11 Nov 2008
الإيمان بصفة الرحمة
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وَقَوْلُهُ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}[سُورَةُ النَّمْلِ : 30] ، {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُـلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا}[سُورَةُ غَافِر : 7] ، {وَكَانَ بِالْمُؤْمنِينَ رَحِيمًا}[سُورَةُ الأَحْزَابِ : 43]، {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}[سُورَةُ الأَعْرَافِ : 156] ، {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}[سُورَةُ الأَنْعَامِ : 154]، {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}[سُورَةُ يُونُسَ : 107] ، {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}[سُورَةُ يُوسُفَ : 64] ).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ مُحمَّد خَليل هَرَّاس رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وقَوْلُهُ: {
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيْمِ }، { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلِّ شَيْءٍ
رَحْمَةً وَعِلْمًا }، {وَكَانَ بِالمُؤمِنينَ رَحِيمًا }، { وَرَحْمَتِي
وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}، { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ
}، { وَهُوَ الغَفُورُ الرَّحِيْمُ }، { فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ
أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ }(1)).
الشرح:
قال الشيخ محمد خليل هراس (ت: 1395هـ): ( (1) وأَمَّا قولُهُ: { بِسْمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ } وما بعدهَا مِن الآياتِ؛ فقَدْ تَضَمَّنَتْ إثباتَ أسمائِهِ الرَّحمنِ والرَّحيمِ، وإثباتَ صِفَتَيِ الرَّحمةِ والعِلْمِ.
وقَدْ تقدَّمَ في تفسيرِ { بِسْمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ }
الكلامُ على هذينِ الاسمَينِ، وبيانُ الفَرقِ بينَهمَا، وأنَّ أوَّلَهمَا
دالٌّ على صفةِ الذَّاتِ، والثَّاني دالٌّ على صفةِ الفِعلِ.
وقَدْ أنْكرَتْ الأشاعرةُ والمعتزِلةُ
صفةَ الرَّحمةِ بِدَعْوَى أَنَّها في المخلوقِ ضَعفٌ وخَوَرٌ وتألُّمٌ
للمرحومِ، وهذا مِن أقبحِ الجهلِ، فإنَّ الرَّحمةَ إنَّمَا تكونُ مِن
الأقوياءِ للضُّعفاءِ، فلا تستلزمُ ضَعفًا ولا خَوَرًا، بلْ قَدْ تكونُ معَ
غايةِ العزَّةِ والقُدرةِ، فالإِنسانُ القوِيُّ يرحمُ ولدَهُ الصَّغِيرَ
وأبويهِ الكبيرَينِ ومَنْ هوَ أضعفُ منهُ، وأينَ الضَّعفُ والخورُ – وهمَا
مِن أذمِّ الصِّفاتِ – مِنَ الرَّحمةِ التَّي وصفَ اللهُ نفسَهُ بهَا،
وأَثنى على أوليائِهِ المتَّصِفين بهَا، وأمرَهُم أنْ يتواصَوْا بهَا؟!
وقولُهُ: { رَبَّنَا وَسِعْتَ … }
إلخ. مِن كلامِ اللهِ عزَّ وجلَّ حِكايةً عنِ حملةِ العرشِ والَّذينَ
حولَهُ، يتوسَّلون إلى اللهِ عزَّ وجلَّ بربوبِيَّتِهِ وسعةِ علمِهِ
ورحمتِهِ في دُعَائِهِمْ لِلمؤمنينَ، وهوَ مِن أحسنِ التَّوسُّلاتِ التَّي
يُرْجَى معهَا الإِجابةُ.
ونصبَ قولَهُ: { رَحْمَةً وعِلْمًا }
على التَّمييزِ المحوَّلِ عن الفاعلِ، والتَّقديرُ: وَسِعَتْ رحمتُكَ
وعلمُكَ كلَّ شيءٍ. فرحمتُهُ سبحانَهُ وَسِعَتْ في الدُّنيا المؤمنَ
والكافرَ والبَرَّ والفاجرَ، ولكنَّهَا يومُ القيامةِ تكونُ خاصةً
بالمتَّقينَ؛ كمَا قالَ تعالى:
{ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذينَ يَتَّقُونَ وَيُؤتُونَ الزَّكاةَ … } الآيةَ.
وقولُهُ تعالى {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحمةَ }؛ أيْ: أوجبَهَا على نفسِهِ تفضُّلاً وإحسانًا، ولمْ يوجِبْهَا عليهِ أحدٌ.
وفي حديثِ أبي هُرَيرَةَ في (الصَّحيحَين)ِ:
((
إِنَّ اللهَ لَمَّا خَلَقَ الخَلْقَ كَتَبَ كِتَابًا، فهوَ عندَهُ فَوْقَ
العَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ – أَوَ تَسْبِقُ – غَضَبِي )).
وأَمَّا قولُهُ: {فاللهُ خَيْرٌ حَافِظًا }.
فالحافظُ والحفيظُ مأخوذٌ مِن الحفظِ، وهوَ الصِّيانةُ، ومعناهُ: الذي
يحفظُ عبادَهُ بالحفظِ العامِّ فيُيسِّرُ لهمُ َأقواتَهُم، ويَقِيهم
أسْبَابَ الهلاكِ والعَطبِ، وكذلكَ يحفظُ عليهِمْ أعمالَهُم، ويُحصِي
أقوالَهُم، ويحفظُ أولياءَهُ بالحفظِ الخاصِّ، فيعصمُهُمْ عن مُواقعةِ
الذُّنُوبِ، ويحرُسُهمْ مِن مَكايدِ الشَّيطانِ، وعن كلِّ ما يضرُّهمْ في
دينِهِمْ ودُنياهُم.
وانتَصَبَ ( حافِظًا ) تمييزًا لـ ( خَيْرٌ ) الذي هوَ أفعلُ تفضيلٍ).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ: صالح بن فوزان الفوزان
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (إثباتُ اتِّصافهِ بالرَّحمةِ والمغفرةِ سبحانَه وتعالَى
وقَوْلُهُ: (
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيْمِ )، ( رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ
رَحْمَةً وَعِلْماً )، (وَكَانَ بِالمُؤمِنينَ رَحِيماً )، ( وَرَحْمَتِي
وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ )، ( كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ
)، ( وَهُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ )، ( فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ
أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ).(1)).
الشرح:
قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: ((1) وقولُه: (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) تقدَّم تفسيرُها في أوَّلِ الكتابِ، ومناسبةُ ذكرِهَا هنا أنَّ فيها إثباتَ الرَّحمةِ للهِ تعالى
صِفةً مِن صفاتِه، كما في الآياتِ المذكورةِ بعدَها قال الإمامُ ابنُ
القيِّمِ: الرَّحمنُ دالٌّ عَلى الصّفةِ القائمةِبهسبحانَه، والرَّحيمُ
دالٌّ عَلى تعلُّقِهَا بالمرحُومِ، كما قال تعالى: (وَكَانَ بِالْمُؤْمِنينَ رَحِيماً)
ولم يجيءْ قَطُّ: رحْمنٌ بهم، وكأَن الأوَّلَ للوصفِ والثَّانيَ للفعلِ،
فالأوَّلُ دالٌّ عَلى أن الرَّحمةَ وَصْفُهُ، والثَّاني دالٌّ عَلى أنَّه
يرحمُ خلْقَه برحمتهِ. اهـ
قولُه: (رَبّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْء رَحْمَةً وَعِلْماً) هذا حكايةٌ عَن الملائكةِ الَّذين يحمِلُون العرشَ ومَن حولَه أنَّهم يستغفرون للَّذين آمنوا، فيقولون: (رَبّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) أي وسعتْ رحمتُك وعلمُك كُلَّ شيءٍ فـ(رَحْمَةً وَعِلْماً)
منصوبان عَلى التَّمييزِ الْمُحَوَّلِ عَن الفاعلِ، وفي ذلك دليلٌ عَلى
سَعةِ رحمةِ الله وشمولِها فما مِن مسلمٍ ولا كافرٍ إلاَّ وقد نالتْه رحمةُ
اللهِ في الدُّنيا، وأمَّا في الآخرةِ فتختصُّ بالمؤمنين.
وقولُه: (وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً)
هذا إخبارٌ مِن اللهِ سبحانَه أنَّه رحيمٌ بالمؤمنين، يرحمُهم في الدُّنيا
والآخرةِ ـ أمَّا في الدُّنيا فإنَّه هداهم إلى الحقِّ الذي جَهِلَهُ
غيرُهم وبَصَّرَهُمْ الطَّريقَ الذي ضلَّ عنه غيرُهم ـ وأمَّا رحمتُه بهم
في الآخرةِ، فآمَنَهم مِن الفَزعِ الأكبرِ، ويُدخلُهم الجنَّةَ ـ وقولُه: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) أي أَوْجَبَهَا عَلى نفسِه الكريمةِ؛ تفضُّلا منه وإحساناً. وهذه الكتابةُ كونيَّةٌ قَدَريَّةٌ، لم يوجبْها عليه أحدٌ.
وقولُه: (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)
يخبرُ سبحانَه عَن نفسِه أنَّه متَّصفٌ بالمغفرةِ والرَّحمةِ لمن تاب إليه
وتوكَّل عليه، ولو مِن أيِّ ذنبٍ كانَ، كالشِّرْكِ، فإنَّه يتوبُ عليه
ويغفرُ له ويرحمُه.
وقولُه تعالى: (فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظاً)
هذا مما حكاه اللهُ تعالى عَن نبيِّه يعقوبَ عليه السَّلامُ حينما طلب منه
بَنُوه أن يرسلَ معهم أخاهم، وتعهّدوا بحفظِه، فقال لهم: إِنَّ حِفْظَ
اللهِ سبحانَه له خيرٌ مِن حفظِكم. هذا تفويضٌ مِن يعقوبَ إلى الله في حفظِ
ابنِه، ومِن أسمائِه تعالى: الحفيظُ، الذي
يحفظُ عبادَه بحفظِه العامِّ مِن الهلاكِ والعَطَبِ، ويحفظُ عليهم
أعمالَهم، ويحفظُ عبادَه المؤمنين بحفظِه الخاصِّ عما يُفْسِدُ إيمانَهم
وعمَّا يضرُّهم في دينهِم ودُنْياهم.
الشَّاهدُ مِن الآياتِ الكريمةِ:
أنَّ فيها وصفَ الله سبحانَه وتعالى بالرَّحْمةِ والمغفرةِ عَلى ما يليقُ
بجلالهِ كسائرِ صفاتِه. وفيها الرَّدُّ عَلى الجهميّةِ والمعتزلةِ ونحوِهم
ممن ينفُون عَن اللهِ اتّصافَه بالرَّحْمةِ والمغفرةِ، فِرارًا مِن
التَّشبيهِ بزعمِهم، قالوا: لأنَّ المخلوقَ يُوصَفُ بالرَّحمةِ.
وَتَأَوَّلُوا هذه الآياتِ عَلى المجازِ؛ وهذاباطلٌ؛ لأنَّ اللهَ سبحانَه
أثبت لنفسِه هذه الصِّفةَ. ورحمتُه سبحانَه ليست كرحمةِ المخلوقِ حتى
يَلْزمَ التَّشبيهُ، كما يزعمون، فإنَّ اللهَ تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)
والاتفاقُ في الاسمِ لا يقتضي الاتِّفاقَ في الْمُسَمَّى، فللخالقِ صفاتٌ
تَلِيقُ به وتختصُّ به، وللمخلوقِ صفاتٌ تليقُ به وتختصُّ به، واللهُ
أعلمُ).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (صفةُ الرَّحمةِ
قولُهُ: (بِسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ) (1) [النمل: 30] (رَبَّنَا وَسِعتَ كُلَّ شَيءٍ رَّحمَةً وَعِلمًا) [غافر: 7]
(وَكَانَ بِالمُؤمِنِينَ رَحِيمًا) [الأحزاب: 43]. (وَرَحمَتِي وَسِعَت كُلَّ شَيءٍ) [الأعراف: 156]
(كَتَبَ رَبُّكُم عَلَى نَفسِهِ الرَّحمَةَ) [الأنعام: 54] (وَهُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ) [يونس: 107].
(فَاللهُ خَيرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرحَمُ الراَّحِمِينَ) [يوسف: 64]).
الشرح:
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): ((1) هذِهِ آياتٌ فِي إثباتِ صفةِ الرحمةِ:
الآيةُ الأولى: قولُهُ: (بِسمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ) [النمل: 30].
هذِهِ
آيةٌ أتى بها المؤلِّفُ ليُثبِتَ حكماً، وليسَتْ مقدِّمةً لِمَا بعدَها،
وقَدْ سَبَقَ لنا شرحُ البسملةِ، فلاَ حاجةَ إِلَى إعادتِهِ.
وفِيهَا من أسماءِ اللَّهِ ثلاثةٌ: اللَّهُ، الرحمنُ، الرحيمُ. ومن صفاتِهِ: الألوهِيَةُ، والرحمةُ.
الآيةُ الثَّانِيَةُ: قولُهُ: (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيءٍ رَّحمَةً وَعِلمًا) [غافر: 7]. هَذَا يقولُهُ الملائكةُ: (الَّذِينَ
يَحمِلُونَ العَرشَ وَمَن حَولَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمدِ رَبّهِم
وَيُؤمِنُونَ بِهِ وَيَستَغفِرُونَ لِلَّذِينَ ءاَمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ
كُلَّ شَيءٍ رَّحمَةً وَعِلمًا، فَاغفِر لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا
سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجَحِيمِ) [غافر: 7].
مَا أعظمَ الإيمانَ! وأعظمَ فائدتِهِ!
الملائكةُ حولَ العرشِ يحملونَه، يَدْعونَ اللَّهَ للمؤمنِ.
وقولُهُ: (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيءٍ رَّحمَةً وَعِلمًا):
يدلُّ عَلَى أنَّ كُلَّ شيءٍ وصلَهُ علمُ اللَّهِ، وهُوَ واصلٌ لكُلِّ
شيءٍ، فإنَّ رحمتَهُ وصلَتْ إليْهِ؛ لأنَّ اللَّهَ قَرَنَ بينهَمُا فِي
الحكمِ (رَبَّنَا وَسِعتَ كُلَّ شَيءٍ رَّحمَةً وَعِلمًا).
وهذِهِ
هِيَ الرَّحمةُ العامَّةُ الَّتِي تشملُ جميعَ المخلوقاتِ، حَتَّى
الكفارَ؛ لأنَّ اللَّهَ قَرَنَ الرَّحمةَ هذِهِ مَعَ العلمِ، فكُلُّ مَا
بلغَهُ علمُ اللَّهِ، وعلمُ اللَّهِ بالغٌ لكُلِّ شيءٍ، فقدْ بلغتْهُ
رحمتُهُ، فكَمَا يعلمُ الكافرَ، يرحمُ الكافرَ أيضاً.
لكنَّ
رحمتَهُ للكافرِ رحمةٌ جسديَّةٌ بدنيَّةٌ دنيويَّةٌ قاصرةٌ غايةَ القصورِ
بالنِّسبةِ لرحمةِ المؤمنِ، فالَّذِي يَرزقُ الكافرَ هُوَ اللَّهُ، الَّذِي
يرزقُهُ بالطَّعامِ والشَّرابِ واللِّباسِ والمسكنِ والمَنْكَحِ وغيرِ
ذلِكَ.
أمَّا المؤمنونَ، فرحمتُهُم رحمةٌ أخصُّ مِنْ هذِهِ وأعظمُ، لأنَّها رحمةٌ إيمانيَّةٌ دينيَّةٌ دنيويَّةٌ.
وَلِهَذَا تجدُ المؤمنَ أحسنَ حالاً مِنَ الكافرِ، حَتَّى فِي أمورِ الدُّنْيَا؛ لأنَّ اللَّهَ يقولُ: (مَن عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَو أُنثَى وَهُوَ مُؤمِنٌ فَلَنُحيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً)
[النحل: 97]: الحياةُ الطَّيِّبةُ هذِهِ مفقودةٌ بالنِّسبةِ للكُفَّارِ،
حياتهُم كحياةِ البهائمِ، إِذَا شَبِعَ، روثَ، وإِذَا لَمْ يَشْبَعْ، جلسَ
يَصرخُ!، هكذا هؤلاءِ الكفارُ، إنْ شَبِعوا، بَطِروا، وإِلاَّ جلَسوا
يَصرخونَ!، ولاَ يستفيدونَ من دنياهمُ، لكنَّ المؤمنَ إنْ أصابتْهُ
ضرَّاءُ، صبرَ واحتسبَ الأجرَ عَلَى اللَّهِ - عزَّ وجلَّ -، وإنْ أصابتْهُ
سراءُ شكَرَ، فَهُوَ فِي خيرٍ فِي هَذَا، وفِي هَذَا، وقلبُهُ منشرحٌ
مطمئِّنٌ، ماشٍ مَعَ القضاءِ والقدرِ، لاَ جزعَ عندَ البلاءِ، ولاَ بَطَرَ
عِنْدَ النَّعماءِ، بلْ هُوَ متوازنٌ مستقيمٌ معتدلٌ.
فهَذَا فرقُ مَا بينَ الرَّحمةِ هذِهِ وهذِهِ.
لكنْ
معَ الأسفِ الشَّديدِ أيُّها الأخوةُ: إنَّ منَّا أناساً آلافًا يريدونَ
أنْ يَلْحَقُوا بركبِ الكُفَّارِ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى جَعَلوا
الدُّنْيَا هِيَ هَمَّهُم، إنْ أعُطُوا رَضُوا، وإنْ لَمْ يُعْطَوْا إِذَا
هم يَسخطونَ، هؤلاءِ مَهْمَا بَلَغُوا فِي الرَّفاهِيَّةِ الدُّنيويَّةِ،
فَهُمْ فِي جحيمٍ، لَمْ يَذُوقوا لذَّةَ الدُّنْيَا أبداً، إنَّمَا ذاقَها
مَنْ آمنَ باللَّهِ وعَمِلَ صالحاً.
وَلِهَذَا
قَالَ بعضُ السَّلَفِ: واللَّهِ، لو يَعلمُ الملوكُ وأبناءُ الملوكِ مَا
نَحْنُ فيِهِ لجَالَدُونا عَلَيْهِ بالسُّيوفِ، لأنَّهُ حالَ بَيْنَهُم
وبينَ هَذَا النَّعيمِ مَا هم عَلَيْهِ مِنَ الفسوقِ والعصيانِ، والرُّكونِ
إِلَى الدُّنْيَا، وأنَّها أكبرُ همِّهِم ومبْلَغُ عِلمِهِم.
قولُهُ: (رحمَةً وَعَلِمًا): (رحمَةً): تمييزٌ محوَّلٌ عَنِ الفاعلِ، وكذلِكَ (وَعِلمًا)؛ لأنَّ الأصلَ: ربَّنا وسعَتْ رحمتُكَ وعلمُكَ كُلَّ شيءٍ.
وفِي الآيةِ مِنْ صفاتِ اللَّهِ: الرُّبوبيَّةُ، وعمومُ الرَّحمةِ، والعلمُ.
الآيةُ الثَّالثةُ: قولُهُ: (وَكَانَ بِالمُؤمِنِينَ رَحِيمًا) [الأحزاب: 43].
(بِالمُؤمِنِينَ): متعلِّقٌ بـ(رحيمٍ)، وتقديمُ المعمولِ يدلُّ عَلَى الحصرِ، فيكونُ معنى الآيةِ: وكَانَ بالمؤمنينَ لاَ غيرِهِم رحيماً.
ولكنْ كَيْفَ نجمعُ بينَ هذِهِ الآيةِ والَّتِي قَبْلَها: (رَبَّنَا وَسِعتَ كُلَّ شَيءٍ رَّحمَةً وَعِلمًا) [غافر: 7]؟!
نقولُ:
الرحمةُ الَّتِي هُنا غيرُ الرحمةِ الَّتِي هناك، هذِهِ رحمةٌ خاصَّةٌ
متصلةٌ برحمةِ الآخرةِ لاَ ينالُها الكفَّارُ، بخلافِ الأوْلَى، هَذَا هُوَ
الجمعُ بينهما، وإلاّ فكلٌّ مرحومٌ، لكنْ فرقٌ بينَ الرحمةِ الخاصَّةِ
والرحمةِ العامَّةِ.
وفِي الآيةِ مِنَ الصِّفاتِ: الرحمةُ.
ومِنَ الناحيةِ المسلكيَّةِ: الترغيبُ فِي الإيمانِ.
الآيةُ الرَّابعةُ: قولُهُ: (وَرَحمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيءٍ) [الأعراف: 156]:
يقولُ -جلَّ جلالَهُُ- متمدحاً مثنياً عَلَى نَفْسِهِ: (وَرَحمَتِي وَسِعَت كُلَّ شَيءٍ)، فأثنى عَلَى نَفْسِهِ - عزَّ وجلَّ - بأنَّ رحمتَهُ وسَعِتْ كُلَّ شيءٍ من أهلِ السَّماءِ ومِنْ أهلِ الأرضِ.
ونقولُ فِيهَا: مَا قلنْا فِي الآيةِ الثَّانِيَةِ، فليُرْجَعْ إليْهِ.
الآيةُ الخامسةُ: قولُهُ: (كَتَبَ رَبُّكُم عَلَى نَفسِهِ الرَّحمَةَ) [الأنعام: 54]:
(كَتَبَ):
بمعنى: أوجبَ عَلَى نَفْسِه الرحمةَ، فاللَّهُ - عزَّ وجلَّ - لكرمِهِ
وفضْلِهِ وجودِهِ أوجبَ عَلَى نَفْسِهِ الرحمةَ، وجعلَ رحمتَهُ سابقةً
لغضبِهِ، (وَلَو يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهرِهَا مِن دَابِةٍ) [فاطر: 45]، لكنَّ حلمَهُ ورحمتَهُ أوجبتْ أنْ يُبقيَ الخلقَ إِلَى أجلٍ مُسمًّى.
ومِنْ رحمتِهِ مَا ذكرَهُ بقولِهِ: (أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُم سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعدِهِ وَأَصلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [الأنعام: 54]: هذِهِ مِنْ رحمتِهِ.
(سُوءاً): نكرةٌ فِي سياقِ الشرطِ، فتعمُّ كُلَّ سوءٍ، حَتَّى الشِّركَ.
(بِجَهَالَةٍ)،
يعني: بسَفِهٍ، وليسَ المرادُ بِها عدمُ العِلمِ، والسَّفَهُ عدمُ
الحكمةِ؛ لأنَّ كُلَّ مَنْ عصَى اللَّهَ فقدْ عصاه بجهالةٍ وسَفَهٍ وعدمِ
حكمةٍ.
(ثُمَّ تَابَ مِن بَعدِهِ وَأَصلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ): فيغفرُ ذنبَهُ ويرحمُهُ.
ولَمْ
يَخْتِم الآيةَ بهَذَا إِلاَّ سينالُ التَّائبُ المغفرةَ والرَّحمةَ،
هَذَا مِنْ رحمتِهِ الَّتِي كَتَبَها عَلَى نَفْسِهِ، وإلاَّ، لكَانَ
مقتضَى العدلِ أنْ يؤاخذَهُ عَلَى ذنبِهِ، ويجزيَهُ عَلَى عملِهِ
الصَّالحِ.
فلو
أنَّ رجلاً أذنب خمسينَ يوماً، ثُمَّ تابَ وأصلحَ خمسينَ يوماً، فالعدلُ أن
نُعذِّبَهُ عن خمسينَ يوماً، ونجازيَهَ بالثَّوابِ عَنْ خمسينَ يوماً،
لكنْ اللَّهَ - عزَّ وجلَّ - كتب عَلَى نَفْسِهِ الرحمةَ، فكلُّ الخمسينَ
يوماً الَّتِي ذهبتْ مِنَ السُّوءِ تمُحى وتزولُ بساعةٍ، وزِدْ عَلَى
ذلِكَ: (فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيّئَاتِهِم حَسَناَتٍ) [الفرقان: 70]، السَّيِّئاتُ الماضيةُ تكونُ حسناتٍ؛ لأنَّ كُلَّ حسنةٍ عنهَا توبةٌ، وكُلُّ توبةٍ فِيهَا أجرٌ.
فظهرَ بهَذَا أثرُ قولِهِ - تَعَالَى -: (كَتَبَ رَبُّكُم عَلَى نَفسِهِ الرَّحمَةَ).
وفِي الآيةِ مِنْ صفاتِ اللَّهِ: الرُّبوبيَّةُ، والإيجابُ، والرحمةُ.
الآيةُ السَّادِسةُ: قولُهُ: (وَهُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ) [يونس: 107].
اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - هُوَ الغفورُ الرَّحيمُ،
جمعَ - عزَّ وجلَّ - بين هَذَيْنِ الاسمَيْنِ؛ لأنَّ بالمغفرةِ سقوطَ
عقوبةِ الذُّنوبِ، وبالرحمةِ حصولَ المطلوبِ، والإنسانُ مفتقرٌ إِلَى هَذَا
وهَذَا، مفتقرٌ إِلَى مغفرةٍ يَنْجُو بِها مِن آثامِهِ، ومفتقرٌ إِلَى
رحمةٍ يُسْعَدُ بِها بحصولِ مطلوبِهِ.
فـ(الغَفُورُ):
صيغةُ مبالغةٍ، مأخوذةٍ من الغَفْرِ، وهُوَ السَّتْرُ مَعَ الوقايةِ؛
لأنَّهُ مأخوذٌ من المغفرِ، والمغفرُ: شيءٌ يُوضَعُ عَلَى الرَّأسِ فِي
القتالِ يقِي مِنَ السِّهامِ، وَهَذَا المغفرُ تحصلُ بِهِ فائدتان: هما
سترُ الرَّأسِ والوقايِةُ: فـ(الغَفُورُ): الَّذِي يسترُ ذنوبَ عبادِهِ، ويَقِيهِم آثامَها بالعفوِ عَنْها.
ويدلُّ عَلَى هَذَا مَا ثبتَ فِي الصَّحيحِ:
((أَنَّ اللَّهَ - عزَّ وجلَّ - يَخْلُو يَوْمَ القِيَامَةِ بِعَبْدِهِ،
وَيُقَرِّرهُ بِذنوبِهِ، يقولُ: عَمِلْتَ كَذا، وَعَمِلْتَ كَذا … حَتَّى
يُقِرَّ، فَيَقُولُ اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - لَهُ: قَدْ سترتُها عَلَيْكَ
فِي الدُّنيا، وَأَنَا أَغْفِرُها لَكَ اليَوْمَ)).
أمَّا (الرَّحِيمُ)، فَهُوَ ذُو الرَّحمةِ الشَّاملةِ، وسَبَقَ الكلامُ فِي ذلِكَ.
وفِي الآيةِ مِنَ الأسماءِ: الغفورُ، والرَّحيمُ. ومِنَ الصِّفاتِ: المغفرةُ، والرَّحمةُ.
الآيةُ السَّابعةُ: قولُهُ: (فَاللَّهُ خَيرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرحَمُ الراَّحِمِينَ) [يوسف: 64].
قالَهَُا
يعقوبُ حينَ أرسلَ مَعَ أبنائِهِ أخا يوسفَ الشَّقِيقَ؛ لأنَّ يوسفَ -
عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ - قالَ: لاَ كيلَ لكم إِذَا رجعْتُم، إلاَّ
إِذَا أتيتْمُ بأخيكُم، فبلَّغوا والدَهُم هذِهِ الرِّسالةَ، ومِنْ أجلِ
الحاجةِ أرسَلَهُ مَعَهُم، وقَالَ لَهُم عندَ وداعِهِ: (هَل ءاَمَنُكُم عَلَيهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُم عَلَى أَخِيهِ مِن قَبلُ، فَاللَّهُ خَيرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرحَمُ الرَّاحِمِينَ) [يوسف: 64]، يعني: لنْ تحفظوهُ، ولكنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يحفظُهُ.
(خَيرٌ حَافِظًا): (حَافِظًا): قَالَ العلماءُ: إنَّها تمييزٌ، كقولِ العربِ: لِلَّهِ دَرُّهُ فارساً. وقِيلَ:: إنَّها حالٌ مِنْ فاعلِ (خَيرٌ) فِي قولِهِ: (فَاللَّهُ خَيرٌ)، أيْ: حالَ كونِهِ حافظًا.
الشَّاهِدُ مِنَ الآيةِ هُنَا قولُهُ: (وَهُوَ أَرحَمُ الرَّاحمِينَ)،
حَيْثُ أثبتَ لِلَّهِ - عزَّ وجلَّ - الرَّحمةَ، بلْ بيَّنَ أنَّهُ أرحمُ
الرَّاحمينَ، لو جُمِعتْ رحمةُ الخلْقِ كُلِّهم، بلْ رحماتُ الخلْقِ
كُلِّهِمْ، لكانتْ رحمةُ اللَّهِ أشدَّ وأعظمَ.
أرحمُ
مَا يكونُ مِنَ الخلقِ بالخلقِ رحمةُ الأمِّ ولدَها، فإنَّ رحمةَ الأمِّ
ولدَها لاَ يُساويهَا شيءٌ مِنْ رحمةِ النَّاسِ أبداً، حَتَّى الأبُ، لاَ
يرحمُ أولادَهُ مثلَ أُمِّهِم فِي الغالبِ.
جاءَتْ
امرأةٌ فِي السَّبْيِ تطلبُ ولدَها وتبحثُ عَنْهُ، فلمَا رأَتْهُ،
أخذَتْهُ بشَفقةٍ وضمَّتْه إِلَى صدرِها أمامَ النَّاسِ وأمامَ الرَّسولِ -
عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ -، فقَالَ النَّبيُّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أَتَرَوْنَ أَنَّ هذِهِ
المَرْأَةَ طَارِحَةً وَلَدَها فِي النَّارِ؟)). قالوا: لاَ وَاللَّهِ يا
رسولَ اللَّه، قالَ: ((لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هذِهِ
بِوَلَدِها)).
جلَّ جلالُهُ، وعزَّ مُلكُهُ وسلطانُهُ.
كُلُّ الرَّاحميِنَ إِذَا جُمِعتْ رحماتُهُم كُلُّهُم، فليسَتْ بشيءٍ عندَ رحمةِ اللَّهِ.
ويدلُّكَ
عَلَى هَذَا: أنَّ اللَّهَ - عزَّ وجلَّ - خلَقَ مائةَ رحمةٍ، وضعَ مِنْها
رحمةً واحدةً يتراحمُ بها الخلائقُ فِي الدُّنْيَا.
كلُّ
الخلائقِ تتراحمُ، البهائِمُ والعقلاءُ، وَلِهَذَا تجدُ البعيرَ الجَموحَ
الرَّموحَ ترفعُ رِجلَها عن ولدِها مخافةَ أنْ تصيبَهُ عندمَا يرضعُ،
حَتَّى يرضعَ بسهولةٍ ويسرٍ، وكذلِكَ تجدُ السِّباعَ الشَّرِسَةَ تجدُها
تحنُّ عَلَى ولدِها، وإِذَا جاءَها أحدٌ فِي جُحرِها مَعَ أولادِها،
تَرْمِي نَفْسَها عَلَيْهِ، فتُدافِعُ عَنْهُم، حَتَّى تَرُدَّهُ عن
أولادِها.
وقدْ دلَّ عَلَى ثبوتِ رحمةِ اللَّهِ - تَعَالَى -: الكتابُ، والسُّنَّةُ، والإجماعُ، والعقلُ.
فأمَّا الكتابُ، فجاءَ بهِ إثباتُ الرَّحمةِ عَلَى وجوهٍ متنوعةٍ: تارةً بالاسمِ، كقولِهِ: (وَهُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ) [يونس: 107]، وتارةً بالصِّفةِ، كقولِهِ: (وَرَبُّكَ الغَفُورُ ذُو الرَّحمَةِ) [الكهف: 58]، وتارةً بالفعلِ، كقولِهِ: (يُعَذّبُ مَن يَشَاءُ وَيَرحَمُ مَن يَشَاءُ) [العنكبوت: 21]، وتارةً باسمِ التَّفضيلِ، كقولِهِ: (وَهُوَ أَرحَمُ الرَّاحِمِينَ) [يوسف: 92].
وبمثلِ هذِهِ الوجوِهِ.. جاءَتْ السُّنَّةُ.
وأمَّا الأدلَّةُ العقليَّةُ
عَلَى ثبوتِ الرَّحمةِ لِلَّهِ - تَعَالَى -، فَمِنْها مَا نرى مِنَ
الخيراتِ الكثيرةِ الَّتِي تحصلُ بأمرِ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ -، ومِنْهَا
مَا نرى مِنَ النِّقمِ الكثيرةِ الَّتِي تندفعُ بأمرِ اللَّهِ، كلَّهُ
دالٌّ عَلَى إثباتِ الرَّحمةِ عقلاً.
فالنَّاسُ
فِي جدبٍ وفِي قحطٍ، الأرضُ مجدبةٌ، والسَّماءُ قاحطةٌ، ولاَ مطرَ، ولاَ
نباتَ، فَيُنـزِلُ اللَّهُ المطرَ، وتنبتُ الأرضَ، وتشبعُ الأنعامُ، ويسقِي
النَّاسُ.. حَتَّى العامِّيُّ الَّذِي لَمْ يدرسْ، لو سألْتَهُ وقلْتَ:
هَذَا مِنْ أيِّ شيءٍ؟ فسيقولُ: هَذَا مِنْ رحمةِ اللَّهِ، ولاَ يشكُّ أحدٌ
فِي هَذَا أبداً.
فرحمةُ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ - ثابتةٌ بالدَّليلِ السَّمعيِّ والدَّليلِ العقلِيِّ.
وأنكَرَ الأشاعرةُ وغيرُهُم مِنْ أهلِ التَّعطيلِ أنْ يكونَ اللَّهُ - تَعَالَى - متَّصفاً بالرَّحمةِ، قالوا: لأنَّ العقلَ لَمْ يدلَّ عَلَيْها، وثانيًا:
لأنَّ الرَّحمةَ رقَّةٌ وضَعفٌ وتطامنٌ للمرحومِ، وَهَذَا لاَ يليقُ
باللَّهِ - عزَّ وجلَّ -؛ لأنَّ اللَّهَ أعظمُ مِنْ أنْ يرحمَ بالمَعْنَى
الَّذِي هُوَ الرَّحمةُ، ولاَ يمكنُ أنْ يكونَ لِلَّهِ رحمةٌ!! وقالوا: المرادُ بالرحمةِ: إرادةُ الإحسانِ، أو الإحسانُ نَفْسُهُ، أيْ: إمَّا النِّعمُ، أوْ إرادةُ النِّعمِ.
فتأملْ
الآنَ كَيْفَ سَلَبُوا هذِهِ الصِّفةَ العظيمةَ، الَّتِي كُلُّ مؤمنٍ
يَرجُوها ويؤمِّلُهَا، كُلُّ إنسانٍ لوْ سألْتَهُ: مَاذَا تريدُ؟ قالَ:
أريدُ رحمةَ اللَّهِ، (إِنَّ رَحمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ المُحسِنِينَ) [الأعراف: 56]. أنكروا هَذَا، قالوا: لاَ يمكنُ أنْ يوصفَ اللَّهُ بالرحمةِ!!
ونَحْنُ نردُّ عليْهِم قولَهُم مِنْ وجْهَيْنِ: بالتَّسليمِ، والمنعِ:
التسليمُ
أنْ نقولَ: هبْ أنَّ العقلَ لاَ يدلُّ عَلَيْها، ولكنَّ السَّمعَ دلَّ
عَلَيْهِا، فثبتَتْ بدليلٍ آخرَ، والقاعدةُ العامَّةُ عندَ جميعِ العقلاءِ:
أنَّ انتفاءَ الدَّليلِ المعيَّنِ لاَ يستلزمُ انتفاءَ المدلولِ؛ لأنَّهُ
قدْ يثبتُ بدليلٍ آخرَ، فهبْ أنَّ الرحمةَ لَمْ تَثْبُتْ بالعقلِ، لكن
ثَبَتَتْ بالسَّمعِ، وكَمْ من أشياءَ ثبتَتْ بأدلَّةٍ كثيرةٍ.
أمَّا المنعُ،
فنقولُ: إنَّ قولَكُمْ: إنَّ العقلَ لاَ يدلُّ عَلَى الرَّحمةِ: قولٌ
باطلٌ، بلْ العقلُ يدلُّ عَلَى الرحمةِ، فهذِهِ النِّعمُ المشهودةُ
والمسموعةُ، وهذِهِ النِّقَمُ المدفوعةُ، مَا سببُها؟! إنَّ سببَها
الرَّحمةُ بلاَ شكٍّ، ولَوْ كَانَ اللَّهُ لاَ يرحمُ العبادَ مَا أعطاهُم
النِّعَمَ، ولاَ دَفعَ عَنْهُمُ النِّقَمَ!.
وَهَذَا
أمرٌ مشهودٌ، يشهدُ بهِ الخاصُّ والعامُّ، والعامِّيُّ فِي دُكَّانِهِ أوْ
سوقِهِ يعرفُ أنَّ هذِهِ النِّعمَ من آثارِ الرحمةِ.
والعجيبُ
أنَّ هؤلاءِ القومَ أَثبتُوا صفةَ الإرادةِ عَنْ طريقِ التَّخصيصِ، قالوا:
الإرادةُ ثابتةٌ لِلَّهِ - تَعَالَى - بالسَّمعِ والعقلِ، بالسَّمعِ:
واضحٌ. وبالعقلِ: لأنَّ التَّخصيصَ يدلُّ عَلَى الإرادةِ، ومعنى التَّخصيصِ
يعني: تخصيصَ المخلوقاتِ بمَا هِيَ عَلَيْهِِ يدلُّ عَلَى الإرادةِ، كونُ
هذِهِ السَّماءِ سماءً، وهذِهِ الأرضُ أرضاً، وهذِهِ النُّجومُ وهذِهِ
الشَّمسُ … هذِهِ مختلفةٌ بسببِ الإرادةِ، أرادَ اللَّهُ أنْ تكونَ
السَّماءُ سماءً فكانتْ، وأنْ تكونَ الأرضُ أرضاً فكانتْ، والنَّجمُ نجماً
فكَانَ … وهَكذَا.
قالوا: فالتَّخصيصُ يدلُّ عَلَى الإرادةِ؛ لأنَّهُ لولاَ الإرادةُ لكَانَ الكُلُّ شيئًا واحداً.
نقولُ
لَهُم: يا سُبْحَانََ اللَّهِ العظيمِ! هَذَا الدَّليلُ عَلَى الإرادةِ
بالنِّسبةِ لدلالةِ النِّعمِ عَلَى الرَّحمةِ أَضْعَفُ وأخْفَى مِنْ دلالةِ
النعمِ عَلَى الرحمةِ؛ لأنَّ دلالةَ النعمِ عَلَى الرحمةِ يستوي فِي
عِلمِها العامُّ والخاصُّ، ودلالةُ التَّخصيصِ عَلَى الإرادةِ لاَ يعرفُها
إِلاَّ الخاصُّ من طلبةِ العلمِ، فكَيْفَ تنكرونَ مَا هُوَ أجْلَى
وتُثبتونَ مَا هُوَ أخْفَى؟! وهلْ هَذَا إِلاَّ تناقضٌ مِنْكُمْ؟!
مَا نستفيدُهُ مِنَ النَّاحيةِ المسلكيَّةِ فِي هذِهِ الآياتِ:
الأمرُ
المسلكيُّ: هُوَ أنَّ الإنسانَ مَا دامَ يعرفُ أنَّ اللَّهَ - تَعَالَى -
رحيمٌ، فسوفَ يتعلقُ برحمةِ اللَّهِ، ويكونُ منتظرًا لَهُا، فيحمِلُهُ
هَذَا الاعتقادُ عَلَى فعلِ كُلِّ سببٍ يُوصلُ إِلَى الرَّحمةِ، مثلُ:
الإحسانِ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - فِيهِ: (إِنَّ رَحمَتَ اللَّهِ قَريبٌ مِنَ المُحسِنِينَ) [الأعراف: 56]، والتَّقْوى، قَالَ - تَعَالَى -: (فَسَأَكتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤتُونَ الزَّكَاةَ وَ الَّذِينَ هُم بِئَايَتِنَا يُؤمِنُونَ) [ الأعراف: 156]، والإيمانُ، فإنَّهُ منْ أسبابِ رحمةِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: (وَكَانَ بِالمُؤمِنِينَ رَحِيمًا) [الأحزاب: 43]، وكُلَّمَا كَانَ الإيمانُ أَقْوَى كانَتِ الرَّحمَةُ إِلَى صاحبِهِ أقربُ بإذنِ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ -).
الروضة الندية للشيخ: زيد بن عبد العزيز بن فياض رحمه الله
المتن:
قال أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (ثبات صفة الرحمة والمغفرة *
وقَوْلُهُ :({بِسْمِ
اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}،{رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً
وَعِلْماً}، {وَكَانَ بِالمُؤمِنينَ رَحِيماً}، {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ
شَيْءٍ}، {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}،{وَهُوَ الغَفُورُ
الرَّحِيمُ}،{فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}) ).
الشرح:
قال الشيخ زيد بن عبد العزيز بن فياض (ت: 1416هـ): (في هذه الآياتِ إثباتُ صفَتَيِ الرَّحْمَةِ والمغفرةِ لِلَّهِ. وفيها الردُّ على الجَهْمِيَّةِ، والمعتزِلةِ ونحوِهما وقولُه :{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}. قَالَ ابنُ عباسٍ :{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} اسمانِ رَقيقانِ أحدُهما أرَقُّ مِن الآخَرِ- أي أوْسَعُ رحمةً .
"وأسماءُ
الرَّبِّ تَعَالَى هي أسماءُ ونُعوتٌ فإنها دالَّةٌ على صِفَاتِ كمالِه ،
فلا تَنافِيَ فيها بين الوصفيَّةِ والعَلَميَّةِ ، فالرَّحْمَنُ اسمُه
تَعَالَى ووصْفُه ، لا تُنافِي اسمِيَّتُه وصْفِيَّتَه ، فمِن حَيْثُ هو
صفةٌ جَرى تابعاً على اسمِ اللَّهِ : ومِن حَيْثُ هو اسمٌ وَرَدَ في
القرآنِ غيرَ تابِعٍ ، بل وُرودَ الاسمِ العَلَمِ . ولمَّا كانَ هذا الاسمُ
مختَصًّا به تَعَالَى حسُنَ مَجِيئُه مُفْرداً غيرَ تابعٍ ، كمَجِيءِ اسمِ
اللَّهِ كذلك . وهذا لا يُنافِي دلالتَه على صفةِ الرَّحْمَنِ كاسمِ
اللَّهِ ، فإنَّه دَالٌّ على صفةِ الألوهيَّةِ ، ولم يجيءْ قطُّ تابعاً
لغيرِه بل مَتبوعاً ، وهذا بخلافِ العليمِ والقديرِ والسَّميعِ والبصيرِ
ونحوِها . ولهذا لا تَجِيءُ هذه مُفْرَدَةً ، بل تابِعَةً ، فتأَمَّلْ هذه
النُّكتَةَ البديعةَ يَظْهَرْ لكَ بها أنَّ الرَّحْمَنَ اسمٌ وصِفَةٌ لا
يُنافِي أحدُهما الآخَرَ ، وجاءَ استِعمالُ القرآنِ بالأمْرَيْنِ جميعاً ،
وأمَّا الجَمْعُ بينَ الرَّحْمَنِ الرحيمِ ففيه معنًى أحسنُ مِن
المعنيَيْنِ الَّذَيْنِ ذَكَرَهُما ، وهو أنَّ الرَّحْمَنَ دالٌّ على
الصِّفَةِ القائمةِ به سُبْحَانَهُ والرحيمَ دالٌّ على تعلُّقِها
بالمَرحومِ ، فكان الأوَّلُ للوصْفِ ، والثَّاني للفعلِ ، فالأوَّلُ دالٌّ
على أنَّ الرَّحْمَةَ صِفَتُه ، والثَّاني دالٌّ على أنه يَرحَمُ خلْقَه
برحمَتِه ، وإذا أردْتَ فَهْمَ هذا فتأمَّلْ قولَه :{ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً } { إِنَّه بهُمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } ولم يَجِئْ قطُّ رحمنٌ بِهِمْ فعُلِمَ أنَّ {رَحْمَنٌ} هو المَوصوفُ بالرَّحْمَةِ و {رَحِيمٌ} هو الرَّاحِمُ برحمَتِه .
والكتابةُ تكونُ شرعيَّةً، وتكونُ كَوْنيَّةً ، فالكتابةُ الشرعيَّةُ الأمْرِيَّةُ كقولِه تَعَالَى :{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}؛{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} والكَوْنيَّةُ القدَريَّةُ كقوله :{كَتَبَ
اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِي} {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي
الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ
الصَّالِحُونَ} {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ
يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} والكتابةُ في قوله :{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} كتابةٌ كَوْنيَّةٌ قدَريَّةٌ .
فقد كَتَبَ اللَّهُ على نفْسِه الرَّحْمَةَ تفضُّلاً منه ، وإحساناً مِن غيرِ أنْ يُوجِبَها عليه أَحدٌ ، كما قِيلَ :
مَا لِلْعِبادِ عَلَيْهِ حَقٌّ وَاجـِبٌ كَلاَّ وَلاَ سَعْـىٌ لَدَيْهِ ضَائِعُ
إِنْ عُذِّبُوا فَبِعَدْلِهِ أَوْ نُعِّمُـوا فَبِفَضْلِهِ وَهْوَ الْكَرِيمُ الْوَاسِعُ
"وإذا
كان مَعْقولاً مِن الإنسانِ أنْ يُوجِبَ على نفْسِه ويُحرِّمَ ، ويأمُرَها
ويَنْهاها مَعَ كَوْنِه تحتَ أمْرِ غيرِه ونَهْيِه ، فالآمِرُ النَّاهي
الَّذِي لَيْسَ فوقَه آمِرٌ ولا ناهٍ كَيْفَ يَمتَنِعُ في حقِّه أنْ
يُحَرِّمَ على نفْسِه ، ويَكتُبَ على نفْسِه ؟ وكتابَتُه على نفْسِه
سُبْحَانَهُ تستلِزمُ إرادَته لِمَا كتَبَه ومحبَّتَه له ، ورِضاه به ،
وتحرِيمُه على نفْسِه ، يستلْزِمُ بُغْضَه لِمَا حرَّمَه وكرَاهَتَه له
وإرادةَ أنْ لا يفعَلَه ، فإنَّ محبَّتَه للفِعْلِ تقتضي وُقوعَه منه ،
وكراهَتَه لأنْ يفعَلَه تمنَعُ وقُوعَه منه ، وهذا غيرُ ما يحِبُّه
سُبْحَانَهُ مِن أفعالِ عِبادِه ويكرَهُه فإنَّ مَحبَّةَ ذلك منهم لا
تستلْزِمُ وقوعَه ، وكراهَتَه منهم لا تمنَعُ وُقوعَه . ففَرْقٌ بين فِعلِه
هو سُبْحَانَهُ وبين فِعلِ عِبادِه الَّذِي يقَعُ مَعَ كـراهَتِه وبُغضِه
له ويتخَلَّفُ مَعَ محبَّتِه له ورِضاهُ به بخِلافِ فِعلِه هو سُبْحَانَهُ .
فهذه أنواعٌ وذاك نَوْعٌ .
واعْلمَ أَنَّ النَّاسَ في هذا المَقامِ ثلاثُ طوائِفَ ( فطائفةٌ )
منَعَتْ أنْ يَجِبَ عليه شيءٌ أو يَحْرُمَ عليه شيءٌ بإيجابِه وتحريمِه
وَهُمْ كثيرٌ مِن مُثْبِتي القَدَرِ الَّذِين رَدُّوا أقوالَ القَدَريةِ
النُّفاةِ ، وقابَلُوهُمْ أَعْظَمَ مقابلَةٍ نَفَوْا لأجْلِها الحُكْمَ
والأسبابَ والتَّعليلَ ، وأنْ يكونَ العبدُ فاعِلاً أو مُخْتاراً .
( الطَّائفةُ الثَّانيةُ )
: بِآراءِ هَؤُلاَءِ أوْجَبُوا على الرَّب وحَرَّمُوا أشياءَ بعُقولِهم
جعلُوها شريعةً له يجِبُ عليه مُراعاتُِها مِن غيرِ أنْ يُوجِبَها هو على
نفْسِه ولا حرَّمَها ، وأوْجَبُوا عليه مِن جِنْسِ ما يَجِبُ عليهم
وحرَّمُوا عليه مِن جِنْسِ ما يحَْرُمُ عليهم ، ولذلك كانوا مُشَبِّهةً في
الأفعالِ ، والمعتزِلةُ منهم جمَعَوا بين الباطِلَيْنِ : تعطيلِ صِفَاتِه
وجَحْدِ نُعوتِ كمالِه ، والتَّشبيهِ له بخلَقْه فيما أوْجبُوه عليه
وحرَّمُوه فشبَّهُوا في أفعالِه ؛ وعطَّلُوا في صِفَاتِ كمالِه ، فجَحَدوا
بعضَ ما وصَفَ به نفْسَه مِن صِفَاتِ الكمالِ ، وسمَّوْه توحيداً ،
وشبَّهُوه بخلْقِه فيما يحْسُنُ منهم ويقْبُحُ مِن الأفعالِ . وسَمَّوْا
ذلك عدلاً ، وقالوا : نحن أهلُ العَدْلِ والتَّوْحِيدِ ، فعَدْلُهم إنكارُ
قُدْرتِه ومشيئَتِه العامَّةِ الشَّاملَةِ الَّتِي لا يَخرُجُ عنها شيءٌ
مِن الموجوداتِ ذواتِها وصفاتِها وأفْعالِها ، وتوحيدُهم إلحادُهم في
أسمائِه الحُسنى وتحريفُ معانيها عمَّا هي عليه ، فكان توحيدُهم في
الحقيقةِ تعطيلاً وعَدْلُهم شِرْكاً . وهذا مُقرَّرٌ في مَوضِعِه .
والمَقصودُ
أنَّ هذه الطَّائفةَ مُشبِّهةٌ في الأفعالِ ، مُعطِّلةٌ في الصِّفَاتِ
وهَدى اللَّهُ ( الأُمَّةَ الوَسَطَ ) فلم يَقِيسُوه بخَلْقِه ، ولم
يُشَبِّهُوه بهم في شيءٍ مِن صِفَاتِه ولا أفعالِه ، ولم يَنْفُوا ما
أثْبَتَه لنفْسِه مِن ذلك ، ولم يُوجِبوا عليه شيئاً ، ولم يحرِّموا عليه
شيئاً ؛ بل أخبَرُوا عنه بما أخبَرَ عن نفْسِه ، وشهِدَتْ قُلوبُهم ما في
ضِمْنِ ذلك الإيجابِ والتَّحريمِ مِن الحِكَمِ والغاياتِ المحمودةِ الَّتِي
يستحِقُّ عليها كمالَ الحمْدِ والثناءِ ، فإنَّ العِبادَ لا يُحصُونَ
ثناءً عليه ، بل هو كما أثْنَى على نفْسِه ، قولُه : (وهو الغفورُ الرحيمُ )
، الغفورُ مِن أسمائِه سُبْحَانَهُ ، والمغفرةُ صفَتُه . ، ومعنى الغفورِ
السَّاتِرُ للذَّنْبِ الماحِي له ، ومنه سُمِّي المغفرةَ لسَتْرِه الرَّأسَ
.
وإذا
غُفِرَ الذَّنْبُ زالَتْ عُقُوبتُه ، فإنَّ المغفِرةَ هي وِقايةُ شَرِّ
الذَّنْبِ . ومِن النَّاسِ مَن يقولُ : الغَفْرُ السَّتْرُ ، ويقولُ : إنما
سُمِّيَ المغفِرةَ والغَفَّارَ لِمَا فيه مِن معنى السَّتْرِ ، وتفسيرُ
اسمِ الغَفَّارِ بأنه الستَّارُ ، وهذا تقصيرٌ في معنى الغَفْرِ ، فإنَّ
المغفِرةَ معناها وِقايةُ شَرِّ الذَّنْبِ بحَيْثُ لا يُعاقَبُ على
الذَّنْبِ ، فمَن غُفِرَ ذنْبُه لم يُعاقَبْ عليه ، وأمَّا مُجرَّدُ
سَتْرِه فقد يُعاقَبُ عليه في الباطِنِ ، ومَن عُوقِبَ على الذَّنْبِ
باطِناً أو ظاهِراً فلم يُغْفَـرْ له ، وإنما يكونُ غُفْرانُ الذَّنْبِ إذا
لم يُعَاقَبْ عليه العُقوبَةَ المستَحَقَّةَ بالذَّنْبِ .
وقد أنْكَرَ الجَهْمِيَّةُ والمعتزِلةُ ومَن تَبِعَهُم صِفَةَ الرَّحْمَةِ والمغفرةِ ، وقالوا :
الرَّحْمَةُ ضَعْفٌ وخَوَرٌ في الطَّبيعةِ وتأَلُّمٌ على المَرحومِ ،
وبذلك نَفَوْا صِفَةً لِلَّهِ ثابِتةً ، وهذا الزعْمُ باطِلٌ مِن وُجوهٍ .
أمَّا أوَّلا : فَلأنَّ الضَّعفَ والخَوَرَ مَذْمومٌ مِن الآدمِيِّينَ ، والرَّحْمَةُ ممدوحةٌ ، وقد قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :{ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْمَرْحَمَةِ } وقد نَهَى اللَّهُ عِبادهُ عن الوَهَنِ والحَزَنِ فَقَالَ تَعَالَى :{ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ } ونَدَبَهم إلى الرَّحْمَةِ . وقَالَ النَّبِيُّ في الحديثِ الصَّحيحِ : " لا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلاَّ مِنْ شَقِيٍّ ". وقَالَ : " مَنْ لاَ يَرْحَمْ لاَ يُرْحَمُ ". وقَالَ : " الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّماءِ "
ومُحالٌ أنْ يقولَ : لا يُنْزَعُ الضَّعفُ والخَوَرُ إلا مِن شَقِيٍّ .
ولمَّا كانتِ الرَّحْمَةُ تُقارِنُ في حقِّ كثيرٍ مِن النَّاسِ الضَّعْفَ
والخَوَرَ ، كما في رحمةِ النساءِ ونحوِ ذلك ظَنَّ الغالِطُ أنَّها كذلك
مُطْلقاً .
وأيضاً
فلو قُدِّرَ أنها في حقِّ المَخْلُوقِينَ مستلْزِمَةٌ لذلك لم يجِبْ أنْ
تكونَ في حقِّ اللَّهِ تَعَالَى مُستلْزِمَةً لذلك ، كما أنَّ العِلمَ،
والقُدْرةَ ، والسَّمْعَ ، والبَصَرَ ، والكلامَ فِينا يستلْزِمُ مِن
النقْصِ والحاجَةِ ما يجِبُ تنزيهُ اللَّهِ عنه .
وأيضاً فنحنُ نَعلَمُ بالاضطِرَارِ أنَّا إذاَ فرَضْنا مَوْجودَيْنِ :
أحدُهما يَرْحَمُ غيرَه فيجْلِبُ له المنفعةَ ويَدفَعُ عنه المَضَرَّةَ،
والآخَرُ قد اسْتَوَى عندَه هذا وهذا ، ولَيْسَ عندَه ما يَقتضي جَلْبَ
منفعةٍ ولا دَفْعَ مَضَرَّةٍ ، كان الأوَّلُ أَكْمَلَ .
وبعضُهم
تأوَّلَ الرَّحْمَةَ بمعنى إرادةِ الإحسانِ ، والحقُّ إثباتُ صفةِ
الرَّحْمَةِ حقيقةً على ما يَليقُ بجَلالِه تَعَالَى ، كما يُقالُ في
سائِرِ الصِّفَاتِ "والرَّحْمَةُ لا تنْفَكُّ عن إرادةِ الإحسانِ ، فهي
مستلْزِمةٌ للإحسانِ أو إرادَتِه استلْزَِامَ الخاصِّ للعامِّ . فكما
يَستحِيلُ وُجودُ الخاصِّ بدُون العامِّ فكذلك الرَّحْمَةُ بدُون الإحسانِ
أو إرادتِه يَستحِيلُ وُجودُها ،
ومنهم مَن تأوَّلَ الرَّحْمَةَ بمعنى الثوابِ :"واللَّهُ سُبْحَانَهُ فرَّقَ بينَ رحمتِه ورِضْوانِه وثوابِه المُنْفَصِلِ فَقَالَ تَعَالَى :{ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ }
فالرَّحْمَةُ والرِّضوانُ صفَتُه والجَنةُ ثَوابُه . وهذا يُبطِلُ قولَ
مَن جَعَلَ الرَّحْمَةَ والرِّضوانَ ثواباً مُنْفصِلاً مَخْلوقاً ، وقولَ
مَن قَالَ : هي إرادتُه الإحسانَ ، فإنَّ إرادتَه الإحسانَ هي مِن لوازِمِ
الرَّحْمَةِ ، فإنه يَلزَمُ مِن الرَّحْمَةِ أنْ يُريدَ الإحسانَ إلى
المَرحُومِ ، فإذا انتَفَتْ حقيقةُ الرَّحْمَةِ انْتَفى لازِمُها ، وهو
إرادةُ الإحسانِ . وكذلك لفظُ اللعنةِ والغضَبِ والمَقْتِ هي أمورٌ
مستلْزِمةٌ للعُقوبةِ ، فإذا انتفَتْ حقائقُ تلكَ الصِّفَاتِ انتفى
لازِمُها ، فإنَّ ثُبوتَ لازمِ الحقيقةِ مَعَ انتفائِها مُمْتَنِعٌ ،
فالحقيقةُ لا تُوجَدُ مُنْفَكَّةً عن لوازِمِها .
وَاعْلَمْ أنَّ الرَّحْمَةَ المُضافةَ إلى اللَّهِ نوعانِ :
أحدُهما : مُضافٌ إليه إضافةَ مَفْعولٍ إلى فاعِلِه .
والثَّاني: مُضافٌ إليه إضافةَ صفةٍ إلى الموصوفِ بها فمِن الأوَّلِ قولُه في الحديثِ الصَّحيحِ :"احْتَجَّتِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ" .(فذَكَرَ الحديثَ ) وفيه : " فَقَالَ لِلْجَنَّةِ إِنَّمَا أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ "
فهذه رحمةٌ مَخلوقةٌ مضافةٌ إليه إضافةَ المخلوقِ بالرَّحْمَةِ إلى
الخالِقِ تَعَالَى، وسمَّاها رحمةً ؛ لأنَّها خُلِقَتْ بالرَّحْمَةِ
وللرَّحمةِ ، وخَصَّ بها أهلَ الرَّحْمَةِ ، وإنما يدْخُلُها الرحماءُ ،
ومنه قولُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
"خَلَقَ اللَّهُ الرَّحَمْةَ يَوْمَ خَلَقَهَا مِائَةَ رَحْمَةٍ ، كُلُّ
رَحْمَةٍ مِنْهَا طِبَاقُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ". ومنه قولُه تَعَالَى :{وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً} ومنه تسمِيَتُه تَعَالَى للمَطَرِ رحمةً بقوله :{وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرَاً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } وعلى
هذا فلا يَمْتَنِعُ الدُّعَاءُ المشهورُ بين النَّاسِ قديماً وحديثاً ،
وهو قولُ الدَّاعِي : اللَّهُمَّ اجْمَعْنَا في مُسْتَقَرِّ رحمَتِكَ ؛
لِأنَّ مُرادَ الدَّاعِي بالرَّحْمَةِ الجَنةُ .
وقَالَ
فِي "إبطالِ التَّنديدِ شَرْحِ كتابِ التَّوْحِيدِ" : غَلِطَ بعضُ
المتأخِّرينَ في تفسيرِ الرَّحْمَنِ بكمالِ الإِنْعَامِ ، والرحيمِ بما
دُونَ الكمالِ ، وَبإرادةِ الإِنْعَامِ فَإِنَّ ذلك مَذْهَبُ أهلِ
التَّأويلِ الباطِلِ مِن الجَهْمِيَّةِ المبتدعةِ . ذكَرَ معناه شيخُنا
الشَّيْخُ عبدُ الرَّحْمَنِ بنُ حسنٍ حَفِيدُ المُصَنِّفِ . اهـ).
التنبيهات السنية للشيخ: عبد العزيز بن ناصر الرشيد رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (قَوْلُهُ: ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيْمِ ).(1)
( رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً )، وقوله: (وَكَانَ بِالمُؤمِنينَ رَحِيماً )، وقوله: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ).(2)
قوله: ( كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ وَهُوَ الغَفُورُ الرَّحِيْمُ ).(3)
( فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ).(4) ).
الشرح:
قال الشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد (ت: 1408هـ): ( (1) قولُه: (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيْمِ):
الباءُ في بسمِ اللهِ لِلاستعانةِ، وهي متعلِّقةٌ بمحذوفٍ، والتَّقديرُ
أبْتَدئُ أو أُؤَلِّفُ على حسَبِ ما يُضْمِرُه المُتكَلِّمُ، والاسمُ
مشتقٌّ مِن السُّمُوِّ وهو العُلوُّ أو مِن السِّمَةِ وهي العلامةُ، ولفظُ
الجلالةِ مشتقٌّ من أَلِهَ، ومعنى كونِه مُشتقـًّا أنَّه دالٌّ على صفةٍ هي
الألوهيَّةُ كسائرِ أسمائِه الحُسنى، كالعليمِ والسَّميعِ والبصيرِ ونحوِ
ذلك، وهو جامِعٌ لمعاني الأسماءِ الحُسنى والصِّفاتِ العُليا وَرَاجِعَةٌ
إليه.
قولُه: (الرَّحْمنِ الرَّحِيْمِ):
هما صِفتانِ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- مُشتقَّتانِ من الرَّحمةِ وهما من
أبنيةِ المُبالغةِ: والرَّحمنُ أبلغُ من الرَّحيمِ؛ لأنَّ زيادةَ
البِنَاءِ تدلُّ على زيادةِ المعنى، والرَّحمنُ خاصٌّ باللهِ -سُبْحَانَهُ
وتعالَى- لا يُسمَّى به غيرُه ولا يُوصَفُ، بخلافِ الرَّحيمِ، فيوصَفُ به
غيرُه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- فيقالُ رجلٌ رحيمٌ، والرَّحمةُ صفةٌ من صفاتِ
اللهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- اللائقةِ بجلالِه وعظمتِه، فيجبُ أنْ يُوصفَ
بها كما وَصَفَ بها نفسَه وَوَصَفَهُ بها رسولُه -صلَّى اللهُ عليهِ
وسلَّمَ- بخلافِ ما عليه أهلُ البدعِ، الَّذين نَفَوا هذه الصِّفةَ
وَأَوَّلُوها، كمن يُؤِوِّلُهَا بِالإنْعَاِم، أو بإرادةِ الإنعامِ، إلى
غيِرِ ذلك من التَّأويلاتِ الفاسدةِ، فالرَّحمةُ ثابتةٌ للهِ -سُبْحَانَهُ
وتعالَى- كغيرِهَا من الصِّفاتِ، سواءٌ كانَتْ ذاتيَّةً كالعلمِ والحياةِ،
أو فِعْليَّةً كالرَّحمةِ الَّتي رَحمَ بها عبادَهُ، فكلُّها صفاتٌ قائمةٌ
به -سُبْحَانَهُ- ليست قائمةً بغيرِه، فَيُوصَفُ بها -سُبْحَانَهُ وتعالَى-
حقيقةً كما يليقُ بجلالِه.
وقد اجتمَعَ في (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِِ) أنواعُ التَّوحيدِ الثَّلاثةُ: توحيدُ الرُّبوبيَّةِ، وتوحيدُ الألوهيَّةِ، وتوحيدُ الأسماءِ والصِّفاتِ،
وكذلك قد اجتمعَ فيها أنواعُ الخَفْضِ الثَّلاثةُ فَبِسْمِ مَخْفُوضٌ بالحرفِ، ولفظُ الجلالةِ مَخْفُوضٌ بالإضافةِ، والرَّحمنِ الرَّحيمِ مَخْفُوضَانِ بِالتَّبَعِيَّةِ.
قال ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ: وتضمَّنتْ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) إثباتَ النُبُوَّاتِ من جهاتٍ عديدةٍ:
(الأوَّلِ): من اسمِ اللهِ وهو المَأْلُوهُ المَعْبُودُ، ولا سبيلَ إلى معرفةِ عبوديَّتِه إلا مِن طريقِ رُسُلِهِ.
(الثَّاني):
من اسمِه الرَّحمنِ، فإنَّ رحمتـَه تَمْنَعُ إهمالَ عبادِه وعدمَ
تَعْرِيفِهم ما يَنَالُونَ به غايةَ السَّعادةِ، فَمَنْ أَعْطى هذا الاسمَ
حَقَّهُ عَرَفَ أنَّه مُتَضَمِّنٌ لإرسالِ الرُّسلِ، وإنزالِ الكتبِ،
أَعْظَمَ من تَضَمُّنِهِ عِلْمَ إنزالِ الغَيْثِ، وإنباتِ الكَلاء وإخراجِ
الحبِّ، فاقْتِضَاءُ الرَّحمةِ لِما يَحْصُلُ بِهِ حياةُ القلوبِ والأرواحِ
أعظمُ من اقْتِضَائِها ما يحصلُ به حياةُ الأبدانِ والأشباحِ. انتهى
((مدارجُ)).
وقال في البَدَائِعِ: (الرَّحْمنِ): دالٌّ على الصِّفةِ القائمةِ به سُبْحَانَهُ، وَ (الرَّحِيْمِ) دالٌّ على تَعَلُّقِهَا بالمَرْحومِ، كما قال تعالى: (وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا) ولم يَجئْ قَطُّ رَحْمَنٌ بِهِمْ، فكانَ الأوَّلُ للوصفِ، والثَّاني للفعلِ،
فالأوَّلُ: دَالٌّ على أنَّ الرَّحمةَ وَصْفُهُ،
والثَّاني دَالٌّ على أنَّه يَرْحَمُ خلقَه برحمتِه. انتهى.
(2) قولـُه: (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا)
أي وَسِعَتْ رَحْمَتُكَ وَعِلْمُكَ كلَّ شيءٍ، فما من مُسلمٍ ولا كافرٍ
إلا وهو متقلِّبٌ في نِعمتِه، فهذه الآيةُ فيها دليلٌ على إثباتِ رحمتِه
-سُبْحَانَهُ وتعالَى- ودليلٌ على سَعَتِهَا وشُمُولِها، روى الإمامُ أحمدُ
عن أبي عثمانَ، عن النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((إِنَّ
لِلَّهِ مَائَةَ رَحْمَةٍ، فَمِنْهَا رَحْمَةٌ يَتَرَاحَمُ بِهَا
الخَلْقُ، وَبِهَا تَعْطِفُ الوُحُوشُ عَلَى أَوْلاَدِهَا، وأَخَّرَ
تِسْعَةً وَتِسْعِيْن إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ)). انفردَ بإخراجِه مسلمٌ.
وقولُه -سُبْحَانَهُ- وتعالى: (وَكَانَ بِالمُؤمِنينَ رَحِيمًا) وقولُه (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ):
أي: أنَّ رحمتَهُ -سُبْحَانَهُ- عَمَّتْ وشَمِلَتْ كلَّ شيءٍ. قال الحسنُ
وقتادةُ: وَسِعَتْ رحمتُه -سُبْحَانَهُ- في الدُّنْيَا البَرَّ والفَاجِرَ،
وهي يومَ القيامةِ لِلمُتـَّقينَ خاصَّةً. فهذه الآيةُ فيها إثباتُ
الرَّحمةِ وشمولِها،
ودلَّت هذه الآيةُ وما قَبلَها على أنَّ الرَّحمةَ تنقسمُ إلى قِسمين: الأوَّلِ:
رحمةٌ عامَّةٌ وهي الرَّحمةُ المُشْتَرَكَةُ بين المسلمِ والكافرِ، فما
يَصِلُ إليه من رزقٍ وصحَّةٍ ونحوِ ذلك فكلُّه من رحمةِ اللهِ، كما في هذه
الآيةِ.
الثَّاني: رحمةٌ خاصَّةٌ بالمؤمنينَ، كما في الآيةِ الَّتي قبلَها (وَكَانَ بِالمُؤمِنينَ رَحِيمًا).
(3) قولـُه سُبْحَانَهُ: (كَتَبَ رَبـُّكمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ):
أي أَوْجَبَهَا على نفسِه الكريمةِ، تَفَضُّلاً منه وإحسانًا، كما في
الصَّحيحين من حديثِ أبي هريرةَ قالَ: قال رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ
وسلَّمَ-: ((إِنَّ اللهَ لَمَّا خَلَقَ الخَلْقَ كَتَبَ كِتَابًا عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي))، الحديثَ، فالكتابُ المذكورُ في الآيةِ هو الإِيجَابُ على نفسِه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- وكذلك ما وردَ في الحديثِ: ((وَحَقُّ العِبَادِ عَلى اللهِ))
تَفَضُّلٌ منه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- وإحسانٌ، وإلا فليسَ للعبادِ حقٌّ
واجبٌ كحقِّ المخلوقِ على المخلوقِ، كما تَزْعمُهُ المعتزلةُ،
فإنَّ المعتزلةَ تَزْعُمُ:
أنَّه واجبٌ عليه بالقياسِ على المخلوقِ، والأدلَّةُ تَرُدُّ قولَهم
عليهم، وتُبْطِلُ قولَهم، وتدلُّ على ما عليه أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ،
وهو أنَّ العبدَ لا يَسْتَوْجِبُ على اللهِ بِسَعْيِهِ نَجَاةً، ولا فَلاحًا، ولا يَدْخُلُ أحدٌ الجنَّةَ بعملِه ويقولون: إنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ- هو الَّذي كتبَ على نفسِه الرَّحمةَ، وأوجبَ الحقَّ، لم يوجبْه عليه مخلوقٌ، خلافًا للمعتزلةِ قال بعضُهم:
مَا لِلْعِبَادِ حَقٌّ عَلَيْهِ وَاجِبٌ كَلاَّ وَلاَ سَعْىٌ لَدَيْهِ ضَائِعٌ
إن عُذِّبُوا فَبِعْدَلِهِ أَوْ نُعِّمُوا فَبِفَضْلِهِ وَهُوَ الكَرَيمُ الوَاسِعُ
قال الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ رحمه اللهُ تعالى:
كونُ المُطيعِ يَسْتحقُّ الجزاءَ هو استحقاقُ إِنْعامٍ وفضلٍ، وليس هو
استحقاقُ مُقَابَلَةٍ كما يستحقُّ المخلوقُ على المخلوقِ. انتهى.
وهذا كما في حديثِ:
((لَوْ عَذَّبَ اللهُ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ
لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ لَكَانَتْ
رَحْمَتُهُ خَيرًا لَهُمْ))، والحديثِ المتقدِّمِ: ((لَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَدْخُلُ الجنَّةَ)) الحديثَ، وهذا الحديثُ لا يُنافِي قولَه: (جَزَاءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)
فإنَّ الرَّسولَ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- نَفى باءَ المُقَابَلَةِ
والمُعَادَلةِ، والقرآنُ أثبتَ باءَ التَّسَبُّبِ، فَالْمَنْفِيُّ:
اسْتَحَقَاقُهَا بِمُجَرَّدِ الأعمالِ وكونِ الأعمالِ ثَمنًا وعِوَضًا لها
كما تَزْعُمُهُ المعتزلةُ، والمُثْبَتُ كونُها سببًا لدخولِ الجنَّةِ
بتوفيقِه وهُداهُ.
(4) وقولـُه: (وَهُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ)، وقولُه: (فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ):
أي أنَّ حِفظَه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- خيرٌ من حِفظِكُم، فمَن تَوَكَّلَ
عليه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- وفَوَّضَ أمورَه إليه كَفَاهُ، وَوَقَاه،
وحفِظَه وحَمَاهُ، فلا سبيلَ لأحدٍ عليه ولا قدرةَ لأحدٍ أنْ يصلَ إليه بما
يُؤْذِيه.
ومِن أسمائِه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- الحفيظُ وهو نوعانِ:
أحدُهما: حِفْظُه على عبادِه جميعَ ما عَمِلُوا من خيرٍ وشرٍّ وطاعةٍ ومعصيةٍ.
والثَّاني: أنَّه الحافظُ لعبادهِ من جميعِ ما يَكرهونَ،
وهذا نوعانِ: أحدُهما: عامٌّ. والثَّاني: خاصٌّ.
فالأوَّلُ: حِفظُه لجميعِ المخلوقاتِ بِتَيْسِيرِ ما يَقِيتُها ونحوِ ذلك.
الثَّاني:
حِفظٌ خاصٌّ، وهو حفظُه لأوليائِه سِوى ما تقدَّمَ عمَّا يُزَلْزِلُ
إيمانَهم، ويُضعفُ يَقِينَهُمْ, وحِفْظُهم عمَّا يَضُرُّهم في دينِهِم
ودُنياهم. انتهى. مِن كلامِ ابنِ رجبٍ.
أفادتْ
هذه الآيةُ كغيرِها إثباتَ صفةِ الرَّحمةِ، وأنَّها أكملُ رحمةً، وأنَّها
حقيقةٌ لا مجازٌ، وهذا عكسُ ما عليه الجهميَّةُ وأَضْرَابُهُمْ الَّذين
نَفَوا رحمتَه -سُبْحَانَهُ-، وزعمُوا أنَّها مجازٌ، وأنَّ رحمةَ المخلوقِ
حقيقةٌ، ولا شكَّ أنَّ هذا مِن أعظمِ الإلحادِ في أسماءِ اللهِ وصفاتِه،
فإنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- أثبتَ لنفسِه هذه الصِّفاتِ ووصفَ
نفسَهُ بها، كما وَصَف بعضَ خلقِه بهذهِ الصِّفاتِ، ولكن ليستْ رحمتُه
-سُبْحَانَهُ وتعالَى- كرحمةِ المخلوقِ، ولا سمعِه، ولا بصرِه، فإنَّ اللهَ
-سُبْحَانَهُ وتعالَى- ليسَ كمثلِه شيءٌ، فاتِّفَاقُ الاسْمَيْنِ لا
يَقْضِي بِاتِّحَادِ المُسَمَّى، فإنَّه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- وَصَفَ
نفسَه بهذه الصِّفاتِ وَوَصَفَ به بعضَ خلقهِ فأثبتَ -سُبْحَانَهُ- الاسمَ
ونفى المُمَاثلةَ، فقال: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).
قالَ ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ:
وفي هذا أَظْهَرُ دليلٍ على أنَّ أسماءَ الرَّبِّ مُشتقَّةٌ من أوصافٍ
ومعانٍ قَامَتْ به، وأنَّ كلَّ اسمٍ يناسبُ ما ذُكِرَ معه واقتَرنَ به من
فعلِهِ وأمرِهِ. انتهى.
فهذه الآياتُ أفادتْ إثباتَ صفةِ الرَّحمةِ، وأنَّها حقيقةٌ لا مجازٌ،
كما أفادتْ أنَّ الرَّحمةَ المضافةَ إليه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- تنقسِمُ إلى قِسمين:
قسمٍ يُضافُ إليه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- من إضافةِ الصِّفةِ إلى الموصوفِ، كما قالَ سُبْحَانَهُ: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) وكما في الحديثِ: ((بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ)).
والثَّاني: يُضافُ إليه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- من بابِ إضافةِ المخلوقِ إلى خالقِهِ، وهي الرَّحمةُ الْمَخْلُوقَةُ كما في الحديثِ ((إِنَّ اللهَ خَلَقَ مائَةَ رَحْمَةٍ)) والحديثُ الآخرُ أنَّه قالَ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- للجنَّةِ ((أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ)) ).