11 Nov 2008
الإيمان بصفة العزة
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وَقَوْلُهُ : {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ}[سُورَةُ الْمُنَافِقُونَ : 8] ،
وَقَوْلُهُ عَنْ إِبْلِيسَ : {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}[سُورَةُ ص : 82]).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وقولُهُ: (وللهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلمُؤمِنِينَ) [المنافقون: 8].
وقوله عن إبليس: (فَبِعزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) [ص: 82]).
الشرح:
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (الآيةُ الثَّالثةُ: فِي العزَّةِ، وهِيَ قولُهُ: (ولِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلمُؤمِنِينَ) [المنافقون: 8].
هذِهِ الآيةُ نزلَتْ فِي مقابلةِ قَوْلِ
المنافقين: (لَئِن رَّجَعنَا إِلَى المَدِينَةِ لَيُخرِجَنَّ الأَعَزُّ
مِنْهَُا الأَذَلَّ) [المنافقين: 8]، يريدون أنَّهم الأَعَزُّ، وأنَّ رسولَ
اللَّهِ والمؤمنينَ الأذلُّونَ، فبيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أنَّهُ لاَ
عِزَّةَ لَهُم، فضلاً عَنْ أنْ يكونُوا هُم الأعزُّون، وأنَّ العزَّةَ
لِلَّهِ ولرسولِهِ وللمؤمنينَ.
ومقتضَى قولِ المنافقينَ أنَّ الرَّسولَ صلى
اللَّه عَلَيْهِ وعَلَى آلَهُ وسلَّمَ، والمؤمنيَن، هم الَّذِينَ يُخرجونَ
المنافقينَ، لأنَّهم أهلُ العزَّةِ، والمنافقينَ أهلُ الذِّلَّةِ،
وَلِهَذَا كانوا يَحْسبونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ، وذلِكَ لذُلِّهِم
وَهَلعِهم، وكانوا إِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنوا، قالوا: آمنَّا، خوفاً
وجُبناً، وإِذَا خَلْوا إِلَى شياطينِهم، قالوُا: إنَّا مَعَكمْ، إنمَّا
نَحْنُ مستهزءونَ! وَهَذَا غايةُ الذُّلِّ.
أمَّا المؤمنونَ، فكانوا أعزَّاءً بدينِهم، قَالَ
اللَّهُ عنهمْ فِي مجادلةِ أهلِ الكتابِ (فَإِن تَوَلَوْا فَقُولُوا
اشهَدُوا بِأَنَّا مُسلِمُونَ) [آل عمران: 64]، فيعلنونَها صريحةً، لاَ
يخافونَ فِي اللَّهِ لومةَ لائمٍ.
وفِي هذِهِ الآيةِ الكريمةِ إثباتُ العزةِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وذكَرَ أهلُ العلمِ أنَّ العزَّةَ تنقسمُ إِلَى ثلاثةِ أقسامٍ: عزَّةِ القَدْرِ، وعزَّةِ القَهرِ، وعزَّةِ الامتناعِ:
1 – فعزَّةُ القدْرِ: معناه أنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذو قدْرٍ عزيزٍ، يعني: لاَ نظيرَ لَهُ.
2 – وعزةُ القهرِ: هِيَ عزةُ الغَلَبةِ، يعني:
أنَّهُ غالبُ كُلِّ شيءٍ، قاهِرُ كُلِّ شيءٍ، وَمِنْهُ قولُهُ تَعَالَى:
(فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِى فِى الخِطَابِ) [ص: 23]، يعني:
غلَبِنِي فِي الخطابِ. فاللَّهُ سُبْحَانَهُ عزيزٌ لاَ غالِبَ لَهُ بَلْ
هُوَ غالبُ كُلِّ شيءٍ.
3 –وعزَّةُ الامتناعِ: وهِيَ أنَّ اللَّهَ
تَعَالَى يمتنعُ أنْ ينالَهُ سوءٌ أوْ نقصٌ، فَهُوَ مأخوذٌ مِنَ القُوَّةِ
والصَّلابةِ، ومِنْهُ قولُهُم: أرضٌ عزازٌ، يعني: قويةٌ شديدةٌ.
هذِهِ معاني العزَّةِ الَّتِي أثبَتَها اللَّهُ
تَعَالَى لنَفْسِه، وهِيَ تدلُّ عَلَى كمالِ قَهرِهِ وسُلطانهِ، وعَلَى
كمالِ صفاتهِ، وعَلَى تمامِ تَنَزُّهِهِ عن النَّقصِ.
وتدلُّ عَلَى كمالِ قَهرِهِ، وسُلطانِهِ فِي عزَّةِ القَهرِ.
وعَلَى تمامِ صفاتِهِ وكمالِهَا، وأَنَّهُ لاَ مثيلَ لَهُا فِي عزَّةِ القدْرِ.
وعَلَى تمامِ تنزُّهِهِ عَنِ الغيبِ والنَّقصِ فِي عزَّةِ الامتناعِ.
قولُهُ: (وَلِرَسُولِهِ وَلِلمُؤمِنِينَ)، يعني:
أنَّ الرَّسولَ صلَّى اللَّه عَلَيْهِ سلَمْ لَهُ عزَّةٌ، وللمؤمنينَ
أيضاً عزَّةٌ وغَلَبةٌ.
ولكنْ يَجِبُ أنْ نعلمَ أنَّ العزَّةَ الَّتِي
أثْبَتَهَا اللَّهُ لرسولِهِ وللمؤمنينَ، ليسَتْ كعزِّةِ اللَّهِ، فإنَّ
عزَّةَ الرَّسولِ عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ والمؤمنينَ قدْ يَشوبهُا
ذِلَّةٌ، لقولِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدرٍ وَأَنتُم
أَذِلَّةٌ) [آل عمران: 123]، وقدْ يَغلبونَ أحياناً لحكمةٍ يُريدُها
اللَّهُ عزَّ وجلَّ، ففِي أُحُدٍ لَمْ يحصلْ لَهُم تمامُ العزَّةِ، لأنهَّم
غُلِبُوا فِي النِّهايةِ لحِكَمٍ عظيمةٍ، وكذلِكَ فِي حُنَيْنٍ وَلَّوْا
مُدبرينَ، ولَمْ يبقَ مَعَ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مِنْ اثنَيْ عَشَرَ ألفًا إِلَّا نحوَ مِائَةِ رَجُلٍ. هَذَا أيضاً فقْدٌ
للعزَّةِ، لكنَّهُ مؤقَّتٌ. أمَّا عزَّةُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، فلاَ يمكنُ
أبداً أنْ تُفقدَ.
وبهَذَا عرفْنَا أنَّ العزَّةَ الَّتِي أثبَتَها اللَّهُ لرسولِهِ، وللمؤمنينَ، ليسَتْ كالعزِّةِ الَّتِي أثبَتَها لنَفْسِهِ.
وَهَذَا أيضاً يمكنُ أنْ يؤخذَ مِنَ القاعدةِ
العامَّةِ، وهِيَ أنَّهُ: لاَ يلزمُ مِنَ اتفاقِ الاسمينِ أنْ يتماثلَ
المسمَّيانِ، ولاَ مِنِ اتِّفاقِ الصِّفتَيْنِ أنْ يتماثلَ الموصوفانِ.
الآيةُ الرَّابعةُ: فِي العزِّةِ أيضاً، وهِيَ قولُهُ عَنِ إبليسَ: (فَبِعزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) [ص: 82].
الباءُ هُنَا للقسمِ، لكنَّهُ اختارَ القسمَ
بالعزِّةِ دونَ غيرِهَا مِنَ الصِّفاتِ؛ لأنَّ المقامَ مقامُ مغالبةٍ،
فكأنَّهُ قالَ: بعزَّتِكَ الَّتِي تَغلِبُ بها مَنْ سِوَاكَ لأُغوينَّ
هؤلاءِ وأُسَيْطِرُ عَلَيْهِم –يعني: بنِي آدمَ – حَتَّى يَخرجوا مِنَ
الرشْدِ إِلَى الغَيِّ.
ويُستثنَى مِنْ هَذَا عبادُ اللَّهِ المخلَصونَ،
فإنَّ إبليسَ لاَ يستطيعُ أنْ يغويَهم، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ
عِبَادِى لَيسَ لَكَ عَلَيهِم سُلطَانٌ) [الحجر: 42].
ففِي هاتينِ الآيتينِ إثباتُ العزَّةِ لِلَّهِ.
وفِي الآيةِ الثَّالثةِ إثباتُ أنَّ الشيطانَ يقرُّ بصفاتِ اللَّهِ!
فكَيْفَ نجدُ مِنْ بني آدمَ مِنْ ينكرُ صفاتِ
اللَّهِ أوْ بعضَها، أيكونُ الشَّيطانُ أعلمَ باللِه وأعقلَ مسلكاً مِنْ
هؤلاءِ النُّفاةِ ؟!
مَا نستفيدُه مِنَ الناحيةِ المسلكيَّةِ:
1- فِي
العفوِ والصفحِ: هُوَ أنَّنَا إِذَا علِمْنا أنَّ اللَّهَ عَفُوٌّ،
وأنَّه قديرٌ، أوجبَ لَنَا ذلِكَ أنْ نسألَهُ العفوَ دائماً، وأنْ نَرْجوَ
مِنْهُ العفوَ عمَّا حصلَ مِنَّا مِنَ التَّقصيرِ فِي الواجبِ.
2- أمَّا العزَّةُ أيضاً: نقولُ: إِذَا عَلِمْنا أنَّ اللَّهَ عزيزٌ، فإنَّنَا لاَ يمكنُ أنْ نفعلَ فعلاً نحارِبُ اللَّهَ فِيهِ.
مثلاً: الإنسانُ الْمُرابِي معاملتُه مَعَ اللَّه
المحارَبةُ: (فَإِن لَّم تَفعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ) [البقرة: 279]. إِذَا عَلِمْنا أنَّ اللَّهَ ذو عزَّةٍ لاَ
يُغلبُ، فإنَّهُ لاَ يمكنُنا أنْ نُقْدِمَ عَلَى محاربةِ اللَّهِ عزَّ
وجلَّ.
قطعُ الطَّريقِ محاربةٌ: (إِنَّمَا جَزَاؤُا
الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الأَرضِ
فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَو يُصَلَّبُوا أَو تُقَطَّعَ أَيْدِيهِم
وَأَرْجُلُهُم مّن خِلَفٍ أَو يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ) [المائدة: 33]،
فَإِذَا علمْنا أنَّ قطعَ الطَّريقِ محاربةٌ لِلَّهِ، وأنَّ العزِّةَ
لِلَّهِ، امتنعْنا عَنْ هَذَا العملِ؛ لأنَّ اللَّهَ هُوَ الغالبُ.
ويمكنُ أنْ نقولَ فِيهَا فائدةٌ مِنَ النَّاحيةِ
المسلكيَّةِ أيضاً، وهِيَ أنَّ الإنسانَ المؤمنَ ينبغي لَهُ أنْ يكونَ
عزيزاً فِي دينهِ، بحَيْثُ لاَ يذلُّ أمامَ أحدٍ مِنَ النَّاسِ، كائناً
مَنْ كانَ، إِلَّا عَلَى المؤمنينَ، فيكونُ عزيزاً عَلَى الكافرين، ذليلاً
عَلَى المؤمنينَ).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ مُحمَّد خَليل هَرَّاس رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وقولُه: { وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنينَ }،
وقولُهُ عنْ إِبلِيسَ: { فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعينَ } (1)).
الشرح:
قال الشيخ محمد خليل هراس (ت: 1395هـ): ((1) وأَمَّا قولُهُ تعالى: { وللهِ العِزَّةُ ولِرَسولِهِ وللْمُؤمِنينَ }؛
فقَدْ [ نزلتْ في شأنِ عبدِ اللهِ بنِ أُبيٍّ بنِ سَلولٍ رئيسِ
المنافقينَ، وكانَ في بعضِ الغزواتِ قَدْ أقسمَ ليُخرجنَّ رسولَ اللهِ
صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلمَ هوَ وأصحابَهُ مِن المدينةِ، فنـزلَ قولُهُ
تعالى: {يَقُولونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ}؛
يَقصدُ بالأعزِّ – قبَّحهُ اللهُ – نفسَهُ وأصحابَهُ، ويقصِدُ بالأذلِّ
رسولَ اللهِ ومَنْ معهُ مِن المؤمنينَ، فردَّ اللهُ عزَّ وجلَّ عليهِ
بقولِهِ: { وَللهِ العِزَّةُ وَلِرَسولِهِ وَلِلْمُؤمِنينَ وَلَكِنَّ المُنافِقينَ لا يَعْلَمونَ}].
والعزَّةُ صفةٌ أثبتَهَا اللهُ عزَّ وجلَّ لنفسِهِ؛ قالَ تعالى: {وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ }، وقالَ: {وَكَانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزًا }.
وأقسمَ بهَا سبحانَهُ؛ كمَا في حديثِ الشَّفاعةِ: (( وَعِزَّتي وَكِبْرِيَائِي وَعَظَمَتِي؛ لأُخْرِجَنَّ مِنْهَا مَنْ قالَ: لاَ إِلَهَ إَلاَّ اللهُ )).
وأخبرَ عن إبليسَ أَنَّهُ قالَ: { فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعينَ. إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُم المُخْلَصينَ }.
وفي (صحيحِ البخاريِّ) وغيرِهِ عن أبي هُرَيرَةَ:
((
بَيْنَمَا أَيُّوبُ عليهِ السَّلاَمُ يَغْتَسِلُ عُرْيَانَا خَرَّ عليهِ
جَرَادٌ مِن ذَهَبٍ، فَجَعَلَ يُحْثِي في ثَوْبِهِ، فَنَادَاهُ رَبُّهُ:
يَا أَيُّوبُ! أَلَمْ أَكُنْ أَغْنَيْتُكَ عَمَّا تَرَى؟ قالَ: بَلَى؛
وَعِزَّتِكَ، وَلَكِنْ لاَ غِنَى لي عَنْ بَرَكَتِكَ )).
وقَدْ جاءَ في حديثِ الدعاءِ الذي علَّمَهُ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلمَ لمَنْ كانَ بهِ وجعٌ: (( أَعُوذُ بِعِزَّةِ اللهِ وقَدْرَتِهِ مِن شَرِّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ )).
والعِزَّةُ تأتي بمعنى الغلبةِ والقهرِ؛ مِن: عزَّ يعُزُّ – بضمِّ العينِ في المضارعِ –؛ يُقالُ: عزَّهُ؛ إذَا غلبَهُ.
وتأتي بمعنى القُوَّةِ والصَّلابَةِ، مِن عزَّ يعَزُّ – بفتحِهَا -، ومنهُ أرضٌ عزازٌ؛ للصَّلبةِ الشَّديدةِ.
وتأتِي بمعنى عُلُوِّ القدْرِ والامتناعِ عن الأعداءِ؛ مِن: عزَّ يَعِزُّ – بكسرِهَا -.
وهذهِ المعاني كلِّهَا ثابتةٌ للهِ عزَّ وجلَّ).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ: صالح بن فوزان الفوزان
قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: (قولُه: (وللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولهِ) هذا رَدٌّ عَلى المنافقين الذين زعمُوا أنَّ العزَّةَ لهم عَلى المؤمنين، والعزَّةُ: هي القوَّةُ والغَلبةُ وهي للهِ وحدَه، ولمن أفاضها عليه مِن رسلِه وصالحي عبيدِه لا لغيرِهم.
وقولُه عَن إبليسَ (فَبِعِزَّتِكَ) أقسَم بعزَّةِ اللهِ تعالى:
(لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)
لأُضِلَّنَّ بني آدمَ بتزيينِ الشَّهواتِ لهم وإدخالِ الشُّبهاتِ عليهم
حتَّى يصيروا غاوين جميعاً. ثم لما علم أَنَّ كيدَه لا ينجحُ إلاَّ في
أتباعِه مِن أهلِ الكفرِ والمعاصي؛ استثنى فقال: (إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِين).
الشَّاهدُ مِن الآياتِ: أنَّ فيها وصفَ اللهِ بالعفوِ والقدرةِ والمغفرةِ والرَّحمةِ والعزَّةِ، وهي صفاتُ كمالٍ تليقُ به).
الروضة الندية للشيخ: زيد بن
عبد العزيز بن فياض رحمه الله
قال الشيخ زيد بن عبد العزيز بن فياض (ت: 1416هـ): (ومِن أسمائِه تَعَالَى القديرُ والعزيزُ ، والقُدرةُ صفتُه وقُدرتُه تَعَالَى شامِلةٌ لكلِّ شيءٍ ، كما قَالَ :{وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
والعِزَّةُ صفةٌُ ثابتةٌ لِلَّهِ لا تُماثِلُها عِزَّةُ مخلوقٍ .
ومعنى العزَّةِ في اللُّغَةِ : القوَّةُ والغَلَبةُ والامتِناعُ .
يُقالُ :"عَزَّ
يَعَُِزُّ بالفتحِ في المضارعِ إذا اشتدَّ وقَوِيَ ، وبالكسرِ في المضارعِ
إذا قَوِي وامتنَعَ ، وبالضمِّ إذا غَلَبَ وقَهَرَ" .
فالعزَّةُ تتضمَّنُ القُوَّةَ . ولِلَّهِ القُوَّةُ جميعاً .
يُقالُ :
عَزَّ يَعَزُّ بالفتحِ إذا اشتدَّ وقَوِيَ ، ومنه الأرضُ العِزازُ
الصُّلْبةُ الشَّديدةُ . وعَزَّ يَعِزُّ بكسرِ العَينِ إذا امتنَعَ ممَّن
يَرومُه ، وعَزَّ يَعُزُّ بضمِّ العَينِ إذا غَلَبَ وقَهَرَ ، فأعْطَوْا
أقوَى الحركاتِ وهي الضمَّةُ ، لأقوى المعاني وهو الغلَبةُ والقهْرُ
للغيْرِ ، وأضعَفَها وهي الفتحةُ لأضعفِ المعاني ، وهو كونُ الشَّيءِ في
نفْسِه صُلْباً ، ولا يلْزَمُ مِن ذلك أنْ يمتَنِعَ عمَّن يَرومُه ،
والحركةَ المتوسِّطةَ وهي الكسرةُ للمعنى المتوسِّطِ ، وهو القويُّ
الممتنِعُ عن غيرِه ، ولا يلْزَمُ منه أنْ يَقْهَرَ غيرَه ويغْلِبَه .
فأعْطَوُا الأقوى للأقوى ، والأضْعفَ للأضْعفِ ، والمتوسِّطَ للمتوسِّطِ .
ولا
ريبَ أنَّ قَهْرَ المَربُوبِ عمَّا يريدُه مِن أقوى أوصافِ القادِرِ .
فإنَّ قهْرَه عن إرادَتِه وجعْلَه غيرَ مُريدٍ كان أقوى أنواعِ القَهْرِ ،
والعِزُّ
ضِدُّ الذُّلِّ ؛ والذُّلُّ أصْلُه الضَّعفُ والعجزُ ؛ فالعِزُّ يقتضي
كمالَ القُدرةِ ؛ ولهذا يُوصفُ به المؤمنُ ؛ ولا يكونُ ذمًّا له بخلافِ
الكِبْرِ .
قَالَ رجلٌ للحَسَنِ البَصْريِّ : إنَّكَ متكبِّرٌ ! فَقَالَ : لستُ بمتكبِّرٍ ، ولكنِّي عزيزٌ ،
وقَالَ ابنُ مسعودٍ : ما زِلْنا أعِزَّةً منذُ أسْلَمَ عُمَرُ ,
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ بِأَحَدِ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ : عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ أَوْ أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ "
وفي
بعضِ الآثارِ : إن النَّاسَ يطلبُونَ العِزَّةَ في أبوابِ الملوكِ ولا
يَجِدونَها إلا في طاعةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ؛ وفي الحديثِ : " اللَّهُمَّ أَعِزَّنَا بِطَاعَتِكَ ، وَلاَ تُذِلَّنَا بِمَعْصِيَتِكَ "
وقَالَ
بعضُهم : مَن أرادَ عِزًّا بلا سلطانٍ ، وكَنْزاً بلا عَشيرةٍ ؛ وغِنًى
بلا مالٍ ، فلينتَقِلْ مِن ذُلِّ المَعْصيةِ إلى عِزِّ الطَّاعةِ .
فالعِزَّةُ مِن جِنْسِ القُوَّةِ .
وقد ثَبَتَ في الصَّحيحِ عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ : " الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ").
التنبيهات السنية للشيخ: عبد العزيز بن ناصر الرشيد رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وقولُه: ( وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنينَ ).(1)
وقولُهُ عن إِبلِيسَ: ( فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعينَ ) ).
الشرح:
قال الشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد (ت: 1408هـ): ((1) قَولُهُ: (وَلِلَّهِ العِزَّةُ):
يعني الغلبةَ والقدرةَ، فمن يردْ العزَّةَ فليطلُبْهَا بطاعةِ اللهِ
وطاعةِ رسولهِ، فالعزَّةُ والعلوُّ إنَّما هما لأهلِ الإيمانِ، قال تعالى: (وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مَّؤْمِنِينَ) فللعبدِ من العلُوِّ بحسبِ ما معه من الإيمانِ، قال تعالى: (وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنينَ)
فلهُ من العزَّةِ بحسبِ ما معه من الإيمانِ وحقائقِه، فإذا فاتَه حظُّه من
العُلوِّ والعزَّةِ ففي مقابَلةِ ما فاتَه من حقائقِ الإيمانِ عِلمًا
وعَملاً، ظاهرًا وباطِنًا، فالمؤمنُ عزيزٌ عالٍ مُؤَيَّدٌ منصورٌ مُكفىٌّ
مدفوعٌ عنه بالذَّاتِ أينَ كان، ولو اجتمعَ عليه من أقطارِها إذا قامَ
بحقيقةِ الإيمانِ وواجباتِه، فمنْ نقصَ إيمانُه نقصَ نصيبُهُ من النَّصرِ
والتَّأييدِ بحسبِ ما نَقصَ من إيمانِه، انتهى. مِن كلامِ شيخِ الإسلامِ
بتصرُّفٍ.
وفي هذه الآيةِ إثباتُ العزَّةِ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- الكاملةِ من جميعِ الوجوهِ، قال تعالى: (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) وهو العزيزُ فَلَـنْ يُرامَ جنابُه أنَّى يُرامُ جنابُ ذي سُلطـانِ قال
ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ في كتابِ ((المدارجِ)): فاسمُه العزيزُ يتضمَّنُ
كمالَ قدرتِه وقوَّتِه وقهرِه، وهذه العِزَّةُ مستلزِمةٌ للوحدانيَّةِ، إذ
الشَّركةُ تُنقصُ كمالَ العزَّةِ. انتهى.
والعزَّةُ
في الأصلِ؛ القوَّةُ والغلبَةُ والشِّدَّةُ، تقول: عزَّ يَعِزُّ بكسرِ
العينِ إذا صارَ عزيزًا، وعَزَّ يَعَزُّ بالفتحِ إذا اشتدَّ وقوِيَ، ومنه
أرضٌ عزازٌ، أي صلبةٌ، وعَزَّ يعُزُّ بالضَّمِّ إذا غلبَ وقهَرَ،
فلاسمِه العزيزِ -سُبْحَانَهُ- ثلاثةُ معانٍ:
الأوَّلُ: بمعنى المُمتنعِ الجنابِ عن أنْ يصلَ إليه ضررٌ أو يلحقَهُ نقصٌ أو عيبٌ، كقَولِهِ: (وَمَا ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ).
الثَّاني: بمعنى القوَّةِ كقَولِهِم: ((مِن عزيزٍ)).
الثَّالثُ: بمعنى غلبةِ الغيرِ وقهرِه، ومنه: (وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ): أي غلَبَنِي.
وكلُّ هذه المعاني ثابِتَةٌ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- بِمُقتَضى اسمهِ العزيزِ، كما قال: (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فَألْ تفيدُ الاستغراقَ والشُّمولَ لجميعِ معانِي العِزِّ، قال ابنُ القيِّمِ في ((النُّونيَّةِ)):
وهو العزيزُ القاهِرُ الغلاَّبُ لمْ يغلبْهُ شيءٌ، هذه صِفتــانِ
وهو العزيزُ بقوَّةٍ هي وصفهُ فالعِزُّ حينئذٍ ثلاثُ معـــانِ
وهي الَّتي كَمُلَتْ له -سُبْحَانَهُ- مِن كلِّ وجهٍ عادمِ النُّقصــانِ
(80) قَولُهُ: (فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعينَ):
فيه دليلٌ على الحلفِ بعزَّةِ اللهِ سُبْحَانَهُ، وكذا غيرُها من صفاتِه،
وفيه دليلٌ على أنَّ صِفاتِ اللهِ غيرُ مخلوقةٍ، إذ الحَلِفُ بالمخلوقِ
شِركٌ، وفيه إثباتُ العزَّةِ للهِ -سُبْحَانَهُ- ردًّا على مَن قالَ: عزيزٌ
بلا عزَّةٍ، كما قالُوا: إنَّه عليمٌ بلا علمٍ،
والعزَّةُ المضافةُ إليه -سُبْحَانَهُ- تنقسمُ إلى قِسمين:
قسمٍ
يضافُ إليه -سُبْحَانَهُ- من بابِ إضافةِ المخلوقِ إلى خالقِه، وهي
العزَّةُ المخلوقةُ الَّتي يِعزُّ بها أنبياءَه وعبادَه الصَّالحينَ.
والثَّاني: يُضافُ إليه من بابِ إضافةِ الصِّفةِ إلى الموصوفِ، كما في هذه الآيةِ، وكما في الحديثِ: ((أَعُوذُ بِعِزَّةِ اللهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ)) ).