الدروس
course cover
الإيمان بصفة المشيئة والإرادة لله جل وعلا
11 Nov 2008
11 Nov 2008

4086

0

0

course cover
العقيدة الواسطية

القسم الثالث

الإيمان بصفة المشيئة والإرادة لله جل وعلا
11 Nov 2008
11 Nov 2008

11 Nov 2008

4086

0

0


0

0

0

0

0

الإيمان بصفة المشيئة والإرادة لله جل وعلا

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وَقَوْلُهُ : {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ}[سُورَةُ الْكَهْفِ : 39] وَقَوْلُهُ : {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من ءامن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقْتَتَلُواْ وَلَـكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}[سُورَةُ البَقَرَةِ : 253]،{أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ}[سُورَةُ المَائِدَةِ :1] ، وَقَوْلُهُ :{فَمنْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمنْ يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ}[سُورَةُ الأَنْعَامِ : 125] ).

هيئة الإشراف

#2

7 Dec 2008

التنبيهات اللطيفة فيما احتوت عليه الواسطية من المباحث المنيفة لابن سعدي رحمه الله

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وقوله: (وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ) [الكهف: 39]. وقوله: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَـكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) [البقرة: 253]. وقوله: (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ) [المائدة:1]. وقوله: (فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ) [الأنعام: 125].[1]).

الشرح:

قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): (([1])ومن الأصول الثابتة في الكتاب والسُّنة المتفق عليها بين السلف التفريق بين مشيئة الله وإرادته، وبين محبته. فمشيئة الله وإرادته الكونية تتعلق بكل موجود محبوب لله وغير محبوب كما ذكر في هذه الآيات وأن الله يفعل ما يريد وما يشاء، وإذا أراد شيئاً قال له كُنْ فيكون، وأما محبته فإنها تتعلق بما يحبه خاصة من الأشخاص والأعمال كما ذكر في هذه الآيات تقييدها بأنه يحب الصابرين والمتقين والمؤمنين والمحسنين والمقسطين ونحوها، فمشيئته عامة للكائنات، ومحبته خاصة ومتعلقة بالمحبوبات. ويتفرع عن هذا أصل آخر وهو التفريق بين الإرادة الكونية، فإنها تطابق المشيئة، وبين الإرادة الدينية، فإنها تطابق المحبة، فالأولى مثل (إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) (فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ) ونحوها، والثانية نحو (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) ونحوها).

هيئة الإشراف

#3

7 Dec 2008

شرح العقيدة الواسطية للشيخ مُحمَّد خَليل هَرَّاس رحمه الله

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وقَوْلُهُ: { وَلَوْلاَ إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ باللهِ }، وقَوْلُهُ: { وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيْدُ }، وقَوْلُهُ: { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيْمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيْدُ }، وقَوْلُهُ: { فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإِسْلامِ ومَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّما يَصَّعَّدُ في السَّماءِ } (1)).

الشرح:

قال الشيخ محمد خليل هراس (ت: 1395هـ): ((1) قولُهُ: { وَلَوْلاَ إِذْ دَخَلْتَ … } إلخ. هذهِ الآياتُ دلَّتْ على إثباتِ صفتَيِ الإِرادةِ والمشيئةِ، والنُّصوصُ في ذلكَ لا تُحْصَى كثرةً.
والأشاعرةُ يُثبتون إرادةً واحدةً قدْيمةً تعلَّقتْ في الأزلِ بكلِّ المراداتِ، فيلزمُهُمْ تخلُّفُ المرادِ عن الإِرادةِ.
وأَمَّا المعتزِلةُ؛ فعلى مذهبِهِمْ في نفيِ الصِّفاتِ لا يُثبتون صفةَ الإِرادةِ، ويقولون: إنَّهُ يريدُ بإرادةٍ حادثةٍ لا في مَحَلٍّ، فيلزمُهُمْ قيامُ الصِّفةِ بنفسِهَا، وهوَ مِن أبطلِ الباطلِ.
وأَمَّا أَهلُ الحقِّ؛ فيقولون: إنَّ الإِرادةَ على نوعَينِ:
1 – إرادةٌ كونيَّةٌ تُرَادفُهَا المشيئةُ، وهمَا تتعلَّقانِ بكلِّ ما يشاءُ اللهُ فعلَهُ وإحداثَهُ، فهوَ سبحانَهُ إذَا أرادَ شيئًا وشاءَهُ؛ كانَ عَقِبَ إرادتِهِ لهُ؛ كمَا قالَ تعالى: { إنَّمَا أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }.
وفي الحديثِ الصَّحيحِ:
(( مَا شَاءَ اللهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ )).
2 – وإرادةٌ شرعيَّةٌ تتعلَّقُ بما يأمرُ اللهُ بهِ عبادَهُ مما يُحِبُّهُ ويَرْضَاهُ، وهيَ المذكورةُ في مثلِ قولِهِ تعالى: { يُرِيْدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلا يُرِيْدُ بِكُمُ العُسْرَ }.
ولا تَلازمَ بينَ الإِرادتينِ، بلْ قَدْ تتعلَّقُ كلٌّ مِنْهُمْا بما لا تتعلَّقُ بهِ الأُخرى، فبينهمَا عمومٌ وخصوصٌ مِن وجهٍ.
فالإِرادةُ الكونيَّةُ أعمُّ من جهةِ تعلُّقِهَا بما لا يحبُّهُ اللهُ ويرضاهُ مِن الكفرِ والمعاصِي، وأخصُّ مِن جهةِ أَنَّها لا تتعلَّقُ بمثلِ إيمانِ الكافرِ وطاعةِ الفاسقِ.
والإِرادةُ الشَّرعيَّةُ أعمُّ مِن جهةِ تعلُّقِهَا بكلِّ مأمورٍ بهِ واقعًا كانَ أو غيرَ واقعٍ، وأخصُّ مِن جهةِ أنَّ الواقعَ بالإِرادةِ الكونيِّةِ قَدْ يكونُ غيرَ مأمورٍ بهِ.
والحاصلُ أنَّ الإِرادتينِ قدْ تجتمعانِ معًا في مثلِ إيمانِ المؤمنِ، وطاعةِ المطيعِ.
وتنفردُ الكونيَّةُ في مثلِ كُفرِ الكافرِ، ومعصيةِ العاصِي.
وتنفردُ الشَّرعيَّةُ في مثلِ إيمانِ الكافرِ، وطاعةِ العاصِي.
وقولُهُ تعالى: { وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ … } الآيةَ؛ هذا مِن قولِ اللهِ حكايةً عن الرَّجلِ المؤمنِ لزميلِهِ الكافرِ صاحبِ الجنَّتينِ: يعظُهُ بهِ أنْ يشكُرَ نعمةَ اللهِ عليهِ، ويردَّهَا إلى مشيئةِ اللهِ، ويبرأَ مِن حولِهِ وقوَّتِهِ؛ فإنَّهُ لا قوَّةَ إلاَّ باللهِ.
وقولُهُ: { وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلوا … } الآية. إخبارٌ عمَّا وَقَعَ بينَ أتباعِ الرُّسلِ مِن بعدِهِمْ: مِن التَّنَازعِ، والتَّعَادِي بغيًا بينَهُمْ وحسدًا، وأنَّ ذلكَ إنَّمَا كانَ بمشيئةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، ولو شاءَ عدمَ حصولِهِ ما حصلَ، ولكنَّهُ شاءَهُ فوقَعَ.
وقولُهُ: { فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ } إلخ. الآيةُ تدلُّ على أنَّ كلاً مِن الهدايةِ والضَّّلالِ بخلقِ اللهِ عزَّ وجلَّ، فمَنْ يُردْ هِدايتَهُ – أي: إلهَامَهُ وتوفيقَهُ – يشرح صدرَهُ للإِسلامِ، بأنَْ يقذِفَ في قَلبِهِ نورًا، فيتسِعَ لهُ، وينبسطَ؛ كمَا وردَ في الحديثِ، ومَنْ يُردِ إضلالَهُ وخذلانَهُ يجعل صدرَهُ في غايةِ الضِّيقِ والحرجِ، فلا ينفُذُ إليهِ نورُ الإِيمانِ، وشبَّهَ ذلكَ بمَنْ يصْعَدُ في السَّماءِ).

هيئة الإشراف

#4

7 Dec 2008

شرح العقيدة الواسطية للشيخ: صالح بن فوزان الفوزان

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (- إثباتُ المشيئةِ والإرادةِ للهِ سبحانَه
وَقَوْلُهُ: (وَلَوْلاَ إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ) [الكهف: 39]. وَقَوْلُهُ: (وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) وَقَوْلُهُ: (أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ).(1)
وَقَوْلُهُ: (فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإِسْلَامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى السَّمَاءِ).(2)
).

الشرح:

قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: ((1)قولُه (وَلَوْلاَ إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ) أي هَلاَّ إذ دخلت بُسْتانَك (قُلْتَ مَا شَاءَ اللهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ باللهِ) أي إن شاءَ أبقاها، وإن شاء أفناها؛ اعترافا بِالعَجْزِ، وأنَّ القدرةَ للهِ سبحانَه ـ قال بعضُ السَّلفِ: مَن أَعْجَبَهُ شيءٌ، فليقلْ: ما شَاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إلاَّ باللهِ.
وقولُه: (وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلوُا وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) أي لو شاء سبحانَه عَدمَ اقتتالهِم لم يقتتلوا؛ لأنَّه لا يجري في مُلْكِه إلاَّ ما يريدُ، لا رَادَّ لِحُكْمِهِ ولا مُبَدِّلَ لِقَضائِهِ.
وقولُه تعالى: (أُحِلَّتْ لَكُمْ) أي أُبِيحت، والخِطَابُ للمؤمنين (بَهِيمَةُ الأَنْعامِ) أي: الإبلُ والبقرُ والغنمُ (إِلاّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ) استثناءٌ مِن (بَهِيمَةِ الأَنْعام) والمرادُ به المذكورُ في قولِه: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ) الآيةِ التي بعدَها بقليلٍ.
وقولُه: (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) استثناءٌ آخرُ مِن بهيمةِ الأنعامِ.
والمعنى:أُحِلَّت لكم بهيمةُ الأنعامِ كُلُّها، إلاَّ ما كان منها وَحْشِيًّا، فإنَّه صيدٌ لا يحلُّ لكم في حَالِ الإحرامِ، فقولُه: (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) في مَحلِّ نصْبٍ عَلى الحالِ، والمرادُ (بالحُرُمِ) مَن هو محرِمٌ بحجٍّ أو عُمرةٍ، أو بهما (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُريدُ) مِن التَّحليلِ والتَّحريمِ، لا اعتراضَ عليه.
الشَّاهدُ مِن الآياتِ: أنَّ فيها إثباتَ المشيئةِ والقوَّةِ والحُكمِ والإرادةِ؛ صفاتٍ لله تعالى عَلى ما يليقُ بجلالهِ.

(2)(فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ) أي مَن شاء اللهُ سبحانَه أن يُوَفِّقَهُ ويجعلَ قلبَه قابلاً للْخيرِ و(مَنْ): اسمُ شرطٍ جازمٌ، و(يُرِدْ): مجزومٌ عَلى أنَّه فعلُ الشَّرطِ (يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ) مجزومٌ بجوابِ الشَّرطِ، والشَّرْحُ: الشَّقُّ، وَأَصْلُهُ التَّوْسِعَةُ، وشرحتُ الأمرَ: بينتُه ووضحتُه. والمعنى: يُوَسِّعِ اللهُ صدرَه للحقِّ الَّذي هو الإسلامُ، حتى يقبلَه بصدرٍ مُنْشَرِحٍ (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ) أي ومَن شاء سبحانَه أن يصْرِفَه عَن قَبولِ الحقِّ (يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً) أي لا يتَّسعُ لقبولِ الحَقِّ (حَرَجاً) أي شديدَ الضِّيقِ، فلا يبقى فيه مَنْفَذٌ للخيرِ، وهو تأكيدٌ لمعنَى (ضَيِّقاً) (كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فيِ السَّمَاءِ) أصلُه يَتَصَعَّدُ ـ أي كأنّما تكلَّف ما لا يُطيقُ مرَّةً بعدَ مرَّةٍ، كما يتكلَّفُ مَن يريدُ الصُّعُودَ إلى السَّماءِ ـ شبَّه الكافرَ في ثِقَلِ الإيمانِ عليه بمن يتكلَّفُ مالا يطيقُه كصُعودِ السَّماءِ.
الشَّاهدُ مِن الآيةِ الكريمةِ: أنَّ فيها إثباتَ الإرادةِ للهِ سبحانَه، وأنَّها شَامِلةٌ للهِدايةِ والإضلالِ ـ أي يريدُ الهدايةَ ويريدُ الإضلالَ كَوْناً وَقَدَراً لحكمةٍ بالغةٍ.
فالإرَادَةُ الرَّبَّانيَّةُ نوعانِ:
النَّوعُ الأوَّلُ: إرادةٌ كونيَّةٌ قَدَريَّةٌ، وهذه مُرادِفَةٌ للمشيئةِ، ومِن أمثلتِها قولُه تعالى: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا) وقولُه تعالى: (وَإِذَا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ) وقولُه: (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً).
النَّوعُ الثاني: إرادةٌ دينيَّةٌ شرعيَّةٌ ـ ومِن أمثلتِها قولُه تعالى: (وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) [الآية (27) النساءَ]، وقولُه: (مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) [الآيةُ (6) المائدةَ]، وقولُه تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ) [الآيةُ (33) الأحزاب].
الفرقُ بين الإرادتيْن:
1- الإرادةُ الكونيَّةُ، قد يحبُّها اللهُ ويرضاها، وقد لا يحبُّها ولا يرضاها، والإرادةُ الشرعيَّةُ لابد أنَّه يحبُّها ويرضاها. فاللهُ أرادَ المعصيةَ كَوْناً ولا يرضاها شَرْعًا.
2- والإرادةُ الكونيَّةُ مقْصُودةٌ لغيرِهَا - كخلقِ إبليسَ وسائرِ الشُّرورِ - ، لتحصُلَ بسببِ ذلك المجاهدةُ والتَّوبةُ والاستغفارُ وغيرُ ذلك من المَحَابِّ، والإرادةُ الشرعيَّةُ مقصودةٌ لذاتِهَا فاللهُ أرادَ الطَّاعةَ كَوْناً وَشَرْعًا، وأحبَّها ورضِيَها.
3- الإرادةُ الكونيَّةُ لابدَّ مِن وقوعِهَا، والإرادةُ الشَّرعيَّةُ لا يلزمُ وقوعُها، فقد تقعُ وقد لا تقعُ.
تنبيهٌ: تجتمعُ الإرادتانِ الكونيَّةُ والشَّرعيَّةُ في حَقِّ الْمُخْلِصِ المطيعِ، وتنفردُ الإرادةُ الكونيَّةُ في حَقِّ العاصي.
تنبيهٌ آخرُ: مَن لم يُثبتِ الإرادتيْن ويفرِّقْ بينهما، فقد ضلَّ كالجبريَّةِ والقدريَّةِ، فالجبريَّةُ أثبتوا الإرادةَ الكونيَّة فقط، والقدريَّةُ أثبتوا الإرادةَ الشرعيَّةَ فقط ـ وأهلُ السُّنَّةِ أثبتوا الإرادتيْن، وفرَّقوا بينهما).

هيئة الإشراف

#5

7 Dec 2008

شرح العقيدة الواسطية للشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): ( (وَلَوْلاَ إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ) [الكهف: 39].
(وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُواْ، وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) [البقرة: 253].
(أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّى الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ، إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ) [المائدة: 1].
(فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإِسْلامِ، وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً، كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى السَّمَاءِ) [الأنعام: 125](1)
.


الشرح:

قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): ((1) هذِهِ آياتٌ فِي إثباتِ صِفَتَيِ المشيئةِ والإرادةِ:
فالآيةُ الأولى: قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (وَلَوْلاَ إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ) [الكهف: 39].
(وَلَوْلاَ)، بمعنى: هَلاَّ، فَهِيَ للتَّحضيضِ، والمرادُ بها هُنَا التَّوبيخُ، بمعنى أنَّهُ يوبِّخُهُ عَلَى تَركِ هَذَا القولِ.
(إِذْ دَخَلْتَ): حينَ دخلْت.
(جَنَّتَكَ): الجنَّةُ، بفتحِ الجيمِ: هِيَ البُستانُ الكثيرُ الأشجارِ، سُمِّيتْ بذلِكَ لأنَّ مَنْ فِيهِا مستتِرٌ بأشجارِها وغُصونِها، فَهُوَ مُسْتَجِنٌّ فِيهِا، وهذِهِ المادةُ (الجِيمُ والنُّونُ) تدلُّ عَلَى الاستتارِ، ومِنْهُ: الجُنَّةُ –بضمِّ الجيمِ- الَّتِي يتترَّسُ بِها الإنسانُ عندَ القِتالِ، وَمِنْهُا: الجِنَّةُ –بكسرِ الجيمِ-، يعني: الجِنَّ، لأنهَّم مُستتِرونَ.
وقولُهُ: (جَنَّتَكَ): هذِهِ مفردٌ، والمعلومُ منِ الآياتِ أنَّ لَهُ جنتَيْنِ، فمَا هُوَ الجوابُ حَيْثُ كانتْ هُنَا مفردةً مَعَ أنهَّمَا جَنَّتانِ؟
فالجوابُ: أنْ يُقالَ: إنَّ المفردَ إِذَا أُضيفَ يعمُّ فيشملُ الجنتين، أوْ أنَّ هَذَا القائلَ أرادَ أنْ يُقلِّلَ مِنْ قيمةِ الجنتَيْنِ؛ لأنَّ المَقامَ مَقامُ وعظٍ وعدمِ إعجابٍ بمَا رزقَهُ اللَّه، كأنَّهُ يقولُ: هاتانِ الجنَّتانِ جنَّةٌ واحدةٌ، تقليلاً لشأنِهما، والوجْهُ الأوَّلُ أقربُ إِلَى قواعدِ اللُّغةِ العربيَّةِ (قُلْتُ): جوابُ (لَوْلاَ).
وقولُهُ: (مَا شَاءَ اللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ): (مَا): يَحتملُ أنْ تكونَ موصولةً، ويَحتملُ أنْ تكونَ شرطيَّةً: فإنْ جعلْتَها موصولةً فَهِيَ خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ، والتَّقديرُ: هَذَا مَا شاءَ اللَّه، أيْ: ليسَ هَذَا بإرادتِي وحَوْلِي وقوَّتِي، ولكنَّهُ بمشيئةِ اللَّهِ، أيْ: هَذَا الَّذِي شاءَهُ اللَّهُ، وإنْ جعلْتَها شرطيَّةً، ففعلُ الشَّرطِ (شَاءَ)، وجوابُهُ محذوفٌ، والتَّقديرُ: مَا شاءَ اللَّهُ كانَ، كَمَا نقولُ: مَا شاءَ اللَّهُ كانَ، ومَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، والمُرادُ: كَانَ يَنبغِي لَكَ أنْ تَقولَ حينَ دخلْتَ جنَّتَكَ: (مَا شَاءَ اللَّهُ)، لتَتَبرَّأَ مِنْ حَوْلِكَ وقوَّتِكَ، ولاَ تَعْجَبُ بجنَّتِكَ.
وقولُهُ: (لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ): (لاَ): نافيةٌ للجِنسِ. و(قُوَّةَ): نَكِرةٌ فِي سياق النَّفيِ، فتعمُّ، والقُوَّةُ: صفةٌ يتمكَّنُ بِها الفاعلُ من فِعلِ مَا يريدُ بدونِ ضعفٍ.
فإنْ قِيلَ: مَا الجمعُ بينَ عمومِ نفِي القُوَّةِ إِلاَّ باللَّهِ، وبينَ قولِهِ - تَعَالَى -: (اللَّهُ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن ضعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً) [الروم: 54]، وقَالَ عَنْ عادٍ: (وَقاَلُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً، أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً) [فصلت: 15]، ولَمْ يقلْ: لاَ قوَّةَ فِيهم، فأثبتَ للإنسانِ قوَّةً.
فالجوابُ: أنَّ الجمعَ بأحدِ الوجهَيْنِ:
الأوَّلُ: أنَّ القُوَّةَ الَّتِي فِي المخلوقِ كانتْ مِنَ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ -، فلولاَ أنَّ اللَّهَ أعطَاهُ القوَّةَ، لَمْ يكنْ قوِيًّا، فالقُوَّةُ الَّتِي عِنْدَ الإنسانِ مخلوقةٌ لِلَّهِ، فلاَ قوَّةَ فِي الحقيقةِ إِلاَّ باللَّهِ.
الثَّاني: أنَّ المرادَ بقولِهِ: (لاَ قُوَّةَ)، أيْ: لاَ قوةَ كاملةً إِلاَّ باللَّهِ - عزَّ وجلَّ -.
وعَلَى كُلِّ حالٍ، فهَذَا الرَّجُلُ الصَّالحُ أَرْشدَ صاحِبَهُ أنْ يتبرَّأَ مِنْ حَوْلِهِ وقوَّتِهِ، ويقولُ: هَذَا بمشيئةِ اللَّهِ وبقوَّةِ اللَّهِ.
فِي هذِهِ الآيةِ: إثباتُ اسمٍ مِنْ أسماءِ اللَّهِ، وهُوَ: اللَّهُ. وإثباتُ ثلاثِ صفاتٍ: الألوهِيَّةِ، والقوَّةِ، والمشيئةِ.
ومشيئةُ اللَّهِ: هِيَ إرادتُهُ الكونِيَّةُ، وهِيَ نافذةٌ فيمَا يُحبُّهُ ومَا لاَ يُحِبُّهُ، ونافذةٌ عَلَى جميعِ العبادِ بدُونِ تفصيلٍ، ولاَ بُدَّ مِنْ وجودِ مَا شاءَهُ بكُلِّ حالٍ، فكُلُّ مَا شاءَ اللَّهُ وقَعَ ولاَ بُدَّ، سواءٌ كَانَ فيمَا يُحبُّهُ ويَرْضَاهُ أمْ لا.
الآيةُ الثَّانِيَةُ: قولُهُ: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُواْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) [البقرة: 253]:
(لَوْ): حَرفُ امتناعٍ لامتناعٍ، وإِذَا كَانَ جوابُها مَنْفِيًّا بـ(ما)، فإنَّ الأفصحَ حَذفُ اللاَّمِ، وإِذَا كَانَ مُثبتاً، فالأكثرَ ثُبوتُ اللاَّمِ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: (لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً) [الواقعة: 65]. فنقولُ: الأكثرُ، ولاَ نقولُ: الأفصحُ؛ لأنَّهُ وَرَدَ إثباتُ اللامِ وحذفُها فِي القرآنِ الكريمِ: (لَوْ نَشَاءُ جَعَلْناهُ أُجَاجاً) [الواقعة: 70]. وقولنَا: إنَّ الأفصحَ حذفُ اللاَّمِ فِي المَنْفِيِّ؛ لأنَّ اللاَّمَ تفيدُ التَّوكيدَ، والنَّفيُ يُنافِي التَّوكِيدَ، وَلِهَذَا كَانَ قولُ الشَّاعِرِ:

وَلَوْ نُعْطَى الخِيارَ لَمَا افْتَرَقْنا وَلَكِنْ لاَ خِيارَ مَعَ اللَّيالِي
خلافَ الأفصحِ، والأفصحُ: لو نُعطَى الخيارَ، مَا افترقْنا.

قولُهُ: (وَلَو شَاءَ اللَّهُ مَا اقتَتَلُوا): الضَّميرُ يعودُ عَلَى المؤمنينَ والكافرينَ، لقولِهِ - تَعَالَى -: (وَلَكِن اختَلَفُوا فَمِنهُم مَّن ءاَمَنَ وَمِنهُم مَّنْ كَفَرَ، وَلَو شَاءَ اللَّهُ مَا اقتَتَلُوا) [البقرة: 253].
وفِي هَذَا ردٌّ واضِحٌ عَلَى القَدَريَّةِ الَّذِينَ يُنكِرونَ تعلَّقَ فعلِ العبدِ بمشيئةِ اللَّهِ؛ لأنَّ اللَّهَ قالَ: ((وَلَو شَاءَ اللَّهُ مَا اقتَتَلُوا)، يعني: ولكنَّهُ شاءَ أنْ يَقتَتِلُوا فاقتتَلُوا.
ثُمَّ قالَ: (وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفعَلُ مَا يُرِيدُ)، أيْ: يَفعلُ الَّذِي يريدُهُ، والإرادةُ هُنَا إرادةٌ كونيَّةٌ.
وقولُهُ: (يَفعَلُ مَا يُرِيدُ): الِفعلُ باعتبارِ مَا يفعلُهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - بنَفْسِهِ فعلٌ مباشرٌ، وباعتبارِ مَا يقدِّرُهُ عَلَى العبادِ فعلٌ غيرُ مباشرٍ؛ لأنَّهُ مِنَ المعلومِ أنَّ الإنسانَ إِذَا صامَ وصلَّى وزكَّى وحجَّ وجاهَدَ فالفاعلُ الإنسانُ بلاَ شكٍّ، ومعلومٌ أنَّ فِعلَهُ هَذَا بإرادةِ اللَّهِ.
ولاَ يَصِحُّ أنْ يُنْسَبَ فِعلُ العبدِ إِلَى اللَّهِ عَلَى سبيلِ المباشرةِ؛ لأنَّ المباشِرَ للفِعلِ الإنسانُ، ولكنْ يصحُّ أنْ يُنسبَ إِلَى اللَّهِ عَلَى سبيلِ التَّقديرِ والخلْقِ.
أمَّا مَا يفعلُهُ اللَّهُ بنَفْسِهِ كاستوائِهِ عَلَى عرشِهِ، وكلامِهِ، ونزولِهِ إِلَى السَّماءِ الدُّنْيَا، وضحكِهِ … ومَا أشَبْهَ ذلِكَ، فهَذَا يُنسبُ إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى - فعلاً مباشرةً.
فِي هذِهِ الآيةِ مِنَ الأسماءِ: للَّه. ومِنَ الصِّفاتِ: المشيئةُ، والفعلُ، والإرادةُ.
الآيةُ الثَّالثةُ: قولُهُ: (أُحِلَّت لَكُم بَهِيَمَةُ الأَنعَامِ إِلاَّ مَا يُتلَى عَلَيكُم غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ، إِنَّ اللَّهَ يَحكُمُ مَا يُرِيدُ) [المائدة: 1].
(أُحِلَّتْ لَكُمْ): المُحِلُّ هوَ اللَّهُ - عزَّ وجلَّ -، وكذلِكَ النَّبِيُّ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ - يُحِلُّ ويُحَرِّمُ، لكنْ بإذنٍ مِنَ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ -، قَالَ النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أُحِلَّتْ لَنا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ))، وكَانَ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ - يقولُ: ((إِنَّ اللَّهَ يُحَرِّمُ عَلَيْكُمْ كذا)) يُخْبِرُ أنَّهُ حَرَّمَ، وربَّمَا يُحرِّمُ تحريمًا يُضيفُهُ إِلَى نَفْسِهِ، لكنَّهُ بإذنِ اللَّهِ.
(بَهِيَمَةُ الأَنعاَمِ): هِيَ الإبلُ والبقرُ والغنمُ، والأنعامُ جمعُ نَعَمٍ، كأسبابٍ جمعِ سببٍ.
وقولُهُ: (بَهِيَمَةُ): سُمِّيتْ بذلِكَ؛ لأنَّها لاَ تتكلَّمُ.
(إِلاَّ مَا يُتلَى عَلَيكُم): إِلاَّ الَّذِي يُتلى عليْكُم فِي هذِهِ السُّورةِ، وهِيَ المذكورةُ فِي قولِهِ - تَعَالَى -: (حُرِّمَتْ عَلَيكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحمُ الخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيرِ اللَّهِ بِهِ) [المائدة: 3]، فالاستثناءُ هُنَا فِيهِ مُنقطعٌ وفِيهِ متصلٌ، فبالنِّسبةِ للمَيْتَةِ مِنْ بهِيَمةِ الأنعِامِ متَّصلٌ، وبالنِّسبةِ لِلَحْمِ الخنـزيرِ منقطعٌ؛ لأنَّهُ ليسَ مِنْ بهِيَمةِ الأنعامِ.
وقولُهُ: (غَيرَ مُحِلِّي الصَّيدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ): (غَيرَ): حالٌ مِنَ الكافِ فِي (لَكُمْ)، يعني: حالَ كونِكُم لاَ تُحِلُّونَ الصَّيدَ وأنْتُمْ حُرمٌ، وَهَذَا الاستثناءُ منقطعٌ أيضًا؛ لأنَّ الصَّيدَ ليسَ مِنْ بهِيَمةِ الأنعامِ.
وقولُهُ: (غَيرَ مُحِلِّي الصَّيدِ)، يعني: قاتلِيهِ فِي الإحرامِ؛ لأنَّ الَّذِي يَفعلُ الشَّيءَ يصيرُ كالمُحِلِّ لَهُ، و(الصَّيدِ): هُوَ الحيوانُ البريُّ المتوحِّشُ المأْكولُ، هَذَا هُوَ الصَّيْدُ الَّذِي حُرِّمَ فِي الإحرامِ.
وقولُهُ: (إِنَّ اللَّهَ يَحكُمُ مَا يُرِيدُ): هذِهِ الإرادةُ شرعيَّةٌ؛ لأنَّ المَقامَ مَقامُ تشريعٍ، ويجوزُ أنْ تكونَ إرادةً شرعيَّةً كونيَّةً، ونَحملُ الحُكمَ عَلَى الحُكمِ الكونِيِّ والشَّرعيِّ، فمَا أرادَهُ كونًا، حَكَمَ بهِ وأوقَعَهُ، ومَا أَرادَهُ شَرعًا، حَكَمِ بِهِ وشَرَعَهُ لعبادِهِ.
فِي هذِهِ الآيةِ مِنَ الأسماءِ: اللَّهُ ومِنَ الصِّفاتِ: التَّحليلُ، والحُكمُ، والإرادةُ.
الآيةُ الرَّابعةُ: قولُهُ: (فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهدِيَهُ يَشرَحْ صَدرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا، كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ) [الأنعام: 125].
قولُهُ: (فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهدِيَهُ يَشرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسلامِ): المُرادُ بالإرادةِ هُنَا الإرادةُ الكونيَّةُ، والمرادُ بالَهِدايةِ: هدايةُ التَّوفِيقِ، فتَجِدُهُ مُنْشَرِحَ الصَّدرِ فِي شَرائعِ الإسلامِ وشعائرِهِ، يفعلُهَا بفرحٍ وسُرورٍ وانطلاقٍ.
فَإِذَا عرفْتَ مِنْ نَفْسِكَ هَذَا فاعلمْ أنَّ اللَّهَ أرادَ بِكَ خيرًا، وأرادَ لكَ هدايةً، أمَّا مَنْ ضاقَ بهِ ذَرْعاً -والعياذُ باللَّهِ-، فإنَّ هَذَا علامةٌ عَلَى أنَّ اللَّهَ لَمْ يُرِدْ لَهُ هدايةً، وإلا لانْشَرَحَ صدرُهُ.
وَلِهَذَا تجدونَ الصَّلاَةَ الَّتِي هِيَ أَثقلُ مَا يكونُ عَلَى المنافِقينَ قُرَّةَ عُيونِ المُخلِصِينَ، قَالَ النَّبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْياكُمْ النِّساءُ وَالطِّيبُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاةِ))، ولاَ شكَّ أنَّ النبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكْمَلُ النَّاسِ إيماناً، فَانْشَرَحَ صدْرُهُ بالصَّلاَةِ وصارَتْ قُرَّةَ عينِهِ.
فَإِذَا قِيلَ: للشَّخصِ: إنَّهُ يَجِبُ عليكَ أنْ تُصلِّيَ مَعَ الجماعةِ فِي المسجدِ، فانْشَرَحَ صدرُهُ، وقالَ: الحمدُ لِلَّهِ الَّذِي شَرَعَ لي ذلِكَ، ولولاَ أنَّ اللَّهَ شرعَهُ لكَانَ بدعةً، وأقبلَ إِلَيْهِ، ورَضِيَ بِهِ، فهَذَا علامةٌ عَلَى أنَّ اللَّهَ أرادَ أنْ يَهْديَهُ وأرادَ بهِ خيراً.
قالَ: (يَشرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسلامِ): (يَشرَحْ)، بمعنَى يُوسِّعُ، ومِنْهُ قولُ موسَى - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ -، لمَّا أَرْسَلَهُ اللَّهُ إِلَى فِرْعَونَ: (رَبِّ اشْرَحْ ليِ صَدْرِي) [طه: 25]، يعني: وسِّعْ لي صَدْرِي فِي مناجاةِ هَذَا الرَّجُلِ ودَعوتِهِ؛ لأنَّ فِرعونَ كَانَ جبَّاراً عنيداً.
وقولُهُ: (لِلإِسلامِ): هَذَا عامٌّ لأصلِ الإسلامِ وفُروعِهِ وواجباتِهِ، وكُلمَّا كَانَ الإنسانُ بالإسلامِ وشَرَائعِهِ أَشْرَحَ صدراً كَانَ أدلَّ عَلَى إرادةِ اللَّهِ بِهِ الَهدايةَ.
وقولُهُ: (وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجعَلْ صَدرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا، كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ) [الأنعام: 125]: مَنْ يُرِدْ أنْ يضلَّه، يجعلْ صدرَهُ ضيِّقاً حَرَجاً، أيْ: شديدَ الضِّيقِ، ثُمَّ مِثَّلَ ذلِكَ بقولِهِ: (كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ)، يعني: كأنَّهُ حينَ يُعْرَضُ عَلَيْهِ الإسلامُ يتكلَّفُ الصُّعودَ إِلَى السَّماءِ، وَلِهَذَا جاءتْ (يَصَّعَّدُ)، بالتَّشديدِ، ولَمْ يَقُلْ: يَصْعدُ، كأنَّهُ يتكلَّفُ الصُّعودَ بمَشقَّةٍ شديدةٍ، وَهَذَا الَّذِي يتكلَّفُ الصُّعودَ لاَ شكَّ أنَّهُ يَتْعَبُ ويَسْأَمُ.
ولنَفْرِضْ أنَّ هَذَا رجلٌ طُلِبَ مِنْهُ أنْ يَصْعدَ جَبَلاً رَفيعاً صَعباً، فَإِذَا قامَ يَصعدُ هَذَا الجَبَلَ سوفَ يتكلَّفُ، وسوفَ يَضِيقُ نَفَسُهُ ويرتِفعُ ويَنتهِبُ؛ لأنَّهُ يجدُ مِنْ هَذَا ضِيقاً.
وعَلَى مَا وصلَ إِلَيْهِ المتأخِّرونَ الآنَ يقولونَ: إنَّ الَّذِي يصعدُ فِي السَّماءِ كلَّمَا ارتفعَ وازدادَ ارتفاعُهُ كُثرَ عَلَيْهِ الضَّغطُ، وصارَ أشدَّ حَرَجاً وضِيقاً، وسواءٌ كَانَ المَعْنَى الأوَّلَ أو المَعْنَى الثَّانيَ، فإنَّ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي يُعْرَضُ عليهِ الإسلامُ - وقدْ أرادَ اللَّهُ أنْ يُضِلَّهُ - يَجِدُ الحَرَجَ والضِّيقَ، كأنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ.
ونأخذُ مِنْ هذِهِ الآيةِ الكريمةِ إثباتَ إرادةِ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ -.
والإرادةُ المذكورةُ هُنا إرادةٌ كونيَّةٌ لاَ غير؛ لأنَّهُ قال: (فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهدِيَهُ)، (وَمَن يُرِد أَن يُضِلَّهُ)، وَهَذَا التقسيمُ لاَ يكونُ إِلاَّ فِي الأمورِ الكونياتِ، أمَّا الشَّرعيَّةُ فاللَّهُ يريدُ مِنْ كُلِّ أحدٍ أنْ يستسلمَ لشرعِ اللَّهِ.
وفِيهَا مِنَ السُّلوكِ والعبادةِ: أنَّهُ يجبُ عَلَى الإنسانِ أنْ يتقبَّلَ الإسلامَ كلَّهُ، أصلَهُ وفرعَهُ، ومَا يتعلَّقُ بحقِّ اللَّهِ، ومَا يتعلَّقُ بحقِّ العِبادِ، وأنَّهُ يجبُ عليِهِ أنْ يشرحَ صدرَه لذلِكَ، فإنْ لَمْ يكنْ كذلِكَ، فإنَّهُ مِنَ القسمِ الثَّاني الَّذِينَ أرادَ اللَّهُ إضلالَهُم.
قَالَ النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((مَنْ يُرِد اللَّهُ بِهِ خَيْرًا، يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ))، والفِقْهُ فِي الدِّينِ يقتضِي قَبولَ الدِّينِ؛ لأنَّ كُلَّ مَنْ فَقِهَ فِي دينِ اللَّهِ وعرفَهُ، قَبِلَهُ وأحبَّهُ.
قَالَ - تَعَالَى -: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَينَهُم، ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِم حَرَجًا مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسلِيمًا) [النساء: 65]، فهَذَا إقسامٌ مؤكَّدٌ بـ(لا)، وإقسامٌ بأخصِّ ربوبيَّةٍ مِنَ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ - لعبادِهِ –وهِيَ ربوبيةُ اللَّهِ للرسولِ- عَلَى نفيِ الإيمانِ عمَّنْ لَمْ يَقُمْ بهذِهِ الأمورِ الثلاثِةِ:
الأوَّلُ: تحكيمُ الرَّسولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لقولِهِ: (حَتَّى يُحَكِّمُوكَ)، يعني: الرَّسولَ، فمنْ طلبَ التَّحاكمَ إِلَى غيرِ اللَّهِ ورسولِهِ فإنَّهُ ليسَ بمؤمنٍ، فإمَّا كافرٌ كُفراً مخرِجاً عن الملَّةِ، وإمَّا كافرٌ كفراً دونَ ذلِكَ.
الثَّاني: انشراحُ الصدرِ بحُكمِهِ، بحَيْثُ لاَ يجدون فِي أنَفْسِهِم حرجاً ممَّا قضَى، بلْ يجدونَ القَبولَ والانشراحَ لِمَا قضاهُ النَّبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
الثَّالثُ: أنْ يسلمِّوا تسليماً، وأكدَّ التَّسليمَ بمصدرٍ، يعني: تسليماً كاملاً.
فاحذرْ أيهُّا المسلمُ أنْ ينتفيَ عَنْكَ الإيمانُ.
ولنضربْ لِهَذَا مثلاً: تجادلَ رجلانِ فِي حُكمِ مسألةٍ شرعيَّةٍ، فاستدلَّ أحدُهمُا بالسُّنَّةِ، فوجدَ الثَّاني فِي ذلِكَ حرَجاً وضيقاً، كَيْفَ يريدُ أنْ يَخرُجَ عن متبوعِهِ إِلَى اتِّباعِ هذِهِ السُّنَّةِ؟! فهَذَا الرَّجلُ ناقصٌ بلاَ شكٍّ فِي إيمانِهِ؛ لأنَّ المؤمنَ حقًّا هُوَ الَّذِي إِذَا ظَفَرَ بالنَّصِ مِنْ كتابِ اللَّهِ وسُنَّةِ رسولِهِ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ -، فكأنمَّا ظَفَرَ بأكبرِ غنيمةٍ يفرحُ بها، ويقولُ: الحمدُ لِلَّهِ الَّذِي هدانِي لِهَذَا.
وفلانٌ الَّذِي يتعصَّبُ لرأيِهِ ويحاولُ أنْ يلويَ أعناقَ النُّصوصِ حَتَّى تتَّجِهَ إِلَى مَا يريدُهُ هُوَ لاَ مَا يريدُهُ اللَّهُ ورسولُهُ، فإنَّ هَذَا عَلَى خطرٍ عظيمٍ.
أقسامُ الإرادةِ:
الإرادةُ تنقسمُ إِلَى قسمَيْنِ:
القسمُ الأوَّلُ: إرادةٌ كونيَّةٌ: وهذِهِ الإرادةُ مرادفةٌ تماماً للمشيئةِ، فـ(أرادَ) فِيهِا بمعنى (شاءَ)، وهذِهِ الإرادةُ
أَوَّلاً: تتعلقُ فيمَا يحبُّهُ اللَّهُ وفيمَا لاَ يحبُّهُ.
وعَلَى هَذَا فَإِذَا قَالَ قائلٌ: هَلْ أرادَ اللَّهُ الكفرَ؟ فقلْ: بالإرادةِ الكونيَّةِ نَعَمْ أرادَهُ، ولو لَمْ يُرِدْهُ اللَّهُ - عزَّ وجلَّ -، مَا وقعَ.
ثانياً: يلزمُ فِيهَا وقوعُ المرادِ، يعني: أنَّ مَا أرادَهُ اللَّهُ فلاَ بدَّ أنْ يقعَ، ولاَ يمكنُ أنْ يتخلَّفَ.
القسم الثَّاني: إرادةٌ شرعيَّةٌ: وهِيَ مرادفةٌ للمحبَّةِ، فـ(أرادَ) فِيهَا بمعنى (أحبَّ)، فهِيَ:
أَوَّلاً: تختصُ بمَا يحبُّهُ اللَّهُ، فلاَ يريدُ اللَّهُ الكفرَ بالإرادةِ الشَّرعيَّةِ، ولاَ الفسقَ.
ثانياً: أنَّهُ لاَ يلزمُ فِيهَا وقوعُ المرادِ، بمعني: أنَّ اللَّهَ يريدُ شيئًا ولاَ يقعُ، فَهُوَ - سُبْحَانَهُ - يريدُ مِنَ الخلقِ أنْ يعبدُوهُ، ولاَ يلزمُ وقوعُ هَذَا المرادِ، قدْ يعبدونَهُ وقدْ لاَ يعبدونَهُ، بخلافِ الإرادةِ الكونيَّةِ.
فصارَ الفرقُ بينَ الإرادتين مِنْ وجْهَيْنِ:
1 – الإرادةُ الكونيَّةُ يلزمُ فِيهَا وقوعُ المرادِ، والشَّرعيَّةُ لاَ يلزمُ.
2 – الإرادةُ الشَّرعيَّةُ تختصُّ فيمَا يحبُّهُ اللَّهُ، والكونيَّةُ عامَّةٌ فيمَا يحبَّهُ ومَا لاَ يحبُّهُ.
فَإِذَا قَالَ قائلٌ: كَيْفَ يريدُ اللَّهُ - تَعَالَى - كوناً مَا لاَ يحبَّهُ، بمعنى: كَيْفَ يريدُ الكفرَ أو الفسقَ أو العصيانَ وَهُوَ لاَ يحبُّهُ؟
فالجوابُ: أنَّ هَذَا محبوبٌ إِلَى اللَّهِ مِنْ وجهٍ، مكروهٌ إليِهِ مِنْ وجهٍ آخرَ، فَهُوَ محبوبٌ إليِهِ لمَا يتضمنُهُ مِنَ المصالحِ العظيمةِ، مكروهٌ إِلَيْهِ لأنَّهُ معصيةٌ.
ولاَ مانعَ مِنْ أنْ يكونَ الشَّيءُ محبوباً مكروهاً باعتبارَيْنِ، فها هُوَ الرَّجلُ يقدِّمُ طفْلَهُ الَّذِي هُوَ فلذةُ كبدِهِ وثمرةُ فؤادهِ، يقدِّمُهُ إِلَى الطَّبيبِ ليشقَّ جلدَهُ ويُخرجَ المادَّةَ المؤذيةَ فِيهِ، ولو أتى أحدٌ مِنَ النَّاسِ يريدُ أنْ يُشقَّهُ بظُفرِهِ وليسَ بالمشرطِ لقاتَلَهُ، لكنْ هُوَ يذهبُ بِهِ إِلَى الطَّبيبِ ليشقَّهُ، وهُوَ ينظرُ إِلَيْهِ، وهُوَ فَرِحٌ مسرورٌ، يذهبُ بِهِ إِلَى الطبيبِ ليحميَ الحديدَ عَلَى النَّارِ حَتَّى تلتهبَ حمراءَ، ثُمَّ يأخذُهَا ويكوي بها ابنَهُ، وَهُوَ راضٍ بذلِكَ، لمَاذَا يرضَى بذلِكَ وهُوَ ألَمٌ للابنِ؟! لأنَّهُ مرادٌ لغيرِهِ للمصلحةِ العظيمةِ الَّتِي تترتبُ عَلَى ذلِكَ.
ونستفيدُ بمعرفتِنَا للإرادةِ مِنَ النَّاحيةِ المسلكيَّةِ أمرَيْنِ:
الأمرُ الأوَّلُ: أنْ نعلِّقَ رجاءَنا وخوفَنَا وجميعَ أحوالِنَا وأعمالِنَا باللَّهِ؛ لأنَّ كُلَّ شيءٍ بإرادتِهِ، وَهَذَا يحقِّقُ لنا التَّوَكُّلَ.
الأمرُ الثَّاني: أنْ نفعلَ مَا يريدُهُ اللَّه شرعاً، فَإِذَا علمْنا أنَّهُ مرادٌ لِلَّهِ شرعاً ومحبوبٌ إليْهِ فإنَّ ذلِكَ يُقوِّي عزمَنَا عَلَى فعْلِهِ.
هَذَا مِنْ فوائدِ معرفتِنَا بالإرادةِ مِنَ النَّاحيةِ المسلكيَّةِ، فالأوَّلُ باعتبارِ الإرادةِ الكونيَّةِ، والثَّاني باعتبارِ الإرادةِ الشَّرعيَّةِ).

هيئة الإشراف

#6

7 Dec 2008

الروضة الندية للشيخ: زيد بن عبد العزيز بن فياض رحمه الله

المتن:

قال أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وقَوْلُهُ: {وَلَوْلاَ إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ باللهِ} ، وقَوْلُهُ :{وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}، وقَوْلُهُ :{أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ}، وقَوْلُهُ : {فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإِسْلامِ ومَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ في السَّماءِ} ).


الشرح:

قال الشيخ زيد بن عبد العزيز بن فياض (ت: 1416هـ): (في هذه الآياتِ وما ماثَلَها إِثباتُ مشيئةِ اللَّهِ التَّامَّةِ ، وأنَّ كُلَّ شيءٍ بمشيئتِهِ ، وأنَّ إثباتَ المشيئةِ مِن سُنَنِ المؤمنينَ ، وَإِنكارَها مِن طَريقةِ الكَفَرةِ والمشركين؛ لِقولِ المؤمنِ :{وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ} ولولا : هَلاَّ ، والجَنَّةُ : البسُتانُ، { قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ } حثًّا للكافِرِ على الإيمانِ .
فما شاءَ اللَّهُ كانَ ، وما لم يَشَأْ لم يكُنْ ، والنُّصوصُ مِن القُرآنِ والسُّنَّةِ لا تُحْصَى كَثرةً في ذلك ، وقد أجْمَعَ عُلماءُ الإسلامِ وسلَفُ الأُمَّةِ وأئِمَّتُها وأهلُ السُّنَّةِ قاطِبةً على إِثباتِ مشيئةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وإرادَتَه .
والإرادةُ تكونُ شرعيةً ، وتكونُ قدريةً . فقولُه :{ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَـكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } الإرادةُ هنا كَوْنيةٌ قدَريةٌ . وقولُه :{ فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ } الآيةَ ، الإرادةُ هنا كونيةٌ قدَريةٌ أيضاً .
وقولُه: { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } الإرادةُ هنا شرعيةٌ دينيةٌ .
وقوله: { وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ } فيها أنه يُريدُ الإضلالَ (( فعُلِمَ أنه يُريدُ الإضلالَ كما يُريدُ شَرْحَ الصَّدْرِ )) والهدايةُ نوعانِ : هدايةُ توفيقٍ وإلهامٍ : وهي المذكورةُ في قولِه :{ فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ } ونحوِها ، وفي قـولِه :{ إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَـاءُ } وهِـدايةُ بَيانٍ وإرشـادٍ ، وهذه المذكورةُ في قولِه تَعَالَى :{ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } وقولِه :{ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى } أيْ بَيَّنَّا لهم وأرْشدناهُمْ ودَلَلْناهُم فلم يَهْتَدُوا .
قَالَ ابنُ عباسٍ في قولِه :{فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ} يقولُ : يُوَسِّعْ قلْبَه للتوحيدِ والإيمانِ به ، قولُه: "ضَيِّقاً حَرَجاً" ضَيْقاً بفَتْحِ الضادِ وتَسْكينِ الياءِ ، هكذا قرأه بعضُهم .
وقرأَه الأكثرونَ ضَيِّقاً بتشديدِ الياءِ وكَسْرِها "حَرَجاً" قُرِئَ بفَتْحِ الحَاءِ وكَسْرِ الرَّاءِ ، وهو الَّذِي لا يَتَّسِعُ لشيءٍ مِن الهُدى ، ولَيْسَ للخيْرِ فيه منْفَذٌ ، كأنَّما يصَعَّدُ في السَّمَاءِ ، مِن شدَّةِ الضِّيقِ والشُّبَهِ والشُّكوكِ . قَالَ الأوْزاعِيُّ : كَيْفَ يستطيعُ مَن جعَلَ اللَّهُ صدْرَه ضَيِّقاً أنْ يكونَ مُسْلِماً ، وقَالَ ابنُ جريرٍ : وهذا مَثَلٌ ضربَه اللَّهُ لقلْبِ هذا الكافرِ في شدَّةِ ضِيقِه عن وُصولِ الإيمانِ إليه . فمَثَلُه في امتناعِه عن قَبولِ الإيمانِ وضِيقِه عن وصولِه إليه ، مَثَلُ امتناعِه عن الصُّعودِ إلى السَّمَاءِ ، وعجْزِه عنه لأنه لَيْسَ في وُسْعِه وطاقتِه .
ففي ذلك إثباتُ عمومِ مشيئةِ اللَّهِ الشَّاملةِ . "وقد خالَفَ الرُّسُلَ كُلَّهم مَن نَفَي مشيئةَ اللَّهِ بالكُلِّيةِ ، ولم يُثْبِتْ له سُبْحَانَهُ مشيئةً واختِياراً كما يقولُه طوائفُ مِن الفلاسفةِ وَأَتْباعِهِمْ ، وكذلك مَن جَوَّزَ أنْ يكونَ في الوجودِ ما لا يشاءُ ، أو أنْ يشاءَ ما لا يكونُ ، وهذا هو تنزيلُ المُلْحِدينَ ومَن أضَلُّ سبيلاً وأَكْفَرُ ممَّن يزعُمُ أنَّ اللَّهَ شاءَ الإيمانَ مِن الكافرِ ، وأنَّ الكافِرَ شاءَ الكُفْرَ فغلبَتْ مشيئةُ الكافِرِ مشيئةَ اللَّهِ . تَعَالَى اللَّهُ عمَّا يقولُ الظَّالِمونَ عُلُواًّ كبيراً .
وأما الإرادةُ "فطريقةُ الأئمةِ الفقهاءِ وأهلِ الحديثِ وكثيرٍ مِن أهلِ النظرِ أنَّ الإرادةَ في كتابِ اللَّهِ نوعانِ : إرادةٌ تتعلَّقُ بالأمرِ ، وإرادةٌ تتعلَّقُ بالخَلْقِ فالإرادةُ المتعلِّقةُ بالأمرِ : أنْ يُريدَ مِن العبدِ فِعلَ ما أمَرَه ، وأما إرادةُ الخَلْقِ فأَنْ يُريدَ ما يَفعَلُه هو. فإرادةُ الأمْرِ : هي المتضمِّنَةُ للمَحبَّةِ والرِّضا ، وهي الإرادةُ الدِّينيَّةُ . والإرادةُ المتعلِّقَةُ بالخَلْقِ هي : المشيئةُ ، وهِي الإرادةُ الكونيَّةُ القدَريَّةُ .
فالأُولى كقولِه تَعَالَى :{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}، وقولِه :{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ}. إلى قولِه :{يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} وقولِه :{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} الآيةِ ، وقولِه :{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} .
والثَّانيةُ : كقوله تَعَالَى :{فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً}، وقولِه :{وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ} ومِن هذا النوعِ قَوْلُ المُسْلِمِينَ "ما شاءَ اللَّهُ كان ، وما لم يشَأْ لم يكُنْ" ومِن الأوَّلِ قولُهم لِمَن يَفعَلُ القبائِحَ : هذا يَفعَلُ ما لا يُريدُه اللَّهُ" وقسَّمَ الشَّيْخُ الإرادةَ أربعةَ أقسامٍ :
الأوَّلُ : ما تعلقتْ به الإرادتانِ ، وهو كُلُّ ما وقَعَ في الوجودِ مِن الأعمالِ الصَّالحةِ ، فإنَّ اللَّهَ تَعَالَى أرادَها إرادةَ دِينٍ وشَرْعٍ ، فأمَرَ به وأحبَّه ورَضِيَه ، وأرَادَه إرادَةَ كَوْنٍ فَوقَعَ . ولولا ذلك لمَا كان .
الثَّاني : ما تعلَّقَتْ به الإرادةُ الدينيَّةُ فقطْ ، وهو ما أمَرَ اللَّهُ به مِن الأعمالِ الصَّالحةِ فعَصَى ذلك الكفَّارُ والفُجَّارُ ، فتلك كُلُّها إرادةُ دِينٍ ، وهو يُحِبُّها ويَرْضاها ، وقَعَتْ أو لم تَقَعْ .
الثَّالثُ : ما تعلَّقَتْ به الإرادةُ الكونيَّةُ فقطْ ؛ وهو ما قدَّرَه وشاءَه مِن الحوادثِ الَّتِي لم يأْمُرْ بها كالمباحاتِ والمعاصي ، فإنه لم يأمُرْ بها ولم يَرْضَها ولم يُحِبَّها ؛ إذْ هو لا يأمُرُ بالفحشاءِ {وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} ولولا مَشِيئتُه وقُدْرَتُه وخَلْقُه لما كانت ولما وُجِدَتْ .
الرَّابعُ مِن أقسامِ الإرادة :ِ الَّذِي لم تتعلَّقْ به هذه الإرادةُ، ولا هذه، فهذا ما لم يكُنْ مِن أنواعِ المباحاتِ والمعاصِي.اهـ .

هيئة الإشراف

#7

7 Dec 2008

التنبيهات السنية للشيخ: عبد العزيز بن ناصر الرشيد رحمه الله

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وقَوْلُهُ تَعَالى: ( وَلَوْلاَ إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ باللهِ )، وقَوْلُهُ: (وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيْدُ). (1)
وقَوْلُه سُبْحَانَهُ: ( أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيْمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيْدُ ).(2)
وقَوْلُهُ: ( فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ …(3)
يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإِسْلامِ ومَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ في السَّماءِ ).(4)
).

الشرح:

قال الشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد (ت: 1408هـ): ((1) قولـُه: (وَلَوْلاَ): أي وهلاَّ، قولُه: (إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ) أي هلاَّ قلتَ حين دخلتَ بُستانـَك. قولُه: (مَا شَاءَ اللهُ): ((ما)) موصولةٌ، أي: الأمرُ ما شاءَ اللهُ إقرارًا بمشيئتِه، أي أنَّه إنْ شاءَ أبقاها، وإنْ شاءَ أفناها، واعترافًا بالعجزِ وأنَّ القدرةَ للهِ سُبْحَانَهُ.
قالَ بعضُ السَّلفِ: من أعجبهُ شيءٌ فليقلْ: ما شاءَ اللهُ لا قوَّةَ إلا باللهِ، وفي هذه الآيةِ وصفُه -سُبْحَانَهُ- بالقوَّةِ وإثباتُ المشيئَةِ له الشَّاملةِ العامَّةِ، فما وقعَ من شيءٍ فقد شاءه وأرادَهُ، لا رَادَّ لأمرِهِ ولا مُعَقِّبَ لِحُكمِه.
قولُه: (وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيْدُ): أي لو شاءَ -سُبْحَانَهُ- عدَمَ اقتتالِهم لم يَقتتِلوا، إذ لا يَجْري في مُلكِه إلا ما شاءَ سُبْحَانَهُ، فهذه الآيةُ فيها إثباتُ المشيئَةِ للهِ -سُبْحَانَهُ- وتعالى، وأنَّ ما شاءَه لا بُدَّ من وقوعِه، فكلُّ ما وجِدَ فهو بمشيئتِه -سُبْحَانَهُ- لا رادَّ لأمرِه ولا مُعَقِّبَ لحكمِه، وهذا يُبْطِلُ قولَ المعتزلةِ، لأنَّه أخبرَ أنَّه لو شاءَ أَنْ لا يَقتتِلوا لم يقْتتِلوا، وهم يقولونَ شاءَ أَنْ لا يقتتِلوا فاقتَتلوا، والأدلَّةُ على بُطلانِ قولِ المعتزلةِ كثيرةٌ جدًّا، ومَن أضلُّ سبيلاً وأكفرُ ممَّن يزعمُ أَنَّ اللهَ شاءَ الإيمانَ من الكافرِ، والكافِرَ شَاءَ الكُفرَ، فغلبتْ مشيئَةُ الكافِرِ مشيئَةَ اللهِ: (تعالى اللهُ عن قولِهم) وفيها إثباتُ الفعلِ حقيقةً للهِ، كما يليقُ بجلالِه، وأَنَّ القدرةَ عليه صفةُ كمالٍ، وأنَّه -سُبْحَانَهُ- لم يزلْ فَعَّالاً لِما يريدُ ولم يزلْ ولا يزالُ موصوفًا بصفاتِ الكمالِ، والفعلُ من لوازمِ الحياةِ، والرَّبُّ لم يزلْ حيًّا فلم يزلْ فعَّالاً، وأفعالُه -سُبْحَانَهُ- كصفاتِه قائمةٌ به، ولولا ذلك لم يكنْ فَعَّالاً ولا موصوفًا بصفاتِ الكمالِ، فأفعالُه -سُبْحَانَهُ- نوعانِ: لازمةٌ، ومتعدِّيةٌ كما دلَّت على ذلك النُّصوصُ الَّتي لا تُحصى وهي أفعالٌ حقيقةً وليستْ مجازًا، وليستْ كأفعالِ خلقِه، فصفاتُه تليقُ به سُبْحَانَهُ، انتهى. مِن كلامِ شيخِ الإسلامِ باختصارٍ.
قال ابنُ القيِّمِ رحمهُ اللهُ: قولُه: (فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ): دليلٌ على أمورٍ. أحدِها: أنَّه -سُبْحَانَهُ- يفعلُ بإرادتِهِ ومشيئتِه. الثَّاني: أنَّه لم يزلْ كذلك، لأنَّه ساقَ ذلك في مَعْرِضِ المدحِ والثَّناءِ على نفسِه، وأَنَّ ذلك مِن كمالِه، فلا يجوزُ في وقتٍ من الأوقاتِ أَنْ يكونَ عادمًا لهذا الكمالِ، وما كانَ من أوصافِ كمالِه ونعوتِ جلالِه لم يكنْ حادِثًا بعد أَنْ لم يكن. الثَّالثِ: أنَّه إذا أرادَ شيئًا فعلَهُ، فإنَّ ((ما)) موصولةٌ عامَّةٌ، أي يفعلُ كلَّ ما يريدُ أنْ يفعلَه، وهذا في إرادتِه المتعلِّقةِ بفعلِه، وأمَّا إرادتُه المتعلِّقةُ بفعلِ العبدِ فلها شأنٌ آخرُ، فإنَّ هنا إرادتيْنِ: إرادةَ أَنْ يفعلَ العبدُ، وإرادةَ أنْ يجعلَهُ الرَّبُّ فاعلاً، وليستا مُتلازمتَينِ، وإنْ لزمَ مِن الثَّانيةِ الأولى مِن غيرِ عكسٍ. الرَّابعِ: أنَّ إرادتَه وفعلَه متلازمتانِ، فما أرادَ أنْ يفعلَهُ فعلَه، وما فعلَه فقد أرادَهُ، بخلافِ المخلوقِ، فما ثَمَّ فعَّالٌ لما يريدُ إلا اللهَُ.
الخامسِ: إثباتُ إراداتٍ متعدِّدةٍ بحسَبِ الأفعالِ، وأَنَّ كلَّ فعلٍ له إرادةٌ تخُصُّه، هذا هو المعقولُ في الفِطَرِ.
السَّادسِ: أنَّ كلَّ ما صَلَحَ أَنْ تتعلَّقَ به إرادتُه جازَ فعلُه.

(2) قولـُه: (أُحِلَّتْ) أي أُبيحتْ.
قولُه: (بَهِيْمَةُ الأَنْعَامِ): أي الإبلُ والبقرُ والغنمُ سُمَّيت بهيمةً؛ لأنَّها لا تتكلَّمُ وأمَّا النَّعمُ فهي الإبلُ خاصَّةً.
قولُه: (إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ): أي إلا ما يُتلى عليكم تحريمُه في قولِه سُبْحَانَهُ: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) الآيةَ.
قولُه: ((غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ): غيرَ نصبٌ على الحالِ، ومعنى الآيةِ: أُحِلَّتْ لكم بهيمةُ الأنعامِ كلُّها إلا ما كان منها وحشيًّا، فإنَّه صيدٌ لا يَحِلُّ لكم في حالِ الإحرامِ.
قولُه: (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ): أي يحكُمُ ما يريدُ من التَّحليلِ والتَّحريمِ، لا اعتراضَ عليهِ، فهو الحَكَمُ -سُبْحَانَهُ- الحكيمُ لا حاكمَ غيرُهُ، فكلُّ حُكمٍ سوى حكمِه فهو باطلٌ ومردودٌ، وكلُّ حاكِمٍ بغير حُكْمِهِ وحُكْمِ رسولهِ فهو طاغوتٌ كافِرٌ باللهِ، قال تعالى: (وَمَن لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) وهذا عامٌّ شامِلٌ فما من قضيَّةٍ إلا وللهِ فيها حُكمٌ: (مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ) ولا شكَّ أنَّ مَنْ أعرضَ عن كتابِ اللهِ وسُنَّةِ رسولهِ واعتاضَ عنها بالقوانينِ الوضعيَّةِ أنَّه كافرٌ باللهِ.
وكذلك منْ زَعَمَ أنَّه يسعُهُ الخروجُ عن شريعةِ محمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- كما وَسِعَ الخَضِرَ الخروجُ عن شريعةِ موسى، أو زَعَمَ أنَّ هَديَ غيرِ محمَّدٍ أفضلُ من هديهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- أو أحسنُ، أو زعمَ أنَّه لا يسعُ النَّاسَ في مثلِ هذه العصورِ إلا الخروجُ عن الشَّريعةِ وأنَّها كانتْ كافيةً في الزَّمانِ الأوَّلِ فقط، وأَمَّا في هذه الأزمنةِ فالشَّريعةُ لا تُسايرُ الزَّمنَ ولا بُدَّ من تنظيمِ قوانينَ بما يناسبُ الزَّمنَ، لا شكَّ إن اعتقدَ هذا الاعتقادَ أنَّه قد استهانَ بكتابِ اللهِ وسُنَّةِ رسولِهِ، وتَنَقَّصَهما فلا شكَّ في كُفرِه وخروجِه عن الدِّينِ، وكذلك مَنْ زعمَ أنَّه محتاجٌ للشَّريعةِ في علمِ الظَّاهرِ دونَ علمِ الباطنِ، أو في علمِ الشَّريعةِ دونَ علمِ الحقيقةِ، أو أنَّ الإنسانَ حُرٌّ في التَّديُّنِ في أيِّ دينٍ شاءَ من يهوديَّةٍ أو نصرانيَّةٍ أو غيِرِ ذلك، أو أنَّ هذه الشَّرائعَ غيرُ منسوخةٍ بدينِ محمَّدٍ، أو استهانَ بدينِ الإسلامِ أو تَنَقَّصَهُ أو هزلَ به أو بشيءٍ من شرائعِه أو بمَن جاءَ به، وكذلك ألحقَ بعضُ العُلماءِ الاستهانةَ بحَمَلَتِه لأجلِ حملِهِ، فهذه الأمورُ كلُّها كفرٌ، قال تعالى: (قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) الآيةَ.
قولُه: (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ): فيها إثباتُ صفةِ الحكمِ للهِ -سُبْحَانَهُ- وتعالى، وقد تقدَّمَ أنَّ حُكمَهُ ينقسمُ إلى قِسمين. كونيٍّ، كما في قولِه: (أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي)، وشرعيٍّ: كما في هذه الآيةِ.
قولُه: (مَا يُرِيدُ): فيه إثباتُ الإرادةِ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- كما يليقُ بجلالِه، وأنَّه لم يزلْ مُريدًا بإراداتٍ متعاقِبةٍ، فنوعُ الإرادةِ قديمٌ، وأمَّا إرادةُ الشَّيءِ المعيَّنِ إنَّما يريدُه في وقتِه، فالإرادةُ مِن صفاتِ الفاعلِ، وهي تنقسمُ إلى قِسمين: إرادةٍ كونيَّةٍ قدريَّةٍ، وهذه مُرادِفَةٌ للمشيئةِ، وما أرادَه -سُبْحَانَهُ- كونًا وقدرًا فلابُدَّ مِن وقوعِهِ، فهذه الإرادةُ هي المتعلِّقةُ بالخلقِ وهو أنَّه يريدُ -سُبْحَانَهُ- أنْ يفعلَ هو. الثَّاني: إرادةٌ شرعيَّةٌ دينيَّةٌ، وهذه الإرادةُ المتعلِّقةُ بالأمرِ، وهي أنْ يُريدَ مِن عبدِه أنْ يفعلَ، وهذه مرادفةٌ للمحبَّةِ والرِّضا، فتجتمعُ الإرادتانِ في حقِّ المُخلصِ المُطيعِ، وتنفردُ الإرادةُ الكونيَّةُ في حقِّ العاصي، ومَن لم يُفرِّقْ بين النَّوعين فقدْ ضَلَّ كالجهميَّةِ والقدريَّةِ، فالإرادةُ الكونيَّةُ كقولِه: (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإِسْلامِ)، والدينيَّةُ كقولِهِ: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِنْ حَرَجٍ) الآيةَ، فالمحبَّةُ والرِّضا أَخَصُّ مِن الإرادةِ، خلافًا للمعتزلةِ، وأكثرِ الأشاعرةِ القائلين: إنَّ المحبَّةَ والرِّضا والإرادةَ سواءٌ، فأهلُ السُّنَّةِ يقولونَ: إنَّ اللهَ لا يُحبُّ الكفرَ والفسوقَ ولا يَرْضاه، وإنْ كانَ قد أرادَهُ كونًا وقدرًا، كما دخلَتْ سائرُ المخلوقاتِ لِما في ذلك من الحكمةِ، وهو وإنْ كانَ شرًّا بالنَّسبةِ إلى الفاعلِ فليسَ كلُّ ما كان شرًّا بالنِّسبةِ إلى شخصٍ يكونُ عديمَ الحكمةِ، بل للهِ في بعضِ المخلوقاتِ حِكَمٌ قد يعلمُها بعضُ النَّاسِ وقد لا يعلَمُها. انتهى. مِن كلامِ الشـَّيخِ تقيِّ الدِّينِ بنِ تيميةَ، بتصرُّفٍ.

(3) قولُه: (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ): أي مَن شاءَ -سُبْحَانَهُ- أن يَدُلَّهُ ويرشدَهُ ويوفـِّقَهُ ويجعلَ قلبَهُ قابِلاً للخيِر هداهُ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- ووفَّقه، فهدايةُ القلوبِ إليه -سُبْحَانَهُ- يهدي مَن يشاءُ بفضلِه، ويُضلُّ مَنْ يشاءُ بعدلِه، فلا تُطلبُ الهدايةُ إلا منه -سُبْحَانَهُ- فهو الهادِي كما قال: (مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ) وفي الحديثِ: ((كَلُّكُمْ ضَالٌّ إِلا مَنْ هَدَيْتُهُ فاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ)) وليستْ هذه الآيةُ معارِضةً لحديثِ عياضِ بن حِمارٍ، عن النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- يقولُ اللهُ: ((خَلَقْتُ عِبَادِيَ حُنَفَاءَ _ وفي روايةٍ – مُسْلِمينَ، فَاجْتَالَتْهُمُ الشَّياطِينُ)) – فإنَّ اللهَ خلقَ بني آدمَ وفطرَهُمْ على قبولِ الإسلامِ والميلِ إليه دونَ غيرهِ، والتَّهيُّؤِ لذلك والاستعدادِ له بالقوَّةِ، لكنْ لا بُدَّ للعبدِ من تعلُّمِ الإسلامِ بالفعلِ، فإنَّه قَبلَ التَّعليمِ جاهلٌ لا يعرفُ شيئًا، كما قالَ سُبْحَانَهُ: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مَّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا) الآيةَ، فإنْ هداهُ اللهُ سبَّبَ له مَن يعلِّمُهُ الإسلامَ فصارَ مهديًّا بالفِعلِ، بعدَ أَنْ كانَ مهديًّا بالقوَّةِ، وإِنْ خَذَلَهُ قَيَّضَ له ما يغيِّرُ له فطرتَه، كما قالَ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلى الفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ)) الحديثَ.

(4) قولـُه: (يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإِسْلامِ): أي يُوسِّعْ قلبَهُ للإيمانِ، بأَنْ يقذفَ في قلبِه نورًا فينفسحَ له، ويَقْبلَه.
قوله: (ومَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا): أي ومَنْ شاءَ -سُبْحَانَهُ- أَنْ يُضلَّهُ عنِ الهُدى يجعلْ صدرَهُ ضيِّقا، أي عن قبولِ الإيمانِ، وحرجًا، أي شديدَ الضِّيقِ، فلا يَبقى فيه منفذٌ للخيرِ، ومكانٌ حَرِجٌ، أي ضيِّقٌ، كثيرُ الشَّجرِ، لا تصِلُ إليه الرَّاعيةُ، والحرجُ أيضا: الإثمُ.
قولُه: (كَأَنَّما يَصَّعَّدُ في السَّماءِ): أي إذا كُلِّفَ الإيمانَ كأنَّما يَصَّعدُ في السَّماءِ لشدَّتهِ عليه.
قولُه: (كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ) يقولُ اللهُ سُبْحَانَهُ: كما يجعلُ صدرَ مَن أرادَ إضلالَهُ ضيِّقًا كذلك يُسلِّطُ عليه الشَّيطانَ وعلى أمثالِه ممَّن أبَى الإيمانَ باللهِ ورسولِه، فيغُويه ويُصَدُّه عن سبيلِ اللهِ، قال ابنُ عبَّاسٍ: الرِّجسُ: الشَّيطانُ، وقال مجاهدٌ: الرِّجسُ كلُّ ما لا خيَر فيهِ، وقيلَ: العذابُ، ففي هذه الآيةِ أنَّ الهدايةَ والإضلالَ بيدِ اللهِ، وفيها أنَّ العبدَ مُفتقِرٌ إلى ربِّه في كلِّ شيءٍ، وأنَّ العبادَ لا يملكونَ لأنفسهِم نفعًا ولا ضرًّا، وأنَّ مَن تفرَّدَ بخلقِ العبدِ ورزقِه هو المستحِقُّ أَنْ يُفرَدَ بالألوهيَّةِ والعبادةِ والسُّؤالِ، وأنَّه ليسَ عندَ أحدٍ من هدايةِ القلوبِ وتفريجِ الكروبِ شيءٌ من ذلك، لا الأنبياءُ ولا الملائكةُ ولا غيرُهم، ففيه الرَّدُّ على مَن زعمَ ذلك للنَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- فَضْلا عن غيرِه. ا هـ.
وفي هذه الآيةِ كغيرِها دليلٌ على إثباتِ العلَّةِ والحكمةِ في أفعالِ اللهِ، إذ لا يعقلُ مريدٌ إلا إذا كان المُريدُ قد فعلَ لحكمةٍ يقصدُها بالفعلِ، وإثباتُ الحكمةِ في أفعالِه -سُبْحَانَهُ- هو قولُ السَّلفِ، وجمهورِ المُسلمين، وجمهورِ العُقلاءِ، وقالتْ طائفةٌ كَجَهْمٍ وأتباعِه: إنَّه لم يَخلقْ شيئًا لشيءٍ، ووافقَهُ أبو الحسنِ الأشعريُّ ومَن اتَّبعه، وهم يُثبتُون أنَّه مُريدٌ، ويُنكرونَ أنَّ له حِكمةً يريدُها، وهذا تناقَضٌ، انتهى. مِن كلامِ الشَّيخِ تقيِّ الدِّينِ بنِ تيميةَ بتصرُّفٍ.
وفي هذهِ الآيةِ – كسوابِقها - إثباتُ الإرادةِ للهِ، كما يليقُ بجلالِه، وعُلِمَ ممَّا تقدَّم أنَّ الإرادةَ تنقسمُ إلى قِسمين، وأنَّ المشيئةَ لا تنقسمُ، وأنَّها مرادِفةٌ للإرادةِ الكونيَّةِ، كما عُلِمَ أنَّ المحبَّةَ والرِّضا أخصُّ مِن مطلقِ الإرادةِ، وأنَّ الأدلَّةَ دلَّتْ على الفرقِ بين المشيئةِ والمحبَّةِ والرِّضا، وأنَّ مَنْ جمعَ بينهما فقد ضلَّ ضلالاً مُبينًا، وصادمَ أدلَّةَ الكتابِ والسُّنَّةِ، وجمعَ بيَن ما فَرَّقَ اللهُ.
قالَ الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ بنُ تيميةَ رحمَه اللهُ: فالإرادةُ الكونيَّةُ: هي المشيئةُ لما خلقَهُ، وجميعُ المخلوقاتِ داخلةٌ في مشيئتِه وإرادتِه الكونيَّةِ، والإرادةُ الدِّينيَّةُ الشَّرعيَّةُ: هي المتضمِّنةُ للمحبَّةِ والرِّضا، المتناولةُ لجميعِ ما أمرَ به، وجعلَهُ شرعًا ودِينًا، وهذه مختصَّةٌ بالإيمانِ والعملِ الصَّالحِ، قال: ومنشأُ ضَلالِ مَن ضَلَّ: هو من التَّسويةِ بينَ المشيئةِ والإرادةِ، وبين المحبَّةِ والرِّضا، فَسوَّى بينهما الجبريَّةُ والقدريَّةُ، فقالت الجبريَّةُ: الكونُ كلُّه بقضائِه وقدرِه، فيكونُ محبوبًا مرضيًّا، وقالتِ القدريَّةُ النُّفاةُ: ليستِ المعاصِي محبوبةً له ولا مرضيَّةً، فليسَتْ مُقدَّرةً ولا مقضيةً، فهي خارجةٌ عن مشيئتِه وخلقِه.
وقد دَلَّ على الفرقِ بيَن المشيئةِ والمحبَّةِ: الكتابُ والسُّنَّةُ والفطرةُ الصَّحيحةُ، أمَّا نصوصُ المشيئةِ والإرادةِ فكقولِه سُبْحَانَهُ: (وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا …)، (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ) وأمَّا نصوصُ المحبَّةِ والرِّضا فكقولِه: (وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ)، وقولِه: (وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ) الآيةَ. انتهى.
قالَ ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ في ((المدارجِ)): ومرادُهُ -سُبْحَانَهُ- نوعانِِ: مُرادٌ يُحبُّه ويرضَاه ويمدحُ فاعِلَه ويوالِيه، فموافقتُه في هذا المُرادِ هي عينُ محبَّتِه، وإرادةُ خلافِه رعونةٌ ومعارضةٌ واعتراضٌ، ومُرادٌ يبغضُه ويكرهُه ويمقتُ فاعلَهُ، فموافقتُه في هذا المُرادِ عينُ مُشاقَّتِه ومعاداتِه، فهذا الموضِعُ موضعُ فُرقانٍ، فالموافقةُ كلُّ الموافقةِ في معارضةِ هذا المُرادِ، واعتراضِه بالدَّفعِ والرَّدِّ. انتهى.
وفي الآيةِ إثباتُ الهدايةِ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- وأنَّه الهادي لا سِواه، ومِن أسمائِه -سُبْحَانَهُ- الهادي، وهو الَّذي بصَّرَ عبادَهُ وعرَّفهم طريقَ معرفتِه، وهدى كلَّ مخلوقٍ إلى ما لابُدَّ له منه، وتنقسمُ الهدايةُ إلى قِسمين:
الأوَّلِ: هدايةٌ خاصَّةٌ باللهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- لا هاديَ غيرُه ولاتُطلبُ إلا منه، وهي هدايةُ التَّوفيقِ والقبولِ والإلهامِ، وهي المُستلزمةُ للاهتداءِ، وهي المذكورةُ في قولِه -سُبْحَانَهُ- وتعالى: (إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ).
الثَّاني: الهدايةُ العامَّةُ، وهي هدايةُ الدَّلالةِ والإرشادِ والبيانِ، وهي المذكورةُ في قولِه: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) فالنـَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- هو المُبَيِّنُ عن اللهِ، والدَّالُّ على دينِهِ وشرْعِه، وكذلك الأنبياءُ، وأتباعُهم، وهذه الهدايةُ لا تستلزمُ الاهتداءَ، ولهذا ينتفي معها الهُدى، كما في قولِه تعالى: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى) أي بَيَّنا لثمودَ وأرشدْنَاهم فلم يَهتدُوا.
فالهدايةُ المنفيَّةُ عن النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- وغيرِه هي: هدايةُ التَّوفيقِ والقبولِ، وأمَّا المثبتةُ له كغيرِه من الأنبياءِ والمُرسلين وأتباعِهم فهي هدايةُ الدَّلالةِ والإرشادِ.
وفي الآيةِ المتقدِّمةِ إثباتُ الصِّفاتِ الفعليَّةِ، وأنَّها تنقسمُ إلى قِسمين: مُتَعَدِّيَةٍ، ولازمةٍ. فالمتعدِّيةُ: ما تعدَّى إلى مفعولٍ، مثلِ خلقَ ورزقَ وهَدَى وأضلَّ. واللازمةُ كقولِه: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّماءِ) (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) إلى غيرِ ذلِك ممَّا لا يُحْصى من النَّوعينِ، ذكرَ ذلك الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ، وابنُ القيِّمِ رحمهما اللهُ.
ذكرَ المصنِّفُ - رحمهُ اللهُ تعالى - الآياتِ في إثباتِ المشيئةِ والإرادةِ، ثمَّ ذكرَ الآياتِ في إثباتِ المحبَّةِ والرِّضا، إشارةً إلى الرَّدِّ على مَنْ زعمَ التَّسويةَ بين ما ذُكِرَ، وأنَّ المحبَّةَ والرِّضا والمشيئةَ متلازمان، ولا شكَّ في بُطلانِ هذا القولِ وفسادِه، فالأدلَّةُ الكثيرةُ دلَّتْ على الفرقِ بين محبَّتِهِ ورضاه وإرادتِه.
قال الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ رحمه اللهُ في ((المنهاجِ)): فأهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ يقولون: إنَّ اللهَ يُحِبُّ ويَرْضى، كما دلَّ على ذلك الكتابُ والسُّنَّةُ، ويقولون: إنَّ المحبَّةَ والرِّضا أخصُّ من الإرادةِ، فيقولون: إنَّ اللهَ لا يحبُّ الكفرَ والفسوقَ والعصيانَ، ولا يَرضاه، وإنْ كانَ داخلاً في مُرادِه، كما دخلتْ سائرُ المخلوقاتِ، لِما في ذلك من الحكمةِ. انتهى).