11 Nov 2008
الإيمان بصفة الوجه الكريم
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وَقَوْلُهُُ : {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ}[سُورَةُ الرَّحْمَنِ : 27] ، {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ}[سُورَةُ الْقَصَصِ : 88]).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ مُحمَّد خَليل هَرَّاس رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وقَوْلُهُ: { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ }، { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ }(1)).
الشرح:
قال الشيخ محمد خليل هراس (ت: 1395هـ): ((1) قولُهُ: { وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ … } إلخ. تَضَمَّنَتْ هَاتانِ الآيتانِ إثباتَ صفةِ الوجهِ للهِ عزَّ وجلَّ.
والنُّصوصُ في إثباتِ الوجهِ مِن الكتابِ والسُّنَّةِ لا تُحصى كثرةً،
وكلُّهَا تنفِي تأويلَ المعطِّلةِ الَّذينَ يفسِّرون الوجهَ بالجهةِ أو الثَّوابِ أو الذَّاتِ،
والذي
عليهِ أهلُ الحقِّ أنَّ الوجهَ صفةٌ غيرُ الذَّاتِ، ولا يقتضي إثباتُهُ
كونَهُ تعالى مركَّبًا مِن أعضاءٍ؛ كمَا يقولُهُ المجسِّمةُ، بلْ هوَ صفةٌ
للهِ على ما يليقُ بهِ، فلا يُشْبِهُ وجهًا، ولا يُشبِهُهُ وجهٌ.
واستدلَّتِ المُعَطِّلةُ بهَاتينِ الآيتينِ على أنَّ المرادَ بالوجهِ الذَّاتُ، إذْ لا خصوصَ للوجهِ في البقاءِ وعدمِ الهلاكِ.
ونحنُ
نعارضُ هذا الاستدلالَ بأنَّهُ لو لمْ يكن للهِ عزَّ وجلَّ وجهٌ على
الحقيقةِ لَمَا جاءَ استعمالُ هذا اللَّفظِ في معنى الذَّاتِ؛ فإنَّ اللفظَ
الموضوعَ لمعنىً لا يمكنُ أنْ يُستعملَ في معنى آخرَ إلاَّ إذَا كانَ
المعنى الأصليُّ ثابتًا للموصوفِ، حتَّى يمكنَ للذِّهنِ أنْ ينتقِلَ مِن
الملزومِ إلى لازمِهِ.
على أَنَّهُ يمكنُ دفعُ مجازِهِمْ بطريقٍ آخرَ، فَيُقَالُ:
إنَّهُ أسندَ البقاءَ إلى الوجهِ، ويلزمُ منهُ بقاءُ الذَّاتِ؛ بدلاً مِن
أنْ يُقالَ: أطلقَ الوجهَ وأرادَ الذَّاتَ. وقَدْ ذكرَ البَيْهَقِيُّ نقلاً
عن الخَطَّّابيِّ أَنَّهُ تعالى لما أضافَ الوجهَ إلى الذَّاتِ، وأضافَ
النَّعتَ إلى الوجهِ، فقالَ: { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُوُ الجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ }؛ دلَّ على أنَّ ذِكرَ الوجهِ ليسَ بصلَةٍ، وأنَّ قولَهُ: { ذُو الجَلالِ وَالإِكرَامِ } صفةٌ للوجهِ، والوجهُ صفةٌ للذَّاتِ.
وكيفَ يمكنُ تأويلُ الوجهِ بالذَّاتِ أو بغيرِهَا في مثلِ قولِهِ عليهِ السَّلامُ في حديثِ الطائفِ: (( أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُماتُ … )) إلخ، وقولُهُ فيمَا رواهُ أبو موسى الأشعَرِيُّ: ((
حِجَابُهُ النُّورُ أَوْ النَّارُ، لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحاتُ
وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِن خَلْقِهِ ))؟!).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ: صالح بن فوزان الفوزان
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (إثباتُ الوجهِ للهِ سبحانَه:
وقَوْلُهُ: ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ )، ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ ).(1)).
الشرح:
قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: ((1)(وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ) هذه الآيةُ جاءت بعد قولِه تعالى: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ)
يخبرُ تعالى أنَّ جميعَ أهلِ الأرضِ سيذهبون ويموتون ولا يبقى سوى وجهِه
الكريمِ، فإنَّ الرَّبَّ سبحانَه لا يموتُ، بل هو الحيُّ الذي لا يموتُ
أبدًا.
(ذُو الْجَلاَلِ) أي العظمةِ والكبرياءِ
(وَالإِكْرَامِ) أي الْمُكْرِمِ لأنبيائِه وعبادِه الصَّالحين. وقيل: المُسْتَحِقُّ أن يُكْرَمَ عَن كُلِّ شيءٍ لا يَليقُ به.
وقولُه: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ) أي كُلُّ مَن في السَّماءِ ومَن في الأرضِ سيذهبون ويموتون. (إِلاَّ وَجْهَهُ) منصوبٌ عَلى الاستثناءِ. وهذا إخبارٌ بأنَّه الدَّائمُ الباقي الذي تموتُ الخلائقُ ولا يموتُ.
الشَّاهدُ مِن الآيتيْن: أنَّ فيهما إثباتَ الوجهِ لله سبحانَه، وهو مِن صفاتِه الذاتيّةِ، فهو وَجْهٌ عَلى حقيقتِه يليقُ بجلالهِ (لَيْسَ كَمِثْلهِ شَيْءٌ)
لا كما يزعمُ مُعَطِّلَةُ الصِّفاتِ أن الوجهَ ليس عَلى حقيقتِه، وإنما المرادُ به الذَّاتُ أو الثَّوابُ أو الجهةُ أو غيرُ ذلك، وهذه تأويلاتٌ باطلةٌ مِن وجوهٍ:
منها: أنَّه جاء عَطْفُ الوجهِ عَلى الذَّاتِ، كما في الحديثِ: (( أَعُوذُ باللهِ الْعَظِيمِ وَبِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ)) والعطفُ يقتضي الْمُغاَيَرةَ.
ومنها: أنَّه أضاف الوجهَ إلى الذَّاتِ، فقال: (وَجْهُ رَبِّك) ووصفَ الوجهَ بقولِه: (ذُو الْجَلالِ والإِكْرَامِ) فلو كان الوجهُ هو الذاتَ؛ لكان لفظُ الوجهِ في الآية صِلَةً، ولقال: (ذي الجلالِ والإكرامِ) فلمَّا قال (ذُو الجَلاَلِ)
تبيَّن أنَّه وَصْفٌ للوجهِ لا للذَّاتِ، وأنَّ الوجهَ صِفةٌ للذاتِ،
ومنها: أنَّه لا يُعْرَفُ في لُغةِ أمةٍ مِن الأممِ أنَّ وجهَ الشيْءِ
بمعنَى ذاتهِ أو الثَّوابِ، والوجهُ في اللُّغةِ مُسْتَقْبِلُ كُلَّ
شَيْءٍ؛ لأنَّه أوَّلُ ما يُواجَهُ منه، وهو في كُلِّ شيءٍ بحَسبِ ما
يُضَافُ إليه).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (قولُهُ: (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ) [الرحمن: 27].(1)
قولُهُ: (كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ) [القصص: 88]).
الشرح:
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): ((1) ذَكَرَ المؤلِّفُ -رحمَهُ اللَّهُ- لإثباتِ صفةِ الوجهِ لِلَّهِ - تَعَالَى - آيتَيْنِ:
الآيةُ الأُولى: قولُهُ: (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ) [الرحمن: 27].
وهذِهِ معطوفةٌ عَلَى قولِهِ - تَعَالَى -: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ) [الرحمن: 26-27]، وَلِهَذَا قَالَ بعضُ السَّلَفِ: يَنبغِي إِذَا قرأتَ: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ)، أنْ تَصِلَها بقولِهِ: (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ)، حَتَّى يتبيَّنَ نقصُ المخلوقِ وكمالُ الخالقِ، وذلِكَ للتَّقابلِ، هَذَا فناءٌ وَهَذَا بقاءٌ، (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ) [الرحمن: 26-27].
قولُهُ - تَعَالَى -: (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ)، أيْ: لاَ يفنى.
والوجهُ:
معناهُ معلومٌ، لكنَّ كيفيَّتَهُ مجهولةٌ، لاَ نعلمُ كَيْفَ وَجْهُ
اللَّهِ - عزَّ وجلَّ -، كسائرِ صفاتِهِ، لكنَّنا نؤمنُ بأنَّ لَهُ وجهاً
موصوفاً بالجلالِ والإكرامِ، وموصوفاً بالبهاءِ والعظمةِ، والنُّورِ
العظيمِ، حَتَّى قَالَ النَّبيُّ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ -: ((حِجَابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ، لأَحْرَقَتْ سُبُحاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ)).
(سُبُحاتُ وجهِهِ)، يعني: بهاءَه وعظمتَه وجلالَهُ ونورَه.
(مَا انتهى إِلَيْهِ بصرُهُ مِنْ خلقِهِ): وبصرهُ ينتهِيَ إِلَى كُلِّ شيءٍ، وعلَيْهِ، فلو كشَفَ هَذَا الحجابَ – حجابَ النُّورِ عن وجهِهِ-، لاحترقَ كُلُّ شيءٍ.
لِهَذَا نقولُ: هَذَا الوجهُ وجهٌ عظيمٌ، لاَ يمكنُ أبداً أنْ يماثِلَ أوجهَ المخلوقاتِ.
وبناءً عَلَى هَذَا نقولُ: مِنْ عقيدتِنا أنَّنَا نثبتُ أنَّ لِلَّهِ وجهاً حقيقةً، ونأخذُه مِنْ قولِهِ - تَعَالَى -: (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ)، ونقولُ بأنَّ هَذَا الوجهَ لاَ يماثلُ أوجهَ المخلوقينَ، لقولِهِ - تَعَالَى -: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى: 11]، ونجهلُ كيفيَّةَ هَذَا الوجهِ، لقولِهِ - تَعَالَى -: (وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) [طه: 110].
فإنْ
حاولَ أحدٌ أنْ يتصوَّرَ هذِهِ الكيفيَّةَ بقلبِهِ، أوْ أنْ يتحدَّثَ عنها
بلسانِهِ قُلنْا: إنَّكَ مبتدعٌ ضالٌّ، قائلٌ عَلَى اللَّه مَا لاَ تعلمُ،
وقدْ حرَّم اللَّهُ علينَا أنْ نقولُ عليْهِ مَا لاَ نعلمُ، قَالَ -
تَعَالَى -: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ
الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثُمَّ وَالْبَغْيَ
بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ
سُلْطَاناً، وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) [الأعراف: 33]، وقَالَ - تَعَالَى -: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَاد كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً) [الإسراء: 36].
وهُنَا قالَ: (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ)،
أضافَ الرُّبوبيَّةَ إِلَى محمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-، وهذِهِ الربوبيةُ أخصُّ مَا يكونُ مِنْ أنواعِ الربوبيةِ؛ لأنَّ
الربوبيةَ عامَّةٌ وخاصَّةٌ، والخاصَّةُ خاصَّةٌ أخصُّ، وخاصَّةٌ فَوْقَ
ذلِكَ، كربوبيَّةِ اللَّهِ - تَعَالَى - لرسِلِهِ، فالربوبيةُ الأخصُ أفضلُ
بلاَ شكٍّ.
وقولَهُ (ذُو): صفةٌ لوجهٍ، والدَّليلُ الرفعُ، ولو كانتْ صِفةً للرَّبِّ، لقَالَ (ذي) الجلالِ، كَمَا قَالَ فِي نَفْسِ السُّورةِ: (تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ) [الرحمن: 78]، فلمَّا قالَ: (ذُو الْجَلالِ)، علمْنَا أنَّهُ وصفٌ للوجهِ.
(الْجَلالِ): معناه العظمةُ والسلطانُ.
(وَالإِكْرَامِ):
هِيَ مصدرٌ مِنْ أكرمَ، صالحةٌ للمكرِم والمكرَم، فاللَّهُ - سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى - مُكْرَم، وإكرامُهُ - تَعَالَى - القيامُ بطاعتِهِ، ومُكْرِمٌ
لمن يستحقُ الإكرامَ مِنْ خلقِهِ بمَا أعدَّ لَهُم مِنَ الثَّوابِ.
فهُوَ
- لجلالِهِ وكمالِ سلطانِهِ وعظمتِهِ -، أهلٌ لأنْ يُكْرَمَ ويُثْنى
عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى، وإكرامُ كُلِّ أحدٍ بحسبِهِ، فإكرامُ
اللَّهِ - عزَّ وجلَّ - أنْ تقدِّرَه حقَّ قدرِه، وأنْ تُعظِّمَه حقَّ
تعظيمِه، لاَ لاحتياجِهِ إِلَى إكرامِكَ، ولكنْ ليَمُنَّ عليْكَ بالجزاءِ.
الآيةَ الثَّانِيَةَ: قولُهُ: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ) [القصص: 88].
قولُهُ: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ)، أيْ: فانٍ، كقولِهِ: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ) [الرحمن: 26].
وقولُهُ: (إلاَّ وَجْهَهُ): توازي قولَهُ: (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ).
فالمعنى: كُلُّ شيءٍ فانٍ وزائلٌ، إِلاَّ وجهَ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ -، فإنَّهُ باقٍ، وَلِهَذَا قالَ: (لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [القصص: 88]، فَهُوَ الحَكَمُ الباقي الَّذِي يرجعُ إِلَيْهِ النَّاسُ ليَحكُمَ بينَهُمْ.
وقِيلَ: فِي معنى الآيةِ: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ)، أيْ: إلاّ مَا أُريدَ بهِ وجهُهُ، قالوا: لأنَّ سياقَ الآيةِ يدلُّ عَلَى ذلِكَ.
(وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا ءَاخَرَ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ، كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ)
[القصص: 88]، كأنَّهُ يقولُ: لاَ تدعُ معَ اللَّهِ إلَهُاً آخرَ فتشركَ
بِهِ؛ لأنَّ عملَكَ وإشراكَكَ هالكٌ، أيْ: ضائعٌ سُدًى، إِلاَّ مَا
أخلصْتَه لوجهِ اللَّهِ، فإنَّهُ يبقَى؛ لأنَّ العملَ الصَّالِحَ لَهُ
ثوابٌ باقٍ لاَ يفنَى فِي جنَّاتِ النَّعيمِ.
ولكنَّ المَعْنَى الأوَّلَ أسدُّ وأَقْوَى.
وعَلَى
طريقةِ مَنْ يقولُ بجوازِ استعمالٍ المشتركِ فِي معنَيَيْهِ نقولُ: يمكنُ
أنْ نحملَ الآيةَ عَلَى المعنيَيْنِ؛ إذْ لاَ منافاةَ بينهما، فتُحملُ
عَلَى هَذَا وهَذَا، فيقالُ: كُلُّ شيءٍ يفنى إلاَّ وجهُ اللَّهِ - عزَّ
وجلَّ -، وكُلُّ شيءٍ من الأعمالِ يذهبُ هباءً، إِلاَّ مَا أُريدَ بِهِ
وجْهُ اللَّهِ.
وعَلَى أيِّ التَّقديرَيْنِ ففِي الآيةِ دليلٌ عَلَى ثبوتِ الوجهِ لِلَّهِ - عزَّ وجلَّ -.
وهُوَ
مِنَ الصِّفاتِ الذاتيَّةِ الخبريَّةِ، الَّتِي مُسمَّاها بالنِّسبةِ
إلينَا أبعاضٌ وأجزاءٌ، ولاَ نقولُ: مِنَ الصِّفاتِ الذاتيَّةِ
المعنويَّةِ، ولو قلْنَا بذلِكَ لكُنَّا نوافِقُ مَنْ تأوَّلَهَُ تحريفاً،
ولاَ نقولُ: إنها بعضٌ مِن اللَّهِ، أو: جزءٌ مِنَ اللَّهِ؛ لأنَّ ذلِكَ
يُوهمُ نقصاً لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَ- تَعَالَى -.
هَذَا
وقدْ فسرَّ أهلُ التَّحريفِ وجهَ اللَّهِ بثوابِهِ، فَقَالَوا: المرادُ
بالوجْهِ فِي الآيةِ الثَّوابُ، كُلُّ شيءٍ يفنَى، إِلاَّ ثوابُ اللَّهِ!
ففسَّروا
الوجهَ الَّذِي هُوَ صفةُ كمالٍ فسَّروه بشيءٍ مخلوقٍ بائنٍ عَنِ اللَّهَ،
قابلٍ للعدمِ والوجودِ، فالثوابُ حادثٌ بعدَ أنْ لَمْ يكنْ، وجائزٌ أنْ
يرتفعَ، لولاَ وعدُ اللَّهِ ببقائِهِ، لكَانَ مِنْ حَيْثُ العقلُ جائزاً
أنْ يرتفعَ، أعنِي: الثَّوابَ!
فهلْ تقولونَ الآنَ: إنَّ وجهَ اللَّهِ الَّذِي وصفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ بابِ الممكنِ أوْ مِنْ بابِ الواجبِ؟
إِذَا فسَّروه بالثَّوابِ صارَ مِنْ بابِ الممكنِ الَّذِي يجوزُ وجودُه وعدمُه.
وقولُهم مردودٌ بمَا يلي:
أَوَّلاً: أنَّهُ مخالفٌ لظاهرِ اللَّفظِ، فإنَّ ظاهرَ اللَّفظِ أنَّ هَذَا وجهٌ خاصٌ، وليسَ هُوَ الثَّوابُ.
ثانياً:
أنَّهُ مخالفٌ لإجماعِ السَّلفِ، فمَا مِنَ السَّلفِ أحدٌ قالَ: إنَّ
المرادَ بالوجهِ الثَّوابُ!، وهذِهِ كُتبُهُم بينَ أيديِنا مزبورةٌ
محفوظةٌ، أخرِجوا لنا نصًّا عن الصَّحابةِ، أوْ عن أئمَّةِ التَّابِعينَ،
ومَنْ تَبِعَهُمْ بإحسانٍ، أنهَّم فسَّروا هَذَا التَّفسيرَ! لنْ تَجِدوا
إِلَى ذلِكَ سبيلاً أبداً.
ثالثاً: هلْ يمكنُ أنْ يوصفَ الثوابُ بهذِهِ الصِّفاتِ العظيمةِ؟! (ذُو الْجَلاَلِ وَالإْكْرَامِ) [الرحمن: 27]؟!
لاَ
يمكنُ. لو قلْنا مثلاً: جزاءُ المتَّقِينَ ذو جلالٍ وإكرامٍ!، فهَذَا لاَ
يجوزُ أبداً، واللَّهُ - تَعَالَى - وصَفَ هَذَا الوجْهَ بأنَّهُ ذو
الجلالِ والإكرامِ.
رابعاً: نقولُ: مَا تقولونَ فِي قوْلِ الرَّسولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((حِجَابهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ)). فهلِ الثوابُ لَهُ هَذَا النُّورُ الَّذِي يحرقُ مَا انتهَى إِلَيْهِ بصرُ اللَّهِ مِنَ الخلقِ؟! أبداً، ولاَ يمكنُ.
وبهَذَا
عرفْنَا بطلانَ قولِهم، وأنَّ الواجبَ علينْا أنْ نُفَسِّرَ هَذَا الوجْهَ
بمَا أرادَهُ اللَّهُ بهِ، وَهُوَ وجْهٌ قائمٌ بهِ تباركَ وَ- تَعَالَى -،
موصوفٌ بالجلالِ والإكرامِ.
فإنْ قلْتَ: هلْ كُلُّ مَا جاءَ مِنْ كلمةِ (الوجهِ) مضافاً إِلَى اللَّهِ يُرادُ بهِ وجهُ اللَّهِ الَّذِي هُوَ صفَتُه؟
فالجوابُ: هَذَا هُوَ الأصلُ، كَمَا فِي قولِهِ - تَعَالَى -: (وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) [الأنعام:52]، (وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى، إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى، وَلَسَوْفَ يَرْضَى) [الليل: 19-21]… ومَا أشبهَهَا مِنَ الآياتِ.
فالأصلُ:
أنَّ المرادَ بالوجهِ المضافِ إِلَى اللَّهِ وجهُ اللِه - عزَّ وجلَّ -،
الَّذِي هُوَ صفةٌ مِنْ صفاتِهِ، لكنْ هَنَاكَ كلمةٌ اختلفَ المفسرِّونَ
فِيهِا، وهِيَ قولُهُ - تَعَالَى -: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ، فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثُمَّ وَجْهُ اللَّهِ) [البقرة: 115].
(فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ)، يعني: إِلَى أيِّ مكانٍ تُولُّوا وجوهَكُم عندَ الصَّلاةِ، (فَثُمَّ)، أيْ: فهناكَ وجهُ اللَّهِ.
فمِنْهُم مَنْ قالَ: إنَّ الوجهَ بمعنى الجهةِ، لقولِهِ - تَعَالَى -: (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا) [البقرة: 148]، فالمرادُ بالوجهِ الجهةُ، أيْ: فَثَمَّ جهةُ اللَّهِ، أيْ: فثَمَّ الجهةُ الَّتِي يقبلُ اللَّهُ صلاتَكُم إِلَيْهِا.
قالوا:
لأنَّهَا نزلتْ فِي حالِ السَّفرِ، إِذَا صلى الإنسانُ النَّافلةَ فإنَّهُ
يصلِّي حَيْثُ كَانَ وجههُ، أوْ إِذَا اشتبهَتِ القبلةُ فإنَّهُ يتحرَّى،
ويصلِّي حَيْثُ كَانَ وجهُهُ.
ولكنَّ الصَّحيحَ أنَّ المرادَ بالوجهِ هُنَا:
وجهُ اللَّهِ الحقيقيُّ، أيْ: إِلَى أيِّ جهةٍ تتوجَّهونَ فثَمَّ وجهُ
اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَ- تَعَالَى -؛ لأنَّ اللَّهَ محيطٌ بكُلِّ شيءٍ،
ولأنَّهُ ثبتَ عَنِ النَّبيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنَّ
المصلِّي إِذَا قامَ يصلِّي فإنَّ اللَّهَ قَبِلَ وجهَهُ، وَلِهَذَا نَهَى
أنْ يَبصُقَ أمامَ وجهِهِ؛ لأنَّ اللَّهَ قِبَلَ وجهِهِ.
فَإِذَا
صلَّيْتَ فِي مكانٍ لاَ تَدري أينَ القبلةُ واجتهدْتَ وتحرَّيْتَ وصليْتَ
وصارتِ القبلةُ فِي الواقعِ خلفَكَ، فاللَّهُ يكونُ قَبِلَ وجهِكَ، حَتَّى
فِي هذِهِ الحالِ.
وَهَذَا معنًى صحيحٌ موافقٌ لظاهرِ الآيةِ.
والمَعْنَى الأوَّلُ لاَ يخالفهُ فِي الواقعِ.
إِذَا
قلْنَا: فثَمَّ جهةُ اللَّهِ، وكَانَ هَنَاكَ دليلٌ، سواءٌ كَانَ هَذَا
الدَّليلُ تفسيرَ الآيةِ الثَّانِيَةِ فِي الوجهِ الثَّاني، أوْ كَانَ
الدَّليلُ مَا جاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ، فإنَّكَ إِذَا توجهْتَ إِلَى
اللَّهِ فِي صلاتِكَ فهِيَ جهةُ اللَّهِ الَّتِي يقبلُ اللَّهُ صلاتَكَ
إليْهَا، فثَمَّ أيضاً وجهُ اللَّهِ حقًّا، وحينئذٍ يكونُ المعنيانِ لاَ
يَتنافيانِ.
واعلمْ
أنَّ هَذَا الوجهَ العظيمَ الموصوفَ بالجلالِ والإكرامِ وجهٌ لاَ يمكنُ
الإحاطةُ بِهِ وصفاً، ولاَ يمكنُ الإحاطةُ بهِ تصوراً، بلْ كُلُّ شيءٍ
تُقدِّرُه، فإنَّ اللَّه - تَعَالَى - فَوْقَ ذلِكَ وأعظمُ، كَمَا قَالَ -
تَعَالَى -: (وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) [طه: 110].
فإنْ قِيلَ: مَا المرادُ بالوجهِ فِي قولِهِ: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ) [القصص: 88]؟
إنْ
قلْتَ: المرادُ بالوجهِ الذَّاتُ، فيُخشى أنْ تكونَ حرَّفْتَ، وإنْ أردتَ
بالوجهِ نَفْسَ الصِّفةِ – أيضاً -، وقعْتَ فِي محظورٍ – وَهُوَ مَا ذهبَ
إِلَيْهِ بعضُ مَنْ لاَ يقدرِّونَ اللَّهَ حقَّ قدرِهِ، حَيْثُ قالوا: إنَّ
اللَّه يفنَى إِلاَّ وجهُهُ- فمَاذَا تصنعُ؟!
فالجوابُ:
إنْ أردتَ بقولِكِ: إِلاَّ ذاتَهُ، يعني: أنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - يبقَى
هُوَ نَفْسُه مَعَ إثباتِ الوجهِ لِلَّهِ، فهَذَا صحيحٌ، ويكونُ هُنَا
عبَّرَ بالوجهِ عنِ الذَّاتِ لمَنْ لَهُ وجْهٌ.
وإنْ أردتَ بقولِكَ: الذَّاتُ: أنَّ الوجهَ عبارةٌ عَنِ الذاتِ بدونِ إثباتِ الوجهِ، فهَذَا تحريفٌ وغيرُ مقبولٍ.
وعليْهِ فنقولُ: (إِلاَّ وَجْهَهُ)، أيْ:
إِلاَّ ذاتَهُ المتَّصفةَ بالوجْهِ، وَهَذَا ليسَ فِيهِ شيءٌ؛ لأنَّ
الفرقَ بينَ هَذَا وبينَ قولِ أهلِ التَّحريفِ أنَّ هؤلاءِ يقولون: إنَّ
المرادَ بالوجهِ الذاتُ، ولاَ وجْهَ لَهُ، ونَحْنُ نقولُ: المرادُ بالوجه
الذاتُ؛ لأنَّ لَهُ وجهاً، فعبَّرَ بِهِ عن الذَّاتِ).
الروضة الندية للشيخ: زيد بن عبد العزيز بن فياض رحمه الله
المتن:
قال أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (* إثبات صفة الوجه لله *
وقَوْلُهُ: ({وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ}، {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ} ) .
الشرح:
قال الشيخ زيد بن عبد العزيز بن فياض (ت: 1416هـ): (إثباتُ
صفةِ الوَجْهِ لِلَّهِ قد دَلَّ عليها القرآنُ، والسُّنَّةُ، وإجْماعُ
السَّلَفِ، وأهلُ السُّنَّةِ، والوَجْهُ صفةٌ ذاتيةٌ له تَعَالَى .
وقدْ أنْكَرَتِ الجَهْمِيَّةُ ونحـوُهم أنْ يُوصَفَ اللَّهُ بأنَّ له وَجهاً ، وتأوَّلُوا ما وَرَدَ في ذلك تأويلاتٍ فاسدةً ،
فمنهم مَن قَالَ : المرادُ به الثوابُ، ومنهم مَن قَالَ : القِبْلَةُ، ومنهم مَن قَالَ : الوجهُ صِلَةٌ والتَّقديرُ : وَيَبْقَى رَبُّكَ.
ودَعْوى المَجازِ في ذلك باطِلةٌ. فإنَّ المَجازَ لا يمتَنِعُ نفْيُه .
فعلى هذا لا يمتَنِعُ أنْ يُقالَ لَيْسَ لِلَّهِ وَجهٌ ولا حقيقةَ
لوَجْهِهِ . وهذا تكذيبٌ لِمَا أخْبَرَ اللَّهُ به عن نَفْسِه وأخبَرَ به
عنه رَسُولُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولو سَاغَ دعوى الزيادةِ
في ذلك لَسَاغَ لمُعطِّلٍ آخَرَ أنْ يدَّعِيَ الزيادةَ في صِفَاتٍ أُخْرى ،
وأيضاً فقد ذَكَرَ الخطَّابِيُّ والبَيْهَقِيُّ وغيرُهما أنه تَعَالَى
لمَّا أضافَ الوَجْهَ إلى الذَّاتِ وأضافَ النعْتَ إلى الوَجهِ فَقَالَ : {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ}. دَلَّ على أنَّ ذِكْرَ الوَجْهِ لَيْسَ بِصِلَةٍ ، وأنَّ قوْلَه: {ذو الجلالِ والإكرام}ِ صفةٌ للوَجْهِ ، وأنَّ الوَجْهَ صفةٌ للذاتِ .
فتأمَّلْ رَفْعَ قولِه : ذو الجَلالِ والإكرامِ عند ذِكْرِ الوَجهِ ، وجَرَّه في قوله :{ تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ }
وأيضاً فإنه لا يُعْرَفُ في لغةٍ مِن لغاتِ الأُمَمِ وَجهُ الشَّيْءِ
بمعنى ذاتِه ونَفْسِه . . والوَجهُ في اللُّغَةِ مستقْبَلُ كلِّ شيءٍ لأنه
أوَّلُ ما يواجَه منه، ووَجْهُ الرأيِ والأمْرِ ما يَظهَرُ أنه صَوابُه،
وهو في كلِّ مَحَلٍّ بحسَبِ ما يُضافُ إليه، فإنْ أُضِيفَ إلى زمَنٍ كان
الوجهُ زمَناً ، وإنْ أُضِيفَ إلى حيوانٍ كان بحسَبِه ، وإنْ أُضِيفَ إلى
ثَوبٍ أو حائطٍ كان بحسَبِه ، وإنْ أُضِيفَ إلى مَن لَيْسَ كمِثْلِه شيءٌ
كان وجْهُه تَعَالَى كذلك ، وأما حَمْلُه على الثوابِ المُنْفَصِلِ فهو مِن
أَبْطَلِ الباطِلِ . فإنَّ اللُّغَةَ لا تَحْتَمِلُ ذلك ولا يُعْرَفُ أنَّ
الجزاءَ يُسَمَّى وَجهاً للمُجازِيِّ . ثم إِنَّ الثوابَ مخلوقٌ ، وقد
صَحَّ عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه استَعاذَ
بوَجهِ اللَّهِ فَقَالَ : " أَعُوذُ بِوَجْهِكَ
الْكَرِيمِ أَنْ تُضِلَّنِي ، لاَ إِلَهَ إلاَّ أَنْتَ الْحَيُّ الَّذِي
لاَ يَمُوتُ وَالْجِنُّ وَالإِنْسُ يَمُوتُونُ " . رواه أبو داودَ وغيرُه ، ومِن دُعائِه يومَ الطَّائفِ : " أَعُوذُ بِوَجْهِكَ الْكَـرِيمِ الَّذِي أَشْـرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ ، وَصَلَحَ عَلَيْهِ أَمْـرُ الدُّنْيَـا وَالآخِـرَةِ "
ولا يُظَنُّ برسـولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنْ
يَسْتعيذَ بمخلوقٍ ، والأحـاديثُ في الاستعـاذةِ بوجـهِ اللَّهِ كثـيرةٌ ،
وكان النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعو في دُعائِه : "أسألُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ وَالشَّوْقَ إلى لِقَائِكَ" ولا يُعرَفُ تسميةُ الثَّوابِ وَجهاً لغةً ولا شَرْعاً ولا عُرْفاً ، وقولُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " حِجَابُهُ النُّورُ ، لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ ".
فإضافةُ السُّبُحاتِ الَّتِي هي الجَلالُ والنورُ إلى الوَجهِ ، وإضافةُ
البَصَرِ إليه تُبْطِلُ كلَّ مَجازٍ ، وتُبيِّنُ أنَّ المرادَ وَجهُه ،
وقَالَ عبدُ اللَّه بنُ مسعودٍ : لَيْسَ عِنْدَ رَبِّكُمْ لَيْلٌ وَلاَ
نَهَارٌ ، نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مِنْ نُورِ وَجْهِهِ . فهل
يَصِحُّ أنْ يُحْمَلَ الوَجهُ في هذا على مخلوقٍ ، أو يكونَ صِلَةً لا معنى
له ، أو يكونَ بمعنى القِبْلَةِ والجِهَةِ ، وهذا مطابِقٌ لقولِه عليه
السَّلامُ : " أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ "
فأضافَ النورَ إلى الوجهِ ، والوجهَ إلى الذَّاتِ ، واستعاذَ بنُورِ
الوجهِ الكريمِ . فعُلِمَ أنَّ نُورَه صفةٌ له ، كما أنَّ الوجهَ صفةٌ
ذاتيَّةٌ ، وهذا الَّذِي قاله ابنُ مسعودٍ في تفسيرِ قولِه : {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}
وقد اتَّفَقَ أهلُ الحقِّ على رؤيةِ المؤمنينَ اللَّهَ في الجَنَّةِ .
فمَنْ أنْكَرَ حقيقةَ الوجهِ لم يكُنْ للنَّظَرِ عندَه حقيقةٌ ، ولا
سِيَّمَا إذا أنْكَرَ الوجهَ والعُلُوَّ ، فيعودُ النظَرُ عندَه إلى خيالٍ
مُجرَّدٍ ، وحَيْثُ وَرَدَ الوجهُ فإنما وَرَدَ مضافاً إلى الذَّاتِ في
جميعِ مَواردِه ،
والمضافُ إلى الرَّبِّ تَعَالَى نوعانِ :
أعيانٌ قائمةٌ بنَفْسِها كبَيْتِ اللَّهِ ، وناقةِ اللَّهِ ، ورُوحِ
اللَّهِ ، وعبدِ اللَّهِ ، ورسولِه . فهذه إضافةُ تشريفٍ وتخصيصٍ ، وهي
إضافةُ مملوكٍ إلى مالِكِه .
( الثَّاني )
صِفَاتٌ لا تقومُ بنَفْسِها . كعِلمِ اللَّهِ ، وحياتِه ، وقُدْرتِه ،
وعِزَّتِه ، وسمْعِه ، وبَصَرِه ونورِه وكلامِه . فهذه إذا وَرَدتْ مُضافةً
إليه فهي إضافةُ صفةٍ إلى الموصوفِ بها ، وهذه الإضافةُ تنفي أنْ يكونَ
الوجهُ مَخلوقاً ، وأنْ يكونَ حَشْواً في الكلامِ ، وفي "سُننِ أبي داودَ"
عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان إذا دَخَلَ المسجدَ ، قَالَ
: أعوذُ باللَّهِ العظيمِ وبَوجِهه الكريمِ ، وسُلطانِه القديمِ مِن الشيطانِ الرجيمِ .
فتأمَّلْ كيفَ قرَّرَه في الاستعاذَةِ بين استعاذَتِه بالذَّاتِ وبين
استعاذَتِه بالوجهِ الكريمِ ، وهذا صريحٌ في إبطالِ قولِ مَن قَالَ : إنه
الذَّاتُ نَفْسُها ، وقولِ مَن قَالَ : إنه مَخلوقٌ).
التنبيهات السنية للشيخ: عبد العزيز بن ناصر الرشيد رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وقَوْلُهُ: (كلُّ مَنْ عليْهَا فانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ ).(1)
وقوله: ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ ).(2)).
الشرح:
قال الشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد (ت: 1408هـ): ((1) قَولُهُ: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ): أي كلُّ مَن على الأرضِ يُعْدَمُ ويَمُوتُ، ويبقى وجهُه سُبْحَانَهُ،
قال الشَّعبيُّ رحمه اللهُ: إذا قرأتَ قَولَهُ: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ) فلا تسكتْ حتَّى تقرأَ قَولَهُ: (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ)
وهذا مِن فقهِهِم في القرآنِ، وكمالِ علمِهِم؛ إذ المقصودُ الإخبارُ
بفناءِ مَنْ عليها مع بقاءِ وجههِ، فإنَّ الآيةَ سِيقتْ لبيانِ تَمَدُّحِهِ
-سُبْحَانَهُ- بالبقاءِ وحدَه، ومجرَّدُ فناءِ الخليقةِ ليسَ فيه مدحٌ،
إنَّما المدحُ في بقائِه -سُبْحَانَهُ- بعد فناءِ خلقهِ، فهي نظيرُ قَولِهِ
سُبْحَانَهُ: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ). انتهى. مِن كلامِ ابنِ القيِّمِ.
قَولُهُ: (وَجْهُ رَبِّكَ):
فيه إثباتُ صفاتِ الوجهِ للهِ، وهو مِن الصِّفاتِ الذَّاتيَّةِ كالسَّمْعِ
والبصرِ واليدينِ وغيِرِ ذلك من الصِّفاتِ، فعلى العبادِ الإيمانُ بها،
والتَّسليمُ واعتقادُ أنَّها حقيقةٌ تليقُ بجلالِ اللِه وعظمتِه، وعلى هذا
مَضَى الصَّحابةُ والتَّابعونَ والأئمَّةُ.
قَولُهُ: (ذُو الجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ): أي ذو العظمةِ والكبرياءِ.
قَولُهُ: (وَالإِكْرَامِ):
أي المُكرِّمِ لأنبيائِه وعبادِه الصَّالحين، وقيلَ: ذو الجلالِ أيْ: هو
المستحِقُّ لأنْ يُجَّلَ ولأنْ يُكَرَمَ، والإجلالُ يتضمَّنُ التَّعظيمَ،
والإكرامُ يتضمَّنُ الحمدَ والمحبَّةَ، وقد قالَ بعضُ السَّلفِ: لا
يَهديَّنَّ أحدُكُم للهِ ما يستحي أحدُكُم أنْ يهديَهُ لكريمِه، فإنَّ
اللهَ أكرمُ الكُرماءِ، أي هو أحقُّ مِن كلِّ شيءٍ بالإكرامِ، إذ كانَ
أكرمَ مِن كلِّ شيءٍ، وقالَ أيضًا: وإذا كان مستحقًّا للإجلالِ والإكرامِ
لَزِم أنْ يكونَ متَّصفًا في نفسِه بما يوجبُ ذلك، كما إذا قالَ الإلهُ: هو
المستحِقُّ لأنَّه يؤلَّهُ أي يُعبدُ، كان هو في نفسِه مستَحِقًّا لما
يوجبُ ذلك، والإجلالُ من جنسِ التَّعظيمِ، والإكرامُ من جنسِ الحُبِّ
والحمدِ، وهذا كقَولِهِ: (لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ) فله الإجلالُ وله الإكرامُ والحمدُ. انتهى. مِن كلامِ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميةَ.
(2) قَولُهُ: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ):
أي أَنَّ جميعَ أهلِ الأرضِ وأهلِ السَّماء سيموتونَ ويذهَبُون إلاَّ مَنْ
شاءَ اللهُ، ولا يبقى إلاَّ وجهُه -سُبْحَانَهُ وتعالى-، والمُسْتثنى من
الهلاكِ والفناءِ ثمانيةٌ، نَظمها السُّيوطيُّ بقَولِهِ:
ثمانيةٌ حُكْمُ البقاءِ يَعُمُّهَـــا ... مِنَ الخلْقِ والبَاقونَ في حيِّزِ العَدَمِ
هي العَرشُ و الكرسِيُّ نارٌ وجنَّةٌ ... وعجبٌ وأرواحٌ كذا اللَّوحُ والقلمُ
وأمَّا قَولُهُ:(كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ)، وقَولُهُ: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ)
فإنَّ المُرادَ كلُّ شيءٍ كُتِبَ عليه الفناءُ والهلاكُ هالكٌ، والجنَّةُ
والنَّارُ خُلقتَا للبقاءِ لا للفناءِ، وكذا العرشُ فإنَّهُ سقفُ الجنَّةِ
والكرسيُّ إلى آخرِها، فإنَّ عمومَ (كُلُّ) في كلِّ مقامٍ بحسبهِ، ويُعرَفُ ذلكَ بالقرائِن كقَولِهِ: (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأْصْبَحُواْ لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ )
ومساكنهُم شيءٌ لم تدخلْ في عمومِ كلِّ شيءٍ؛ لأنَّ المُرادَ تدمِّرُ كلَّ
شيءٍ يقبلُ التَّدميرَ بالرِّيحِ عادةً، وكقَولِهِ عن بلقيسَ: (وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ) فالمرادُ من كلِّ شيءٍ يحتاجُ إليه الملوكُ، وهذا القيدُ يُفهَمُ من قرائنِ الكلامِ، إذ المرادُ أَنَّها مَلِكةٌ تامَّةُ المُلكِ.
ففي هذه الآياتِ كغيرِها من أدلَّةِ الكتابِ والسُّنـَّةِ إثباتُ صفةِ الوجهِ للهِ -سُبْحَانَهُ
وتعالَى-، كما يليقُ بجلالِهِ وعظمتِهِ، وإثباتُ أنَّهُ وجهٌ حقيقةً لا
يُشبِهُ وجوهَ خلقِه، ليسَ كمثلِهِ شيءٌ، وهذا هو الَّذي عليه أهلُ
السُّنـَّةِ والجمَاعةِ،
خلافًا
للمُبْتَدعةِ من الجهميَّةِ وأشباهِهم، ممَّن نَفى الوجهَ وعطَّـلَه،
وزعمَ أنَّه مجازٌ عن الذَّاتِ، أو الثَّوابِ أو الجهةِ أو غيِرِ ذلك، وهذه
تأويلاتٌ باطلةٌ من وجوهٍ عديدةٍ، منها أنَّه فرَّقَ بين الذَّاتِ
والوجهِ، وعطفُ أحدِهِما على الآخرِ يَقْتضِي المُغايرةَ، كما في حديثِ: ((إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ المسْجِدَ قَالَ أَعُوذُ باللهِ الْعظِيمِ وبِوجْهِهِ الكرِيْمِ))،
ومنها
أنَّه أضافَ الوجهَ إلى الذَّاتِ، وأضافَ النَّعتَ إلى الوجهِ، ولو كانَ
ذِكْرُ الوجهِ صلةً ولم يكن صفةً للذَّاتِ لقالَ ذي الجلالِ، فلمَّا قالَ
ذو الجلالِ تبيَّنَ أنَّه نعتٌ للوجهِ، وأنَّ الوجهَ صفةٌ للذَّاتِ، كما
ذكرَ معنى ذلك البَيْهقيُّ والخطَّابيُّ، وروى مسلمٌ في صحيحِه حديثَ: ((إنَّ
اللهَ لا يَنَامُ ولا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، حِجَابُهُ النُّورُ
لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبْحَاتُ وجهِهِ ما انْتَهَى إليهِ بَصَرُهُ
مِنْ خَلْقِهِ)).
ومنها أنَّ الوجهَ حيثُ وردَ فإنَّما وردَ مضافًا إلى الذَّاتِ في جميعِ مواردِه،
والمضافُ إلى الرَّبِّ نوعانِ:
أعيانٌ قائمةٌ بنفسِها، كبيتِ اللهِ وناقةِ اللهِ ورَوْحِ اللهِ وعبدِ اللهِ، فهذه إضافةُ تشريفٍ وتخصيصٍ، وهي إضافةُ مملوكٍ إلى مالكِهِ.
الثَّاني:
صِفاتٌ لا تقومُ بنفسِها، كعلمِ اللهِ وحياتِه وقُدرتِه وسَمْعِه وبصرِه
ونورِه، فهذه إضافتهُا إليه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- إضافةُ صفةٍ إلى موصوفٍ
بها، إذا عُرِفَ ذلك فإضافةُ السَّمْعِ والبصرِ والوجهِ ونحوِ ذلك إضافةُ
صفةٍ إلى موصوفٍ، لا إضافةُ مخلوقٍ إلى خالقِه , وفي سُننِ أبي داودَ عنه
-صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- أنَّه كان إذا دخلَ المسجدَ قال: ((أَعُوذُ باللهِ العَظيمِ وَبِوجْهِهِ الكَريمِ وبِسُلْطَانِهِ القَدِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ))،
فتأمَّلْ كيفَ قرنَ بينَ الاستعاذةِ بالذَّاتِ والاستعاذةِ بوجهِهِ
الكريمِ، وهذا صريحٌ في إبطالِ قولِ مَنْ قالَ: إنَّه الذَّاتُ نفسُها،
وقولِ مَنْ قالَ: إنَّه مخلوقٌ، إذ الاستعاذةُ لا تجوزُ بمخلوقٍ، إلى غيرِ
ذلك مِن الوجوهِ الَّتي ذكرها ابنُ القيِّمِ رحمهُ اللهُ بالصَّواعقِ في
إثباتِ الوجهِ صفةً للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى-، وأنَّه وجهٌ حقيقيٌّ يليقُ
بجلالِه وعظمتِهِ، وإبطالِ قولِ مَن زعَم غيرَ ذلك).