11 Nov 2008
نفي الشريك والولد عن الله تعالى
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): ({وَقُلِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَهُ
شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ
وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا}[سُورَةُ الإِسْرَاءِ : 111] ،
{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[سُورَةُ التَّغَابُنِ : 1] ،
وَقَوْلُهُ:
{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ
لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ
وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ
وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا}[سُورَةُ الفرقان: 1، 2]
{مَا
اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَـهٍ إِذًا
لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ
سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ
فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}[سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ : 91،92]).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): ( (وَقُلِ
الحَمدُ للهِ الَّذِي لَم يَتَّخِذ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي
المُلكِ وَلَم يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مّنَ الذُّلّ وَكَبّرهُ تَكبِيرَا).
[الإسراء: 111].
(يُسَبّحُ للهِ مَا فِي السَّمَاوات وَمَا فِي الأَرضِ لَهُ المُلكُ وَلَهُ الحَمدُ وَهُوَ عَلَى كُلّ شَيءٍ قَدِيرٌ) [التغابن: 1].
وقولُهُ: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ
الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَلَمِينَ نَذِيراً، الَّذِي
لَهُ مُلْكُ السَّمَاوات وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن
لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ
تَقْدِيراً) [الفرقان: 1-2].(1) ).
الشرح:
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): ( (1) الآيةُ
الخامسةُ: قولُهُ: (وَقُلِ الحَمدُ لِلَّهِ الَّذِى لَم يَتَّخِذ وَلَدًا
وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِى المُلكِ وَلَم يَكُن لَّهُ وَلِىٌّ مّنَ
الذُّلّ وَكَبّرهُ تَكبِيرَا). [الإسراء: 111].
(وَقُلِ): الخطابُ فِي مثلِ هَذَا: إمَّا خاصٌّ
بالرَّسولِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ ، أوْ عامٌّ لكُلِّ مَنْ
يصِّحُ توجيهُ الخطابِ إِلَيْهِ.
فإنْ كَانَ خاصًّا بالرَّسولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهُوَ خاصٌّ بهِ بالقصدِ الأوَّلِ، وأمَّتُهُ تبعٌ لَهُ.
وإنْ كَانَ عامًّا، فَهُوَ يشملُ الرَّسولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغيرَهُ بالقصدِ الأوَّلِ.
(الحَمدُ لِلَّهِ): سبقَ تفسيرٌ هذِهِ الجملةِ، وأنَّ الحمدَ هُوَ وصفُ المحمودِ بالكمالِ مَعَ المحبَّةِ والتَّعظيمِ.
وقولُهُ: (اللَّهِ): اللامُ هُنَا للاستحقاقِ والاختصاصِ:
للاستحقاقِ؛ لأنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحمدُ، وهُوَ أهلٌ للحمدِ.
والاختصاصُ؛ لأنَّ الحمدَ الَّذِي يُحمدُ اللَّهُ
بهِ ليسَ كالحمدِ الَّذِي يُحمدُ بهِ غيرُهُ، بَلْ هُوَ أكملُ وأعظمُ،
وأعمُّ وأشملُ.
وقولُهُ: (الَّذِى لَم يَتَّخِذ وَلَدًا): هَذَا
مِنَ الصِّفاتِ السَّلبيَّةِ: (لَم يَتَّخِذ وَلَدًا)، لكمالِ صفاتِهِ،
وكمالِ غناهُ عَنْ غيرِه، ولأنَّهُ لاَ مثيلَ لَه، فلَوْ اتَّخذَ ولداً،
لكَانَ الولدُ مثلَه، ولَوْ كَانَ لَهُ ولدٌ، لكَانَ محتاجاً إِلَى الولدِ
يساعدهُ ويعينهُ، لو كَانَ لَهُ ولدٌ، لكَانَ ناقصاً؛ لأنَّهُ إِذَا
شابَهَهُ أحدٌ مِنْ خلقِه، فهُوَ نقصٌ.
وقولُهُ: (وَلَدًا): يشملُ الذَّكرَ والأُنثَى، ففِيهِ ردٌّ عَلَى اليهودِ والنَّصارى والمشركينَ:
اليهودُ قالوا: لِلَّهِ ولدٌ، وهُوَ عُزَيرٌ !
والنَّصارى قالوا: لِلَّهِ ولدٌ، وَهُوَ المسيحُ !
والمشركونَ قالوا: لِلَّهِ ولدٌ، وهم الملائكةُ !
وقولُهُ: (وَلَم يَكُن لَهُ شَرِيكٌ فِى
المُلكِ): هَذَا معطوفٌ عَلَى قولِهِ: (لَم يَتَّخِذ وَلَدًا)، يعني:
والَّذِي لَمْ يكنْ لَهُ شريكٌ فِي الملكِ، لاَ فِي الخلقِ، ولاَ فِي
الملكِ، ولاَ فِي التدبيرِ.
كُلُّ مَا سِوَى اللَّهِ، فَهُوَ مخلوقٌ لِلَّهِ،
مملوكٌ لَهُ، يُدبِّرُهُ كَمَا يشاءُ، ولَمْ يُشارِكْهُ أحدٌ فِي ذلِكَ،
كَمَا قَالَ تَعَالَى: (قُل ادعُوا الَّذِينَ زَعَمتُم مّن دُونِ اللَّهِ
لاَ يَملِكُونَ مِثقَالَ ذَرَّةٍ فِى السَّمَاواتِ وَلاَ فِى الأَرضِ)
[سبأ: 23] عَلَى سبيلِ التَّعيينِ، (وَمَا لَهم فِيهِمَا مِن شِركٍ) [سبأ:
23] عَلَى سبيلِ الشُّيوعِ، (وَمَا لَهُ مِنهُم مِّن ظَهِيَرٍ) [سبأ: 23]،
لَمْ يُعاوِنْهُ أحدٌ فِي هذِهِ السَّماواتِ والأرضِ، (وَلاَ تَنفَعُ
الشَّفاَعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَن أَذِنَ لَهُ) [سبأ: 22 – 23]، وبهَذَا
تقطَّعَتْ جميعُ الأسبابِ الَّتِي يتعلَّقُ بِها المشركونَ فِي آلِهَتِهم.
فالآلَهةُ هذِهِ لاَ تملكُ مِن السَّماواتِ
والأرضِ شيئًا معينًا، وليستْ شريكةً لِلَّهِ، ولاَ مُعينةً، ولاَ شافعةً،
إِلَّا بإذنهِ، يقول: (وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِى المُلكِ) [الإسراء:
111].
وقولَه: (وَلَم يَكُن لَّهُ وَلِىٌّ مّنَ الذُّلِّ): لَمْ يكنْ لَهُ ولِيٌّ، لكنَّهُ قُيِّدَ بقولِهِ: (مّنَ الذُّلِّ).
و(مِنْ) هُنَا للتَّعليلِ، لأنَّ اللَّهَ
تَعَالَى لَهُ أولياءُ: (أَلاَ إِنَّ أَولِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ
عَلَيهِم وَلاَ هُم يَحزَنُونَ الَّذِينَ ءاَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ)
[يونس: 62 – 63]، وقَالَ تَعَالَى فِي الحديثِ القدسيِّ: ((مَنْ عَادَى
لِي وَلِيًّا، فقدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ …))، ولكنَّ الوَلِيَّ
المنفِيَّ هُوَ الوليُّ مِنَ الذُّلِّ؛ لأنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَهُ
العزِّةُ جميعاً، فلاَ يلحقُه الذُّلُّ بوجهٍ من الوجوهِ، لكمالِ
عزَّتِهِ.
وقولُهُ: (وَكَبِّرْهُ تَكبِيرًا)، يعني: كبِّرِ
اللَّهَ عزَّ وجلَّ تكبيراً، بلسانِكَ وجنانِكَ: اعتقِدْ فِي قلبِكَ أنَّ
اللَّهَ أكبرُ مِنْ كُلِّ شيءٍ، وأنَّ لَهُ الكبرياءَ فِي السَّماواتِ
والأرضِ، وكذلِكَ بلسانِكَ تكبِّرُهُ، تقولُ: اللَّهُ أكبرُ !
وكَانَ مِنْ هَدْيِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابِهِ أنَّهم يكبِّرُونَ كُلَّمَا عَلَوْا نَشراً،
أيْ: مُرتَفَعاً، وَهَذَا فِي السَّفرِ؛ لأنَّ الإنسانَ إِذَا علاَ فِي
مكانِه، قدْ يشعرُ فِي قلبِه أنَّهُ مستعلٍ عَلَى غيرِه، فيقولُ: اللَّهُ
أكبرُ، مِنْ أجلِ أنْ يخففَ تِلْكَ العلياءَ الَّتِي شَعرَ بِهَا حينَ
عَلاَ وارتفعَ.
وكانوا إِذَا هَبَطوا، قالوُا: سُبْحَانََ
اللَّهِ؛ لأنَّ النُّزُولَ سُفولٌ، فيقولُ: سُبْحَانََ اللَّهِ، أيْ:
أنزهْهُ عَنِ السُّفولِ الَّذِي أنا الآنَ فِيهِ.
وقولُهُ: (تَكبِيرَا): هَذَا مصدرٌ مؤكدٌ، يرادُ بهِ التَّعظيمُ، أيْ: كبِّرْهُ تكبِيراً عظيِماً.
والَّذِي نستفيدُه مِنَ النَّاحيةِ المسلكيَّةِ فِي هذِهِ الآيةِ:
أنَّ الإنسانَ يشعرُ بكمالِ غِنَى اللَّهِ عزَّ
وجلَّ عَنْ كُلِّ أحدٍ، وانفرادهِ بالملكِ، وتمامِ عزَّتهِ وسلطانهِ،
وحينئذٍ يُعَظِّمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بمَا يستحقُ أنْ يعظَّمَ
بهِ بقدرِ استطاعتهِ.
ونستفيدُ حمدَ اللَّه تَعَالَى عَلَى تنزهِه عَنِ العيوبِ، كَمَا يحمدُ عَلَى صفاتِ الكمالِ.
الآيةُ السَّادسةُ: قولُهُ تَعَالَى: (يُسَبّحُ
لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوات وَمَا فِى الأَرضِ لَهُ المُلكُ وَلَهُ
الحَمدُ وَهُوَ عَلَى كُلّ شَيءٍ قَدِيرٌ) [التغابن: 1].
(يُسَبّحُ)، بمعنى: ينزِّهُ عَنْ كُلِّ صفةِ نقصٍ وعيبٍ، و(سبَّحَ) تتعدى بنَفْسِها وتتعدى باللامِ:
1- أمَا
تعديِّها بنَفْسِها، فمثلُ قولِهِ تَعَالَى: (لِتُؤمِنُوا بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَتُعَزّرُوهُ وَتُوَقّرُوهُ وَتُسَبّحُوهُ بُكرَةً
وَأَصِيلاً) [الفتح: 9].
2- وأمَا تعديِّها باللاِم، فهِيَ كثيرةٌ، فكُلُّ السورِ المبدوءةِ بهَذَا متعديةٌ باللامِ.
قَالَ العلماءُ: وإِذَا أريدَ مجردُّ الفعلِ،
تعدَّتْ بنَفْسِها: (وَتُسَبّحُوهُ)، فمعنى (وَتُسَبّحُوهُ)، أيْ: تقولوا:
سُبْحَانََ اللَّهِ !
وإِذَا أريدَ بيانُ القصدِ والإخلاصِ، تعدَّتْ باللامِ، (يُسَبّحُ لِلَّهِ)، أيْ: سبِّحوا إخلاصاً لِلَّهِ واستحقاقاً.
فاللامُ هُنا تبيِّنُ كمالَ الإرادةِ مِنَ الفاعلِ، وكمالَ الاستحقاقِ مِنَ المسَّبَحِ، وهُوَ اللَّهُ.
وقولُهُ: (مَا فِى السَّمَاوات وَمَا فِى الأَرضِ): عامٌّ يشملُ كُلَّ شيءٍ.
لكنَّ التَّسبيحَ نوعانِ: تسبيحٌ بلسانِ المقالِ، وتسبيحٌ بلسانِ الحالِ.
3- أمَّا التسبيحُ بلسانِ الحالِ، فَهُوَ عامٌّ: (وَإِن مّن شَيءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمدِهِ) [الإسراء: 44].
4- وأمَّا
التسبيحُ بلسانِ المقالِ، فَهُوَ عامٌّ كذلِكَ، لكنْ يخرجُ مِنْهُ
الكافرُ، فإنَّ الكافرَ لَمْ يسِّبحْ اللَّهَ بلسانِه، وَلِهَذَا يقولُ
تَعَالَى: (سُبحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشرِكُونَ) [الحشر: 23]، (سُبحَانَ
اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ) [الصافات: 159]، فَهُمْ لَمْ يسبِّحوا اللَّهَ
تَعَالَى؛ لأنَّهم أشركُوا بهِ، ووصفوه بمَا لاَ يليقُ بهِ.
فالتسبيحُ بلسانِ الحالِ يعني: أنَّ حالَ كُلِّ
شيءٍ فِي السَّماواتِ والأرضِ تدلُّ عَلَى تنزيهِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى عَنِ العبثِ وعَنِ النَّقصِ، حَتَّى الكافرُ إِذَا تأمَّلْتَ
حالَه، وجدْتَها تدلُّ عَلَى تنزُّهِ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ النَّقصِ
والعيبِ.
وأمَّا التَّسبيحُ بلسانِ المقالِ، فيعني: أنْ يقولَ: سُبْحَانَ اللَّهِ.
وقولُهُ: (لَهُ المُلكُ وَلَهُ الحَمدُ وَهُوَ عَلَى كُلّ شَيءٍ قَدِيرٌ):
هذِهِ الصِّفاتُ الأخيرةُ صفاتٌ ثبوتيةٌ، وسبَقَ
ذكرُ معناها، لكنْ (يُسَبّحُ لِلَّهِ) صفةٌ سلبيةٌ؛ لأنَّ معناها،
تنزيهُهُ عمَا لاَ يليقُ بهِ.
الآيةُ السَّابعةُ والثَّامنةُ: وقولُهُ:
(تَبَارَكَ الَّذِى نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ
لِلْعَلَمِينَ نَذِيراً الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَاوات وَالأَرْضِ وَلَمْ
يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِى الْمُلْكِ وَخَلَقَ
كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) [الفرقان: 1-2].
(تَبَارَكَ)، بمعنى: تَعَالَى وتعاظمَ.
و(الَّذِى نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ): هُوَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ.
وقولُهُ: (الْفُرْقَانَ)، يعني بهِ: القرآنَ؛
لأنَّهُ يفرِّقُّ بينَ الحقِّ والباطلِ، وبينَ المسلمِ والكافرِ، وبينَ
البرِّ والفاجرِ، وبينَ الضَّارِّ والنَّافعِ، وغيرِ ذلِكَ ممَا فِيهِ
الفرقانُ، فكلُّه فُرقانٌ.
(عَلَى عَبْدِهِ): محُمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ
والسَّلاَمُ ، فوصفَهُ بالعبوديةِ فِي مقامِ التحدُّثِ عَنْ تنزيلِ
القرآنِ عَلَيْهِِ، وَهَذَا المقامُ مِنْ أشرفِ مقاماتِ النَّبيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَلِهَذَا وصفَهُ اللَّهَ تَعَالَى بالعبوديَّةِ
فِي مقامِ تنزيلِ القرآنِ عَلَيْهِِ، كَمَا هُنا، وكَمَا فِي قولِهِ:
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتاَبَ) [الكهف:
1]، ووصَفَهُ بالعُبوديةِ فِي مَقامِ الدِّفاعِ عَنْهُ والتحدِّي: (وَإِن
كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّمَّا نزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا) [البقرة: 23]،
ووَصفَهُ بالعبوديَّةِ فِي مقامِ تكريمِهِ بالمعراجِ، فَقَالَ: (سُبْحَانَ
الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)
[الإسراء: 1]، وقَالَ فِي سورةِ النَّجمِ: (فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا
أَوْحَى) [النجم: 10]، ممَّا يدلُّ عَلَى أنَّ وَصْفَ الإنسانِ
بالعبوديَّةِ لِلَّهِ يُعَدُّ كمالاً؛ لأنَّ العبوديَّةَ لِلَّهِ هِيَ
حقيقةُ الحريَّةِ، فَمَنْ لَمْ يتعبَّدْ لَه، كَانَ عابِداً لغيرِهِ.
قَالَ ابنُ القيِّمِ -رحمَهُ اللَّهُ-:
هَرَبوا مِنَ الرِّقِّ الَّذِي خُلِقوا لَهُ وَبُلُوا بِرِقِّ النَّفْسِ والشَّيْطانِ
و((الرِّقُّ الَّذِي خُلقِوا لَه)): عبادةُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ.
و((بُلُوا برقٍّ النَفْسِ والشَّيطانِ)): حَيْثُ
صاروا أرقَّاءَ لنفوسهِمْ، وأرقاءَ للشَّيطانِ، فمَا مِنْ إنسانٍ يفرُّ
مِنْ عبوديةِ اللَّهِ، إلاَّ وقعَ فِي عبوديةِ هواهُ وشيطانهِ، قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى: (أَفَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ
وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ) [الجاثية: 23].
قولُهُ: (لِيَكُونَ لِلْعاَلَمِينَ نَذِيراً):
اللاَّمُ هُنَا للتَّعليلِ، والضَّميرُ فِي (لِيَكُونَ) عائدٌ عَلَى
النَّبيِّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ ؛ لأنَّهُ أقربُ مذكورٍ، ولأنَّ
اللَّهَ تَعَالَى قالَ: (لِتُنذِرَ بِهِ) [الأعراف: 2]، وقَالَ تَعَالَى:
(لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) [الأنعام: 19]، فالمنذِرُ: الرَّسولُ
عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ .
وقولُهُ: (لِلْعَالَمِينَ): يشملُ الجنَّ والإنسَ.
وقولُهُ: (الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ): تقدَّمَ معناهَا.
وقولُهُ: (وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً، وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِى الْمُلْكِ): سبقَ معناهما، وهُمَا صفةٌ سلبيَّةٌ.
(وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً):
الخلقُ: الإيجادُ عَلَى وجهٍ معينٍ. والتَّقديرُ: بمعنى التَّسويةِ أوْ
بمعنى القضاءِ فِي الأزلِ، والأوَّلُ أصحُّ، ويدلُّ لذلِكَ قولُهُ
تَعَالَى: (الَّذِى خَلَقَ فَسَوَّى) [الأعلى: 2]، وبهِ تكونُ الآيةُ عَلَى
التَّرتيبِ الذِّكرِيِّ والمعنوِيِّ، وعَلَى الثَّاني تكونُ الآيةُ عَلَى
التَّرتيبِ الذِّكرِيِّ.
ونستفيدُ مِنْ هذِهِ الآياتِ مِنَ النَّاحيةِ المسلكيَّةِ:
أنَّهُ يجبُ علينا أنْ نَعرِفَ عظمةَ اللَّهِ
عزَّ وجلَّ، وننزِّهَهُ عَنْ كُلِّ نقصٍ، وإِذَا عَلِمْنا ذلِكَ، ازددْنا
محبةً لَهُ وتعظيماً.
ومِنْ آيتي الفرقانِ نستفيدُ بيانَ هَذَا القرآنَ
العظيمَ، وأنَّهُ مرجعٌ العبادِ، وأنَّ الإنسانَ إِذَا أرادَ أنْ
تتبيَّنَ لَهُ الأمورُ، فليرجعْ إِلَى القرآنِ؛ لأنَّ اللَّهَ سمَّاه
فرقاناً: (نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ) [الفرقان: 1].
ونستفيدُ أيضاً مِنَ النَّاحيةِ المسلكيَّةِ
التربويةِ: أنْ تتأكدَ وتزدادَ محبتُنا لرسولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَيْثُ كَانَ عبداً لِلَّهِ، قائماً بإبلاغِ
الرِّسالةِ وإنذارِ الخلقِ.
ونستفيدُ أيضاً أنَّ النَّبيَّ عليْهِ الصَّلاَةُ
والسَّلاَمُ آخِرُ الرُّسُلِ، فلاَ نصدِّقُ بأيِّ دعوى للنُّبوةِ مِنْ
بعدِه، لقولِهِ: ((لِلعَالَمِينَ)، ولو كَانَ بعدَه رسولٌ، لكَانَ تنتهِيَ
رسالتُه بهَذَا الرَّسولِ، ولاَ كانَتْ للعالَمينَ كُلِّهِم.
الآيةُ التَّاسعةُ والعاشرةُ: قولُهُ: (مَا
اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِن إِلَهٍ إِذًا
لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهِ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعضُهُم عَلَى بَعضٍ
سُبحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ عَالِمِ الغَيبِ وَالشَّهّدَةِ
فَتَعَالَى عَمَّا يُشرِكُونَ) [المؤمنون: 91 – 92].
ينفِي اللَّهُ تَعَالَى فِي هذِهِ الآيةِ أنْ يكونَ اتَّخذَ ولداً، أوْ أنْ يكونَ مَعَهُ إلَهٌ.
ويتأكدُ هَذَا النَّفِي بدخولِ (مِن) فِي قولِهِ:
(مِن وَلَدٍ)، وقولِهِ: (مِن إِلَهٍ)؛ لأنَّ زيادةَ حرفِ الجرِّ فِي
سياقِ النَّفِي ونحوِه تفيدُ التَّوكيدَ.
فقولُهُ: (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ)،
يعني: مَا اصطفَى أحداً يكونُ ولداً لَهُ، لاَ عُزَيْرٌ، ولاَ المسيحُ،
ولاَ الملائكةُ، ولاَ غيرُهم؛ لأنَّهُ الغنيُّ عمَّا سواهُ.
وإِذَا انتفى اتِّخاذُه الولدَ، فانتفاءُ أنْ يكونَ والداً مِنْ بابٍ أوْلى.
وقولُهُ (مِن إِلَهٍ): (إِلَهٍ)، بمعنى: مألوهٍ،
مثلِ: بناءٍ، بمعنى: مَبْنِيٍّ، وفراشٍ بمعنى مفروشٍ، فالإلَهُ بمعنى
المألوهِ، أيْ: المعبودِ المتذلَّلِ لَه.
يعني: مَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إلَهِ حقٍ، أمَّا
الآلِهاتُ الباطلةُ، فهِيَ موجودةٌ، لكنْ لكونِهِا باطلةً، كانَتْ كالعدمِ،
فصحَّ أنْ يُقالَ: مَا كَانَ مَعَ اللَّهِ مِنْ إلَهٍ.
(إِذًا)، يعني: لو كَانَ مَعَهُ إلَهٌ.
(لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهِ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ
بَعضُهُم عَلَى بَعضٍ): لو كَانَ هُناكَ إلَهٌ آخرُ يساوِي اللَّهَ عزَّ
وجلَّ، لكَانَ لَهُ ملكٌ خاصٌّ ولِلَّهِ ملكٌ خاصٌّ، يعني: لانفردَ كُلُّ
واحدٍ مِنْهُم بمَا خلقَ، قالَ: هَذَا خلقِي لي، وكذلِكَ الآخرُ.
وحينئذٍ، يريدُ كلٌ مِنْهمَا أنْ يسيطرَ عَلَى
الآخرِ كَمَا جرَتْ بهِ العادةُ، فملوكُ الدُّنْيَا كُلُّ واحدٍ مِنْهم
يريدُ أنْ يسيطرَ عَلَى الآخرِ، وتكونُ المملكةُ كلُّها لَه، وحينئذٍ:
إمَّا أَنْ يتمانَعا، فيعجزَ كُلُّ واحدٍ
مِنْهمَا عَنِ الآخرِ، وإِذَا عجزَ كُلُّ واحدٍ مِنْهمَا عَنِ الآخرِ، مَا
صحَّ أنْ يكونَ واحدٌ مِنْهمَا إلَهاً؛ لأنَّ الإلَهَ لاَ يكونُ عاجزاً.
وإمَّا أنْ يعلوَ أحدُهمَا عَلَى الآخرِ، فالعالِي هُوَ الإلَهُ.
فترجعُ المسألةُ إِلَى أنَّهُ لاَ بدَّ أنْ يكونَ
للعالمِ إلَهٌ واحدٌ، ولاَ يمكنُ أنْ يكونَ للعالِم إلهانِ أبداً؛ لأنَّ
القضيَّةَ لاَ تخرجُ مِنْ هذَيْنِ الاحتمالينِ.
كَمَا أننَّا أيضاً إِذَا شاهدْنا الكونَ
عُلْويَّهُ وسُفليَّهُ، وجدْنا أنَّهُ كونٌ يصدرُ عَنْ مدبِّرٍ واحدٍ،
وإلاَّ، لكَانَ فِيهِ تناقضٌ، فأحدُ الإلَهِيَنْ يقولُ مثلاً: أنا أُريدُ
الشَّمسَ تخرجُ مِنَ المَغْرِبِ! والثَّاني يقولُ: أُريدُها تَطلعُ مِنَ
المشرقِ! واتفاقُ الإرادتَيْنِ بعيدٌ جدًّا، ولاَ سيَّمَا أنَّ المقامَ
مقامُ سلطةٍ، فكُلُّ واحدٍ يريدُ أنْ يفرضَ رأيْهُ !
ومعلومٌ أنَّنَا لاَ نشاهدُ الآنَ الشَّمسَ تطلعُ
يوماً مَعَ هَذَا ويوماً مَعَ هَذَا، أوْ يوماً تتأخَّرُ؛ لأنَّ
الثَّانيَ منَعَها ويوماً تتقدَّمُ؛ لأنَّ الأوَّلَ أمرَ الثَّانيَ
بإخراجِها، فلاَ نجدُ هَذَا، نجدُ الكونَ كلَّه واحداً متناسباً متناسقاً،
ممَا يدلُّ دلالةً ظاهرةً عَلَى أنَّ المدِّبرَ لَهُ واحدٌ، وهُوَ
اللَّهُ عزَّ وجلَّ.
فبيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بدليلٍ
عقلِيٍّ أنَّهُ لاَ يمكنُ التَّعدُّدُ، إذْ لوْ أمكنَ التَّعدُّدُ، لحصلَ
هَذَا، لانفصلَ كُلُّ واحدٍ عَنِ الثَّانِي، وذَهَبَ كُلُّ إلَهٍ بمَا
خَلَقَ، وحينئذٍ إمَّا أنْ يَعجزَ أحدُهمَا عَنِ الآخَرِ وإمَّا أنْ
يَعلُوَ أحدُهمَا الآخرَ، فإنْ كَانَ الأوَّلُ، لَمْ يصلحْ أيُّ واحدٍ
مِنْهُمَا للألوهِيَةِ، وإنْ كَانَ الثَّاني، فالعالِي هُوَ الإلَهُ،
وحينئذٍ يكونُ الإلَهُ واحداً.
فإنْ قِيلَ: ألاَ يمكنُ أنْ يَصطلِحَا وينفرِدُ كُلُّ واحدٍ بمَا خلقَ ؟
فالجوابُ: أنَّهُ لو أمكنَ ووقعَ، لزمَ أنْ يختلَّ نظامُ العالمِ.
ثُمَّ إنَّ اصطلاحَهُمَا لاَ يكونُ إِلَّا لخوفِ
كُلِّ واحدٍ مِنْهُمَا مِنَ الآخرِ، وحينئذٍ لاَ تصلحُ الرُّبوبيَّةُ
لواحدٍ مِنْهُما، لعجزِه عَنْ مقاومةِ الآخرِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: (سُبحَانَ اللَّهِ عَمَّا
يَصِفُونَ)، أيْ: تنزيهاً لِلَّهِ عزَّ وجلَّ عمَّا يصفُه بهِ الملحدونَ
المشركونَ، الَّذِينَ يقولونُ فِي اللَّهِ سُبْحَانَهُ مَا لاَ يليقُ بهِ.
(عَالِمِ الغَيبِ وَالشَّهاَدَةِ): الغيبِ: مَا غابَ عَنِ النَّاسِ، والشَّهادةِ: مَا شهِدَهُ النَّاسُ.
(فَتَعاَلَى عَمَّا يُشرِكُونَ): (فَتَعاَلَى)، يعني: ترفعُ وتقدِّسُ وتنزِّهُ.
(عَمَّا يُشرِكُونَ): عن الأصنامِ الَّتِي جعلوُها آلَهةً مَعَ اللَّهِ تَعَالَى.
وفِي هاتينِ الآيتينِ مِنْ صفاتِ النَّفيِ:
تنزَّهَ اللَّهُ تَعَالَى عن اتِّخاذِ الولدِ الَّذِي وصفَهُ بهِ
الكافرونَ، وعَنِ الشَّريكِ لَهُ فِي الألوهِيَّةِ الَّذِي أشركَ بِهِ
المشركونَ.
وَهَذَا النَّفيُ لكمالِ غناه وكمالِ ربوبيَّتِهِ وإلَهِيَّتهِ.
ونستفيدُ مِنْهمَا مِنَ النَّاحيةِ المسلكيَّةِ: أنَّ الإيمانَ بذلِكَ يحملُ الإنسانَ عَلَى الإخلاصِ لِلَّهِ عزَّ وجلَّ).
التنبيهات اللطيفة فيما احتوت عليه الواسطية من المباحث المنيفة لابن سعدي رحمه الله
قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): (ومن الأصول العظيمة: إثبات تفرد الربّ بكل صفة كمال وأنه ليس لله شريك ولا مثيل في شيء منها، والنصوص المذكورة التي فيها نفي الندّ والمثل والكفؤ والسمي عن الله تدل على ذلك، وتدل على أنه مُنـزّه عن كل عيب ونقص وآفة).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ مُحمَّد
خَليل هَرَّاس رحمه الله
قال الشيخ محمد خليل هراس (ت: 1395هـ): (وأَمَّا قولُهُ تعالى: { وقُلِ الحَمْدُ للهِ الَّذي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا …}
الآيةَ؛ فقَدْ تقدَّمَ الكلامُ في معنى الحمدِ، وأنَّهُ الثناءُ
باللِّسانِ على النِّعمةِ وغيرِهَا، وقلنا: إنَّ إثباتَ الحمدِ للهِ
سبحانَهُ متضمِّنٌ لإِثباتِ جميعِ الكمَالاتِ التَّي لا يستحقُّ الحمدُ
المطلقُ إلاَّ مَنْ بلغَ غايتَهَا.
ثمَّ
نفى سبحانَهُ عن نفسِهِ ما ينافِي كمَالَ الحمدِ مِن الولدِ والشَّريكِ
والوليِّ مِن الذُّلِّ – أي: مِن فقرٍ وحاجةٍ -، فهوَ سبحانَهُ لا يُوالي
أحدًا مِن خلقِهِ مِن أجلِ ذلَّةٍ وحاجةٍ إليهِ.
ثمَّ أمرَ عبدَهُ ورسولَهُ أنْ يكبِّرَهُ تكبيرًا؛ أي: يعظِّمَهُ تعظيمًا ويُنَزِّهَهُ عن كلِّ صفةِ نَقْصٍ وَصَفَهُ بهَا أعداؤُهُ مِن المشركينَ.
وأَمَّا قولُهُ: { يُسَبِّحُ للهِ … } إلخ. فالتَّسبيحُ هوَ التَّنْزيهُ والإِبعادُ عن السُّوءِ؛ كمَا تقدَّمَ.
ولا
شكَّ أنَّ جميعَ الأشياءِ في السَّماواتِ وفي الأرضِ تسبِّحُ بحمدِ
ربِّهَا، وتشهدُ لهُ بكمَالِ العلمِ والقدْرةِ والعزَّةِ والحكمةِ
والتَّدبيرِ والرَّحمةِ؛ قالَ تعالى:
{ وَإِن مِّنْ شَيْءٍ إلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ }.
وقَد اختُلِفَ في تسبيحِ الجماداتِ التَّي لا تنطقُ؛ هلْ هوَ بِلِسَانِ الحَالِ أوْ بلسانِ المَقَالِ؟
وعندِي أنَّ الثانيَ أرجحُ؛ بدليلِ قولِهِ تعالى: { وَلَكِن لاَّ تَفْقَهونَ تَسْبِيحَهُمْ }، إذْ لو كانَ المرادُ تسبيحَهَا بلسانِ الحالِ؛ لكانَ ذلكَ معلومًا، فلا يصحُّ الاستدراكُ.
وقَدْ قالَ تعالى خبرًا عن دَاودَ عليهِ السَّلامُ: { إِنَا سَخَّرْنَا الجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بالعَشِيِّ والإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لهُ أَوَّابٌ}.
وأَمَّا قولُهُ تعالى: { تَبَارَكَ الَّذي … } إلخ. فقَدْ قُلنا: إنَّ معنى ( تَبارَكَ )
مِن البركةِ، وهيَ دوامُ الخيرِ وكثرتُهُ، ولكنْ لا يلزمُ مِن تلكَ
الزِّيادةِ سبقُ النَّقصِ، فإنَّ المرادَ تجدُّدُ الكمَالاتِ الاختياريَّةِ
التَّابعةِ لمشيئتِهِ وقَدْرتِهِ، فإنَّهَا تتجدَّدُ في ذاتِهِ على وِفقِ
حكمتِهِ، فالخلوُّ عنها قبلَ اقتضاءِ الحكمةِ لهَا لا يُعتبرُ نقصًا.
وقَدْ فَسَّرَ بعضُهُمْ التَّبارُكَ بالثَّباتِ وعدمِ التَّغيُّرِ، ومنهُ سُمِّيَتِ البِرْكَةُ؛ لثبوتِ مائِهَا. وهوَ بعيدٌ.
والمرادُ بـِ ( الفُرْقان ) القرآنُ، سُمِّيَ بذلكَ لقوَّةِ تَفْرِقَتِهِ بينَ الحقِّ والباطلِ والهُدى والضَّلالِ.
والتَّعبيرُ بِـ ( نَزَّلَ ) بالتَّشديدِ؛ لإِفادةِ التَّدرُّجِ في النُّـزولِ، وأنَّهُ لمْ ينزلْ جُملةً واحدةً.
والمرادُ بـِ ( عَبْدِهِ ) محمَّدٌ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلمَ، والتَّعبيرُ عنهُ بلقبِ العبوديَّةِ للتَّشريفِ – كمَا سبقَ -.
و ( العالَمينَ )؛ جمعُ عالَمٍ، وهوَ جمعٌ لِمَا يَعقلُ، واختُلِفَ في المرادِ بهِ، فقيلَ: الإِنسُ.
وقيلَ:
الإِنسُ والجنُّ. وهوَ الصَّحيحُ؛ فقَدْ ثبتَ أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللهُ عليهِ وَسَلمَ مرسلٌ إلى الجنِّ أيضًا، وأنَّهُ يجتمعُ بِهمْ، ويقرأُ
عليهِمُ القرآنَ، وأنَّ مِنْهُمْ نفرًا أسلمَ حينَ سمِعَ القرآنَ وذهبَ
يُنذرُ قومَهُ بهِ؛ كمَا قالَ تعالى:
{
وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الجِنِّ يَسْتَمِعُونَ القُرْآنَ.
فَلَمَّا حَضَروهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى
قَوْمِهِمْ مُنْذِرينَ }.
والنَّذيرُ والمُنذرُ هوَ من يُعْلِمُ بالشَّيءِ معَ التَّخويفِ، وضِدُّهُ البشيرُ أو المبشِّرُ، وهوَ مَنْ يخبرُكَ بما يسرُّكَ.
وقولُهُ: { ما اتَّخَذَ اللهُ مِن وَلَدٍ … }
إلخ. تَضَمَّنَتْ هذهِ الآيةُ الكريمةُ أيضًا جُملةً مِن صفاتِ التَّنزيهِ
التَّي يُرادُ بهَا نفيُ ما لا يليقُ باللهِ عزَّ وجلَّ عنهُ، فقَدْ
نزَّهَ سبحانَهُ نفسَهُ فيهَا عن اتِّخاذِ الولدِ، وعن وُجودِ إلهٍ خالقٍ
معهُ، وعمَّا وصفَهُ بهِ المُفترونَ الكَذَّابُون؛ كمَا نَهى عن ضربِ
الأمثالِ لهُ، والإِشراكِ بهِ بلا حُجَّةٍ ولا بُرهَانٍ، والقولِ عليهِ
سبحانَهُ بلا عِلمٍ ولا دَليلٍ.
فهذهِ الآيةُ تَضَمَّنَتْ إثباتَ توحيدِ الإِلهيَّةِ،
وإثباتَ توحيدِ الرُّبوبيَّةِ، فإنَّ اللهَ بعدَما أخبرَ عن نفسِهِ بعدمِ
وُجودِ إلهٍ معهُ أوضحَ ذلكَ بالبُرهَانِ القاطعِ والحُجَّةِ الباهرةِ،
فقالَ: ( إِذًا )؛ أي: إذْ لو كانَ معهُ آلهةٌ كمَا يقولُ هؤلاءِ المشركونَ؛
{ لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ}.
وتوضيحُ
هذا الدَّليلِ أنْ يُقالَ: إذَا تعدَّدَتِ الآلِهَةُ؛ فلا بُدَّ أنْ يكونَ
لكلٍّ مِنْهُمْ خَلقٌ وفِعلٌ، ولا سبيلَ إلى التَّعاوُنِ فيمَا بينَهُم؛
فإنَّ الاختلافَ بينَهمْ ضروريٌّ، كمَا أنَّ التَّعاونَ بينَهمْ في الخلقِ
يقتضي عجزَ كلٍّ مِنْهُمْ عندَ الانفرادِ، والعاجزُ لا يَصلُحُ إلهًا، فلا
بُدَّ أنَّ يستقلَّ كلٌّ مِنْهُمْ بخلقِهِ وفعلِهِ، وحينئِذٍ؛ فإمَّا أنْ
يكونوا متكافئِينَ في القَدَرِةِ، لا يستطيعُ كلٌّ مِنْهُمْ أنْ يقهرَ
الآخرِينَ ويَغلبَهُم، فيذهبُ كلٌّ مِنْهُمْ بما خلقَ، ويختصُّ بمُلكِهِ؛
كمَا يفعلُ ملوكُ الدُّنيا مِن انفرادِ كلٍّ بمملكَتِهِ إذَا لمْ يجدْ
سبيلاً لقهرِ الآخرِينَ، وأَمَّا أنْ يكونَ أحدُهُمْ أقوى مِن الآخرِينَ،
فيَغلِبُهُم، ويقهرُهُم، وينفرِدُ دُونَهمْ بالخَلقِ والتَّدبيرِ،
فلا بُدَّ إذًا معَ تعدُّدِ الآلهةِ مِن أحدِ هذينِ الأمرينِ:
إمَّا ذهَابُ كلٍّ بما خلقَ،
أو عُلُوُّ بعضِهِمْ على بعضٍ.
وذهَابُ
كلٍّ بما خلقَ غيرُ واقعٍ؛ لأنَّهُ يقتضِي التَّنافرَ والانفصالَ بينَ
أجزاءِ العالَمِ، معَ أنَّ المُشاهدةَ تُثبِتُ أنَّ العالمَ كلَّهُ كَجِسمٍ
واحدٍ مترابطِ الأجزاءِ، متَّسقِ الأنحاءِ، فلا يمكنُ أنْ يكونَ إلاَّ
أثرًا لإِلهٍ واحدٍ.
وعُلُوُّ بعضِهِمْ على بعضٍ يقتَضِي أنْ يكونَ الإِلهُ هوَ العالِي وحدَهُ).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ:
صالح بن فوزان الفوزان
قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: ((وَقُلِ الحَمْدُ للهِ) الحمدُ: هو الثَّناءُ،
و(أل) فيه للاستغراقِ، أي: الحمدُ كُلُّه للهِ
(الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) أي ليس له ولَدٌ كما تقولُه اليهودُ والنَّصارى وبعضُ مُشركي العرَبِ، (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ في المُلْكِ) أي ليس له مُشَارِكٌ في مُلكِه وربوبيَّتِه كما تقولُ الثَّنَويَّةُ ونحوُهُم ممَّن يقولُ بتعدُّدِ الآلهةِ
(وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَليٌّ مِنَ الذُّلِّ) أي ليس بذليلٍ، فيحتاجُ إلى أَن يكونَ له وليٌّ أو وَزيرٌ أو مُشِيرٌ، فلا يحالفُ أحداً، ولا يستنصرُ بأحدٍ،
(وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) أي عَظِّمه وأَجلَّهُ عمَّا يقولُه الظَّالمون.
قولُه: (يُسَبِّحُ للهِ مَا في السَّماواتِ وَمَا في الأَرْضِ) أي تنزِّهُه جميعُ مخلوقاتِه التي في سماواتِه وأرضِه عَن كُلِّ نقصٍ وعيبٍ, ـ(تَباركَ) فِعلٌ ماضٍ مأخوذٌ مِن البَركةِ، وهي النَّماءُ والزِّيادةُ المستقرَّةُ الثَّابتةُ الدَّائمةُ. قولُه: (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ) في هذه الآيةِ ينزِّه تعالى نفسَه عَن أَن يكونَ له ولدٌ أو شريكٌ في الملكِ والتصرُّفِ والعبادة
(لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ) يختصَّان بهِ، ليس لغيرِه منهما شيءٌ, وما كان لعبادِه مِن المِلْكيَّةِ فهو مِن عَطائِه,
(وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لا يُعجزُه شيءٌ.
وهذه اللَّفظةُ لا تُستعملُ إلاَّ للهِ سبحانَه. ولا تُستعملُ إلاَّ بلفظِ الماضِي,
(الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ) أي القرآنَ، سُمِّيَ فُرقاناً؛ لأنَّه يُفَرِّقُ بيَن الحقِّ والباطلِ,
(عَلى عَبْدِهِ)
يعني محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذه صفةُ مدحٍ وثناءٍ؛
لأنَّه أضافه إليه إضافةَ تشريفٍ وتكريمٍ في مقامِ إنزالِ القرآنِ عليه
(لِيكُونَ لَلْعَالمِينَ) الإنس والجنِّ، وهذه مِن خُصوصيَّاتِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(نَذِيراً) أي مُنذِراً، مأخوذٌ مِن الإنذارِ، وهو الإعلامُ بأسبابِ المخافةِ،
وقولُه: (لِيكُونَ) تعليلٌ لإنزالِ الفرقانِ عليه، أي: ليخُصَّه بالرِّسالةِ العامَّةِ.
ثمَّ وصف نفسَه سبحانَه بأرَبعِ صِفاتٍ؛
الأولى: قولُه (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ) دونَ غيرِه، فهو المتصرِّفُ فيهما وحدَه.
الصّفةُ الثَّانيةُ: (وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) كما تزعمُ النَّصارى واليهود، وذلك لكمالِ غناه وحاجةِ كُلِّ مخلوقٍ إليه.
الصِّفةُ الثَّالثةُ: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فيِ المُلْكِ) فيه رَدٌّ عَلى طوائفِ المشركين مِن الوثنيَّةِ والثنويّة وغيرِهم.
الصّفةُ الرَّابعةُ: (وَخَلَقَ كُلّ شَيءٍ) مِن المخلوقاتِ. ويدخلُ في ذلك أفعالُ العبادِ، فهي خَلْقُ اللهِ وفعلُ العبدِ، (فَقَدَّرهُ تَقْدِيراً) أي قدَّر كُلَّ شيءٍ ممَّا خلق مِن الآجالِ والأرزاقِ والسَّعادةِ والشَّقاوةِ، وهيَّأ كُلَّ شيءٍ لما يَصلُحُ له.
قال ابنُ كثيرٍ:
نَزَّهَ نَفسَه عَن الولدِ وعَن الشَّريكِ، ثم أخبر أنَّه خلَق كُلَّ شيءٍ
فقدَّره تقديراً، أي كُلُّ شيءٍ ممَّا سواه مخلوقٌ مَرْبوبٌ، وهو خالقُ
كُلِّ شيءٍ ورَبُّه ومليكُه وإلهُه، وكُلُّ شيءٍ تحتَ قهرِه وتدبيرِه
وتسخيرِه وتقديرِه. انتهى
و(مِنْ) في الموضعيْن لتأكيدِ النَّفْيِ (إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِمَا خَلَقَ)
هذا استدلالٌ بما سبق في أوَّلِ الآيةِ مِن نفيِ الولدِ والشَّريكِ في
الألوهيَّةِ ـ أي لو قُدِّرَ تعدُّدُ الآلهةِ لانفرد كُلٌّ منهم عَن الآخرِ
بما خلَق، وحينئذٍ لا ينتظمُ الكونُ لوجودِ الانقسامِ. والواقعُ
المُشَاهدُ أَنَّ الكونَ منتظمٌ أَتمَّ انتظامٍ لم يحصُلْ فيه تعدُّدٌ ولا
انقسامٌ (وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعضٍ) أي ولو كان معَه إلهٌ آخرُ، لكان
كُلٌّ منهم يطلبُ قَهْرَ الآخرِ ومخالفَته، فيعلو بعضُهم عَلى بعضٍ كحالِ
ملوكِ الدُّنيا وحينئذٍ فذلك المغلوبُ الضَّعيفُ لا يستحقُّ أَن يكونَ
إلهاً.
وإذا تقرَّر بطلانُ المشاركِ، تعيَّن أن يكونَ الإلهُ واحداً هو اللهُ وحدَه،
ولهذا قال: (سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) مِن الشَّريكِ والولدِ
(عَالِمِ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ)
أي هو المختصُّ بعلْمِ ما غاب عَن العبادِ وعلمِ ما يُشاهدونه، وأمَّا
غيرُه فهو وإن عَلِم شيئا مِن المشاهدِ فإنَّه لا يعلمُ الغيب,َ
(فَتَعالَى) أي تنزَّه اللهُ وتقدَّس
(عَمَّا يُشْرِكُونَ) به فهو سبحانَه مُتَعالٍ عَن أَن يكونَ له شريكٌ في الملكِ).
الروضة الندية للشيخ: زيد بن عبد العزيز بن فياض رحمه الله
قال الشيخ زيد بن عبد العزيز بن فياض (ت: 1416هـ): (قولُه : { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ } الآيةَ .
حَمِدَ
تَعَالَى نفْسَه على ما له مِن صِفَاتِ الكمالِ المُبَرَّأةِ مِن كلِّ
نقْصٍ . وهو الغَنِيُّ بذاتِه وغِناه وصْفٌ ذاتِيٌّ له تَعَالَى . فلا
نِدَّ له ولا شَرِيكَ ولا مُعِينَ .
وما
ينبغي أنْ يُعْلَمَ أنَّ أعْظَمَ ما عليه المشركونَ قبلَ مُحَمَّدٍ وفي
مَبْعَثِه هو دعوى الشريكِ لِلَّهِ والوَلَدِ . والقرآنُ مملوءٌ مِن تنزيهِ
اللَّهِ عنْ هذَيْنِ ، وتنزيهُهُ عن المِثْلِ والوَلَدِ يَجْمَعُ كلَّ
التَّنزيهِ : ولما كان الشـرْكُ أكْثَرَ في بني آدمَ مِن القَـوْلِ بأنَّ
له وَلَداً كان تنزيهُه عنه أكْثَرَ .
وكِلاهما يقتضي إثباتَ مِثلٍ ونِدٍّ مِن بعضِ الوجـوهِ . فإنَّ الوَلَدَ
مِن جِنْسِ الوالِدِ ونظيرٌ له . وكِلاهما يستلْزِمُ الحاجَةَ والفقرَ
فيمتنِعُ وجودُ قادرٍ بنَفْسِه . فالَّذِي جُعِلَ شريكاً لو فُرِضَ
مُكافِئاً لَزِمَ افتقارُ كلٍّ منهما وهو ممتنِعٌ ، وإنْ كان غيرَ مُكافِئٍ
فهو مقهورٌ ، والولَدُ يتخِـذُه الوالِدُ لحاجَتِه إلى معاونَتِه له كما
يتخِـذُ المالَ ، فإنَّ الولَدَ إذا اشتدَّ أعانَ والِدَه . فإنَّ كَوْنَ
المخلوقِ مملوكاً لخالِقه وهو مفتقِرٌ إليه مِن كلِّ وجهٍ ، والخالِقُ
غنِيٌّ عنه يناقِضُ اتخاذَ الوَلَدِ لأنه إنما يكونُ لحاجَتِه إليه في
حياتِه ، أو ليَخْلُفَه بعد مَوْتِه ، والرَّبُّ غنيٌّ عن كلِّ ما سِواهُ ،
وكلُّ ما سِواه فقيرٌ إليه ، وهو الحيُّ الَّذِي لا يموتُ : والوالِدُ في
نفْسِه مفتقِرٌ إلى وَلَدٍ مخلوقٍ لا حِيلَةَ له فيه . والوِلادةُ بغيرِ
اختيارِ الوالدِ ، والرَّبُّ تَعَالَى يمتنِعُ أنْ يَحْدُثَ شيءٌ بغيرِ
اختيارِه . واتخاذُ الولَدِ هو عِوضٌ عن الوِلادةِ لمَن لم يحصُلْ له فهو
أنْقَصُ في الوِلادةِ .
وقَالَ ابنُ جريرٍ في تفسيرِ الآيةِ : يقولُ تَعَالَى ذِكْرُه لنبيِّه مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
( وَقُلْ ) يا مُحَمَّدُ
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً } فيكونُ مَرْبوباً لا رَبًّا ؛ لأنَّ ربَّ الأربابِ لا ينبغي أنْ يكـونَ له ولدٌ
{ وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ }
فيكونَ عاجِزاً ذا حاجةٍ إلى معونةِ غيرِه ضعيفاً ، ولا يكونُ إلهاً مَن
يكونُ مُحتاجاً إلى مُعينٍ على ما حاوَلَ ولم يكُنْ مُنفرِداً بالمُلْكِ
والسَُّلطانِ { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلِّ }
يقولُ : ولم يكُنْ له حليفٌ حالَفَه مِن الذُّلِّ ؛ لِأنَّ مَن كان ذا
حاجةٍ إلى نُصْرةِ غيرِه فذَليلٌ مَهينٌ . ولا يكونُ مَن كان ذليلاً
مَهيناً يحتاجُ إلى ناصرٍ إلهاً يُطاعُ
{ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً } يقولُ : وعظّمْ ربَّكَ يا مُحَمَّدُ بما أمَرْناكَ أنْ تعظِّمَه به مِن قولٍ وفِعلٍ ، وأطِعْه فيما أمَرَكَ ونَهَاكَ اهـ .
قولُه : { يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } التَّسبيحُ : التَّقديسُ والتَّعظيمُ ، وهذه الآيةُ كقولِه :{ وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ } فكلٌّ يقدِّسُه تَعَالَى وهو المستحِقُّ لكُلِّ كَمالٍ .
وقولُه : {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} الفُرقانُ هو القرآنُ الَّذِي فرَّقَ بين الحقِّ والباطِلِ .
{لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ} لجميعِ البَشرِ كما قَالَ {قُلْ يأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} ( نَذِيراً )
يُحَذِّرُ مِن وُقوعِ العذابِ بهم إنْ لم يؤمِنوا باللَّهِ وما أرسَلَه به
مِن الشرعِ والهُدى . وفيها إثباتُ مُلكِه سُبْحَانَهُ وخَلْقِه وتقديرِه
لجميعِ الأشياءِ ، ونفيِ النقائصِ مِن اتخاذِ الولدِ والشريكِ وغيرِ ذلك .
قولُه : { مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَـهٍ }
استدَلَّ سُبْحَانَهُ على المشركينَ فيما جَحَدوه مِن توحيدِ الألوهيةِ .
بما أقَرُّوا به مِن توحيدِ الرُّبوبيةِ . وهذا كثيرٌ في القرآنِ كما في
هذه الآيةِ .
فتأمَّلْ
هذا البرهانَ الباهِرَ بهذا اللَّفْظِ الوجيزِ البَيّنِ ، فإنَّ الإلهَ
الحقَّ لا بد أنْ يكونَ خالِقاً فاعلاً ، يُوصِلُ إلى عَابِدِه النفْعَ ،
ويدفَعُ عنه الضُّرَّ ، فلو كان معه سُبحانه إلهٌ لكان له خَلْقٌ وفِعلٌ .
وحينئذٍ فلا يَرْضى شِرْكةَ الإلهِ الآخَرِ معه . بل إنْ قَدَرَ على قهْرِه
وتفرُّدِه بالألوهيةِ دُونَهُ فَعَلَ ؛ وإنْ لم يَقْدِرْ على ذلك انفرَدَ
بخَلْقِه ؛ وذهَبَ به كما ينفَرِدُ مُلوكُ الدُّنْيَا بعضُهم عن بعْضٍ
بممالِكِهم ، إذا لم يَقْدِرِ المنفرِدُ على قَهْرِ الآخَرِ والعُلُوِّ
عليه ،
فلا بد مِن أحدِ أمورٍ ثلاثةٍ :
إما أنْ يَذْهَبَ كلُّ إلهٍ بخَلْقِه وسُلطانِه ،
وإما أنْ يَعْلُوَ بعضُهم على بعضٍ ،
وإما
أنْ يَكُونوا كلُّهم تحتَ قهْرِ إلهٍ واحدٍ يتصرَّفُ فيهم ولا يتصرَّفُونَ
فيه ويمتنِعُ مِن حُكْمِهم ولا يمتَنِعونَ مِن حُكمِه .
فيكونُ وحدَه هو الإلهَ وهمُ العَبيدُ المَرْبُوبُونَ المَقْهورُونَ .
وانتظامُ أمْرِ العالَمِ العُلْوِيِّ والسُّفْلِيِّ ، وارتباطُ بعضِه ببعضٍ
وجَريانِه على نِظامٍ مُحْكَمٍ لا يختلِفُ ولا يفْسُدُ مِن أدَلِّ دليلٍ
على أنَّ مدبِّرَه واحدٌ لا إلهَ غيرُه كما دلَّ دليلُ التَّمانُعِ على
أنَّ خالِقَه واحدٌ ، لا ربَّ غيرُه فذاك تمانُعٌ في الفِعلِ والإيجادِ ،
وهذا تمانُعٌ في العِبادةِ والألوهيةِ؛ فكما يستحيلُ أنْ يكونَ للعالَمِ
ربَّانِ خالِقانِ متكافِئانِ ؛ يستحيلُ أنْ يكونَ له إلهانِ مَعبودانِ
فالعِلمُ بأنَّ وجودَ العالَم على صانِعَيْنِ متماثِلَيْنِ ممتنِعٌ لِذاتِه
مستقِرٌّ في الفِطرةِ ، معلومٌ بصريحِ العقلِ بُطلانُه . فكذا تَبْطُلُ
إلهيةُ اثنَيْنِ .
فالآيةُ الكريمةُ لِمَا ثَبَتَ واستَقَرَّ في الفِطَرِ مِن توحيدِ الرُّبوبيةِ ، دالَّةٌ مُثْبِتَةٌ مستلْزِمةٌ لتوحيدِ الألوهيةِ).
التنبيهات السنية للشيخ: عبد العزيز بن ناصر الرشيد رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وقَوْلُهُ: (
وَقُلِ الحَمْدُ للهِ الَّذي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً ولَمْ يَكُنْ لَهُ
شَريكٌ في المُلْكِ ولَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِن الذُّلِّ وكَبِّرْهُ
تَكْبِيراً).(1)
وَقَوْلِهِ تَعَالى:
( يُسَبِّحُ للهِ مَا فِي السَّماواتِ وَمَا في الأرْضِ لَهُ المُلْكُ
وَلَهُ الحَمْدُ يُحيي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيْرٌ)، وقَوْلُهُ: (
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ
للْعَالَمِينَ نَذِيراً. الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ والأرْضِ ولَمْ
يَتَّخِذْ وَلَداً ولَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيْكٌ في المُلْكِ وخَلَقَ كُلَّ
شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً( 2)
وقَوْلُهُ: (
مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ ومَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إذاً
لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ
سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ …(3)
(عَالِمِ الغَيْبِ والشَّهَادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ).(4)).
الشرح:
قال الشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد (ت: 1408هـ): ((1) قَولُهُ: (وَقُلِ الحَمْدُ للهِ): أل للاستغراقِ والشـُّمولِ، أي الحمدُ كلُّه للهِ، فهو المُستحقُّ للحمدِ لما اتَّصفَ به مِن صفاتِ الكمالِ،
والحمدُ هو الثَّناءُ عليه -سُبْحَانَهُ- بما هو أهلُه، والثَّناءُ هو ذكرُ الصِّفاتِ الجميلةِ مرَّةً بعدَ أُخْرى،
وأمَّا الثَّناءُ بتقديمِ النُّونِ فيكونُ في الخيرِ والشَّرِّ، وأمَّا
المجدُ فهو ذكرُ صفاتِ الجلالِ والعظمةِ، وأمَّا الشُّكرُ فهو فِعلٌ
يُنْبِئُ عن تعظيمِ المُنعمِ، بسببِ كونِه مُنْعِمًا، وشرعًا هو صرفُ
العبدِ جميعَ ما أنعمَ اللهُ لما خُلِقَ لأجلِه.
والفرقُ بين الحمدِ والشُّكرِ:
أنَّ الشُّكرَ يكونُ باللسانِ والجنانِ والأركانِ،
أمَّا الحمدُ فلا يكونُ إلا باللسانِ والجنانِ،
وأيضًا فإنَّ الشُّكرَ لا يكونُ إلا في مُقابلةِ نعمةٍ، وأمَّا الحمدُ فهو يكونُ في مقابلةِ نعمةٍ وفي غيرِ مقابلةِ نِعمةٍ،
قال الشَّيخُ تَقيُّ الدِّينِ بنُ تيميةَ: والحمدُ نوعانِ: حمدٌ على إحسانِه إلى عبادِه وهو من الشُّكرِ،
وحمدٌ لما يستحقُّه من نعوتِ كمالِه، وإنَّما يَستحقُّ ذلك مَنْ هو متَّصفٌ
بصفاتِ الكمالِ، وهي أمورٌ وجوديَّةٌ، فإنَّ الأمورَ العدميَّةَ لا حمدَ
فيها ولا خيرَ ولا كمالَ، ومعلومٌ أنَّ كلَّ ما يحمدُ فإنَّما يُحمدُ على
ما له مِن صفاتِ الكمالِ، فكلُّ ما يُحمدُ به الخلقُ فهو من الخالقِ،
فَثبتَ أنَّه المستحِقُّ للمحامدِ كُلِّها، وهو أحقُّ بالحمدِ من كلِّ
محمودٍ، وبالكمالِ من كلِّ كاملٍ. اهـ.
قَولُهُ: (الَّذي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا):
هذا ردٌّ على اليهودِ والنَّصارى والمُشركين، فإنَّ النَّصارى يقولونَ
المسيحُ ابنُ اللهِ، واليهودُ يقولونَ العُزيرُ ابنُ اللهِ، والمُشركون
يقولونَ الملائكةُ بناتُ اللهِ.
قَولُهُ: (ولَمْ يَكُنْ لَهُ شَريكٌ في المُلْكِ): هذا ردٌّ على المجوسِ والمُشركين والقَدَرِيَّةِ.
قَولُهُ: (ولَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِن الذُّلِّ):
أي ليسَ بذليلٍ فيحتاجُ إلى أنْ يكونَ له وليٌّ أو وزيرٌ أو مشيرٌ؛ لأنَّه
-سُبْحَانَهُ- عزيزٌ لا يفتقرُ إلى وليٍّ يَحمِيه ويمنعُه مِن الذُّلِّ،
فنَفَى الولايةَ على هذا المعنى، لأنَّه غنِيٌّ عنها، ولم يَنفِ الولايةَ
على وجهِ المحبَّةِ والكرامةِ لمَن شاءَ مِن عبادِه، فلم ينفِ الوليَّ
نفيًا عامًّا مطلقًا، بل نَفَى أنْ يكونَ له وليٌّ مِن الذُّلِّ، وأثبتَ في
موضعٍ آخرَ أنْ يكونَ له أولياءٌ بقَولِهِ: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ) فهذه موالاةُ رحمةٍ وإحسانٍ، والموالاةُ المنفيَّةُ موالاةُ حاجةٍ وذُلٍّ، كما أشارَ إلى هذا المعنى ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ.
وقَولُهُ: (وكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا): أي عَظِّمْه عمَّا يقَولُهُ الظَّالمِونَ المُخالفون للرُّسلِ.
ففي
هذه الآيةِ أمَرَ نبيَّه بحمدِه؛ لأنَّه المُستحقُّ أنْ يُحمدَ لما اتَّصفَ
به مِن صفاتِ الكمالِ , وفيها تنـزيهُهُ -سُبْحَانَهُ- عن الولدِ، وذلك
لكمالِ صمديَّتِه -سُبْحَانَهُ- وغِناه وَتَعَبُّدِ كُلِّ شيءٍ له،
فاتِّخاذُ الولدِ يُنافي ذلك كما قالَ سُبْحَانَهُ: (قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ) الآيةَ.
وفيها
تنـزيهُه -سُبْحَانَهُ- أَنْ يكونَ له شريكٌ في المُلكِ المتضمِّنِ
تفرُّدَه بالرُّبوبيَّةِ والألوهيَّةِ، وتوحُّدَه بصفاتِ الكمالِ الَّتي لا
يُوصَفُ بها غيرُه. وهذه الآيةُ آيةٌ عظيمةٌ، وتُسَمَّى آيةَ العِزِّ. قال
ابنُ كثيرٍ: قال قتادةُ: ذُكِرَ لنا أنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللهُ عليهِ
وسلَّمَ- كان يُعَلِّمُ أهلَه هذه الآيةَ الصَّغيرَ والكبيرَ.
قلتُ:
وقد جاءَ في حديثٍ "أنَّ الرَّسولَ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- سمَّى هذه
الآيةَ آيةَ العِزِّ، وفي بعضِ الآثارِ أنَّها ما قُرِئَتْ في بيتٍ ليلةً
فيصيبَه سرقٌ أو آفةٌ. انتهى. مِن كلامِ ابنِ كثيرٍ.
(2) قَولُهُ: (يُسَبِّحُ للهِ):
أي يُنَزِّهُهُ عمَّا لا يليقُ بجلالِه وعظمتِه، فالتَّسبيحُ يَقتضي
التَّنـزيهَ للهِ -سُبْحَانَهُ- مِن كلِّ سوءٍ وعيبٍ وإثباتَ صفاتِ الكمالِ
للهِ سُبْحَانَهُ.
وهذا التَّسبيحُ قيل بلسانِ الحالِ، وقيل بلسانِ المَقالِ وهو الصَّحيحُ،
واللهُ -سُبْحَانَهُ- قادِرٌ على خَلْقِ الإدراكِ في الجَماداتِ وإنطاقِها، كما قالَ -سُبْحَانَهُ- عن الجلودِ: (أنطَقَنَا اللَّهُ الَّذي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ)
والأصلُ في الكلامِ الحقيقةُ، وقد سَمِعَ النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ
وسلَّمَ- تَسبيحَ الْحَصَى، وَوَرَدَ أَنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللهُ عليهِ
وسلَّمَ- قال: ((إِنَّي لأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ))،
وكما في الحديثِ: أنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- لَمَّا
خَطَب على المِنبرِ حَنَّ الجِذْعُ الَّذي كان يخطبُ عليه سابقًا، وقال
تعالى: (وَإِن مِّنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) الآيةَ.
قَولُهُ: (مَا فِي السَّماواتِ وَمَا في الأرْضِ):
أي جميعُ ما في السَّماواتِ والأرضِ يُسبِّحُ للهِ وحدَه، وينـزِّهُه
عمَّا لا يَليقُ بجلالِه وعظمتِه، وقدَّمَ السَّماواتِ على الأرضِ لأنَّها
مقدَّمةٌ بالرُّتبةِ والفضلِ والشَّرفِ، أفاده ابنُ القيِّمِ في
((البدائعِ)).
قَولُهُ: (لَهُ المُلْكُ): أي هو المالكُ وحدَه لجميعِ المخلوقاتِ النَّافِذُ فيها أمرُه، يتصرَّفُ فيها كيفَ يشاءُ لا مُعقِّبَ لحكمِه ولا رادَّ لأمرِه.
قَولُهُ: (يُحْيِـي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ):
ففي هذه الآيةِ دليلٌ على وجودِ التَّسبيحِ من جميعِ المخلوقاتِ، وأنَّه
تسبيحٌ حقيقيٌ، وأنَّه -سُبْحَانَهُ- قادرٌ، على خلقِ الإدراكِ للجماداتِ،
وقادرٌ على إنطاقِها، وفيها إثباتُ جميعِ صفاتِ الكمالِ للهِ -سُبْحَانَهُ-
ونفيُ كلِّ نقصٍ وعيبٍ، لأنَّ التَّسبيحَ يقتَضي ذلك.
قَولُهُ: (تَبَارَكَ): من البركةِ وهو لغةً: النَّماءُ والزِّيادةُ، وتباركَ فِعلٌ مختصٌّ باللهِ لم يُنطقْ له بمضارعٍ.
قَولُهُ: (الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ):
أي القرآنَ سُمِّيَ بذلك لأنَّه يفرقُ بين الحقِّ والباطلِ، ومنه
الفاروقُ، وفيه دليلٌ على أنَّ القرآنَ منَزَّلٌ مِن عندِ اللهِ، وفيه
دليلٌ على علُوِّه -سُبْحَانَهُ- على خلقِه؛ لأنَّ الإنزالَ والتَّنـزيلَ
لا يكونُ إلاَّ مِن أعلى إلى أسفلَ،
وأفادت هذه الآيةُ: فضلَ هذا الكتابِ على الكُتبِ الأخْرَى.
قَولُهُ: (عَلَى عَبْدِهِ):
أي على عبدِه ورسولِه محمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-، وهذا صِفةُ
مدحٍ وثناءٍ؛ لأنَّه أضافَهُ إلى عبوديَّتِه ووصفَه بها في أشرفِ مقاماتِه،
مقامِ الإرسالِ، كقَولِهِ سُبْحَانَهُ: (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ) ومقامِ الإسراءِ كقَولِهِ سُبْحَانَهُ: (سُبْحَانَ الَّذي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى ) ومقامِ التـَّحدِّي كقَولِهِ سُبْحَانَهُ: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا) الآيةَ، وهذه الإضافةُ إضافةُ تشريفٍ وتعظيمٍ،
وتقدَّم أنَّ المُضافَ إليهِ -سُبْحَانَهُ- ينقسمُ إلى قِسمينِ: إضافةُ أعيانٍ وإضافةُ معانٍ،
فإضافةُ المعانِي إليه
-سُبْحَانَهُ وتعالَى- مِن بابِ إضافةِ الصِّفةِ إلى الموصوفِ، كإضافةِ
السَّمعِ والْبَصَرِ والعلمِ والقُدرةِ ونحوِ ذلك إليه -سُبْحَانَهُ- مِن
كلِّ شيءٍ لا يقومُ بنفسِه.
الثَّاني:
إضافةُ الأعيانِ إليه سُبْحَانَهُ، فإضافتُها إليه -سُبْحَانَهُ- مِن بابِ
إضافةِ المخلوقِ إلى خالقِه، كبيتِ اللهِ وناقةِ اللهِ، والحِجرِ يمينِ
اللهِ وعبدِ اللهِ ورسولِ اللهِ ونحوِ ذلك. وفي هذه الآيةِ فضلُ نبيِّنا
-صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- حيث أضَافه إليه ووصَفَه بالعبوديَّةِ الَّتي
هي من أشرفِ مقاماتِ العبدِ.
قَولُهُ: (لِيَكُونَ للْعَالَمِينَ نَذِيرًا): أي مُنذرًا، والإنذارُ: هو الإعلامُ بأسبابِ المخافةِ، فكلُّ إنذارٍ إعلامٌ ولا يَنْعَكِسُ،
قالَ الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ بنُ تيميةَ رحمَه اللهُ تعالى: والإنذارُ المذكورُ في الآيةِ إنذارٌ عامٌّ، فإنَّ الإنذارَ ينقسم إلى قِسمين: إنذارٍ عامٍّ وإنذارٍ خاصٍّ.
والخاصُّ كقَولِهِ سُبْحَانَهُ: (إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا) وقَولِهِ: (إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِكْرَ وَخشِيَ الرَّحْمـنَ بِالْغَيْبِ) الآيةَ.
فهذا الإنذارُ الخاصُّ هو التَّامُّ النَّافعُ الَّذي ينتفعُ به المُنذرُ،
والإنذارُ: هو الإعلامُ بالخوفِ، فعَلِمَ المخوفَ فآمنَ وأطاعَ. انتهى.
ونذارتُه -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- تَنقسم إلى قِسمين: عامَّةٍ وخاصَّةٍ،
فالعامَّةُ كما في هذه الآيةِ،
والخاصَّةُ كقَولِهِ سُبْحَانَهُ: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) الآيةَ.
قَولُهُ: (لِيَكُونَ للْعَالَمِينَ نَذِيرًا):
اللامُ في قَولِهِ ليكونَ لامُ العلَّةِ ودخولُ لامِ التَّعليلِ في شَرعِه
أكثرُ مِن أنْ يُعَدَّ، ففيهِ دليلٌ على تعليلِ أفعالِ اللهِ وأنَّه لا
يفعلُ شيئًا إلا لعلَّةٍ وحكمةٍ.
قال الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ:
هذا قولُ السَّلفِ وجمهورِ المُسلمين، وجمهورِ العُقلاءِ، وقالتْ طائفةٌ
كجهمٍ وأتباعِه: إنَّه لم يَخلقْ شيئًا لشيءٍ، ووافقَه أبو الحسنِ
الأشعريُّ ومَن اتَّبعه مِن الفقهاءِ أتباعِ الأئمَّةِ. انتهى.
قَولُهُ: (للْعَالَمِينَ):
المرادُ بالعالَمين هنا: الجنُّ والإنسُ، ففيه دليلٌ على عمومِ رسالتِه
-صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- وبعثتِه إلى الجنِّ والإنسِ، وفيه دليلٌ على
أنَّ الجنَّ مُكَلَّفون ويتضمَّنُ الدَّلالةَ على أنَّهم يُثابون على
الحسناتِ ويُجازونَ على السَّيئاتِ، وفيه دليلٌ على أنَّ مَن بَلَغه
القرآنُ فقد قامَتْ عليه الحُجَّةُ، لقَولِهِ -سُبْحَانَهُ- وتعالى: (لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ)
الآيةَ، ففيه الردُّ على مَن زعَمَ أنَّ كلامَ اللهِ ورسولِه لا يفيدُ
اليقينَ، فلو كانَ الأمرُ كما زعمَ هؤلاءِ المبتدعةُ لم تقمْ بالقرآنِ
حُجَّـةٌ على المكلَّفينَ، وأفادتْ هذه الآيةُ الحكمةَ في إرسالِ الرُّسلِ
وإنزالِ الكتبِ.
قَولُهُ: (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ والأرْضِ): أي له التَّصرُّفُ فيهما، والجميعُ خلقُه وعبيدُه.
قَولُهُ: (ولَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا): أي لكمالِ غِناه وقيامِه بنفسِه وحاجةِ كلِّ شيءٍ إليه، وافتقارِه وقيامِ كلِّ شيء به سُبْحَانَهُ وتعالى.
قَولُهُ: (وخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ): أي أوجدَ وأنشأَ وأبدعَ، وتأتي خلقَ بمعنى قدرَ، وتأتي بمعنى كذبَ، كما قالَ سُبْحَانَهُ: (وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا)، وقال الشَّاعرُ:
لي حيلةٌ فيمن ينـمُّ وليسَ في الكذابِ حيلة
مَن كانَ يخلقُ ما يقولُ فحيلتي فيــه قليلـة
وقَولُهُ: (وخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) أي خلقَ كلَّ شيءٍ مخلوقٍ،
فيدخلُ في ذلك أفعالُ العبدِ، فهي خلقٌ للهِ وفعلٌ للعبدِ،
ولا يدخلُ في ذلك أسماءُ اللهِ وصفاتُه؛ لأنَّ الأسماءَ والصِّفاتِ تابعةٌ للذَّاتِ يُحتذى فيها حَذوُها.
وعمومُ (كُلَّ) في كلِّ مقامٍ بحسبِه كقَولِهِ سُبْحَانَهُ: (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا) أي كلَّ شيءٍ أُمرَت بتدميرِه، وقَولُهُ: (وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ)
أي من كلِّ شيءٍ يصلحُ للملوكِ فلا يدخلُ في ذلك القرآنُ؛ لأنَّ القرآنَ
كلامُه وهو صفةٌ من صفاتِه، واللهُ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- بصفاتِه غيرُ
مخلوقٍ، كما في الصَّحيحِ من حديثِ خولةَ: ((مَنْ
نَزَلَ مَنْزِلاً وَقَالَ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ
شَرِّ مَا خَلَقَ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْحَلَ مِنْ مَنْزِلِهِ
ذَلِكَ)) فاستعاذَ بكلماتِ اللهِ، والاستعاذةُ بالمخلوقِ شِركٌ،
فَدَلَّ على أنَّ كلامَه -سُبْحَانَهُ- غيرُ مخلوقٍ كما استدلَّ بذلك أحمدُ
وغيرُه.
قال
ابنُ القيِّمِ رحمهُ اللهُ في ((المدارجِ)): استدلَّ الجهميَّةُ على خلقِ
القرآنِ بهذه الآيةِ، فأجابَهم السَّلفُ بأنَّ القرآنَ كلامُه سُبْحَانَهُ،
وكلامُه من صفاتِه، وصفاتُه داخلةٌ في مُسمَّى اسمِه، كعلمِه وقدرتِه
وحياتِه وسمعِه وبصرِه ووجهِه، فليسَ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- أسماءٌ
لذاتٍ لا نعتَ لها ولا صفةَ ولا فعلَ ولا وجهَ ولا يَدينِ، فإنَّ ذلك إلهٌ
معدومٌ مفروضٌ في الأذهانِ لا وُجودَ له في الأعيانِ، كإلهِ الجهميَّةِ
الَّذي فرضُوه لا داخلَ العالمِ ولا خارجَهِ ولا متَّصلَ فيه ولا منفصلَ
عنه ولا محايدَ ولا مباينَ، أمَّا إلهُ العالَمين الحقُّ هو الَّذي دعتْ
إليه الرُّسلُ وعرَّفوه بأسمائِه وصفاتِه وأفعالِه فوقَ سماواتِه، بائنٌ من
خلقِه موصوفٌ بكلِّ كمالٍ منَّزهٌ عن كلِّ عيبٍ، فتجريدُ الذَّاتِ عن
الصِّفاتِ والصِّفاتِ عن الذَّاتِ فَرضٌ وخيالٌ ذِهْنِيٌّ لا حقيقةَ له.
انتهى.
قَولُهُ: (فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا):
أي قَدَّرَ رزقَه وأجلَه وحياتَه وموتَه وما يصلحُ له، ففيه دليلٌ على
الإيمانِ بالقدرِ، ودليلٌ على ما سَبق علمُ اللهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى-
بالأشياءِ، وكتابتِها، كما ثبتَ في صحيحِ مسلمٍ عن عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو،
عن النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- أنَّه قال:
((قَدَّرَ اللهُ مَقَادِيرَ الخَلائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضَ بخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ))، وفي البخاريِّ عن عمرانَ بنِ حصينٍ رَضِي اللهُ عَنْهُ، عن النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((كَانَ
اللهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ،
وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ، وَخَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ)) وفي روايةٍ: ((ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ)) وأحاديثُ تقديرِه وكتابتِه -سُبْحَانَهُ- لما يريدُ أن يَخْلُقَهُ كثيرةٌ جدًّا.
أفادتْ هذه الآيةُ عدا ما تقدَّم: عمومَ ربوبيَّتهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- وملكِه، وأنَّه الإلهُ الحقُّ، وبطلانَ عبادةِ ما سواه،
وأفادت الحثَّ على التَّوكُّلِ؛ لأنَّ مَن وَقَرَ في قلبِه أنَّ المُلكَ
للهِ وأنَّه المُتصرِّفُ النَّافعُ الضَّارُّ لم يبالِ بأحدٍ مِن الخلقِ،
وأفادتْ كما ذَكره بعضُهم: أنَّ العبادَ لا يملكونَ الأعيانَ ملكًا مطلقًا، وإنَّما يملكونَ التَّصرُّفَ فيها على مُقتضى الشَّرعِ،
وأفادتْ تحريمَ الإفتاءِ بغير علمٍ؛ لأنَّ ربوبيَّتَه وملكَهُ يمنعُ مِن الحكمِ والإفتاءِ بغيرِ إذنِه وبغيرِ حكمِه،
وأفادتْ تعدُّدَ السَّماواتِ، وأنَّها أشرفُ مِن الأرضِ؛ لأنَّه قَدَّمها،
وقد تقدَّم كلامُ ابنِ القيِّمِ رحمه اللهُ في هذا الموضوعِ، وفيها
تنـزيهُه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- عن مُشابهةِ المخلوقِينَ في قَولِهِ: (ولَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا) فإنَّ الولدَ عادةً يكونُ من جنسِ الوالدِ،
وفيها الرَّدُّ على اليهودِ القائِلينَ: العزيرُ ابنُ اللهِ، والنَّصارى
القائلين: المسيحُ ابنُ اللهِ، والمشركينَ القائلين الملائكةُ بناتُ اللهِ،
وفيها الرَّدُّ على المشركين في إشراكِهِم معه غيرَه، والرَّدُّ على
المجوسِ القائلين: بأنَّ النَّورَ خَلَقَ الخيرَ، والظَّلامَ خَلَقَ
الشَّرَّ،
والرَّدُّ على الدَّهريَّةِ القائلين: ما هي إلا حياتُنا الدُّنْيَا،
وفيها الرَّدُّ على القَدَريَّةِ القائلين: بأنَّ العبادَ يخلقونَ أفعالهَم،
وتضمَّنت إثباتَ صفةِ العلمِ للهِ سُبْحَانَهُ وتعالى، فإنَّ الخالقَ لا
بُدَّ أن يعلمَ مخلوقَه، إذ الخلقُ فرعُ العلمِ، فلا يُمكِنُ الخلقُ إلا
بعدَ العلمِ، قال تعالى: (أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ).
ففيها
الرَّدُّ على غُلاةِ القَدَريَّةِ الَّذين نَفَواْ علمَه سُبْحَانَهُ،
فَكَفَّرهم السَّلفُ قاطبةً بذلك، وفيها الرَّدُّ على مَن زعم أَنَّ العرشَ
غيرُ مخلوقٍ، وفيها الرَّدُّ على المجبرةِ القائلين:إنَّ العبدَ لا فِعلَ
له، وأنَّ فِعْلَه كحفيفِ الأشجارِ أو كحركةِ المرتعشِ، وهذا باطلٌ تردُّهُ
أدلَّةُ الكتابِ والسُّنَّةِ، بل العقلُ والفطرةُ، فإنَّ أفعالَ العبادِ
داخلةٌ في عمومِ كلِّ المضافةِ إلى شيءٍ، فهي مخلوقةٌ، والمخلوقُ بائنٌ
ومنفصلٌ عن الخالقِ، فليس هو فعلُه، فإذًا لا بُدَّ له من فاعلٍ يقومُ به،
وهم العبادُ، وكلُّ أحدٍ يفرِّقُ بين الحركةِ الاختياريَّةِ والاضطراريَّةِ
وقد قالَ العلماءُ: إنَّ مَن صارَ كالآلةِ لا ضمانَ عليه لأنَّه غيرُ
مكلَّفٍ فيلزمُ على قولِ هؤلاء المجبرةِ أنَّ النَّاسَ غيرُ مكلَّفين، وهذا
ممَّا يردُّه أدلَّةُ العقلِ والنَّقلِ والفطرةِ، والأدلَّةُ على إثباتِ
فِعْلِ العبدِ وأنَّ له فعلاً حقيقةً يُنسبُ إليه على جهةِ الحقيقةِ لا على
جهةِ المجازِ أكثرَ مِن أن تُحصرَ، وفيها انتظامُ هذا الكونِ واتَّساقُه
على أكملِ نظامٍ وأتمَّه، ممَّا يدلُّ دلالةً واضحةً على أنَّ له خالقًا
وَمُدَبِّرًا وهو اللهُ سُبْحَانَهُ.
(3) قَولُهُ: (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ):
أي لأنَّه منـزَّهٌ عن المثلِ والشَّبيهِ والنَّظيِر، والولدُ يُشبه
والدَه فلم يتَّخذْ ولدًا لكمالِ صمديَّتِه وغناهُ وملكِه وتعبُّدِ كلِّ
شيءٍ له، فاتَّخاذُ الولدِ يُنافي ذلك كما قال سُبْحَانَهُ: (وقَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ ) ففيه الرَّدُّ على مَن زعَم أنَّ له ولدًا، كاليهودِ والنَّصارى والمشركين وغيرِهم، والرَّدُّ على المشبِّهةِ الممثِّلةِ.
قَولُهُ: (ومَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ):
أي ليسَ معه -سُبْحَانَهُ- شريكٌ في الألوهيَّةِ، لتفرُّدهِ -سُبْحَانَهُ-
بالألوهيَّةِ والرُّبوبيَّةِ وتوحُّدِه بصفاتِ الكمالِ الَّتي لا يُوصَفُ
بها غيرُه -سُبْحَانَهُ- فيكونُ شريكًا له، وكذا كلُّ سَلْبٍ وُجِدَ فهو
لتضمُّنِه إثباتَ كمالِ ضدِّهِ، وإلا فالسَّلبُ المحضُ ليس بمدحٍ ولا
ثناءٍ. انتهى. مِن كلامِ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميةَ.
قَولُهُ: (إذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ):
أي لو كانَ معهُ إلهٌ لذهبَ كلُّ إلهٍ بما خلقَ، أي انفردَ به ومنعَ غيرَه
مِن الاستيلاءِ عليه، فلو قُدِّرَ ذلك لما كان ينتظمُ الوجودُ، والمُشاهدُ
أنَّ الوجودَ مُنْتَظِمٌ مُتَّسِقٌ، (مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَـنِ مِنْ تَفَاوُتٍ).
قَولُهُ: (وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ):
أي لو كانَ معه إلهٌ لعلا بعضُهم على بعضٍ مُغَالَبَةً، كفعلِ ملوكِ
الدُّنْيَا، فكلُّ واحدٍ منهم يطلبُ قهرَ الآخرِ، والمتكلِّمونَ ذكرُوا هذا
المعنى وعَبَّروا بدليلِ التَّمانعِ.
قَولُهُ: (سُبْحَانَ اللهِ): أي تنـزيهًا للهِ -سُبْحَانَهُ-، والتَّسبيحُ: التَّنـزيهُ عن كلٍّ نقصٍ وعيبٍ.
قَولُهُ: (عَمَّا يَصِفُونَ): أي تنـزيهًا للهِ -سُبْحَانَهُ- عمَّا يَصِفُه به المُخالفون للرُّسلِ عليهم السَّلامُ.
وقال ابنُ القيِّمِ رحمهُ اللهُ تعالى:
تأمَّلْ هذا البرهانَ الباهرَ بهذا اللفظِ الوجيزِ البَيِّنِ، فإنَّ
الإلهَ الحقَّ لا بُدَّ أَنْ يكونَ خالقًا فاعلاً يُوصلُ إلى عابديه
النَّفعَ ويدفعُ عنهم الضُّرَّ، فلو كانَ معه إلهٌ آخرُ لكان له خلقٌ
وفعلٌ، وحينئذٍ فلا يرضى شَركةَ الإلهِ الآخرِ معه؛ بل إنْ قدرَ على قهرِه
والتَّفرُّدِ بالألوهيَّةِ دونَه فَعلَ، وإن لم يقدرْ على ذلك انْفردَ
بخلقِه وذهبَ به، كما يَنفردُ ملوكُ الدُّنْيَا بعضُهم عن بعضٍ بممالِكهم
إذا لم يقدر المنفردُ على قهرِ الآخرِ والعلوِّ عليه،
فلا بُدَّ من أحدِ أمورٍ ثلاثةٍ:
إمَّا أنْ يذهَبَ كلُّ إلهٍ بخلقِه وسلطانِه،
وإمَّا أنْ يعلوَ بعضُهم على بعضٍ،
وإما
أنْ يكونوا كلُّهم تحتَ قهرِ إلهٍ واحدٍ يتصرَّفُ بهم ولا يتصرَّفون فيه،
فيكونُ وحدَه هو الإلهُ الحقُّ، وهم العبيدُ المَرْبوبون المقهورونَ،
وانتظامُ أمرِ العالمِ العلويِّ والسُّفليِّ وارتباطُ بعضِه ببعضٍ وجريانِه
على نظامٍ محكمٍ لا يختلفُ ولا يفسدُ مِن أدلِّ دليلٍ على أنَّ
مُدَبِّرَهُ واحدٌ لا إلهَ غيرُه، كما دلَّ دليلُ التَّمانعِ على أنَّ
خالقَه واحدٌ لا رَبَّ غيرُه، فذلك تمانعٌ في الفعلِ والإيجادِ، وهذا
تمانعٌ في الغايةِ والألوهيَّةِ، فكما يستحيلُ أنْ يكونَ للكونِ ربَّانِ
خالِقان متكافِئان، كذلك يستحيلُ أنْ يكونَ له إلهانِ معبودانِ.ا هـ.
(4) قَولُهُ: (عَالِمِ الغَيْبِ والشَّهَادَةِ): أي يعلمُ ما غابَ عن العبادِ وما شاهدوه،
والغيبُ ينقسمُ إلى قِسمين: غيبٍ مُطلقٍ، وغيبٍ مقيَّدٍ.
فالمطلقُ: لا يعلمُه إلا اللهُ، وهو ما غابَ عن جميعِ المخلوقِين الَّذين قال فيه: (فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا).
والغيبُ المقيَّدُ:
ما عَلِمه بعضُ المخلوقاتِ مِن الجنِّ والإنسِ، فهو غيبٌ عمَّن غابَ عنه
وليس هو غَيبًا عمَّن شَهِدَهُ، والنَّاسُ قد يغيبُ عن هذا ما يشهدُه هذا
فيكون غيبًا مقيَّدًا، أي غيبًا عمَّن غاب عنه من المخلوقين لا عَمَّن
شَهِده، وليس هو غيبًا مُطلقا عن المخلوقينَ قاطبةً. انتهى. مِن كلامِ شيخِ
الإسلامِ بِتصرُّفٍ.
قَولُهُ: (فَتَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ): قَولُهُ: (فَتَعَالَى)
أي علا وتنَزَّه وتقدَّسَ عمَّا لا يليقُ بجلالِه، فله -سُبْحَانَهُ-
العلوُّ الكاملُ المطلقُ من جميعِ الوجوهِ، علوُّ القهرِ، أي إنَّه علا على
كلِّ شيءٍ بمعنى أنَّه قاهرٌ له، قادرٌ عليه متصرِّفٌ فيه، كما قال تعالى: (إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ )
انتهى. وله -سُبْحَانَهُ وتعالَى- علوُّ القدرِ، فتعالى -سُبْحَانَهُ-
وتنَزَّه عن المثيلِ والنَّظيِرِ، وتنَزَّه عن النَّقائصِ والعيوبِ، كما
قال: (سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) وفي دعاءِ الاستفتاحِ: ((وَتَعَالى جَدُّكَ))،
وله -سُبْحَانَهُ- علوُّ الذَّاتِ، أي أنَّه عالٍ على الجميعِ فوقَ عرشِه,
وإثباتُ علوِّه -سُبْحَانَهُ- على ما سِواه وقدرتِه عليه وقهرِه يقْتَضي
ربوبيَّتَه له وخلقَه له، وذلك يستلزمُ ثبوتَ الكمالِ، وعلوًّا عن الأمثالِ
يقْتَضي أنَّه لا مثلَ له في صفاتِ الكمالِ فاسمُه العليُّ الأعلى
يتضمَّنُ اتَّصافَه بجميعِ صفاتِ الكمالِ، وتنـزيهَه عمَّا يُنافيها من
صفاتِ النَّقصِ، وعن أَنْ يكونَ له مثلٌ، وأنَّه لا إلهَ إلا هو ولا ربَّ
سواه، انتهى. ملخَّصًا مِن كلامِ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميةَ رحمه اللهُ).