11 Nov 2008
الإيمان بصفات الرضى والغضب والسخط والأسف والكره والمقت
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وَقَوْلُهُ : {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ}[سُورَةُ الْمَائِدَةِ : 119]، وَقَوْلُهُ :{وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ}[سُورَةُ النِّسَاءِ : 93]، وَقَوْلُهُ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُواْ مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ}[سُورَةُ مُحَمَّدٍ : 28]، وَقَوْلُهُ : {فَلَمَا ءَاسَفُونَا انتَقَمْنَا منْهُمْ}[سُورَةُ الزُّخْرُفِ : 55]، وَقَوْلُهُ : {وَلَـكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ}[سُورَةُ التَّوْبَةِ : 46] ، وَقَوْلُهُ : {كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ}[سُورَةُ الصَّفِّ : 2] ).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ مُحمَّد خَليل هَرَّاس رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وقَوْلُهُ:
{ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ }، { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤمِنًا
مُتَعَمِّدًا فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيْها وَغَضِبَ اللهُ
عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ }، وقولُهُ: { ذَلِكَ بأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رَضْوَانَهُ }، { فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ }، وقَوْلُهُ: { وَلَكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ }، وقَوْلُهُ: { كَبُرَ مَقْتًَا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ } (1)).
الشرح:
قال الشيخ محمد خليل هراس (ت: 1395هـ): ((1) قولُهُ: { رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ }…
إلخ. تضمَّنتْ هذهِ الآياتُ إثباتَ بعضِ صفاتِ الفعلِ من الرِّضى للهِ،
والغَضَبِ، واللَّعنِ، والكُرِهِ، والسَّخطِ، والمَقْتِ، والأسَفِ.
وهيَ
عندَ أهلِ الحقِّ صفاتٌ حقيقيَّةٌ للهِ عزَّ وجلَّ، على ما يليقُ بهِ، ولا
تُشْبِهُ ما يتَّصفُ بهِ المخلوقُ مِن ذلكَ، ولا يلزمُ مِنهَا ما يلزمُ في
المخلوقِ.
فلا
حُجَّةَ للأشاعرةِ والمعتزِلةِ على نفيِهَا، ولكنَّهُمْ ظنُّوا أنَّ
اتِّصافَ اللهِ عزَّ وجلَّ بهَا يلزمُهُ أنْ تكونَ هذهِ الصِّفاتُ فيهِ على
نحوِ ما هيَ في المخلوقِ، وهذا الظنُّ الذي ظنُّوهُ في رَبِّهم أرْداهُمْ
فأوقَعَهُمْ في حَمْأَةِ النَّفِي والتَّعطيلِ.
والأشاعرةُ
يُرْجِعون هذهِ الصِّفاتِ كلِّهَا إلى الإِرادةِ؛ كمَا عِلمْتَ سابقًا،
فالرِّضى عندَهمُ َإرادةُ الثَّوابِ، والغضبُ والسَّخطُ.. إلخ, إرادةُ
العِقابِ.
وأَمَّا المعتزِلةُ؛ فيُرجِعونهَا إلى نفسِ الثَّوابِ والعقابِ.
وقولُهُ سبحانَهُ: { رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } إخبارٌ عمَّا يكونُ بينَهُ وبينَ أوليائِهِ مِن تبادُلِ الرِّضى والمحبَّةِ:
أَمَّا رِضاهُ عنهُم؛ فهوَ أعظمُ وأجلُّ مِن كلِّ ما أُعطوا مِن النَّعيمِ؛ كمَا قالَ سبحانَهُ:
{ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ }.
وأَمَّا
رِضَاهمْ عنهُ؛ فهوَ رِضى كلٍّ مِنْهُمْ بمنزِلتِهِ مهمَا كانَتْ،
وسُرورُهُ بهَا، حتَّى يظنَّ أَنَّهُ لمْ يُؤتَ أحدٌ خيرًا ممَّا أُوتِي،
وذلكَ في الجنَّةِ.
وأَمَّا قولُه: { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤِمنَاً متعَمِّدًا … } الآيةَ؛ فقَد احترزَ بقولِهِ: {مُؤْمِنَاً } عن قتلِ الكافرِ، وبقولِهِ: {مُتَعَمِّدًا } – أي: قاصدًا لذلكَ، بأنَّْ يقصدَ مَنْ يعلمُهُ آدميًّا معصومًا، فيقتلُهُ بما يغلبُ على الظَّنِّ موتُهُ بهِ – عن القتلِ الخطأ.
وقولُهُ: { خَالِدًا فيهَا }؛ أي: مقيمًا على جهةِ التَّأْبيدِ، وقيلَ: الخُلُودُ: المُكثُ الطَّويلُ.
واللَّعنُ: هوَ الطَّردُ والإِبعادُ عن رحمةِ اللهِ. واللَّعينُ والملعونُ: مَنْ حَقَّتْ عليهِ اللَّعنةُ، أو دُعِي عليهِ بهَا.
وقَد
استشكلَ العلماءُ هذهِِ الآياتِ مِنْ حيثُ إِنَّهَا تدلُّ على أنَّ القاتلَ
عَمْدًا لا تَوْبَةَ لهُ، وأنَّهُ مخلَّدٌ في النَّارِ، وهذا مُعَارِضٌ
لقولِهِِِ تعالَى: {إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ }.
وقَدْ أجابوا عن ذلكَ بعِدَّةِ أجوبةٍ؛ منهَا:
1 – أنَّ هذا الجزاءَ لمَنْ كانَ مستحِلاً قتلَ المؤمنِ عمدًا.
2 –
أنَّ هذا هوَ الجزاءُ الذي يستحقُّهُ لو جُوزِيَ، مَعَ إمكانِ أنْ لا
يُجازى، بأنَّْ يتوبَ أو يعملَ صالحًا يرجحُ بعملِهِ السَّيِّءِ.
3 – أنَّ الآيةَ واردةٌ موردَ التَّغليظِ والزَّجرِ.
4 – أنَّ المرادَ بالخلودِ المكثُ الطَّويلُ كمَا قدَّمنا.
وقَدْ ذهبَ ابنُ عبَّاسٍ وجماعةٌ إلى أنَّ القاتلَ عمدًا لا تَوبةَ لهُ،
حتَّى قالَ ابن عبَّاسٍ:(( إنَّ هذهِ الآيةَ مِن آخرِ مَا نزلَ، ولمْ ينسخْهَا شيءٌ )).
والصَّحيحُ أنَّ على القاتلِ حقوقًا ثلاثةً: حقًّا للهِ، وحقًّا للورثَةِ، وحقًّا للقتيلِ.
فحقُّ اللهِ يسقطُ بالتَّوبةِ.
وحقُّ الورثةِ يسقطُ بالاستيفاءِ في الدُّنيا أو العفوِ.
وأَمَّا
حقُّ القتيلِ، فلا يسقطُ حتَّى يجتمعَ بقاتلِهِ يومَ القيامةِ، ويأتِي
رأسَهُ في يدِهِ، ويقولُ: يا رَبِّ! سَلْ هذا فيمَ قتلنِي؟
وأَمَّا قولُهُ: { فَلَمَّا آسَفُونَا … } إلخ؛ فالأسفُ يُستعملُ بمعنى شِدَّةِ الحزنِ، وبمعنى شدَّةِ الغضبِ والسَّخطِ، وهوَ المرادُ في الآيةِ.
والانتقامُ: المجازاةُ بالعقوبةِ، مأخوذٌ مِن النِّقمةِ، وهيَ شدَّةُ الكراهةِ والسَّخطِ).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ: صالح بن فوزان الفوزان
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (ذكرُ رضى اللهِ وغَضبهِ وسَخطهِ وكراهيَّتهِ في القرآنِ الكريم وأنَّه مُتَّصِفٌ بذلك
وقَوْلُهُ: (
رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ )، ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤمِناً
مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ
وَلَعَنَهُ)، وقولُهُ: ( ذَلِكَ بأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ )، ( فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ )، وقَوْلُهُ: ( وَلَكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ )، وقَوْلُهُ: ( كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ ) (1)).
الشرح:
قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: ((1) قولُه: (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ)
أي رَضِي عنهم بما عَمِلوه مِن الطَّاعاتِ الخالصةِ له،وَرَضُوا عنه بما
جازاهم به مِن النَّعيمِ. والرضا منه سبحانَه هو أرفعُ دَرجاتِ النَّعيمِ،
قال تعالى: (وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهَ أكْبرُ) الآيةَ (72) مِن سورةِ التوبةِ.
ورضاهم عنه هو رِضى كُلٍّ منهم بمنزلتهِ، حتَّى يَظُنَّ أنَّه لم يُؤتَ أحدٌ خيراً مما أُوتي.
وقولُه: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً) احترز بقولِه (مُؤْمِناً) عَن قتلِ الكافرِ، وبقولهِ: (مُتَعَمِّداً)
عَن قتلِ الخطأِ ـ والمتعمِّدُ هو الذي يقصدُ مَن يَعْلَمُهُ آدميًّا
معصُوماً فيقتلُه بما يَغْلِبُ عَلى الظَّنِّ موْتُه به. وقولُه: (فَجَزَاؤُهُ) أي: عِقابُه في الآخرةِ (جَهَنَّمُ) طَبَقةٌ مِن طَبَقاتِ النَّارِ (خَالِداً فِيهَا) أي مُقِيماً في جهنَّمَ، والخلودُ هو المُكْثُ الطَّويلُ (وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ) معْطُوفٌ عَلى مُقدَّرٍ، دلَّ عليه السِّياقُ، أي جعَل جزاءَه جهنَّمَ، وغَضِب عليه (وَلَعَنَهُ) أي طرَدَهَ عَن رحمتِه، واللَّعْنُ هو الطَّرْدُ والإبعادُ عَن رحمةِ اللهِ.
وقولُه: (ذَلِكَ بأنَّهُمْ) أي ما ذُكِر في الآيةِ قبلَها مِن شدّةِ توفىِّ الملائكةِ للكفَّارِ مِن أجلِ أنَّهم (اتَّبعُوا مَا أسْخَطَ اللهَ) مِن الانهماكِ في المعاصي والشَّهواتِ المحرَّمةِ (وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ) أي كرهوا ما يُرضِيه مِن الإيمانِ والأعمالِ الصَّالحةِ.
وقولُه: (فَلَمَّا آسَفُونَا) أي أغضبونا (انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ) أي عاقبناهم، والانتقامُ هو أَشدُّ العقوبةِ.
وقولُه: (وَلَكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعَاثَهُمْ) أي أبغض اللهُ خروجَهم معكم للْغَزْوِ(فَثَبَّطَهُمْ)
أي حَبَسهُم عَن الخروجِ مَعكَ. وخَذَلهم قَضَاءً وقَدَرًا، وإن كان قد
أمرهم بالغزوِ شَرْعًا. وأقدَرَهم عليه حِسًّا، لكنه لم يُعِنْهُمْ عليه
لحكمةٍ يعلَمُهَا. وقد بيَّنها في الآيةِ التي بعدَها في قولِه: (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً) الآيةِ
وقولُه: (كَبُرَ مَقْتاً) أي عَظُمَ ذلك في المقْتِ وهو البغضُ، ومقتاً منصوبٌ عَلى التَّمييزِ (أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ)
أي أَن تَعِدُوا مِن أنفسِكم خيراً، ثم لا تَفُوا بما وعدتم.وقد ورَد في
سببِ نزولِهَا أنَّ ناسًا مِن المؤمنين قبلَ أنْ يُفرَضَ الجهادُ، يقولون
ودِدْنَا لوْ أنَّ اللهَ أخبرنا بأَحِبِّ الأعمالِ فنعملَ به؟ فأخبر اللهُ
نبيَّه صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ أنَّ أحبَّ الأعمالِ: إيمانٌ باللهِ لا
شَكَّ فيه، وجِهادُ أهلِ معصِيَتِه الَّذين خالفوا الإيمانَ ولم يُقِرُّوا
به. فلمّا نزلَ الجهادُ، كَرِه ذلك أناسٌ مِن المؤمنين وشَقَّ عليهم
أمرُه. فقال اللهُ (يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ).
الشَّاهدُ مِن الآياتِ: أنَّ فيها وصفَ اللهِ بالغَضَبِ والرِّضا واللَّعْنِ والانتقامِ والكراهيةِ والأسفِ والمقتِ،
وهذه
كُلُّها مِن صفاتِ الأفعالِ التي يفعلُها جلَّ وعلا متى شاء َإذا شاءَ كيف
يشاءُ. وأهلُ السُّنَّةِ يُثبِتُونَ ذلك للهِ، كما أثبته لنفسِه، عَلى ما
يليقُ بجلالهِ).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وَقَوْلُهُ: (رَّضِيَ اللهُ عَنهُم وَرَضُوا عَنْهُ)[المائدة: 119](1).
وقولُهُ: (وَمَن يَقْتُل مُؤمِنًا مُّتَعَمّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيهِ وَلَعَنَهُ) (2) [النساء: 93].
وقولُهُ: (ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُواْ مَا أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ) [محمد: 28].
وقولُهُ: (فَلَمَّا ءَاسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ) [الزخرف: 55].
وقولُهُ: (وَلَكِن كَرِهَ اللهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ) [التوبة: 46].
قولُهُ: (كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ) [الصف: 3]).
الشرح:
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): ((1) صفة الرِّضَى، فاللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - موصوفٌ بالرِّضى، وَهُوَ يَرضى عنِ العملِ، ويرضَى عنِ العامِلِ.
يعني أنَّ رِضَى اللَّهِ متعلِّقٌ بالعملِ وبالعاملِ:
أمَّا بالعملِ، فمثلُ قولِهِ - تَعَالَى -: (وَإِن تَشكُرُوا يرَضَهُ لَكُم) [الزمر: 7]، أيْ: يَرْضَ الشُّكرَ لكمْ.
وكَمَا فِي قولِهِ - تَعَالَى -: (وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسلاَمَ دِينًا) [المائدة: 3].
وكَمَا فِي الحديثِ الصَّحيحِ: ((إنَّ اللَّهَ يَرضَى لَكُمْ ثَلاثًا، وَيَكْرَهُ لَكُم ثَلاثًا …)).
فهَذَا الرِّضى مُتعلقٌ بالعملِ.
ويتعلقُ الرِّضى أيضًا بالعاملِ، مثلُ هذِهِ الآيةِ الَّتِي ساقَها المؤلِّفُ: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم وَرَضُوا عَنهُ) [المائدة: 119].
فرِضَى
اللَّهِ صفةٌ ثابتةٌ لِلَّهِ - عزَّ وجلَّ -، وهِيَ فِي نَفْسِهِ، وليستْ
شيئًا مُنْفَصِلاً عَنْهُ، كَمَا يدَّعيهِ أهلُ التَّعطيلِ.
ولو قَالَ لكَ قائلٌ:
فسِّرْ ليَ الرِّضى. لَمْ تتمكنْ مِن تفسيرِه؛ لأنَّ الرِّضى صفةٌ فِي
الإنسانِ غريزيَّةٌ، والغرائزُ لاَ يمكنُ لإنسانٍ أنْ يُفسِّرَهَا بأَجْلَى
وأوضحَ مِن لَفْظِهَا.
فنقولُ:
الرِّضَى صفةٌ فِي اللَّهِ - عزَّ وجلَّ -، وهِيَ صفةٌ حقيقيَّةٌ،
متعلِّقةٌ بمشيئتِه، فهِيَ من الصِّفاتِ الفِعليَّةِ، يَرْضَى عن المؤمنينَ
وعن المتَّقِينَ، وعن المقْسطِينَ، وعن الشَّاكرينَ، ولاَ يَرْضَى عن
القومِ الكافرينَ، ولاَ يرضَى عن القومِ الفاسقينَ، ولاَ يرضَى عن
المنافقينَ، فَهُوَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - يَرضَى عن أناسٍ ولاَ يرضَى
عن أُناسٍ، ويَرْضَى أعمالاً ويكرَهُ أعمالاً.
وَوَصْفُ اللَّهِ - تَعَالَى - بالرِّضَى ثابتٌ بالدَّليلِ السَّمعيِّ، كَمَا سبَقَ،
وبالدَّليلِ
العقليِّ، فإنَّ كونَه - عزَّ وجلَّ - يُثيبُ الطَّائعينَ. ويَجزِيهمْ
عَلَى أعمالِهِم وطاعاتِهم يَدُلُّ عَلَى الرِّضَى.
فإنْ قلتَ:
استدلالُكَ بالمثوبةِ عَلَى رِضَى اللَّهِ - عزَّ وجلَّ - قدْ يُنازَعُ
فِيهِ؛ لأنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قدْ يُعْطِي الفاسِقَ مِن النَّعمِ أكثرَ
ممَا يُعطِي الشَّاكِرَ. وَهَذَا إيرادٌ قويٌّ.
ولكنَّ الجوابَ عَنْهُ أن يُقالَ: إعطاؤُه الفاسِقَ المقيمَ عَلَى مَعصِيَتِه استدراجٌ، وليسَ عن رِضًى: كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بآيَاتِنا سَنَستَدرِجُهُم مّن حَيثُ لاَ يَعلَمُونَ، وَأُملِى لَهُم إِنَّ كَيدِى مَتِينٌ) [الأعراف: 182 – 183].
وقَالَ النَّبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي للظَّالِمِ، حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ))، وتلاَ قولَهُ - تَعَالَى -: (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِىَ ظَالِمَةٌ، إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود: 102].
وقَالَ - تَعَالَى -: (فَلَمَّا
نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحنَا عَلَيهِمْ أَبوَابَ كُلِّ شَيءٍ،
حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذنَاهُم بَغتَةً فَإِذَا هُم
مُّبلِسُونَ، فَقُطِعَ دَابِرُ القَومِ الَّذِينَ ظَلَمُوا، وَالحَمدُ
لِلَّهِ رَبّ العَالَمِينَ) [الأنعام: 44 – 45].
أمَّا إِذَا جاءتِ المثوبةُ والإنسانُ مقيمٌ عَلَى طاعةِ اللَّهِ، فإنَّنَا نعرفُ أنَّ ذلِكَ صادرٌ عن رضى اللَّه عَنْهُ.
آياتُ صفاتُ الغضبِ والسَّخَطِ والكَراهِيَةِ والبُغْضِ
(2) ذكرَ المؤلِّفُ -رحمَهُ اللَّهُ- فِي هذِهِ الصِّفاتِ خمسَ آياتٍ:
الآيةُ الأُولى: قولُهُ: (وَمَن يَقْتُلْ مُؤمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَلِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيهِ وَلَعَنَهُ) [النساء: 93].
(وَمَن): شرطيَّةٌ. و(مَنْ) الشَّرطيَّةُ تفيدُ العمومَ.
(مُؤمِنًا): هُوَ مَنْ آمنَ باللَّهِ ورسولِهِ، فخرجَ بِهِ الكافرُ والمنافقُ.
لكنْ مَنْ قتلَ كافراً لَهُ عهدٌ أوْ ذمَّةٌ أوْ أمانٌ فَهُوَ آثِمٌ، لكنْ لاَ يستحقُ الوعيدَ المذكورَ فِي الآيةِ.
وأمَّا المنافقُ، فَهُوَ معصومُ الدَّمِ ظاهراً، مَا لَمْ يُعلنْ بنفاقِهِ.
وقولُهُ: (مُتَعَمِّدًا): يدلُّ عَلَى إخراجِ الصَّغيرِ وغيرِ العاقلِ؛ لأنَّ هؤلاءِ ليسَ لَهُم قَصْدٌ معتبرٌ ولاَ عَمْدٌ، وعَلَى إخراجِ المخطئِ، وقَدْ سبقَ بيانُهُ فِي الآيةِ الَّتِي قَبْلَهَا.
فالَّذِي يقتلُ مؤمناً متعمِّداً جزاؤُه هَذَا الجزاءُ العظيمُ.
(جَهَنَّمُ): اسمٌ من أسماءِ النَّارِ.
(خَالِدًا فِيهَا)، أيْ: ماكِثًا فِيها.
(وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيهِ): الغضبُ صفةٌ ثابتةٌ لِلَّهِ - تَعَالَى - عَلَى الوجهِ اللاَّئقِ بهِ، وهِيَ مِنْ صفاتِهِ الفِعليَّةِ.
(وَلَعَنَهُ): اللعنُ هُوَ الطَّردُ والإبعادُ عَنْ رحمةِ اللَّهِ.
فهذِهِ أربعةُ أنواعٍ مِنَ العقوبةِ، والخامسُ: قولُهُ: (وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا).
خمسُ عقوباتٍ، واحدةٌ مِنْها كافيةٌ فِي الرَّدعِ والزَّجرِ لَمِنْ كَانَ لَهُ قلبٌ.
ولكنْ يُشْكِلُ عَلَى مَنْهُجِ أهلِ السُّنَّةِ: ذِكْرُ الخلودِ فِي النَّارِ، حَيْثُ رُتِّبَ عَلَى القَتْلِ، والقتلُ ليسَ بكفرٍ، ولاَ خُلودَ فِي النَّارِ عندَ أهلِ السُّنَّةِ إِلاَّ بالكفرِ.
وأجيبُ عَنْ ذلِكَ بعدَّةِ أوجهٍ:
الوجهُ الأوَّلُ: أنَّ هذِهِ فِي الكافرِ إِذَا قَتَلَ المؤمنَ!.
لكنَّ هَذَا القولَ ليسَ بشيءٍ؛ لأنَّ الكافرَ جزاؤُهُ جهنَّمُ خالداً فِيهَا وإنْ لَمْ يَقتُلِ المؤمنَ، (إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُم سَعِيرًا، خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لاَّ يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا) [الأحزاب: 64 – 65].
الوجهُ الثَّاني: أنَّ هَذَا فيمنْ استحلَّ القتلَ؛ لأنَّ الَّذِي يَستحِلُّ قَتلَ المؤمنِ كافرٌ!.
وعَجِبَ الإمامُ أحمدُ مِنْ هَذَا الجوابِ، قالَ: كَيْفَ هَذَا؟! إِذَا استحلَّ قتلَهُ، فَهُوَ كافرٌ وإنْ لَمْ يقتلْهُ، وهُوَ مخلدٌ فِي النَّارِ وإنْ لَمْ يقتلْهُ.
ولاَ يستقيمُ هَذَا الجوابُ أيضاً.
الوجهُ الثَّالثُ: أنَّ هذِهِ الجملةَ عَلَى تقديرِ شرطٍ، أيْ: فجزاؤُهُ جهنَّمُ خالداً فِيهَا إنْ جازاهُ.
وفِي هذا نظرٌ، أي فائدةٍ فِي قولِهِ: (فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ)، مَا دامَ المَعْنَى إنْ جازاهُ؟! فنَحْنُ الآنَ نَسألُ: إِذَا جازاهُ فَهَلْ هَذَا جَزاؤُهُ؟ فَإِذَا قِيلَ: نَعَمْ، فمعناهُ أنَّهُ صارَ خالداً فِي النَّار، فتَعودُ المشكلةُ مرَّةً أُخرَى، ولاَ نتخلَّصُ!!
فهذِهِ ثلاثةُ أجوبةٍ لاَ تَسلمُ مِنَ الاعتراضِ.
الوجهُ الرَّابعُ: أنَّ هَذَا سببٌ، ولكنْ إِذَا وُجِدَ مانعٌ لَمْ ينُفَّذ السَّببُ، كَمَا نقولُ: القرابةُ سببٌ للإرثِ، فَإِذَا كَانَ القريبُ رقيقاً لَمْ يَرِثْ، لوجودِ المانعِ، وهُوَ الرِّقُّ.
ولكنْ يَرِدُ علينا الإشكالُ مِنْ وجهٍ آخرَ،
وهُوَ مَا الفائدةُ مِنْ هَذَا الوعيدِ؟
فنقولُ: الفائدةُ أنَّ الإنسانَ الَّذِي يقتلُ مؤمناً متعمداً قَدْ فَعلَ السَّببَ الَّذِي يُخلَّدُ بهِ فِي النَّارِ، وحينئذٍ يكونُ وجودُ المانعِ محتملاً، قدْ يوجدُ وقدْ لاَ يوجدُ، فَهُوَ عَلَى خطرٍ جِدًّا، وَلِهَذَا قَالَ النَّبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لنْ يزالَ المؤمنُ فِي فُسحةٍ من دينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دماً حراماً)). فَإِذَا أصابَ دماً حراماً - والعياذُ باللَّهِ -، فإنَّهُ قَدْ يَضِيقُ بدينِهِ حَتَّى يَخرُجَ مِنْهُ.
وعَلَى هَذَا فيكونُ الوعيدُ هُنَا باعتبارِ المآلِ؛ لأنَّهُ يُخشَى أنْ يكونَ هَذَا القتلُ سبباً لكفرِهِ، حينئذٍ يموتُ عَلَى الكفرِ، فيخلَّدُ.
فيكونُ فِي هذِهِ الآيةِ عَلَى هَذَا التَّقديرِ ذكرُ سببِ السببِ، فالقتلُ عمداً سببٌ لأنْ يموتَ الإنسانُ عَلَى الكفرِ، والكفرُ سببَ للتَّخليدِ فِي النَّارِ.
وأظنُّ هَذَا إِذَا تأمَّلَهُ الإنسانُ، يجدُ أنَّهُ ليسَ فِيهِ إشكالٌ.
الوجهُ الخامسُ: أنَّ المرادَ بالخلودِ المكثُ الطَّويلُ، وليسَ المرادُ بهِ المكثَ الدَّائمَ؛ لأنَّ اللُّغةَ العربيَّةَ يُطلَقُ فِيها الخلودُ عَلَى المكثِ الطويلِ، كَمَا يقالُ: فلانٌ خالدٌ فِي الحبسِ، والحبسُ ليسَ بدائمٍ، ويقولون: فلانٌ خالدٌ خلودَ الجبالِ، ومعلومٌ أنَّ الجبالَ ينسفُها ربِّي نسفاً، فيَذَرُها قاعاً صَفْصفاً.
وَهَذَا أيضاً جوابٌ سهلٌ لاَ يحتاجُ إِلَى تعبٍ، فنقولُ: إنَّ اللَّهَ - عزَّ وجلَّ - لَمْ يَذْكُر التَّأبِيدَ، لَمْ يَقُلْ: خالِداً فِيهَا أبداً، بلْ قالَ: (خَالِداً فِيهَا)، والمعنى: أنَّهُ ماكِثٌ مُكثاً طويلاً.
الوجهُ السَّادسُ: أنْ يُقَالَ إنَّ هَذَا مِنْ بابِ الوَعيدِ، والوعيدُ يجوزُ إخلافُهُ؛ لأنَّهُ انتقالٌ مِنَ العَدلِ إِلَى الكرمِ، والانتقالُ مِنَ العَدلِ إِلَى الكَرمِ كرمٌ وثناءٌ، وأَنْشَدوا عَلَيْهِ قولَ الشَّاعرِ:
وَإِنِّي وَإنْ أوْعَدْتُهُ أوْ وَعَدْتُهُ لَمُخْلِفُ إِيْعادي وَمُنْجِزُ مَوْعِدي
أوعدَتُهُ بالعقوبةِ، ووعدَتْهُ بالثَّوابِ، لمُخلفِ إيعاديِ ومُنجزُ مَوعدِي.
وأنتَ إِذَا قلْتَ لابنِكَ: واللَّهِ إنْ ذهبْتَ إِلَى السُّوقِ لأضربنَّكَ بهَذَا العصَا، ثُمَّ ذهبَ إِلَى السُّوقِ، فلمَّا رجعَ، ضربْتَهُ بيدِكَ، فهَذَا العقابُ أَهْوَنُ عَلَى ابنِكَ، فَإِذَا توعَّدَ اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - القاتلَ بهَذَا الوعيدِ ثُمَّ عفا عَنْهُ فهَذَا كرمٌ.
ولكنَّ هَذَا فِي الحقيقةِ فِيهِ شيءٌ مِن النَّظرِ؛ لأننَّا نقولُ: إنْ نفَذَ الوعيدُ فالإشكالُ باقٍ، وإنْ لَمْ ينفُذْ فلاَ فائدةَ مِنْهُ.
هذِهِ ستَّةُ أوجهٍ فِي الجوابِ عن الآيةِ، وأقربُها الخامسُ، ثُمَّ الرَّابعُ.
مسألةٌ: إِذَا تابَ القاتلُ هَلْ يستحقُّ هَذَا الوعيدَ؟
الجوابُ: لاَ يستحقُ الوعيدَ بنصِّ القرآنِ، لقولِهِ - تَعَالَى -: (وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً ءَاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ، وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثَاماً، يُضاَعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً، إِلاَّ مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) [الفرقان: 68-70]، وَهَذَا واضحٌ، أنَّ مَنْ تابَ- حَتَّى مِنَ القتلِ-، فإنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - يبدِّلُ سيئاتِهِ حسناتٍ.
والحديثُ الصَّحيحُ فِي قصَّةِ الرَّجلِ مِنْ بني إسرائيلَ، الَّذِي قتلَ تسعاً وتسعين نَفْساً، فألقى اللَّهُ فِي نَفْسِهِ التَّوبةَ، فجاءَ إِلَى عابدٍ، فقَالَ لَهُ: إنَّهُ قَتلَ تسعاً وتسعينَ نَفْسَاً، فَهَلْ لَهُ مِنْ توبةٍ؟! فالعابدُ استعظمَ الأمرَ، وقال: ليسَ لكَ توبةٌ!، فقتلَهُ، فأتمَّ بِهِ المائةَ، فدُلَّ عَلَى عالمٍ، فَقَالَ: إنَّهُ قَتلَ مائةَ نَفْسٍ، فَهَلْ لَهُ مِنْ توبةٍ؟ قالَ: نَعَمْ، ومَنْ يَحولُ بينكَ وبينَ التَّوبةِ؟! ولكنَّ هذِهِ القريةَ ظالمٌ أهلُها، فاذهبُ إِلَى القريةِ الفلانيَّةِ، فِيهَا أهلُ خيرٍ وصلاحٍ، فسافرَ الرَّجلُ، وهاجَرَ مِنْ بلدِهِ إِلَى بلدِ الخيرِ والصَّلاحِ، فوافتْهُ المنيَّةُ فِي أثناءِ الطَّريقِ، فاختصمَتْ فِيهِ ملائكةُ الرَّحمةِ وملائكةُ العذَابِ، حَتَّى أنزلَ اللَّهُ بينهمْ حكماً، وقالَ: قيسوا مَا بينَ القريتَيْنِ، فإِلَى أيَّتِهِمَا كَانَ أقربَ فَهُوَ مِنْ أهلِها، فكَانَ أقربَ إِلَى أهلِ القريةِ الصَّالحةِ، فقبضَتْه ملائكةُ الرَّحمةِ.
فانظرْ كَيْفَ كَانَ منْ بني إسرائيلَ فقُبِلَتْ توبتُهُ، مَعَ أنَّ اللَّهَ جعلَ عَلَيْهِم آصاراً وأغلالاً، وهذِهِ الأُمَّةُ رُفِعَ عَنْها الآصارُ والأغلالُ، فالتَّوبةُ فِي حَقِّها أسهلُ، فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي بني إسرائيلَ فكَيْفَ بهذِهِ الأُمَّةِ؟!
فإنْ قُلْتَ: مَاذَا تقولُ فيمَا صحَّ عَنْ ابنِ عباسٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُما: أنَّ القاتلَ ليسَ لَهُ توبةٌ؟!
فالجوابُ: مِنْ أحدِ وجهِيَنِ:
1- إمَّا أنَّ ابنَ عباسٍ - رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا - استبعدَ أنْ يكونَ للقاتلِ عمداً توبةٌ، ورأى أنَّهُ لاَ يُوَفَّقُ للتَّوبةِ، وإِذَا لَمْ يوفَّقْ للتَّوبةِ، فإنَّهُ لاَ يَسقطُ عَنْهُ الإثمُ، بلْ يُؤاخَذُ بهِ.
2- وإمَّا أنْ يُقالَ: إنَّ مرادَ ابنِ عباسٍ - رَضِي اللَّهُ عَنْهُما -: أنَّهُ لاَ توبةَ لَهُ فيمَا يتعلَّقُ بحقِّ المقتولِ؛ لأنَّ القاتلَ عمداً يتعلَّقُ بِهِ ثلاثةُ حقوقٍ: حقُّ اللَّهِ، وحقُّ المقتولِ، والثَّالثُ لأولياءِ المقتولِ.
أ- أمَّا حقُّ اللَّهِ فلاَ شكَّ أنَّ التَّوبةَ ترفعُهُ، لقولِهِ - تَعَالَى -: (قُلْ يَعِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَتِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) [الزمر: 53]، وهذِهِ فِي التَّائِبينَ.
ب-وأمَّا حقُّ أولياءِ المقتولِ فيسقطُ إِذَا سلَّمَ الإنسانُ نَفْسَهُ لَهُم، أتى إليْهِم وقالَ: أنا قتلْتُ صاحبَكُم، واصْنَعوا مَا شِئْتُمْ، فَهُم إمَّا أنْ يقتصُّوا، أوْ يَأخذُوا الدِّيَةَ، أوْ يَعْفُوا، والحقُّ لَهُمْ.
ج- وأمَّا حقُّ المقتولِ فلاَ سبيلَ إِلَى التَّخلُّصِ منْهُ فِي الدُّنْيا.
وعَلَى هَذَا يُحمَلُ قولُ ابنِ عباسٍ أنَّهُ لاَ توبةَ لَهُ، أيْ: بالنِّسبةِ لحقِّ المقتولِ.
عَلَى أنَّ الَّذِي يَظهرُ لي: أنَّهُ إِذَا تابَ توبةً نصوحاً فإنَّهُ حَتَّى حقُّ المقتولِ يَسقطُ، لاَ إهداراً لحقِّهِ، ولكنَّ اللَّهَ - عزَّ وجلَّ - بفضلِهِ يتحمَّلُ عن القاتلِ ويُعطِي المقتولَ رِفْعَةَ درجاتٍ فِي الجنَّةِ، أوْ عَفْواً عَنِ السَّيِّئاتِ؛ لأنَّ التَّوبةَ الخالصةَ لاَ تبُقِي شيئاً، ويؤيِّدُ هَذَا عمومُ آيةِ الفرقانِ: (وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً ءَاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ…) إِلَى قولِهِ: (إِلاَّ مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صاَلِحاً، فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) [الفرقان: 70].
وفِي هذِهِ الآيةِ مِنْ صفاتِ اللَّهِ: الغضبُ، واللَّعنُ، وإعدادُ العذابِ.
وفِيهَا مِنَ الناحيةِ المسلكيَّةِ التَّحذيرُ مِنْ قتلِ المؤمنِ عمداً.
الآيةُ الثَّانِيَةُ: قولُهُ: (ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُواْ مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ) [محمد: 28].
(ذلِكَ): المشارُ إِلَيْهِ مَا سبقَ، والَّذِي سبقَ هُوَ قولُهُ - تَعَالَى -: (فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ، ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُواْ مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ فأحبط أعمالهم) [محمد: 27-28]، يعني: فكَيْفَ تكونُ حالُهُُمْ فِي تِلْكَ اللَّحظاتِ إِذَا توفَّتْهُم الملائكةُ يَضربونَ وجوهَهُمْ وأدبارَهُمْ عندَ الموتِ؟!
(ذلِكَ)، أيْ: ضربُ الوُجوهِ والأدبارِ.
(بِأَنَّهُمُ)، أيْ: بسببٍ، فالباءُ للسَّببيَّةِ.
(اتَّبِعُواْ مَا أَسْخَطَ اللَّهَ)، أيْ: الَّذِي أسخطَ اللَّهَ، فصارُوا يَفعلونَ كُلَّ مَا بِهِ سخطُ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ - مِنْ عقيدةٍ، أوْ قولٍ، أوْ فعلٍ.
أمَّا مَا فِيهِ رضى اللَّهِ، فحالُهُم فِيهِ قولُهُ: (وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ)، أيْ: كرِهوا مَا فِيهِ رِضاهُ، فصارَتْ عاقبتُهُمْ تلكَ العاقبةَ الوَخِيمةَ، أنَّهُمْ عندَ الوفاةِ تَضربُ الملائكةُ وجوهَهُمْ وأدبارَهُمْ.
وفِي هذِهِ الآيةِ مِنْ صفاتِ اللَّهِ: إثباتُ السَّخطِ والرِّضَى.
وسبقَ الكلامُ عَلَى صفةِ الرِّضى، وأمَّا السَّخطُ، فمعناهُ قريبٌ مِنْ معنى الغضبِ.
الآيةُ الثَّالثةُ: قولُهُ: (فَلَمَّا ءَاسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ) [الزخرف: 55].
(ءَاسَفُونَا)، يعني: أَغضبونَا وأَسخطونَا.
و(لمَّا): هُنَا شرطيَّةٌ، فِعلُ الشَّرطِ فِيهِا: (ءَاسَفُونَا)، وجوابُهُ: (انتَقَمْنَا مِنْهُمْ).
ففِيهَا ردٌّ عَلَى مَن فسَّرُوا السَّخطَ والغضبَ بالانتقامِ؛ لأنَّ أهلَ التَّعطيلِ مِنَ الأشعريَّةِ وغيرِهمْ يقولونَ: إنَّ المرادَ بالسَّخطِ والغَضبِ الانتقامُ، أوْ إرادةُ الانتقامِ، ولاَ يفسِّرونَ السَّخطَ والغضبَ بصفةٍ مِنْ صفاتِ اللَّهِ يتصِّفُ بها هُوَ نَفْسُهُ، فيقولونَ: غضبُهُ، أيْ: انتقامُهُ، أوْ إرادةُ انتقامِهِ، فَهُمْ إمَّا أنْ يفسِّروا الغضبَ بالمفعولِ المنفصلِ عَنِ اللَّهِ وهُوَ الانتقامُ، أوْ بالإرادةِ؛ لأنَّهُم يُقرِّون بِها، ولاَ يُفسِّرونَه بأنَّهُ صفةٌ ثابتةٌ لِلَّهِ عَلَى وجهِ الحقيقةِ تليقُ بهِ.
ونَحْنُ نقولُ لَهُم: بلِ السَّخطُ والغَضبُ غيرُ الانتقامِ، والانتقامُ نتيجةُ الغَضَبِ والسَّخطُ، كَمَا نقولُ: إنَّ الثوابَ نتيجةُ الرِّضَى، فاللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - يسخطُ عَلَى هؤلاءِ القومِ، ويغضبُ عَلَيْهِم، ثُمَّ ينتقمُ مِنْهُمْ.
وإِذَا قالوا: إنَّ العقلَ يمنعُ ثبوتَ السَّخطِ والغضبِ لِلَّهِ - عزَّ وجلَّ -.
فإنَّنَا نجيبُهم بمَا سبقَ فِي صفةِ الرِّضى؛ لأنَّ البابَ واحدٌ.
ونقولُ: بلِ العقلُ يدلُّ عَلَى السخطِ والغضبِ، فإنَّ الانتقامَ مِنَ المجرمينَ وتعذيبَ الكافرين دليلٌ عَلَى السخطِ والغضبِ، وليسَ دليلاً عَلَى الرضى، ولاَ عَلَى انتفاءِ الغضبِ والسخطِ.
ونقولُ: هذِهِ الآيةُ: (فَلَمَّا ءَاسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ) [الزخرف: 55]: تردُّ عليْكُم؛ لأنَّهُ جعلَ الانتقامَ غيرَ الغضبِ؛ لأنَّ الشرطَ غيرُ المشروطِ.
مسألةٌ:
بَقِيَ أنْ يُقالَ: (فَلَمَّا ءَاسَفُونَا): نَحْنُ نعرفُ أنَّ الأسفَ هُوَ الحزنُ والنَّدمُ عَلَى شيءٍ مضى عَلَى النَّادمِ لاَ يستطيعُ رَفْعَهُ،
فهلْ يوصفُ اللَّهُ بالحزنِ والنَّدمِ؟
الجوابُ: لا،
ونجيبُ عَنِ الآيةِ بأنَّ الأسفَ فِي اللُّغةِ لَهُ معنيانِ:
المَعْنَى الأوَّلُ: الأسفُ بمعنى الحُزْنِ، مثلُ قولِ اللَّهِ - تَعَالَى - عن يعقوبَ: (يَاأَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ) [يوسف: 84].
الثاني: الأسفُ بمعنى الغضبِ، فيقالُ: أَسِفَ عَلَيْهِ يأسَفُ، بمعنى: غَضِبَ عليهِ.
والمَعْنَى الأوَّلُ: ممتنعٌ بالنِّسبةِ لِلَّهِ - عزَّ وجلَّ -،
والثَّاني: مثبَتٌ لِلَّهِ؛ لأنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - وصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، فَقَالَ: (فَلَمَّا ءَاسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ).
وفِي الآيةِ مِنْ صفاتِ اللَّهِ: الغضبُ، والانتقامُ.
ومِنَ الناحيةِ المسلكيَّةِ: التَّحذيرُ ممَّا يُغضبُ اللَّهَ - تَعَالَى -.
الآيةُ الرَّابعةُ: قولُهُ: (وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ) [التوبة: 46]:
يعني بذلِكَ المنافقينَ الَّذِينَ لَمْ يَخرجُوا مَعَ النَّبيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الغزواتِ؛ لأنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - كرِهَ انبعاثَهُم؛ لأنَّ عملَهُم غيرُ خالصٍ لَهُ، واللَّهُ - تَعَالَى - أغنى الشُّركاءِ عَنِ الشِّركِ، ولأنَّهُم إِذَا خَرجُوا كانوا كَمَا قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: (لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً، وَلأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ) [التوبة: 47]، وإِذَا كانوا غيرَ مخلصينَ وكانوا مفسدِينَ، فإنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - يكرَهُ الفسادَ ويكرَهُ الشِّركَ، فـ(كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ)، يعني: جعلَ هِمَمَهُم فاترةً عَنِ الخروجِ للجهادِ.
(وَقِيلَ: اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ) [التوبة: 46]: قِيلَ: يحتملُ أنَّ اللَّهَ قَالَ ذلِكَ كَوناً، ويحتملُ أنَّ بعضَهُمْ يقولُ لبعضٍ: اقعدْ مَعَ القاعدينَ، ففلانٌ لَمْ يَخْرُجْ، وفلانٌ لَمْ يَخرجْ، ممَّن عذَرَهُم اللَّهُ - عزَّ وجلَّ -، كالمريضِ والأعمَى والأعرجِ، ويقولونَ: إِذَا قَدِمَ النَّبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعتذرْنا إِلَيْهِ واستغفرَ لنا وكفانَا.
ويمكنُ أنْ نجمعَ بينَ القولَيْنِ؛ لأنَّهُ إِذَا قِيلَ: لَهُم ذلِكَ وقَعَدوا فَهُم مَا قَعَدوا إِلاَّ بقولِ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ -.
وفِي الآيةِ هُنَا إثباتُ أنَّ اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - يَكرَهُ، وَهَذَا أيضاً ثابتٌ فِي الكتابِ والسُّنَّةِ:
-قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ…) إِلَى قولِهِ: (كُلُّ ذلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِندَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً) [الإسراء: 23-38].
-وكَمَا فِي هذِهِ الآيةِ الَّتِي ذكرَها المؤلِّفُ: (وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ) [التوبة: 46].
-وقَالَ النَّبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وقالَ)).
فالكراهةُ ثابتةٌ بالكتابِ والسُّنَّةِ، أنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - يكرَهُ.
وكراهةُ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - للشيءِ تكونُ للعملِ، كَمَا فِي الآيةِ: (وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ) [التوبة: 46]، وكَمَا فِي قولِهِ: (كُلُّ ذلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِندَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً) [الإسراء: 38].
وتكونُ - أيضاً - للعاملِ، كَمَا جاءَ فِي الحديثِ: ((إنَّ اللَّه - تَعَالَى - إِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيَلَ، إِنِّي أُبْغَضُ فُلاَناً، فَأَبْغِضْهُ)).
الآيةُ الخامسةُ: قولُهُ: (كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ) [الصف: 3].
(كَبُرَ)، بمعنى: عَظُمَ.
(مَقْتاً): تمييزٌ محوَّلٌ عَنِ الفاعلِ، والمقتُ أشدُّ البغضِ، وفاعلُ (كَبُرَ) بعدَ أنْ حوَّلَ الفاعلَ إِلَى تمييزٍ: (أنْ) ومَا دخلَتْ عَلَيْهِِ فِي قولِهِ: (أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ).
وهذِهِ الآيةُ تعليلٌ للآيةِ الَّتِي قبلَهَُا وبيانٌ لعاقبَتِها، (يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ) [الصف: 2-3]، فإنَّ هَذَا مِنْ أكبرِ الأمورِ أنْ يقولَ الإنسانُ مَا لاَ يفعلُ.
وَوَجْهُ ذلِكَ أنْ يُقالَ: إِذَا كنْتَ تقولُ الشَّيءَ ولاَ تفعلُهُ فأنتَ بينَ أمرَيْنِ:
إمَّا كاذبٌ فيمَا تقولُ، ولكنَّكَ تُخوِّفُ الناسَ، فتقولُ لَهُم الشَّيءَ وليسَ بحقيقةٍ،
وإمَّا أنَّكَ مستكبرٌ عمّا تقولُ، تأمرُ النَّاسَ بهِ ولاَ تفعلُهُ، وتنهى النَّاسَ عَنْهُ وتفعلُهُ.
وفِي الآيةِ مِنَ الصِّفاتِ: المقتُ، وأنَّهُ يتفاوتُ.
ومِنَ النَّاحيةِ المسلكيَّةِ: التَّحذيرُ مِنْ أنْ يقولَ الإنسانُ مَا لاَ يفعلُ).
الروضة الندية للشيخ: زيد بن عبد العزيز بن فياض رحمه الله
المتن:
قال أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (قَوْلُهُ: ({ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } ، { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيْها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ }، وقولُهُ :{ ذَلِكَ بأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رَضْوَانَهُ } ، { فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ } ، وقَوْلُهُ :{ وَلَكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ } ، وقَوْلُهُ: { كَبُرَ مَقْتَاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ }) ).
الشرح:
قال الشيخ زيد بن عبد العزيز بن فياض (ت: 1416هـ): (في هذه الآياتِ إثباتُ وصفِ اللَّهِ
بالغَضَبِ والرِّضَا ، واللَّعْنِ ، والكَراهِيةِ ، والأسَفِ ، والمَقْتِ ،
وهذه كلُّها مِن صِفاتِ الأفعالِ الَّتِي يفعلُها جَلَّ وعَلا مَتى شاءَ
إذا شاءَ ، فكما يُثْبِتُ أهلُ السُّنَّةِ الصِّفَاتِ الذَّاتيةَ لِلَّهِ
كذلك يُثبِتون أفعالَه الاختياريةَ على ما يَلِيقُ به سُبْحَانَهُ .
"واللَّعْنُ
البُعدُ عن مظانِّ الرَّحْمَةِ ومواطِنِها . قِيلَ : واللَّعِينُ
والمَلعونُ مَن حقَّتْ عليه اللَّعْنةُ، أو دُعِيَ عليه بها . قَالَ أبو
السَّعَاداتِ : أصْلُ اللَّعْنِ الطَّرْدُ والإبعادُ مِن اللَّهِ، ومِنَ
الخَلْقِ السَّبُّ والدُّعَاءُ . قَالَ شيخُ الإسلامِ رَحِمَهُ اللَّهُ، ما
معناه : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَلْعَنُ مَن استحَقَّ اللَّعْنةَ بالقولِ
كما يُصلِّي على مَن استحَقَّ الصَّلاةَ مِن عبادِه. قَالَ تَعَالَى :{هُوَ
الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِّنَ
الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً *
تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ} وقَالَ :{إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً }، وقَالَ :{ مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُواْ أُخِذُواْ وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً }" .
وقولُه :{فَلَمَّا آسَفُونَا}
: الأسَفُ مُحَرَّكٌ يُستعمَلُ بمعنى شِدَّةِ الْحُزْنِ ، وبمعنى شِدَّةِ
الغَضَبِ والسَّخَطِ ، وهو المُرادُ في هذه الآيةِ . والانتقامُ المكافأةُ
بالعُقوبَةِ وانْتِقَامُه تَعَالَى مُبالَغتُه في العقوبةِ لِمَن يشاءُ ،
والمُنْتَقِمُ مُفْتَعِلٌ مِن نَقَمَ يَنْقِمُ إذا بلغَتْ به الكراهةُ
حَدَّ السَّخَطِ . والمَقْتُ أَشَدُّ البُغْضِ .
فدلَّتْ هذه الآياتُ وما ماثَلَها
على إثباتِ رِضا اللَّهِ وغضَبِه وسَخَطِه ونحوِ ذلك . "والرُّسُلُ صلواتُ
اللَّهِ عليهم أَجْمعينَ إنما جاءوا بإثباتِ هذا الأصْلِ ، وهو أنَّ
اللَّهَ يُحِبُّ بعضَ الأمورِ المَخلوقةِ ، ويرضاها ، ويَسْخَطُ بعضَ
الأمورِ ويَمْقُتُها ، وأنَّ أعمالَ العِبادِ تُرْضِيه تارةً وتُسْخِطُه
أخرى .
"ومَذْهَبُ السَّلَفِ
وسائِرِ الأئمةِ إثباتُ صفةِ الغضَبِ ، والرِّضَا ، والعداوةِ ، والولايةِ
، والحُبِّ ، والبُغضِ ، ونحوِ ذلك مِن الصِّفَاتِ الَّتِي وَرَدَ بها
الكِتابُ والسُّنَّةُ ، ومَنْعُ التَّأويلِ الَّذِي يَصْرِفُها عن حقائقِها
اللائقةِ باللَّهِ تَعَالَى . كما يقولون مِثْلَ ذلك في السَّمْـعِ
والبَصَـرِ والكَلامِ وسـائِرِ الصِّفَاتِ . . ولا يُقالُ : إنَّ الرِّضَـا
إرادةُ الإحسانِ ، والغضبَ إرادةُ الانتقامِ ، فإنَّ هذا نفْيٌ للصِّفَةِ .
وقدِ اتَّفَقَ أهلُ السُّنَّةِ على أنَّ اللَّهَ يأمُرُ بما يحِبُّه
ويرضاه ، وإنْ كان لا يُريدُه ولا يَشاؤُه وينْهَى عما يَسْخَطُه ويكْرَهُه
ويُبْغِضُه ويغضَبُ على فاعِلِه ، وإنْ كان قد شاءه وأرادَهُ فقد يُحِبُّ
عندهم ويرضى ما لا يُريدُه ، ويَكْرَهُ ويَسخَطُ ويغضَبُ لِمَا أراده .
ويُقالُ لمَن تأوَّلَ الغضَبَ والرِّضَا، لِمَ تأوَّلْتَ ذلك ؟ فلا بد أن
يقولَ : لأنَّ الغضَبَ غليانُ دمِ القلبِ والرِّضَا المَيْلُ والشهوةُ وذلك
لا يَلِيقُ باللَّهِ تَعَالَى فيُقالُ له :غليانُ دمِ القلبِ في الآدميِّ
أمْرٌ يَنشأُ عن صفةِ الغضَبِ. ويُقالُ له أيضاً : وكذلك الإرادةُ
والمشيئةُ فينا هي : مَيْلُ الحيِّ إلى الشَّـيْءِ أو إلى ما يُلائِمُه
ويُناسِبُه . فالمعنى الَّذِي صرَفْتَ إليه اللَّفْظَ كالمعنى الَّذِي
صرَفْتَه عنه سواءٌ ، فإنْ جازَ هذا جازَ ذاك ، وإنِ امتَنَعَ هذا امتنَعَ
ذاكَ ، فإنْ قالوا : الإرادةُ الَّتِي يُوصَفُ اللَّهُ بها مخالِفةٌ
للإرادةِ الَّتِي يُوصَفُ بها العبدُ ، وإنْ كان كُلٌّ منها حقيقةً ! قِيلَ
له : فقُلْ : إنَّ الغضَبَ والرِّضَا الَّذِي يُوصَفُ اللَّهُ به مخالِفٌ
لما يُوصَفُ به العبدُ ، وإنْ كان كُلٌّ منهما حقيقةً ، فإذا كان ما يقولُه
في الإرادةِ يُمْكنُ أنْ يُقالَ في هذه الصِّفَاتِ لم يَتعَيَّنِ
التَّأويلُ بل يجِبُ تَرْكُه . . وصفاتُ اللَّهِ تَلِيقُ به وصفاتُ العبدِ
تَليقُ به ، بل لو قِيلَ : غضَبُ مالكٍ خَازِنِ النَّارِ وغضَبُ غيرِه مِن
الملائكةِ لم يَجِبْ أنْ يكونَ مُماثِلاً لكَيْفِيَّةِ غضَبِ الآدمِيِّينَ ،
فغضَبُ اللَّهِ أولى . وقد نَفَى الجَهْمُ ومَن وافقَه كُلَّ ما وصَفَ
اللَّهُ به نفْسَه مِن كلامِه ورضاه وغضَبِه وحُبِّه وبُغْضِه وَأَسَفِه
ونحوِ ذلك ، وقالوا : إنَّما هي أمورٌ مخلوقةٌ مُنْفَصِلةٌ عنه لَيْسَ هو
في نفْسِه مُتَّصِفاً بشيءٍ مِن ذلك . وعَارَضَ هَؤُلاَءِ مِن الصِّفَاتيةِ
ابنُ كُِلاَّبٍ ومَن وافَقَه ، فقالوا : لا يُوصَفُ اللَّهُ بشيءٍ
يتعَلَّقُ بمشيئَتِه وقُدْرتِه أصلاً . بل جميعُ هذه الأمورِ صِفَاتٌ
لازمةٌ لِذاتِه ، قـديمةٌ أزَلِيَّةٌ ، فلا يَرْضَى في وقْتٍ دُون وقْتٍ ،
ولا يغْضَـبُ في وقْتٍ دُون وقْـتٍ ، كما قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ في حـديثِ الشَّفَاعَةِ : " إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَباً لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ ، وَلَنْ يَغْضَبْ بَعْدَهُ مِثْلَهُ " .
وفي "الصَّحيحَيْنِ" عن أبي سعيدٍ ، عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ :
" إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ : يَا أَهْـلَ
الْجَنَّةِ ، فَيَقُولُونَ : لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي
يَدَيْكَ ، فَيَقُولُ : هَلْ رَضِيتُمْ ؟ فَيَقُولُونَ : وَمَا لَنَا لاَ
نَرْضَى يَا رَبِّ وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَداً مِنْ
خَلْقِكَ ؟ فَيَقُولُ : أَلاَ أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِن ذَلِكَ ؟
فَيَقُولُونَ : يَا رَبِّ ، وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ ؟!
فَيَقُولُ : أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ
بَعْدَهُ أبداً " . فيُستدَلُّ به على أنه يُحِلُّ رِضوانَه في
وقْتٍ دُون وقْتٍ ، وأنه قد يُحِلُّ رِضوانَه ثم يَسْخَطُ ، كما يُحِلُّ
السَّخَطَ ثم يَرْضَى لكنَّ هَؤُلاَءِ أحَلَّ عليهم رِضْواناً لا
يَتَعَقَّبُه سَخَطٌ ، وهُمْ قالوا : لا يتكلَّمُ إذا شاءَ ، ولا يضْحَكُ
إذا شاءَ ، ولا يغضَبُ إذا شاءَ ، ولا يرضى إذا شاءَ ، بل إما أن يَجعَلُوا
الرِّضَا والغضَبَ والحُبَّ والبُغْضَ هو الإرادةَ ويجْعَلُوها صِفَاتٍ
أخرى . وعلى التَّقديرَيْنِ فلا يَتعلَّقُ شيءٌ مِن ذلك لا بمشيئَتِه ولا
بقُدْرَتِه إذْ لو تعلَّقَتْ بذلك لكانَ مَحَلاًّ للحوادثِ ! فنفى
هَؤُلاَءِ الصِّفَاتِ العقليةَ الذَّاتيةَ بهذا الأصْلِ ، كما نفَى أولئك
الصِّفَاتِ مُطْلَقاً بقولهم : لَيْسَ مَحَلاًّ للأعْراضِ .
وقد
يُقالُ : بل هي أفعالٌ ولا تُسَمَّى حوادِثَ . كما سُمِّيَتْ تلك صِفَاتٍ ،
ولم تُسَمَّ أعْراضاً ، وما يزعُمُه الجَهْمِيَّةُ والمعتزِلةُ مِن أنَّ
كلامَه وإرادتَه ومحبَّتَه وكراهَتَه ورضاه وغضَبَه وغيرَ ذلك كُلُّ ذلك
مخلوقاتٌ له منفصِلةٌ عنه هو مما أنْكَرَه السَّلَفُ عليهم وجُمهورُ
الخلَفِ ، بل قالوا : إنَّ هذا مِن الكُفْرِ الَّذِي يتضمَّنُ تكذيبَ
الرَّسُولِ وجُحودَ ما يستحِقُّه اللَّهُ مِن صِفَاتِه ، وكلامُ السَّلَفِ
في رَدِّ هذا القولِ ، وإطلاقِ الكُفْرِ عليه كثيرٌ منتشِرٌ ، وكذلك لم
يقُلِ السَّلَفُ : إنَّ غضَبَه على فرعونَ وقومِه قديمٌ ، ولا أنَّ فَرَحَه
بتوبةِ التَّائبِ قديمٌ ، وكذلك سائرُ ما وصَفَ به نفْسَه مِن الجزاءِ
لعِبادِه على الطَّاعةِ والمعصيةِ مِن رضاه وغضَبِه لم يقُلْ أَحدٌ منهم
إنه قديمٌ ، فإنَّ الجزاءَ لا يكونُ قبلَ العملِ ، والقرآنُ صريحٌ بأنَّ
أعمالَهم كانتْ سبَباً لذلك كقولِه :{ فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ }
. واللَّهُ تَعَالَى إذا خَلَقَ صفةً في مَحَلٍّ كان المَحَلُّ متصِفاً
بها . فإذا خَلَقَ في مَحَلٍّ عِلماً ، أو قُدرةً ، أو حياةً ، أو حركةً ،
أو لَوْناً ، أو سمْعاً ، أو بَصَراً كان ذلك المَحَلُّ هو العالِمَ به ،
القادِرَ المتحرِّكَ ، الحيَّ ، المُتَلَوِّنَ ، السَّميعَ ، البصيرَ .
فإنَّ الرَّبَّ لا يتَّصِفُ بما يخلُقُه في مخلوقاتِه ، وإنَّما يتَّصِفُّ
بصفاتِه القائمةِ به . بل كُلُّ موصوفٍ لا يُوصَفُ إلا بما يَقومُ به لا
بما يَقومُ بغيرِه ولم يَقُمْ به .
وأمَّا
قولُ القائلِ : الغضَبُ غليانُ دمِ القلبِ بطلَبِ الانتقامِ ، وبذلك ردَّ
الجَهْمِيَّةُ ونحوُهم صفةَ الغضبِ ، فيُقالُ أولا : لَيْسَ بصحيحٍ أنَّ
الغضبَ غليانُ دمِ القلبِ في حقِّ المخلوقِينَ ، بل الغضبُ قد يكونُ
لدَفْعِ المُنافي قبلَ وُجودِه ، فلا يكونُ هناكَ انتقامٌ أصلاً . وأيضاً
فغليانُ دمِ القلبِ يقارِنُه الغضبُ لَيْسَ أنَّ مُجرَّدَ الغضبِ هو غليانُ
دمِ القلبِ . كما أنَّ الحياءَ يُقارِنُ حُمرةَ الوجهِ ، والْوَجَلَ
يقارِنُ صُفرةَ الوجهِ ، لا أنه هو ، وأيضاً فلو قُدِّرَ أنَّ هذا هو
حقيقةُ غضَبِنا لم يَلْزَمْ أنْ يكونَ غضَبُ اللَّهِ تَعَالَى مِثْلَ
غضَبِنا . كما أنَّ حقيقةَ ذاتِ اللَّهِ لَيْسَت مِثلَ ذَاتِنا . ونحنُ
نَعْلَمُ بالاضطرارِ أنَّا إذا قَدَّرْنا مَوْجودَيْنِ أحدُهما عنده
قُوَّةٌ يَدْفَعُ بها الفسادَ ، والآخَرُ لا فَرْقَ عندَه بينَ الصَّلاحِ
والفسادِ . كان الَّذِي عندَه تلك القُوَّةُ أَكْملُ ، ولهذا يُذَمُّ مَن
لا غَِيرَةَ له على الفواحِشِ كالدَّيُّوثِ ، ويُذَمُّ مَن لا حَمِيَّةَ له
يَدْفَعُ بها الظُّلْمَ عن المَظلومِينَ ، ويُمْدَحُ الَّذِي له غيرةٌ
يَدْفَعُ بها الفواحِشَ ، وحميةٌ يَدْفَعُ بها الظُّلْمَ ، ويُعْلَمُ أنَّ
هذا أَكْمَلُ مِن ذلك .
ولهذا وَصَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّبَّ بالأكْمَلِيَّةِ في ذلك ، فَقَالَ في الحديثِ الصَّحيحِ : " لاَ أَحَدَ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ ، مِنْ أَجْـلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ". وقَالَ : " أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ ؟ أَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي " .
وقولُ
القائِلِ : إنَّ هذه انفِعالاتٌ نَفْسانيَّةٌ ، فيُقالُ :كلُّ ما سِوى
اللَّهِ مَخلوقٌ مُنفعِلٌ ، ونحنُ ذَواتُنا مُنفعِلةٌ فكَوْنُها انفعالاتٍ
فِينا لِغَيْرِنا نَعْجِزُ عن دَفْعِها لا يُوجِبُ أنْ يكونَ اللَّهُ
مُنْفعِلاً لها عاجِزاً عن دَفْعِها ، وكان كلُّ ما يجري في الوجودِ فإنه
بمَشيئَتِه وقُدْرَته . لا يكونُ إلا ما يشاءُ ، ولا يشاءُ إلا ما يكونُ .
له المُلكُ وله الحمدُ).
التنبيهات السنية للشيخ: عبد العزيز بن ناصر الرشيد رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وقَولُه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ( رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ).(1)
وقولُه سبحانه وتعالى: (
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً
فِيْها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً
عَظِيماً ).(2) وقولُه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى:(ذَلِكَ بأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رَضْوَانَهُ)، وقَوْلُهُ تَعَالَى:(فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ).(3)
وقَوْلُهُ: ( وَلَكِنْ كَرِهَ اللهُ اِنْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ)(4) وقَوْلُهُ: (كبـُرَ مقتًا عندَ اللهِ أنْ تقولُوا ما لا تفعلُونَ ) ).
الشرح:
قال الشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد (ت: 1408هـ): ((1) قولـُه: (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) لمـَّا ذَكر أعمالَهم الصـَّالحةَ ذَكر أنَّه أَثَابَهُمْ عليها رِضَاهُ الَّذي هو أعظمُ وأَجَلُّ من كلِّ نعيمٍ، قال تعالى: (وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ).
أفادتْ هذه الآيةُ إثباتَ صفةِ الرِّضا للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- كما يليقُ بجلالِه،
ولا
يقالُ: الرِّضا إرادةُ الإحسان,ِ والغضبُ إرادةُ الانتقامِ، كما تَزْعمُهُ
المبتدِعةُ، فإنَّ هذا نفيٌ للصِّفةِ وصَرْفٌ للقرآنِ عن ظاهرِه وحقيقتِه
بغيرِ مُوجبٍ، وهذا لا يجوزُ.
وفي
هذِه الآيةِ دليلٌ على إثباتِ أفعالِ اللهِ الاختياريَّةِ وأدلَّةُ ذلك من
الكتابِ والسُّنـَّةِ لا تُحْصرُ، وفيها دليلٌ على إثباتِ فعلِ العبدِ
وأنَّ له فعلاً اختياريًّا.
وفيها دليلٌ على أنَّ الجزاءَ من جنسِ العملِ، وفيها فضلُ الرِّضا عن اللهِ،
والرِّضا لغةً: ضدُّ السَّخطِ والكراهةِ، وقال بعضُهُم: هو سُكونُ القلبِ
تحتَ مَجَاري الأحْكَامِ، قال في ((فَتْحِ المَجِيِدِ)): هو أن يُسْلِمَ
العبدُ أمرَه إلى اللهِ ويُحْسِنَ الظَّنَّ به ويَرْضى عنه في ثوابِه.
قال ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ: الرِّضا ينقسمُ إلى ثلاثةِ أقسامٍ: الرِّضا باللهِ، والرِّضا عن اللهِ، والرِّضا بقضاءِ اللهِ، فالرِّضا باللهِ فرضٌ، والرِّضا عنه وإنْ كان من أَجَلِّ الأمورِ وأَشْرَفِهَا فلم يُطَالَبْ به العُمومُ لِعَجْزِهِم عنه ومَشقـَّتِه عليهم، وأوجَبَهُ بعضُهم، وأمَّا الرِّضا بِكلِّ مقضيٍّ فلا يجبُ، بل المقضيُّ ينقسمُ إلى ما يجبُ الرِّضا به، وهو المَقْضِيُّ الدِّينيُّ، قال تعالى: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُم)
الآيةَ، ومَقضيٌّ كَوْنيٌّ قَدَرِيٌّ، فإنْ كان فَقرًا أو مَرضًا ونحوَ
ذلك اسْتُحِبَّ الرِّضا به ولم يجبْ، وَأوجبَه بعضُهم، وإنْ كان كُفرًا أو
معصيةً حُرِّمَ الرِّضا به مخالفةً لربِّه، فإنَّه -سُبْحَانَهُ- لا يَرضى
بذلك ولا يُحبُّهُ، قال تعالى: (وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ) الآيةَ، وأمَّا القضاءُ الَّذي هو صفةُ اللهِ وفعلُه فالرِّضا به واجبٌ. انتهى بتصرُّفٍ.
وقال الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ بنُ تيميةَ في ((تَائِيَّتِهِ)):
فَنَرْضَى مِنَ الْوَجْهِ الَّذي هُوَ فِعْلُهُ وَنَسْخَطُ مِنْ وَجْهِ اكْتِسَابٍ بِحِيلَتِي
وقال السَّفارينيُّ في ((الدُّرَّةِ المُضِيئَةِ)):
وَلَيْسَ واجِبًا عَلَى الْعَبْدِ الرِّضا بِكُلِّ مَقْضِيٍّ وَلَكِنْ بِالْقَضَاءِ
(2) قولُه: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤمِنًا): احْتَرَزَ بذلك عن قتلِ الكافرِ (مُتَعَمِّدًا)
العَمْدُ لغةً: القَصْدُ. وشرعًا: أن يَقصدَ مَن يعلمُه آدميًّا مَعْصُوما
فيقتُلَه بما يغلبُ على الظَّنِّ موتُه به، واحْتَرَزَ بقولِه متعمِّدًا
عن قتلِ الخطأِ.
وقولُه: (فَجَزاؤُهُ): أي عِقابُه. قولُه: (جَهَنَّمُ): عَلمٌ على طَبَقَةٍ من طبقاتِ النَّارِ.
قولُه: (خَالِدًا فِيْها): أي مُقيمًا، والخلودُ: هو المُكْثُ الطَّويلُ، قولُه: (وَلَعَنَهُ) أي طردَهُ عن رحمتِه، فاللعنُ هو الطَّردُ والإبعادُ عن رحمةِ اللهِ.
قولُه: (وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا): أي هَيَّأَ له ذلكَ لعظيمِ ذنبِه.
في هذه الآيةِ الوعيدُ الشَّديدُ لمنْ تَعاطى هذا الذَّنبَ العظيمَ،
ويُروى عن ابنِ عبَّاسٍ أنَّه قال:
قَاتِلُ المُؤْمِنِ مُتَعَمِّدًا لا تُقْبَلُ له توبةٌ، ويقولُ: هذه
الآيةُ من آخرِ ما نزلَ ولم يَنْسَخْها شيءٌ، وممَّن ذهبَ إلى قولِه: زيدُ
بنُ ثابتٍ، وأبو هريرةَ، وأبو سلمةَ بنُ عبدِ الرَّحمنِ، وعبيدُ بنُ عميرٍ،
والحسنُ، وقتادةُ، والضَّحَّاكُ، نقله ابنُ أبي حاتمٍ، والَّذي عليه الجمهورُ سلفًا وخَلفًا:
أنَّ القاتلَ له توبةٌ فيما بينه وبينَ اللهِ، فإنْ تابَ وأنابَ وعمِلَ
صالِحًا بَدَّلَ اللهُ سيئاتِه حسناتٍ وعَوَّضَ المَقْتُولَ عن
ظَلاَمَتِهِ، قال تعالى: (قُلْ ياعِبَادِيَ الَّذِينَ
أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ
إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ) الآيةَ، وهذا عامٌّ في جميعِ الذَّنوبِ، وقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَن يَشَاءُ )
الآيةَ، وهذه الآيةُ عامَّةٌ في جميعِ الذُّنوبِ، عدا الشِّركِ باللهِ،
إلى غيرِ ذلك من الأدلَّةِ، وما يُرْوى عن ابنِ عبَّاسٍ وغيرِه فهو مبالغةٌ
وتشديدٌ في الزَّجْرِ عن القتلِ، وقال ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ تعالى:
((والتَّحقيقُ في المسألةِ أنَّ القتلَ تتعلَّقُ به ثلاثةُ حقوقٍ: حقُّ
اللهِ، وحقُّ المقتولِ، وحقُّ الوليِّ، فإذا سَلَّمَ القاتلُ نفسَهُ طوعًا
واختيارًا نَدَمًا على ما فعلَهُ وخوفًا من اللهِ وتوبةً نصوحًا سَقَطَ
حقُّ اللهِ بالتَّوبةِ، وحقُّ الأولياءِ بِالاسْتِيفَاءِ أو الصُّلحِ أو
العفوِ، وبَقِي حقُّ المقتولِ يُعوِّضُه اللهُ عنه يومَ القيامةِ عن عبدِه
التَّائبِ المُحسنِ، ويُصلحُ بينَه وبينَه، فلا يضيعُ حقُّ هذا ولا يَبْطلُ
حقُّ هذا، انتهى. وبتقديرِ دخولِ القاتلِ النَّارَ فليس بِمُخلَّدٍ فيها
أبدًا، بل الخلودُ هو المكثُ الطَّويلُ، وقد تواترتِ الأحاديثُ عن رسولِ
اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: أَنَّهُ ((يَخرجُ مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ))،
فدخولُ النَّارِ على قِسمين: دخولٌ مطلقٌ، ومطلَقُ دُخولٍ.
فالأوَّلُ: هو دخولُ المُشركين والكفرةِ فهؤلاء يدخلونَها ولا يَخرجونَ منها أبدًا.
والثَّاني:
وهو دخولُ المُوحِّدين الَّذين عليهم ذنوبٌ ومعاصٍ، فهؤلاء يُعذَّبون فيها
بقدرِ سيَّئاتِهم ثمَّ يَخْرُجون منها إنْ لم يَحْصلْ سببٌ للخروجِ مِنها
قبلَ ذلك، من شفاعةٍ، أو غيِرِها من الأسبابِ،
فالنَّاسُ ينقسِمونَ بحسبِ ما تقدَّمَ إلى ثلاثةِ أقسامٍ:
الأوَّلِ:
المُشركون والكفَّارُ، كُفْرٌ يُخْرِج عن المِلَّةِ الإسلاميَّةِ، فهؤلاء
يَدخلونَ النَّارَ ويُخَلَّدون فيها دائِمًا، ولا يَخْرجون منها أبدًا.
النَّوعِ الثَّاني: مَن ماتَ على التَّوحيدِ وليسَ عليه ذنوبٌ فهذا يدخلُ الجنَّةَ من أوَّلِ وهلةٍ.
الثَّالثِ:
مَن ماتَ مُوَحِّدًا وعليه ذنوبٌ ومعاصٍ، فهذا تحتَ مشيئةِ اللهِ، إِنْ
شاءَ اللهُ عَفَا عنه وأَدْخَله الجنَّةَ من أوَّلِ وهلةٍ، وإن شاءَ
عذَّبَه بقدرِ ذنوبِه ثمَّ أدخلَه الجنَّةَ، هذا ما عليه أهلُ السُّنَّةِ
والجماعةِ، وهو الَّذي تواترتْ به الأدلَّةُ من الكتابِ والسُّنـَّةِ، عكسُ
ما عليه المرجئةُ والخوارجُ والمعتزلةُ.
قال السَّفَارِينيُّ في ((الدُرَّةِ المُضِيئةِ)):
وَمَنْ يَمُتْ وَلَمْ يَتُبْ مِنَ الْخَطَا فَأَمْرُهُ مفَوَّضٌ لِذِي الْعَطَا
فَإِنْ يَشَأْ يَعْفُو وَإِنْ شَاءَ انْتَقَمَ وَإِنْ شَاءَ أَعْطَى وَأجْزَلَ النِّعَمَ
وفي هذه الآيةِ دليلٌ على إثباتِ الغضبِ، وأنَّه -سُبْحَانَهُ- يغضبُ ويَرْضى كما يليقُ بجلالِه وعظمتِه.
(3) قولُه: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهُ وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ):
أي ذلك الضربُ والقبضُ لأرواحهِمْ بهذه الشِّدَّةِ بسببِ اتَّبَاعِهم ما
يُسخِطُ اللهَ مِن الكفرِ وعداوةِ الرَّسولِ، وبسببِ كراهتِهم رضوانَه؛ أي
ما يُرضيهِ مِن الإيمانِ والعملِ الصَّالحِ.
فهذه الآيةُ أفادَتْ إثباتَ صفةِ السَّخَطِ والرِّضا،
وأنَّه -سُبْحَانَهُ وتعالى- يَسْخَط ويَرْضى حقيقةً، كما يليقُ بجلالِه
وعظمَتِه، فيجبُ إثباتُ ذلك الوجهِ اللاَّئِقِ بجلالِهِ وعظمَتِه، هذا قولُ
أهلِ السُّنَّةِ والجماعَةِ، وكلًُّ ما وَرَدَ في الكتابِ والسُّنَّةِ
يجبُ إثباتُهُ على الوجهِ اللاَئِقِ بجلاَلِه وعظَمَتِه، والبابُ كلُّه
واحدٌ.
وفي هذه الآيةِ إثباتُ العِلَلِ والأسبابِ،
وأنَّ الأعمالَ الصَّالحةَ سببٌ للسَّعادةِ، والأعمالَ السَّيِّئةَ سببٌ
للشَّقَاوةِ، وفيها الرَّدُّ على مَن زعَمَ: أنَّه لا ارتباطَ بينَ العملِ
والجزاءِ. انتهى.
وفيها
–أيضًا- ذمُّ مَن أحبَّ ما كرهَهُ اللهُ أو كَرِهَ ما أحبَّهُ، فالواجبُ
على كلِّ مؤمنٍ: أنْ يُحبَّ ما أحبَّهُ اللهُ محبَّةً تُوجِبُ الإتيانَ بما
وجَبَ عليه منه، فإنْ زادَت المحبَّةُ حتى أتى بما نُدِبَ إليه منه كان
ذلكَ فضلاً، وَأَنْ يكرَهَ ما كَرِهَهُ اللهُ كَرَاهةً تُوجبُ له الكفَّ
عمَّا حرَّم اللهُ عليه منه، فإنْ زادَت الكراهةُ حتى أوجبَت الكفَّ عمَّا
كَرِهَهُ تنْزيهًا كان ذلكَ فضلاً، وقدْ ثَبَتَ في الصَّحِيحين عنه -صلَّى
اللهُ عليهِ وسلَّمَ- أنَّه قالَ: (لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ).
فلا يكونُ العبْدُ مؤمنًا حتى يُقَدِّمَ محبَّةَ الرَّسولِ على محبَّةِ
جميعِ الخَلْقِ، ومحبَّةُ الرَّسول تابِعَةٌ لمحبَّةِ مُرْسِلِهِ،
والمحبَّةُ الصَّحيحةُ تقتضي المتابعةَ والموافقةَ في حُبِّ المحبوباتِ وبُغْضِ المكروهاتِ، قالَ تعالى: (قُلْ
إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ
وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا
وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ
وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) الآيةَ، انتهى مِن كلامِ ابنِ رجبٍ.
قولُه: (آسَفُونَا): أيْ أَغْضبونَا، وأَسِفَ لها معنيانِ: تأتِي بمعنى غَضِبَ كهذه الآيةِ، وتأتي بمعنى حَزِنَ كقولِه -سُبْحَانَهُ- عن يعقوبَ أنَّه قالَ: (يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ) الآيةَ.
وقولُه: (انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ): أيْ عاقبَهُمْ -سُبْحَانَهُ- بالغَرَقِ وغيرِه مِن العقوباتِ، والانتقامُ: هو أنْ يبلغَ في العقوبَةِ حدَّها، ومِن أسمائِه -سُبْحَانَهُ- المنتقِمُ،
كما جاءَ في حديثِ أبي هُريرةَ الَّذي رواه التِّرْمِذِيُّ في جامِعه، في
عددِ الأسماءِ الحُسنى، ومعنَاهُ المُبَالِغُ في العقوبَةِ لِمَن يشاءُ، وقالَ الشيخُ تَقِيُّ الدِّينِ -رحمه اللهُ-:
المُنتَقِمُ ليسَ مِن أسماءِ اللهِ الْحُسْنَى الثَّابِتَةِ عَنِ
النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- وإنَّما جاءَ في القرآنِ مقيَّدًا
كقولِه -سُبْحَانَهُ-: (إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ)، وقولِهِ: (وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ)
والحديثُ الَّذي في عدَدِ الأسماءِ الحُسنى يُذْكَرُ فيها المنتقِمُ ليسَ
هوَ عندَ أهْلِ المعرفةِ بالحديثِ مِن كلامِ النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ
وسلَّمَ- بلْ هذا ذكَرهُ الوليدُ بنُ مسلمٍ عن بعضِ شيوخِهِ، ولهذا لم
يوردْهُ أحدٌ مِن أهْلِ الكُتُبِ المشهورَةِ إلاَّ التِّرمذيُّ. انتهى.
(4) قولـُه: (كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثـَهُمْ): أي أَبغَضَ خروجَهم معكم إلى الغزوِ.
قولُه: (فَثَبَّطَهُمْ):
أي كسَّلَهم، والتَّـثبيطُ: ردُّ الإنسانِ عن الشَّيءِ الَّذي يفعلُه، أي
أنَّه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- كسَّلهم عن الخروجِ للغزوِ قضاءً وقدرًا، وإن
كانَ قدْ أمرَهم بالغزوِ وأقدرَهُم عليه، ولكنْ ما أرادَ إعانَتَهُم؛ بلْ
خذلَهُم وثبَّطهم لحِكمةٍ يعلمُها سُبْحَانَهُ وتعالى: (لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ).
قوله: (كَبُرَ): أي عَظُمَ.
قَولُهُ: (مَقْتًا): منصوبٌ على التَّمييزِ، والمقتُ أشدُّ البُغضِ.
وفي
الآيةِ الحثُّ على الوفاءِ بالعهدِ، والنَّهيُ الأكيدُ عن الخُلْفِ في
الوعدِ وغيرِهِ، وبها استدلَّ بعضُ العُلماءِ على أنَّهُ يجبُ الوفاءُ
بالوعدِ مطلقًا، سواءً ثبَتَ عليه عزمٌ للموعودِ أم لا، واحتجَّوا بما ثبتَ
في الصَّحيحين: أنَّ رسولَ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- قالَ: ((آيةُ المُنَافِقِ ثَلاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وإِذَا وَعَدَ أخْلَفَ، وَإِذَا أُؤْتُمِنَ خَانَ))
وفيها دليلٌ على إثباتِ صفةِ البُغضِ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- كَمَا
يليقُ بجلالِه وعظمتِه، وفيه دليلٌ على أنَّ بُغضَه -سُبْحَانَهُ وتعالَى-
يتفاوتُ، فبَعضُه أشدُّ مِن بعضٍ، كما في الحديثِ: ((إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ مِثلـَهُ، ولنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثلـَهُ)).
وفيه
دليلٌ على أنَّ الشَّخصَ قد يكونُ عدوًّا للهِ ثمَّ يصيرُ ولِيًّا، ويكونُ
اللهُ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- يُبغضُه ثمَّ يُحبُّه، وهذا مذهبُ الفقهاءِ
والعامَّةِ، وهو قولُ المعتزلةِ والكراميَّةِ والحنفيَّةِ قاطبةً،
والمالكيَّةِ والشَّافعيَّةِ والحنابلةِ، وعلى هذا يدلَُّ القرآنُ، قال
تعالى: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ)، وقال: (وَإِنْ تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ)، وقَولُهُ: (فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ) وغيرُها مِن الآياتِ والأحاديثِ. انتهى ملخَّصًا مِن كلامِ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيْميةَ رحمهُ اللهُ تعالى.
فهذه الآياتُ المتقدِّمةُ دليلٌ على
صفةِ الغضبِ والرِّضا، والولايةِ والحُبِّ والبغضِ والسَّخطِ والكراهةِ
ونحوِ ذلك، وهذا مذهبُ السَّلفِ الصَّالحِ وسائرِ الأئمَّةِ يُثبتونَ جميعَ
ما في الكتابِ والسُّنَّةِ على المَعنى اللاَّئِقِ به، كما يقولونَ ذلك في
السَّمْعِ والبصرِ والعلمِ والكلامِ وسائرِ الصِّفاتِ، وقد تقدَّمَ ذلك).