الدروس
course cover
الإيمان بأسماء الله جل وعلا، وأنه لا سمي له ولا ند ولا كفو
11 Nov 2008
11 Nov 2008

3949

0

0

course cover
العقيدة الواسطية

القسم الخامس

الإيمان بأسماء الله جل وعلا، وأنه لا سمي له ولا ند ولا كفو
11 Nov 2008
11 Nov 2008

11 Nov 2008

3949

0

0


0

0

0

0

0

الإيمان بأسماء الله جل وعلا، وأنه لا سمي له ولا ند ولا كفو

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وَقَوْلُهُ : {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ}[سُورَةُ الرَّحْمَنِ : 78] ،
وَقَوْلُهُ : {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا}[سُورَةُ مريم: 65] ،
{وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ}[سُورَةُ الإِخْلاَصِ : 4] ،
{فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[سُورَةُ البَقَرَةِ : 22] ،
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}[سُورَةُ البَقَرَةِ : 165]).

هيئة الإشراف

#2

13 Dec 2008

شرح العقيدة الواسطية للشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وقوله (تَبَارَكَ اسمُ رَبّكَ ذِي الجَلاَلِ وَالإِكرَامِ) (1) [الرحمن: 78].
وقولُهُ: (فَاعبُدهُ وَاصطَبِر لِعِبَادَتِهِ هَل تَعلَمُ لَهُ سَمِيًّا) [مريم: 65]:
(2)
وقوله: (وَلَم يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ) [الإخلاص: 4]، (فَلاَ تَجعَلُوا لِلهِ أَندَادًا وَأَنتُم تَعلَمُونَ) [البقرة: 22].
(وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُم كَحُبّ اللهِ) [البقرة: 165])
.


الشرح:

قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (إثباتُ الاسمِ لِلَّهِ
(1) ذَكَرَ المؤلِّفُ -رحمَهُ اللَّهُ- آيةً فِي إثباتِ الاسمِ لِلَّهِ تَعَالَى، وآياتٍ أخرى كثيرةً فِي تنزيهِ اللَّهِ تَعَالَى ونفْيِ المثيلِ عَنْهُ.
آيةُ إثباتِ الاسمِ: (تَبَارَكَ اسمُ رَبِّكَ ذِي الجَلاَلِ وَالإِكرَامِ) [الرحمن: 78].
(تَبَارَكَ): قَالَ العلماءُ: معناهَا: تَعَالَى وتعاظمَ إنْ وُصِفَ بِها اللَّهُ، كقولِهِ: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ) [المؤمنون: 14]، وإنْ وُصِفَ بِها اسمُ اللَّهِ، كَانَ معناها: أنَّ البركةَ تكونُ باسمِ اللَّهِ، أيْ أنَّ اسمَ اللَّهِ إِذَا صاحبَ شيئاً، صارَتْ فِيهِ البركةُ.
وَلِهَذَا جاءَ فِي الحديثِ: ((كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لاَ يُبْدَأُ فِيهِ بـ((بِسْمِ اللَّهِ)) فَهُوَ أَبْتَرُ))، أيْ: ناقصُ البركةِ.
بَلْ إنَّ التَّسميةَ تفيدُ حلَّ الشَّيءِ الَّذِي يَحْرُمُ بدونِها، فإنَّهُ إِذَا سمَّى اللَّهَ عَلَى الذَّبيحةِ صارتْ حلالاً، وإِذَا لَمْ يُسَّمِ صارتْ حراماً ومَيْتَةً، وهناكَ فرقٌ بينَ الحلالِ الطَّيِّبِ الطَّاهرِ، والميتةِ النَّجِسَةِ الخبيثةِ.
وإِذَا سمَّى الإنسانُ عَلَى طهارةِ الحدثِ، صحَّتْ، وإِذَا لَمْ يُسَمِّ، لَمْ تصحَّ عَلَى أحدِ القولينِ.
وإِذَا سمَّى الإنسانُ عَلَى طعامِه، لَمْ يأكلْ مَعَهُ الشَّيطانُ، وإن لَمْ يُسَمِّ، أكلَ معهُ.
وإِذَا سمَّى الإنسانُ عَلَى جِماعِه، وقالَ: ((اللَّهُمَّ! جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا))، ثُمَّ قُدِّرَ بينهمَا وَلَدٌ، لَمْ يضرَّهُ الشَّيطانُ أبداً، وإنْ لَمْ يَفْعَلْ، فالولدُ عُرْضَةٌ لضَررِ الشَّيطانِ.
وعَلَيْهِِ، فنقولُ: إنَّ (فَتَبَارَكَ) هُنَا ليسَتْ بمعنَى: تَعَالَى وتعاظَمَ، بَلْ يتعيَّنُ أنْ يكونَ معناها: حلَّتِ البركةُ باسمِ اللَّهِ، أيْ أنَّ اسمَهُ سببٌ للبركةِ إِذَا صحبَ شيئاً.
وقولُهُ: (ذِي الجَلالِ وَالإِكرَامَ) [الرحمن: 78]: (ذِى): بمعنى صاحبِ، وهِيَ صفةٌ لـ(ربِّ)، لاَ لـ(اسمِ)، لَوْ كانَتْ صفةً لـ(اسمِ)، لكانت: ذو.
و(الجَلالِ)، بمعنى: العظمةِ.
(وَالإِكرَامِ)، بمعنى: التَّكريمِ، وهُوَ صالحٌ لأنْ يكونَ الإكرامُ مِنَ اللَّهِ لِمَنْ أطاعَه، ومِمَّنْ أطاعَهَ لَهُ.
فـ(الجَلالِ): عظمتُهُ فِي نَفْسِهِ، (وَالإِكرَامِ): عظمتُهُ فِي قلوبِ المؤمنينَ، فيكرمُونهَ ويكرمُهم.
آياتُ الصِّفاتِ المنفيَّةِ فِي تَنْزيهِ اللَّهِ ونَفْيِ المِثلِ عَنْهُ

(2) الآيةُ الأُولى: قولُهُ: (فَاعبُدهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَل تَعلَمُ لَهُ سَمِيًّا) [مريم: 65]:
شرعَ المؤلِّفُ رحمهَ اللَّهُ بالصِّفاتِ السَّلبيَّةِ، أيْ: صفاتِ النَّفْيِ.
وقَدْ مرَّ علينا فيمَا سبقَ أنَّ صفاتِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ ثبوتيَّةٌ وسلبيَّةٌ – أيْ: منفيَّةٌ-؛ لأنَّ الكمالَ لاَ يتحققُ إِلَّا بالإثباتِ والنَّفيِ، إثباتِ الكمالاتِ، ونفِي النَّقائصِ.
قولُهُ: (فَاعبُدهُ وَاصطَبِر لِعِباَدَتِهِ): الفاءُ مفرَّعةٌ عَلَى مَا سبقَ، وهُوَ قولُهُ: (ربُّ السَّمَاوات وَالأَرضِ وَمَا بَينَهُمَا) [مريم: 65]، فذكرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الرُّبوبيَّةُ (ربُّ السَّمَاواتِ وَالأَرضِ وَمَا بَينَهُمَا)، وفرَّعَ عَلَى ذلِكَ وجوبَ عبادتهِ؛ لأنَّ كُلَّ مَنْ أقرَّ بالرُّبوبِيَّةِ، لزمَه الإقرارُ بالعبوديَّةِ والأُلوهِيَّةِ، وإلاصارَ متناقضاً.
فقولُهُ: (فَاعْبُدْهُ)، أيْ: تذلَّلْ لَهُ محبَّةً وتعظيماً، والعبادةُ، يرادُ بِهَا المتعبَّدُ به، ويرادُ بها التعبُّدُ الَّذِي هُوَ فعلُ العبدِ، كَمَا سبقَ فِي المقدِّمةِ.
وقولُهُ: (وَاصطَبِرْ): اصطَبِرْ، أصلُها فِي اللُّغةِ: اصتبْر، فأُبدلتِ التَّاءُ طاءً لعلَّةٍ تصريفيَّةٍ. والصَّبرُ: حبسُ النَّفْسِ. وكلمةُ (اصطَبِرْ) أَبلغُ مِنْ (اصبرْ) لأنَّها تدلُّ عَلَى معاناةٍ، فالمعنى: اصبرْ، وإنْ شقَّ عليكَ ذلِكَ، واثبتْ ثباتَ القرينِ لقرينهِ فِي القتالِ.
وقولُهُ: (لِعَبادَتِهِ)، قِيلَ: إنَّ اللاَّمَ بمعنى (عَلَى)، أيْ: اصطبرْ عليْهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَأْمُرْ أَهلِكَ بِالصَّلاةِ وَاصطَبِرْ عَلَيهَا) [طه: 132]. وقِيلَ: بَلْ اللامُ عَلَى أصلِها، أيْ: اصطبرْ لَهُا، أيْ: كنْ مقابلاً لَهَا بالصَّبرِ، كَمَا يقابلُ القرينُ قرينَه فِي ميدانِ القتالِ.
وقولُهُ: (هَل تَعلَمُ لَهُ سَمِيًّا): الاستفهامُ للنَّفيِ، وإِذَا كَانَ الاستفهامُ بمعنى النَّفيِ، كَانَ مُشرباً معنَى التَّحدِّي، يعني: إنْ كنْتَ صادقاً، فأخبِرْنَا: (هَلْ تَعلَمُ لَهُ سَمِيًّا)؟ و(السَّمِيُّ): الشَّبيهُ والنَّظيرُ. يعني: هلْ تعلمُ لَهُ مسامياً أوْ نظيراً يستحقُّ مثلَ اسمهِ ؟
والجوابُ: لا.
فَإِذَا كَانَ كذلِكَ، فالوَاجِبُ أنْ تَعْبُدَهُ وَحْدَهُ.
وفِيهَا مِنَ الصِّفاتِ: قولُهُ: (هَل تَعلَمُ لَهُ سَمِيًّا)، وهِيَ مِنَ الصِّفاتِ السَّلبيَّةِ.
فمَا الَّذِي تتضمنُهُ مِنْ صفاتِ الكَمالِ (لأننَّا ذَكَرْنا فيمَا سَبَقَ أنَّ الصِّفَاتِ السَّلبيَّةَ لاَ بدَّ أنْ تتضمَّنَ ثبوتًا) فمَا هُوَ الثُّبوتُ الَّذِي تضمَّنَه النَّفْيُ هنا؟
الجوابُ: الكمالُ المطلقُ، فيكونُ المعنى: هَلْ تعلمُ لَهُ سميًّا، لثبوتِ كمالَهِ المطلقِ، الَّذِي لاَ يساميِه أحدٌ فِيهِ؟
الآيةُ الثَّانِيَةُ: قولُهُ: (وَلَم يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ) [الإخلاص: 4].
تقدَّمَ الكلامُ عَلَيْهَا، أيْ: ليسَ يكافِئُه أحدٌ، وهوَ نكرةٌ فِي سياقِ النَّفْيِ فتعمُّ.
و(كُفُوًا) فِيهَا ثلاثُ قراءاتٍ: كُفُواً، وكُفْئاً، وكُفُؤاً، فهِيَ بالَهمزةِ ساكنةُ الفاءِ ومضمومَتُها، وبالواوِ مضمومةُ الفاءِ لاَ غيرُ، وبهَذَا نَعْرِفُ خطأَ الَّذِينَ يقرءُونَ بتسكينِ الفاءِ مَعَ الواوِ (كُفْواً).
هذِهِ الآيةُ أيضاً فِيهَا نفْيُ الكُفءِ لِلَّهِ عزَّ وجلَّ، وذلِكَ لكمالِ صفاتهِ، فلاَ أحدَ يكافئُه، لاَ فِي علمِه، ولاَ سمعِه، ولاَ بَصرهِ، ولاَ قدرتِهِ، ولاَ عزَّتِه، ولاَ حكمتِه، ولاَ غيرِ ذلِكَ مِن صفاتهِ.
الآيةُ الثَّالثةُ: قولُهُ: (فَلاَ تَجعَلُوا لِلَهِ أَندَادًا وَأَنتُم تَعلَمُونَ) [البقرة: 22].
هَذَا مفرَّعٌ عَلَى قولِهِ: (ياأُيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثُمَّرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ)، وكُلُّ هَذَا مِنْ توحيدِ الرُّبوبيَّةِ، ثُمَّ قالَ: (فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلَّهِ أَندَاداً) [البقرة: 21-22]، يعني: فِي الأُلوهِيَّةِ؛ لأنَّ أُولَئِكَ القومَ المخاطَبِينَ لَمْ يجعلُوا لِلَّهِ أنداداً فِي الرُّبوبيَّةِ، إذاً، فلاَ تجعلُوا لِلَّهِ أنداداً فِي الأُلوهِيَةِ، كَمَا أنَّكُم تُقِرُّونَ أنَّهُ ليسَ لَهُ أندادٌ فِي الرُّبوبيَّةِ.
وقولُهُ: (أَندَادٌ): جمعُ ندٍّ، وندُّ الشَّيءِ مَا كَانَ منادًّا (أيْ: مكافِئاً) لَهُ ومشابِهاً، ومَا زالَ النَّاسُ يقولونَ: هَذَا ندٌّ لِهَذَا، أيْ: مقابلٌ لَهُ ومكافئٌ لَه.
وقولُهُ: (وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ): الجملةُ هُنَا حاليةٌ، وصاحبُ الحالِ هِيَ الواوُ فِي قولِهِ: (لاَ تجعلوا)، والمفعولُ محذوفٌ، يعني: وأنتْمُ تعلمون أنَّهُ لاَ ندَّ لَه.
الجملةُ الحاليةُ هُنَا صفةٌ كاشفةٌ، والصِّفةُ الكاشفةُ كالتعليلِ للحكمِ، فكأنَّهُ قالَ: لاَ تجعلوا لِلَّهِ أنداداً، لأنَّكُم تعلمون أنَّهُ لاَ نِدَّ لَه، فَإِذَا كنْتُم تعلمونَ ذلِكَ، فكَيْفَ تجعلونَه فتخالِفونَ علمَكُم؟!
وهذِهِ أيضاً سلبيَّةٌ، وذلِكَ مِنْ قولِهِ: (فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلَّهِ أَندَاداً)؛ لأنَّهُ لاَ ندَّ لَه، لكمالِ صفاتهِ.
الآيةُ الرَّابعةُ: قولُهُ: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُم كَحُبِّ اللَّهِ) [البقرة: 165].
(وَمِنَ): تبعيضيَّةٌ، والميزانُ لـ(مِن) التبعيضيَّةِ أنْ يحلَّ محلَّها: بعضُ، يعني: وبعضُ النَّاسِ.
(مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا): يتَّخذُهُم أنداداً، يعني: فِي المحبَّةِ، كَمَا فسَّرَه بقولِهِ: (يُحِبُّونَهُم كَحُبِّ اللَّهِ)، ويجوزُ أنْ نقولَ: إنَّ المرادَ بالأندادِ مَا هُوَ أعمَّ مِنَ المحبةِ، يعني: أنداداً يَعبدُونَهم كَمَا يعبدوُنَ اللَّه، وينذرُونَ لَهمْ كَمَا ينذرُونَ لِلَّهِ؛ لأنَّهم يحبُّونَهُم كحبِّ اللَّهِ، يحبوُنَ هذِهِ الأندادَ كحبِّ اللَّهِ عزَّ وجلَّ.
وَهَذَا إشراكٌ فِي المحبَّةِ، بحَيْثُ تجعلُ غيرَ اللَّهِ مثلَ اللَّهِ فِي محبَّتِه.
وينطبقُ ذلِكَ عَلَى مَنْ أحبَّ رسولَ اللَّهِ كحبِّ اللَّهِ، لأنَّه يجبُ أنْ تحبَّ رسولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ محبَّةً ليسَتْ كمحبَّةِ اللَّهِ؛ لأنَّكَ إنَّمَا تحبُّ الرَّسولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تبعاً لمحبَّةِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، لاَ عَلَى أنَّهُ منادٌّ لِلَّهِ، فكَيْفَ بِمَنْ يحبُّونَ الرَّسولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكثرَ ممَا يحبِّونَ اللَّهَ ؟!
وهُنَا يجبُ أنْ نعرفَ الفرقَ بينَ المحبَّةِ مَعَ اللَّهِ والمحبَّةِ لِلَّهِ:
المحبةُ مَعَ اللَّه: أنْ تجعلَ غيرَ اللَّه مثلَهُ فِي محبَّتِه أوْ أكثرَ وَهَذَا شركٌ.
والمحبَّةُ فِي اللَّهِ أوْ لِلَّهِ: هِيَ أنْ تُحِبَّ الشَّيءَ تبعاً لمحبَّةِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ.
والَّذِي نَستفيدُه مِنَ النَّاحيةِ المسلكيَّةِ فِي هذِهِ الآياتِ:
أَوَّلاً: فِي قولِهِ: (تَبَارَكَ اسمُ رَبِّكَ ذِى الجَلاَلِ وَالإِكرَامِ) [الرحمن: 78]: إِذَا عَلِمنْا أنَّ اللَّهَ تَعَالَى موصوفٌ بالجلالِ، فإنَّ ذلِكَ يستوجبُ أنْ نُعظِّمُهُ وأن نجله وإذا علمنا أنه موصوف بالإكرام فإن ذلك يستوجب أن نرجو كرمه وفضله وبلك نعظمه بما يستحق من التعظيم والتكريم .
ثانياً: قولُهُ: (فَاعبُدهُ وَاصطَبِرْ لِعِباَدَتِهِ) [مريم: 65]، فالفوائدُ المسلكيَّةُ فِي ذلِكَ هُوَ أنْ يَعْبُدَ العبدُ رَبَّهُ، ويَصْطَبِرَ للعبادةِ، لاَ يملُّ، ولاَ يتعبُ، ولاَ يضجرُ، بَلْ يَصبرُ عَلَيْهِا صبرَ القرينِ لقرينهِ فِي المبارزةِ فِي الجهادِ.
ثالثاً: قولُهُ: (هَل تَعلَمُ لَهُ سَمِيًّا) [مريم: 65]، (وَلَم يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ) [الإخلاص: 4]،(فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلَّهِ أَندَاداً) [البقرة:22]، ففِيهَا تنزيهٌ لِلَّهِ عزَّ وجلَّ، وأنَّ الإنسانَ يشعرُ فِي قلبهِ بأنَّ اللَّهَ تَعَالَى منزهٌ عَنْ كُلِّ نقصٍ، وأنَّهُ لاَ مثيلَ لَهُ، ولاَ ندَّ لَهُ، وبهَذَا يعظمُهُ حقَّ تعظيمِه بقدرِ استطاعتِه.
رابعاً: قولُهُ: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا) [البقرة: 165]، فمِنْ فوائدِها مِنَ النَّاحيةِ المسلكيَّةِ: أنَّهُ لاَ يجوزُ للإنسانِ أنْ يتَّخذَ أحداً مِنَ النَّاسِ محبوباً كمحبَّةِ اللَّهِ، وهذِهِ تُسمَّى المحبَّةُ مَعَ اللَّهِ).

هيئة الإشراف

#3

13 Dec 2008

شرح العقيدة الواسطية للشيخ مُحمَّد خَليل هَرَّاس رحمه الله

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وقَوْلُهُ: { تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ } (1).
وقَوْلُهُ: { فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا }، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ }،
وقَوْلُهُ: { فَلاَ تَجْعَلُوا للهِ أَنْدادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمونَ }، { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ }
).

الشرح:

قال الشيخ محمد خليل هراس (ت: 1395هـ): ((1) وأَمَّا قولُهُ تعالى: { تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ …}؛ فإنَّهُ مِن البركةِ بمعنى دوامِ الخيرِ وكثرتِهِ.
وقولُهُ: ( ذِي الجَلالِ )؛ أي: صاحبُ الجلالِ والعظمةِ سبحانَهُ، الذي لا شيءَ أجلَّ ولا أعظمَ منهُ.
و ( الإِكْرَامِ ): الذي يكرَمُ عمَّا لا يليقُ بهِ، وقيلَ: الذي يُكْرِمُ عبادَهُ الصَّالحينَ بأنْواعِ الكرامةِ في الدُّنيا والآخرةِ. واللهُ أعلمُ.

قولُهُ: { فاعْبُدْهُ … } إلخ. تَضَمَّنَتْ هذهِ الآياتُ الكريمةُ جملةً مِن صفاتِ السُّلوبِ، وهيَ نفيُ السَّمِيِّ والكُفءِ والنِّدِّ والولدِ والشَّريكِ والولِيِّ مِن ذلٍّ وحاجةٍ؛
كمَا تَضَمَّنَتْ بعضَ صفاتِ الإِثباتِ؛ مِن: المُلكِ، والحمدِ، والقدْرةِ والكبرياءِ، والتَّبارُكِ.
أَمَّا قولُهُ: { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا }؛ فقَدْ قالَ شيخُ الإِسلامِ رَحِمَهُ اللهُ:
((قالَ أهلُ اللُّغةِ: { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا }؛ أي: نظيرًا استحقَّ مثلَ اسمِهِ،
ويقالُ: مُسامِيًا يُسامِيهِ. وهذا معنى ما يُروَى عن ابنِ عبَّاسٍ: { هَلْ تَعْلَمُ لهُ سَمِيًّا }؛ مِثْلاً أو شَبِيهًا)).
والاستفهَامُ في الآيةِ إنكارِيٌّ، معناهُ النَّفيُ؛ أي: لا تعلمُ لهُ سميًّا.

وأَمَّا قولُهُ: { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أحدٌ }؛ فالمرادُ بالكُفءِ: المكافئُ المساوِي.
فهذهِ الآيةُ تنفي عنهُ سبحانَهُ النَّظيرَ والشَّبِيهَ مِن كلِّ وجهٍ؛ لأنَّ ( أَحَدٌ ) وَقَعَ نكرةً في سياقِ النَّفيِ، فَيَعُمُّ، وقَدْ تقدَّمَ الكلامُ على تفسيرِ سورةِ الإِخلاصِ كلِّهَا، فليُرجَعْ إليهَا.

وأَمَّا قولُهُ: { فَلاَ تَجْعَلُوا للهِ أَنْدادًا … } إلخ. فالأندادُ جمعُ نِدٍّ، ومعناهُ – كمَا قيلَ -: النَّظيرُ المناوئُ. ويقالُ: ليسَ للهِ ندٌّ ولا ضدٌّ، والمرادُ نفيُ ما يكافِئُهُ ويناوئُهُ، ونفيُ ما يضادُّهُ وينافيهِ.
وجملةُ: { وأَنْتُمْ تعْلَمون } وَقَعَتْ حالاً مِن الواوِ في ( تَجْعَلُوا )، والمعنى: إذَا كنتمُ تَعْلَمُونَ أنَّ اللهَ هوَ وحدَهُ الذي خلقَكُمْ ورزقَكُمْ، وأنَّ هذهِ الآلهةَ التَّي جعلتُمُوهَا لهُ نظراءَ وأمثالاً وساويتُمُوهَا بهِ في استحقاقِ العبادةِ لا تخلُقُ شيئًا، بلْ هيَ مخلوقةٌ، ولا تملِكُ لكمْ ضرًّا ولا نفعًا؛ فاتركوا عبادتَهَا، وأفرِدوهُ سبحانَهُ بالعبادةِ والتَّعظيمِ.

وأَمَّا قولُهُ: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ … } إلخ؛ فهوَ إخبارٌ مِن اللهِ عن المشركينَ بأنَّهُمْ يحبُّون آلهتَهُمْ كحُبِّهمْ للهِ عزَّ وجلَّ؛ يعني: يجعلونهَا مساويةً لهُ في الحُبِّ. { وَالَّذينَ آمَنْوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ } مِن حُبِّ المشركينَ لآلهتِهِمْ؛ لأنَّهُمْ أخلَصُوا لهُ الحبَّ، وأفردوهُ بهِ، أَمَّا حبُّ المشركينَ لآلهتِهِمْ؛ فهوَ موزَّعٌ بينَهَا، ولا شكَّ أنَّ الحبَّ إذَا كانَ لجهةٍ واحدةٍ كانَ أمكنَ وأقوى.
وقيلَ: المعنى: أنَّهمْ يحبُّون آلهتَهمْ كحُبِّ المؤمنينَ للهِ، والَّذينَ آمنوا أشدُّ حبًّا للهِ مِن الكفارِ لأندادِهِمْ).

هيئة الإشراف

#4

13 Dec 2008

شرح العقيدة الواسطية للشيخ: صالح بن فوزان الفوزان

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (إثباتُ الاسمِ للهِ ونفيُ المِثْلِ عنه
وقَوْلُهُ: ( تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ )
وقَوْلُهُ: ( فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً )، (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ )،
وقَوْلُهُ: ( فَلاَ تَجْعَلُوا للهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمونَ )، ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ ).(1)
).

الشرح:

قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: ((1) (تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّك) البَركةُ لغةً النَّماءُ والزِّيادةُ، والتَّبْريكُ الدُّعاءُ بالبركةِ ومعنَى (تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ) تعاظَم أو علا وارتفع شأنُه.
وهذا اللَّفظُ لا يُطْلقُ إلاَّ عَلى اللهِ (ذي الْجَلالِ والإكْرَاِم) تقدَّم تفسيرُه في آياتِ إثباتِ الوجهِ.

قولُه: (فاعْبُدْهُ) أي أفرِدْه بالعبادةِ ولا تعبدْ معَه غيرَه،
والعبادةُ لغةً: الذُّلُّ والخضوعُ، وشَرْعًا: اسمٌ جامعٌ لما يحبُّه اللهُ ويرضاه مِن الأعمالِ والأقوالِ الظَّاهرةِ والباطنةِ
(وَاصْطَبِرْ لعبادتِه) أي اثبُتْ عَلى عبادتِه ولازِمْهَا واصبْر عَلى مَشَاقِّهَا
(هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) الاستفهامُ للإنكارِ، والمعنَى: أنَّه ليس له مثلٌ ولا نظيرٌ حتَّى يشاركَه في العبادَةِ.

وقولُه: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) الكفْءُ في لغةِ العرَبِ النَّظيرُ ـ أي ليس له نظيرٌ ولا مثيلٌ ولا شريكٌ مِن خلقِه.

قولُه: (فَلا تَجْعَلُوا للهِ أَنْدَاداً)
النِّدُّ في اللُّغةِ: المِثلُ والنَّظيرُ والشَّبيهُ، أي: لا تتَّخذوا للهِ أمثالاً ونُظَراءَ تعبدونَهُم معه وتساوونَهُم به في الحبِّ والتَّعظيم
(وَأَنْتُم تَعْلَمُونَ) أنَّه رَبُّكم وخالقُكم وخالقُ كُلِّ شيءٍ، وأنَّه لا نِدَّ له يشاركُه في الخلْقِ.
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَاداً) لما فرغَ سبحانَه مِن ذكر الدَّليلِ عَلى وحدانيَّتهِ في الآيةِ التي قبلَها، أخبر أنَّه مع هذا الدَّليلِ الظَّاهرِ المفيدِ لعظيمِ سلطانِه وجليلِ قدرتِه وتفرُّدِه بالخلقِ، أخبر أنَّه مع ذلك قد وُجِد في النَّاسِ مَن يتَّخذُ معَه سبحانَه نِدًّا يَعْبُدُهُ مِن الأصنامِ العاجزةِ
(يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ) أي أَنَّ هؤلاءِ الكفارَ لم يقتصروا عَلى مجرَّدِ عبادةِ تلك الأندادِ بَل أحبوها حُبًّا عَظِيماً وأفرطوا في حُبِّها كما يحبُّون اللهَ، فقد سَوَّوْهُم باللهِ في المحبَّةِ، لا في الخلقِ والرَّزقِ والتَّدبيرِ.

الشَّاهدُ مِن الآياتِ: أنَّ فيها إثباتَ اسمِ اللهِ وتعظيمَه وإجلالَه. وفيها نفيُ السَّمِيِّ والكُفْءِ والنِّدِّ عَن اللهِ سبحانه، وهو نفيٌ مجملٌ، وهذه هي الطَّريقةُ الواردةُ في الكتابِ والسُّنَّةِ فيما يُنْفَى عَن اللهِ تعالى، وهي أَن يُنْفَى عَن اللهِ عزَّ وجلَّ كُلُّ ما يُضادُّ كمالَه الواجبَ مِن أنواعِ العيوبِ والنَّقائصِ).

هيئة الإشراف

#5

13 Dec 2008

الروضة الندية للشيخ: زيد بن عبد العزيز بن فياض رحمه الله


قال الشيخ زيد بن عبد العزيز بن فياض (ت: 1416هـ): (طريقةُ القرآنِ في بابِ الأسماءِ والصِّفَاتِ للنَّفْيِ المُجْمَلِ والإثباتِ المُفَصَّلِ ، ففيه مِن إثباتِ الأسماءِ الحُسنى والصِّفَاتِ العُلى ما لا سبيلَ إلى حَصْرِه ؛ وأمَّا في النَّفْيِ فطريقةُ القرآنِ والسُّنَّةِ في ذلك الإجمالُ ؛ والنَّفْيُ إنما جِيءَ به لإثباتِ صِفَاتِ كمالِه سُبْحَانَهُ .
قولُه :{ تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ } أيْ : تعالَتْ أسماؤكَ وتعظَّمَتَْ وتقدَّسَتْ ، والجَلالُ والعظَمةُ صفتانِ لِلَّهِ تَعَالَى . "وقد ذُكِرَ تبارُكُه سُبْحَانَهُ في المواضعِ الَّتِي أَثْنَى فيها على نفْسِه بالجَلالِ والعظَمةِ والأفعالِ الدَّالَّةِ على رُبوبِيَّتِه وإلهيَّتِه وحِكمتِه وسائرِ صِفَاتِ كمالِه مِن إنزالِ الفُرقانِ وخَلْقِ العالَمِينَ ، وجَعْلِه البُروجَ في السَّمَاءِ ، والشَّمْسَ والقمرَ ، وانفرادِه بالمُلكِ وكمالِ القُدرةِ .
قَالَ الحسينُ بنُ الفَضْلِ : تبارَكَ في ذاتِه وبارَك فيمَن شاءَ مِنْ خلقِه وهذا أحسَنُ الأقوالِ . فتبارُكُه سُبْحَانَهُ صفةُ ذاتٍ له وصِفةُ فِعلٍ . والَّذِي يدُلُّ على ذلك أنه سُبْحَانَهُ يُسْنِدُ التَّبارُكَ إلى اسمِه كما قَالَ :{تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ} وفي حديثِ الاستفتاحِ : " تَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ " ، فدَلَّ هذا على أنَّ تبارَك لَيْسَ بمعنى بارَكَ . كما قالَه الجَوْهريُّ ، وأنَّ تبرِيكَه سُبْحَانَهُ جُزءُ مسمَّى اللَّفْظِ لا كَمالُ معناه ،
والبركةُ نوعانِ:
(أحدُهما): بركةٌ هي فِعلُهُ تبارك وتَعَالَى ، والفِعلُ منها بارَكَ ، ويتعدَّى بنَفْسِه تارةً ، وبأداةٍ "على" تارةً ، وبأداةِ "في" تارةً ، والمفعولُ منها مبارَكٌ وهو ما جُعِلَ كذلك ، فكان مُبارَكاً بجَعْلِه تَعَالَى
(والنوعُ الثَّاني) بركةٌ هي تضافُ إليه إضافَةَ الرَّحْمَةِ والعزَّةِ، والفعلُ منها تبارَكَ، ولهذا لا يُقالُ لغيرِه ذلك ولا يصلُحُ إلا له عَـزَّ وَجَـلَّ ، فهو سُبْحَانَهُ المبارِك ، وعبدُه ورسولُه المبارَكُ كما قَالَ المسيحُ :{وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ} .
فمَن بارَكَ اللَّهُ فيه وعليه فهـو المبـارَكُ . وأمَّا صِفتُه تبـارَكَ فمختَصَّةٌ به تَعَـالَى ، كما أَطْلَقَها على نفْسِـه بقولِه : {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}؛{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}. أفلا تَراها كَيْفَ اطَّرَدَتْ في القرآنِ جاريةً عليه مختَصَّةً به لا تُطْلَقُ على غيرِه ؟ وجاءتْ على بِناءِ السِّعةِ والمُبالغةِ كتَعَالَى وتعاظَمَ ونحوِها .
فجَاءَ بناءُ تبارَكَ على بناءِ تَعَالَى ، الَّذِي هو دالٌّ على كمالِ العُلُوِّ ونهايَتِه فكذلك تبارَك دالٌّ على كمالِ برَكتِه وعظَمتِها وسِعَتِها .
وحقيقةُ اللَّفْظَةِ : أنَّ البرَكةَ كثرةُ الخيرِ ودوامُِه ، ولا أحدَ أحقُّ بذلك وَصْفاً وفِعلاً منه تبارَك وتَعَالَى .
وتفسيرُ السَّلَفِ يدورُ على هذَيْنِ المعنَيَيْنِ ، وهما متلازِمانِ، لكنَّ الألْيَقَ باللَّفْظَةِ معنى الوصفِ لا الفِعلِ فإنه فِعلٌ لازِمٌ مِثلُ : تَعَالَى وتقدَّسَ وتعاظَمَ . ومِثلُ هذه الألفاظِ لَيْسَ معناها أنه جَعَلَ غيرَه عالياً ولا قُدُّوساً ولا عظيماً ، هذا ممَّا لا يَحتمِلُه اللَّفْظُ بوجهٍ . وإنَّما معناها في نفْسِ مَن نُسِبَتْ إليه ، فهو المُتعالي المتقدِّسُ، فكذلك تباَرك لا يصِحُّ أنْ يكونَ معناها بارَك في غيرِه ، وأين أحدُهما مِن الآخَرِ لفظاً ومعنىً ؟ هذا لازِمٌ ، وهذا متعَدٍّ ، فعَلِمْتَ أنَّ مَن فسَّرَ تبارَك بمعنى ألْقَى البَركةَ وبارَك في غيرِه لم يُصِبْ معناها . وإن كان هذا مِن لوازِمِ كونِه متبارِكاً فتبارَك مِن بابِ مَجُدَ ، والمَجْدُ كثرةُ صِفَاتِ الجَلالِ والفَضْلِ . وبارَك مِن بابِ أعْطَى وأنْعَمَ . ولمَّا كان المتعدِّي في ذلك يستلْزِمُ اللازِمَ مِن غيرِ عَكْسٍ فسَّرَ مَن فسَّرَ مِن السَّلَفِ اللَّفْظَةَ بالمتعدِّي ليَنتَِظِمَ المعنَيَيْنِ ، فَقَالَ : مَجيءُ البَركةِ كُلِّها مِن عندِه أو البركةُ كلُّها مِن قِبَلِه. وهذا فرْعٌ على تبارَك في نفْسِه ،

وقولُه :{ فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا }. أي: لا سَمِيَّ له تَعَالَى ولا شريكَ له ولا مِثْلَ. "والسَّمِيُّ النظيرُ - أي نَظِيراً - يستحِقُّ مِثلَ اسمِه ، ويُقالُ مُسامِياً يُسامِيهِ ، وهو معنى ما رُوِيَ عن ابنِ عباسٍ : هل تَعْلمُ له سَمِيًّا : مَثِيلاً أوْ شَبِيهاً" .
"وذلك نَفْيٌ عن المخلوقِ أنْ يكونَ مُشابِهاً للخالِقِ ومُماثِلاً له بحَيْثُ يستحِقُّ العِبادةَ والتَّعظيمَ . ولم يَقُلْ سُبْحَانَهُ : هل تَعلَمُه سَمِيًّا أو مُشابِهاً لغيرِه ؟ فإنَّ هذا لم يَقُلْه أَحدٌ ، بلِ المُشركونَ المشبِّهونَ جَعَلوا بعضَ المخلوقاتِ مُشابِهاً له مُسامِياً ونِدًّا وعِدْلاً فأُنْكِرَ عليهم هذا التَّشبيهُ والتَّمثيلُ .

"فالمعنى الصَّحيحُ الَّذِي هو نَفْيُ المِثْلِ والشريكِ والنِِّدِّ قد دلَّ عليه قولُه سُبْحَانَهُ :{أَحَدٌ} وقولُه :{وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}، وقولُه :{ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } وأمثالُ ذلك . فالمعاني الصَّحيحةُ ثابتةٌ بالكِتابِ والسُّنَّةِ : والعقلُ يدلُّ على ذلك . وكذلك قولُه :{ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ }. فإنَّ المعنى لم يكُنْ أَحدٌ مِن الآحادِ كُفُـؤاً له والنِّدُّ هـو العَديلُ والمَثيلُ . وفي الصَّحيحَيْنِ عن ابنِ مسعودٍ قَالَ : قلتُ يا رَسُولَ اللَّهِ : أيُّ الذَّنْبِ أعْظَمُ ؟ قَالَ :" أنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ " الحديثَ ،

وقولُه :{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } أيْ : يُؤلِّهُونَهُمْ في المَحبَّةِ والتَّعظيمِ . وبذلك صاروا مُشركِينَ مَعَ إقرارِهم بتوحيدِ الرُّبوبِيَّةِ . فأخبَرَ تَعَالَى أنَّ مَن أحَبَّ مِن دونِ اللَّهِ شيئاً كما يُحِبُّ اللَّهَ فهو ممَّن اتَّخَذَ مِن دونِ اللَّهِ أنداداً . فهذا نِدٌّ في المَحبَّةِ ، لا في الخَلْقِ والرُّبوبيَّةِ فإنَّ أَحداً مِن أهلِ الأرضِ لم يُثْبِتْ هذا النِّدَّ في الرُّبوبيَّةِ بخِلافِ نِدِّ المَحبَّةِ فإنَّ أكثرَ أهلِ الأرضِ قد اتَّخَذوا مِن دونِ اللَّهِ أنداداً في الحُبِّ والتَّعظيمِ .
ثم قَالَ :{ وَالَّذِينَ آمَنواْ أَشَدُّ حُبًّا للَّهِ } وفي الآيةِ قَوْلانِ :
أحدُهما : { وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا للَّهِ } مِن أصحابِ الأندادِ لأندادِهم وآلِهَتِهم الَّتِي يُحِبُّونَها ويُعظِّمُونَها مِن دونِ اللَّهِ .
والثَّاني : { وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا للَّهِ} مِن مَحبةِ المشركِينَ بالأندادِ لِلَّهِ ، فإنَّ مَحبةَ المؤمنينَ خالِصةٌ ، ومَحبةَ أصحابِ الأندادِ قد ذَهَبَتْ أندادُهم بقِسْطٍ منها ، والمَحبةُ الخالصَةُ أشدُّ مِن المشترَكةِ .
والقَوْلانِ مترتِّبانِ على القولَيْنِ في قوله تَعَالَى :{ يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } فإنَّ فيها قولَيْنِ :
أحدُهما : يُحبُّونَهم كما يُحبُّونَ اللَّهَ فيكونُ قد أثبْتَ لهم مَحبةَ اللَّهِ ، ولكنها مَحبةٌ يُشرِكونَ فيها مَعَ اللَّهِ أنداداً .
والثَّاني : أنَّ المعنى يُحبُّونَ أندادَهم كما يُحِبُّ المؤمنونَ اللَّهَ . ثم بيَّنَ أنَّ مَحبةَ المؤمنينَ أشدُّ مِن مَحبةِ أصحابِ الأندادِ لأندادِهم . وكان شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُرَجِّحُ القولَ الأولَ .
ويقولُ : إنما ذُمُّوا بأنْ أشْرَكوا بين اللَّهِ وبين أندادِهم في المَحبةِ ، ولم يُخْلِصُوها لِلَّهِ كمَحبةِ المؤمنينَ له . وهذه التَّسويةُ المذكورةُ في قولِه تَعَالَى حكايةً عنهم وهم في النَّارِ يقولون لآلِهَتِهم وأنْدادِهم وهي مُحْضَرةٌ معهم في العذابِ { تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } ومعلومٌ أنهم لم يُسَوُّوهم بربِّ العالَمِينَ في الخَلْقِ والرُّبوبيةِ . وإنما سَوَّوْهُم به في المَحبةِ والتَّعظيمِ وهذا أيضاً هو العِدلُ المذكورُ في قـولِه تَعَالَى :{ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } أي يَعْـدِلون به غيرَه في العبادةِ : الَّتِي هي المَحبةُ والتَّعظيمُ . وهذا أصحُّ القوليْنِ .
والقرآنُ مملوءٌ مِن إبْطالِ أنْ يكونَ في المخلوقاتِ ما يُشْبِهُ الرَّبَّ تَعَالَى أو يُماثِلُه فهذا هو الَّذِي قُصِدَ بالقرآنِ إبطالاً لِمَا عليه المشركونَ والمُشَبِّهُونَ العادِلونَ باللَّهِ تَعَالَى غيرَه .
فالنِّدُ : الشَّبَهُ ، يُقَالُ : فلانٌ نِدُّ فلانٍ ، ونِدُّ يَدِه أي مِثْلُه وشِبْهُه . ومنه قولُ حسانَ بنِ ثابتٍ :

أَتَهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بِنِدٍّ فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ

وقال جريرٌ :

أَتَيْماً تَجْعَلـُونَ إِلَيَّ نِدًّا وَمَا تَيْمٌ لِذِي حَسَبٍ نَدِيدُ

فالَّذِي أنْكَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عليهم هو تَشْبِيهُ المخلوقِ به حَتَّى جَعَلُوه نِدًّا لِلَّهِ تَعَالَى يَعبدُونَه كما يَعبدونَ اللَّهَ . وكذلك قولُه :{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} فأنْكَرَ هذا التَّشبيهَ عليهم وهو أصْلُ عِبادةِ الأصنامِ).

هيئة الإشراف

#6

13 Dec 2008

التنبيهات السنية للشيخ: عبد العزيز بن ناصر الرشيد رحمه الله

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وقَوْلُهُ: ( تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ )(1)
وقَوْلُهُ: ( فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً ).(2)وقوله (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ )، وقَوْلُهُ: ( فَلاَ تَجْعَلُوا للهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمونَ ).(3)
وقوله ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ ).(4)).

الشرح:

قال الشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد (ت: 1408هـ): ( (1) قَولُهُ: (تَبَارَكَ): أي تعاظَمَ، وهو فعلٌ ماضٍ لا يتصرَّفُ، وهو خاصٌّ باللهِ -سُبْحَانَهُ- وتعالى، والبركةُ لغةً: النَّماءُ والزِّيادةُ، والتَّبريكُ: الدُّعاءُ بذلك،

قال ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ تعالى: البركةُ نَوعانِ:
أحدُهما: بركةٌ هي فِعلُه، والفعلُ منها باركَ، والمفعولُ منها مُباركٌ، وهو ما جَعلَ فيها ذلك، فكانَ مُباركًا بجعلِه سُبْحَانَهُ.
والثَّاني: بركةٌ تُضافُ إليه إضافةَ الرَّحمةِ والعزَّةِِ، والفعلُ منها تبَاركَ، ولهذا لا يُقالُ لغيرِهِ ذلك ولا يصلحُ إلا له سُبْحَانَهُ، فهو المتبارِكُ ورسولُه مُبارَكٌ. كما قالَ المسيحُ: (وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَمَا كُنتُ) وأمـَّا صِفتهُ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- تباركَ فمختصـَّةٌ به -سُبْحَانَهُ-، كما أطْلقَها على نفسِه. انتهى، مُلخَّصًا مِن ((البدائعِ)).


(2) قَولُهُ: (فَاعْبُدْهُ): أي أَفْرِدْهُ بالعبادةِ ولا تعبدْ معه غيرَه، وهذا أمرٌ بإفرادِه -سُبْحَانَهُ- بالعبادةِ، ويتضمَّنُ النَّهْيَ عن عبادةِ ما سِواه، وعبادتُه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- هي أعظمُ واجبٍ، والإشراكُ به هو أعظمُ محرَّمٍ على الإطلاقِ،
والعبادةُ لغةً: الذُّلُّ، يُقالُ طريقٌ معبَّدٌ إذا كان مذلَّلاً قد وطئَتهُ الأقدامُ كما قالَ الشَّاعرُ:

تباري عتاقًا ناجياتٍ وأَتْبَعَتْ وضيفًا وضيفًا فوقَ مورٍ معبَّدِ

والعبادةُ شرعًا: "ما أُمرَ به شرعًا من غيرِ اطِّرادٍ عُرفيٍّ ولا اقتضاءٍ عقليٍّ"،
وعرَّفَها الشَّيخُ تقِيُّ الدِّينِ بنُ تيميةَ رحمهُ اللهُ تعالى بقَولِه: "العبادةُ اسمٌ جامِعٌ لكلِّ ما يحبُّه اللهُ وَيَرضَاه، مِن الأقوالِ والأعمالِ الباطنةِ والظَّاهرةِ، كالصَّلاةِ، والصَّومِ، والحجِّ، ونحوِ ذلك،" وفيها دليلٌ على أنَّ العبادةَ تجبُ على كلِّ مكلَّفٍ، وأنَّه مهما بلغَ فلنْ يصلَ إلى حدٍّ تسقطُ عنه التَّكاليفُ الشَّرعيَّةُ، ومَن زعَمَ ذلك فهو كافرٌ باللهِ العظيمِ، فإنَّ قَولَهُ: (فَاعْبُدْهُ) خِطابٌ لنبيِّه، وأمَّتُهُ تبعٌ له، فإذا كانَ هذا في حقِّه -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- فغيرُه مِن بابِ أوْلى وأحَرْى،
وللعبادةِ شروطٌ لا تصِحُّ إلا بها:
الأوَّلُ: الإخلاصُ، وهو أنْ يكونَ العملُ للهِ سُبْحَانَهُ وتعالى.
الثَّاني: المُتابعةُ، وهو أنْ يكونَ العملُ على سُنَّةِ رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- كما قالَ تعالى: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ)
فقَولُهُ: (مَنْ) إشارةٌ إلى الإخلاصِ،
وقَولُهُ: (وَهُوَ مُحْسِنٌ) إشارةٌ إلى المُتابعةِ، وقال الفُضَيْلُ بنُ عياضٍ في قَولِهِ سُبْحَانَهُ وتعالى: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) قال: أخلصُه وأصوبُه، قيل: يا أبا عليٍّ، ما أخلصُه وأصوبُه؟ قال: إنَّ العملَ إذا كانَ خالِصًا ولم يكنْ صوابًا لم يُقبلْ، وإذا كانَ صوابًا ولم يكنْ خالصًا لم يُقبلْ حتَّى يكونَ خالصًا صوابًا،
والخالصُ أنْ يكونَ للهِ، والصَّوابُ أنْ يكونَ على سُنَّةِ رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-، وللعبادةِ ثلاثةُ أركانٍ وهي: المحبَّةُ والخوفُ والرَّجاءُ.
قَولُهُ: (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا): أي هل تعلمُ له مُساميًا ومُشابهًا ومُماثلاً من المَخلُوقين؟ وهذا استفهامٌ بمعنى النَّفيِ المعلومِ بالعقلِ، أي: لا تعلمُ له مُشابهًا؛ لأنَّه الرَّبُّ وغيرُه المربوبُ، الغَنِيُّ مِن جميعِ الوجوهِ، وغيرُه الفقيرُ، الكاملُ الَّذي له الكمالُ المُطلقُ من جميعِ الوجوهِ، وغيرُه ناقِصٌ من جميعِ الوجوهِ، فهذا بُرهانٌ قاطِعٌ على أنَّه هو المُستحِقُّ للعبادةِ، وأنَّ عِبادةَ غيرِه باطِلةٌ، وفي الآيةِ دليلٌ على أنَّه لا مِثلَ له ولا شبيهَ ولا نظيرَ، لا في ذاتِه ولا في صِفاتِه، ولا في أسمائِه ولا في أفعالِه، وهذا النَّفيُ متضمِّنٌ لإثباتِ جميعِ صفاتِ الكمالِ على وجهِ الإكمالِ، وهذا هو المعقولُ في فِطَرِ النَّاسِ، فإذا قالوا: فلانٌ لا مِثْلَ له ولا شبهَ له، فإنَّهم يُريدون: أنَّه تفرَّدَ في الصِّفاتِ والأفعالِ والمجدِ فلا يلحقُه فيه غيرُه، وفي الآيةِ دليلٌ على إثباتِ الصِّفاتِ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- كما يليقُ بجلالِ اللهِ وعظمتِه، وفيه دليلٌ على كثرةِ الصِّفاتِ وعظمتِها، فلو كان المرادُ به نفيَ صفاتِه لكان ذلك وصفًا بغايةِ الذَّمِّ، فإنَّ النَّفيَ المحضَ عدمٌ، والعدمُ لا يُمدحُ به أحدٌ، وإنَّما يكونُ النَّفيُ كمالاً إذا تضمَّنَ الإثباتَ، كقَولِهِ تعالى: (لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ)، أي لكمالِ حياتِه وقيُّوميَّتهِ.
وفيه دليلٌ على نفيِ المثليَّةِ، فاتِّفاقُ اسمِ الخالقِ واسمِ المخلوقِ لا يَقْضي بتماثُلِهما، فصفاتُ الخالقِ تُناسبهُ وتليقُ بذاتِه، وصفاتُ المخلوقِ تناسبُه.


(3) قَولُهُ: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ): قد تقدَّم الكلامُ على ذلك.

وقَولُهُ: (فَلاَ تَجْعَلُوا للهِ أَنْدادًا): أي أمثالاً ونظراءَ تَعبدونهم كعبادتِه وتُساوونَهم به في المحبَّةِ والتَّعظيمِ، فلا نِدَّ له في ذاتِه ولا في صفاتِه، ولا في أفعالِه ولا في عبادتِه،

والنِّدُّ في اللغةِ: المِثلُ والنَّظيرُ والشَّبيهُ، يُقالُ فلانٌ نِدُّ فلانٍ، أي شبيهُه ونظيرُه، كما قال حسَّانُ بنُ ثابتٍ رَضِي اللهُ عَنْهُ:

أتهجُوهُ ولستَ له بندٍّ فشرُّكُما لخيرِكُمَا الفِدَاءُ

واتِّخاذُ النِّدِّ ينقسمُ إلى قِسمينِ:
قسمٍ من الشِّركِ الأكبرِ، كاتِّخاذِ ندٍّ يدعوُه أو يرجُوه أو يخافُه أو يذبحُ له أو ينذرُ له ونحوِ ذلك، كما في الصَّحيحينِ عن ابنِ مسعودٍ رَضِي اللهُ عَنْهُ قال: قُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: ((أَنْ تَجْعَلَ للهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ)) الحديثَ. قال ابنُ القيِّمِ رحمهُ اللهُ في كتابِه ((الكافيةِ الشَّافيةِ)):
والشِّركُ فاحذرْهُ فشركٌ ظاهرٌ ذا القسمُ ليسَ بقابلِ الغُفرانِ
وهو اتِّخاذُ النِّدِّ للرَّحمنِ أيـْ يَّا كانَ مِنْ حَجَرٍ ومِن إنسانِ
يدْعُوهُ أو يرجوهُ ثمَّ يخافُــهُ ويحبُّه كمحَبَّةِ الرَّحمــنِ
القسمِ الثَّاني: ما هو مِن نوعِ الشِّركِ الأصغرِ كقولِ الرَّجلِ: ما شاء اللهُ وشئتَ، ولولا اللهُ وأنتَ. لم يكنْ كذا، والحلفُ بغيرِ اللهِ ونحوِ ذلك، كما في حديثِ ابنِ عبَّاسٍ أنَّ رجلاً قال للنَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: ما شاءَ الله وشئتَ، فقال النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((أَجَعَلْتَنِي للهِ نِدًّا؟ قُلْ: مَا شَاءَ اللهُ وحدَهُ)) أخرجه النَّسائيُّ وابنُ ماجةَ.
قَولُهُ: (وَأنتمْ تَعْلَمونَ): أي إنَّهُ ربُّكم وخالقُكم وخالقُ كلِّ شيءٍ، فهو المُستحقُّ للعبادةِ، فكيفَ تجعلونَ له أندادًا وقد عَلِمتم أنَّه لا نِدَّ له يشارِكُهُ في فعلِه؟!
ففي هذه الآيةِ: الرَّدُّ على جميعِ فرقِ الضَّلالِ، ففيه الرَّدُّ على المشبِّهةِ الَّذين يشبِّهون اللهَ بخلقِه، والَّذين يشبِّهون خلقَه به، كعبَدَةِ الأوثانِ، وفيها الرَّدُّ على القَدَرِيَّةِ الَّذين يزعُمونَ: أنَّ العبدَ يخلقُ فعلَ نفسِه استقلالاً بدونِ مشيئةِ اللهِ، فيكونُ شريكًا للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- وندًّا، وفيها الرَّدُّ على المعطِّلَةِ الَّذين نفَوا صفاتِ اللهِ فرارًا مِن التَّشبيهِ فشبَّهوه بالمعدوماتِ والنَّاقصاتِ، وفيها دليلٌ على أنَّ معرفةَ اللهِ والإقرارَ به فِطريٌّ ضروريٌّ، فطرَ اللهُ عليه العبادَ، كما في الحديثِ: ((مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ وَيُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ)).
وإنْ كانَ بعضُ النَّاسِ قد يحصلُ له ما يُفسِدُ فطرتَه حتَّى يحتاجَ إلى نظرٍ تحصلُ به المعرفةُ، كما قالَ تعالى: (أَفِي اللَّهِ شَكٌّ)، أي أَيُشَكُّ في اللهِ حتَّى يُطلبَ إقامةُ الدَّليلِ على وجودِهِ؟، وأيُّ دليلٍ أصحُّ وأظهرُ مِن هذا المدلولِ، قال ابنُ القيِّمِ رحمهُ اللهُ: وسمعتُ شيخَ الإسلامِ يقولُ: كيف يُطلبُ الدَّليلُ على مَنْ هو دليلٌ على كلِّ شيءٍ؟ وكانَ كثيرًا يتمثَّلُ بهذا البيتِ:

ولَيْسَ يَصِحُّ في الأذهانِ شيءٌ إذا احتَاجَ النَّهارُ إلى دَليلِ

وقد تكلَّمَ الشَّيخُ ابنُ تَيْمِيةَ رحمهُ اللهُ على قولِ مَن قالَ: إنَّ أوَّلَ واجبٍ هو النَّظرُ أو القصدُ إلى النَّظرِ أو الشَّكِ، وبيَّن أنَّها كلَّها غلطٌ مخالفٌ للكتابِ والسُّنَّةِ وإجماعِ السَّلفِ والأئمَّةِ، وباطلةٌ بالعقلِ أيضًا، وقرَّرَ هو وغيرُه أنَّ أوَّلَ واجبٍ على العبدِ هو التَّوحيدُ، كما في حديثِ معاذٍ رَضِي اللهُ عَنْهُ، حيثُ بعثه النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- إلى اليمنِ وقال: ((فَلْيَكُنْ أَوَّلُ مَا تَدْعُوهُم إِلَيْهِ شَهَادَةَ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ)) وفي روايةٍ: ((إِلَى أنْ يوحِّدُوا اللهَ)) وكذلك جميعُ الرُّسلِ أوَّلُ ما يَفْتَتِحُون دعوتَهُم بالدَّعوةِ إلى التَّوحيدِ.
وقال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ: أولُّ مَن أنكرَ معرفةَ اللهِ الفطريَّةَ هم أهلُ الكلامِ الَّذين اتَّفقَ السَّلفُ على ذَمِّهمْ من الجهميَّةِ والقَدَريَّةِ، وهم عندَ سلفِ الأمَّة مِن أجهلِ الطَّوائفِ وأضلِّهم. انتهى. وفيها الرَّدُّ على مَن زعَم أنَّ القرآنَ مخلوقٌ بقَولِهِ: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا) ويزعمُ: أنَّ جَعَلَ بمعنى خَلَقَ، فردَّ أحمدُ عليهم بقَولِهِ سُبْحَانَهُ: (فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا) فليستْ جعلَ بمعنى خَلَقَ هنا. وفيها أنَّه -سُبْحَانَهُ- يحتجُّ على المُشركينَ بإقرارهِم بتوحيدِ الرُّبوبيَّةِ على إثباتِ توحيدِ الألوهيَّةِ. وفيها الاستدلالُ بهذه المخلوقاتِ على وجودِه سُبْحَانَهُ، فهي دليلٌ وآيةٌ على توحيدِ اللهِ -سُبْحَانَهُ- وإثباتِ أسمائِه وصفاتِه وكمالِه وصدقِ رُسلِه عليهمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ، ويُروى أنَّه سُئِلَ بعضُ الأعرابِ: ما الدَّليلُ على وجودِ الرَّبِّ؟ فقالَ للسَّائلِ: يا سبحانَ اللهِ إنَّ البَعْرَ ليدلُّ على البعيِرِ وإنَّ أثرَ الأقدامِ لَيدلُّ على المسيرِ، فسماءٌ ذاتُ أبراجٍ، وأرضٌ ذاتُ فجاجٍ، وبحرٌ ذاتُ أمواجٍ، ألاَ يدلُّ ذلك على وجودِ اللطيفِ الخبيرِ؟!

(4) قَولُهُ: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا): أي نظراءَ وأمثالاً يُساويهم في اللهِ بالعبادةِ والمحبَّةِ والتَّعظيمِ، وهؤلاء لا يُساوونهم باللهِ في الرِّزقِ والتَّدبيرِ، وإنَّما يسوُّونهم باللهِ في المحبَّةِ، فيعبُدونَهم ليقرِّبوهم إلى اللهِ زُلفى، فأخبَر -سُبْحَانَهُ- أنَّ مَن أحبَّ من دونِ اللهِ شيئًا كما يُحبُّ اللهَ فهو ممَّن اتَّخذَ من دونِ الله أندادًا، ففيها دليلٌ على أنَّه -سُبْحَانَهُ- لا نِدَّ له، وإنَّما المُشركون جعلوا بعضَ المخلوقاتِ أندادًا له تسميةً مجرَّدةً ولفظًا فارغًا من المعنى، كما قال تعالى: (وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاءَ) الآيةَ، والمذكورُ في الآيةِ هو المحبَّةُ الشِّركيَّةُ المستلزمةُ للخوفِ والتَّعظيمِ والإجلالِ والإيثارِ على مُرادِ النَّفسِ، فمحبَّةُ اللهِ -سُبْحَانَهُ- هي أصلُ دينِ الإسلامِ وبكمالِها يكملُ، فهي أعظمُ الفروضِ، فصرفُها لغيرِ اللهِ شِركٌ أكبرُ، كما قال سُبْحَانَهُ: (وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ).

قال ابنُ القيِّمِ رحمهُ اللهُ: فتوحيدُ المحبوبِ أنْ لا يتعدَّدَ محبوبُه، أي مع اللهِ بعبادتِه له، وتوحيدُ الحبِّ أنْ لا يَبْقى في القلبِ بِقِيَّةُ حُبٍّ حتَّى يبذلَهَا له.
وقَولُهُ: (وَالَّذِينَ آمَنواْ أَشَدُّ حُبًّا للَّهِ): أي من أصحابِ الأندادِ لأندادِهِم، فمحبَّةُ المؤمِنين لربِّهم لا تُساويها محبَّةٌ، والمعنى والَّذين آمَنوا أشدُّ حُبًّا للهِ من محبَّةِ أهلِ الأندادِ للهِ؛ لأنَّ محبَّةَ المؤمِنين للهِ خالِصةٌ ومحبَّةَ المُشركينَ لله مُشتركةٌ، قد أخَذت أندادُهُم قِسطًا من محبَّتِهم، والمحبَّةُ الخالصةُ أشدُّ من المُشتركةِ، ففي هذه الآياتِ أنَّ مَن أشركَ معَ اللهِ غيرَه في المحبَّةِ فقد جعلَهُ شريكًا للهِ، واتَّخذَ نِدًّا للهِ، وأنَّ ذلك هو الشِّركُ الأكبرُ،
فالمحبَّةُ تَنْقَسِمُ إلى أقسامٍ، كما ذكره ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ وغيرُه.
الأوَّلِ: محبَّةُ اللهِ سُبْحَانَهُ، ولا تَكفي وحدَها بالنَّجاةِ من النَّارِ والفوزِ بالجنَّةِ، فإنَّ المُشركين يُحبُّون اللهَ سُبْحَانَهُ.
الثَّاني: محبَّةُ ما يُحبُّه اللهُ، وهذه المحبَّةُ هي الَّتي تُدخِلُ في الإسلامِ وتُخرِجُ من الكُفرِ، وأحبُّ النَّاسِ إلى اللهِ أقومُهم بهذه المحبَّةِ.
الثَّالثِ: المحبَّةُ في اللهِ وللهِ، وهي فرضٌ كمحبَّةِ أولياءِ اللهِ وبغضِ أعداءِ اللهِ، وهي مِن مُكَمِّلاتِ محبَّةِ اللهِ ومِن لوازمِها، فالمحبَّةُ التَّامَّةُ مستلزمةٌ لموافقةِ المحبوبِ في محبوبِه ومكروهِه وولايتِه وعداوتِه، ومِن المعلومِ أنَّ مَن أحبَّ اللهَ المحبَّةَ الواجبةَ فلا بُدَّ أنْ يَبغضَ أعداءَ اللهِ ويُحبَّ أولياءَه.
الرَّابعِ: المحبَّةُ مع اللهِ المحبَّةَ الشِّركيَّةَ، وهي المستلزمةُ للخوفِ والتَّعظيمِ والإجلالِ فهذه لا تصلحُ إلا للهِ سُبْحَانَهُ، ومتى أحبَّ العبدُ بها غيرَ اللهِ فقد أشركَ الشِّركَ الأكبرَ.
الخامسِ: المحبَّةُ الطَّبيعيَّةُ وهي ميلُ الإنسانِ إلى ما يُلائِمُ طبعَه، كمحبَّةِ المالِ والولدِ ونحوِ ذلك، فهذه المحبَّةُ لا تُذَمُّ إلا إنْ أشغلتْ وألهتْ عن طاعةِ اللهِ كما قال سُبْحَانَهُ: (يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ) ).