11 Nov 2008
الإيمان بصفة المحبة والمودة
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وَقَوْلُهُ : {وَأَحْسِنُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [سُورَةُ البَقَرَةِ : 195] ، {وَأَقْسِطُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}[سُورَةُ الْحُجُرَاتِ : 9] ، {فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}[سُورَةُ التَّوْبَةِ : 7] ، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}[سُورَةُ البَقَرَةِ : 222] ، {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}[سُورَةُ الْمَائِدَةِ : 54] ، وَقَوْلُهُ : {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ}[سُورَةُ الصَّفِّ : 4]، وَقَوْلُهُ: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}[سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ : 31] ، {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ}[سُورَةُ البروج: 14] ).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ مُحمَّد خَليل هَرَّاس رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وقوله:
{ وأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُحْسِنينَ }، { وأَقْسِطُوا إِنَّ
اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ }، { فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ
فَاسْتَقْيِموا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ }، { إِنَّ اللهَ
يُحِبُّ التَّوَّابِيْنَ ويُحِبُّ المُتَطَهِّرينَ }، وقولُه: { قَلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُوني يَحْبِبْكُمُ اللهُ}، وقَوْلُهُ: { فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ ويُحِبُّونَهُ }، وقولُهُ: { إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذينَ يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ } (1).
وقَوْلُهُ: { وَهُوَ الغَفُورُ الوَدُودُ }).
الشرح:
قال الشيخ محمد خليل هراس (ت: 1395هـ): ((1) تضمَّنْتْ هذهِ الآياتُ إثباتَ أفعالٍ لهُ تعالى ناشئةٍ عن صفةِ المحبَّةِ،
ومحبَّةُ اللهِ عزَّ وجلَّ لبعضِ الأشخاصِ والأعمالِ والأخلاقِ صفةٌ لهُ
قائمةٌ بهِ، وهيَ مِن صفاتِ الفعلِ الاختياريةِ التَّي تتعلَّقُ بمشيئتِهِ،
فهوَ يحبُّ بعضَ الأشياءِ دونَ بعضٍ على ما تقتضيهِ الحكمةُ البالغَةُ.
وينفِي الأشاعرةُ والمعتزلةُ صفةَ المحبَّةَ؛ بِدَعْوَى أَنَّهُا تُوهِمُ نقصًا، إِذِ المحبَّةُ في المخلوقِ معناهَا ميلُهُ إلى ما يناسبُهُ أو يستلذُّهُ.
فأَمَّا الأشاعرةُ؛ فيُرجعونهَا إلى صفةِ الإِرادةِ، فيقولون: إنَّ محبةَ اللهِ لعبدِهِ لا معنى لهَا إلاَّ إرادتُهُ لإِكرامِهِ ومثوبتِهِ.
وكذلكَ يقولون في صفاتِ الرِّضَى والغضبِ والكراهيَةِ والسَّخَطْ؛ كلُّهَا عندَهُمْ بمعنى إرادةِ الثَّوابِ والعقابِ.
وأَمَّا المعتزلةُ؛
فلأنَّهمْ لا يثبتون إرادةً قائمةً بهِ، فيفسِّرون المحبةَ بأنَّهَا نفسُ
الثَّوابِ الواجبِ عندَهمْ على اللهِ لهؤلاءِ؛ بناءَ على مَذْهَبِهِمْ في
وجوبِ إثابةِ المطيعِ وعقابِ العاصِي.
وأَمَّا أهلُ الحقِّ؛ فيثبتُون المحبَّةَ صفةً حقيقيَّةً للهِ عزَّ وجلَّ على ما يليقُ بهِ، فلا تَقْتَضِي عندَهمْ نَقْصًا ولا تشبيهًا.
كمَا يثبتون لازمَ تلكَ المحبةِ، وهيَ إرادتُهُ سبحانَهُ إكرامَ مَنْ يحبُّهُ وإثابتُهُ.
وليتَ شِعْرِي بماذا يجيبُ النَّافون للمحبَّةِ عن مثلِ قولِهِ عليهِ السَّلامُ في حديثِ أبي هُرَيرَةَ: ((
إِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا؛ قالَ لِجِبْرِيلَ عليهِ السَّلامُ:
إِنِّي أُحِبُّ فُلاَنًا فَأَحِبَّهُ. قالَ: فَيَقُولُ جِبْرِيلُ عليهِ
السَّلاَمُ لأَهْلِ السَّلامِ: إِنَّ رَبَّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ يُحِبُّ
فُلاَنًا فَأَحِبُّوهُ. قالَ: فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، وَيُوضَعُ
لَهُ القَبُولُ في الأَرْضِ، وَإِذَا أَبْغَضَهُ فَمَثِيلُ ذَلِكَ ))، رواهُ الشَّيخانِ؟!.
وقولُهُ تعالى في الآيةِ الأولَى: { وأَحْسِنُوا }
أمرٌ بالإِحسانِ العامِّ في كلِّ شيءٍ، لا سِيَّما في النَّفَقَةِ
المأمورِ بهَا قبلَ ذلكَ، والإِحسانُ فيهَا يكونُ بالبذلِ وعدمِ الإِمساكِ،
أو بالتَّوسُّطِ بينَ التَّقتِيرِ والتَّبْذِيرِ، وهوَ القوامُ الذي أمرَ
اللهُ بهِ في سورةِ الفرقانِ.
رَوَى مسلمٌ في صحيحِهِ عن شَدَّادِ بنِ أَوسٍ أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلمَ قالَ:
((
إِنَّ اللهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ
فَأَحْسِنُوا القِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ،
وَلْيُحِدَّ أَحَدَكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ )).
وأَمَّا قولُهُ: { إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُحْسِنينَ }؛ فهوَ تعليلٌ للأمرِ بالإِحسانِ؛ فإنَّهمُ َإذَا علِموا أنَّ الإِحسانَ موجبٌ لمحبَّتِهِ؛ سارَعُوا إلى امتثالِ الأمرِ بهِ.
وأَمَّا قولُهُ في الآيةِ الثَّانيةِ: { وَأَقْسِطُوا}(؛
فهوَ أمرٌ بالإِقساطِ، وهوَ العدلُ في الحكمِ بينَ الطَّائفتَينِ
المتنازعتَينِ مِن المؤمنِينَ، وهوَ مِن قَسَطَ؛ إذَا جارَ، فالهمْزةُ فيهِ
للسَّلبِ، ومِن أسمائِهِ تعالى: المُقْسِطُ.
وفي الآيةِ الحثُّ على العدلِ وفضلِهِ، وأنَّهُ سبَبٌ لِمحبَّةِ اللهِ عزَّ وجلَّ.
وأَمَّا قولُهُ تعالى: { فَمَا اسْتَقَاموا لَكُمْ فَاسْتَقيموا لَهُمْ }؛
فمعناهُ؛ إذَا كانَ بينَكُمْ وبينَ أحدٍ عهدٌ كهؤلاءِ الَّذينَ
عَاهَدْتُمُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ؛ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ
على عهدِهِمْ مُدَّةَ استقامتِهِمْ لكم، فـ ( ما) هنَا مصدريَّةٌ ظرفيَّةٌ.
ثمَّ علَّلَ ذلكَ الأمرَ بقولِهِ: { إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَّقينَ }؛ أي: يحبُّ الَّذينَ يتَّقونَ اللهَ في كلِّ شيءٍ، ومنهُ عدمُ نقضِ العُهودِ.
وأَمَّا قولُهُ: { إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوابينَ … } إلخ. فهوَ إخبارٌ مِن اللهِ سبحانَهُ وتعالى عن محبتِهِ لهذين الصِّنفَينِ مِن عبادِهِ.
أَمَّا الأوَّلُ:
فهمُ التَّوابون؛ أي: الَّذينَ يُكثِرون التَّوبةَ والرُّجُوعَ إلى اللهِ
عزَّ وجلَّ بالاستغفارِ ممَّا ألـمُّوا بهِ على ما تقتضِيهِ صيغةُ
المُبالغةِ، فهمْ بكثرةِ التَّوبةِ قَدْ تطهَّروا مِن الأقذارِ
والنَّجاساتِ المعنَويَّةِ التَّي هيَ الذُّنُوبُ والمعاصِي.
وأَمَّا الثَّاني:
فهمُ المتطهِّرُون، الَّذينَ يُبَالغون في التَّطَهُّرِ، وهوَ التَّنظيفُ
بالوُضوءِ أو بالغُسلِ مِن الأحداثِ والنَّجاساتِ الحِسيَّةِ. وقيلَ:
المرادُ بالمتطهِّرين هنَا الَّذينَ يتنزَّهون مِن إتيانِ النِّساءِ في
زمنِ الحيضِ أو في أَدبارِهنَّ، والحَمْلُ على العمومِ أولى.
وأَمَّا قولُهُ تعالى: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فاتَّبِعوني يُحْبِبْكُمُ اللهُ }، فقَدْ رُوِيَ عن الحسنِ في سبَبِ نزولِهَا أنَّ قومًا ادَّعوا أنَّهمْ يُحِبون اللهَ، فأَنزلَ اللهُ هذهِ الآيةَ مِحنةً لهم.
وفي
هذهِ الآيةِ قَدْ شرطَ اللهُ لمحبَّتِهِ اتِّباعَ نبيِّهِ صَلَّى اللهُ
عليهِ وَسَلمَ، فلا ينالُ تلكَ المحبةَ؛ إلاَّ مَنْ أَحسنَ الاتِّباعَ
والاستِمْسَاكَ بهديِهِ عليهِ السَّلامُ.
(25) قولُه: { وَهُوَ الغَفُورُ … } إلخ. تَضَمَّنَتِ الآيةُ إثباتَ اسمَينِ مِن الأسماءِ الحُسنى، وهمَا: الغفورُ، والوَدودُ.
أَمَّا الأوَّلُ: فهوَ مبالغةٌ في الغَفْرِ، ومعناهُ الذي يَكْثُرُ منهُ السَّترُ على المُذنبِينَ مِن عبادِهِ، والتَّجاوزُ عن مؤُاخذاتِهم.
وأصلُ الغَفرِ: السَّترُ، ومنهُ يُقالُ: الصِّبغُ أغفرُ للوسخِ. ومنهُ: المِغْفَرُ لسُترةِ الرَّأسِ.
وأَمَّا الثَّانِي: فهوَ مِن الودِّ الذي هوَ خالصُ الحُبِّ وألطفُهُ، وهوَ إمَّا مِن فَعولٍ بمعنى فاعلٍ، فيكونُ معناهُ:
الكثيرُ الودِّ لأهلِ طاعتِهِ، والمتقرِّبُ إليهمْ بنصرِهِ لهمْ
ومعونتِهِ. وإمَّا مِن فعولٍ بمعنى مَفعولٍ، فيكونُ معناهُ: المودُودُ
لكثرةِ إحسانِهِ، المستَحِقُّ لأنْ يَوَدَّهُ خَلْقُهُ فيعبدُوهُ
ويحمدُوهُ).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ: صالح بن فوزان الفوزان
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (- إثباتُ محبَّةِ اللهِ ومودّتهِ لأوليائهِ على ما يليقُ بجلالهِ
وقوله (
وأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُحْسِنينَ )، ( وأَقْسِطُوا إِنَّ
اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ )، ( فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ
فَاسْتَقْيِموا لَهُم إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ )، ( إِنَّ اللهَ
يُحِبُّ التَّوَّابِينَ ويُحِبُّ المُتَطَهِّرينَ )، وقولُه: ( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُوني يُحْبِبْكُمُ اللهُ)، وقَوْلُهُ: ( فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ ويُحِبُّونَهُ )، وقولُهُ: ( إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذينَ يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ) وقَوْلُهُ: ( وَهُوَ الغَفُورُ الوَدُودُ ).(1)).
الشرح:
قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: ((1)لمَّا ذكر الشَّيخُ رحمه اللهُ الآياتِ التي تدلُّ عَلى إثباتِ المشيئةِ والإرادةِ، ذكر الآياتِ التي تدلُّ عَلى إثبات ِالمحبَّةِ للهِ سبحانَه،
وفي ذلك الرَّدُّ عَلى مَن سَوَّى بين المشيئةِ والمحبَّةِ، وقال: إنَّهما
متلازمتانِ، فكُلُّ ما شاء اللهُ فقد أحبَّه، وقد قَدَّمْنَا أنَّ في ذلك
تفصيلاً، فقد يشاءُ اللهُ مالا يحبُّه ككُفرِ الكافرِ وسائرِ المعاصي. وقد
يشاءُ ما يحبُّ كالإيمانِ وسائرِ الطَّاعاتِ.
وقولُه تعالى (وَأَحْسِنُوا) هذا أمرٌ مِن اللهِ تعالى بالإحسانِ، وهو الإتيانُ بالعَملِ عَلى أحسنِ أحوالهِ وأكملِهَا، والإحسانُ هو أعَلى مَقاماتِ الطَّاعةِ. (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنينَ) هذا تعليلٌ للأمرِ بالإحسانِ، فهو أَمَرَ بِهِ؛ لأنَّه يحبُّه ويحبُّ أهلَه، فيكونُ ذلك حافزًا عَلى امتثالِ الأمرِ به.وقولُه تعالى (وَأَقْسِطُوا) أمرٌ بالإقساطِ، وهو العدلُ في المعاملاتِ والأحكامِ مع القريبِ والبعيدِ (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) تعليلٌ للأمرِ بالإقساطِ، فهو أمَرَ به؛ لأنَّه (يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) أي العادلين ومحبَّتُه سبحانَه لهم تستلزمُ أنْ يجزِيَهُمْ أحسنَ الجزاءِ.
وقولُه تعالى: (فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) أي ما استقام لكم المشركون عَلى العهدِ فلمْ ينقُضُوه، فاستقيموا عَلى الوفاءِ لهم، فلا تقاتلوهم (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)
تعليلٌ للأمرِ بالاستقامةِ عَلى العهدِ فهو أمرَ بها؛ لأنَّها مِن أعمالِ
المتَّقِين الَّذين يحبُّهم اللهُ، وفيهِ إشارةٌ إلى أنَّ الوفاءَ بالعهدِ
والاستقامةَ عليه مِن أعمالِ المتَّقين. والتَّقْوى هي التحرُّزُ بطاعةِ
اللهِ عَن معصيتِه رَجاءَ ثوابِه، وخوفا مِن عقابِه.
وقولُه تعالى: (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ) التّوابين: جمعُ تَوَّابٍ، صيغةُ مُبَالغةٍ مِن التَّوبةِ، وهي لغةً: الرُّجُوعُ. وشَرْعًا:
الرُّجوعُ عنِ الذَّنبِ. هذا تفسيرُها في حَقِّ العبدِ ـ وأمَّا في حَقِّ
اللهِ، فالتَّوّابُ مِن أسماءِ اللهِ تعالى ـ قال ابنُ القيِّمِ: العبدُ
تَوَّابٌ ـ واللهُ تَوَّابٌ ـ فتوبةُ العبدِ رجوعُه إلى سيِّدِه، وتوبةُ اللهِ نوعانِ: إِذْنٌ وَتَوْفِيقٌ. وَقَبُولٌ وَاعْتِدادٌ.
(وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرينَ)
ـ المتطهِّرين: جمعُ مُتَطَهِّرٍ، اسمُ فاعلٍ مِن الطَّهارةِ، وهي
النَّزاهةُ والنَّظافةُ عَن الأقذارِ حسيَّةً كانت أو معنويَّةً. وفي
الآيةِ الكريمةِ إخبارٌ مِن اللهِ سبحانَه عَن محبَّتِه لهذيْن الصِّنفيْن
مِن عبادهِ؛ التَّوابينَ والمتطهِّرينَ.
وقولُه تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونيِ يُحْبِبْكُمُ اللهُ)
سببُ نزولِ هذهِ الآيةِ الكريمةِ كما ذكره ابنُ كثيرٍ وغيرُه: أنَّ قومًا
زعموا أنَّهم يحبُّون اللهَ، فابتلاهم اللهُ-أي اختبرهم- بهذه الآيةِ، فهي
حاكمةٌ عَلى كُلِّ مَن ادَّعى محبَّةَ اللهِ، وليس هو عَلى الطَّريقةِ
المحمَّديَّةِ بأنَّه كاذب في دعواه. وقولُه: (يُحْبِبْكُمُ اللهُ) أي يحصلْ لكم فوقَ ما طلبتم مِن محبَّتِكُم إياه وهو محبَّتُه إيِّاكُم وهو أعظمُ مِن الأوَّلِ.
وقولُه تعالى: (فَسَوْفَ يَأْتيِ اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) هذا جوابُ الشَّرطِ في قولِه: (مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِيِنهِ)،
يقولُ تعالى - مخبرًا عن قُدْرتِه العظيمةِ - إنَّه مَن تولَّى عَن
نُصْرةِ دينهِ وإقامةِ شريعتِه، إنَّه يَستبدِلُ به مَن هو خيرٌ منه. وهم
قومٌ متَّصفُون بصفاتٍِ عظيمةٍ، مِن أعظمِها أنَّ الله يحبُّهم وهم
يحبُّونه والمرادُ بهم: أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ وجيشُه مِن الصَّحابةِ
والتَّابعين رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ الذين قاتلوا أهلَ الرِّدَّةِ، ثم كُلُّ
مَن جاء بعدَهم مِن المقاتلين للمرتدّين إلى يومِ القيامةِ.
وقولُه تعالى: (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فيِ سَبِيلِهِ) إخبارٌ منه مُؤَكَّدٌ أنَّه سبحانَه يحبُّ مَن اتَّصف بهذه الصّفةِ(الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فيِ سَبِيلهِ) أي يجاهدون بأموالهِم وأنفسِهم لإعلاءِ كلمةِ الله (صَفّاً) أي يَصُفُّونَ أنفسَهم عندَ القتالِ ولاَ يَزولُونَ عن أماكنهِم (كَأنَّهمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) قَدْ رُصَّ بعضُه ببعضٍ، وَأُلِزْقَ بعضُه ببعضٍ، فليس فيه فُرْجَةٌ ولا خَلَلٌ.
وقولُه: (وَهُوَ الْغَفُورُ) أي كثيرُ المغفرةِ ـ والْغَفْرُ: السَّتْرُ ـ فهو سبحانَه يغفرُ لمن تاب إليه ـ أي يسترُ ذنوبَه ويتجاوزُ عَن خَطَايَاه (الْوَدُودُ) مِن الْوُدِّ وهو خالصُ الحبِّ، فهو سبحانَه (وَدُودٌ)
بمعنَى أنَّه يحبُّ أهلَ طاعتِه، وفي ذكرِ هذيْن الاسميْن الكريمين
مُقْتَرِنَينِ سِرٌّ لطيفٌ، وهو أنَّه يحبُّ عبدَه بعد المغفرةِ، فيغفرُ له
ويحبُّه بعد ذلك.
الشَّاهدُ مِن هذهِ الآياتِ الكريمةِ: أنَّ فيها إثباتَ المحبَّةِ والمودَّةِ
للهِ سبحانَه، وأنَّه يُحِبُّ ويَوَدُّ بعضَ الأشخاصِ والأعمالِ
والأخلاقِ، فهو يحبُّ بعضَ الأشياءِ دون بعضٍ، عَلى ما تقتضيه حكمتُه
البالغةُ، فهو يحبُّ المحسنين، ويحبُّ المقسطين، ويحبُّ المتَّقين، ويحبُّ
المتَّبِعِينَ لرسولِه صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ، ويحبُّ المجاهدينَ في
سبيلِه، ويحبُّ التَّوابينَ والمتطهِّرينَ.
وفيها إثباتُ المحبَّةِ مِن الجانبيْن؛ جانبِ العبدِ وجانبِ الرَّبِّ (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) (إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونيِ يُحْبِبْكُمُ اللهُ)
ففي ذلك الرَّدُّ عَلى مَن نفَى المحبَّةَ مِن الجانبيْن، كالجهميَّةِ و
المعتزلةِ، فقالوا: لا يُحَبُّ ولا يُحِبُّ، وأوَّلوا محبَّةَ العبادِ له
بمعنَى محبَّتهِم عبادتَه وطاعتَه، ومحبَّتَه للعبادِ بمعنَى إحسانِه
إليهم، وإِثَابَتِهِمْ، ونحوِ ذلك. وهذا تأويلٌ باطلٌ؛ لأنَّ مودَّتَه
ومحبَّتَه سبحانَه وتعالى لعبادِه عَلى حقيقتهِما، كما يليقُ بجلالهِ
كسائرِ صفاتِه، ليستا كمودَّةِ ومحبَّةِ المخلوقِ).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وقوله {وأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُجبُّ المُحْسِنينَ} (1). [البقرة:195]
{وَأَقسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقسِطِينَ} [الحجرات: 9].
{فَمَا استَقاَمُوا لَكُم فَاستَقِيمُوا لَهُم إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ} [التوبة: 7].
{إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّبِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222].
وقولُهُ: {قُل إن كُنتُم تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحبِبكُمُ اللهُ وَيَغفِر لَكُم ذُنُوبَكُم} [آل عمران: 31].
وقوله {فَسَوفَ يَأَتِي اللهُ بِقَومٍ يُحِبُّهُم وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54].
وقولُهُ: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَنٌ مَّرصُوصٌ} [الصف: 4] ،
وقوله {وهوالغفور الودود} [البروج :14]).
الشرح:
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): ((1) هذِهِ آياتٌ فِي إثباتِ صفةِ المحبَّةِ:
الآيةُ الأولى: قَوْلُهُ - تَعَالَى -: {وَأَحسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُحسِنِينَ} [البقرة: 195].
{وَأَحسِنُوا} فعلُ أمرٍ.
والإحسانُ قدْ يكونُ
واجباً، وقدْ يكونُ مستحبًّا مندوباً إليْهِ، فمَا كَانَ يتوقَّفُ عَلَيْهِ
أداءُ الواجبِ، فَهُوَ واجبٌ، ومَا كَانَ زائداً عَلَى ذلِكَ، فَهُوَ
مستحبٌّ.
وبناءً عَلَى ذلِكَ، نقولُ: {وَأَحسِنُوا}: فعلُ أمرٍ مستعملٌ فِي الواجبِ والمستحَبِّ.
والإحسانُ يكونُ فِي
عبادةِ اللَّهِ، ويكونُ فِي معاملةِ الخلقِ، فالإحسانُ فِي عبادةِ اللَّهِ
فسَّرَهُ النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حينَ سألَهُ
جبريلُ، فَقَالَ: مَا الإحسانُ؟ قال: ((أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ)).
وَهَذَا أكملُ مِنَ الَّذِي بعدَهُ؛ لأنَّ الَّذِي يعبدُ اللَّهَ كأنَّهُ يراهُ يعبدُهُ عبادةَ طلبٍ ورغبةٍ، ((فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَراهُ، فَإِنَّهُ يَراكَ))،
أيْ: فإنْ لَمْ تصلْ إِلَى هذِهِ الحالِ، فاعلمْ أنَّهُ يراكَ، والَّذِي
يعبدُ اللَّهَ عَلَى هذِهِ المرتبةِ يعبدُهُ عبادةَ خوفٍ وهربٍ؛ لأنَّهُ
يخافُ ممَّن يراهُ.
وأمَّا الإحسانُ بالنِّسبةِ لمعاملةِ الخلقِ؟ فقِيلَ: فِي تفسيرِهِ: بذلُ النَّدى، وكفُّ الأذَى، وطلاقَةُ الوَجْهِ.
بذلُ النَّدى: أيْ: المعروفُ، سواءً كَانَ ماليًّا أمْ بدنيًّا أمْ جاهِيًّا.
كفُّ الأذَى: أنْ لاَ تؤذِيَ النَّاسَ بقولِكَ ولاَ بفعْلِكَ.
وطلاقَةُ الوجهِ:
أنْ لاَ تكونَ عَبوساً عندَ النَّاسِ، لكنْ أحياناً الإنسانُ يغضبُ
ويعبسُ، فنقولُ: هَذَا لسببٍ، وقدْ يكونُ مِنَ الإحسانِ إِذَا كَانَ سبباً
لصلاحِ الحالِ.
ولِهَذَا، إِذَا رجَمْنا الزَّانِيَ أوْ جلدْنَاه، فَهُوَ إحسانٌ إليْهِ.
ويدخلُ فِي ذلِكَ
إحسانُ المعاملةِ فِي البيعِ، والشِّراءِ، والإجارةِ، والنِّكاحِ … وغيرِ
ذلِكَ، لأنَّكَ إِذَا عاملْتَهُم بالطَّيِّبِ فِي هذِهِ الأمورِ صبرتَ
عَلَى المعسرِ، وأَوْفيتَ الحقَّ بسرعةٍ، هَذَا يُعدُّ بَذْلَ النَّدى،
فإنْ اعتديتَ بالغشِّ والكَذِبِ والتَّزويرِ، فأنْتَ لَمْ تكفَّ الأذَى؛
لأنَّ هَذَا أَذِيَّةٌ، فَأَحْسِنْ فِي عبادِة اللَّهِ وإِلَى عبادِ
اللَّهِ.
وقولُهُ: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُحسِنِينَ}:
هَذَا تعليلُ للأمرِ، فهَذَا ثوابُ المحسنِ، أنَّ اللَّهَ يحبُّهُ، ومحبةُ
اللَّهِ مرتبةٌ عاليةٌ عظيمةٌ، وواللَّهِ إنَّ محبةَ اللَّهِ لَتُشْتَرى
بالدُّنْيَا كُلِّهَا، وهِيَ أعَلَى مِنْ أنْ تُحِبَّ اللَّهَ، فكونُ
اللَّهِ يحبُّكَ أعَلَى مِنْ أنْ تحبَّهُ أنْتَ، وَلِهَذَا قَالَ
-تَعَالَى-: {قُل إِن كُنتُم تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحبِبْكُمُ اللَّهُ}، ولَمْ يقلْ: فاتَّبِعوني، تَصْدُقُوا فِي محبَّتِكُم لِلَّهِ. مَعَ أنَّ الحالَ تقتضِي هَذَا، ولكنْ قالَ: {يُحبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31].
وَلِهَذَا قَالَ بعضُ العلماءِ: الشَّأنُ كُلُّ الشَّأنِ فِي أنَّ اللَّهَ يحبُّكَ، لاَ أنَّكَ تحبُّ اللَّهَ.
كلٌّ يدَّعِي أنَّهُ
يحبُّ اللَّهَ، لكنَّ الشَّأنَ فِي الَّذِي فِي السَّماءِ - عزَّ وجلَّ -،
هَلْ يحبُّكَ أمْ لاَ؟ إِذَا أحبَّكَ اللَّهُ - عزَّ وجلَّ -، أحبَّتْكَ
الملائكةُ فِي السَّماءِ، ثُمَّ يوضعُ لَكَ القَبولُ فِي الأرضِ،
فيُحِبُّكُ أهلُ الأرضِ، ويَقْبَلُونُكَ، ويقبلوُنَ مَا جاءَ مِنْكَ،
وهذِهِ مِنْ عاجلِ بُشْرَى المؤمنِ.
وفِي هذِهِ الآيةِ مِنَ الأسماءِ: اللَّهُ. ومِنَ الصِّفاتِ: الألوهِيَّةُ، والمحبَّةُ.
الآيةُ الثَّانِيَةُ: قولُهُ: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقسِطِينَ} [الحجرات: 9].
(وَأَقسِطُوا):
فِعلُ أمرٍ، والإقساطُ ليسَ هُوَ القِسطَ، بَلْ هوَ مِنْ فعلٍ رباعيٍّ،
فالَهُمزةُ فِيهِ همزةُ النَّفيِ، هذِهِ الَهُمزةُ هِيَ همزةُ النَّفيِ،
إِذَا دخلتْ عَلَى الفعلِ، نَفَتْ معناهُ، فالفِعلُ (قَسَطَ)، بمعنى: جارَ،
فَإِذَا أُدخلتْ عَلَيْهِ همزةُ (أقسطَ)، صار بمعنى: عدلَ، أيْ: أَزالَ
القسطَ، وهُوَ الجَوْرُ، فيسمُّونَ مِثلَ هذِهِ الهَمزةِ "همزةَ السَّلبِ"،
مثلَ خَطِئَ وأخطأَ، خَطِئَ بمعنى ارتكبَ الخطأَ عنْ عمدٍ، وأخطأَ:
ارتكبَهُ عنْ غيرِ عمدٍ.
فقولُهُ: {وَأَقسِطُوا}، أيْ: اعدلُوا، وَهَذَا واجبٌ، فالعدلُ واجبٌ فِي كُلِّ مَا تجبُ فِيهِ التَّسويةُ:
يدخلُ فِي ذلِكَ
العَدلُ فِي معاملةِ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ -، يُنعِمُ اللَّهُ علَيْكَ
بالنِّعَمِ، فَمِنَ العدلِ أنْ تقومَ بشكرِهِ، يبيِّنَ اللَّهُ لِكَ
الحقَّ، فمِنَ العدلِ أنْ تتَّبِعَ هَذَا الحقَّ.
ويدخلُ فِي ذلِكَ
العدلُ فِي معاملاتِ الخلقِ: أنْ تُعامِلَ النَّاسَ بمَا تُحِبُّ أنْ
يعاملوُكَ بهِ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبيُّ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ
-: ((مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ
وَيَدْخُلَ الجَنَّةَ فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ
وَاليَوْمِ الآخِرِ، وَليَأْتِ إِلى النَّاسِ مَا يُحِبُّ أَنْ يُؤْتى
إِلَيْهِ)).
عاملِ النَّاسَ بمَا
تُحِبُّ أنْ يُعامِلوكَ بهِ، مَثلاً: إِذَا أَرَدْتَ أنْ تعاملَ شخصاً
معاملةً فاعرضْها أَوَّلاً عَلَى نَفْسِكَ، هَلْ إِذَا عاملَكَ إنسانٌ بها
هَلْ ترضى أمْ لا؟، إنْ كنْتَ ترضى فعاملْهُ، وإلاَّ فلاَ تعاملْهُ.
ويدخلُ فِي ذلِكَ العدلُ بينَ الأولادِ فِي العطيَّةِ، قَالَ النَّبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلادِكُم)).
ويدخلُ فِي ذلِكَ العدلُ بينَ الورثةِ فِي الميراثِ، فَيُعْطى كُلُّ واحدٍ نصيبَهُ، ولاَ يوصَى لأحدٍ مِنْهُم بشيءٍ.
ويدخلُ فِي ذلِكَ العدلُ بينَ الزَّوجاتِ، بأنْ تَقْسِمَ لكُلِّ واحدةٍ مثلَ مَا تَقْسِمُ للأُخرى.
ويدخلُ فِي ذلِكَ العدلُ فِي نَفْسكِ، فلاَ تُكلِّفْها مَا لاَ تُطِيقُ مِنَ الأعمالِ، إنَّ لربِّكَ عليكَ حقًّا، ولنَفْسِكَ عليكَ حقًّا.
وعَلَى هَذَا، فقِسْ.
وهُنَا يجبُ أنْ
ننبِّهَ عَلَى أنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يستعملُ بدلَ العدلِ: المساواةَ!،
وَهَذَا خطأٌ، لاَ يُقالُ: مساواةٌ؛ لأنَّ المساواةَ قدْ تقتضِي التَّسويةَ
بينَ شيئَيْنِ، الحِكمةَ تقتضِي التَّفريقَ بيَنْهَمُا.
ومِنْ أجلِ هذِهِ
الدَّعوةِ الجائرةِ إِلَى التَّسويةِ صاروا يقولونَ: أيُّ فرقٍ بينَ الذكرِ
والأنثى؟! سَوَّوْا بينَ الذُّكورِ والإناثِ! حَتَّى إنَّ الشُّيوعيَّةَ
قالَتْ: أيُّ فرقٍ بينَ الحاكمِ والمحكومِ، لاَ يمكنُ أنْ يكونَ لأحدٍ
سلطةٌ عَلَى أحدٍ، حَتَّى بينَ الوالدِ والولدِ، ليسَ للوالدِ سلطةٌ عَلَى
الولدِ … وهلمَّ جَرًّا.
لكنْ إِذَا قلْنَا بالعدلِ، وهُوَ إعطاءُ كُلِّ أحدٍ مَا يَستحِقُّهُ زالَ هَذَا المحذورُ، وصارتِ العبارةُ سليمةً.
ولِهَذَا، لَمْ يأتِ فِي القرآنِ أبداً: إنَّ اللَّهَ يأمرُ بالتَّسويةِ! لكنْ جاءَ: {إِنَّ اللَّهَ يَأَمُرُ بِالعَدلِ} [النحل: 90]، {وَإِذَا حَكَمتُم بَينَ النَّاسِ أَن تَحكُمُوا بِالعَدلِ} [النساء: 58].
وأخطأَ عَلَى
الإسلامِ مَنْ قالَ: إنَّ دينَ الإسلامِ دينُ المساواةِ!، بلْ دينُ
الإسلامِ دينُ العدلِ، وهُوَ الجمعُ بينَ المتساويينِ، والتَّفريقُ بينَ
المفترقَيْنِ، إِلاَّ أنْ يريدَ بالمساواةِ: العدلَ، فيكونُ أصابَ فِي
المَعْنَى وأخطأَ فِي اللَّفظِ.
وَلِهَذَا كَانَ أكثرُ مَا جاءَ فِي القرآنِ نفيَ المساواةِ، {قُلْ هَل يَستَوِي الَّذِينَ يَعلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعلَمُونَ} [الزمر: 9]، {هَل يَستَوِي الأَعمَى وَالبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَستَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ} [الرعد: 16]، {لاَ
يَستَوِي مِنكُم مَّن أَنفَقَ مِن قَبلِ الفَتحِ وَقَاتَلَ أُوْلئِكَ
أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّن الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعدُ وَقاتَلُوا} [الحديد: 10]، {لاَ يَستَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤمِنِينَ غَيرُ أُولِى الضَّرَرِ وَالمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء: 95].
ولَمْ يأتِ حرفٌ واحدٌ فِي القرآنِ يأمرُ بالمساواةِ أبداً، إنمَّا يأمرُ بالعدلِ.
وكلمةُ (العدلِ) أيضاً تجدونَهَا مقبولةً لدى النُّفوسِ.
وأحببتُ أنْ أُنبِّهَ
عَلَى هَذَا لِئلاَ نكونَ فِي كلامِنا إِمَّعَةً؛ لأنَّ بعضَ النَّاسِ
يأخذُ الكلامَ عَلَى عواهِنِهِ، فلاَ يفكِّرُ فِي مدلولِهِ وفيمن وضَعَهُ،
وفِي مغزاه عِنْدَ مَنْ وضَعَهُ.
وفِي الآيةِ مِنَ الأسماءِ والصِّفاتِ مَا سَبَقَ فِي الَّتِي قَبْلَها.
الآيةُ الثَّالثةُ: قولُهُ: {فَمَا استَقاَمُوا لَكُم فَاستَقِيمُوا لَهُم، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ} [التوبة: 7].
{مَا}: شرطيَّةٌ، وفعلُ الشَّرطِ: {استَقَامُوا}، وجوابُهُ: {فاستَقَيمُوا}، أيْ: مهمَا استقامَ لَكُم المعاهَدونَ الَّذِينَ عاهدْتُمْ عندَ المسجدِ الحرامِ بالوفاءِ بالعهدِ، فاستقيموا لَهُم فِي ذلِكَ.
وهذِهِ الجملةُ الشَّرطيَّةُ تقتضي بمنطوقِها، أنهَّم إِذَا استقاموا لَنَا وجبَ أنْ نَستقيمَ لَهُم، وأنْ نُوفيَ بعهدِهِمْ.
وتدلُّ بمفهومِها عَلَى أنَّهُم إِذَا لَمْ يستقيموا لاَ نستقيمُ لَهُم.
والمعاهَدونَ ينقسمونَ إِلَى ثلاثةِ أقسامٍ:
قسمٌ استقاموا عَلَى عهدِهِم وأمِنَّاهُم، فيجبُ عليْنَا أنْ نستقيمَ لَهُم، لقولِهِ - تَعَالَى -: {فَمَا استَقَامُوا لَكُم فَاستَقِيمُوا لَهُم، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ}.
وقسمٌ خانوا ونقضوُا العهدَ، فهؤلاءِ لاَ عهدَ لَهُم، لقولِهِ - تَعَالَى -: {وَإِن
نَّكَثُوا أَيمَانَهُم مّن بَعدِ عَهدِهِم وَطَعَنُوا فِي دِينِكُم
فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الكُفرِ، إِنَّهُم لاَ أَيمَانَ لَهُم} [التوبة: 12].
وقسمٌ ثالثٌ
يُظهرونَ الاستقامةَ لَنَا، لكنَّنا نخافُ من خيانتِهِم، بمعنى أنَّهُ
تُوجدُ قرائنُ تدلُّ عَلَى أنَّهُم يريدونَ الخيانةَ، فهؤلاءِ قَالَ
اللَّهُ فيِهِم: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَومٍ خِيَانَةً فَانبِذ إِلَيهِم عَلَى سَوَاءٍ، إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ} [الأنفال: 58]، أيْ: انبذْ إليْهِم عهدَهُم، فقلْ: لاَ عهدَ بَيْنَنَا وبَيْنَكُم.
فَإِذَا قَالَ قائلٌ: كَيْفَ يُنبذُ العهدُ إليْهِم وهُمْ معاهدونَ؟!
قلنْا: لخوفِ
الخيانةِ، فهؤلاءِ لاَ نأمَنُهُمُ؛ لأنَّهُ يمكنُ فِي يومِ مِنَ الأيامِ
أنْ يُصَبِّحونا، فهؤلاءِ ننبذُ إِلَيْهِم عَلَى سواءٍ، ولاَ نخونُهُم مَا
دامَ العهدُ قائماً؛ لأنَّهُ لو قَالَ المسلمونَ: نَحْنُ نخافُ مِنْهم
الخيانةَ، سنبادرُهُم بالقتالِ، قُلنْا: هَذَا حرامٌ، لاَ تقاتلوهم حَتَّى
تنبذوا إِلَيْهِم العهدَ.
وقولُهُ: {المُتَّقِينَ}:
المتقون هُمُ الَّذِينَ اتخذوا وقايةً مِنْ عذابِ اللَّهِ بفعل أوامرِهِ
واجتنابِ نواهِيَهِ، هَذَا مِنْ أحسنِ وأجمَعِ مَا يقالُ فِي تعريفِ
التَّقوى.
وفِي الآيةِ مِنَ الأسماءِ والصِّفاتِ كالَّتِي قبْلَهَا.
الآيةُ الرَّابعةُ: قولُهُ: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} [البقرة: 222].
التوابُ: صيغةُ
مبالغةٍ مِنَ التوبةِ، وهُوَ كثيرُ الرجوعِ إِلَى اللَّهِ، والتوبةُ هِيَ
الرجوعُ إِلَى اللَّهِ مِنْ معصيتِهِ إِلَى طاعتِهِ.
وشروطُها خمسةٌ:
الأولُ: الإخلاصُ لِلَّهِ - تَعَالَى -، بأنْ يكونَ الحاملُ لَهُ عَلَى التوبةِ مخافةَ اللَّهِ، ورجاءَ ثوابِهِ.
الثَّاني: الندمُ عَلَى مَا فَعَلَ مِنَ الذَّنبِ، وعلامةُ ذلِكَ أنْ يتمنى أنَّهُ لَمْ يقعْ مِنْهُ.
الثَّالثُ: الإقلاعُ عن الذنبِ، بتركِهِ إنْ كَانَ محرماً، أوْ تداركِهِ إنْ كَانَ واجباً يمكنُ تداركُهُ.
الرَّابعُ: العزمُ عَلَى أنْ لاَ يعودَ إليْهِ.
الخامسُ:
أنْ تكونَ فِي وقتٍ تقبلُ فِيهِ التَّوبةُ، وهُوَ مَا كَانَ قبلَ حضورِ
الموتِ وطلوعِ الشَّمسِ مِن مغربِهِا، فإنْ كانتْ بَعْدَ حضورِ الموتِ أوْ
بعدَ طلوعِ الشمسِ مِنْ مغربِها، لَمْ تُقبَلْ.
فالتَّوابُ: كثيرُ التوبةِ.
ومعلومٌ أنَّ
كثرةَ التوبةِ تستلزمُ كثرةَ الذَّنبِ، ومِنْ هُنَا نَفهمُ بأنَّ الإنسانَ
مهمَا كَثُرَ ذنبُهُ، إِذَا أحدثَ لكُلِّ ذنبٍ توبةً، فإنَّ اللَّهَ -
تَعَالَى - يحبُّهُ، والتَّائبُ مرَّةً واحدةً مِن ذنبٍ واحدٍ محبوبٌ إِلَى
اللَّهِ - عزَّ وجلَّ - مِنْ بابِ أولى؛ لأنَّ مَنْ كَثُرتْ ذنوبُهُ
وكَثُرَتْ توبتُهُ يحبُّهُ اللَّهُ، فمنْ قَلَّتْ ذنوبُهُ كانتْ محبَّةُ
اللَّهِ لَهُ بالتَّوبةِ مِنْ بابٍ أولى.
وقولُهُ: {وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ}: الَّذِينَ يتطهَّرونَ مِنَ الأحداثِ، ومن الأنجاسِ فِي أبدانِهم، ومَا يجبُ تطهِيَرُهُ.
وهُنَا جَمَعَ بين طهارةِ الظاهرِ وطهارةِ الباطنِ، طهارةُ الباطنِ بقولِهِ: {التَّوَّابِينَ}، والظاهرُ بقولِهِ: {المُتَطَهِّرِينَ}.
وفِي الآيةِ مِنَ الأسماءِ والصِّفاتِ مَا سَبَقَ فِي الَّتِي قَبْلَها.
الآيةُ الخامسةُ: قولَهُ: {قُل إِن كُنتُم تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبَبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31].
يُسمِّي علماءُ
السَّلَفِ هذِهِ الآيةَ: آيةَ المحنةِ، يعني الامتحانَ؛ لأنَّ قوماً
ادَّعوْا أنَّهُم يحبِّونَ اللَّهِ، فأمرَ اللَّهُ نبيَّهُ أنْ يقولَ
لَهُمُ: {إِن كُنتُم تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي}،
وَهَذَا تَحَدٍّ لكُلِّ مَنِ ادَّعى محبَّةَ اللَّهِ أنْ يُقَالَ لَهُ:
إنْ كنْتَ صادقاً فِي محبَّةِ اللَّهِ فاتَّبِع الرَّسولَ، فَمَنْ أحدثَ
فِي دينِ رسولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا ليسَ
مِنْهُ، وقالَ: إنَّنِي أحبُّ اللَّهَ ورسولَهُ بمَا أحدثْتُهَ، قُلنْا
لَهُ: هَذَا كَذِبٌ!، لو كانتْ محبَّتُكَ صادقةً، لاتَّبعتَ الرَّسولَ -
عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ -، ولَمْ تتقدمْ بينَ يديهِ بإدخالِ شيءٍ
فِي شريعتِهِ ليسَ مِنْ دينِهِ، فكُلُّ من كَانَ أتْبَعَ لرسولِ اللَّه -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كَانَ لِلَّهِ أحبَّ.
وإِذَا أحبَّ اللَّهَ
وقامَ بعبادتِهِ فإنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - يحبُّهُ، بَلْ إنَّ اللَّهَ -
عزَّ وجلَّ - يُعطيهِ أكثرَ ممَّا عمِلَ، يقولُ - تَعَالَى - فِي الحديثِ
القدسيِّ: ((مَنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُه فِي نَفْسِي))، ونَفْسُ اللَّهِ أعظمُ مِن نفوسِنَا، ((وَمَنْ ذَكَرَني فِي مَلأٍ ذَكَرْتُه فِي مَلأٍ خَيْرٍ مِنْهمْ)).
وفِي الحديثِ –أيضاً-: ((
أَن مَنْ تَقَرَّبَ إِليهِ شِبْرًا تَقَرَّبَ اللَّهُ إِلَيهِ ذِراعًا،
وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيْهِ ذِراعًا تَقَرَّبَ إِلَيهِ بَاعًا، وَمَنْ أَتَى
إِلى اللَّهِ يَمْشي أَتَاهُ اللَّهُ هَرْولَةً )).
إذًا: فعطاءُ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ - وثوابُهُ أكثرُ مِنْ عَمَلِكَ.
وفِي الآيةِ مِنَ الأسماءِ والصِّفاتِ مَا سَبَقَ فِي الَّتِي قبلْهَا.
الآيةُ السَّادِسَةُ: قولُهُ: {فَسَوفَ يَأَتِي اللَّهُ بِقَومٍ يُحِبُّهُم وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54].
الفاءُ واقعةٌ فِي جوابِ الشرطِ فِي قولِهِ: {ياأيُّهَا الَّذِينَ ءاَمَنُوا مَن يَرتَدَّ مِنكُم عَن دِينِهِ فَسَوفَ يَأَتِي اللَّهُ بِقَومٍ يُحِبُّهُم وَيُحِبُّونَهُ}، أيْ: إِذَا ارتددتُّمْ عن دينِ اللَّهِ فإن ذلِكَ لاَ يضرُّ اللَّهَ شيئًا، {فَسَوفَ يَأَتِي اللَّهُ بِقَومٍ يُحِبُّهُم وَيُحِبُّونَهُ}، وَهَذَا كقولَهُ: {وَإِن تَتَوَلَّوا يَستَبدِلْ قَومًا غَيرَكُم، ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمثالَكُمْ} [محمد: 38].
فكُلُّ مَنْ ارتدَّ
عَنْ دينِ اللَّهِ فإنَّ اللَّهَ لاَ يعبأُ بهِ؛ لأنَّهُ - تَعَالَى -
غنيٌّ عَنْهُ، بلْ يزيلُهُ ويأتِي بخيرٍ منْهُ، {فَسَوفَ يَأَتِي اللَّهُ بِقَومٍ} بدلاً مِنْهُم {يُحِبُّهُم وَيُحِبُّونَهُ}، وإِذَا كانُوا يحبِّونَ اللَّهَ ويحبُّهم اللَّهُ، فسوفَ يقومونَ بطاعتِهِ.
وتمامُ الآية {أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَفِرِينَ} [المائدة: 54]:
أمامَ المؤمنينَ أذلَّةٌ، يخفِضوُنَ أجنحَتَهُم للمؤمنينَ، ويَلِينُونَ
لَهُم، ويتطامنونَ، ومعَ الكفارِ أعزَّةٌ أقوياءُ، لاَ يُظهِرونَ الذُّلَّ
أمامَ الكافرِ أبداً.
وقدْ علَّمَنَا الرَّسولُ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ -: ((وإِذَا لَقِيتموهُمْ فِي طَريقٍ فَاضطروهُم إِلى أَضْيَقِهِ))،
فَإِذَا لاقاكمُ اليهودُ والنَّصارى ولوْ كانوا ألْفاً وأنتُمْ عشَرةٌ
نشقُّ هَذَا الجمْعَ، ولاَ نُفْسِحُ لَهُم الطَّريقَ، بلْ نُلجئهُمْ إِلَى
أضيَقِهِ، فنُريهِم العِزَّ بديننِا لاَ بأَنْفُسِنَا؛ لأننَّا نَحْنُ بشرٌ
وهمُ بشرٌ، حَتَّى يتبيَّنَ لَهُم أنَّ دينَ الإسلامِ هُوَ الظَّاهرُ،
وأنَّ المتمسِّكَ بهِ هُوَ العزيزُ.
{يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَومَةَ لاَئِمٍ} [المائدة: 54]:
يجاهدونَ فِي سبيلِ اللَّهِ، كُلُّ مَنْ قامَ ضدَّ دينِ اللَّهِ مِنْ
كافرٍ وفاسقٍ وملحدٍ ومارقٍ يجاهدونَهُ، وكُلُّ إنسانٍ يقابلونَه مِنَ
السِّلاحِ بمَا يليقُ بهِ، فَمَنْ قاتلَهُم بالحديدِ والنَّارِ، قاتَلُوه
بالحديدِ والنَّار ومَنْ قاتَلَهُم بالجدالِ والخصامِ الكلاميِّ جادَلوهُ
بمثلِ ذلِكَ، فَهُم يجاهدونَ فِي اللَّهِ بكُلِّ نوعٍ مِنْ أنواعِ الجهادِ.
{وَلاَ يَخَافُونَ لَومَةَ لاَئِمٍ}: لاَ يخافونَ نقدَ النَّاسِ عَلْيهِم، يقولونَ الحقَّ ولو كَانَ عَلَى أنَفْسِهِم.
لكنَّهُمْ يستعملونَ
الحكمةَ فِي هَذَا الجهادِ، ويَرُومونَ الوصولَ إِلَى الغايةِ، فَإِذَا
رأَوْا أنَّ الدَّعوةَ تستوجبُ التَّأخُّرَ فِي بعضِ الأمورِ تأخَّروا،
وإِذَا رَأَوْا أنَّ الدعوة تقتضِي اللِّينَ فِي بعضِ الأحوالِ،
استعمَلُوهُ؛ لأنَّهُم يريدونَ الوصولَ إِلَى غايةٍ معيَّنةٍ، والوسيلةُ
حسبَ مَا تقتضيِه الحالُ.
ثُمَّ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤتِيهِ مِن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54].
وفِي الآيةِ مِنَ الأسماءِ والصِّفاتِ: مَا سَبَقَ فِي الَّتِي قَبْلَها، وزيادةٌ أنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- يكونُ محبوباً.
الآيةُ السَّابعةُ: قولُهُ: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا، كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرصُوصٌ} [الصف: 4].
هذِهِ الآيةُ فِي
سورةِ الصَّفِّ، وسورةُ الصَّفِّ فِي الحقيقةِ هِيَ سورةُ الجهادِ؛ لأنَّ
اللَّهُ - تَعَالَى - بدأَها بالثَّناءِ عَلَى المقاتلينَ فِي سبيلِهِ،
ثُمَّ دعا إِلَى الجهادِ فِي آخرِها، ثُمَّ ذكرَ بينَ ذلِكَ أنَّ اللَّهَ
سيُظهِرُ دينَهُ عَلَى كُلِّ الأديانِ، ولو كرِهَ المشركونَ.
{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاَتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا}: لاَ يتقدَّمُ أحدٌ عَلَى أحدٍ ولاَ يتأخَّرُ، حَتَّى فِي الجهادِ.
والصَّلاَةُ جهادٌ
مصغَّرٌ، فِيهَا قائدٌ يجبُ اتِّباعُهُ، فإنْ لَمْ تتَّبعْهُ بَطُلَتْ
صلاتُكَ، قَالَ النَّبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أَمَا
يَخْشَى الَّذِي يَرْفَعُ رَأْسَهُ قَبْلَ الإِمَامِ أَنْ يُحوِّلَ
اللَّهُ رَأْسَه رَأْسَ حِمَارٍ، أَوْ يَجْعَلَ صُورَتَهُ صُورَةَ
حِمَارٍ))، والصَّفُّ فِي الصَّلاَةِ نظيرُ الصَّفِّ فِي الجهادِ،
وكَانَ الرَّسولُ -عَلَيْهِ الصلاة والسَّلاَم- يصفُّهُم فِي الجهادِ كَمَا
يصفُّهُم فِي الصَّلاَةِ: ((كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ)) والبنيانُ كَمَا قَالَ الرَّسولُ -عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ- : ((يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضاً))، يتماسكُ بعضُهُ ببعضٍ، وَلِهَذَا قالَ: {كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ}، فليسَ كالمُفَرَّقِ، فالمرصوصُ أشدُ تماسكاً.
فهؤلاءِ الَّذِينَ علَّقَ اللَّهُ المحبَّةَ لَهُمْ بأعمالِهِمْ لَهُمْ عدَّةُ صفاتٍ:
أَوَّلاً: يقاتلونَ، فلاَ يركنوُن إِلَى الخلودِ والخمولِ، والكسلِ والجمودِ، الَّذِي يُضعِفُ الدِّينَ والدُّنْيا.
ثانيا: الإخلاصُ، لقولِهِ: {فِي سَبِيلِهِ}.
ثالثاً: يشدُّ بعضُهم بعضاً، لقولِهِ: {صَفًّا}.
رابعاً: أنهَّمُ كالبنيانِ، والبنيانُ حصنٌ منيعٌ.
خامساً: لاَ يتخلَّلُهُم مَا يمزِّقُهُم، لقولِهِ: {مَّرصُوصٌ}.
هذِهِ خمسُ صفاتٍ، علَّقَ اللَّهُ المحبَّةَ لَهُؤلاءِ عَلَيْها.
وفِي الآيةِ مِنَ الأسماءِ والصِّفاتِ: مَا سَبَقَ فِي الَّتِي قَبْلَها.
الآيةُ الثَّامنةُ: قولُهُ: {وَهُوَ الغَفُورُ الوَدُودُ} [البروج: 14].
{الغَفُورُ}: السَّاترُ لذنوبِ عبادِهِ، المتجاوزُ عنها.
{الوَدُودُ}:
مأخوذٌ من الوُدِّ، وهُوَ خالصُ المحبَّةِ، وهِيَ بمعنى: وادٍّ، وبمعنى:
مَوْدودٍ، لأَنَّهُ - عزَّ وجلَّ - محِبٌّ ومحبوبٌ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى
-: {فَسَوفَ يَأَتِي اللَّهُ بِقَومٍ يُحِبُّهُم وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]،
فاللَّهُ - عزَّ وجلَّ - وادٌّ ومَودودٌ، وادٌّ لأوليائِهِ، وأولياؤُهُ
يودُّونَهَ يحبُّونَهُ، يحبُّونَ الوصولَ إِلَيْهِ وإِلَى جنَّتِهِ
ورضوانِهِ.
وفِي الآيةِ اسمانِ مِنْ أسماءِ اللَّهِ: الغفورُ، والودودُ. وصفتانِ: المغفرةُ، والودُّ.
وأتمنى لَوْ أنَّ المؤلِّفَ أضافَ آيةً تاسعةً فِي المحبَّةِ، وهِيَ الخُلَّةُ، لقولِهِ - تَعَالَى -: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبرَهِيَمَ خَلِيلاً} [النساء: 125]،
والخليلُ هُوَ مَنْ كَانَ فِي أعَلَى المحبَّةِ، فالخلَّةُ أعَلَى أنواعِ
المحبَّةِ؛ لأنَّ الخليلَ هُوَ الَّذِي وصلَ حبُّهُ إِلَى سويداءِ القلبِ،
وتخلَّلَ مجاريَ عروقِهِ، وليسَ فَوْقَ الخلَّةِ شيءٌ مِنْ أنواعِ
المحبَّةِ أبداً.
يقولُ الشَّاعرُ لمعشوقتِهِ:
قَدْ تَخَلَّلْتِ مَسْلَكَ الرُّوحِ مِنِّي ... وَبِذا سُمِّيَ الخَليـلُ خَليـلاً
فالنَّبيُّ - عليْهِ
الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ - يحبُّ أصحابَهَ كلَّهم، لكنْ مَا اتَّخذَ واحداً
مِنْهم خليلاً أبداً، قَالَ النَّبيُّ -عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ-
وهُوَ يخطبُ النَّاسَ: ((لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا من أُمَّتي خَليلاً لاتَّخذتُ أَبا بَكْرٍ))
إذاً، أبو بكرٍ هُوَ أحبُّ النَّاسِ إليْهِ، لكنْ لَمْ يَصِلْ إِلَى درجةِ
الخلَّةِ؛ لأنَّ الرَّسولَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ
يتَّخذْ أحداً خليلاً، لكنْ إخوةُ الإسلامِ ومودَّتهُ، وأمَّا الخلَّةُ،
فَهِيَ بينَهُ وبينَ ربِّهِ، قَالَ النَّبيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- : ((إِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَنِي خَلِيلاً)).
والخلَّةُ لاَ نعلمُ
أنَّها ثبتَتْ لأحدٍ مِنَ البشرِ، إِلاَّ لاثنَيْنِ، هُمَا إبراهِيَمُ
ومحمُّدٌ عَلَيْهِمَا الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، لقولِ النَّبيِّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَنِي خَلِيلاً كَمَا اتَّخَذَ إِبرَاهِيَمَ خَلِيلاً)).
وهذِهِ الخلَّةُ صفةٌ
مِنْ صفاتِ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ -، لأنَّها أعَلَى أنواعِ المحبَّةِ،
وهِيَ توقيفيَّةٌ، فلاَ يجوزُ أن نُثبِتَ لأحدٍ مِنَ البَشرِ أنَّهُ خليلٌ
إِلاَّ بدليلٍ، حَتَّى الأنبياءُ عَلَيْهِم الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، إِلاَّ
هَذَيْنِ الرَّسولَيْنِ الكريمَيْنِ، فَهُمَا خليلانِ لِلَّهِ - عزَّ
وجلَّ -.
وهذِهِ الآيةُ {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبرَهِيَمَ خَلِيلاً}
هِيَ الَّتِي اسْتَشْهَدَ بها مَنْ قَتلَ الجعدَ بنَ درهمٍ رأسَ
المعطِّلةِ الجهميَّةِ، أوَّلُ مَا أنكرَ قالَ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يتَّخذْ
إبراهِيَمَ خليلاً!، ولَمْ يُكلِّمْ موسَى تكليماً!!، فقتلَهُ خالدُ بنُ
عبدِ اللَّهِ القَسْرِيِّ -رحمَهُ اللَّهُ-، حَيْثُ خرجَ بِهِ مُوثقاً فِي
يومِ عيدِ الأضحى، وخطبَ النَّاسَ، وقالَ: أيُّها
النَّاسُ، ضَحُّوا تَقَبَّلَ اللَّهُ ضحاياكُم، فإني مُضحٍّ بالجعدِ بنِ
درهمٍ؛ لأنَّهُ زعَمَ أنَّ اللَّهَ لَمْ يتَّخِذْ إبراهِيَمَ خليلاً، ولَمْ
يكلِّمْ موسى تكليماً، ثُمَّ نزلَ فذبَحَهُ.
ويقولُ ابنُ القيِّمِ فِي ذلِكَ:
وَلأجْلِ ذا ضَحَّى بِجَعْدٍ خالِدُ الــ ... ـقَسْرِيُّ يَـوْمَ ذَبائِـحِ القُرْبـانِ
إذْ قالَ إبْراهِيَـمُ لِيْـسَ خَليلَـهُ ... كَلاَّ وَلاَ مُوسى الكليـمَ الدَّانـي
شَكَرَ الضَّحِيَّةَ كُلُّ صاحِبِ سُنَّـةٍ ... لِلّـهِ دَرُّكَ مِـنْ أخـي قُرْبـانِ
فلدينا الآنَ محبَّةٌ وودٌّ وخلَّةٌ، فالمحبَّةُ والوُدُّ مطلقةٌ، والخلَّةٌ خاصَّةٌ بإبراهِيَمَ ومحمَّدٍ.
ويجبُ أنْ يكونَ
اعتمادُنا فِي الأمورِ الغيبيَّةِ عَلَى الأدلّةِ السَّمعيَّةِ، لكنْ لاَ
مانِعَ مِنْ أنْ نستدلَّ بأدلةٍ عقليَّةٍ، لإلزامِ مَنْ أنكرَ أنْ تكونَ
المحبةُ ثابتةً بالأدلَّةِ العقليَّةِ، مثلَ الأشاعرةِ، يقولونَ: لاَ يمكنُ
أنْ تثبتَ المحبَّةَ بينَ اللَّهِ وبينَ العبدِ أبداً؛ لأنَّ العقلَ لاَ
يدلُّ عَلَيْها، وكُلُّ مَا لاَ يدلُّ عَلَيْهِ العقلُ فإنَّهُ يجبُ أنْ
نُنَزِّهَ اللَّهَ عَنْهُ.
فنَحْنُ نقولُ:
نُثبِتُ المحبّةَ بالأدلَّةِ العقليَّةِ، كَمَا هِيَ ثابتةٌ عِنْدَنا
بالأدلَّةِ السَّمعيَّةِ، احتجاجاً عَلَى مَنْ أنكرَ ثُبوتهَا بالعقلِ،
فنقولُ وباللَّهِ التَّوفيقُ:
إثابةُ الطَّائعينَ
بالجنَّاتِ والنَّصرِ والتَّأيـيدِ وغيرِ ذلِكَ، هَذَا يدلُّ بلاَ شكٍّ
عَلَى المحبَّةِ، ونَحْنُ نشاهدُ بأعيُنِنا، ونسمعُ بآذانِنا عَمَّنْ
سَبَقَ وعمَّنْ لَحِقَ، أنَّ اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - أيَّدَ مَنْ أيَّدَ
مِنْ عبادهِ المؤمنينَ، ونصرَهُم وأثابَهُم، وهَلْ هَذَا إِلاَّ دليلٌ
عَلَى المحبَّةِ لِمَنْ أيدَّهُم ونصرَهُم وأثابَهُم - عزَّ وجلَّ -؟!
وهُنَا سؤالانِ:
الأوَّلُ:
بمَاذَا ينالُ الإنسانُ محبةَ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ -؟ وهذِهِ هِيَ
الَّتِي يطلبُها كُلُّ إنسانٍ، والمحبَّةُ عبارةٌ عَنْ أمرٍ فطريٍّ يكونُ
فِي الإنسانِ ولاَ يملكُهُ، وَلِهَذَا يُروى أنَّ الرَّسولَ - عليْهِ
الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ - قَالَ فِي العَدْلِ بينَ زوجاتِهِ: ((هَذا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلاَ تَلُمْنِي فِيمَا لاَ أَمْلِكُ))؟
فالجوابُ: أنَّ المحبَّةَ لَهُا أسبابٌ كثيرةٌ:
مِنْها:
أنْ ينظرَ الإنسانُ مَن الَّذِي خلقَهُ؟، ومَنْ الَّذِي أمدَّه بالنِّعمِ
منذُ كَانَ فِي بَطنِ أمِهِ؟، ومَنْ الَّذِي أجْرَى إليكَ الدَّمَ فِي
عروقِكَ قَبْلَ أنْ تَنْزِلَ إِلَى الأرضِ إِلاَّ اللَّهُ - عزَّ وجلَّ -؟،
مَنْ الَّذِي دَفَعَ عَنْكَ النِّقمَ الَّتِي انعقدتْ أسبابهُا، وكثيراً
مَا تشاهدُ بعينِكَ آفاتٍ ونقماً تهلكُكَ، فيرفعُها اللَّهُ عَنْكَ؟
وَهَذَا لاَ شكَّ أنَّهُ يَجلبُ المحبَّةَ، وَلِهَذَا وردَ فِي الأثرِ: ((أَحِبُّوا اللَّهَ لمَا يَغْذوكم بِهِ مِنَ النِّعَمِ)).
وأعتقدُ لَوْ أنَّ
أحداً أهدى إِليْكَ قلماً لأحبْبتَهُ، فَإِذَا كَانَ كذلِكَ فأنتَ انظرْ
نعمةَ اللَّهِ عليْكَ، النِّعمَ العظيمةَ الكثيرةَ الَّتِي لاَ تحصيِها،
تحبُّ اللَّهَ.
وَلِهَذَا إِذَا
جاءتِ النِّعمةُ وأنتَ فِي حاجةٍ شديدةٍ إلَيْها تجدُ قَلْبَكَ ينشرحُ،
وتحبُّ الَّذِي أَسداهَا إِلَيْكَ، بخلافِ النِّعمِ الدَّائمةِ، فأنتَ
تَذَكَّرْ هذِهِ النِّعمَ الَّتِي أعطاكَ اللَّهُ، وتَذَكَّرْ –أيضاً- أنَّ
اللَّهَ فضَّلَكَ عَلَى كثيرٍ من عبادهِ المؤمنينَ، إنْ كَانَ اللَّهُ
مَنَّ عليكَ بالعلمِ فقدْ فضَّلَكَ بالعلمِ، أوْ بالعبادةِ، فقدْ فضلَّكَ
بالعبادةِ، أوْ بالمالِ، فقدْ فضلَّكَ بالمالِ، أوْ بالأهلِ، فقدْ فضَّلَكَ
بالأهلِ، أوْ بالقوتِ، فَقَدْ فضَّلَكَ بالقُوتِ، ومَا مِن نعمةٍ إِلاَّ
وتحتَها مَا هُوَ دُونهَا، فأنتَ إِذَا رأيتَ هذِهِ النِّعمةَ العظيمةَ
شكرتَ اللَّهَ وأحببْتَهُ.
ومِنْها:
محبّةُ مَا يحبُّه اللَّهُ مِنَ الأعمالِ القوليَّةِ والفِعليَّةِ
والقلبيَّةِ، تحبُّ الَّذِي يحبُّه اللَّهُ، فهَذَا يجعلُكَ تحبُّ اللَّهَ؛
لأنَّ اللَّهَ يجازيِكَ عَلَى هَذَا أنْ يضعَ محبَّتَهُ فِي قلبِكَ،
فتحبُّ اللَّهَ إِذَا قمْتَ بمَا يحبُّ، وكذلِكَ تحبُّ مَنْ يحبُّ، والفرقُ
بَيْنَهمَا ظاهرٌ، الأخيرةُ مِنَ الأشخاصِ، والأُولى مِنَ الأعمالِ،
لأننَّا أتيْنا بـ(ما) الَّتِي لغيرِ العاقلِ مِنَ الأعمالِ والأماكنِ
والأزمانِ، وهذِهِ (مَنْ) للعاقلِ مِنَ الأشخاصِ، تحبُّ النَّبيَّ - عليْهِ
الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ -، تُحبُّ إبراهِيَمَ، تُحبُّ موسى وعيسَى
وغيرَهُم مِنَ الأنبياءِ، تحبُّ الصِّدِّيقِينَ، كأبي بكرٍ، والشُّهداءِ،
وغيرِ ذلِكَ ممِنْ يحبُّهم اللَّهُ، فهَذَا يجلبُ لَكَ محبَّةَ اللَّهِ،
وهُوَ أيضاً مِنْ آثارِ محبَّةِ اللَّهِ، فَهُوَ سببٌ وأثَرٌ.
ومِنْها:
كثرةُ ذكرِ اللَّهِ، بحَيْثُ يكونُ دائماً عَلَى بالِكَ، حَتَّى تكونَ
كلمَا شاهدْتَ شيئاً، استدلَلْتَ بهِ عَلَيْهِِ - عزَّ وجلَّ -، حَتَّى
يكونَ قلبُكَ دائماً مشغولاً باللَّهِ، معرِضاً عمَّا سواهُ، فهَذَا يجلبُ
لكَ محبَّةَ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ -.
وهذِهِ الأسبابُ الثلاثةُ هِيَ عِنْديِ مِنْ أقوى أسبابِ محبَّةِ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ -.
والسُّؤالُ الثَّاني: مَا هِيَ الآثارُ المسلكيَّةُ الَّتِي يستلزمُها مَا ذُكِرَ؟
والجوابُ:
أَوَّلاً: قوْلُهُ: {وَأَحْسِنُواْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195]: يقتضي أنْ نُحسنَ، وأنْ نحرصَ عَلَى الإحسانِ؛ لأنَّ اللَّهَ يحبُّهُ، وكُلُّ شيءٍ يحبُّه اللَّهُ فإننَّا نحرصُ عَلَيْهِ.
ثانياً: قولُهُ: {وَأَقْسِطُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9]: يقتضِي أنْ نعدلَ ونحرصَ عَلَى العدلِ.
ثالثاً: قولُهُ: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 7]:
يقتضِي أنْ نتقِيَ اللَّهَ - عزَّ وجلَّ -، لاَ نتَّقِي المخلوقينَ،
بحَيْثُ إِذَا كَانَ عندَنا مَنْ نستحِي منْهُ مِنَ الناسِ تركْنَا
المعاصَي، وإِذَا لَمْ يكنْ عَصَيْنا، فالتَّقْوى أنْ نتَّقِيَ اللَّهَ -
عزَّ وجلَّ -، ولاَ يهمُّكَ النَّاسُ. أَصلِحْ مَا بَيْنَكَ وبينَ اللَّهِ،
يُصلحِ اللَّهُ مَا بينكَ وبينَ النَّاسِ.
انظرْ يا أخي إِلَى الشَّيءِ الَّذِي بَيْنَكَ وبينَ ربِّكِ، ولاَ يهمُّكَ غيرُ ذلِكَ، {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ} [الحج: 38].
افعلْ مَا يقتضِيه الشرعُ، وستكونُ لَكَ العاقبةُ.
رابعاً: يقولُ اللَّهُ - تَعَالَى -: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} [البقرة: 222]،
وهذِهِ تستوجبُ أنْ أُكْثِرَ التَّوبةَ إِلَى اللَّهِ - عزَّ وجلَّ -،
أُكْثِرُ أنْ أَرجعَ إِلَى اللَّهِ بقلِبي وقالبِي، ومجرَّدُ قولِ
الإنسانِ: أَتوبُ إِلَى اللَّهِ، هَذَا قدْ لاَ ينفعُ، لكنْ تستحضرُ وأنتَ
تقولُ: أتوبُ إِلَى اللَّهِ: أنَّ بينَ يديكَ معاصِيَ، ترجعُ إِلَى اللَّهِ
مِنْها وتتوبُ، حَتَّى تنالَ بذلِكَ محبّةَ اللَّهِ.
{وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]: إِذَا غَسَلتَ ثوبَكَ مِنَ النَّجاسةِ تحسُّ بأنَّ اللَّهَ أحبَّكَ؛ لأنَّ اللَّهُ يحبُّ المتطهِّرينَ.
إِذَا توضأْتَ، تحسُّ بأنَّ اللَّهَ أحبَّكَ، لأنَّكَ تطهَّرْتَ.
إِذَا اغتسلْتَ تُحسُّ أنَّ اللَّهَ أحبَّكَ؛ لأنَّ اللَّهَ يحبُّ المتطهِّرينَ…
وواللَّهِ، إننَّا
لغافلونَ عَنْ هذِهِ المعانِي، أكثرُ مَا نستعملُ الطَّهارةَ مِنَ
النَّجاسةِ أوْ مِنَ الأحداثِ؛ لأنهَّا شرطُ الصلاةِ، خوفًا مِنْ أنْ
تَفسُدَ صلاتُنَا، لكنْ يغيبُ عنَّا كثيراً أنْ نَشعُرَ بأنَّ هَذَا قربةٌ
وسببٌ لمحبَّةِ اللَّهِ لنَا، لو كُنَّا نستحضرُ عندمَا يغسلُ الإنسانُ
نقطةَ بولٍ أصابَتْ ثوبَهُ أنَّ ذلِكَ يجلبُ محبَّةَ اللَّهِ لَهُ
لحصَّلْنا خيراً كثيراً، لكنَّنا فِي غفلةٍ.
خامساً: قولُهُ: {قُل إن كُنتُم تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحبِبكُمُ اللَّهُ وَيَغفِر لَكُم ذُنُوبَكُم} [آل عمران: 31]:
هَذَا أيضاً يستوجبُ أنْ نحرصَ غايةَ الحرصِ عَلَى اتِّباعِ النَّبيِّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بحَيْثُ نترسمُ طريقَهُ، لاَ نخرجُ
مِنْهُ، ولاَ نقصِّرُ عَنْهُ، ولاَ نزيدُ، ولاَ ننقصُ.
وشعورُنا هَذَا
يحميِنا مِنَ البدعِ، ويحمِينا مِنَ التَّقصيرِ، ويحمِينا مِنَ الزِّيادةِ
والغلوِّ، ولو أننَّا نشعرُ بهذِهِ الأمورِ، فانظرْ كَيْفَ يكونُ سلوكُنَا
وآدابنُا، وأخلاقنُا وعباداتُنا.
سادساً: قولُهُ: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءاَمَنُوا مَن يَرتَدَّ مِنكُم عَن دِينِهِ فَسَوفَ يَأَتِي اللَّهُ بِقَومٍ يُحِبُّهُم وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]،
نحذرُ بِهِ من الردَّةِ عَنِ الإسلامِ، الَّتِي مِنْها تركُ الصَّلاَةِ
مثلاً، فَإِذَا علمْنا أنَّ اللَّهَ يهدِّدُنا بأنَّنَا إن ارتددْنا عن
دينِنا أهلكَنا اللَّهُ، وأتى بقومٍ يحبُّهمْ ويحبونَهُ، ويقومونَ
بواجبِهِم نحوَ ربِّهِم، فإنَّنَا نلازمُ طاعةَ اللَّهِ، والابتعادَ عنْ
كُلِّ مَا يُقرِّبُ للرِّدَّةِ.
سابعاً: قولُهُ: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرصُوصٌ} [الصف: 4].
إِذَا آمَنَّا بهذِهِ
المحبَّةِ، فعلْنا هذِهِ الأسبابَ الخمسةَ الَّتِي تستلزمُها وتوجبُها:
القتالُ، وعدمُ التَّوانِي، والإخلاصُ، بأنْ يكونَ فِي سبيلِ اللَّهِ، أنْ
يشدَّ بعضُنا بعضاً كأنَّنَا بنيانٌ، أنْ نُحْكِمَ الرَّابطةَ بيَنْنَا
إحكاماً قويًّا كالبنيانِ المرصوصِ، أنْ نَصُفَّ، وَهَذَا يقتضِي
التَّساويَ حِسًّا، حَتَّى لاَ تختلفَ القلوبُ، وهُوَ مِمَّا يؤكِّدُ
الأُلفةَ، والإنسانُ إِذَا رأى واحداً عن يمينِهِ، وواحداً عن يسارِه،
يَقْوَى عَلَى الإقدامِ، لكنْ لو يحُيطونَ بِهِ مِنْ جميعِ الجوانبِ،
فستشتدُّ همَّتُهُ.
فصارَ فِي هذِهِ الآياتِ ثلاثةُ مباحثَ:
1 – إثباتُ المحبَّةِ بالأدلَّةِ السَّمعيَّةِ.
2 – أسبابهُا.
3 – الآثارُ المسلكيَّةُ فِي الإيمانِ بِها.
أمَّا أهلُ البِدَعِ الَّذِينَ أنكرُوها فليسَ عِنْدَهُم إِلاَّ حجةٌ واهِيَةٌ، يقولون:
أَوَّلاً: إنَّ العقلَ لاَ يدلُّ عَلَيْهَا.
ثانياً:
إنَّ المحبَّةَ إنمَّا تكونُ بين اثنين متجانِسَيْنِ، لاَ تكونُ بينَ ربٍّ
ومخلوقٍ أبداً، ولاَ بأسَ أنْ تكونَ بينَ المخلوقاتِ، ونَحْنُ نردُّ
عَلَيْهِمْ فنقولُ:
نجيبكُم عَنِ الأوَّلِ – وهُوَ أنَّ العقلَ لاَ يدلُّ عَلَيْهِا – بجوابَيْنِ: أحدُهما: بالتَّسليمِ، والثَّاني: بالمنعِ.
التَّسليمُ:
نقولُ: سلَّمْنا أنَّ العقلَ لاَ يَدلُّ عَلَى المحبَّةِ، فالسَّمعُ دلَّ
عَلَيْهَا، وهُوَ دليلٌ قائمٌ بنَفْسِهِ، واللَّهُ - عزَّ وجلَّ - يقولُ
فِي القرآنِ: {وَنَزَّلنَا عَلَيكَ الكِتَابَ تِبايَنًا لِكُلِّ شَيءٍ} [النحل: 89]،
فَإِذَا كَانَ تبياناً فَهُوَ دليلٌ قائمٌ بنَفْسِهِ، وانتفاءُ الدَّليلِ
المعيَّنِ، لاَ يلزمُ مِنْهُ انتفاءُ المدلولِ؛ لأنَّ المدلولَ قَدْ يكونُ
لَهُ أدلَّةٌ متعدِّدةٌ، سواءٌ الحسِّيَّاتُ أو المعنويَّاتُ:
فالحسِّيَّاتُ: مثلُ بلدٍ لَهُ عدَّةُ طُرقٍ توصلُ إِلَيْهِ، فَإِذَا انسدَّ طريقٌ، ذهبْنَا مَعَ الطَّريقِ الثَّاني.
أمَّا المعنويَّاتُ فكَمْ مِنْ حُكْمٍ واحدٍ يكونُ لَهُ عدَّةُ أدلَّةٍ!، وجوبُ الطَّهارةِ للصَّلاةِ مثلاً فِيهِ أدلَّةٌ متعدِّدةٌ.
فإذاً: إِذَا قلتْمُ:
إنَّ العقلَ لاَ يدلُّ عَلَى إثباتِ المحبَّةِ بينَ الخالقِ والمخلوقِ،
فإنَّ السَّمعَ دلَّ عَلَيْهِ بأجلى دليلٍ وأوضحِ بيان.
الجوابُ الثَّاني: المنعُ:
أنْ نمنعَ دعوى أنَّ العقلَ لاَ يدلُّ عليْهَا، ونقولُ: بلِ العقلُ دلَّ
عَلَى إثباتِ المحبَّةِ بينَ الخالقِ والمخلوقِ، كَمَا سَبَقَ.
وأمَّا قولُكُم: إنَّ
المحبَّةَ لاَ تكونُ إِلاَّ بينَ متجانِسَيْنِ، فيكفِي أنْ نقولَ: لاَ
قبولَ لدعواكُمْ؛ لأنَّ المنعَ كافٍ فِي ردِّ الحُجَّةِ؛ إذْ إنَّ الأصلَ
عدمُ الثُّبوتِ، فنقولُ: دعواكُمْ أنَّها لاَ تكونُ إِلاَّ بينَ
متجانِسَيْنِ ممنوعٌ، بلْ هِيَ تكونُ بينَ غيرِ المتجانِسَيْنِ، فالإنسانُ
عندَهُ ساعةٌ قديمةٌ مَا أتعبتْهُ بالصِّيانةِ، ومَا فَسَدتْ عَلَيْهِ
قطُّ، فتجدهُ يحبُّها، وعندَهُ ساعةٌ تأخذُ مِنْهُ نصفَ وقتِهِ فِي
التَّصليحِ فتجدُهُ يبغضُها، وأيضاً نجدُ أنَّ البهائمَ تُحِبُّ وتُحَبُّ.
فنَحْنُ – ولِلَّهِ الحمدُ- نثبتُ لِلَّهِ المحبَّةَ بينَهُ وبَيْنَ عبادِهِ.
الروضة الندية للشيخ: زيد بن عبد العزيز بن فياض رحمه الله
المتن:
قال أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وقولُه: {وأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُحْسِنينَ}، {وأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ}، {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقيِموا لَهُم إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ}، {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ ويُحِبُّ المُتَطَهِّرينَ}، {قَلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُوني يُحْبِبْكُمُ اللهُ}، {فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ ويُحِبُّونَهُ}، {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذينَ يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ}. وقوله : {وَهُوَ الغَفُورُ الوَدُودُ} ).
الشرح:
قال الشيخ زيد بن عبد العزيز بن فياض (ت: 1416هـ): (إثباتُ صفةِ المحبَّةِ لِلَّهِ قد دَلَّ عليها الكِتابُ
والسُّنَّةُ وإجماعُ سلَفِ الأُمَّةِ، مَحبَّةً تَليقُ بجَلالِه تَعَالَى -
كما يُقال ذلك في سائرِ الصِّفَاتِ . وكذلك المَودَّةُ فهي صفةٌ لِلَّهِ ،
واسمُه تَعَالَى الوَدُودُ . والوُدُّ صفاءُ المَحبةِ وخالِصُها .
والحُبُّ اشتقاقُه في الأصلِ مِن الملازَمةِ والثُّبوتِ مِن قولِهم :
أَحَبَّ البعيرُ فهو مُحِبٌّ ، إذا بَرَكَ فلم يَثُرْ ، فالمُحِبُّ
مُلازِمٌ لذِكْرِ مَحبوبِه ، ثابتُ القلبِ على حُبِّه مُقيمٌ عليه لا
يَرُومُ عنه انتِقالاً ، ولا يَبْغِي عنه تَحَوُّلاً ؛ ولا زَوالاً ، قد
اتَّخَذَ له في سُويداءِ قَلْبِه وطَناً وجعلَه له سَكَناً . والحُبُّ
بالضَّمِّ والكَسْرِ ؛ والضَمُّ أوْلى لِوَجْهَيْنِ:
أَحدُهما : قُوَّتُه وقُوَّةُ الحُبِّ .
الثَّاني : أنَّ في الضَّمَّةِ مِن الجمْعِ ما
يُوازِي ما في معنى الحُبِّ مِن جَمْعِ الهِمَّةِ والإرادةِ على المحبوبِ ،
ولا تُوصَفُ المحبَّةُ ، ولا تُحَدُّ بِحَدٍّ أوضحَ مِن المحبَّةِ ، ولا
أقْرَبَ إلى الفَهْمِ مِن لفْظِها . فهي ألْطَفُ وأرَقُّ مِنْ كُلِّ ما
يُعَبَّرُ به عنها ، وللمَحبَّةِ مَراتِبُ :
أَوَّلُها : العَِلاقةُ : وهي تعلُّقُ القلْبِ بالمحبوبِ .
الثَّانيةُ : الإرادةُ ، وهي مَيْلُ القلبِ إلى محبوبِه ، وطلَبُه له .
الثَّالثةُ : الصَّبَابةُ وهي : انصِبابُ القلبِ إليه بحَيْثُ لا يَمْلِكُه صاحِبُه كانصِبابِ الماءِ في الحُدورِ .
الرَّابعةُ : الغَرامُ ، وهي الحُبُّ المُلازِمُ للقلبِ . ومنه الغريمُ لمُلازَمَتِه . ومنه : { إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً } .
الخامسةُ : المودَّةُ وهي صَفْوُ المحبَّةِ وخالِصُها ولُبُّها . قَالَ تَعَالَى : {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَـنُ وُدًّا } .
السَّادسةُ : الشَّغَفُ ، وهي وصولُ المحبَّةِ إلى شَغافِ القلبِ .
السَّابعةُ : العِشْقُ ، وهو الحُبُّ المُفْرِطُ
الَّذِي يُخافُ على صاحِبِه منه ، ولكن لا يُوصَفُ بِه الرَّبُّ تَعَالَى
ولا العبدُ في مَحَبَّةِ ربِّه ، وإنْ كان قد أطْلَقَه بعضُهم . واختُلِفَ
في سببِ المَنْعِ ، فقِيلَ : عدَمُ وُرودِه في الشرْعِ ، وقِيلَ غيرُ ذلك ،
ولعلَّ امتناعَ إطلاقِه أنَّ العِشْقَ محبةٌ مَعَ شهوةٍ .
الثَّامنةُ : التَّتَيُّمُ وهو بمعنى التَّعبُّدِ .
التَّاسعةُ : التَّعبُّدُ .
العاشرةُ : الخُلَّةُ ، وهي المحبةُ الَّتِي
تخلَّلَتْ رُوحَ المحِبِّ وقلبَه ، وإنمَّا يُوصفُ اللَّهُ تَعَالَى مِن
هذه الأنواعِ بالإرادةِ والوُدِّ ، والمَحبَّةِ ، والخُلَّةِ حَيْثُما
وَرَد النصُّ ، وقد صَحَّ عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أنه قَالَ : ((إِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَنِي خَلِيلاً كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خليلاً)). وفي "الصَّحيحيْنِ" عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ((لَوْ
كُنْتُ مُتَّخِذاً مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ خَلِيلاً لاتَّخَذْتُ أَبَا
بَكْرٍ خَلِيلاً ، وَلَكِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ)).
وقد
أنْكَرَ الجَهْمِيَّةُ والمعتزلةُ ومَن وافَقَهُم مَحَبَّةَ اللَّهِ ،
وقالوا : المحبَّةُ لا تكونُ إلا بين مُتَناسِبَيْنِ ، وبهذه الشُّبْهةِ
الفاسِدةِ ردُّوا صفةً مِن صِفَاتِ اللَّهِ الثَّابتةِ له . وما أحسَنَ ما
قَالَ الإمامُ أحمدُ : لا نُزِيلُ عن اللَّهِ صفةً مِن صِفَاتِه لأجْلِ
شفاعةِ المُشَنِّعينَ .
"والمناسَبةُ لفظٌ مُجْمَلٌ، فإنَّه قد يُرادُ بها التَّوالُدُ والقَرابةُ،
فيُقالُ : هذا نَسيبُ فلانٍ ويُناسِبُه، إذا كان بينَهم قَرابةٌ
مستَنِدَةٌ إلى الوِلادَةِ والآدَمِيَّةِ. واللَّهُ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى
مُنَزَّهٌ عن ذلك. ويُرادُ بها المماثَلةُ، فيُقالُ : هذا يُناسِبُ هذا أيْ
: يُماثِلُه . واللَّهُ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى أَحدٌ صَمَدٌ لم يَلِدْ ولم
يوُلَدْ ولم يكُنْ له كُفُواً أَحدٌ. ويُرادُ بها الموافَقةُ في معنًى مِن
المَعاني، وضِدُّها المخالفةُ، والمناسَبةُ بهذا الاعتبارِ ثابتةٌ، فإنَّ
أولياءَ اللَّهِ تَعَالَى يُوافِقونَه فيما يأمُرُ به فيَفْعلُونه، وفيما
يُحِبُّه فيُحِبُّونَه، وفيما نهَى عنه فيَترُكونه، وفيما يُعطِيه
فيُصِيبونه . واللَّهُ وِتْرٌ يُحِبُّ الوِتْرَ ، جَميلٌ يحِبُّ الجَمالَ ،
نظيفٌ يحِبُّ النظافةَ ، مُحْسِنٌ يحِبُّ المُحْسِنين، مُقْسِطٌ يحِبُّ
المُقْسِطينَ إلى غيرِ ذلك مِن المعاني ، فإذا أُرِيدَ بالمناسَبةِ هذا
وأمثالُه ، فهذه المناسَبةُ حَقٌّ . وهي مِن صِفَاتِ الكمالِ كما تقدَّمَ
الإشارةُ إليه ، فإنَّ مَن يحِبُّ صِفَاتِ الكمالِ أَكْملُ ممَّن لا فَرْقَ
عندَه بين صِفَاتِ النقصِ والكمالِ ، أو لا يحِبُّ صِفَاتِ الكمالِ . وإذا
قُدِّرَ مَوجودانِ أحدُهما يحِبُّ العِلمَ والصِّدْقَ والعَدْلَ والإحسانَ
ونحوَ ذلك ، والآخَرُ لا فَرْقَ عندَه بينَ هذه الأمورِ وبينَ الجهْلِ
والكَذِبِ والظُّلْمِ ونحوِ ذلك لا يحِبُّ هذا ولا يُبْغضُ هذا كان الَّذِي
يحِبُّ تلك الأمورَ أَكْمَلُ مِن هذا" .
"وهَؤُلاَءِ الَّذِين يَنْفُونَ أنَّ اللَّهَ يُحِبُّ ويُحَِبُّ آخِرُ
أمْرِهِم أنه لا يَبْقَى عندَهم فَرْقٌ بالنسبةِ إلى اللَّهِ بين أوليائِه
وبينَ أعْدائِه، ولا بَيْنَ الإيمانِ والكُفْرِ، ولا بينَ ما أَمَرَ به،
وما نَهَى عنه، ولا بين بُيُوتِه الَّتِي هي المساجِدُ، وبين الحاناتِ
ومواضِعِ الشِّرْكِ" .
وقَالَ تَعَالَى : {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} .
"والوُدُّ خالِصُ الحُبِّ وألْطَفُه وأرَقُّه ، وهو مِن الحُبِّ بمَنْزلَةِ
الرأفةِ والرَّحْمَةِ . قَالَ الجوهريُّ : وَدِدْتُ الرَّجُلَ أوَدُّهُ
وُدًّا إذا أحبَبْتُه . والوُدُّ والوِدُّ : المَوَدَّةُ، تقولُ : بِوُدِّي
أنْ يكونَ كذا . والوِدُّ : الوَدِيدُ بمعنى المَوْدودِ ، والوَدُودُ
المُحِبُّ . اهـ والوَدودُ مِن صِفَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى :
أصلُه مِن المَودَّةِ .
واختُلِفَ فيه على قولَيْنِ :
فقِيلَ :
هو وَدودٌ بمعنى وَادٍّ كضَرُوبٍ بمعنى ضارِبٍ ، وقَتُولٍ بمعنى قاتِلٍ .
ونَؤمٍ بمعنى نائمٍ . ويشهَدُ لهذا القولِ أنَّ فَعُولاً في صِفَاتِ
اللَّهِ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى فاعِلٌ كغَفُورٍ بمعنى غافِرٍ ، وشَكورٍ
بمعنى شاكِرٍ ، وصَبورٍ بمعنى صابِرٍ.
وقِيلَ : بل هو بمعنى مَوْدُودٍ ، وهو الحبيبُ . وبذلك فسَّرَه البخاريُّ في "صحيحِه"، فَقَالَ : الوَدُودُ الحبيبُ .
والأوَّلُ أظْهَرُ لاقْتِرانِه بالغَفورِ في قوله : {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} وبالرَّحِيمِ في قولِه : {إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ}. وفيه سِرٌّ لَطيفٌ وهو : أنَّه يُحِبُّ عبدَه بعدَ المغفرةِ فيَغْفِرُ له ويُحِبُّه كما قَالَ تَعَالَى : {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}.
فالتَّائبُ حبيبُ اللَّهِ، فالوُدُّ أصْفَى الحُبِّ
وألْطَفُه"،"والتَّحقيقُ أنَّ اللَّفْظَ يدُلُّ على الأمرَيْنِ على كَوْنِه
وَادًّا لأوليائِه مَوْدُوداً لهم، فأحدُهما بالوضعِ ، والآخَرُ باللزومِ ،
فهو الحبيبُ المُحِبُّ لأوليائِه يُحِبُّهم ويحِبُّونه . وما ألْطَفَ
اقترانَ اسمِ الوَدودِ بالرحيمِ وبالغَفورِ ، فإنَّ الرجُلَ قد يَغْفِرُ
لِمَن أساءَ إليه ولا يُحِبُّه وكذلك قد يَرْحَمُ مَن لا يُحِبُّ.
والرَّبُّ تَعَالَى يَغْفِرُ لعبدِه إذا تابَ إليه ، ويَرْحمُه ويُحِبُّه
مَعَ ذلك فإنَّه يُحِبُّ التَّوَّابِينَ ، فإذا تابَ إليه عبدُه أحَبَّه
ولو كان منه ما كان".
وكوْنُه مَوْدوداً لَيْسَ بعجيبٍ ، وإنمَّا العجيبُ جُودُه وإحسانُه ،
فإنَّه يتودَّدُ إلى عِبادِه كما جاءَ في الأثرِ : يا عبدي كم أتوَدَّدُ
إليكَ بالنِّعَمِ وأنتَ تَمَقَّتُ إليَّ بالمعاصي ، ولا يَزالُ مَلَكٌ
كريمٌ يصعدُ إليَّ منك بعَمَلٍ سَيِّئٍ . وأيضاً فمَبدأُ الحُبِّ والوُدِّ
منه لكنِ اسمُه الودودُ يَجمَعُ المعنيَيْنِ ، كما قَالَ الوالِبيُّ ، عن
ابنِ عباسٍ : إنه الحبيبُ . وذلك أنه إذا كان يَوَدُّ عِبادَه فهو مستحِقٌّ
لأنْ يَوَدَّهُ العِبادُ بالضَّرُورَةِ ، فإذا قِيلَ : إنَّ الودودَ بمعنى
الوادِّ لزِمَ أنْ يكونَ مَوْدوداً بخلافِ العكسِ.
فالصَّوابُ القَطْعُ بأنَّ الودودَ هو الَّذِي يَوَدُّ ، وإنْ كان ذلك
متضمِّناً لأنه يستحِقُّ أنْ يُوَدّ َ ، لَيْسَ هو بمعنى المَوْدُودِ فقطْ .
ولفظُ الوِدادِ بالكَسرِ هو مِثلُ : المُوادَّةِ والتَّوادِّ ، وذاك يكونُ
مِن الطَّرَفَيْنِ كالتَّحابِّ . وكلُّ وُدٍّ في الوجودِ فهو مِن فِعلِه،
فالَّذِي جَعَلَ الوُدَّ في القلوبِ هو أوْلى بالوُدِّ كما قَالَ ابنُ
عباسٍ ومجاهِدٌ وغيرُهما في قولِه : {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا}.
قَالَ : يُحِبُّهم ويُحَبِّبُهم . وقد دَلَّ الحديثُ الَّذِي في
"الصَّحيحَيْنِ" على أنَّ ما يجعلُه مِن المحبَّةِ في قلوبِ الخَلْقِ هو
بعدَ أنْ يكونَ قد أحبَّه. وأمَرَ جبريلَ أنْ ينادِيَ ، بأنَّ اللَّهَ
يُحِبُّه ، ((فينادي جبريلُ في السَّمَاءِ : إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فلاناً فأَحِبُّوه)) ).
التنبيهات السنية للشيخ: عبد العزيز بن ناصر الرشيد رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وقوله سُبْحَانَهُ: {وأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُحْسِنينَ}.(1)
وَقَوْلُهُ {وأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ}.(2)
وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقْيِموا لَهُم إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ}، وَقَوْلُهُ {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِيْنَ ويُحِبُّ المُتَطَهِّرينَ}.(3)
وقولُه: {قَلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُوني يَحْبِبْكُمُ اللهُ ويغفر لكم ذنوبكم}، وقَوْلُهُ: {من
يرتد منكم عن دينه فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ
ويُحِبُّونَهُ أذلة على المؤمنين أعزةٍ على الكافرين يجاهدون فى سبيل الله
ولا يخافون لومةَ لائم}.(4)
{ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ …}.(5)
وقولُهُ سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذينَ يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ}، وقَوْلُهُ: {وَهُوَ الغَفُورُ الوَدُودُ} (6)).
الشرح:
قال الشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد (ت: 1408هـ): ((1) قولـُه: {وأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُحْسِنينَ}:
لمـَّا حثَّ على الصـَّدقةِ والإنفاقِ في وجوهِ الخيرِ أمرَ بالإحسانِ،
وهو أعلى مقاماتِ الطَّاعةِ، وهو الإتيانُ بالعملِ على أحسنِ أحوالِهِ
وأكملِها، وهذا أمرٌ عامٌّ بالإحسانِ في معاملةِ اللهِ، وفي معاملةِ خلقِه،
إذ حَذْفُ المعمولِ يُؤْذِنُ بالعمومِ.
عن شدَّادِ بنِ أوسٍ أنَّ رسولَ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((إِنَّ
اللهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلى كُلِّ شَيءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ
فَأَحْسِنُوا القِتْلَةَ، وإذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ،
وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ)) رواه
مُسلمٌ. فهذا الحديثُ كالآيةِ فيهما دليلٌ على وجوبِ الإحسانِ في كلِّ شيءٍ
من الأعمالِ، لكنَّ إحسانَ كلِّ شيءٍ بحسَبِهِ، وفي هذه الآيةِ وأمثالِها
دليلٌ على أنَّ اللهَ موصوفٌ بالمحبَّةِ، وأنَّه يحبُّ حقيقةً, ومحبَّتـُه
-سُبْحَانَهُ- كما يليقُ بجلالِه، وفيها دليلٌ على أنَّه يُحبُّ مقتضى
أسمائِه وصفاتِه وما يوافقُها، فهو مُحْسِنٌ يُحِبُّ المحْسِنين، ومُؤمِنٌ
يُحبُّ المؤمنينَ، وفي هذه الآيةِ وأمثالِها دليلٌ على أنَّ محبَّتـَه
-سُبْحَانَهُ وتعالَى- تتفاضلُ، فيحبُّ بعضَ المؤمنين أكثرَ من بعضٍ، وفيها
إشارةٌ إلى أنَّ الجزاءَ من جنسِ العملِ، وأنَّ الإحسانَ أَعظَمُ سَبَبٍ
لمحبَّةِ اللهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- للعبدِ، وفيها أدلَّةٌ واضحةٌ على
إثباتِ فِعلِ العبدِ وكسبِه، وأنه يُثَابُ على حَسَنِه ويُعاقَبُ على
سيِّئِه، فتضمَّنتْ هذه الآيةُ الرَّدَّ على القدريَّةِ والجبريَّةِ، وفيها
إثباتُ العلَّةِ والحكمةِ.
(2) قولُه: {وأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ}: أي اعدلُوا في معاملاتِكم، وأحكامِكم مع القريبِ والبعيدِ، يقالُ: أَقْسَطَ بمعنى عدلَ، وقَسَطَ بمعنى جارَ، قال تعالى: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَبًا}
ومن أسمائِه سُبْحَانَهُ: المُقْسِطُ أي العادلُ، ففي هذه الآيةِ الحثُّ
على العدلِ وفضلِه، وأنَّه سببٌ لمحبَّةِ اللهِ، وأنَّ العدلَ في
الرَّعيَّةِ من أفضلِ القُرَبِ، سواءٌ كانتْ رعيَّةً عامَّةً كالحاكمِ، أوِ
خاصَّةً كعدلِ آحادِ النَّاسِ في بيتِه وولدِهِ، كما في الحديثِ: ((كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رعيَّتِه)) وفي صحيحِ مُسلمٍ عن عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو عن النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- أنَّه قال: ((إِنَّ
المُقْسِطِينَ عَلى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمينِ الرَّحْمنِ،
وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، الَّذينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ
وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وُلُّوا)) وفي التِّرمذيِّ عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ رَضِي اللهُ عَنْهُ عن النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((إِنَّ أَحَبَّ العِبَادِ إِلى اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ وَأَدْنَاهُمْ إِليْهِ مَجْلِسًا إِمَامٌ عَادِلٌ)).
(3) قولـُه: {فَمَا استقامُوا}: ((ما)) شرطيـَّةٌ، أي ما استقامَ لكم المُشركونَ على العهدِ ولم ينقضُوه فاستقِيموا لهم على الوفاءِ به.
قولُه: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ}:
أي المتـَّقين للذِّنوبِ والمعاصِي، والتَّقوى: هي التَّحرُّزُ بطاعةِ
اللهِ عن معصيتِه، فهي كلمةٌ جامعةٌ لفعلِ المأموراتِ، وتركِ المنهِيَّاتِ.
قالَ طلقُ بنُ حبيبٍ: التَّقوى:
أنْ تَعبُدَ اللهَ، على نورٍ من اللهِ، ترجُو ثوابَ اللهِ، وأنْ تَتركَ
معصيةَ اللهِ، على نورٍ من اللهِ، تخافُ عِقابَ اللهِ. في هذه الآيةِ الحَثُّ على الوفاءِ بالعهدِ وتحريمُ الغدرِ، وفيها فضلُ التَّقوى والحثُّ عليها، وفيها إثباتُ محبَّةِ اللهِ.
قولُه: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ}:
أي من الذُّنوبِ والمعاصي، والتَّوَّابُ: هو الَّذي كُلَّما أَذْنَبَ
تَابَ، يُقالُ: تابَ يتوبُ أي: رجعَ، وتَوَّابٌ كثيرُ التَّوبةِ، وتوَّابٌ
من أسماءِ اللهِ -سُبْحَانَهُ- وتعالى، أي كثيرُ التَّوبةِ على عبادهِ،
وتابَ على العبدِ ألهمه التَّوبةَ وقَبِلَ توبَتهُ.
قال ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ: والعبدُ توَّابٌ واللهُ تَوَّابٌ، فتوبةُ العبدِ رجوعُه إلى سيِّدِه بعد إباقٍ، وتوبةُ اللهِ نوعانِ: إذنٌ وتوفيقٌ، وقبولٌ واعتدادٌ. ا هـ.
فالتَّوبةُ لغةً: الرُّجوعُ. يُقالُ: تابَ وآبَ وأنابَ وثابَ، كلُّها بمَعْنى رجعَ.
وشرعًا: الرُّجوعُ عن الذَّنبِ، وهي واجبةٌ من جميعِ الذُّنوبِ على الفورِ، قالَ اللهُ تعالى: {وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ} والآياتُ والأحاديثُ في الأمرِ بالتَّوبةِ والحثِّ عليها كثيرةٌ جدًّا، وتصحُّ التَّوبةُ من بعضِ الذُّنوبِ دونَ بعضٍ، وللتَّوبةِ ثلاثةُ شروطٍ:
الأوَّلِ: النَّدمُ على ما فاتَ،
والثَّاني: العزمُ على أَنْ لا يعودَ،
والثَّالثِ: الإقلاعُ عن الذَّنبِ،
فإن كانتِ التَّوبةُ من حقوقِ الآدميِّين اشتُرِطَ شرطٌ رابعٌ: وهو الخروجُ عن تلك المظلِمةِ واستحلالُه إنْ كانتْ غيبةً،
وللتَّوبةِ أيضًا شرطٌ خامسٌ: وهو أنْ يتوبَ قبلَ الغرغرةِ، كما في الحديثِ الصَّحيحِ: ((إِنَّ اللهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ العَبْدِ مَا لمْ يُغَرْغِرْ)).
وأمَّا في حالةِ الغرغرةِ وهي حالةُ النَّزعِ فلا يقبلُ توبتَهُ، وأمَّا
التَّوبةُ النَّصوحُ فهي الخالصةُ الَّتي لا يختصُّ بها ذنبٌ دونَ ذنبٍ،
وقيلَ إنَّ التَّوبةَ النَّصوحَ هي أَنْ يتركَ الذَّنبَ ثمَّ لا يعودُ
إليه، كما لا يعودُ اللبنُ في الضَّرْعِ.
قولُه: {ويُحِبُّ المُتَطَهِّرينَ} أي عن الذُّنوبِ والمعاصي، وعن الأحداثِ والنَّجاساتِ.
فالطَّهارةُ لغةً: النَّزاهةُ والنَّظافةُ عن الأقذارِ حِسِّيـَّةً كانت أو معنويَّةً، فالحسِّيَّةُ كالطَّهارةِ عن الأحداثِ والنَّجاساتِ، والمعنويَّةُ كالطَّهارةِ
عن الذُّنوبِ والمعاصي، والآيةُ شاملةٌ عامَّةٌ حاثَّةٌ على الطَّهارتينِ،
وفي حديثِ أبي مالكٍ الأشعريِّ الَّذي رواه مسلمٌ: ((الطُّهورُ شَطْرُ الإِيمَانِ))
الحديثَ. وتقديمُ التَّوابينَ على المتطهِّرينَ من بابِ تقديمِ السَّببِ
على المسبَّبِ؛ لأنَّ التَّوبةَ سَبَبُ الطَّهارةِ. أفاده ابنُ القيِّمِ في
(بدائعِ الفوائدِ).
ففي هذه الآياتِ المتقدِّمةِ إثباتُ محبَّتِهِ
-سُبْحَانَهُ وتعالَى- كما يليقُ بجلالِه وعظمتِه، خلافًا للمبتدعَةِ من
جهميَّةٍ ومعتزلةٍ, الَّذين أنْكروا محبَّـتَه سُبْحَانَهُ، وهم في
الحقيقةِ مُنكرون للإلهيَّةِ، فإنَّ الإلهَ هو المألوهُ الَّذي تألهُهُ
القلوبُ محبَّةً وإجلالاً وخوفًا وتعظيمًا.
قال الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ بنُ تيميةَ: في هذه
الآياتِ إثباتُ محبَّةِ اللهِ، وهي على حقيقتِها عند سلفِ الأمَّةِ
ومشائِخِها. وأوَّلُ مَن أنكرَ حقيقتَها شيخُ الجهميَّةِ الجعدُ بنُ درهمٍ،
فهو أوَّلُ مَن ابتدعَ هذا في الإسلامِ، في أوائلِ المائةِ الثَّانيةِ،
فضحَّى به خالدُ بنُ عبدِ الله القسريُّ أميرُ العراقِ والمشرقِ بواسطَ.
خطبَ النَّاسَ يومَ الأضحى فقالَ: يا أيُّها النَّاسُ
ضَحُّوا تقبَّلَ اللهُ ضحاياكم، فإنَّي مُضحٍّ بالجعدِ بنِ درهمَ، فإنَّه
زعمَ أنَّه لم يتَّخذْ إبراهيمَ خليلاً ولا كلَّمَ موسى تكليمًا،
ثمَّ نزلَ وذبحَه، وكان ذلك بِفَتوى أهلِ زمانِه من عُلماءِ التَّابعين
رَضِيَ اللهُ عَنْهُم، وأخذَ هذا المذهبَ عن الجعدِ بنِ درهمٍ: الجهمُ بنُ
صفوانَ، فأظهرَه وناظرَ عليه، وإليه أُضيفَ قولُ الجهميَّةِِ فقتلهُ سلمُ
بنُ أجوزَ أميرُ خُراسانَ بها، ثمَّ انتقلَ ذلك إلى المعتزلةِ أتباعِ عمرِو
بنِ عبيدٍ، وظهَرَ قولُهم في أثناءِ خلافةِ المأمونِ، حتَّى امتحنَ
أئمَّةَ الإسلامِ ودَعوهم إلى الموافقةِ على ذلك؛ وأصلُ ذلك مأخوذٌ عن
المشركينَ والصَّابئةِ وهم يُنكرون أنْ يكونَ إبراهيمُ خليلاً، لأنَّ
الخُلَّةَ هي: كمالُ المحبَّةِ المستغرقةِ للمحبِّ كما قيل:
قد تخلَّلتَ مسلكَ الرَّوحِ مِنِّي ... وبذا سُمِّيَ الخليـلُ خليـلاً
ولكنَّ محبَّتَه وخُلَّتـَه كما يليقُ به كسائرِ صفاتِه. اهـ.
والَّذي يُوصفُ به -سُبْحَانَهُ وتعالَى- من أنواعِ
المحبَّةِ: الإرادةُ والودُّ والمحبَّةُ والخُلَّةُ كما ورَد النَّصُّ. من
(شرحِ الطَّحاويَّةِ).
(4) قولـُه -سُبْحَانَهُ- وتعالى: {قُلْ إِنْ كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}. قالَ الحسنُ: ادَّعى قومٌ أنَّهم يُحِبِّون اللهَ فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ مِحْنَةً لهم،
فهذه الآيةُ فيها دليلٌ على أنَّ مَن ادَّعى ولايةَ اللهِ ومحبَّتَه وهو
لم يَتَّبِعْ ما جاءَ به رسولُه -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- فليسَ من
أولياءِ اللهِ، بل من أولياءِ الشـَّيطانِ، وفيها أنَّ علامةَ ودليلَ
محبَّةِ الله هو اتِّباعُ رسولِهِ، وأنَّ مَن اتَّبعَ الرَّسولَ حصلَتْ له
محبَّةُ اللهِ، قال بعضُ السَّلفِ: ليس الشَّأنُ أنْ تُحِبَّ، إنَّما الشَّأنُ أن تُحَبَّ،
وفيها إثباتُ المحبَّةِ من الجانبينِ، فمحبَّةُ اللهِ لأنبيائِه ورسلِه
وعبادِه الصَّالحين صفةٌ زائدةٌ على رحمتِه وإحسانِه وإعطائِه، فإنَّ ذلك
أثرُ المحبَّة وموجبُها، فإنَّ اللهَ لمَّا أَحَبَّهم كان نصيبُهم من
رحمتِه وإحسانِه أَتَمَّ نصيبٍ.
هذا قولُ أهلِ السُّنـَّةِ والجماعةِ، وأمَّا
الجهميَّةُ والمعتزلةُ فعكسُ هؤلاءِ، فإنَّه عندَهم لا يُحِبُّ ولا
يُحَبُّ، ولم يمكنْهم تكذيبُ النُّصوصِ المتكاثرةِ في إثباتِ المحبَّةِ من
الجانبينِ، فَأَوَّلُوا نصوصَ محبَّةِ العبادِ له على محبَّةِ طاعتِه
وعبادتِه، وأوَّلوا نصوصَ محبَّتِه لهم بإحسانِه إليهم، وإعطائِهم
الثَّوابَ، ونحوِ ذلك من التَّأويلاتِ الفاسدةِ، المصادمةِ لأدلَّةِ
الكتابِ والسُّنـَّةِ الكثيرةِ في إثباتِ المحبَّةِ من الجانبينِ.
قال ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ: وجميعُ طرقِ
الأدلَّةِ عقلاً ونَقْلا وفطرةً وقياسًا وذوقًا واعتبارًا ووجدانًا تدلُّ
على إثباتِ محبَّةِ العبدِ لربِّه، والرَّبِّ لعبدِهِ، وقد ذَكَرنا لذلك
قريبًا من مائةِ دليلٍ في كتابِنا الكبيِرِ في المحبَّةِ. اهـ.
قولُه: {مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ}: أي يرجعُ، والرَّدُّ لغةً: الرُّجوعُ.
وشرعًا: هو الَّذي يكفرُ بعدَ إسلامهِ نُطقًا أو اعتقادًا أو شكًّا أو فِعلاً.
قولُه: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}: أي مَنْ تولَّى عن نُصرةِ دينِه وإقامةِ شريعتِهِ فإنَّ اللهَ يستبدلُ به مَنْ هو خيرٌ منه وأَقومُ سبيلاً، كما قال تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَالَكُم} الآيةَ، والقومُ: الجماعةُ من النَّاسِ.
قولُه: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}: أي: أهلِ رقَّةٍ وتواضعٍ للمؤمنينَ، قال عطاءٌ: للمؤمنينَ كالولدِ لوالدِه، والعبدِ لسيِّدِه، وعلى الكافرين كالأسدِ على فريستِه.
قولُه: {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}: أي أهلِ غلظةٍ وشدَّةٍ على الكافرين، وهذه من صفاتِ المؤمنينَ، كما قالَ سُبْحَانَهُ: {مَّحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} وفي صفةِ رسولِ اللهِ: أنَّه الضَّحوكُ القتَّالُ، فهو ضحوكٌ لأوليائِه، قتَّالٌ لأعدائِه.
قولُه: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}:
أي بأموالِهم، وأنفسِهِم، وألسنتِهم، وذلك تحقيقُ دعْوى المحبَّةِ،
والجهادُ لغةً: بَذْلُ الطَّاقةِ والوُسْعِ. وشرعًا: قتالُ الكفَّارِ، وقد
تَكاثَرتِ الأدلَّةُ على فضلِ الجهادِ والحثِّ عليه.
قوله: {وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ}:
أي لا تَأْخُذهم في اللهِ لومةُ لائمٍ، وهذا علامةُ صِحَّةِ المحبَّةِ، أي
لا يَرُدُّهم عن مَا هُمْ فيه من طاعةِ اللهِ ورسولِه رَادٌّ، ولا
يَصُدُّهم عنهم صَادٌّ، ولا يَخافونَ في ذلك لومةَ لائمٍ، ولا عَذْلَ
عَاذِلٍ، كما روى الإمامُ أحمدُ من حديثِ أبي ذرٍّ قال: أَمَرَنِي
خَلِيلِي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- بِسَبْعٍ: أَمَرَنِي بِحُبِّ
الْمَسَاكِيِن وَالدُّنُوِّ مِنْهُمْ، وَأَمَرَنِي أَنْ أنْظُرَ إِلى مَنْ
هُوَ دُونِي وَلاَ أَنْظُرَ إِلى مَنْ هُوَ فَوْقِي، وَأَمَرَنِي أَنْ
أَصِلَ الرَّحِمَ وَإِنْ أَدْبَرَتْ، وَأَمَرَنِي أَنْ لاَ أَسْأَلَ
أَحَدًا شَيْئًا، وَأَمَرَنِي أَنْ أَقُولَ الحقَّ وَإِنْ كَانَ مُرًّا،
وَأَمَرَنِي أَنْ لاَ أَخَافَ فِي اللهِ لَوْمَةَ لاَئِمٍ، وَأَمَرَنِي
أَنْ أُكْثِرَ مِنْ قَوْلِ لاحَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ
فَإِنَّهُنَّ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ العَرْشِ.
(5) قولُه: {ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ}: أي مَن اتَّصفَ بهذه الصِّفاتِ فإنَّما هو مِنْ فضلِ اللهِ عليه وتَوْفيقِه له.
قولُه: {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}:
أي واسعُ الفضلِ، عليمٌ بمَن يَستحقُّ ذلك مِمَّنْ يَحْرِمُهُ إيَّاه،
أفادت هذه الآيةُ: إثباتَ المحبَّةِ حقيقةً من الجانبَينِ، خلافًا
للمبتدعةِ من الجهميَّةِ والمعتزلةِ، ومَن سلكَ سبيلَهم، وأفادتْ هذه
الآيةُ التَّحذيرَ عن معصيةِ اللهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- وأنَّ الكافرَ
والعاصيَ لم يضرَّ إلا نفسَه، وأفادت عظيمَ قُدرتِه -سُبْحَانَهُ وتعالَى-
في أنَّ مَن تَوَلَّى عن دينِه وأَعْرَضَ عنه فإنه يَسْتَبدِلُ به غيرَه،
وأفادتْ أنَّ هذه الأربعَ من صفاتِ المؤمنينَ، وهي: الحبُّ في اللهِ، والبغضُ في اللهِ، والجهادُ في سبيلِ اللهِ، والقيامُ بأمرِه
على الكبيرِ والصَّغيرِ والقريبِ والبعيدِ، وأفادتْ أيضًا إثباتَ فعلِ
العبدِ حقيقةً، كما أفادت أنَّ الأعمالَ الصَّالحةَ سببٌ للسَّعادةِ، كما
قال تعالى {جَزَاءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} وأنَّ ذلك من فضْلِه -سُبْحَانَهُ- وتوفيقِه، كما في الصَّحيحِ: ((لَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَدْخُلُ الجَنَّةَ بِعَمَلِهِ)) قَالُوا: وَلاَ أَنْتَ يَارَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: ((وَلاَ أَنَا إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللهُ بِرَحْمَتِهِ)).
وفيها أيضًا وجوبُ إفرادِه -سُبْحَانَهُ- بالمحبَّةِ، فإنَّ محبَّـتَه
-سُبْحَانَهُ وتعالَى- هي أصلُ دينِ الإسلامِ، فَبِكَمَالها يكملُ دينُ
العبدِ وبنقِصهَا ينقصُ.
قال ابنُ رجبٍ رحمه اللهُ تعالى: وقد عُلِمَ أنَّ
العبادةَ إنما تَنْبَني على ثلاثةِ أصولٍ: الخوفِ والرَّجاءِ والمحبَّةِ،
وكلُّ منها فرضٌ لازمٌ، والجمعُ بين الثَّلاثةِ حتمٌ واجبٌ، ولهذا كانَ
السَّلفُ يَذُمُّونَ مَن تَعَبَّدَ بواحدٍ منها دونَ الآخرِ. انتهى.
(6) قولـُه: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذينَ يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِهِ}: أي يُجاهدون في سبيلِ اللهِ بأموالهِم وأنْفُسهِم في إعلاءِ كلمةِ اللهِ -سُبْحَانَهُ- وتعالى.
قولُه: {صَفًّا}:
أي يَصُفُّون أنفسهَم عندَ القتالِ صفًّا، ولا يَزُولُون عن أماكِنهم،
كأنـَّهم بُنيانٌ مَرْصُوصٌ قد رُصَّ بعضُه ببعضٍ، أي أُلزِقَ بعضُه ببعضٍ
وأُحْكِمَ، فليس فيه فرْجةٌ ولا خللٌ. روى الإمامُ أحمدُ من حديثِ أبي
سعيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِي اللهُ عَنْهُ قال: قال رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ
عليهِ وسلَّمَ-: ((ثلاثةٌ
يَضْحَكُ اللهُ إِليْهِمْ: الرَّجُلُ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ، وَالْقَوْمُ
إِذَا صَفُّوا لِلصَّلاَةِ، والقَوْمُ إِذَا صَفُّوا لِلقِتَالِ)) رواه ابنُ ماجةَ.
أفادتْ هذه الآيةُ: فضلَ الجهادِ في سبيلِ اللهِ
والحثَّ عليه، وأفادَت النَّدبَ إلى الصُّفوفِ في القتالِ، وأفادتْ إثباتَ
المحبَّةِ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- وهو قولُ جميعِ السَّلفِ، وأنكرتِ
الجهميَّـةُ حقيقةَ المحبَّةِ من الجانِبينِ، زعمًا منهم أنَّ المحبَّةَ لا
تكونُ إلا لمُناسبةٍ بين المُحِبِّ والمحبوبِ، وأنَّه لا مُناسبةَ بينَ
القديمِ والمُحْدَثِ تُوجِبُ المحبَّةَ، وهذا القولُ باطلٌ تَرُدُّه
أدلَّةُ الكتابِ والسُّنَّةِ المُتكاثرةُ.
قولُه: {الغَفُورُ}:
من أَبْنِيَةِ المبالغةِ، أي كثيرُ المغفرةِ، وأصلُ الغَفْرِ السَّـترُ،
ومنه المِغْفرُ فهو -سُبْحَانَهُ وتعالَى- يَغفرُ لمَن تابَ إليه، أي
يَسترُ ذنوبَه ويتجاوزُ عن خطاياه.
قال ابنُ رجبٍ رحمهُ اللهُ تعالى: المغفرةُ مَحْوُ
الذَّنبِ وإزالةُ أثرهِ ووقايةُ شرِّهِ، ومنه المِغْفرُ لِما يَقي الرَّأسَ
من الأذَى، لا كما ظنَّه بعضُهُم السَّترُ، فالعِمامةُ لا تُسمَّى
مِغْفَرًا مع سترِها، فلا بُدَّ في لفظِ المغفرِِ من الوقايةِ. انتهى.
والغَفُورُ أبلغُ من الغَافِرِ، لأن فَعولَ موضوعٌ
للمبالغةِ، والغَفَّارُ، أي السَّـتَّارُ لذنوبِ عبادهِ أبلغُ من الغفورِ،
لأنَّه للتَّكثيِرِ من غيرِ حَصْرٍ، وقد جاءَ في التَّـنزيلِ: الغَفورُ
والغَفَّارُ والغَافِرُ.
قولُه: {الوَدُودُ}:
من الوُدِّ: وهو خالصُ الحبِّ وألطفُه وأرقـُّه، والودودُ من صفاتِ اللهِ
-سُبْحَانَهُ وتعالَى- أصلُه من المودَّةِ، أي المُتَوَدِّدُ إلى عبادهِ
بنعمِهِ، الَّذي يودُّ مَن تابَ إليه وأَقْبَلَ عليه، وهو أيضًا الوَدودُ،
أي المحبوبُ. قال البخاريُّ في صحيحِه: الودودُ الحبيبُ، والتَّحقيقُ: أنَّ
اللفظَ يدلُّ على الأمريْنِ، على كونِه وادًّا لأوليائِه، ومودودًا لهم.
انتهى. مِن كلامِ ابنِ القيِّم باختصارٍ).