشِ) وهُوَ معمولٌ
لـ(اسْتَوَى) لإفادةِ الحصرِ والتَّخصيصِ، وبيانِ أنَّهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى لَمْ يستوِ عَلَى شيءٍ سوى العرشِ.
وفِي ذكرِ (الرَّحْمَنُ) إشارةٌ إِلَى أنَّهُ مَعَ علوِّه وعظمتهِ موصوفٌ بالرَّحمةِ.
الموضعُ الخامسُ: فِي سورةِ الفرقانِ قولُهُ: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ) [الفرقان: 59].
(الرَّحْمَنُ): فاعلُ (اسْتَوَى).
الموضعُ السَّادسُ: فِي سورةِ ألم السَّجدةِ
قالَ: (اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوات وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا
فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) [السجدة: 4].
نقولُ فِيهَا مثلَ مَا قلْنا فِي آيتَيِ الأعرافِ
ويونُسَ، لكنْ هُنَا فِيهِ زيادةٌ: (وَمَا بَيْنَهُمَا)، يعني: بينَ
السَّماءِ والأرضِ، والَّذِي بَيْنَهمَا مخلوقاتٌ عظيمةٌ استحقَتْ أنْ
تكونَ معادلةً للسَّماواتِ والأرضِ، وهذِهِ المخلوقاتُ العظيمةُ مِنْهَا
مَا هُوَ معلومٌ لنا كالشَّمسِ والقمرِ والنُّجومِ والسَّحابِ، ومِنْهَا
مَا هُوَ مجهولٌ إِلَى الآنَ.
الموضعُ السَّابعُ: فِي سورةِ الحديدِ قالَ:
(هُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالأَرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ
اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) [الحديد:4].
فهذِهِ سبعةُ مواضعَ، كلُّها يذكرُ اللَّهَ تَعَالَى فِيهَا الاستواءَ معدًّى بـ(عَلَى).
وبعدُ، فَقَدْ قَالَ العلماءُ: إنَّ أصلَ هذِهِ
المادةِ (س و ى) تدلُّ عَلَى الكمالِ (الَّذِى خَلَقَ فَسَوَّى) [الأعلى:
2] أيْ: أكملُ مَا خلَقَه، فأصلُ السِّينِ والواوِ والياءِ تدلُّ عَلَى
الكمالِ.
ثُمَّ هِيَ عَلَى أربعةِ أوجهٍ فِي اللُّغةِ العربيَّةِ: معداةٌ بـ(إلَى) ومعدَّاةٌ بـ(عَلَى)، ومقرونةٌ بالواوِ، ومجرَّدةٌ:
-فالمعدَّاةُ بـ(على) مثلُ: (اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) [الحديد: 4]، ومعناها: علاَ واستقرَّ.
-والمعدَّاةُ بـ(إلى): مثلُ قولِهِ تَعَالَى: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ) [البقرة: 29].
فَهَلْ معناها كالأُولى المُعدَّاةِ بـ(على)؟
فِيهَا خلافٌ بينَ المفسِّرِينَ:
مِنْهُم مَنْ قالَ: إنَّ معناهمَا واحدٌ، وَهَذَا
ظاهرُ تفسيرِ ابنِ جريرٍ رحمَه اللَّهُ، فمعنى (اسْتَوَى إِلَى
السَّمَاءِ)، أيْ: ارتفعَ إِلَيْهِا.
ومِنْهُم مَنْ قالَ: بَلْ الاستواءُ هُنَا بمعنى
القصدِ الكاملِ، فمعنى استوى إِلَيْها، أيْ: قصدَ إِلَيْهِا قصداً كاملاً،
وأيدَّوُا تفسيَرهم هَذَا بأنَّها عُديَتْ بمَا يدلُّ عَلَى هَذَا المعنى،
وَهُوَ (إلى)، وإِلَى هَذَا ذهبَ ابنُ كثيرٍ -رحمَهُ اللَّهُ-، ففسَّرَ
قولَهَ: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ)، أيْ: قصدَ إِلَى السَّماءِ،
والاستواءُ هاهُنَا مضمنٌ معنى القصدِ والإقبالِ؛ لأنَّهُ عُدِّيَ بـ
(إلى). ا. هـ. كلامُه.
-والمقرونةُ بالواوِ، كقولَهِم: استوى الماءُ والخشبةُ، بمعنى: تساوى الماءُ والخشبةُ.
-والمجرَّدةُ، كقولِهِ تَعَالَى: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى) [القصص: 14]، ومعناها: كَمُلَ.
تنبيه:
إِذَا قلنْا: استوَى عَلَى العرشِ، بمعنى: علا،
فها هُنَا سؤالٌ، وهُوَ: إنَّ اللَّهَ خلقَ السَّماواتِ، ثُمَّ استوى عَلَى
العرشِ، فَهَلْ يستلزمُ أنَّهُ قبلَ ذلِكَ ليسَ عالياً؟
فالجوابُ: لاَ يستلزمُ ذلِكَ؛ لأنَّ الاستواءَ
عَلَى العرشِ أخصُ مِنْ مُطْلَقِ العلو؛ لأنَّ الاستواءُ عَلَى العرشِ
علُوٌّ خاصٌّ بهِ، والعلُوُّ شاملٌ عَلَى جميعِ المخلوقاتِ، فعلُوه عزَّ
وجلَّ ثابتٌ لَهُ أزلاً وأبداً، لَمْ يزلْ عالياً عَلَى كُلِّ شيءٍ قبلَ
أنْ يخلقَ العرشَ، ولاَ يلزمُ مِنْ عَدَمِ استوائِه عَلَى العرشِ عدمُ
علُوِّه، بَلْ هُوَ عالٍ، ثُمَّ بعدَ خلقِ السَّماواتِ والأرضِ علاَ علوًّا
خاصًّا عَلَى العرشِ.
فإنْ قُلْتَ: نفهمُ مِنَ الآيةِ الكريمةِ أنَّهُ
حينَ خلقَ السَّماواتِ والأرضِ ليسَ مستوياً عَلَى العرشِ، لكنْ قبلَ خلقِ
السَّماواتِ والأرضِ، هَلْ هُوَ مستوٍ عَلَى العرشِ أوْ لا؟
فالجوابُ: اللَّهُ أعلمُ بذلِكَ.
فإنْ قُلْتَ: هَلْ استواءُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عرشهِ مِنَ الصِّفاتِ الفِعليَّةِ أو الذاتيَّةِ؟
فالجوابُ: أنَّهُ مِنَ الصِّفاتِ الفِعليَّةِ؛
لأنَّهُ يتعلقُ بمشيئتهِ، وكُلُّ صفةٍ تتعلَّقُ بمشيئتِه، فهِيَ مِنَ
الصِّفاتِ الفِعليَّةِ).
تعليقات ابن باز على شرح
السعدي على الواسطية
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (إثبات استواء الله على عرشه
وقوله: (الرَّحْمَـنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) في سبعة مواضع:
في سورة الأعراف: [54] قوله: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ).وقال في سورة يونس عليه السلام: [40]: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ).
وقال في سورة الرعد: [2]: (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) وقال في سورة طه: [5]: (الرَّحْمَـنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى). وقال في سورة الفرقان: [59]: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَـنُ).
وقال في سورة ألم السجدة: [4]: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ). وقال في سورة الحديد: [4]: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)([1]) ).
الشرح:
قال الشيخ عبد العزيز بن عبد الله ابن باز (ت: 1420هـ): (([1]) " إثبات علو الله على خلقه، واستوائه على العرش، وإقرار العقول بذلك؛ أمر فطري فطر الله عليه العباد.
وأما الاستواء: فأثبته السَّمع من كتاب الله، وسنة رسوله، وليس في العقول ما يخالف ذلك. وحقيقته لغة: الارتفاع والعلو.
وأمّا عن الكيفية فذلك مما اختص الله بعلمه.
وأما تفسير الاستواء بالاستيلاء: فهو باطل من وجوه كثيرة:
منها:
أنه يتضمن أن الله جل وعلا كان مغلوبا على عرشه ثم غلب، وهذا باطل؛ لأنه
تعالى لم يزل قاهرا لجميع خلقه، مستوليا على العرش فما دونه.
وأما بيت الأخطل إلى الذي يستدلون به على أن معنى [ استوى ] استولى، فلا حجة فيه والبيت هو:
قد استوى بشر على العرق من غير سيف أو دم مهراق
لأن استعمال [ استوى
] بمعنى استولى غير معروف في لغة العرب، ولأن ذلك لو وجد في اللغة لم يجز
استعماله في حق الله، وأما المخلوق فيكون غالبا ومغلوبا كبشر هذا فإنه كان
مغلوبا على أمر العراق ثم غلب.
* فائدة نفيسة: ما ورد في الكتاب والسنة من أسماء الله وصفاته أقسام:
منها:
ما ورد بلفظ الاسم على وجه التسمي به، كالعزيز الحكيم، والغفور وشبه ذلك،
فهذا القسم يوصف به الرب ويسمى به، ويشتق له منه فعل، ويثبت له منه مصدر
كالعزة والحكمة والمغفرة.
ومنها: ما ورد بلفظ الاسم على وجه الإضافة، فهذا يطلق على الله بلفظ الإضافة، ولفظ الفعل، ولا يشتق له منه اسم، مثل قوله تعالى: [ يخادعون الله وهو خادعهم ] [النساء:142]،
فيجوز أن يقول: الله خادع المنافقين، ويخدع من خدعه، ونحو ذلك، ولا يجوز
أن نعد من أسمائه الخادع، لعدم وروده ولأن إطلاق الخادع يحتمل الذم والمدح
فلا يجوز إطلاقه في حق الله.
ومنها: ما ورد بلفظ الفعل فقط: كالكيد، والمكر؛ فهذا لا يطلق على الله إلا بلفظ الفعل، كقوله سبحانه وتعالى: [ إنهم يكيدون كيدا وأكيدُ كيدًا ] [الطارق:15،16] وقوله: [ومكروا ومكر الله] [آل عمران: 54].
ولا
يجوز أن يُعد من أسمائه سبحانه الكائد والماكر لما تقدم؛ وإنما جاز وصف
الرب بالخداع والمكر والكيد في الآيات المشار إليها لأنه في مقابل خداع
أعدائه وكيدهم ومعاملتهم بمثل ما فعلوا مدح وعدل يستحق عليه المدح والثناء.
فائدة
أخرى ذكرها شيخ الإسلام وغيره: وهي أن صفات الرَّب القولية والفعلية قديمة
النوع حادثة الآحاد: كالكلام والخلق والرزق والنزول وأشباه ذلك، ونحو ذلك،
فجنس الكلام والخلق والنزول قديم وأنواعه تحدث شيئا فشيئا على حسب حكمة
الرب سبحانه، كما في قوله تعالى: [ مَا يَأتِيهِم منْ ذِكْرٍ مِن ربّهِمْ مُحْدَثٍ
] الآية [الأنبياء:2] وكخلق آدم بعد أن لم يكن مخلوقا، وغير ذلك، وهكذا
الرزق والكلام. وأما صفات الذات كاليد والقدم والسمع والبصر فهي صفات قديمة
كالذات" ا هـ).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ مُحمَّد خَليل هَرَّاس رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وَقَولُهُ: { الرَّحْمنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى }في [ سَبْعَةِ ] مَوَاضِعَ:
فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ قُوْلُهُ: { إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذي خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالأَرْضَ في سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ}.
وقالَ في سورةِ يونُسَ عليهِ السَّلامُ: { إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذي خَلَقَ السَّمَاواتِ والأرْضَ في سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ}.
وقالَ في سورةِ الرَّعدِ: { اللهُ الَّذي رَفَعَ السَّمَاواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ }.
وقالَ في سُورةِ طه: { الرَّحْمنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوَى }.
وقالَ في سُورَةِ الفُرْقانِ: { ثُمَّ اسْتَوَى عَلى العَرْشِ الرَّحْمنُ }.
وقالَ في سُورةِ (الم) السَّجْدَةِ: { اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا في سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلى العَرْشِ }، وقالَ في سُورةِ الحَديدِ: { هُوَ الَّذي خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالأَرْضَ في سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلى العَرْشِ}](1)).
الشرح:
قال الشيخ محمد خليل هراس (ت: 1395هـ): ( (1) وقولُهُ: { الرَّحْمنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوى … }
إلخ. هذهِ هيَ المواضعُ السَّبعةُ التَّي أخبرَ فيهَا سبحانَهُ باستوائِهِ
على العرشِ، وكلُّهَا قطعيَّةُ الثُّبوتِ؛ لأنَّهَا مِن كتابِ اللهِ، فلا
يملِكُ الجَهْمِيُّ المعطِّلُ لهَا ردًّا ولا إنكارًا، كمَا أَنَّها صريحةٌ
في بابِهَا، لا تحتملُ تأويلاً، فإنَّ لفظَ: ( اسْتَوَى ) في اللُّغةِ إذَا عُدِّيَ بِـ ( على
) لا يُمكنُ أنْ يُفْهَمَ منهُ إلاَّ العُلُوُّ والارتفاعُ، ولهذا لمْ
تخرجْ تفسيراتُ السَّلفِ لهذا اللَّفظِ عن أربعِ عباراتٍ، ذكرَهَا
العلاَّمةُ ابنُ القَيِّمِ في ( النُّونيةِ )، حيثُ قالَ:
فَلَهُمْ عِبَـارَاتٌ عليهَـا أَرْبَـعٌ ... قَدْ حُصِّلَتْ لِلْفـارِسِ الطَّعَّـانِ
وهيَ اسْتَقَرَّ وقَدْ عَلا وكذلكَ ارْ ... تَفَعَ الَّذي مَا فِيهِ مِـنْ نُكْـرَانِ
وكَذاكَ قَدْ صَعِدَ الَّذي هُوَ رَابِعٌ ... وأَبُو عُبَيْدَةَ صَاحِبُ الشَّيْبانـي
يَخْتَارُ هذا القَوْلَ فـي تَفْسِيـرِهِ ... أَدْرَى مِنَ الجَهْمِـيِّ بالقُـرْآنِ
وأَمَّا ما يحاولون بهِ
صَرْفَ هذهِ الآياتِ الصَّرِيحةِ عن ظواهرِهَا بالتَّأويلاتِ الفاسدةِ
التَّي تدلُّ على حيرتِهِمْ واضطرابِهمْ؛ كتفسيرِهِمْ: ( اسْتَوى )؛ بِـ ( استَوْلَى )، أو حمْلِهِمْ ( على ) على معنى ( إلى )، و ( استَوى
)؛ بمعنى: ( قَصَدَ ) … إلى آخرِ ما نقلَهُ عنهُمْ حاملُ لواءِ
التَّجَهُّمِ والتَّعطيلِ زاهدٌ الكوثريُّ؛ فكلُّهَا تشغيبٌ بالباطلِ،
وتغييرٌ في وجهِ الحقِّ لا يُغني عنهُمْ في قليلٍ ولا كثيرٍ.
وليتَ شِعري! ماذا يريدُ هؤلاءِ المعطِّلةُ أنْ يقولوا؟!
أيُريدون أنْ يقولوا: ليسَ في السَّماءِ ربٌّ يُقْصَدُ، ولا فوقَ العرشِ إلهٌ يُعْبَدُ؟!
فأينَ يكونُ إذنْ؟!
ولعلَّهمْ يضحكون منَا
حينَ نسألُ عنهُ بِـ ( أينَ )! ونَسُوا أنَّ أكملَ الخلقِ وأعلمَهُمْ
بربِّهمْ صلواتُ اللهِ عليهِ وسلامُهُ قَدْ سألَ عنهُ بِـ ( أينَ ) حينَ
قالَ للجاريةِ: (( أَيْنَ اللهُ؟ )). ورَضِي جوابَهَا حينَ قالَتْ: (في
السَّمَاءِ).
وقَدْ أجابَ كذلكَ مَنْ سألَهُ بـ: (أَيْنَ كَانَ رَبُّنَا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ؟ بِأَنَّهُ كَانَ في عَمَاءٍ … )الحديث.
ولمْ يُرْوَ عنهُ أَنَّهُ زجرَ السَّائِلَ، ولا قالَ لهُ: إنَّكَ غَلِطْتَ في السُّؤالِ.
إنَّ قُصَارى ما يقولُهُ
المُتحذلِقُ مِنْهُمْ في هذا البابِ: إنَّ اللهَ تعالى كانَ ولا مكانَ،
ثمَّ خلقَ المكانَ، وهوَ الآنَ على ما كانَ قبلَ خلْقِ المكانَِ.
فماذا يعني هذا المُخَرِّفُ بالمكانِ الذي كانَ اللهُ ولمْ يكنْ؟!
هلْ يعني بهِ تلكَ الأَمْكِنَةَ الوُجُوديَّةَ التَّي هيَ داخلُ محيطِ العالَمِ؟!
فهذهِ أمكنةٌ حادثةٌ، ونحنُ لا نقولُ بوجودِ اللهِ في شيءٍ منهَا، إذْ لا يحصرُهُ ولا يحيطُ بهِ شيءٌ مِن مخلوقاتِهِ.
وأَمَّا إذَا أرادَ بهَا
المكانَ العَدَميَّ الذي هوَ خلاءٌ محضٌ لا وجودَ فيهِ، فهذا لا يُقالُ:
إنَّهُ لمْ يكنْ ثُمَّ خُلقَ، إذْ لا يتعلَّقُ بهِ الخلقُ، فإنَّهُ أمرٌ
عدميٌّ، فإذَا قيلَ: إنَّ اللهَ في مكانٍَ بهذا المعنى؛ كمَا دلَّتْ عليهِ
الآياتُ والأحاديثُ؛ فأيُّ محذورٍ في هذا؟!
بل الحقُّ أنْ يُقالَ:
كانَ اللهُ ولمْ يكنْ شيءٌ قبلَهُ، ثمَّ خلقَ السَّماواتِ والأرضَ في
ستَّةِ أيَّامٍ، وكانَ عرشُهُ على الماءِ، ثمَّ استوى على العرشِ، وثُمَّ
هنَا للتَّرتيبِ الزَّمانِيِّ لا لمجرَّدِ العطفِ).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ: صالح بن فوزان الفوزان
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (إثباتُ استواءِ اللهِ على عرشِه
وَقَولُهُ: ( الرَّحْمنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى ) في [سبعةِ] مواضع:
في سورةِ الأعرافِ قولُه: ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذي خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالأَرْضَ في سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ).وقالَ في سورةِ يونُس عليهِ السَّلامُ: ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذي خَلَقَ السَّمَاواتِ والأرْضَ في سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ).وقالَ في سورةِ الرَّعدِ: ( اللهُ الَّذي رَفَعَ السَّمَاواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ ).وقالَ في سُورةِ طه: ( الرَّحْمنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوَى ).وقالَ في سُورَةِ الفُرْقانِ: ( ثُمَّ اسْتَوَى عَلى العَرْشِ الرَّحْمنُ ).وقالَ في سُورةِ ألم السَّجدة: ( اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا في سِتَّة أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلى العَرْشِ )، وقالَ في سُورةِ الحَديدِ: ( هُوَ الَّذي خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالأَرْضَ في سِتَّةِ أَيَّام ثُمَّ اسْتَوَى عَلى العَرْشِ ).(1)).
الشرح:
قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: ((1) أي قد ورد إثباتُ استواءِ اللهِ عَلى عرشِه في سَبْعِ آياتٍ مِن كتابِ اللهِ، كُلُّها قد ورد فيها إثباتُ الاستواءِ بلفظٍ واحدٍ هو: (اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ)
فهو نَصٌّ في معناه الحقيقيِّ لا يحتملُ التأويلَ بمعنَىً آخرَ.
والاستواءُ صِفةٌ فعليّةٌ ثابتةٌ للهِ سبحانَه عَلى ما يليقُ بجلالِه
كسائرِ صفاتِه، وله في لغةِ العربِ أربعةُ مَعَانٍ هي: عَلاَ، وارتفع،
وصَعِدَ، واستقرَّ، وهذه المعاني الأربعةُ تدورُ عليها تفاسيرُ السَّلفِ
للاستواءِ الواردِ في هذه الآياتِ الكريمةِ.
فقولُه في الآيةِ الأولى والثَّانيةِ: (إِنّ رَبّكُمُ اللهُ) أي هو خالقُكم ومُرَبِّيكُم بنِعَمِه، والذي يجبُ عليكم أَنْ تعبدوه وحدَه (الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ) أي هو خَالقُ العَالمِ؛ سماواتِه وأرضِه وما بين ذلك (في سِتَّةِ أَيَّامٍ)
هي: الأحدُ والاثنين والثلاثاءُ والأربعاءُ والخميسُ والجمعةُ، ففي يومِ
الجمعةِ اجتمع الخلقُ كُلُّه، وفيه خُلِقَ آدمُ عليه السَّلامُ (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)
أي علا وارتفع عَلى العرشِ، كما يليقُ بجلالِه ـ وهذا مَحَلُّ الشَّاهدِ
مِن الآيةِ ـ والعرشُ في اللُّغةِ هو سَريرُ الْمَلِكِ. والمرادُ به هنا
كما يدلُّ عليه مجموعُ النُّصوصِ: سريرٌ ذو قوائمَ تحملُه الملائكةُ، وهو
كالْقُبَّةِ عَلى العَالمِ، وهو سَقْفُ المخلوقاتِ.
وقولُه في الآيةِ الثَّالثةِ: (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاواتِ) أي رفَعَها عَن الأرضِ رفْعًا بعيداً لا يُنالُ ولا يُدركُ مداه (بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) العَمَدُ هي الأساطينُ جمعُ عِمادٍ، أي: قائمةً بغيرِ عَمَدٍ تعتمدُ عليها، بل بقدرتِه سبحانَه. وقولُه (تَرَوْنَها) تأكيدٌ لنفيِ العَمَدِ، وقيل: لها عَمدٌ ولكن لا نراها، والأوَّلُ أَصحُّ، (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) هذا مَحَلُّ الشَّاهدِ مِن الآيةِ الكريمةِ لإثباتِ الاستواءِ. والكَلامُ عَلى بقيَّةِ الآياتِ كالكَلامِ عَلى هذه الآيةِ.
ويستفادُ
منها جميعاً: إثباتُ استواءِ اللهِ عَلى عرشِه عَلى ما يليقُ بجلالهِ،
وفيها الرَّدُّ عَلى مَن أوَّلَ الاستواءَ بأنَّه الاستيلاءُ والقهرُ،
وفسَّر العرشَ بأنَّه المُلْكُ فقال: استوى عَلى العرشِ. معناه: استولى
عَلى الملكِ وقهَر غيرَه! وهذا باطلٌ مِن وجوهٍ كثيرةٍ منها:
أولاً:
أنَّ هذا تفسيرٌ مُحْدثٌ مخالفٌ لتفسيرِ السَّلفِ مِن الصَّحابةِ
والتَّابعين وأتباعِهم، وأوَّلُ مَن قال به الجهميّةُ والمعتزلةُ. فهو
مردودٌ.
ثانيا:
لو كان المرادُ بالاستواءِ عَلى العرشِ الاستيلاءَ عَلى الملكِ؛ لم يكنْ
هناك فرقٌ بين العرشِ والأرضِ السَّابعةِ السُّفْلى والدَّوابِّ وجميعِ
المخلوقاتِ؛ لأنَّه مستولٍ عَلى الجميعِ ومالكٌ للجَميعِ، فلا يكونُ
لذِكْرِ العرشِ فَاِئدةٌ.
ثالثا: أنَّ هذا اللَّفظَ (اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) قد اطَّردَ في الكتابِ والسُّنَّةِ ولم يأتِ في لفظٍ واحدٍ: (استولى عَلى العرشِ) حتَّى تُفَسَّرَ به بقيَّةُ النُّصُوصِ.
رابعاً: أنَّه أتى بـ(ثُمَّ)
التي تفيدُ التَّرتيبَ والمُهْلةَ، فلو كان معنَى الاستواءِ الاستيلاءَ
عَلى العرشِ والقدرةَ عليه؛ لم يتأخَّرْ ذلك إلى ما بعدَ خلقِ السَّماواتِ
والأرضِ، فإنَّ العرشَ كان موجوداً قبل خلْقِ السَّماواتِ والأرضِ بخمسينَ
ألفَ سَنَةٍ، كما ثبت في الصَّحيحيْن، فكيف يجوزُ أن يكونَ غيرَ قادرٍ ولا
مستولٍ عليه إلى أنْ خَلَق السَّماواتِ والأرضَ؟ هذا مِن أبْطَلِ الباطلِ،
واللهُ أعلمُ).
الروضة الندية للشيخ: زيد بن
عبد العزيز بن فياض رحمه الله
الشرح:
قال الشيخ زيد بن عبد العزيز بن فياض (ت: 1416هـ): (مَذْهَبُ أهلِ السُّنَّةِ إثباتُ صِفَتَيِ الاسْتِوَاءِ والعُلُوِّ لِلَّهِ حقيقةً مِن غيرِ تكْيِيفٍ ، كما قَالَ الإمامُ مالكٌ وغيرُه : الاستواءُ معلومٌ ، والكَيْفُ مجهولٌ والإيمانُ به واجبٌ والسُّؤالُ عنه بدعةٌ .
والعُلُوُّ وصفٌ ذاتيٌّ
لِلَّهِ تَعَالَى فله العُلُوُّ المُطْلَقُ ، عُلُوُّ الذَّاتِ وعُلُوُّ
القَدْرِ وعُلُوُّ القَهْرِ . وقد وَرَدَ وصْفُ اللَّهِ بالاستواءِ على
العرشِ في سبعةِ مواضعَ مِن القرآنِ . كما قَالَ في الكافيةِ الشَّافيةِ :
وَاذْكُرْ نُصُوصَ الْإسْتِوَاءِ فَإِنَّهَا فِي سَبْعِ آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ
والاستواءُ صفةٌ فِعليةٌ . ومعَنْى الاستواءِ العُلُوُّ والارتفاعُ والاستقِرارُ والصُّعودُ ، كما قَالَ في الكافيةِ الشَّافيةِ :
فَلَهُمْ عِبَارَاتٌ عَلَيْهَـا أَرْبَـعٌ ... قَدْ حُصِّلَتْ لِلْفَارِسِ الطَّعَّـانِ
وَهْيَ اسْتَقَرَّ وَقَدْ عَلا وَكَذَلِكَ ... ارْتَفَعَ الَّذِي مَا فِيهِ مِنْ نُكْـرَانِ
وَكَذَاكَ قَدْ صَعِدَ الَّذِي هُوَ رَابِعٌ ... وَأَبُو عُبَيْدَةَ صَاحِبُ الشَّيْبَانِـي
يَخْتَارُ هَذَا الْقَوْلَ فِي تَفْسِيـرِهِ ... أَدْرَى مِنَ الْجَهْمِـيِّ بِالْقُـرْآنِ
وهذا البيتُ مُحَرَّفٌ وإنما هو هكذا . قد اسْتَوْلَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ . على أنه لا يَصِحُّ ولا يُعْرَفُ قائِلُه . ولو صحَّ لم يكُنْ فيه حُجَّةٌ بل هو حُجَّةٌ عليهمْ ، وهو على حقيقةِ الاستواءِ فإنَّ بِشْراً هذا كان أخا عبدِ المَلِكِ بنِ مَرْوانَ ، وكان أميراً على العراقِ ، فاسْتَوَى على سَريرِها كما هو عادةُ المُلوكِ ونُوَّابِها أنْ يَجْلِسُوا فوقَ سريرِ المُلْكِ مُسْتَوِينَ عليه . وهذا هو المُطابِقُ لمعنى هذه اللَّفْظَةِ في اللُّغَةِ . وأيضاً فاستواءُ الشَّيْءِ على غَيْرِه يتضمَّنُ استقرارَه وثَباتَه وتمَكُّنَه عليه . واستواءُ بِشْرٍ على العراقِ يتضمَّنُ استقرارَه وثباتَه عليها ودُخولَه دُخولَ مُسْتَقِرّ ٍثابتٍ غيرِ مُزَلْزلٍ ، وهذا يَستلزمُ الاستيلاءَ أو يَتضمَّنُه، فالاستيلاءُ لازِمُ معنى الاستواءِ لا في كُلِّ مَوْضعٍ ، بل في المَوْضعِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ ، ولا يَصِحُّ الاستيلاءُ في كُلِّ مَوضِعٍ يَصلُحُ فيه الاستواءُ . بل هذا له موضِعٌ وهذا له مَوضِعٌ ، ولهذا لا يَصِحُّ أنْ يُقَالَ : استولَتِ السُّنْبُلَةُ على ساقِها ، ولا استولَتِ السَّفِينةُ على الجَبلِ ولا اسْتَوْلى الرَّجُلُ على السَّطْحِ إذا ارتفعَ فوقَه . ولو كان المرادُ بالبيتِ استيلاءَ القَهْرِ والمُلْكِ لكان المُسْتَوِيَ على العِراقِ عبدُ المَلِكِ بنُ مَرْوانَ لا أخـوه بِشـرٌ لأنه نائبٌ له . بخلافِ الاستواءِ الحقيقيِّ وهو الاستقرارُ فيها والجلوسُ على سريرِها ، فإنَّ نُوَّابَ المُلوكِ تَفعَلُ هذا بإِذْنِهم .
ومما يُبْطِلُ دعوى المَجازِ تجريدُ الاستواءِ مِن اللامِ واقترانُه بحرْفِ عَلَى ، وعطْفُ فِعلِه بِثُمَّ على خَلْقِ السَّمَاواتِ والأرضِ ، وكونُه سابِقاً في الخَلْقِ على السَّمَوَاتِ والأرضِ ، وذِكْرُ تَدبيرِ أمْرِ الخَلْقِ معه الدَّالُّ على كمالِ المُلْكِ ، فإنَّ العرشَ سـريرُ المَمْلكةِ فأخبَرَ أنَّ له سريراً كما قَالَ أميةُ بنُ أبي الصَّلْتِ :التنبيهات السنية للشيخ: عبد العزيز بن ناصر الرشيد رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وَقَولُهُ: ( الرَّحْمنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى ) في [ سبعة ] مواضعَ: [ في سورةِ الأعرافِ قولُه: ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذي خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالأَرْضَ في سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ).
وقوله تعالى: (يُغْشِي الْلَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً)
وَقَوْله سُبْحَانه: (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ) وقوله: (أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ).
وقالَ سبحانه في سورةِ يونُسَ عليهِ السَّلامُ: ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذي خَلَقَ السَّمَاواتِ والأرْضَ في سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ)، وقالَ في سورةِ الرَّعدِ: ( اللهُ الَّذي رَفَعَ السَّمَاواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ ) ).
الشرح:
قال الشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد (ت: 1408هـ): (وقالَ تعالى في سُورةِ طه: ( الرَّحْمنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوَى )،وقالَ في سُورَةِ الفُرْقانِ: ( ثُمَّ اسْتَوَى عَلى العَرْشِ الرَّحْمنُ )، وقالَ في سُورةِ السَّجدة: ( اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا في سِتَّة أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلى العَرْشِ )، وقالَ في سُورةِ الحَديدِ: ( هُوَ الَّذي خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالأَرْضَ في سِتَّةِ أَيَّام ثُمَّ اسْتَوَى عَلى العَرْشِ )
(89) قَولُهُ: (الرَّحْمنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى): في سبعةِ مواضعَ، أي إنَّه نصٌّ في معناه لا يحتملُ التَّأويلَ، وصريحٌ في أنَّه بذاتِه استوى استواءً يليقُ بجلالِه وعظمتِه.
قَولُهُ: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ): أي هو المعبودُ وحدَه لا شريكَ له وعبادةُ غيرهِ باطلةٌ.
قَولُهُ: (الَّذي خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالأَرْضَ في سِتَّةِ أَيَّامٍ):
خَلَقَ، أي أَنْشَأَ وَأَوْجَدَ، والخلقُ هو: اختراعُ الشَّيءِ على غيرِ
مثالٍ سبقَ، ففيه إضافةُ الفعلِ والخلقِ إليه -سُبْحَانَهُ- على جهةِ
الحقيقةِ؛ لأنَّها الأصلُ، وقد ردَّ ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ على مَن زعمَ
أنَّ خلقَهُ وفِعلَه مجازٌ من وجوهٍ عديدةٍ.
قَولُهُ: (في سِتَّةِ أَيَّامٍ):
أوَّلُها يومُ الأحدِ وآخرُها يومُ الجمعةِ، وفيه اجتمعَ الخلقُ كلُّهم
وهذه الأيَّامُ كأيَّامنا، هذا هو المُتبادرُ إلى الأذهانِ وهو ظاهرُ
الأدلَّةِ.
قَولُهُ: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ)
أي استوى استواءً يليقُ بجلالِه وعظمتِه، لا تُكيِّفُه ولا تُمثِّلُه ولا
يَعلمُ كيف هوَ إلا هوَ، كما قال مالكٌ: الاستواءُ معلومٌ والكيفُ مجهولٌ
والإيمانُ به واجبٌ والسُّؤالُ عنه بدعةٌ، فقولُ مالكٍ: الاستواءُ معلومٌ،
أي في لغةِ العربِ، وقَولُهُ: والكيفُ مجهولٌ، أي كيفيَّةُ استوائِه لا
يعلمُها إلا هوَ، والإيمانُ به أي بالاستواءِ واجبٌ لتكاثُرِ الأدلَّةِ في
إثباتِه، والسُّؤالُ عنه، أي عن الكيفيَّةِ بدعةٌ إذ لاَ يَعلمُ كيفيَّةَ
استوائِه إلا هو، فإنَّ الكلامَ في الصِّفاتِ فرعٌ عن الكلامِ في الذَّاتِ،
فكما نعلمُ أنَّ للهِ ذاتًا لا تشبهُ الذَّواتِ، فكذلك يجبُ أَنْ نُثبتَ
له صفاتٍ لا تُشبهُ الصِّفاتِ، فإثباتُنا للصِّفاتِ إثباتُ وجودٍ لا إثباتُ
تكييفٍ وتمثيلٍ، إذ العلمُ بالصِّفةِ فرعٌ عن العلمِ بالموصوفِ، ولا يعلمُ
كيفَ هو إلا هو، وكذلك يُقالُ في بقِيَّةِ الصِّفاتِ، كصفةِ المجيءِ
والنُّزولِ والإتيانِ والوجهِ واليدِ ونحوِ ذلك، فهذا الجوابُ الواردُ عن
مالكٍ رحمه الله كافٍ شافٍ في سائرِ الصِّفاتِ.
قال الذَّهبيُّ: فانْظُر
إليهم كيفَ أثبتُوا الاستواءَ للهِ وأخبروا أنَّه معلومٌ لا يحتاجُ لفظهُ
إلى تفسيرٍ، ونفَوا عنه الكيفيَّةَ، أمَّا معنى الاستواءِ في اللغةِ فلها
أربعةُ معانٍ تأتي بمعنى عَلا وبمعنى ارتفعَ وبمعنى صَعِد واستقرَّ كما قال
ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ في كتابِه المُسمَّى بـ (النُّونيَّةِ):
ولـهـم عـبـاراتٌ عليـهـا أربــعٌ ... قـد فُـسِّـرتْ للـفـارسِ الطَّـعَّـانِ
وهـي استقَـرَّ وقـد عـلاَ وكـذلـك ... ار تفـعَ الَّـذي مـا فيـه مـن نُكـرانِ
وكذاكَ قـد صَعِـدَ الَّـذي هـو رابـعٌ ... وأبـو عبـيـدةَ صـاحـبُ الشَّيبـانـي
يختـارُ هـذا القـولَ فــي تفسـيـرهِ ... أدرى مــن الجهـمـيِّ بـالـقـرآنِ
والأشعـريُّ يقـولُ تفسيـرُ اسـتـوى ... بحقيقـةِ استـولـى عـلـى الأكــوانِ
فهذه الأربعةُ الَّتي
ذكرَها ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ هي الَّتي تدورُ عليها تفاسِيرُ السَّلفِ
رحمهم اللهُ، قال البخاريُّ رحمه اللهُ في صحيحِه: قال مجاهدٌ: استوى عَلى
العرشِ، وقال إسحاقُ بنُ راهَويهِ سمعتُ غيرَ واحدٍ من المُفسِّرين يقولون:
(الرَّحْمنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى)، أي ارتفعَ، وقال محمَّدُ بنُ جريرٍ في قَولِهِ: (الرَّحْمنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى)، أي علا وارتفعَ، وشواهدُه في أقوالِ الصَّحابَةِِ والتَّابعين وأتباعِهم معروفةٌ.
وأمَّا تفسيرُ: (اسْتَوى) باسْتَولى أو مَلَكَ أو قَهَرَ فهو تفسيرٌ باطلٌ مردودٌ من وجوهٍ عديدةٍ.
منها:
أنَّ هذا التَّفسيرَ لم يفسِّرْه به أحدٌ مِن السَّلفِ لا مِن الصَّحابة
ولا مِن التَّابعيَن، بل أوَّلُ من عُرِفَ عنه هذا التَّفسيرُ بعضُ
الجهميَّةِ والمعتزلةِ.
ثانيا:
أنَّ الاستواءَ في لغةِ العربِ الَّذين نزلَ القرآنُ بلغتِهم نوعانِ:
مطلقٌ ومقيَّدٌ، فالمطلقُ ما لم يقيَّدْ بحرفٍ، كقَولِهِ تعالى: (لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى) وهذه معناها تمَّ وكمُلَ، وأمَّا المقيَّدُ فثلاثةُ أنواعٍ: أحدُها مقيَّدٌ بإلى كقَولِهِ: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّماءِ) وهذا بمعنى العلُوِّ والارتفاعِ بإجماعِ السَّلفِ، الثَّاني: مقيَّدٌ بِعلى كقَولِهِ: (لِتَسْتَوُواْ عَلَى ظُهُورِهِ) وقَولِهِ: (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ)
وهذا أيضًا معناه العلوُّ والارتفاعُ والاعتدالُ بإجماعِ أهلِ اللغةِ،
الثَّالثُ: المقرونُ بواوِ المعيَّةِ، كقَولِهِم: استوى الماءُ والخشبةَ،
وهذا بمعنى سَاواها، فهذه معانِي الاستواءِ المعقولةِ في كلامهِم ليسَ فيها
معنى استولى ألبتَّةَ، ولا نقلَهُ أحدٌ من أئمَّةِ اللغةِ، وإنَّما قاله
متأَخِّرو النُّحاةِ ممَّن سلكَ طريقَ الجهميَّةِ والمعتزلةِ، مستدلِّين
ببيتٍ للأخطلِ النَّصرانيِّ وهو قَولُهُ:
قد استوى بشرٌ على العراقِ من غيِر سيفٍ أو دمٍ مِهْراقِ
وهذا البيتُ ليسَ من شعرِ العربِ، وأهلُ اللغةِ لمَّا سَمِعوه أنكرُوه غايةَ الإنكارِ، ولم يجعلوه من لغةِ العربِ.
ثالِثًا: أنَّ معنى هذه الكلمةِ مشهورٌ، كما قال مالكٌ وربيعةُ وغيرُهم.
رابعا:
أنَّه لو لم يكنْ معنى الاستواءِ في الآيةِ معلومًا لم يحتجْ أنْ يقولَ:
والكيفُ مجهولٌ؛ لأنَّ نفيَ العلمِ بالكيفِ لا يَنفي إلا ما قد عُلمَ
أصلُه.
خامسا:
أنَّ الاستواءَ خاصٌّ بالعرشِ، وأمَّا الاستيلاءُ فهو عامٌّ على سائرِ
المخلوقاتِ، فلو كان معنى الاستواءِ الاستيلاءَ لجازَ أنْ يقولَ اسْتَوى
على الماءِ والهواءِ والأرضِ.
سادسا:
أنَّه أخبرَ بخلقِ السَّماواتِ والأرضِ في ستَّةِ أيامٍ ثمَّ استوى على
العرشِ، وأخبَر أنَّ عرشَه على الماءِ قبلَ خلقِهما، والاستواءُ متأخِّرٌ
عن خلقِهنَّ، واللهُ مستولٍ على العرشِ قبلَ خلقِ السَّماواتِ وبعدَه،
فَعُلِمَ أنَّ الاستواءَ على العرشِ الخاصِّ به غيرُ الاستيلاءِ العامِّ
عليه وعلى غيرهِ.
سابعًا: أنَّه لم يثبتْ في اللغةِ أنَّ معنى (اسْتَوَى)
استولى، إذ الَّذين قالوا ذلك عُمْدَتُهم البيتُ المذكورُ، ولم يَثبتْ
نقلٌ صحيحٌ أنَّه عربيٌ، وغيرُ واحدٍ من أئمَّةِ اللغةِ أنكروه وقالوا بيتٌ
مصنوعٌ لا يُعرفُ في اللغةِ، فكيف تُعارَضُ أدلَّةُ الكتابِ والسُّنَّةِ
ببيتِ شعرٍ لنصرانيٍّ، ومع ذلك لم يثبتْ، قال الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ
رحمهُ اللهُ في (لاميَّتِه) المشهورةِ:
قبحًا لمن نبذَ الكتـابَ وراءَه ... وإذا استدلَّ يقولُ قالَ الأخطلُ
وقال ابنُ القيِّمِ رحمهُ اللهُ في كتابهِ النُّونيَّةِ:
ودليلُهم في ذاكَ بيتٌ قالهَ ... فيما يقالُ الأخطلُ النَّصراني
إلى غيرِ ذلك من الوجوهِ
الَّتي ذكرَها أهلُ العلمِ في ردِّ وإبطالِ هذا التفسيرِ، وقد أنْهاها ابنُ
القيِّمِ رحمه اللهُ إلى اثْنينِ وأربعينَ وجهًا.
قَولُهُ: (العَرْشِ) هو لغةً: عبارةٌ عن السَّريرِ الَّذي للملكِ، كما قال تعالى عن بلقيسَ: (وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ) فالعرشُ سريرٌ ذو قوائمَ تحمِلُه الملائكةُ، وهو كالقبَّةِ على العالمِ وهو سقفُ المخلوقاتِ.
قال البيهقيُّ رحمهُ
اللهُ: اتَّفقتْ أقاويلُ أهلِ التَّفسيرِ على أنَّ العرشَ هو السَّريرُ،
وأنَّهُ جسمٌ خلقَه اللهُ وأمَرَ ملائكتَه بحملِه، وتَعَبَّدَهُم بتعظيمِه
والطَّوافِ به، كما خلقَ بيتًا في الأرضِ وأمر بني آدمَ بالطَّوافِ به
واستقبالهِ، وقد اختلفَ العلماءُ في السَّابقِ بالخلقِ هل هو العرشُ أو
القلمُ، ونَظَّم ذلك ابنُ القيِّمِ في (النُّونيَّةِ) بقَولِهِ:
والنَّاسُ مختلفونَ في القلمِ الَّذي ... كُتبَ القضاءُ به مـن الديَّـانِ
هل كانَ قبلَ العرشِ أو هو بعدَه ... قولان عندَ أبي العَلا الهمذانِـي
والحقُّ أنَّ العرشَ قبـلُ لأنَّـه ... قبلَ الكتابةِ كـان ذا أركـانِ
وكتابةُ القلمِ الشِّريفِ تعقَّبـتْ ... إيجادَه من غيرِ فصـلِ زمـانِ
(90) قَولُهُ: (يُغْشِي): أي يُغطِّي (اللَّيْلُ النَّهَارَ )
فيذهبُ ظلامُ هذا بضياءِ هذا، وضياءُ هذا بظلامِ هذا، وكلٌّ منهما يطلبُ
الآخرَ طلبًا حثيثًا، أي سريعًا لا يتأخَّرُ عنه، بل إذا ذهَب هذا جاء هذا
وعكسُه.
قَولُهُ: (الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنَّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ) أي الجميعُ تحتَ قهرِه وتصريفِه ومشيئتِه.
قَولُهُ: (أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ
): أي هو خالقُ كلِّ شيءٍ، وهذا عامٌّ فيشملُ أفعالَ العبادِ، وله الأمرُ،
أي الملكُ والتَّصرُّفُ، فلا رادَّ لأمرِه ولا مُعَقِّبَ لحكمِه، والأمرُ
ينقسم إلى قسمين: أمرٍ شرعيٍّ دينيٍّ كقَولِهِ: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ) وأمرٍ كونيٍّ قدريٍّ كقَولِهِ: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نَّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا)
الآيةَ. تضمَّنتْ هذه الآيةُ إثباتَ أنواعِ التَّوحيدِ الثَّلاثةِ، وأفادت
الرَّدَّ على الفلاسفةِ القائِلين بِقِدَمِ هذه المخلوقاتِ، وأفادتْ عمومَ
خلقِه لهذه المخلوقاتِ، فيشملُ ذواتِها وصفاتهِا، وأفادتِ الاستدلالَ بهذه
المخلوقاتِ على وجودِ الخالقِ، وأفادتْ إثباتَ أسمائهِ وصفاتهِ وأنَّه
المستحقُّ للعبادةِ، وأفادتْ إثباتَ صفةِ الخلقِ، وأفادتْ إثباتَ الأفعالِ
الاختياريَّةِ اللازمةِ والمتعدِّيةِ.
وأفادتْ إثباتَ خلقِ
السَّماواتِ ووجودِها، وأفادتْ تعدُّدَها، وأفادتْ فضلَ السَّماءِ على
الأرضِ، وأفادتْ أنَّ خلقَ هذه المخلوقاتِ في ستَّةِ أيامٍ، أوَّلُها يومُ
الأحدِ، وأفادتْ إثباتَ الاستواءِ على العرشِ استواءً يليقُ بجلالهِ،
وتضمَّنتْ إثباتَ العلوِّ للهِ، وأفادتْ أنَّ الاستواءَ صفةُ فعلٍ، وأفادتْ
أنَّ الاستواءَ خاصٌّ بالعرضِ، وأفادتْ أنَّ العرشَ مخلوقٌ، وقد ثبتَ أنَّ
العرشَ مخلوقٌ عظيمٌ ذو قوائمَ وله حملةٌ، خلافًا للمبتدعةِ الَّذين
ينفُون وجودَ العرشِ ويقولون عرشُه ملكُه، فعلى قولِ هؤلاء المبتدعةِ يكون
قَولُهُ تعالى: (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ)
معناه ويحملُ ملكَ ربِّكَ، وهذا قولٌ باطلٌ مردودٌ، وأفادت أنَّ الاستواءَ
على العرشِ بعدَ خلقِ السَّماواتِ والأرضِ، لأنَّه عَقَّبَهُ بِثُمَّ،
وأفادتِ الرَّدَّ على الجهميَّةِ وأضرابهِم الَّذين يقولون: إنَّ معنى
استوى استولى؛ لأنَّه تحريفٌ وزيادةٌ في كتابِ اللهِ وحملٌ له على غيرِ ما
يحتملُ، فتواردُ الأدلَّةِ على هذا المعنى نصٌّ فيه، فلا يجوزُ تأويلهُ،
قال ابنُ القيَّمِ:
نونُ اليهودِ ولامُ جهميٍّ هما في وحيِ ربِّ العرشِ زائدتان
قالَ الذهبيُّ: وأوَّلُ
وقتٍ سمعتُ مقالةَ مَنْ أنكرَ أنَّ اللهَ فوقَ عرشِهِ هو من الجعدِ بنِ
درهمٍ، وكذلك أنكرَ جميعَ الصِّفاتِ، وقتله خالدُ بنُ عبدِ الله القسريُّ
وقصَّتُه مشهورةٌ، فأخذَ هذه المقالةَ عنه الجهمُ بنُ صفوانَ إمامُ
الجهميَّةِ فأظهرَها واحتجَّ لها بالشُّبهاتِ، وكان ذلك في آخرِ عصْرِ
التَّابعين، فأنكرَ مقالتَه أئمَّةُ ذلك العصرِ، مثلُ الأوزاعيِّ وأبي
حنيفةَ ومالكٍ والليثِ بنِ سعدٍ والثَّوريِّ وحمَّادِ بنِ زيدٍ وحمَّادِ
بنِ سلمةَ وابنِ المباركِ ومَن بعدَهم من أئمَّةِ الهُدى.
وأفادت الاستدلالَ بهذه
المخلوقاتِ على وجودِ خالقِها وَمُدَبِّرِها وأنَّها آيةٌ واضحةٌ، ودلالةٌ
صريحةٌ على وجودهِ سُبْحَانَهُ، وأنَّه المدبِّرُ والمسخِّرُ لهذه
المخلوقاتِ، وهي مستلزمةٌ للعلمِ بصفاتِ كمالهِ، وتضمَّنَ ذلك أنَّه
المعبودُ الحقُّ، وأنَّ عبادةَ غيرهِ باطلةٌ، إذ ما سواه عاجزٌ، والعاجزُ
لا يصلحُ للأهليَّةِ، وأفادتِ التَّفريقَ بين الخلقِ والأمرِ، وفيه
الرَّدُّ على الجهميَّةِ والمعتزلةِ القائلين بأنَّ كلامَ اللهِ مخلوقٌ،
وأنَّ خلقَهُ وأمرَهُ واحدٌ، ويُروى عن سُفيانَ الثوريِّ رَضِي اللهُ
عَنْهُ أنه قالَ: فرقَ اللهُ بينَ الخلقِ والأمرِ فمنْ جمعَ بينهما فهو
كافرٌ. انتهى.
وفيها الرَّدُّ على مَن
زعمَ من الفلاسفةِ: أنَّ العرشَ هو الخالقُ الصَّانعُ، وفيها الرَّدُّ على
مَن زعمَ أنَّ العرشَ لم يزلْ معَ اللهِ وهو مذهبٌ باطلٌ، انتهى. من (فتحِ
البارِي).
قَولُهُ: ((اللهُ الَّذي رَفَعَ السَّمَاواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها): أي رفعَ السـَّماواتِ بغيِر عمدٍ بل بإذنـِه وتسخيرهِ، رفَعَها عن الأرضِ بُعدًا لا يُنالُ ولا يُدركُ، مَداها كما في حديثِ: ((إِنَّ بُعْدَ مَا بَيْنَ السَّماءِ وَالأَرْضِ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ، وَكَذَلِكَ بُعْدُ مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ))
وجاءَ عن بعضِ السَّلفِ: أنَّ ما بين العرشِ إلى الأرضِ مسيرةُ خمسينَ
ألفَ سنةٍ، وبُعدَ ما بينَ قُطريهِ خَمسونَ ألفَ سنةٍ، وهو من ياقوتةٍ
حمراءَ.
قَولُهُ: (بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها): أي بغيِر عمدٍ.
وقَولُهُ: (تَرَوْنَها): تأكيدٌ للنَّفي، أي هي مرفوعةٌ بغيرِ عمدٍ، كما ترونها. قال ابنُ كثيرٍ: وهذا هو الأكملُ في القدرةِ.
وقَولُهُ في سورةِ طه: (الرَّحْمنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوَى)
إلخ الآياتِ – فهذه الآياتُ فيها دلالةٌ واضحةٌ على إثباتِ الاستواءِ على
العرشِ وأنَّهُ استواءُ حقيقةٍ يليقُ بجلالِه وعظمتِه، وفيها الرَّدُّ على
مَن زعَمَ أنَّ ذلكَ مجازٌ عن القهرِ أو الاستيلاءِ، وفيها دليلٌ على
إثباتِ العرشِ وأنَّه مخلوقٌ، والرَّدُّ على مَن زعمَ: أنَّ معنى العرشِ
المُلكُ، وفيها دليلٌ على أنَّ الاستواءَ صفةُ فعلٍ، وفي هذه الآياتِ دليلٌ
على عُلوِّه -سُبْحَانَهُ- على خلقِه، فأدلَّـةُ الاستواءِ كلُّها
أدلَّـةٌ على إثباتِ العلوِّ، وينقسمُ العلوُّ إلى ثلاثةِ أقسامٍ:
الأوَّلِ: علوُّ القهرِ. الثَّاني: علوُّ القدرِ. الثَّالثِ: علوُّ الذَّاتِ، خلافًا للمبتدعةِ الَّذين يُنكرون علوَّ الذَّات.
وأدلَّـةُ العلوِّ
عقليَّةٌ، فقد تواطأتْ أدلَّةُ السَّمعِ والعقلِ على إثباتهِ، وكذلك قد
فُطِرَ الخلقُ على إثباتهِ، أمَّا الاستواءُ فدليلُه سمعيٌّ فقط، وهو أيضًا
صفةُ فعلٍ.اهـ.
وفي الآياتِ دليلٌ صحيحٌ
على أنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ- ليسَ هو عينَ هذه المخلوقاتِ، ولا صفةً ولا
جزءًا منها، فإنَّ الخالقَ غيرُ المخلوقِ، وليسَ بداخلٍ فيها محصورًا، بل
هي صريحةٌ في أنَّه مُبايِنٌ لها، وليس حالاً فيها، ولا مَحلاًّ لها
سُبْحَانَهُ. انتهى. مِن كلامِ ابنِ القيِّمِ رحمه اللهُ تعالى.