الدروس
course cover
الإيمان بصفة الإتيان والمجيء
11 Nov 2008
11 Nov 2008

5076

0

0

course cover
العقيدة الواسطية

القسم الرابع

الإيمان بصفة الإتيان والمجيء
11 Nov 2008
11 Nov 2008

11 Nov 2008

5076

0

0


0

0

0

0

0

الإيمان بصفة الإتيان والمجيء

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وَقَوْلُهُ : {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ}[سُورَةُ البَقَرَةِ : 210] ، {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ}[سُورَةُ الأَنْعَامِ : 158] ، {كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًَّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا}[سُورَةُ الْفَجْرِ : 21 ، 22] ، {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلاَئِكَةُ تَنزِيلاً}[سُورَةُ الْفُرْقَانِ : 25]).

هيئة الإشراف

#2

7 Dec 2008

شرح العقيدة الواسطية للشيخ مُحمَّد خَليل هَرَّاس رحمه الله

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وَقَوْلُهُ: { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ في ظُلَلٍ مِنَ الغَمَامٍ وَالمَلاَئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ }، { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ المَلاَئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ }،
{ كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا. وجَاءَ رَبُّكَ والمَلَكُ صَفًّا صَفًّا }،
{ويَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالغَمَامَ ونُزِّلَ المَلاَئِكَةُ تَنْزِيلاً }(1) ).


الشرح:

قال الشيخ محمد خليل هراس (ت: 1395هـ): ((1) قولُهُ: { هَلْ يَنْظُرونَ }في هذهِ الآياتِ إثباتُ صفتَينِ مِن صفاتِ الفعلِ لهُ سبحانَهُ، وهمَا صِفتا الإِتيانِ والمجيءِ، والذي عليهِ أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ الإِيمانُ بذلكَ على حقيقتِهِ، والابتعادُ عن التَّأويلِ الذي هوَ في الحقيقةِ إلحادٌ وتعطيلٌ.
ولعلَّ مِن المناسبِ أنْ ننقِلَ إلى القارِئ هنَا ما كتبَهُ حاملُ لواءِ التَّجهُّمِ والتَّعطيلِ في هذا العصرِ، وهوَ المدعوُّ بزاهدٍ الكوثرِيِّ:
قالَ في حاشيتِهِ على كتابِ (الأسماءِ والصفاتِ) للبيهقِيِّ ما نصُّهُ:
(قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ ما معناهُ: إنَّ اللهَ يأتي بعذابٍ في الغمامِ الذي يُنْتَظَرُ منهُ الرَّحمةُ، فيكونُ مجيءُ العذابِ مِن حيثُ يُنْتَظَرُ الرَّحمةُ أفظعُ وأهولُ. وقالَ إمامُ الحرمينِ في معنى الباءِ كمَا سبقَ. وقالَ الفخرُ الرَّازيِ: أنْ يأتيَهُمْ أمْرُ اللهِِ).اهـ.
فأَنْتَ ترى مِن نقلِ هذا الرجلِ عن أسلافِهِ في التَّعطيلِ مدى اضطرابِهمْ في التَّخريجِ والتَّأويلِ.
على أنَّ الآياتِ صريحةٌ في بابهَا، لا تقبلُ شيئًا مِن تلكَ التَّأويلاتِ:
فالآيةُ الأولى تتوعَّدُ هؤلاءِ المصرِّينَ على كفرِهِمْ وعنادِهِمْ واتباعِهِمْ للشَّيطانِ بأنَّهمْ ما ينظرونَ إلاَّ أنْ يأتيَهمُ اللهُ عزَّ وجلَّ في ظُلَلٍ مِّنَ الغَمَامِ لِفَصْلِ القَضَاءِ بينَهُم، وذلكَ يومُ القيامةِ، ولهذا قالَ بعدَ ذلكَ: (وَقُضِيَ الأَمْرُ).
والآيةُ الثَّانِيةُ أشدُّ صراحةً، إذْ لا يمكنُ تأويلُ الإِتيانِ فيهَا بأنَّهُ إتيانُ الأمرِ أو العذابِ؛ لأنَّهُ ردَّدَ فيهَا بينَ إتيانِ الملائكةِ وإتيانِ الرَّبِّ، وإتيانِ بعضِ آياتِ الرَّبِّ سبحانَهُ.
وقولُهُ في الآيةِ التَّي بعدَهَا: { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالمَلَكُ صَفًّا صَفًّا } لا يُمكِنُ حملُهَا على مجيءِ العذابِ؛ لأنَّ المرادَ مجيئُهُ سبحانَهُ يومَ القيامةِ لفصلِ القضاءِ، والملائكةُ صفوفٌ؛ إجلالاً وتعظيمًا لهُ،
وعندَ مجيئِهِ تنشقُّ السَّماءُ بالغمامِ؛ كمَا أفادتهُ الآيةُ الأخيرةُ.

وهوَ سبحانَهُ يجيءُ ويأتي وينزلُ ويدنو وهوَ فوقَ عرشِهِ بائنٌ مِن خلقِهِ.
فهذهِ كلُّهَا أفعالٌ لهُ سبحانَهُ على الحقيقةِ، ودعوى المجازِ تعطيلٌ لهُ عن فعلِهِ، واعتقادُ أنَّ ذلكَ المجيءَ والإِتيانَ مِن جنسِ مجيءِ المخلوقينَ وإتيانِهِمْ نزوعٌ إلى التَّشْبِيهِ يُفضِي إلى الإِنكارِ والتَّعطيلِ).

هيئة الإشراف

#3

7 Dec 2008

شرح العقيدة الواسطية للشيخ: صالح بن فوزان الفوزان

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (9 - ذكرُ مجيءِ اللهِ سبحانَه لفصلِ القضاءِ بين عبادِه على ما يليقُ بجلالِه

وَقَوْلُهُ: ( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ في ظُلَلٍ مِنَ الغَمَامٍ وَالمَلاَئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ )، وقولُه ( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ المَلاَئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ )، ( كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكّاً دَكّاً. وجَاءَ رَبُّكَ والمَلَكُ صَفّاً صَفّاً)، (ويَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالغَمَامَ ونُزِّلَ المَلاَئِكَةُ تَنْزِيلاً ).(1)).


الشرح:

قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: ((1) (هَلْ يَنْظُرُونَ) هذا تهديدٌ للكفَّارِ التَّاركين للدخُولِ في السِّلْمِ أي: الإسلامِ، المتَّبِعينَ لخطُواتِ الشَّيْطَانِ. ومعنَى (يَنْظُرُونَ) ينتظرون، يقالُ: نَظَرْتُه وانتظرتُه بمعنًى واحدٍ (إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ) ذاتُه سبحانَه لفصْلِ القَضاءِ بينهم يومَ القيامةِ، فيُجازِي كُلَّ عاملٍ بعَملِه (في ظُلَلٍ مِنَ الغَمَامِ) الظُّلَلُ جمعُ ظُلَّةٍ، وهي: ما يُظِلُّكَ، والغَمَامُ السَّحَابُ الرَّقيقُ الأبيضُ، سُمِّي بذلك؛ لأنَّه يَغُمُّ، أي يَسْترُ (وَالْمَلائِكَةُ) أي: والملائكةُ يجيئون في ظُلَلٍ مِن الغَمامِ (وَقُضِيَ الأَمْرُ) أي فُرِغَ مِن الأمرِ الذي هو إهلاكُهم.

وقولُه: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ المَلائِكَةُ) أي لقبضِ أرواحِهم (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) أي بذاتِه سبحانَه لفصْلِ القَضاءِ بين العبادِ (أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ) وهو طلوعُ الشَّمسِ مِن مغرِبهَا، وذلك أحدُ أشراطِ السَّاعةِ الكبارِ، إذا وقع أُغلِق بابُ التَّوبةِ، فلا تُقبلُ.

وقولُه: (كَلاَّ) حرفُ رَدْعٍ وَزجْرٍ عمّا ذُكِر قبلَها. أي ما هكذا ينبغي أن يكونَ عملُكُم مِن عَدمِ إكرامِ اليتيمِ وعدمِ الحضِّ عَلى طَعامِ المسكينِ وأكلِ التُّرَاثِ وحُبِّ المالِ بكثرةٍ شديدةٍ (إِذَا دُكَّتِ اْلأَرْضُ دَكّاً دَكّاً) أي زُلْزِلَت وحُرِّكَت تحريكاً بعد تحريكٍ، حتى انهدمَ كُلُّ ما عليها مِن بناءٍ، وعَادَ هَبَاءً مُنْبَثًّا (وَجَاءَ رَبُّكَ) بذاتهِ سبحانَه لفصْلِ القَضاءِ بين عبادِه (والْمَلكُ) أي جِنْسُ الملائكةِ (صَفًّاصَفًّا) منصوبٌ عَلى الحالِ، أي مُصْطَفِّينَ صفًّا بعدَ صَفٍّ، قد أحْدَقوا بالجنِّ والإنسِ. كُلُّ أهلِ سماءٍ يُكَوِّنُونَ صَفًّا واحداً محيطين بالأرضِ ومَن فيها، فَيُكَوِّنُونَ سَبْعةَ صُفُوفٍ.

وقولُه: (وَيَومَ تَشَقَّقُ السَّماءُ) أي يومَ القيامةِ (تَشَقَّقُ السَّماءُ) أي تنفَطِرُ وتنفَرِجُ (بالْغَمَامِ) الذي هو ظُلَلُ النُّورِ العظيمِ الَّذي يُبْهِرُ الأبصارَ (وَنُزِّلَ الملائِكَةُ تَنْزِيلاَ) إلى الأرضِ، فيحيطون بالخلائقِ في مقامِ المحشرِ، ثم يجيءُ الرَّبُّ لفصْلِ القضاءِ بين عبادِه.

الشَّاهدُ مِن الآياتِ: أنَّها أفادت إثباتَ المجيءِ والإتيانِ للهِ يومَ القيامةِ بذاتِه، عَلى ما يليقُ بجلالِه، لفصْلِ القضاءِ بين عبادِه، ومجيئُه وإتيانُه سبحانَه مِن صفاتِه الفعليَّةِ، يجبُ إثباتُهُمَا عَلى حقيقتِهِمَا، ولا يجوزُ تأويلُهُمَا بمجيءِ أو إتيانِ أمرِه، كما يفعلُه نُفاةُ الصِّفاتِ ـ فيقولون: (وَجَاءَ رَبُّك) أي جاء أمرُه. وهذا مِن تحريفِ آياتِ اللهِ.
قال الإمامُ ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ: والإتيانُ والمجيءُ المضافُ إليه سبحانَه نوعان: مُطلقٌ ومُقيَّدٌ، فإذا كان المرادُ مجيءَ رحمتِه أو عذابِه ونحوَ ذلك: قُيِّد بذلك، كما في الحديثِ (( حَتىَّ جَاءَ اللهُ بالرَّحْمةِ وَالْخَيْرِ)) وقولِه: (وَلَقْد جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ).
النَّوعُ الثَّاني: الإتيانُ والمجيءُ المطلقُ، فهذا لا يكونُ إلاَّ مجيئَه سبحانَه كقولِه: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ) وقولِه: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً) اهـ).

هيئة الإشراف

#4

7 Dec 2008

شرح العقيدة الواسطية للشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (قولُهُ: (هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِى ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلاَئِكَةُ وَقُضِىَ الأَمْرُ) (1) [البقرة: 210].
وقولُهُ: (هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلاَئِكَةُ أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِىَ بَعْضُ ءَايَاتِ رَبِّكَ) [الأنعام: 158].
وقولُهُ: (كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا، وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) [الفجر: 21-22] قولُهُ: (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ ونُزِّلَ الْمَلَئِكَةُ تَنـزِيلاً) [الفرقان: 25]).



الشرح:

قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): ((1)ذكرَ المؤلِّفُ -رحمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لإثباتِ صفةِ المجيءِ والإتيانِ آياتٍ أربعاً.

الآيةُ الأولى: قولُهُ: (هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِى ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلاَئِكَةُ وَقُضِىَ الأَمْرُ) [البقرة: 210].
قولُهُ: (هَلْ يَنظُرُونَ): (هَلْ): استفهامٌ بمعنى النَّفيِ، يعني: مَا يَنظرونَ، وكلمَّا وجَدْتَ (إلاَّ) بعدَ الاستفهامِ، فالاستفهامُ يكونُ للنَّفيِ، هذِهِ قاعدةٌ، قَالَ النَّبيُّ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ -: ((هَلْ أَنْتِ إِلاَ أُصْبَعٌ دُمِيتِ))، أيْ: مَا أنتِ.
ومعنى: (يَنظُرُونَ) هنا: ينتظرونَ؛ لأنَّها لَمْ تتعدَّ بـ(إلى)، فلو تعدَّتْ بـ(إلى) لكَانَ معناها النَّظرَ بالعينِ غالباً، أمَّا إِذَا تعدَّتْ بنَفْسِها، فهِيَ بمعنى: ينتظرونَ، أيْ: مَا ينتظرُ هؤلاءِ المكذِّبُونَ إِلاَّ أنْ يأتيَهم اللَّهُ فِي ظللٍ من الغمامِ، وذلِكَ يومَ القيامةِ.
(يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِى ظُلَلٍ): و(فِى): هُنَا بمعنى (مع)، فهِيَ للمصاحبةِ، وليستْ للظَّرفيَّةِ قطعاً؛ لأنهَّا لو كانتْ للظرفيَّةِ لكانتِ الظُّللُ محيطةً باللَّهِ، ومعلومٌ أنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - واسعٌ عليمٌ، ولاَ يحيطُ بِهِ شيءٌ من مخلوقاتِهِ.
فـ(فِى ظُلَلٍ)، أيْ: مَعَ الظُّللِ، فإنَّ اللَّهَ عندَ نزولِهِ - جلَّ وعلاَ - للفَصْلِ بينَ عبادِهِ (تشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ): غمامٌ أبيضُ، ظُللٌ عظيمةٌ، لمجيءِ اللَّهِ تباركَ وَ- تَعَالَى -.
وقولُهُ: (فِى ظُلَلٍ مِّن الْغَمَامِ): الغمامُ، قَالَ العلماءُ: إنَّهُ السَّحابُ الأبيضُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى - مُمْتَنًّا عَلَى بني إسرائيلَ -: (وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ) [البقرة: 57]، والسَّحابُ الأبيضُ يُبقي الجوَّ مُستنيراً، بخلافِ الأسودِ والأحمرِ، فإنَّهُ تَحصلُ بهِ الظُّلمةُ، وَهُوَ أَجْمَلُ مَنظراً.
وقولُهُ: (وَالْمَلاَئِكَةُ): الملائكةُ بالرَّفعِ، معطوفٌ عَلَى لفظِ الجلالةِ اللَّهِ، يعني: أوْ تأتيِهم الملائكةُ، وسبقَ بيانُ اشتقاقِ هذِهِ الكلمةِ، ومَنْ هُم الملائكةُ.
والملائكةُ تأتي يومَ القيامةِ، لأنَّهَا تنـزِلُ فِي الأرضِ، ينـزلُ أهلُ السَّماءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ الثَّانِيَةِ، ثُمَّ الثَّالثةِ، ثُمَّ الرَّابعةِ، وهكذا… إِلَى السَّابعةِ، يحُيطونَ بالنَّاسِ.
وَهَذَا تحذيرٌ مِنْ هَذَا اليومِ الَّذِي يأتي عَلَى هَذَا الوجْهِ، فَهُوَ مشهدٌ عظيمٌ مِنْ مشاهدِ يومِ القيامةِ، يُحَذِّرُ اللَّهُ بهِ هؤلاءِ المكذِّبينَ.

الآيةُ الثَّانِيَةُ: قولُهُ: (هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلاَئِكَةُ أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِىَ بَعْضُ ءَايَاتِ رَبِّكَ) [الأنعام: 158].
نقولُ فِي (هَلْ يَنظُرُونَ) مَا قلْنَاهُ فِي الآيةِ السَّابقةِ، أيْ: مَا ينتظرُ هؤلاءِ إِلاَّ واحدةً مِنْ هذِهِ الأحوالِ:
أَوَّلاً: (إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلاَئِكَةُ)، أيْ: لقبضِ أرواحِهِم، قَالَ اللَّهَ - تَعَالَى -: (وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ، وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ) [الأنفال: 50].
ثانياً: (أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ) يومَ القيامةِ للقضاءِ بينَهُم.
ثالثاً: (أَوْ يَأْتِىَ بَعْضُ ءَاياَتِ رَبِّكَ): وهذِهِ طلوعُ الشَّمسِ مِنْ مغرِبِها، فسَّرَها بذلِكَ النَّبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وإنمَّا ذَكَرَ اللَّهُ هذِهِ الأحوالَ الثلاثةَ:
لأنَّ الملائكةَ إِذَا نزلتْ لقبضِ أرواحِهِم لاَ تُقبَلُ مِنْهُم التَّوبةُ، لقولِهِ - تَعَالَى -: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّى تُبْتُ الآنَ) [النساء: 18].
وكذلِكَ – أيضاً - إِذَا طلعتِ الشمسُ مِنْ مغربِها، فإنَّ التَّوبةَ لاَ تقبَلُ، وحينئذٍ لاَ يستطيعون خلاصاً ممَا هُم عَلَيْهِِ.
وذكرَ الحالةَ الثَّالثةَ بينَ الحالين؛ لأنَّهُ وقتُ الجزاءِ وثُمَّرةُ العملِ، فلاَ يستطيعون التخلصَ فِي تلِكَ الحالِ ممَا عملوه.
والغرضُ منْ هذِهِ الآيةِ والَّتِي قبلَهَُا تحذيرُ هؤلاءِ المكذبين مِنْ أنْ يفوتَهم الأوانُ ثُمَّ لاَ يستطيعون الخلاصَ مِنْ أعمالَهُِم.

الآيةُ الثَّالثةُ: قولُهُ: (كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا، وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) [الفجر: 21-22].
(كَلاَّ) هُنَا للتنبيهِ، مثل (ألا).
وقولُهُ: (إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا): هَذَا يومُ القيامةِ.
وأكدَّ هَذَا الدكَّ لعظمتِهِ، لأنَّها تُدَكُ الجبالُ والشعابُ وكلُ شيءٍ يُدَكُّ، حَتَّى تكونَ الأرضُ كالأديِم، والأديمُ هُوَ الجلدُ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: (فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفًا، لاَّ تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلاَ أَمْتًا) [طه: 106-107]. ويحتملُ أنْ يكونَ تكرارُ الدكِ تأسيساً لاَ تأكيداً، ويكون المعنى: دكّاً بَعْدَ دكٍّ.
قالَ: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا): (وَجَاءَ رَبُّكَ)، يعني: يومَ القيامةِ، بعد أنْ تُدَكَّ الأرضُ وتُسَوَّى ويُحْشَر النَّاسُ يأتي اللَّهُ للقضاءِ بينَ عبادِهِ.
وقولُهُ: (وَالْمَلَكُ): (ال) هُنَا للعمومِ، يعني:وكُلُّ ملَكٍ، يعني: الملائكةَ يَنـزلونَ فِي الأرضِ.
(صَفًّا صَفًّا)، أيْ: صفًّا مِنْ وراءِ صفٍّ، كَمَا جاءَ فِي الأثرِ: ((تَنْزِلُ مَلائِكَةُ السَّماءِ الدُّنيا فَيَصُفُّونَ، وَمِنْ وَرَائِهِم مَلائِكَةُ السَّماءِ الثَّانيةِ، وَمِنْ وَرَائِهِمْ مَلائكةُ السَّمَاءِ الثَّالثةِ)) وهكذا.

الآيةُ الرَّابعةُ: قولُهُ: (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ ونُزِّلَ الْمَلَئِكَةُ تَنـزِيلاً) [الفرقان: 25].
يعني: اذكرْ يومَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بالغمامِ.
و(تَشَقَّقُ): أبلغُ مِنْ تَنْشَقُّ؛ لأنَّ ظاهرَها تشقُّقُ شيئًا فشيئاً، ويخرجُ هَذَا الغَمامُ، يَثورُ ثَوَرانَ الدُّخانِ، ينبعثُ شيئًا فشيئاً.
تشقَّقُ السَّماءُ بالغمامِ، مثلُ مَا يقالُ: تشقَّقُ الأرضُ بالنَّباتِ، يعني: يخرجُ الغمامُ مِنَ السَّماءِ ويثورُ متتابِعاً، وذلِكَ لمجيءِ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ - للفَصلِ بينَ عبادِهِ، فهُوَ يومٌ رهِيَبٌ عظيمٌ.
قولُهُ: (وَنُزِّلَ الْمَلاَئِكَةُ تَنزِيلاً): يَنـزلونَ مِنَ السَّماواتِ شيئًا فشيئاً، تَنْزِلُ ملائكةُ السَّماءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ الثَّانِيَةِ، ثُمَّ الثَّالثةِ… وهكذا.
وهذِهِ الآيةُ فِي سياقِها ليسَ فِيهَا ذكرُ مجيءِ اللَّهِ، لكنْ فِيهَا الإشارةُ إِلَى ذلِكَ؛ لأنَّ تشقُّقَ السَّماءِ بالغمامِ إنمَّا يكونُ لمجيءِ اللَّهِ - تَعَالَى -، بدليلِ الآياتِ السَّابِقَةِ.

هذِهِ أربعُ آياتٍ ساقهَا المؤلِّفُ لإثباتِ صفةٍ مِنْ صفاتِ اللَّهِ، وهِيَ: المجيءُ والإتيانُ.
وأهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ يُثبتونَ أنَّ اللَّهَ يأتي بنَفْسِهِ هُوَ؛ لأنَّ اللَّه - تَعَالَى - ذكرَ ذلِكَ عن نَفْسِهِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بنَفْسِهِ، وبغيرِهِ، وأصدقُ قِيلاً مِنْ غيرِهِ، وأحسنُ حديثاً، فكلامُهُ مشتملٌ عَلَى أكملِ العلمِ والصِّدقِ، والبيانِ والإرادةِ، فاللَّهُ - عزَّ وجلَّ - يريدُ أنْ يبيِّنَ لنا الحقَّ، وهُوَ أعلمُ وأصدقُ، وأحسنُ حديثاً.
لكنْ يبقى السُّؤالُ: هلْ نعلمُ كيفيَّةَ هَذَا المجيءِ؟
الجوابُ: لاَ نعلمُهُ؛ لأنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أخبرَنَا أنَّهُ يجيءُ، ولَمْ يُخبْرنا كَيْفَ يَجيءُ؛ ولأنَّ الكيفيَّةَ لاَ تُعلمُ إِلاَّ بالمشاهدةِ أوْ مشاهدةِ النَّظيرِ، أو الخبرِ الصَّادقِ عنْهَا، وكُلُّ هَذَا لاَ يوجدُ فِي صفاتِ اللَّهِ - تَعَالَى -، ولأنَّهُ إِذَا جُهِلتِ الذَّاتُ، جُهِلَتِ الصِّفاتُ، أيْ: كيفيَّتُها، فالذَّاتُ موجودةٌ وحقيقيَّةٌ، ونعرِفُها، ونعرفُ مَا معنى الذَّاتِ، ومَا معنى النَّفْسِ، وكذلِكَ نعرفُ مَا معنى المجيءِ، لكنَّ كيفيَّةَ الذَّاتِ أو النَفْسِ وكيفيَّةَ المجيءِ غيرُ معلومٍٍ لنا.
فنؤمنُ بأنَّ اللَّهَ يأتي حقيقةً، وعَلَى كيفيَّةٍ تليقُ بهِ مجهولةٍ لَنَا.
مخالِفُو أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ والردُّ علَيْهَم:
وخالَفَ أهلَ السُّنَّةِ والجماعةِ فِي هذِهِ الصِّفةِ أهلُ التَّحريفِ والتَّعطيلِ، فَقَالَوا: إنَّ اللَّهَ لاَ يَأتِي، لأنَّكَ إِذَا أثبَتَّ أنَّ اللَّهَ يأتي، ثبتَ أنَّهُ جِسمٌ، والأجسامُ متماثلةٌ!.
فنقولُ: هذِهِ دعوى وقياسٌ باطلٌ؛ لأنَّهُ فِي مقابلةِ النَّصِ، وكُلُّ شيءٍ يعودُ إِلَى النَّصِ بالإبطالِ فَهُوَ باطلٌ، لقولِهِ - تَعَالَى -: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِى ضَلالٍ مُّبِينٍ) [سبأ: 24].
فَإِذَا قلْتَ: إنَّ هَذَا الَّذِي عادَ إِلَى النَّصِ بالإبطالِ هُوَ الحقُّ، صارَ النَّصُّ باطلاً ولاَ بدَّ، وبطلانُ النَّصِّ مستحيلٌ، وإنْ قُلْتَ: إنَّ النَّصَّ هُوَ الحقُّ، صار هَذَا باطلاً ولاَ بدَّ!.
ثُمَّ نقولُ: مَا المانعَ مِنْ أنْ يأتَي اللَّهُ - تَعَالَى - بنَفْسِهِ عَلَى الكيفيَّةِ الَّتِي يريدُها؟ يقولون: المانعُ أنَّكَ إِذَا أثبَتَّ ذلِكَ، فأنْتَ ممثلٌ.
نقولُ: هَذَا خطأً، فإنَّنَا نعلمُ أنَّ المجيَء والإتيانَ يختلفُ، حَتَّى بالنِّسبةِ للمخلوقِ، فالإنسانُ النَّشيطُ الَّذِي يأتي كأنمَّا ينحدرُ مِنْ مرتفعٍ مِنْ نشاطِهِ، لكنَّهُ لاَ يمشِي مرَحاً، وإنْ شئْتَ، فقلْ: إنَّهُ يمشي مرحاً: هَلْ هَذَا كالإنسانِ الَّذِي يمشي عَلَى عصًا ولاَ يَنقلُ رِجلاً مِنْ مكانِها إِلاَّ بعدَ تعبٍ.
والإتيانُ يختلفُ مِنْ وجهٍ آخرَ، فإتيانُ إنسانٍ مثلاً مِنْ كبراءِ البلدِ، أوْ مِنْ ولاةِ الأمورِ، ليسَ كإتيانِ شخصٍ لاَ يُحتَفَى به.
مَاذَا يقولُ المعطلُ فِي قولِهِ - تَعَالَى -: (وَجَاءَ رَبُّكَ) ونحوَها؟
الجوابُ: يقولُ: المعنى: جاءَ أمرُ ربِّك، وأتى أمرُ ربِّك؛ لأنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - قالَ: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ) [النحل: 1]، فيجبُ أن نَفْسِّرَ كُلَّ إتيانٍ أضافَهُ اللَّهُ إِلَى نَفْسِهِ بهذِهِ الآيةِ، ونقولُ: المرادُ: أتى أمرُ اللَّهِ.
فيقالُ: إنَّ هَذَا الدَّليلَ الَّذِي استدللْتَ بهِ هُوَ دليلٌ عليْكَ وليسَ لكَ!، لو كَانَ اللَّهُ - تَعَالَى - يريدُ إتيانَ أمرِهِ فِي الآياتِ الأخرَى فمَا الَّذِي يمنعُهُ أنْ يقولَ: أمرَه؟! فلمَا أرادَ الأمرَ عبَّرَ بالأمرِ، ولمَا لَمْ يُردْه لَمْ يعبِّرْ بهِ.
وَهَذَا فِي الواقعِ دليلٌ عليكَ؛ لأنَّ الآياتِ الأخرَى ليسَ فِيهَا إجمالٌ، حَتَّى نقولَ: إنهَّا بُيِّنَتْ بهذِهِ الآيةِ، فالآياتُ الأخرَى واضحةٌ، وفِي بعضِها تقسيمٌ يمنع إرادةَ مجيءِ الأمرِ: (هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلاَئِكَةُ أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِىَ بَعْضُ ءَايَاتِ رَبِّكَ) [الأنعام: 158]، هلْ يستقيمُ لشَخصٍ أنْ يقولَ: (يَأْتِىَ رَبُّكَ)، أيْ: أمرُهُ فِي مثلِ هَذَا التَّقسيمِ؟!
فَإِذَا قَالَ قائلٌ: مَا تَقولونَ فِي قولِهِ - تَعَالَى -: (فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ) [المائدة: 52].
فالجوابُ: أنَّ المرادَ بذلِكَ إتيانُ الفتحِ أو الأمرِ، لكنْ أضافَ اللَّهُ الإتيانَ بهِ إِلَى نَفْسِهِ؛ لأنَّهُ مِنْ عندِه، وَهَذَا أسلوبٌ معروفٌ فِي اللُّغةِ العربيَّةِ، فالإتيانُ إِذَا قيِّدَ بحرفِ جرٍ مثلاً فالمرادُ بهِ ذلِكَ المجرورُ، وإِذَا أُطلقَ وأُضيفَ إِلَى اللَّهِ بدونِ قيدٍ، فالمرادُ بهِ إتيانُ اللَّهِ حقيقةً.
الآدابُ المسلكيَّةُ المستفادةُ مِنَ الإيمانِ بصفةِ المجيءِ والإتيانِ لِلَّهِ - تَعَالَى -:
الثُمَّرةُ هِيَ الخوفُ مِنْ هَذَا المقامِ، وَهَذَا المشهدُ العظيمُ الَّذِي يأتي فِيهِ الرَّبُّ - عزَّ وجلَّ -، للفصلِ بينَ عبادِهِ، وتنزلُ الملائكةُ، ولاَ يبقى أمامَكَ إِلاَّ الرَّبُّ - عزَّ وجلَّ - والمخلوقاتُ كُلُّهَا، فإنْ عَمِلتَ خيراً، جوزيتَ بهِ، وإنْ عملْتَ سوى ذلِكَ، فإنَّكَ ستُجزى بهِ، كَمَا قَالَ النَّبيُّ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ -: ((إِنَّ الإِنْسَانَ يَخْلُو بِهِ اللَّهُ - عزَّ وجلَّ -، فَينظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ، فَلاَ يَرَى إِلاَّ مَا قَدَّم، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ، فَلاَ يَرى إِلاَّ مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرَ تِلْقاءَ وَجْهِهِ، فَلاَ يَرى إِلاَّ النَّارَ تِلْقاءَ وَجْهِهِ، فَاتَّقُوا النَّار، وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ)).
فالإيمانُ بمثلِ هذِهِ الأشياءِ العظيمةِ لاَ شكَّ أنَّهُ يولِّدُ للإنسانِ رهبةً وخوفاً مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَ- تَعَالَى -، واستقامةً عَلَى دينِهِ).

هيئة الإشراف

#5

7 Dec 2008

الروضة الندية للشيخ: زيد بن عبد العزيز بن فياض رحمه الله

المتن:

قال أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (* إثبات صفة مجئ الله وإتيانه ونزوله *
وَقَوْلُه ُ: ({هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ في ظُلَلٍ مِنَ الغَمَامِ وَالمَلاَئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ}،{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ المَلاَئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ}،{كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكّاً دَكّاً * وجَاءَ رَبُّكَ والمَلَكُ صَفّاً صَفّاً}،{ويَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالغَمَامَ ونُزِّلَ المَلاَئِكَةُ تَنْزِيلاً}
).


الشرح:

قال الشيخ زيد بن عبد العزيز بن فياض (ت: 1416هـ): (في هذه الآياتِ إثباتُ صفةِ مَجِيءِ اللَّهِ وإتيانِه ونُزولِه على ما يَليقُ بجَلالِه سُبْحَانَهُ ، وهذه من أفعالِه الاختياريَّةِ . فينزلُ يومَ القيامةِ لفَصْلِ القضاءِ بينَ النَّاسِ وينزلُ إلى سماءِ الدُّنْيَا كلَّ ليلةٍ حين يبقَى ثُلُثُ الليلِ الآخِرِ ، وغيرُ ذلك على ما وَرَدَتْ به النُّصُوصُ ، وكما يشاءُ جَلَّ وعَلا ، وفي ذلك إبطالٌ لقولِ الجَهْمِيَّةِ والمعتزِلةِ ونحوِهم مِن النُّفاةِ المعطِّلةِ . قولُه: {هَلْ يَنظُرُونَ} أيْ : هلْ يَنتظِرُ الكُفَّارُ التَّارِكونَ للدخُولِ في السِّلْمِ ، المُتَّبِعونَ خُطواتِ الشيطانِ إلا أنْ يأتِيَهُمُ اللَّهُ يومَ القيامةِ لفَصْلِ القضاءِ بينَ النَّاسِ، وعندَ ذلك يَحيقُ بهم العذابُ السَّرْمَدِيُّ ، ويَنظُرونَ بمعنى يَنْتَظِرونَ، قَالَ امْرُؤُ القَيْسِ :

فَإِنَّكُمَا إِنْ تَنْظُرَانَِي سَاعَةً مِنَ الدَّهْرِ تَنْفَعْنِي لَدَى أُمِّ جُنْدُبِ

فإذا كانَ النَّظَرُ مَقْروناً بذِكْرِ الوجهِ أو مُعَدًّى بِإِلَى لم يكُنْ إلا بمعنى الرؤيةِ.
والظُّلَلُ : جَمْعُ ظُلَّةٍ، وهو السَّحابُ الأبيضُ الرقيقُ .
وقولُه :{هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ}. قَالَ مجاهِدٌ : عندَ الموتِ حينَ تَوَفَّاهُم {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} يومَ القيامةِ لِفَصْلِ القضاءِ ؛{أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} طُلوعُ الشَّمْسِ مِن مَغْرِبِها وما شاءَ اللَّهُ، وقَالَ ابنُ جريرٍ: حَيْثُ ذُكِرَ في القرآنِ إتيانُ الملائكةِ فهو مُحتَمِلٌ لإتيانِهم لقَبْضِ الأرواحِ ، ويَحتمِلُ أنْ يكونَ نزولُهم بعذابِ الكُفَّارِ وإهلاكِهم . اهـ .
{كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ } كَلاَّ حَرْفُ زَجْرٍ ورَدْعٍ ، المعنى لَيْسَ الأمرُ كما يَظُنُّ المُنْكِرونَ للبعْثِ مِن أنه لا بَعْثَ ولا جزاءَ ولا حسابَ ، بل إنَّ ذلك حقٌّ آتٍ لا ريبَ فيه ، وعندئذٍ يَذْكُرونَ حينَ لا تَنْفَعُ الذِّكْرَى .
والدَّكُّ : التَّسوِيةُ والتَّمهيدُ ، والمَلَكُ واحِدُ الملائكةِ، والمُرادُ هنا الجمْعُ، وَأَلْ فيه للجِنْسِ
{وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} إيذاناً بنُزولِه تَعَالَى ؛ لأنَّ تَشَققَّ السَّمَاءِ مقدِّمةُ النُّزولِ ، ومقدِّمةُ الشَّيْءِ منه ، وقد زَعَم بعضُ المُنْكِرينَ لصفةِ مَجِيءِ اللَّهِ أنَّ في قولِه :{وَجَاءَ رَبُّكَ} إضْماراً تقديرُه : وجَاءَ مَلَكُ ربِّكَ ، أو أمْرُه ، أو عذابُه ، وهو زعْمٌ باطِلٌ . فإنه إضمارُ ما لا يدُلُّ عليه اللَّفْظُ بمطابَقةٍ ولا تضمُّنٍ ولا لُزومٍ ، وادعاءُ حذفِ ما لا دليلَ عليه يَرْفَعُ الوُثوقَ مِن الخِطابِ ويُطْرِقُ كلَّ مُبْطلٍ على ادعاءِ إضمارِ ما يُصحِّحُ باطلَه . مَعَ أنَّ صحةَ التَّركيبِ واستقامةَ اللَّفْظِ لا تتوقفُ على هذا المحذوفِ ، بل الكلامُ مستقيمٌ قائمُ المعنى بدون إضمارٍ ، فإضمارُه مجرَّدُ دعوى خِلافِ الأصْلِ فلا يجوزُ ، بل يكونُ قولاً على المتكلِّمِ بلا عِلمٍ ، وأيضاً فَفِي السياقِ ما يُبْطِلُ هذا التَّقديرَ ، وهو قولُه :{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ} فعَطْفُ المَلَكِ على مجيئِه سُبْحَانَهُ يدُلُّ على تغايُرِ المَجيئَيْنِ ، وأنَّ مجيئَه سُبْحَانَهُ حقيقةٌ ، كما أنَّ مجيءَ المَلَكِ حقيقةٌ ، بل مجيءُ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ أولى أنْ يكونَ حقيقةً مِن مَجيءِ المَلَكِ، وكذلك قولُه: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} فَفَرَّقَ بين إتيانِ الملائكةِ وإتيانِ الرَّبِّ ، وإتيانِ { بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ } فقَسَّمَ ونوَّعَ ، ومَعَ هذا التَّقسيمِ يمتنِعُ أنْ يكونَ القِسمانِ واحِدا فتأمَّلْهُ . ولهذا منَعَ عقلاءُ الفلاسفةِ حَمْلَ مِثلِ هذا اللَّفْظِ على مَجازِه وقالوا : هذا يأْبَاهُ التَّقسيمُ والتَّرديدُ والاطِّرادُ ، ولو صُرِّحَ بهذا المحذوفِ المُقدَّرِ لم يَحسُنْ وكان كلاماً ركيكاً . فإنه لو قَالَ : هلْ يَنْظرُونَ إلا أنْ تأتِيَهم الملائكةُ ، أو يأتيَ مَلَكُ ربِّكَ أو أمْرُ ربِّكَ أو يأتيَ بعضُ آياتِ ربِّكَ كان مستهْجَناً ، ولو كان المجيءُ والإتيانُ مُسْتحِيلاً عليه لكان كالأكْلِ والشُّرْبِ والنَّوْمِ والغفْلةِ ، ومتى عُهِدَ إطلاقُ الأكْلِ والشربِ والنَّوْمِ والغفْلةِ عليه ونِسبَتُها إليه نِسبةً مجازيةً ، وهي متعلِّقةٌ بغيرِه ؟ وهل في ذلك شيءٌ مِن الكمالِ ألبتَّةَ ؟ فإنَّ قولَه : وجَاءَ ربُّكَ ، وأتى ويأتي عندكم في الاستحالةِ مِثلُ نامَ وأكَلَ وشَرِبَ . واللَّهُ سُبْحَانَهُ لا يُطْلِقُ على نفْسِه هذه الأفعالَ ولا رَسُولُه لا بقَرِينةٍ ، ولا مُطْلَقةً فَضْلاً عن نَظَرِ نِسبَتِها إليه .
وقد اطَّرَدَ نسبةُ المجيءِ والإتيانِ والنزولِ والاستواءِ إليه مُطْلقاً مِن غيرِ قرينةٍ تدُلُّ على أنَّ الَّذِي نُسِبَ إليه ذلك غيرُه مِن مخلوقاتِه . فَكَيْفَ تُسَوَّغُ دعوى المَجازِ فيه ؟ ومَن ادَّعى المجازَ زعَمَ أنَّ العقلَ يُسانِدُه في ذلك ، ولكنَّ مدَّعِيَ الحقيقةِ قد أبطَلَ جميعَ العقلياتِ الَّتِي لأجْلِها ادَّعَى المجازَ في المجيءِ ونحـوِه مِن أَكثرَ مِن ثَلاثِمائةِ وَجهٍ ، فسَلِمَ لهم النقلُ واتفاقُ السَّلَفِ . فَكَيْفَ والعقلُ الصَّريحُ بجانبِهم ؟ وبعضُهم قَالَ : أمْرُه بمعنى مأمورِه . فرَكَّبَ مجازاً على مَجازٍ بِزَعْمه ، ولم يَصْنَعْ شيئاً .
وقد يجيءُ الإتيانُ والمجيءُ مِن اللَّهِ تَعَالَى مُقَيَّداً إذا كان مجيءُ رحمتِه أو عـذابِه كما في الحـديثِ : " جَاءَ اللَّهُ بَالرَّحْمَةِ وَالْخَيْرِ " ومنه :{ وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ } { بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ } وفي الحديثِ : " لاَ يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إلاَّ اللَّهُ " وكذلك قولُه :{ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِّنَ الْقَوَاعِدِ } فلمَّا قيَّدَه بالمفعولِ وهو البنيانُ ، وبالمَجْرورِ وهو القواعِدُ . دَلَّ ذلك على مَجيءِ ما بيَّنَه ؛ إذْ مِن المعلومِ أنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إذا جاءَ بنَفْسِه لا يَجيءُ مِن أساسِ الحِيطانِ وأَسْفَلِها ، وهذا يُشْبُه قولَه تَعَالَى :{ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ } فهذا مَجِيءٌ مُقَيَّدٌ لقومٍ مَخصوصينَ قد أوْقَعَ بهمْ بَأْسَه وعَلِمَ السَّامِعونَ أنَّ جُنودَه مِن الملائكةِ والمسلِمِينَ أتوهم فكان في هذا السياقِ ما يدُلُّ على المرادِ على أنه لا يمتَنِعُ في الآيتَيْنِ أنْ يكونَ الإتيانُ على حقيقَتِه ، ويكونُ ذلك دُنُوًّا ممَّن يُريدُ إِهْلاكَهُمْ بغضَبِه وانْتِقامِه ، كما يَدْنُو عَشِيَّةَ عرَفةَ مِن الحُجَّاجِ برَحمَتِه ، ومَغفِرَتِه ، ولا يلْزَمُ مِن هذا الدُّنُوِّ والإتيانِ الملاصقةُ والمخالَطةُ ، بل يأتي هَؤُلاَءِ برَحمَتِه وفضْلِه ، وهَؤُلاَءِ بانتِقامِه وعُقوبَتِه ، ومِن فوقِ عَرْشِه ؛ إذْ لا يكونُ الرَّبُّ إلا فوقَ كلِّ شيءٍ . ففَوْقِيَّتُه وعُلُوُّه مِن لوازِمِ ذاتِه ، ولا تَناقُضَ بين نُزولِه ودُنُوِّه وهُبوطِه ومَجيئِه وإتيانِه وعُلُوِّه ، لإحاطَتِه وسَعَتِه وعظَمَتِه ، وأنَّ السَّمَوَاتِ والأرضَ في قبْضَتِه ، وأنه مَعَ كوْنِه الظَّاهِرَ الَّذِي لَيْسَ فوقَه شيءٌ فهو الباطِنُ الَّذِي لَيْسَ دُونه شيءٌ ، فظُهورُه بالمعنى الَّذِي فسَرَّه به أَعْلَمُ الخَلْقِ لا يُناقِضُ بُطونَه بالمعنى الَّذِي فسَرَّه به أيضاً ، ومما يوضِّحُ ذلك أنَّ النُّزولَ والمجيءَ والإتيانَ والصَّعودَ والارتفاعَ كلُّها أنواعُ أفعالِه ، وهو الفعَّالُ لما يُريدُ . وأفعالُه كصفاتِه قائمةٌ به ، ولولا ذلك لم يكُنْ فعَّالاً ولا مَوصوفاً بصفاتِ كمالِه ، فإنْ كانت مَجازاً فأفعالُه كلُّها مَجازٌ ولا فِعـلَ له في الحقيقةِ ، بل هو بمنزِلَةِ الجماداتِ ، وهذا حقيقةُ مَن عطَّلَ أفعالَه ، وإنْ كان فاعلاً حقيقةً أفعالُه نوعانِ : لازمِةٌ ومتعَدِّيَةٌ ، كما دلَّتِ النُّصُوصُ الَّتِي هي أكثرُ مِن أنْ تُحْصَرَ على النوعَيْنِ ، ولما فهِمَتِ العقولُ الفاسدةُ مِن نُزولِ الرَّبِّ ومجيئِه وإتيانِه وهبوطِه ودُنُوِّه ما يُفْهَمُ مِن مجيءِ المخلوقِ وإتيانِه وهُبوطِه ودُنُوِّه ، وهو أنْ يُفَرِّغَ مكاناً ويَشْغَلَ مكاناً نَفَتْ حقيقةَ ذلك فوقَعَتْ في مَحذورَيْنِ : محذورِ التَّشبيهِ ، ومحذورِ التَّعطيلِ ، فلو كانَ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ مُماثِلاً لخَلْقِه لَزِمَ نزولَه خصائصُ نُزولِهم ، ضرورةَ ثُبوتِ أَحدِ المِثْلَيْنِ للآخَرِ).

هيئة الإشراف

#6

7 Dec 2008

التنبيهات السنية للشيخ: عبد العزيز بن ناصر الرشيد رحمه الله

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وَقَوْلُهُ: ( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ في ظُلَلٍ مِنَ الغَمَامٍ وَالمَلاَئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وإلى اللهِ تُرجَعُ الأمورُ) (1)، وقولُه تعالى ( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ المَلاَئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ )، وقوله: ( كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكّاً دَكّاً. وجَاءَ رَبُّكَ والمَلَكُ صَفّاً صَفّاً).(2)
وقَوْلَهُ: ( ويَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالغَمَامَ ونُزِّلَ المَلاَئِكَةُ تَنْزِيلاً ).(3) ).

الشرح:

قال الشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد (ت: 1408هـ): ((1) قَولُهُ: (هَلْ): حرفُ استفهامٍ.

قَولُهُ: (يَنْظُرُونَ): أي يَنتظرُ الكفَّارُ، يُقَالُ نَظَرْتُهُ وانْتَظَر به بمعنًى واحدٍ، إلاَّ إذا عُدِّيَ بإلى، أو ذُكِرَ الوجهُ، فمعناه النَّظَرُ، أو عُدِّيَ بفي فمعناه التَّفكُّرُ والاعتبارُ.
قَولُهُ: (إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ): أي لفصلِ القضاءِ بينهم يومَ القيامةِ، فيجْزِي كُلَّ عاملٍ بعملِه إنْ خيرًا فخيرٌ، وإنْ شرًّا فشرٌّ.
قَولُهُ: (في ظُلَلٍ): جمعُ ظُلَّةٍ، والظُّلَّةُ: ما أظلَّك وسترَكَ.
قَولُهُ: (مِنَ الغَمَامِ): أي السَّحابِ الأبيضِ الرَّقيقِ، سُمِّيَ غمامًا؛ لأنَّه يَغُمُّ، أي يسترُ.
قَولُهُ: (وَالمَلاَئِكَةُ): أي والملائكةُ يجيئونَ في ظُللٍ مِن الغَمامِ، ففيه إثباتُ مجيءِ الملائكةِ يومَ القيامةِ؛ لأنَّهم يُحيطونَ بالإنْسِ والجِنِّ، ثمَّ ينـزلُ اللهُ -سُبْحَانَهُ- لفصلِ القضاءِ بينَهُم.
(2) قَولُهُ: (وَقُضِيَ الأَمْرُ): أي تَمَّ أمرُ هلاكهِم.
قَولُهُ: (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ): أي تصيرُ أمورُ العبادِ إلى اللهِ في الآخرةِ.
قال محمَّدُ بنُ جريرٍ: حيثُ ذكرَ إتيانَ الملائكةِ فهو محتمِلٌ لإتيانِهم لقبضِ الأرواحِ، ويُحتملُ أنْ يكونَ نزولُهم لعذابِ الكفَّارِ وإهلاكِهم، وأمَّا إتيانُ الرَّبِّ فهو يومَ القيامةِ لفصلِ الخطابِ.
وقالَ ابنُ القيِّمِ رحمَهُ اللهُ تعالى: نزولُه -سُبْحَانَهُ- إلى الأرضِ يومَ القيامةِ تواترتْ به الأحاديثُ والآثارُ، ودلَّ عليه القرآنُ صريحًا، كما في هذه الآياتِ. انتهى.

قَولُهُ: (إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ المَلاَئِكَةُ): أي لقبضِ أرواحِهم.
قَولُهُ: (أَوْ يَأْتِيَ ربُّكَ): أي يومَ القيامةِ لفصلِ القضاءِ بينَ العبادِ.
قَولُهُ: (أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ): وهو طلوعُ الشَّمسِ مِن مغربِها، وطلوعُها مِن مغربِها هو أحدُ أشراطِ السَّاعةِ الكبارِ، وإذا طلعتْ مِن مغربِها أُغْلِقَ بابُ التَّوبةِ، وإذا رآهَا النَّاسُ طلعتْ مِن مغربِها آمَنُوا أجمعونَ، ولكنْ لا يُقْبَلُ لأحدٍ توبةٌ ما لم يكنْ آمنَ مِن قبلِ ذلكَ، كما في الصَّحيحينِ، وغيرِهِما من حديثِ أبي هُريرةَ رَضِي اللهُ عَنْهُ، قال: قال رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((لاَ تَقُوُمُ السَّاعَةُ حتَّى تَطْلُعَ الشَمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فإذَا طَلَعَتْ وَرَآهَا النَّاسُ آمَنُوا أجْمَعُونَ فَذاكَ حِيْنَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إيْمَانُهَا لمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ)).

قَولُهُ:(كَلاَّ): هي حرفُ ردعٍ وزجرٍ.
قَولُهُ: (دُكَّتِ الأَرْضُ): أي زُلزلتْ حتَّى ينهدِمَ كلُّ بناءٍ عليها وينعدمَ.
قَولُهُ: (دَكًّا دَكًّا): أي دكًّا بعدَ دكٍّ، أي كرَّرَ الدَّكَّ عليها حتَّى عادتْ هباءً منبثًّا.
قَولُهُ: (وجَاءَ رَبُّكَ): أي لفصلِ القضاءِ بين عبادِه.
قَولُهُ: (والمَلَكُ): أي جنسُ الملائكةِ.
قَولُهُ: (صَفًّا صَفًّا): أي يُصَفُّونَ صفًّا بعد صفٍّ، قد أحْدَقوا بالجنِّ والإنسِ، كما رُوِيَ أنَّ الملائكةَ كلَّهم يكونونَ صفوفًا حولَ الأرضٍ.


(3) قَولُهُ: (ويَوْمَ تَشَقَّقُ): المرادُ باليومِ يومُ القيامةِ، وتشقُّقُ السَّماءِ أي: انفطارُها.
قَولُهُ: (بِالغَمَامِ): أي يخرجُ منها الغمامُ، وهو السَّحابُ الأبيضُ، وحينئذٍ تنـزلُ الملائكةُ إلى الأرضِ فيحيطونَ بالخلائقِ في مقامِ المحشرِ، ثمَّ يجيءُ الرَّبُّ لفصلِ القضاءِ بين عبادِه، فهذه الآياتُ أفادتْ إثباتَ المجيءِ والنُّزولِ والإتيانِ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- كما يليقُ بجلالِه وعظمتِه، وهذه من صفاتِه -سُبْحَانَهُ- الفعليَّةِ، فيجبُ إثباتُ جميعِ الصِّفاتِ الواردةِ في الكتابِ والسُّنَّةِ، كما أثبتَها اللهُ -سُبْحَانَهُ- لنفسِه، وأَثْبَتها له رسولُه -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-، مِن غيرِ تحريفٍ ولا تعطيلٍ، ومِن غيرِ تكييفٍ ولا تمثيلٍ، ودلَّتْ هذه الآياتُ أيضًا على أنَّ نزولَهُ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- وإتيانَهُ ومجيئَهُ ونحوَ ذلك من أفعالِه أنَّه حقيقةٌ كما يليقُ بجلالِه وعظمتِه، إذِ الأصلُ الحقيقةُ ولا صارِفَ عن ذلك، خلافًا لأهلِ البدعِ، ودلَّتْ على أنَّه نزولٌ وإتيانٌ ومجيءٌ بذاتِه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- كما يليقُ بجلالِه وعظمتِه، خلافًا لأهلِ البدعِ الَّذين ينفونَ ذلك، ويؤَوِّلونَ مجيئَه بمجيءِ أمرِه، ونزولَه بِنـزولِ رحمتِه، أو بعضِ ملائكتِه ونحوِ ذلك، ويقولونَ هذا مجازُ حذفٍ، والتَّقديرُ في: (وَجَاءَ رَبُّكَ): أي أمرُه، ويَنـزِلُ ربُّنَا أي: أمرُه أو بعضُ ملائكتِه أو رحمتِه ونحوُ ذَلك من التَّأويلاتِ الفاسدةِ، ولا شَكَّ في بُطلانِ هذه التَّأويلاتِ ومصادمتِها أدلَّةَ الكتابِ والسُّنَّةِ الصَّريحةِ وما عليه أهلُ السُّنةِ والجماعةِ.
قالَ ابنُ القيِّمِ رحمَهُ اللهُ تعالى في (الصَّواعقِ المُرسَلَةِ): وممَّا ادَّعَوا فيه المجازَ قَولُهُ: (وَجَاءَ رَبُّكَ)، (هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ)، قالوا: هذا مجازُ الحذفِ، تقديرُه وجاء أمرُ ربِّكَ، وهذا باطلٌ من وجوهٍ:
أحدِها: إنَّه إضمارُ ما لا يدلُّ عليه اللَّفظُ بمطابقةٍ ولا تضمُّنٍ ولا لزومٍ، وادِّعاءُ حذفٍ بلا دليلٍ يرفعِ الوثوقِ مِن الخطابِ، وساقَ وجوهًا عديدةً في إبطالِ دَعْواهم المجازَ، وساقَ الأدلَّةَ الكثيرةَ الصَّريحةَ الدَّالَّةَ على أنَّه مجيءُ حقيقةٍ بذاتِه سُبْحَانَهُ. ا هـ.
والإتيانُ والمجيءُ المضافُ إليه -سُبْحَانَهُ- نوعانِ: مطلقٌ ومقيَّدٌ، فإذا كانَ مجيءُ رحمتِه أو عذابِه ونحوِ ذلكَ قُيِّدَ بذلك، كما في الحديثِ: ((حَتَّى جَاءَ اللهُ بالرَّحَمَةِ والخَيْرِ)) وقَولُهُ: (وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ).
النَّوعُ الثَّاني: الإتيانُ والمجيءُ المطلقُ فهذا لا يكونُ إلاَّ مجيئَه -سُبْحَانَهُ- كقَولِهِ: (هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ)، وقَولُهُ: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا). انتهى. من الصَّواعقِ ملخَّصًا.
وأفادتْ هذه الآياتُ إثباتَ أفعالِه -سُبْحَانَهُ- الاختياريَّةِ، فالإتيانُ والنُّزولُ والمجيءُ والاستواءُ، والارتفاعُ والصُّعودُ كلُّها أنواعُ أفعالِه، وهو فَعَّالٌ لِما يريدُ، وأفعالُه كصفاتِه قائمةٌ به سُبْحَانَهُ، ولولا ذلكَ لم يكنْ فَعَّالاً ولا موصوفًا بصفاتِ كمالِه،
وأفعالُه سُبْحَانَهُ: نوْعَان: لازمةٌ، ومتعدِّيةٌ، كما دلَّتِ النُّصوصُ الَّتي هي أكثرُ مِن أنْ تُحصرَ على إثباتِ النَّوعين، وأنَّها حقيقةٌ ليست بمجازٍ، وليست كأفعالِ المخلوقِ، فصفاتُه -سُبْحَانَهُ- تليقُ به، أمَّا المبتدعةُ فإنَّهم نَفَوْا أفعالَه، فزعمُوا أنَّها مجازٌ، فوقَعوا في مَحذورينِ: محذورِ التَّشبيهِ، ومحذورِ التَّعطيلِ، انتهى مِن كلامِ شيخِ الإسلامِ.
وفي هذه الآياتِ دليلٌ على إثباتِ علُوِّ اللهِ على خلقِه، لأنَّه لا يمكنُ أَنْ يأتيَ إلا مِن جهةِ العُلوِّ، وذكَرهُ ابنُ القيِّمِ أحدَ الطُّرقِ في إثباتِ العلوِّ).