11 Nov 2008
الإيمان بصفة اليدين
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وَقَوْلُهُ : {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}[سُورَةُ ص : 57] ،{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [سُورَةُ الْمَائِدَةِ : 64]).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ مُحمَّد خَليل هَرَّاس رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وقَوْلُهُ:
{ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}، { وَقَالَتِ
اليَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا
قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ } (1)).
الشرح:
قال الشيخ محمد خليل هراس (ت: 1395هـ): ((1) قولُهُ: { مَا مَنعَكَ …} إلخ. تَضَمَّنَتْ هَاتانِ الآيتانِ إثباتَ اليدينِ صفةً حقيقيَّةً لهُ سبحانَهُ على ما يليقُ بهِ،
فهوَ في الآيةِ الأولى يُوَبِّخُ إبليسَ على امتناعِهِ عن السُّجودِ لآدمَ الذي خلقَهُ بيديهِ.
ولا يمكنُ حملُ اليدينِ هنَا على القُدرَة،ِ فإنَّ الأشياءَ جميعًا – حتَّى إبليسَ – خلقَهَا اللهُ بقدْرتِهِ، فلا يبقَى لآدمَ خصوصِيَّةٌ يتميَّزُ بهَا.
وفي حديثِ عبدِ اللهِِ بنِ عمرٍو:
((
إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ ثَلاَثَةَ أَشْيَاءَ بِيَدِهِ: خَلَقَ
آدَمَ بِيَدِهِ، وَكَتَبَ التَّورَاةَ بِيَدِهِ، وَغَرَسَ جَنَّةَ عَدْنٍ
بِيَدِهِ )).
فتخصيصُ هذهِ الثلاثةِ بالذكرِ معَ مشاركتِهَا لبقيَّةِ المخلوقاتِ في وقوعِهَا بالقَدَرِةِ دالٌّ على اختصاصِهَا بأمرٍ زائدٍ.
وأيضًا؛ فلفظُ
اليدينِ بالتَّثنيةِ لمْ يُعرفْ استعمالُهُ إلاَّ في اليدِ الحقيقيَّةِ،
ولمْ يردْ قطُّ بمعنى القدْرةِ أو النِّعمةِ؛ فإنَّهُ لا يسوغُ أنْ يُقالَ:
خَلَقَهُ اللهُ بقدْرتينِ أو بنعمتينِ.
على
أَنَّهُ لا يجوزُ إطلاقُ اليدينِ بمعنى النِّعمةِ أو القدْرةِ أو غيرِهمَا
إلاَّ في حقِّ مَن اتَّصفَ باليدينِ على الحقيقةِ؛ ولذلكَ لا يُقالُ:
للرِّيحِ يدٌ، ولا للماءِ يدٌ.
وأَمَّا
احتجاجُ المعطِّلةِ بأنَّ اليدَ قَدْ أُفردتْ في بعضِ الآياتِ، وجاءتْ
بلفظِ الجمعِ في بعضِهَا؛ فلا دليلَ فيهِ، فإنَّ ما يُصنعُ بالاثنينِ قدْ
يُنْسبُ إلى الواحدِ، تقولُ: رأيتُ بعينِي، وسمعتُ بأُذُنِي، والمرادُ:
عينايَ، وأذنايَ.
وكذلكَ الجمعُ يأتِي بمعنى المثنَّى أحيانًا؛ كقولِهِ تعالى: { إِنْ تَتُوبَا إِلى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكمَا }، والمرادُ: قَلباكمَا.
وكيفَ
يتأتَّى حملُ اليدِ على القدْرةِ أو النِّعمةِ، معَ ما وردَ مِن إثباتِ
الكفِّ والأصابعِ واليمينِ والشِّمالِ والقبضِ والبسطِ وغيرِ ذلكَ مما لا
يكونُ إلاَّ لليدِ الحقيقيَّةِ؟!
وفي الآيةِ الثانيةِ
يحكي اللهُ سبحانَهُ مقالَةَ اليهودِ –قبَّحَهُمُ اللهُ- في ربِّهم،
ووصفِهم إيِّاهُ – حاشاهُ – بأنَّ يدَهُ مغلولةٌ؛ أي: مُمسِكَةٌ عن
الإِنفاقِ.
ثمَّ أثبتَ لنفسِهِ سبحانَهُ عكسَ ما قالَوا، وهوَ أنَّ يديهِ مبسوطتانِ بالعطاءِ، ينفقُ كيفَ يشاءُ؛ كمَا جاءَ في الحديثِ:
(( إِنَّ يَمِينَ اللهِ مَلأَى سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، لا تَغيضُهَا نَفَقَةٌ )).
تَرَى لو لمْ يكنْ للهِ يدانِ على الحقيقةِ؛ هلْ كانَ يحسُنُ هذا التَّعبيرُ ببسطِ اليدينِ؟! ألا شاهَتْ وُجوهُ المتأوِّلين!!).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ: صالح بن فوزان الفوزان
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (إثباتُ اليديْن للهِ تعالى في القرآنِ الكريمِ
وقَوْلُهُ: ( مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ)، وقوله (
وَقَالَتِ اليَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ
وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ
يَشَاءُ ) (1)).
الشرح:
قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: ((1) (مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ) الخطابُ لإبليسَ لعَنه اللهُ لمّا امتنع مِن السُّجودِ لآدمَ عليه السَّلامُ، أي أيُّ شيءٍ صَرَفك وصَدَّك عَن السُّجودِ (لِماَ خَلقْتُ بِيَدَيَّ) أي باشرتُ خَلْقهُ بِيَدَيَّ مِن غيرِ واسطةٍ، وفي هذا تشريفٌ وتكريمٌ لآدمَ.
قوله: (وَقَالَتِ اليَهُودُ) اليهودُ في الأصلِ مِن قولِهم (هُدْنا إِليكَ) وكان اسمَ مَدْحٍ، ثم صار بعدَ نسخِ شريعتِهم لازماً لهم، وإن لم يكنْ فيه معنَى المدحِ، وقيل؛ سُمُّوا بذلك نسبةً إلى يهودَ ابنِ يعقوبَ عليه السَّلامُ.
(يَدُ الله مَغْلُولَةٌ) يخبرُ تعالى عنهم بأنَّهم وصفوه بأنَّه بَخيلٌ، كما وصفوه بأنَّه فقيرٌ وهم أغنياءُ، لا أنَّهم يَعْنُونَ أنَّ يَدَه مُوثَقَةٌ.
(غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ)
هذا رَدٌّ عليهم مِن اللهِ تعالى بما قالوه ومُقَابَلةٌ لهم بما افتروه
واخْتَلَقُوه. وهكذا وقع لهم، فإنَّ فيهم مِن البخلِ والحسدِ الشيْءَ
الكثيرَ، فلا تَرى يهوديًّا إلاَّ وهو مِن أبخلِ خلقِ اللهِ
(وَلُعِنُوا بما قالوا) معطوفٌ عَلى ما قبلَه، والباءُ سببيّةٌ. أي أُبْعِدوا مِن رحمةِ اللهِ؛ بسببِ هذه المقالةِ.
ثم رَدَّ عليهم سبحانَه بقوله: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) أي بل هو في غايةِ ما يكونُ مِن الجُودِ والعطاءِ، فَيداهُ مبسوطتان بذلك.
(يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ)
جملةٌ مُسْتَأْنَفةٌ مُؤكِّدةٌ لكمالِ جودِه. فإنفاقُه عَلى ما تقتضيه
مشيئتُه، فإنْ شاء وسَّع، وإن شاء ضيَّق. فهو الباسطُ القابضُ عَلى ما
تقتضيه حِكْمتُه.
الشَّاهدُ مِن الآيتيْن الكريمتيْن: أنَّ فيهما إثباتَ اليديْن للهِ سبحانَه وتعالى، وأنَّهما يدان حقيقيتانِ لائقتان بجلالِه وعظمتِه، ليستا كَيدي المخلوقِ (لَيْسَ كَمِثْلِه شَيْءٌ)
وفي ذلك الرَّدُّ عَلى مَن نفى اليديْن الحقيقيَّتيْنِ عِن اللهِ، وزعَم
أنَّ المرادَ باليدِ القدرةُ أو النِّعمةُ. وهذا تأويلٌ بَاطِلٌ، وتحريفٌ
للقرآنِ الكريمِ.
فالمرادُ
يدُ الذَّاتِ لا يدُ القدرةِ والنِّعمةِ، إذ لو كان المرادُ باليدِ
القدرةَ-كما يقولون- لَبَطَل تخصيصُ آدمَ بخلقِه بهما، فإنَّ جميعَ
المخلوقاتِ حتى إبليسَ خُلِقت بقُدْرتِه، فأيُّ مَزِيَّةٍ لآدمَ عَلى
إبليسَ في قولِه: (لِماَ خَلَقْتُ بِيَدَيَّ). فكان يُمْكِنُ لإبليسَ أن يقولَ: وأنا خلقتني بيديك، إذا كان المرادُ بها القدرةَ.
وأيضا لو كان المرادُ باليدِ القدرةَ، لوجب أن يكونَ للهِ قُدْرَتانِ، وقد أجمع المسلمون عَلى بُطْلانِ ذلك،
وأيضا لو كان المرادُ باليدِ النِّعمَةَ، لكان المعنَى أنَّه خَلَق آدمَ
بنعمتيْن! وهذا باطلٌ؛ لأنَّ نِعمَ اللهِ كثيرةٌ لا تُحْصَى، وليست نعمتين
فقط).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وقولُهُ: (مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خُلَقْتُ بِيَدَىَّ) (1) [ص: 75].
وقولُهُ: (وَقَالَتِ
الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ، غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ
بِمَا قَالُواْ، بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ) [المائدة: 64]).
الشرح:
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): ((1) ذَكَرَ المؤلِّفُ -رحمَهُ اللَّهُ- لإثباتِ اليدينِ لِلَّهِ - تَعَالَى - آيتينِ:
الآيةُ الأولى: قولُهُ: (مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خُلَقْتُ بِيَدَيَّ) [ص: 75].
(مَا مَنَعَكَ): الخطابُ لإبليسَ.
و(مَا مَنَعَكَ): استفهامٌ للتَّوبيخِ، يعني: أيُّ شيءٍ مَنَعَكَ أنْ تسجُدَ؟
وقولُهُ: (لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ):
ولَمْ يقلْ: لِمْنَ خلقْتُ؛ لأنَّ المرادَ هُنَا آدمُ، باعتبارِ وصفِهِ
الَّذِي لَمْ يَشْرَكْهُ أحدٌ فِيهِ، وهُوَ خَلقُ اللَّهِ إيَّاهُ بيدِهِ،
لاَ باعتبارِ شخصِهِ.
وَلِهَذَا لَمَّا أرادَ إبليسُ النَّيْلَ مِنْ آدمَ وحطَّ من قدرِهِ، قالَ: (أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً) [الإسراء: 16].
ونَحْنُ
قَدْ قررْنا أنَّهُ إِذَا عُبِّرَ بـ (ما) عمَّا يَعْقِلُ فإنَّهُ يلاحظُ
فِيهِ معنى الصِّفةِ، لاَ معنَى العينِ والشَّخصِ، ومِنْهُ قولُهُ -
تَعَالَى -: (فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّساءِ) [النساء: 3]، ولَمْ يَقُلْ: (مَنْ)؛ لأنَّهُ ليسَ المرادُ عينَ هذِهِ المرأةِ، ولكنَّ المرادَ الصِّفةُ.
فهُنَا قالَ: (لِمَا خَلَقْتُ)، أيْ: هَذَا الموصوفُ العظيمُ الَّذِي أكرمْتُه بأنني خلقْتُه بيديَّ، ولَمْ يقصِدْ: لمَن خلقْتُ، أيْ: لِهَذَا الآدميِّ بعينِه.
وقولُهُ: (لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ): هِيَ كقولِ القائلِ: بريتُ بالقلمِ، والقلمُ آلةُ البَرْيِ، وتقولُ: صنعْتُ هَذَا بيدي، فاليدُ هُنَا آلةُ الصُّنعِ.
(لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ)، يعني: أنَّ اللَّهَ - عزَّ وجلَّ - خلقَ آدمَ بيدهِ، وهُنَا قالَ: (بِيَدَيَّ)،
وهِيَ صيغةُ تثنيةٍ، وحُذِفَتِ النَّونُ مِنَ التَّثنيةِ مِنْ أجلِ
الإضافةِ، كَمَا يُحذَفُ التَّنوينُ، نَحْنُ عندمَا نعربُ المثنَّى وجمعَ
المذكرِ السَّالمِ نقولُ: النُّونُ عِوَضٌ عن التنوينِ فِي الاسمِ المفردِ،
والعوضُ لَهُ حكمُ المُعَوَّضِ، فكَمَا أنَّ التنوينَ يحُذَفُ عندَ
الإضافةِ فنونُ التَّثنيةِ والجمعِ تحُذفُ عندَ الإضافةِ.
فِي هذِهِ الآيةِ توبيخُ إبليسَ فِي تركِهِ السُّجودَ لمَا خلَقَهُ اللَّهُ بيدهِ، وَهُوَ آدمُ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ -.
وفِيهِا: إثباتُ صفةِ الخلقِ: (لِمَا خَلَقْتُ).
وفِيهِا: إثباتُ اليدينِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، اليَدينِ اللَّتَيْنِ بهمَا يفعلُ، كالخلقِ هنَا، اليدينِ اللَّتَيْنِ بهمَا يَقبضُ، (وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) [الزمر: 67]، وبهمَا يأخذُ، فإنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - يأخذُ الصَّدقَةَ فَيُرَبِّيها كَمَا يُرَبِّي الإنسانُ فُلُوَّهُ.
وقولُهُ: (لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ): فِيهَا - أيضاً - تشريفٌ لآدمَ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ -، حَيْثُ خلقَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - بيدِهِ.
قَالَ أهلُ العلمِ: وكتبَ اللَّهُ التَّوراةَ بيدهِ، وغرسَ جنَّةَ عدنٍ بيدهِ.
فهذِهِ ثلاثةُ أشياءَ، كلُّها كانَتْ بيدِ اللَّهِ - تَعَالَى -.
ولعلنَّا بالمناسبةِ لاَ نَنْسَى مَا مرَّ مِنْ قولِ النَّبيِّ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ -: ((إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ))، وذكرْنَا أنَّ أحدَ الوجهَيْن الصَّحيحَيْنِ فِي تأويلِها:
أنَّ
اللَّهَ خلقَ آدمَ عَلَى الصُّورةِ الَّتِي اختارَها واعتنى بِها،
وَلِهَذَا أضافَها اللَّهُ إِلَى نَفْسِهِ إضافةَ تشريفٍ وتكريمٍ، كإضافةِ
النَّاقةِ والبيتِ إِلَى اللَّهِ، والمساجدِ إِلَى اللَّهِ.
والقولُ الثَّاني: أنَّهُ عَلَى صورتِهِ حقيقةً، ولاَ يلزمُ مِنْ ذلِكَ التَّماثلُ.
الآيةُ الثَّانِيَةُ: قولُهُ:
(وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ، غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ،
وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ، بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ
يَشَاءُ) [المائدة: 64].
(الْيَهُودُ): هُم أتباعُ موسى - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ -.
سُمُّوا يهوداً قِيلَ: لأَنَّهُمْ قالوا: (إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ) [الأعراف: 156]، وبناءً عَلَى هَذَا يكونُ الاسمُ عربيًّا؛ لأنَّ هادَ يَهودُ –إِذَا رجعَ- عربيٌّ.
وقِيلَ::
إنَّ أصلَهُ يَهوذا، اسمُ أحدِ أولادِ يعقوبَ، واليهودُ مَنْ نُسِبوا
إِلَيْهِ، لكنْ عندَ التَّعريبِ صارتِ الذَّالُ دالاً، فقِيلَ: يهودُ.
وأيًّا كانَّ، لاَ يهمُنا أنَّ أصلَه هَذَا أوْ هَذَا.
ولكنَّنَا نعلمُ أنَّ اليهودَ هم طائفةٌ مِنْ بني إسرائيلَ، اتبعوا موسى - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ -.
وهؤلاءِ
اليهودُ مِنْ أشدِ النَّاسِ عُتُوًّا ونفوراً؛ لأنَّ عتوَّ فرعونَ
وتسلُّطَه عليْهِم جعلَ ذلِكَ ينطبعُ فِي نفوسِهِم، وصارَ فيِهِم العتوُّ
عَلَى النَّاسِ، بلْ وعَلَى الخالقِ - عزَّ وجلَّ -، فَهُم يَصِفونَ
اللَّهَ - تَعَالَى - بأوصافِ العيوبِ – قبَّحَهُم اللَّهُ وهُم أهلُها.
يقولونَ: (يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ)، أيْ: محبوسةٌ عَن الإنفاقِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: (وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلَولَةً إِلَى عُنُقِكَ) [الإسراء: 29]، أيْ: محبوسةً عَنِ الإنفاقِ.
وقالوا: (إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ) [آل عمران: 181]!
أمَّا
قولُهم: إنَّ يدَ اللَّهِ مغلولةٌ فَقَالَوا: لولاَ أنهَّا مغلولةٌ لكَانَ
النَّاسُ كلُّهم أغنياءَ، فكونُهُ يجودُ عَلَى زيدٍ ولاَ يجودُ عَلَى
عمرٍو: هَذَا هُوَ الغَلُّ وعدمُ الإنفاقِ!!
وقالوا: إنَّ اللَّهَ فقيرٌ؛ لأنَّ اللَّهَ قالَ: (مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَعِفَهُ لَهُ)
[البقرة: 245]، فَقَالَوا للرَّسولِ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ -:
يا محمَّدُ! إنَّ ربَّكَ افتقرَ، صارَ يستقرضُ منَّا. قاتَلَهُم اللَّهُ!!
وقالتِ
اليهودُ – أيضاً -: إنَّ اللَّهَ عاجزٌ؛ لأنَّهُ حينَ خلقَ السَّماواتِ
والأرضَ استراحَ يومَ السَّبتِ، وجعلَ العطلةَ محلَّ عيدٍ، فصارَ عيدُهم
يومَ السبتِ، قاتَلَهُم اللَّهُ!!
هُنَا يقولُ اللَّهُ - عزَّ وجلَّ -: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ): (يَدُ):
أَفرَدُوها؛ لأنَّ اليدَ الواحدةَ أقلُّ عطاءً مِنَ اليدينِ
الثِّنْتَيْنِ، وَلِهَذَا جاءَ الجوابُ بالتَّثنيةِ والبَسْطِ، فَقَالَ: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ).
ولمَا وَصَفوا اللَّهَ بهَذَا العيبِ عاقبَهم اللَّهُ بمَا قالُوا، فَقَالَ: (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ)،
أيْ: مُنِعَتْ عَنِ الإنفاقِ، وَلِهَذَا كَانَ اليهودُ أشدَّ النَّاسِ
جمعاً للمالِ ومنعاً للعطاءِ، فَهُم أبخلُ عبادِ اللَّهِ، وأشدُّهم شحًّا
فِي طلبِ المالِ، ولاَ يمكنُ أنْ يُنفِقوا فِلساً، إِلاَّ وهُمْ يظنُّونَ
أنَّهم سَيكسَبونَ بدلَهَ دِرهماً، ونرى نَحْنُ الآنَ لَهُم جمعيَّاتٌ
كبيرةٌ وعظيمةٌ، لكنْ هُمْ يريدونَ مِنْ وراءِ هذِهِ الجمعيَّاتِ
والتَّبرُّعاتِ أكثرَ وأكثرَ، يريدونَ أنْ يُسيطِروا عَلَى العالَمِ.
فإذاً لاَ تقلْ أيُّها الإنسانُ: كَيْفَ نجمعُ بينَ قولِهِ - تَعَالَى -: (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ)، وبينَ الواقعِ اليومَ بالنِّسبةِ لليهودِ؟! لأنَّ هؤلاءِ القومَ يبذلونَ ليَربحُوا أكثرَ.
(وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ)،
أيْ: طُرِدوا وأُبْعِدوا عَنْ رحمةِ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ -؛ لأنَّ
البلاءَ موكَّلٌ بالمنطقِ، فَهُم لمَّا وصَفوا اللَّهَ بالإمساكِ، طُرِدوا
وأُبعدوا عَنْ رحمتِهِ، قِيلَ: لَهَُمُ: إِذَا كَانَ اللَّهُ - عزَّ وجلَّ -
كَمَا قلْتُم لاَ ينفقُ، فليمنعْكُمْ رحمتَهُ حَتَّى لاَ يعطيكُم مِنْ
جودِهِ،
فعُوقِبوا بأمرَيْنِ:
1- بتحويلِ الوَصْفِ الَّذِي عابوا بِهِ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - إليْهِم بقولِهِ: (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ).
2- وبإلزامِهِم بمقتضَى قولِهم، بإبعادِهم عَنْ رحمةِ اللَّهِ، حَتَّى لاَ يَجِدوا جُودَ اللَّهِ وكرمَهُ وفضلَهُ.
(بِمَا قَالُواْ): الباءُ هُنَا للسَّببيةِ، وعلامةُ الباءِ الَّتِي للسببيَّةِ: أنْ يصحَّ أنْ يليَها كلمةُ (سببٍ).
و(ما)
هُنَا يصحُّ أنْ تكونَ مصدريَّةً، ويصحُّ أنْ تكونَ موصولةً، فإنْ كانَتْ
موصولةً فالعائدُ محذوفٌ، وتقديرُه: بالَّذِي قالوه، وإنْ كانَتْ مصدريَّةً
فالفعلُ يُحَوَّلُ إِلَى مصدرٍ، أيْ: بقولِهِم.
ثُمَّ أبطلَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - دَعواهُمْ، فَقَالَ: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ).
(بَلْ): هُنَا للاضرابِ الإبطاليِّ.
وانظرْ كَيْفَ اختلفَ التَّعبيرُ: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ)؛ لأنَّ المَقامَ مَقامُ تمدُّحٍ بالكرمِ، والعطاءُ باليدينِ أكملُ مِنَ العطاءِ باليدِ الواحدةِ.
و(مَبْسُوطَتَانِ): ضدُّ قولِهم: (مَغْلَولَةٌ)، فَيدَا اللَّهِ - تَعَالَى – مبسوطتانِ، واسِعتَا العَطاءِ.
كَمَا قَالَ النَّبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((يَدُ
اللَّهِ مَلأى سحَّاءُ (كَثِيرةُ العَطَاءِ) اللَّيْلَ وَالنَّهارَ،
أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُذْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ،
فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَمِينِهِ)).
مَنْ يحصِي مَا أنفقَ اللَّهُ منذُ خَلَقَ السماواتِ والأرضَ؟! لاَ يحصِيه أحدٌ، ومعَ ذلِكَ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يمينِهِ.
وَهَذَا كقولِهِ - تَعَالَى - فِي الحديثِ القدسيِّ:
(يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُم وَآخِرَكُم، وَإِنْسَكُم وَجِنَّكُم،
قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحدٍ، فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ
مَسْأَلَتَهُ، مَا نَقَصَ ذلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلاَّ كَمَا يَنْقصُ
المَخِيطُ إِذَا غُمِسَ فِي البَحْرِ)).
ولننظُرْ
إِلَى المخيطِ غُمِسَ فِي البَحرِ، فَإِذَا نزعْتَهُ، لاَ ينقصُ البحرُ
شيئًا أبداً، ومثلُ هذِهِ الصِّيغةِ يُؤْتَى بِها للمبالغةِ فِي عدمِ
النَّقصِ؛ لأنَّ عدَمَ نقصِ البحرِ فِي مثلِ هذِهِ الصورةِ أمرٌ معلومٌ،
مستحيلٌ أنَّ البحرَ ينقصُ بهَذَا، فمستحيلٌ أيضاً أنَّ اللَّهَ - عزَّ
وجلَّ - ينقصُ ملكُه إِذَا قامَ كُلُّ إنسانٍ مِنَ الإنسِ والجنِ، فقامُوا
فسألُوا اللَّهَ - تَعَالَى -، فأعطى كُلَّ إنسانٍ مسألتَهُ، مَا نقصَ
ذلِكَ مِنْ ملكِه شيئاً.
لاَ
تقلْ: ((نَعَمْ، لاَ يُنقِصُ مِنَ ملكِهِ شيئاً؛ لأنَّهُ انتقلَ مِنْ ملكِه
إِلَى ملكِه))؛ لأنَّهُ لاَ يمكنُ أنْ يكونَ هَذَا هُوَ المرادُ؛ لأنَّهُ
لو كَانَ هَذَا المرادُ لكَانَ الكلام عبثاً ولغواً.
لكنَّ
المعنى: لو فُرِضَ أنَّ هذِهِ العطايا العظيمةَ أعطِيَتْ عَلَى أنَّها
خارجةٌ عَنْ مُلكِ اللَّهِ، لَمْ ينقصْ ذلِكَ مِنْ ملكِه شيئاً.
ولو
كَانَ المَعْنَى هُوَ الأوَّلُ لَمْ يكنْ فِيهِ فائدةٌ، فمعروفٌ أنَّهُ لو
كَانَ عندَكَ عشرةُ ريالاتٍ، أخرجْتَها مِنَ الدّرجِ الأيمنِ إِلَى الدّرجِ
الأيسرِ، وقَالَ إنسانٌ: إنَّ مالَكَ لَمْ ينقصْ، لقِيلَ: هَذَا لغوٌ مِنَ
القولِ!.
المهِّمُ أنَّ المعنى: لو أنَّ هَذَا الَّذِي أعطاهُ السَّائلينَ خارجٌ عَنْ ملكِهِ، فإنَّهُ لاَ ينقصُه سُبْحَانَهُ وَ- تَعَالَى -.
وليسَ
إنفاقُ اللَّهِ - تَعَالَى - بمَا نحصلُ مِنَ الدراهِم والمتاعِ، بلْ
كُلُّ مَا بنا مِنْ نعمةٍ فهُوَ مِنَ اللَّهِ - تَعَالَى -، سواءً كانت
مِنْ نعمِ الدِّينِ أَم الدُّنْيَا، فذرَّاتُ المطرِ مِنْ إنفاقِ اللَّهِ
علينَا، وحبَّاتُ النَّباتِ مِنْ إنفاقِ اللَّهِ.
أفبعدَ هَذَا يقالُ كَمَا قالتِ اليهودُ عليْهِم لعائنُ اللَّهِ: (يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ)؟!
لاَ واللَّهِ!، بلْ يُقالُ: إنَّ يدَيِ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ - مبسوطتانِ بالعطاءِ والنِّعَمِ الَّتِي لاَ تُعدُّ ولاَ تُحصَى.
لكنْ إِذَا قالوا: لِمَاذَا أعطى زيداً ولَمْ يعطِ عمراً؟
قلْنَا: لأنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - لَهُ السُّلطانُ المطلَقُ، والحكمةُ البالغةُ، وَلِهَذَا قَالَ ردًّا عَلَى شبهتِهِم: (يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ)،
فمِنَ النَّاسِ منْ يُعطيهِ كثيراً، ومِنْهُم مَنْ يُعطيهِ قليلاً،
ومِنْهُم مَنْ يُعطيهِ وسطاً، تبعاً لمَا تقتضيه الحكمةُ، عَلَى أنَّ هَذَا
الَّذِي أُعْطِيَ قليلاً ليسَ محروماً مِنْ فضلِ اللَّهِ وعطائِهِ مِنْ
جهةٍ أُخْرى، فاللَّهُ أعطاهُ صحَّةً وسمعاً وبصراً وعقلاً، وغيرَ ذلِكَ
مِنَ النِّعمِ الَّتِي لاَ تحصَى، ولكنْ لطغيانِ اليَهودِ وعدوانِهم
وأنَّهم لَمْ يُنَزِّهوا اللَّهَ عَنْ صفاتِ العيبِ، قالوا:
(يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ).
فالآيتانِ السَّابِقتان فِيهِمَا إثباتُ صفةِ اليدينِ لِلَّهِ - عزَّ وجلَّ -.
ولكنْ قَدْ يقولُ قائلٌ: إنَّ لِلَّهِ أكثرَ مِنْ يدَيْن، لقولِهِ - تَعَالَى -: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَماً) [يس: 71]، فأيدينا هُنَا جمعٌ، فلنأخذْ بهَذَا الجمعِ، لأنَّنَا إِذَا أخذْنا بالجمعِ أخذْنا بالمثنَّى وزيادةٍ، فمَا هُوَ الجوابُ؟
فالجوابُ أنْ يقالَ: جاءَتِ اليدُ مفردةً ومثناةً وجمعاً.
أمَّا اليدُ الَّتِي جاءَتْ بالإفرادِ فإنَّ المفردَ المضافَ يفيدُ العمومَ، فيشملُ كُلَّ مَا ثبتَ لِلَّهِ مِنْ يدٍ، ودليلُ عمومِ المفردِ المضافِ قولُهُ - تَعَالَى -: (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا) [إبراهِيَم: 34]، فـ(نِعْمَتَ): مفردٌ مضافٌ، فهِيَ تشملُ كثيراً، لقولِهِ: (لاَ تُحْصُوهَا)، إذاً: فمَا هِيَ واحدةٌ ولاَ ألفٌ ولاَ مليونٌ ولاَ ملايينُ.
(يَدُ اللَّهِ): نقولُ هَذَا المفردُ لاَ يمنعُ التَّعدُّدَ إِذَا ثبتَ؛ لأنَّ المفردَ المضافَ يفيدُ العمومَ.
أمَّا المثنى والجمعُ، فنقولُ: إنَّ اللَّهَ ليسَ لَهُ إِلاَّ يدانِ اثنتانِ، كَمَا ثبتَ ذلِكَ فِي الكتابِ والسُّنَّةِ:
ففِي الكتابِ:
فِي سورةِ ص قال: (لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ)
[ص: 75]، والمَقامُ مَقامُ تشريفٍ، ولو كَانَ اللَّهُ خلَقَهُ بأكثرَ مِنَ
يدَيْنِ، لذَكرَه؛ لأنَّهُ كلَّمَا ازدادتِ الصِّفةُ الَّتِي بِها خَلقَ
اللَّهُ هَذَا الشَّيءَ، ازدادَ تعظيمُ هَذَا الشَّيءِ.
وأيضاً: فِي سورةِ المائدةِ قالَ: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) [المائدة: 64]، فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ قالوا: (يَدُ اللَّهِ)،
بالإفرادِ، والمقامُ مَقامٌ يقتضِي كثرةَ النِّعمِ، وكُلَّمَا كَثُرَتْ
وسيلةُ العطاءِ، كَثُرَ العطاءُ، فلو كَانَ لِلَّهِ - تَعَالَى - أكثرُ
مِنْ اثنتينِ لذكرَهُمَا اللَّهُ؛ لأنَّ العطاءَ باليدِ الواحدةِ عطاءٌ،
فباليدينِ أكثرُ وأكملُ مِنَ الواحدةِ، وبالثَّلاثِ – لو قدرَ- كَانَ
أكثرَ، فلوْ كَانَ لِلَّهِ - تَعَالَى - أكثرُ مِنْ اثنتينِ لذكرَهما.
أمَّا السُّنَّةُ:
فإنَّ الرَّسولَ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ - قالَ: ((يَطْوِي اللَّهُ تَعَالى السَّمَاوَاتِ بِيَمينِهِ، وَالأَرْضَ بِيَدِهِ الأُخْرَى)).
قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((كِلْتا يَدَيْهِ يَمِينٌ)).
ولَمْ يَذْكُرْ أكثرَ مِنْ اثنتينِ.
وأجمعَ السَّلفُ عَلَى أنَّ لِلَّهِ يدينِ اثنتينِ فَقَطْ بدونِ زيادةٍ.
فعنْدنَا
النَّصُّ مِنَ القرآنِ والسُّنَّةِ والإجماعِ عَلَى أنَّ لِلَّهِ -
تَعَالَى - يدينِ اثنتينِ، فكَيْفَ نجمعُ بينَ هَذَا وبينَ الجمعِ (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا) [يس: 71]؟!
فنقولُ: الجمعُ عَلَى أحدِ الوجهِيَنِ:
فإمَّا أنْ نقولَ بمَا ذهبَ إِلَيْهِ بعضُ العلماءِ، مِنْ أنَّ أقلَ الجمعِ اثنانِ، وعَلَيْهِ، فـ(أَيْدِينَا) لاَ تدلُّ عَلَى أكثرَ مِن اثنتينِ، يعني: لاَ يلزمُ أنْ تدلَّ عَلَى أكثرَ مِنْ اثنينِ، وحينئذٍ تطابقُ التَّثنيةَ: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ)، ولاَ إشكالَ فِيهِ.
فَإِذَا قلْتَ: مَا حُجَّةُ هؤلاءِ عَلَى أنَّ الجمعَ أقلُّهُُ اثنانِ؟!
فالجوابُ:
احتجُّوا بقولِهِ - تَعَالَى -: (إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) [التحريم: 4]، وهمَا اثنتانِ، والقلوبُ جمعٌ، والمرادُ بِهِ قلبانِ فَقَطْ، لقولِهِ - تَعَالَى -: (مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِى جَوْفِهِ) [الأحزاب: 4]، ولاَ لامرأةٍ كذلِكَ.
واحتجوا أيضاً بقولِ اللَّهِ - تَعَالَى -: (فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ) [النساء: 11]، فـ(إِخْوَةٌ) جمعٌ، والمرادُ بهِ اثنانِ.
واحتجُّوا أيضاً بأنَّ جماعةَ الصَّلاَةِ تحصلُ باثنينِ.
ولكنَّ جمهورَ أهلِ اللُّغةِ يقولونَ:
إنَّ أقلَّ الجمعِ ثلاثةٌ، وإنَّ خُروجَ الجمعِ إِلَى الاثنينِ فِي هذِهِ
النُّصوصِ لسببٍ، وإلاَّ فإنَّ أقلَّ الجمعِ فِي الأصلِ ثلاثةٌ.
وإمَّا أنْ نقولَ: إنَّ المرادَ بهَذَا الجمعِ التَّعظيمُ، تعظيمُ هذِهِ اليدِ، وليسَ المرادُ أنَّ لِلَّهِ - تَعَالَى - أكثرُ مِنْ اثنتينِ.
ثُمَّ إنَّ المرادَ باليدِ هُنَا نَفْسُ الذَّاتِ الَّتِي لَهُا يدٌ، وقدْ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) [الروم:
41]، أيْ: بمَا كَسَبُوا، سواءً كَانَ مِنْ كسبِ اليدِ أو الرجلِ أو
اللسانِ، أوْ غيرِها مِنْ أجزاءِ البدنِ، لكنْ يُعبَّرُ بمثلِ هَذَا
التَّعبيرِ عَنِ الفاعلِ نَفْسِهِ.
وَلِهَذَا نقولُ: إنَّ الأنعامَ الَّتِي هِيَ الإبلُ لَمْ يخلقْها اللَّهُ - تَعَالَى - بيدِه، وفرْقٌ بينَ قولِهِ: (ممَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا)، وبَيْنَ قولِهِ: (لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ)، فـ: (ممَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا)، كأَنَّهُ قالَ: ممَا عَمِلْنا؛ لأنَّ المرادَ باليدِ ذاتُ اللَّه الَّتِي لَهُا يدٌ، والمرادُ بـ(بِيَدَيَّ): اليدانِ دونَ الذَّاتِ.
وبهَذَا يزولُ الإشكالُ فِي صفةِ اليدِ، الَّتِي وردَتْ بالإفرادِ والتثنيةِ والجمعِ.
فعُلِمَ الآنَ أنَّ الجمعَ بينَ المفردِ والتَّثنيةِ سهلٌ، وذلِكَ لأنَّ هَذَا مفردٌ مضافٌ، فيعمُّ كُلَّ مَا ثبتَ لِلَّهِ مِنْ يدٍ.
وأمَّا بينَ التثنيةِ والجمعِ، فمِنْ وجهِيَن:
أحدُهما:
أنَّهُ لاَ يُرادُ بالجمعِ حقيقةُ معناهُ –وهُوَ الثَّلاثةُ فأكثرُ- بَلِ
المرادُ بِهِ التَّعظيمُ، كَمَا قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: (إِنَّا) و(نَحْنُ) و(قُلْنَا)… ومَا أشَبْهَ ذلِكَ، وهُوَ واحدٌ، لكنْ يُقال هَذَا للتَّعظيمِ.
أوْ يقالُ: إنَّ أقلَّ الجمعِ اثنانِ، فلاَ يحصلُ هُنَا تعارضٌ.
وأمَّا قولُهُ - تَعَالَى -: (وَالسَّمَاءَ بَنَيْناَهَا بِأَيْدٍ)
[الذاريات: 47]، فالأيدُ هُنَا بمعنى القُوَّةِ، فهِيَ مصدرُ آدَ يَئِيدُ،
بمعنى: قَوِيَ، وليسَ المرادُ بالأيدِي صفةَ اللَّهِ، وَلِهَذَا مَا
أضافَها اللَّهُ إِلَى نَفْسِهِ، مَا قالَ: بأيدينا! بَلْ قالَ: (بِأَيْدٍ)، أيْ: بقوةٍ.
ونظيرُ ذلِكَ قولُهُ - تَعَالَى -: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ) [القلم: 42]، فإنَّ لعلماءِ السَّلفِ فِي قولِهِ: (عَن سَاقٍ): قولينِ:
القولُ الأوَّلُ: أنَّ المرادَ بِهِ الشدَّةُ.
والقولِ الثَّاني: أنَّ المرادَ بِهِ ساقُ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ -.
فمَنْ
نظرَ إِلَى سياقِ الآيةِ معَ حديثِ أبي سعيدٍ، قالَ: إنَّ المرادَ
بالسَّاقِ هُنَا ساقُ اللَّهِ، ومَنْ نَظَرَ إِلَى الآيةِ بمفردِها، قالَ:
المرادُ بالسَّاقِ الشدَّةُ.
فَإِذَا
قَالَ قائلٌ: أنتم تُثبتونَ أنَّ لِلَّهِ - تَعَالَى - يداً حقيقيَّةً،
ونَحْنُ لاَ نعلمُ مِنَ الأيدي إِلاَّ أيادي المخلوقينَ، فيلزمُ مِنْ
كلامِكم تشبيهُ الخالقِ بالمخلوقِ.
فالجوابُ
أنْ نقولَ: لاَ يلزمُ مِنْ إثباتِ اليدِ لِلَّهِ أنْ نمثِّلَ الخالقَ
بالمخلوقينَ؛ لأنَّ إثباتَ اليدِ جاءَ فِي القرآنِ والسُّنةِ وإجماعِ
السَّلْفِ، ونفيُ مماثلةِ الخالقِ للمخلوقينَ يدلُّ عَلَيْهِ الشَّرعُ
والعقلُ والحسُّ.
-أمَّا الشرعُ فقولُهُ - تَعَالَى -: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى: 11].
-وأمَّا العقلُ فلاَ يمكنُ أنْ يماثلَ الخالقُ المخلوقَ فِي صفاتِهِ؛ لأنَّ هَذَا يعدُّ عيباً فِي الخالقِ.
-وأمَّا الحسُّ
فكُلُّ إنسانٍ يشاهدُ أَيْدِي المخلوقاتِ متفاوتةً ومتباينةً، مِنْ كبيرٍ
وصغيرٍ، وضخمٍ ودقيقٍ…إلخ، فيلزمُ مِنْ تبايُنِ أَيْدِي المخلوقينَ
وتفاوُتِهم مباينةُ يدِ اللَّهِ - تَعَالَى - لأيدِي المخلوقينَ، وعدمُ
مماثلَتِهِ لَهُمْ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - مِنْ بابٍ أَوْلى.
هَذَا
وقَدْ خالَفَ أهلَ السُّنَّةِ والجماعةِ فِي إثباتِ اليدِ لِلَّهِ -
تَعَالَى - أهلُ التَّعطيلِ مِنَ المعتزلةِ والجهميَّةِ والأشعريَّةِ
ونحوهِمْ، وقالوا: لاَ يمكنُ أنْ نُثبتَ لِلَّهِ يداً حقيقيَّةً، بَلِ
المرادُ باليدِ أمرٌ معنويٌّ، وَهُوَ القُوَّةُ!!، أو المرادُ باليدِ
النِّعمةُ؛ لأنَّ اليدَ تُطْلَقُ فِي اللُّغةِ العربيَّةِ عَلَى القُوَّةِ،
وعَلَى النِّعمةِ.
ففِي الحديثِ الصَّحيحِ، حديثِ النَّوَّاسِ بنِ سمعانَ الطَّويلِ: ((أَنَّ اللَّهَ يُوحِي إِلى عِيسى أَنِّي أَخْرَجْتُ عِبَاداً لي لاَ يَدَانِ لأَحَدٍ بِقِتَالِهِم))، والمعنَى: لاَ قوَّةَ لأحدٍ بقتالِهِم، وهُمْ يأجوجُ ومأجوجُ.
وأمَّا
اليدُ بمعنى النِّعمةِ، فكثيرٌ، ومِنْهُ قولُ رسولِ قريشَ لأبي بكرٍ:
((لَوْلاَ يَدٌ لَكَ عِنْدِي لَمْ أَجْزِكَ بِها لأَجَبْتُكَ))، يعني:
نِعمةً.
وقولُ المتنبِّي:
وَكَمْ لِظَلامِ اللَّيْلِ عِنْدَكَ مِنْ يَدٍ تُحَدِّثُ أنَّ المانَوِيَّةَ تَكْذِبُ
والمانويةُ:
فرقةٌ مِنَ المجوسِ، الَّذِينَ يقولونَ: إنَّ الظُّلمةَ تخلقُ الشَّرَّ،
والنُّورَ يخلقُ الخيرَ، فالمتنبي يقولُ: إنَّكَ تُعطِي فِي اللَّيلِ
العطايَا الكثيرةَ، الَّتِي تدلُّ عَلَى أنَّ المانويَّةَ تكذبُ؛ لأنَّ
ليلَكَ يأتي بخيرٍ.
فالمرادُ
بيدِ اللَّهِ: النِّعمةُ، وليسَ المرادُ باليدِ اليدُ الحقيقيَّةُ؛
لأنَّكَ لو أثبتَّ لِلَّهِ يداً حقيقيَّةً لَزِمَ مِنْ ذلِكَ التَّجسيمُ
أنْ يكونَ اللَّهُ - تَعَالَى - جسماً، والأجسامُ متماثلةٌ، وحينئذٍ تقعُ
فيمَا نهى اللَّهُ عَنْهُ، فِي قولِهِ: (فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأَمْثَالَ) [النحل: 74].
ونَحْنُ
أسعدُ بالدَّليلِ مِنْكَ أيُّها المثبتُ للحقيقةِ!! نَحْنُ نقولُ:
سُبْحَانََ مَنْ تنـزَّهَ عَنِ الأعراضِ والأبعاضِ والأغراضِ!!، لاَ تجدُ
مثلَ هذِهِ السَّجعةِ لاَ فِي الكتابِ ولاَ فِي السُّنَّةِ.
وجوابُنا عَلَى هَذَا مِنْ عدَّةِ وجوهٍ:
أَوَّلاً:
أنَّ تفسيرَ اليدِ بالقوَّةِ أو النِّعمةِ مخالفٌ لظاهرِ اللَّفظِ، ومَا
كَانَ مخالِفاً لظاهرِ اللَّفظِ، فَهُوَ مردودٌ، إِلاَّ بدليلٍ.
ثانياً: أنَّهُ مخالِفٌ لإجماعِ السَّلَفِ، حَيْثُ إنهَّم كلَّهم مُجمِعونَ عَلَى أنَّ المرادَ باليدِ اليدُ الحقيقيَّةُ.
فإنْ
قَالَ لَكَ قائلٌ: أيْنَ إجماعُ السَّلَفِ؟ هاتِ لي كلمةً واحدةً عَنْ أبي
بكرٍ أوْ عمرَ أوْ عثمانَ أوْ عليٍّ، يقولونَ: إنَّ المرادَ بيدِ اللَّهِ
اليدُ الحقيقيَّةُ!
أقولُ
لَهُ: ائتِ لي بكلمةٍ واحدةٍ عَنْ أبي بكرٍ وعمرَ، وعثمانَ وعليٍّ،
وغيرِهمْ مِنَ الصَّحابةِ والأئمَّةِ مِنْ بعدِهمْ يقولونَ: إنَّ المرادَ
باليدِ القوَّةُ أو النِّعمةُ.
فلاَ يستطيعُ أنْ يأتيَ بذلِكَ.
إذاً:
فلو كَانَ عندَهم معنىً يخالفُ ظاهِرَ اللَّفظِ لكانوا يقولونَ بِهِ،
ولَنُقِلَ عَنْهمْ، فلمَّا لَمْ يَقولُوا بهِ عُلِمَ أنهَّم أَخَذُوا
بظاهرِ اللَّفظِ وأَجْمَعوا عَلَيْهِ.
وهذِهِ
فائدةٌ عظيمةٌ، وهِيَ أنَّهُ إِذَا لَمْ يُنْقَلْ عَنِ الصَّحابةِ مَا
يخالِفُ ظاهرَ الكتابِ والسُّنَّةِ فإنهَّم لاَ يقولونَ بِسُواهُ؛ لأنهَّم
الَّذِينَ نَزَلَ القرآنُ بلُغَتِهِمْ، وخاطبَهُم النَّبيُّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بلُغَتِهمْ، فلاَ بدَّ أنْ يَفْهَمُوا
الكتابَ والسُّنَّةَ عَلَى ظاهرِهما، فَإِذَا لَمْ يَنقُلْ عَنْهمْ مَا
يخالِفُهُ كَانَ ذلِكَ قولَهُمْ.
ثالثاً: أنَّهُ يَمتَنِعُ غايةَ الامتناعِ أنْ يُرادَ باليدِ النِّعمةُ أو القوَّةُ فِي مثلِ قولِهِ: (لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ)
[ص: 75]؛ لأنَّهُ يستلزمُ أنْ تكونَ النِّعمةُ نِعمتَيْنِ فَقَطْ، ونِعَمُ
اللَّهِ لاَ تُحصَى ويستلزمُ أنَّ القُوَّةَ قوَّتانِ، والقُوَّةُ بمعنًى
واحدٍ لاَ يتعدَّدُ!، فهَذَا التَّركيبُ يمنعُ غايةَ المنعِ أنْ يكونَ
المرادُ باليدِ القُوَّةُ أو النِّعمةُ.
هَبْ أنَّهُ قَدْ يمكنُ فِي قولِهِ: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) [المائدة: 64]: أنْ يُرادَ بِهمَا النِّعمةُ عَلَى تأويلٍ، لكنْ لاَ يمكنُ أنْ يُرادَ بقولِهِ: (لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) النعمةُ أبداً.
أمَّا القوةُ فيمتنعُ أنْ يكونَ المرادُ باليدينِ القُوَّةُ فِي الآيتينِ جميعاً، فِي قولِهِ: (بَلْ يَدَاهُ) وفِي قولِهِ: (لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) لأنَّ القوةَ لاَ تتعدَّدُ.
رابعاً:
أنَّهُ لو كَانَ المرادُ باليدِ القوةَ مَا كَانَ لآدمَ فضلٌ عَلَى
إبليسَ، بَلْ ولاَ عَلَى الحميرِ والكلابِ، لأنهَّم كُلَّهُم خُلِقوا
بقوَّةِ اللَّهِ، ولو كَانَ المرادُ باليدِ القوَّةَ، مَا صحَّ الاحتجاجُ
عَلَى إبليسَ؛ إذْ إنَّ إبليسَ سيقولُ: وَأَنَا يا ربِّ خلقَتني بقوَّتِكَ،
فمَا فضُلُهُ عليَّ؟!
خامساً:
أنْ يقالَ: إنَّ هذِهِ اليدَ الَّتِي أثبتَها اللَّهُ جاءَتْ عَلَى وجوهٍ
متنوعةٍ، يمتنعُ أنْ يُرادَ بِها النِّعمةُ أو القوَّةُ، فجاءَ فِيهَا ذكرُ
الأصابعِ والقبضِ والبسطِ والكفِّ واليمينِ، وكُلُّ هَذَا يمتنعُ أنْ
يُرادَ بِهَا القوَّةُ؛ لأنَّ القوَّةَ لاَ توصَفُ بهذِهِ الأوصافِ.
فنتبيَّنُ بهَذَا أنَّ قولَ هؤلاءِ المحرِّفينَ الَّذِينَ قالوا: المرادُ باليدِ القوةُ باطلٌ مِنْ عدَّةِ أوجهٍ.
وقَدْ
سَبَقَ أنَّ صفاتِ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ - مِنَ الأُمورِ الخبريَّةِ
الغيبيَّةِ الَّتِي ليسَ للعقلِ فِيهَا مجالٌ، ومَا كَانَ هَذَا سبيلَهُ،
فإنَّ الواجبَ علَيْنا إبقاؤُه عَلَى ظاهرِهِ، مِنْ غيرِ أنْ نتعرَّضَ
لَهُ).
الروضة الندية للشيخ: زيد بن عبد العزيز بن فياض رحمه الله
المتن:
قال أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (* إثبات صفة اليدين *
وقَوْلُهُ : ({
مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ، { وَقَالَتِ
اليَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا
قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ } ).
الشرح:
قال الشيخ زيد بن عبد العزيز بن فياض (ت: 1416هـ): (صفةُ
اليدَيْنِ لِلَّهِ قد دلَّ عليها الكِتابُ والسُّنَّةُ ، وإجماعُ سلفِ
الأُمَّةِ . خلافاً للجهميَّةِ والمعتزِلةِ ، قَالَ عبدُ اللَّهِ بنُ عمرِو
بنِ العاصِ : إنَّ اللَّهَ لم يخْلُقْ بيدِه إلا ثلاثاً : خَلَقَ آدمَ
بيدِه ، وغرَسَ جنَّةَ عَدْنٍ بيدِه ، وكتَبَ التَّوراةَ بيدِه .
وفي
مُحاجَّةِ آدمَ لمُوسَى قَالَ مُوسَى : أنتَ الَّذِي خلَقَكَ اللَّهُ بيدِه
، ونفَخَ فيكَ مِن رُوحِه ، وأسْجَدَ لكَ ملائكِتَه ، وعلَّمَكَ أسماءَ
كلِّ شيءٍ .
وزعَمَ نُفاةُ الصِّفَاتِ :
أنَّ المرادَ باليدَيْنِ النِّعْمَةُ والقُدرةُ ، وهي دعوى باطِلةٌ . فإنه
لا يَصِحُّ في عقلٍ أو نقْلٍ أنْ يُقالَ : لم يَخْلُقْ بنعمَتِه أو
بقُدْرتِه إلا ثلاثاً ، ولا يَصِحُّ استعمالُ المَجازِ في هذا بلفظِ
التَّثنيةِ . فلا يُستعمَلُ إلا مُفرَداً أو مَجموعاً كقولِكَ له : عندي
يدٌ يَجْزِيهِ اللَّهُ بها ، وله عندي أَيادٍ ، وأما إذا جَاءَ بلفظِ
التَّثْنيةِ فلا يُعْرَفُ استِعمالُه قطُّ إلا في اليدِ الحقيقيَّةِ ،
ولَيْسَ مِن المعهودِ أنْ يُطلِقَ اللَّهُ على نَفْسِه معنى القُدرةِ
والنِّعْمَةِ بلفظِ التَّثنيةِ، بل بلفظِ الإفرادِ الشَّامِلِ لجميعِ
الحقيقةِ . كقولِه :{أَنَّ الْقُوَّةَ للَّهِ جَمِيعاً} وقد يَجْمَعُ النِّعمَ مِثلَ :{وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً}
وأمَّا أنْ يَقولَ : خلَقْتُكَ بقُدرتَيْنِ أو بنِعمتَيْنِ . فهذا لم
يَقَعْ في كلامِه ، ولا في كلامِ رَسُولِه ، ولو ثَبَتَ استعمالُ ذلك بلفظِ
التَّثنيةِ لم يَجُزْ أنْ يكونَ المرادُ به ههنا القُدرةَ ، فإنه يُبطِلُ
فائدةَ تخصيصِ آدمَ . فإنه وجميعَ المخلوقاتِ حَتَّى إبْلِيسَ مَخلوقٌ
بقُدرتِه سُبْحَانَهُ . فأيُّ مَزِيَّةٍ لآدَمَ على إبْلِيسَ في ذلك ،
وأيضاً فيه النِّعمةُ والقدرةُ لا يُتجاوَزُ بها لفظُ اليدِ . فلا
يُتَصَرَّفُ فيها بما يُتَصَرَّفُ في اليدِ الحقيقيَّةِ . فلا يُقالُ فيها
كفٌّ ، ولا أصبعٌ ، ولا أصبعانِ ، ولا يمينٌ ، ولا شِمالٌ ، وهذا كلُّه
يَنفِي أنْ تكونَ اليدُ يدَ نعمةٍ أو يدَ قُدرةٍ ، وقد قَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " الْمُقْسِطُونَ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ " .
وفي حديثِ الشَّفاعةِ : " فَأَقُومُ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ مَقَاماً لاَ يَقُومُه غَيْرِي " وإذا ضمَمْتَ قولَه :{ وَالأَرْضُ جَمِيعـاً قَبْضَـتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } إلى قولِه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :"يأخُذُ الجبَّارُ سماواتِه وأرْضَه بيدِه يَهُزُّهُنَّ"
، وجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْبِضُ
يدَه ويَبْسُطُها ، وفي "صحيحِ مسلمٍ" : يَحْكِي رَبَّهُ بهذا اللَّفْظِ .
وقَالَ : " مَا مِنْ قَلْبٍ إِلاَّ وَهُوَ بَيْنَ
أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصابِعِ الرَّحْمَنِ ، إِنْ شَاءَ أَنْ يُقِيمَهُ
أَقَامَهُ ، وَإنْ شَاءَ أَنْ يُزِيغَهُ أَزَاغَهُ " وفي حديث الشَّفَاعَةِ :ِ"
وَعَدَنِي رَبِّي أَنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي أَرْبَعَمِائَةِ
أَلْفٍ " فَقَالَ أبو بكرٍ : زِدْنَا يا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : "
وَثَلاثُ حَثَيَاتٍ مِنْ حَثَيَاتِ رَبِّي " فَقَالَ عُمَرُ : حسبُك يا أبا
بكرٍ ، إنْ شاءَ أَدْخَلَ خلْقَه الجَنَّةَ بكَفٍّ واحدةٍ . فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " صَدَقَ عُمَرُ "
فهذا القبضُ والبَسْطُ والطَيُّ باليمينِ : والأخذُ : والوقوفُ عن يمينِ
الرَّحْمَنِ ، والكفُّ ، وتقليبُ القلوبِ بأصابِعه ، ووَضْعُ السَّمَاواتِ
على أُصْبُعٍ ، والجبالِ على أُصْبُعٍ . فذَكَرَ إحدى اليدَيْنِ . ثم قولُه
: وبيدِه الأُخْرى مُمْتَنِعٌ فيه اليدُ المجازيَّةُ ، سواءٌ كانتْ بمعنى
القدرةِ أو بمعنى النِّعْمَةِ ، فإنَّها لا يُتَصَرَّفُ فيها هذا
التَّصَرُّفُ ، وقد أنْكَرَ اللَّهُ تَعَالَى على اليهـودِ نِسْبَةَ يَدِهِ
إلى النقـصِ والعيبِ ، ولم يُنْكِـرْ عليهم إثباتَ يدِه وقَـدَّرَ
إثبـاتَها له زيادةً على ما قالـوا بأنهما ((مَبْسُوطَتانِ))
وأيضاً قَيْدُ القدرةِ والنِّعْمَةِ لا يُعرَفُ استِعمالُها ألبتَّةَ
إلاَّ في حقِّ مَن له يدٌ حقيقةً . فهذه موارِدُ استعمالِها مِن أوَّلِها
إلى آخِرِها ، مُطَّرِدَةٌ في ذلك فلا يَعرِفُ العربيُّ خلافَ ذلك . فاليدُ
المضافةُ إلى الحيِّ إمَّا أنْ تكونَ يداً حقيقةً أو مستلْزِمَةً للحقيقةِ
، وإمَّا أنْ تُضافَ إلى مَن لَيْسَ لديه حقيقةً ، وهو حيٌّ متَّصِفٌ
بصفاتِ الأحياءِ .
فهذا
لا يُعْرفُ ألبتَّةَ ، وسِرُّ هذا أنَّ الأعمالَ والأخذَ والعطاءَ
والتَّصَرُّفَ لمَّا كان باليدِ ، وهي الَّتِي تُباشِرُ . عَبَّرُوا بها عن
الغايةِ الحاصِلةِ بها ، وهذا يستلْزِمُ ثُبوتَ أصْلِ اليدِ حَتَّى
يَصِحَّ استعمالُها في مُجرَّدِ القُوَّةِ والنِّعْمَةِ والإعطاءِ ، فإذا
انتفَتْ حقيقةُ اليدِ امتنَعَ استعمالُها فيها فيما يكونُ باليدِ . فثُبوتُ
هذا الاستعمالِ المَجازيِّ مِن أَدَلِّ الأشياءِ على ثُبوتِ الحقيقةِ .
فقولُه تَعَالَى في حقِّ اليهودِ :{غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} هو دعاءٌ عليهم بغَلِّ اليدِ المتضمِّنِ للجُبْنِ والبُخْلِ ، وذلك لا يَنفِي ثُبوتَ أيديهم حقيقةً .
وأمَّا
الإضافةُ في مِثلِ يدِ الشمالِ ، ويدِ الحائطِ ويدِ الليلِ . فقد بيَّنْتُ
أنَّ المضافَ مِن جنسِ المضافِ إليه ، وكلُّ ذلك حقيقةٌ، وكذلك إضافةُ
اليدينِ إلى الرَّحْمَةِ في قولِهِ :{ بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } .
فيَتنوَّعُ المُضافُ بتنوُّعِ المُضافِ إليه ، وإنِ اختلفَتْ ماهيَّةُ الحقيقةِ وَصِفَتُها وتنوَّعَتْ بتَنَوُّعِ المُضافِ إليه .
وقد
وردَ لفظُ اليدِ في القرآنِ والسُّنَّةِ وكلامِ الصَّحَابَةِ والتَّابِعينَ
في أكثرَ مِن مائةِ موضعٍ وُروداً متنوِّعاً ، متَصرَّفاً فيه ، مَقروناً
بما يدُلُّ على أنها يدٌ حقيقةً مِن الإمساكِ ، والطَّيِّ ، والقبضِ ،
والبَسْطِ ، والمصافَحةِ ، والحَثْياتِ ، والنضْحِ باليدِ ، والخَلْقِ
باليدَينِ ، والمباشَرةِ بهما ، وكَتْبِ التَّوراةِ بيدِهِ ، وغرْسِ جنةِ
عدْنٍ بيدِه ، وتخميرِ طِينةِ آدمَ ، ووقوفِ العبدِ بين يديه ، وكونِ
المُقْسطِينَ عن يمينِه ، وقيامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يومَ القيامةِ عن يمينِه ، وتخييرِ آدمَ بين ما في يدَيْه .
فَقَالَ : اخْتَرْتُ يمينَ ربِّي ، وأخذِ الصَّدَقةِ بيمينِه ، يُرَبِّيها
لصاحِبها ، وكتابَتِه بيدِه على نَفْسِه : إنَّ رحمتَه تغلِبُ غضَبَه ،
وأنه مَسَحَ ظَهرَ آدمَ بيدِه ، ثم قَالَ له : ويداه مَفْتُوحَتانِ :
اختَرْ . فَقَالَ : اخترتُ يمينَ ربِّي ، وكِلْتا يديْه يمينٌ مبارَكةٌ ،
وأنَّ يمينَه مَلْأَى لاَ يَغِيضُها نفقةٌ ، سحَّاءُ الليلَ والنَّهارَ ،
وبيدِه الأُخْرى القِسْطُ يَرْفَعُ ويَخْفِضُ ، وأنه خلَقَ آدمَ مِن قبضةٍ
قبَضَها مِن جميعِ الأرضِ، وأنه يطْوِي السَّمَاواتِ يومَ القيامةِ . ثم
يأخُذُهُنَّ بيده اليُمْنَى . ثم يطْوِي الأرضَ باليدِ الأخرى ، وأنه خَطَّ
الألواحَ الَّتِي كتَبَها لمُوسَى بيدِه، وتأمَّلْ قولَه :{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ}
فلمَّا كانوا يُبايِعونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بأيدِيهم ، ويَضْرِبُ بيدِه على أيدِيهم ، وكان رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو السفيرَ بينَه وبينهم، كانت
مبايعَتُهم له مبايعةً لِلَّهِ تَعَالَى ، ولمَّا كان سُبْحَانَهُ فوقَ
سماواتِه على عَرْشِه وفوقَ الخلائِقِ كلِّهم كانت يدُه فوقَ أيديهم . كما
أنه سُبْحَانَهُ فوْقَهم . فهل يَصِحُّ هذا لمَن لَيْسَ له يدٌ حقيقةً ؟
ولفظُ اليدِ جَاءَ في القرآنِ على ثلاثةِ أنواعٍ : مفرداً ومُثَنًّى ومجموعاً . فالمُفرَدُ كقولِه :{ بِيَدِهِ الْمُلْكُ } والمُثَنَّى كقولِه : { خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } والمَجموعُ { عَمِلَتْ أَيْدِينَا } فحَيْثُ ذَكَرَ اليدَ مُثَنَّاةً أضافَ الفِعلَ إلى نَفْسِه بضميرِ الإفرادِ ، وعَدَّى الفِعلَ بالباءِ إليهما ، فَقَالَ :{ خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } وحَيْثُ ذَكَرَها مجموعةً أضافَ العَمَلَ إليها ، ولم يُعَدِّ الفِعلَ بالباءِ . فهذه ثلاثةُ فُروقٍ فلا يَحْتَمِلُ :{ خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } مِن المجازِ ما يَحْتمِلُه { عَمِلَتْ أَيْدِينَا } فإنَّ كلَّ أَحدٍ يَفْهَمُ مِن قولِه :{ عَمِلَتْ أَيْدِينَا } ما يُفْهَمُ مِن قولِه عَمِلْنَا وخَلَقْنَا ، كما يُفْهَمُ ذلك مِن قولِه :{ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } وأمَّا قـولُه :{ خَلَقْتُ بِيَدَيَّ }
فلو كان المرادُ منه مجرَّدَ الفِعلِ لم يكُنْ لِذِكْرِ اليدِ بعدَ نسبةِ
الفعلِ إلى الفاعِلِ معنىً ، فَكَيْفَ وقد دخلَتْ عليها الباءُ ؟ فَكَيْفَ
إذا ثُنِّيَتْ ؟ وَسِرُّ الفَرْقِ أنَّ الفِعلَ قد يُضافُ إلى يدِ ذي اليدِ
، والمُرادُ الإضافةُ إليه كقولِه :{ بِمَا قدَّمَتْ يَدَاكَ } { بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } وأمَّا إذا أُضِيفَ إليه الفِعلُ ثم عُدِّيَ بالباءِ إلى يدِه مُفرَدةً أو مُثناةً فهو مما باشَرَتْهُ يدُه).
التنبيهات السنية للشيخ: عبد العزيز بن ناصر الرشيد رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وقَوْلُهُ: ( مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ).(1)
(
وَقَالَتِ اليَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ
وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ
يَشَاءُ).(2)).
الشرح:
قال الشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد (ت: 1408هـ): ((1) قَولُهُ: (مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ): أي يقولُ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- مخاطِبًا لإبليسَ لَمَّا امتنَعَ من السُّجودِ لآدمَ: (مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) أي إنَّه -سُبْحَانَهُ- باشرَ خلقَه بيدهِ، كما في الحديثِ: ((لَمْ يَخْلُقِ اللهُ بِيَدِهِ إلاَّ ثَلاَثًا خَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ)) الحديثَ،
ففيه إثباتُ اليدينِ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى-، وأنَّهما يدانِ حقيقةً
لائقَتانِ بجلالِه وعظمتِه، وفيها الرَّدُّ على مَن زعمَ غيرَ ذلك ممَّن
صادمَ أدلَّةَ الكتابِ والسُّنـَّةِ، واتَّبعَ هواهُ وعطَّلَ هذه الصِّفةَ،
وزعم أنَّ المرادَ باليدِ القدرةُ أو النِّعمةُ كما تقَولُهُ الجهميَّةُ
والمعتزلةُ وأشباهُهم، وهذا التـَّأويلُ الَّذي زعَموه تأويلٌ فاسدٌ مصادمٌ
لأدلَّةِ الكتابِ والسُّنـَّةِ المتكاثرةِ الصَّريحةِ في إثباتِ اليدينِ
صفةً للهِ سُبْحَانَهُ وتعالى، فلو كانَ المرادُ باليدِ القدرةَ لوجبَ أنْ
يكونَ له -سُبْحَانَهُ- قُدرتانِ، وقدْ أجمعَ المُسلمون على أنَّه لا يجوزُ
أَنْ يكونَ له قُدرتانِ، وكذلكَ لا يجوزُ أنْ يُقَالَ خَلَقَ آدمَ
بِنعمَتين؛ لأنَّ نِعَمَ اللهِ على آدمَ وغيرِه لا تُحصى.
قال ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ تعالى:
وَردَ لفظُ اليدِ في الكتابِ والسُّنَّةِ وكلامِ الصَّحابة والتَّابعِين
في أكثرَ مِن مائةِ موضعٍ ورودًا متنوِّعًا متصرَّفًا فيه مَقروناً بما
يدلُّ على أنَّها يدٌ حقيقةً من الإمساكِ والطَّيِّ والقبضِ والبسطِ
والنَّضحِ باليدِ والخلقِ باليدين والمباشرةِ بهما، وكتبَ التَّوراةَ بيدِه
وغرسَ جنَّةَ عدنٍ بيدِه.
وقَولُهُ: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ):
فقطعَ بالضـَّرورةِ أنَّ المرادَ يدُ الذَّاتِ، لا يدُ القدرةِ
والنِّعمةِ، فإنَّالسِّياقَ والتَّركيبَ لا يحتملُه ألبتـَّةَ، انتهى.
وقد
ردَّ ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ على المبتدِعةِ الَّذين عطَّلُوا صفةَ
اليدِ، وزعموا أنَّ المرادَ باليدِ: القدرةُ أو النِّعمةُ، أو غيرُ ذلك من
التَّأويلاتِ الفاسدةِ من وجوهٍ عديدةٍ أنهاها إلى عِشرينَ وجهًا، وساقَ
الأدلَّةَ الكثيرةَ الصَّريحةَ في إثباتِ اليدِ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى-
حقيقةً، كما يليقُ بجلالِه وعظمتِه.
(2) قَولُهُ: (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ): قال ابنُ عبـَّاسٍ: المرادُ بُخْلـُه. فالغلُّ كنايةٌ عن البُخْلِ.
قَولُهُ: (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ): أي أمسكتْ عن الخيرِ.
وقَولُهُ: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ): أي بالفضلِ والعطاءِ،
فهذه الآيةُ كسابقتِهَا فيها إثباتُ صفةِ اليدَينِ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى-
كما يليقُ بجلالِه وعظمتِه، فعلينا أنْ نُثبتَ له -سُبْحَانَهُ وتعالَى-
ذلك، كما أثْبتَه لنفسِه وكما أثبَته له رسولُه -صلَّى اللهُ عليهِ
وسلَّمَ-، وهذا مَذهبُ أهلِ السُّنـَّةِ والجماعةِ، وفي حديثِ عبدِ اللهِ
بنِ عمرٍو: ((إنَّ اللهَ لَمْ يُبَاشِرْ بِيدِهِ أَوْ
لَمْ يَخْلُقْ بِيَدِهِ إلاَّ ثَلاَثًا: خَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ، وَغَرَسَ
جَنَّةَ عَدْنٍ بِيَدِهِ، وكَتَبَ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ)).
وقال
ابنُ القيِّمِ رحمَه اللهُ تعالى: هل يصحُّ في عقلٍ أو نقلٍ أو فطرةٍ أنْ
يُقَالَ لم يخلقْ بقدرتِه إلا ثلاثًا، أو لم يخلقْ بنعمتِه إلاَّ ثلاثا؟
وأيضًا فلو كانَ المرادُ به ههنا القدرَةَ لبَطلَ تخصيصُ آدمَ، فإنَّه
وجميعَ المخلوقاتِ حتَّى إبليسَ مخلوقٌ بقدرتِه، فأيُّ مزيَّةٍ لآدمَ على
إبليسَ في قَولِهِ: (أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ). اهـ.
وقال
البيهقِيُّ في كتابِ (الأسماءِ والصِّفاتِ)، ((بابُ ما جاءَ في إثباتِ
اليدينِ صِفتينِ، لا مِن حيثُ الجارحةُ)) فذكَرَ الآياتِ ثمَّ قال: قالَ
بعضُ أهلِ النَّظرِ: قد تكونُ اليدُ بمعنى القوَّةِ، كقَولِهِ (ذُو الأَيْدِ والأَبْصَارِ)،
أي ذو القوَّةِ، وبمعنى المُلكِ والقدرةِ والنِّعمةِ، وتكونُ صلةً أي
زائدةً، ثمَّ أبطلَ البيهقيُّ ذلك كلَّه، وأثبتَ أنَّ اليدينِ صِفتانِ
تعلَّقتا بخلقِ آدمَ تشريفًا له، دون إبليسَ تعلُّقَ القَدَرِ بالمقدورِ،
لا مِن طريقِ المُباشرةِ ولا مِن حيثُ المماسَّةُ، وليس لذلك التَّخصيصِ
وجهٌ غيرَ ما بيَّنَه بقَولِهِ: (لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ). اهـ).