17 Aug 2022
الإيمان بصفة العين
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وَقَوْلُهُ : {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا}[سُورَةُ الطُّور: 48] ، {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِّمَنْ كَانَ كُفِرَ}[سُورَةُ القَمَرِ : 13-14] ، {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي}[سُورَةُ طَهَ : 39]).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ مُحمَّد خَليل هَرَّاس رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وقولُهُ:
{ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بأَعْيُنِنا }، { وَحَمَلْنَاهُ
عَلى ذَاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ. تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ
كُفِرَ}، { وأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي. وَلِتُصْنَعَ عَلَى
عَيْنِي } (1)).
الشرح:
قال الشيخ محمد خليل هراس (ت: 1395هـ): ((1) قولُهُ: { واصْبِرْ لِحُكِمِ رَبِّكَ }
… إلخ. في هذهِِ الآياتِ الثلاثِ يُثبتُ اللهُ سبحانَهُ لنفسِهِ عيناً يرى
بهَا جميعَ المرئياتِ، وهيَ صفةٌ حقيقيَّةٌ للهِ عزَّ وجلَّ على ما يليقُ
بهِ، فلا يقتضي إثباتُهَا كونَهَا جارحةً مركَّبةً مِن شحمٍ وعصبٍ
وغيرهمَا.
وتفسيرُ المعطِّلةِ لهَا بالرؤيةِ أو بالحفظِ والرعايةِ نفيٌ وتعطيلٌ.
وأَمَّا
إفرادُهَا في بعضِ النِّصوصِ وجمعُهَا في البعضِ الآخرِ؛ فلا حُجَّةَ لهمْ
فيهِ على نفيهَا؛ فإنَّ لُغةَ العربِ تتَّسعُ لذلكَ، فقَدْ يُعَبَّرُ
فيهَا عن الاثنينِ بلفظِ الجمعِ، ويقومُ فيهَا الواحدُ مقامَ الاثنينِ كمَا
قدَّمنَا في اليدينِ.
على أَنَّهُ لا يمكنُ استعمالُ لفظِ العينِ في شيءٍ مِن هذهِِ المعاني التَّي ذكروهَا إلاَّ بالنِّسبةِ لمَنْ لهُ عينٌ حقيقيَّةٌ.
فهلْ يريدُ هؤلاءِ المعطِّلةُ أنْ يقولوا: إنَّ اللهَ يَتَمَدَّحُ بما ليسَ فيهِ، فيُثبتُ لنفسِهِ عينًا وهوَ عاطلٌ عنهُا؟! وهلْ يريدون أنْ يقولوا:
إنَّ رؤيتَهُ للأشياءِ لا تقعُ بصفةٍ خاصةٍ بهَا، بلْ هوَ يراهَا بذاتِهِ
كلِّهَا، كمَا تقولُ المعتزلةُ: إنَّهُ قادرٌ بذاتِهِ، مريدٌ بذاتِهِ …
إلخ؟!
وفي الآيةِ الأولى
يأمرُ اللهُ نبيَّهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلمَ بالصَّبرِ لحُكمِهِ،
والاحتمالِ لما يلقاهُ مِن أذى قومِهِ، ويُعلِّلُ ذلكَ الأمرَ بأنَّهُ
بمرأى منهُ، وفي كلاءَتِهِ وحفظِهِ.
وفي الآيةِ الثانيةِ
يخبرُ اللهُ عزَّ وجلَّ عن نبيِّهِ نوحٍ عليهِ السَّلامُ أَنَّهُ لما
كذَّبهُ قومُهُ، وحقَّتْ عليهِمْ كلمةُ العذابِ، وأخذَهُمُ اللهُ
بالطُّوفانِ؛ حَمَلَهُ هوَ ومَنْ معهُ مِن المؤمنينَ على سفينةٍ ذاتِ
ألواحٍ عظيمةٍ مِن الخشبِ ودُسُرٍ؛ أي: مساميرُ، جمعُ دِسارٍ، تُشَدُّ بهَا الألواحُ، وأنَّهَا كانَتْ تَجْرِي بعينِ اللهِ وحراستِهِ.
وفي الآيةِ الثالثةِ
خطابٌ من اللهِ لنبيِّهِ موسى عليهِ السَّلامُ بأنَّهُ ألقى عليهِ
مَحَبَّةً منهُ؛ يعني: أحبَّهُ هوَ سبحانَهُ وحبَّبهُ إلى خلقِهِ، وأنَّهُ
صنعَهُ على عينِهِ، وربَّاهُ تربيةً استعدَّ بهَا للقيامِ بما حمَلَهُ من
رسالةٍ إلى فرعونَ وقومِهِ).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ: صالح بن فوزان الفوزان
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (إثباتُ العينيْن للهِ تعالَى
وقولُهُ: (
وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بأَعْيُنِنا )، ( وَحَمَلْنَاهُ
عَلى ذَاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ. تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ
كُفِرَ)، ( وأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي. وَلِتُصْنَعَ عَلَى
عَيْنِي ) (1)).
الشرح:
قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: ((1)(وَاصْبِرْ) الصَّبرُ لغةً:
الحبسُ والمنعُ، فهو حَبْسُ النَّفْسِ عِن الجَزَعِ، وحبسُ اللِّسانِ عِن
التَّشَكِّي والتَسخُّطِ، وحبسُ الجوارحِ عَن لَطْمِ الخدودِ وشَقِّ
الجيوبِ
(لحُكْمِ رَبِّكَ) أي لقضائِه الْكَونيِّ والشَّرعيِّ
(فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا) أي بمرأىً مِنَّا وتحتَ حفظِنَا، فلا تبالِ بأذى الكفَّارِ. فإنَّهم لا يصلُون إليك.
قولُه: (وَحَمَلْنَاهُ) أي نوحًا عليه السَّلامُ
(عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ) أي عَلى سفينةٍ ذاتِ أخشابٍ عريضةٍ. ومساميرَ شُدَّتْ بها تلك الألواحُ، مفردُها: دِسَارٌ
(تَجْري بِأَعْيُنِنَا) أي بمنظرٍ ومرأىً منا وحفظٍ لها
(جَزَاءً لِمنْ كَانَ كُفِرَ) أي فعلنا بنوحٍ عليه السَّلامُ وبقومِه ما فعلنا مِن إنجائِه وإغراقِهم؛ ثوابًا لمن كُفِر به وجُحِد أمرهُ وهو نوحٌ عليه السَّلامُ.
وقولُه: (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) الخطابُ لموسى عليه السَّلامُ أي: وضعتُها عليك فَأَحْبَبتُكَ وحَبَّبتك إلى خَلقي
(وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْني) أي ولتُرَبّى وتُغذَّى بمرأى منِّي. أراك وأحفظُك.
الشَّاهدُ مِن الآياتِ:
أنَّ فيها إثباتَ العينين للهِ تعالى حقيقةً عَلى ما يليقُ به سبحانَه.
فقد نطَق القرآنُ بلفظِ العينِ مُضَافةً إليه مفردةً ومجموعةً، ونطقتِ
السُّنَّةُ بإضافتِها إليه مُثنَّاةً، وقال النَّبيُّ صَلى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلمَ: (( إنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ)) وذلك صريحٌ بأنَّه ليس المرادُ إثباتَ عينٍ واحدةٍ، فإنَّ ذلك عَوَرٌ ظَاهِرٌ، تعالى اللهُ عنه.
ولغةُ
العرَبِ جاءت بإفرادِ المضافِ و تثنيتِهِ وجمعِه، بحَسَبِ أحوالِ المضافِ
إليه، فإن أضافوا الواحدَ المتَّصلَ إلى مفردٍ، أفردوه، وإن أضافوا إلى
جمعٍ ظاهرًا أو مضمرًا فَالأحسنُ جمعُه؛ مُشاكَلَةً للفَّظِ، كقولِه
سبحانَه: (تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا) وكقولِه: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهَمْ مما عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً) وإن أضافوه إلى اسمٍ مثنًّى، فالأفصحُ في لغتهِم جمعُه، كقولِه (فَقَدْ صَغَتَ قُلُوبُكُمَا) وإنَّما
هما قلبان، فلا يلتبسُ عَلى السَّامعِ قولُ المتكلِّمِ: نراك بأعينِنا.
ونأخُذُك بأيدِينا. ولا يَفْهَم منه بشرٌ عَلى وجهِ الأرضِ عيوناً كثيرةً
عَلى وجهٍ واحدٍ، واللهُ أعلمُ).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وقَوْلُهُ: (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا) (1) [الطور: 48]. (وَحَمَلْناَهُ عَلَى ذَاتِ أَلْواَحٍ وَدُسُرٍ، تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ) [القمر: 13-14].
(وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْني) [طه: 39]).
الشرح:
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): ((1) ذَكرَ المؤلِّفُ -رحمَهُ اللَّهُ- - تَعَالَى - لإثباتِ العينينِ لِلَّهِ - تَعَالَى - ثلاثَ آياتٍ.
الآيةُ الأولى: قَوْلُهُ: (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا) [الطور: 48].
الخطابُ هُنَا للنَّبيِّ عليِه الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ.
والصَّبرُ: بمعنى الحبسِ، ومِنْهُ قولُهُم: قُتِلَ صبراً، أيْ: قُتِلَ وقَدْ حُبِسَ للقتلِ.
فالصَّبرُ فِي اللُّغةِ: بمعنى الحبسِ.
وفِي الشَّرعِ: قالوا: هُوَ الصبرُ لأحكامِ اللَّهِ، يعني: حبسَ النَّفْسِ لأحكامِ اللَّهِ.
وأحكامُ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ - شرعيَّةٌ وكونيَّةٌ:
والشَّرعيَّةُ: أوامرُ ونواهٍ، فالصبرُ عَلَى طاعةِ اللَّهِ صبرٌ عَلَى الأوامرِ، والصبرُ عَنْ معصيتِهِ صبرٌ عَنِ النَّواهِي،
والكونيَّةُ: أقدارُ اللَّهِ - تَعَالَى -، فيُصْبَرُ عَلَى أقدارهِ وقضائِهِ.
وَهَذَا معنى قولِ بعضِهم: الصَّبرُ ثلاثةُ أقسامٍ: صبرٌ عَلَى طاعةِ اللَّهِ، وصبرٌ عَنْ معصيةِ اللَّهِ، وصبرٌ عَلَى أقدارِ اللَّهِ المؤلمةِ.
فقولُهُ - تَعَالَى -: (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ): يتناولُ الأقسامَ الثَّلاثةَ:
1- الصَّبرُ عَلَى طاعةِ اللَّهِ.
2- وعَنْ معصيةِ اللَّهِ.
3- وعَلَى أقدارِ اللَّهِ.
أيْ: اصبرْ لحكمِ ربِّكَ الكونيِّ والشَّرعيِّ.
وبهَذَا نعرفُ أنَّ التقسيمَ الَّذِي ذكرَه العلماءُ، وقالوا:
إنَّ الصَّبرَ ثلاثةُ أقسامٍ: صبرٌ عَلَى طاعةِ اللَّهِ، وصبرٌ عَنْ
معصيةِ اللَّهِ، وصبرٌ عَلَى أقدارِ اللَّهِ داخلٌ فِي هذِهِ الكلمةِ: (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ).
ووجْهُ الدُّخولِ:
أنَّ الحكمَ إمَّا كونيٌّ وإمَّا شرعيٌّ، والشَّرعيُّ أوامرُ ونواهٍ.
والنَّبيُّ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ - أمرَه اللَّهُ - عزَّ وجلَّ -
بأوامرَ، ونهاهُ عَنْ نواهٍ، وقدَّرَ عَلَيْهِ مقدوراتٍ.
فالأوامرُ مثلُ: (يَأَيُّهَا الرَّسُولُ بِلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ) [المائدة: 67]، (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ) [النحل:
125]، وهذِهِ أوامرُ عظيمةٌ، يعني: لو قِيلَ: لإنسانٍ: اعبدْ ربَّكَ،
فإنَّهُ يتمكَّنُ مِنَ العبادةِ، لكنَّ الدَّعوةَ والتَّبليغَ أمرٌ صعبٌ؛
لأنَّهُ يتعبُ فِي معاناةِ الآخرينَ وجهادِهم، فيكونُ صعباً.
وأمَّا النَّواهِي فقدْ نهاهُ عَنِ الشِّرْكِ، قالَ: (وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام: 14]، (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر: 65]… ومَا أشَبْهَ ذلِكَ.
وأمَّا الأحكامُ القدَريَّةُ:
فَقَدْ حصلَ عَلَيْهِ أذىً مِنْ قومِهِ، أذىً قوليٌ، وأذىً فعليٌ، لاَ
يَصْبرُ عَلَيْهِِ إِلاَّ أمثالُ الرَّسولِ - عليْهِ الصَّلاَةُ
والسَّلاَمُ -.
آذَوْهُ بالقولِ: بالسُّخريَةِ، والاستهزاءِ، والتَّهجينِ، وتنفيرِ النَّاسِ عَنْهُ.
وآذَوْهُ بالفعلِ:
كَانَ ساجداً تحتَ الكعبةِ فِي آمَنِ بقعةٍ مِنَ الأرضِ، ساجداً لربِّه،
فذَهَبُوا وأَتَوْا بِسَلَى النَّاقةِ، ووضعوهُ عَلَى ظَهْرهِ وهُوَ
ساجدٌ!!
ليسَ
هُنَاكَ أبلغُ مِنْ هذِهِ الأذيَّةِ، معَ العلمِ بأنَّهُ لو يدخلُ كافرٌ
مشركٌ إِلَى الحرمِ لكَانَ عندَهم آمناً، لاَ يُؤذُونَه فِيهِ، بَلْ
يُكرمونهَ ويطعمونَهُ النَّبيذَ ويسقونَهُ ماءَ زمزمَ!!، ومحمَّدٌ - عليْهِ
الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ - ساجدٌ لِلَّهِ يُؤذونَه هَذَا الأذَى!!
كانوا يأتونَ بالعَذِرَةِ والأنْتانِ والأقذارِ يضعونَه عندَ عَتَبةِ بابهِ!!.
وخرجَ
إِلَى أهلِ الطَّائفِ، ومَاذَا صارَ؟! صارَ الإيذاءُ العظيمُ، صَفَّ
سفهاؤُهمْ وغلمانهُمْ عَلَى جانِبَيْ الطَّريقِ، وجَعلُوا يرمونَهُ
بالحجارةِ حَتَّى أدمَوْا عَقِبَهُ، فلمْ يُفِقْ إلاَّ فِي قرنِ
الثَّعالبِ.
فصبرَ عَلَى حُكمِ اللَّهِ، ولكنَّهُ صَبرُ مؤمنٍ يؤمنُ بأنَّ العاقبةَ لَهُ؛ لأنَّ اللَّهَ قَالَ لَهُ: (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا)… هَذَا الاعتناءُ والحفاوةُ… أكرمُ شيءٍ يُكرَمُ بهِ الإنسانُ أنْ تقولَ لَهُ: أنتَ بعينِي، أنتَ بقلبِي… ومَا أشبَهَ ذلِكَ.
أنتَ
بعيني، معناه: أنا أُلاحظُكَ بعينِي، وَهَذَا تعبيرٌ معروفٌ عندَ النَّاسِ،
يكونُ تمامُ الحراسةِ والعنايةِ والحفظِ بمثلِ هَذَا التَّعبيرِ، أنتَ
بعينِي.
إذاً: قولُهُ: (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا)، يعني: فإنَّكَ محروسٌ غايةَ الحراسةِ، محفوظٌ غايةَ الحفظِ.
(بِأَعْيُنِنَا): أعيُنُنُا معَكَ، نحفظُكَ، ونرعاكَ، ونعتنِي بِكَ.
فِي الآيةِ الكريمةِ إثباتُ العينِ لِلَّهِ - عزَّ وجلَّ -، لكنَّها جاءَتْ بصيغةِ الجمعِ، لِمَا سنذكُرُ إنْ شاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -.
العينُ مِنَ الصِّفاتِ الذاتيَّةِ الخبريَّةِ.
الذاتيَّةِ: لأنَّهُ لَمْ يَزلْ ولاَ يَزالُ متَّصفاً بِها،
الخبريةِ: لأنَّ مسُمَّاها بالنِّسبةِ إلينا أجزاءٌ وأبعاضٌ.
فالعينُ
مِنَّا بعضٌ مِنَ الوجهِ، والوجهُ بعضٌ مِنَ الجسمِ، لكنَّها بالنِّسبةِ
لِلَّهِ لاَ يجوزُ أنْ نقولَ: إنهَّا بعضٌ مِنَ اللَّهِ؛ لأنَّهُ سبقَ أنَّ
هَذَا اللَّفظَ لَمْ يَرِدْ، وأنَّهُ يقتضِي التَّجزئةَ فِي الخالقِ،
وأنَّ البعضَ أو الجزءَ هُوَ الَّذِي يجوزُ بقاءُ الكُلِّ بفقدِه، ويجوزُ
أنْ يُفقدَ، وصفاتُ اللَّهِ لاَ يجوزُ أنْ تفقدَ أبداً، بَلْ هِيَ باقيةٌ.
وقَدْ
دلَّ الحديثُ الصحيحُ عنْ رسولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أنَّ لِلَّهِ عَيْنَيْنِ اثنتينِ فَقَطْ، حينَ وصفَ الدَّجالَّ
وقالَ: ((إِنَّهُ أَعْوَرُ، وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ))، وفِي لفظِ: ((أَعْوَرُ العَيْنِ اليُمْنى)).
وقَدْ قَالَ بعضُ النَّاسِ معنى (أَعْوَرُ)، أيْ: مَعِيبٌ، وليسَ مِنْ عَورِ العينِ!!.
وَهَذَا لاَ شكَّ أنَّهُ تحريفٌ وتجاهلٌ للَّفظِ الصَّحيحِ، الَّذِي فِي البُخارِي وغيرِه: ((أَعْوَرُ العَيْنِ اليُمْنى، كَأَنَّ عَيْنَهُ عنبةٌ طَافِيَةٌ)) وَهَذَا واضحٌ.
ولاَ
يقالُ أيضاً: (أعورُ) باللُّغةِ العربيَّةِ، إِلاَّ لعورِ العَيْنِ، أمَّا
إِذَا قِيلَ: (عَورٌ) أوْ (عوارٌ)، فرُبَّمَا يرادُ بِهِ مطلقُ العيبُ.
وَهَذَا الحديثُ يدلُّ عَلَى أنَّ لِلَّهِ - تَعَالَى - عينينِ اثنتينِ فَقَطْ.
ووجهُ الدَّلالةِ
أنَّهُ لو كَانَ لِلَّهِ أكثرُ من اثنتينِ لكَانَ البيانُ بهِ أوضحَ مِنَ
البيانِ بالعورِ؛ لأنَّهُ لو كَانَ لِلَّهِ أكثرُ مِنْ عينينِ لقالَ: إنَّ
ربَّكُم لَهُ أعينٌ؛ لأنَّهُ إِذَا كَانَ لَهُ أعينٌ أكثرُ من ثِنْتينِ،
صارَ وضوحُ أنَّ الدَّجَّالَ ليسَ بربٍّ أَبْيَنَ.
وأيضاً:
لو كَانَ لِلَّهِ - عزَّ وجلَّ - أكثرُ مِنْ عينينِ لكَانَ ذلِكَ من
كمالِهِ، وكَانَ تَرْكُ ذِكرِه تفويتاً للثَّناءِ عَلَى اللَّهِ؛ لأنَّ
الكثرةَ تدلُّ عَلَى القُوَّةِ والكمالِ والتَّمامِ، فلو كَانَ لِلَّهِ
أكثرُ مِنْ عينينِ لبيَّنَهَا الرَّسولُ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ
-، لئلاَ يفوتُنَا اعتقادُ هَذَا الكمالِ، وَهُوَ الزَّائدُ عَلَى العينينِ
الثِّنْتينِ.
وذَكرَ ابنُ القيِّمِ -رحمَهُ اللَّهُ- فِي كتابهِ ((الصَّواعقُ المرسَلَةُ)) حديثاً، لكنَّهُ ضعيفٌ لانقطاعِه، وهُوَ: ((إنَّ الْعَبْدَ إِذَا قامَ فِي الصَّلاَةِ قامَ بَيْنَ عَيْنَيِ الرَّحْمَنِ…)): ((عَيْنَي)):
هذِهِ تثنيةٌ، لكنَّ الحديثَ ضعيفٌ، واعتمادُنا فِي عقيدتِنا هذِهِ عَلَى
الحديثِ الصَّحيحِ، حديثِ الدَّجَّالِ؛ لأنَّهُ واضحٌ لِمَنْ تأمَّلَهُ.
ولقَدْ
ذَكرَ ذلِكَ عثمانُ بنُ سعيدٍ الدَّارِمِيُّ -رحمَهُ اللَّهُ- فِي
((ردِّهِ عَلَى بِشرٍ المرِّيسيِّ))، وكذلِكَ أيضاً ذكرَهُ ابنُ خزيمةَ فِي
((كتابِ التَّوحيدِ))، وذَكَرَ أيضاً إجماعَ السَّلَفِ عَلَى ذلِكَ أبو
الحسَنِ الأشعريِّ -رحمَهُ اللَّهُ- وأبو بكرٍ الباقِلاَّنيُّ، والأمرُ فِي
هَذَا واضحٌ.
فعقيدتنُا الَّتِي نَدِينُ لِلَّهِ بها: أنَّ لِلَّهِ - تَعَالَى - عينينِ اثنتينِ، لاَ زيادةَ.
فإنْ قِيلَ: إنَّ مِنَ السَّلَفِ مَنْ فسَّرَ قولَهُ - تَعَالَى -: (بِأَعْيُنِنَا)،
بقولِهِ: بمرأًى مِنَّا، فسَّرَهُ بذلِكَ أئمَّةٌ سَلفيُّونَ معروفونَ،
وأنْتُم تقولونَ: إنَّ التَّحريفَ محرَّمٌ وممتنعٌ، فمَا الجوابُ؟
فالجوابُ:
أنهَّم فسَّرُوها باللازمِ، مَعَ إثباتِ الأصلِ، وهِيَ العينُ، وأهلُ
التَّحريفِ يقولون: بمرأى منا، بدونِ إثباتِ العينِ، وأهلُ السُّنَّةِ
والجماعةِ يقولون: (بِأَعْيُنِنَا): بمرأًى مِنَّا، مَعَ إثباتِ العينِ.
لكنْ ذكرُ العينِ هُنَا أشدُّ توكيداً وعنايةً مِنْ ذكرِ مجرَّدِ الرؤيةِ؛ وَلِهَذَا قالَ: (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا).
قالتِ
المعطِّلةُ: أجلبْتُم علينَا بالخيلِ والرَّجِلِ فِي إنكارِكُم علينَا
التَّأويلَ، وأنْتُمْ أوَّلْتُمْ فأخرجْتُم الآيةَ عَنْ ظاهرِها، فاللَّهُ
يقولُ: (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا)، فخُذوا
بالظَّاهِرِ، وإِذَا أخذْتُم بالظَّاهرِ، كفرْتُم، وإِذَا لَمْ تأخُذوا
بالظَّاهرِ، تناقضْتُم، فمرَّةً تقولون: يجوزُ التَّأويلُ، ومرَّةً
تقولونَ: لاَ يجوزُ التَّأويلُ، وتُسمُّونَهُ تحريفاً، وهَلْ هَذَا إِلاَّ
تحكُّمٌ بدينِ اللَّهِ؟!
قلْنا: نأخذُ بالظَّاهرِ، وعَلَى العينِ والرَّأسِ، وَهُوَ طريقَتُنا، ولاَ نخالِفُهُ.
قالوا: الظَّاهرُ مِنَ الآيةِ أنَّ محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعينِ اللَّهِ، وسطَ العينِ، كَمَا تقولُ:
زيدٌ بالبيتِ، زيدٌ بالمسجدِ، فالباءُ للظَّرفيَّةِ، فيكونُ زيدٌ داخلَ
البيتِ وداخلَ المسجدِ، فيكونُ قولُهُ: (بِأَعْيُنِنَا)، أيْ داخلَ
أعيننِا!، وإِذَا قلْتُم بِهَذَا كفرْتُم؛ لأنَّكُم جعلْتَم اللَّهَ محلاًّ
للخلائِق، فأنْتُم حلوليَّةٌ، وإنْ لَمْ تقولوا بهِ، تناقضْتُم؟!
قلنْا لَهُم:
معاذَ اللَّهِ! ثُمَّ معاذَ اللَّهِ! ثُمَّ معاذَ اللَّهِ! أنْ يكونَ مَا
ذكرتمُوه ظاهرَ القرآنِ، وأنْتُم إِن اعتقدْتُم أنَّ هَذَا ظاهرُ القرآنِ،
كفرْتُم؛ لأنَّ مَنْ اعتقدَ أنَّ ظاهرَ القرآنِ كفرٌ وضلالٌ، فَهُوَ كافرٌ
ضالٌّ.
فأنْتُم تُوبوا إِلَى اللَّهِ مِنْ قولِكُم:
إنَّ هَذَا هُوَ ظاهرُ اللَّفْظِ!، واسألوا جميعَ أهلِ اللُّغةِ مِنَ
الشُّعراءِ والخطباءِ: هلْ يقصدونَ بمثلِ هذِهِ العبارةِ أنَّ الإنسانَ
المنظورَ إِلَيْهِ بالعينِ حالٌّ فِي جفنِ العينِ؟! اسألُوا مَن شِئتُمْ
مِن أهْلِ اللُّغةِ أحياءً وأمواتاً!!
فأنْتَ
إِذَا رأيْتَ أساليبَ اللُّغةِ العربيَّةِ، عرفْتَ أنَّ هَذَا المَعْنَى
الَّذِي ذكرُوه وأَلْزَمُونا بهِ لاَ يَرِدُ فِي اللُّغةِ العربيَّةِ،
فضلاً عَنْ أنْ يكونَ مضافاً إِلَى الربِّ - عزَّ وجلَّ -، فإضافتُه إِلَى
الربِّ كُفرٌ منكَرٌ، وهُوَ منكَرٌ لغةً وشرعاً وعقلاً.
فإنْ قِيلَ: بمَاذَا تفسِّرونَ الباءَ فِي قولِهِ: (بِأَعْيُنِنَا)؟
قلْنا:
نَفْسِّرُها بالمصاحبةِ، إِذَا قلْتَ: أنْتَ بعينِي، يعني: أنَّ عَيْنِي
تصحبُكَ وتنظرُ إلَيْكَ، لاَ تَنْفكُّ عَنْكَ، فالمعنَى: أنَّ اللَّهَ -
عزَّ وجلَّ - يقولُ لنبيِّهِ: اصبرْ لحكمِ اللَّهِ، فإنَّكَ محوطٌ
بعنايَتِنَا وبِرُؤيَتِنَا لكَ بالعينِ، حَتَّى لاَ ينالَكَ أحدٌ بسوءٍ.
ولاَ
يمكنُ أنْ تكونَ الباءُ هُنَا للظَّرفيَّةِ؛ لأنَّهُ يقتضِي أنْ يكونَ
رسولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي عينِ اللَّهِ،
وَهَذَا محالٌ.
وأيضاً،
فإنَّ رسولَ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خوطِبَ بذلِكَ
وهُوَ فِي الأرضِ، فَإِذَا قلْتُمْ: إنَّهُ كَانَ فِي عينِ اللَّهِ كانَتْ
دلالةُ القرآنِ كذباً!.
وَهَذَا
وجهٌ آخَرُ فِي بُطلانِ دَعْوَى أنَّ ظاهِرَ القُرآنِ أنَّ الرَّسولَ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي عينِ اللَّهِ - تَعَالَى -.
الآيةُ الثَّانِيَةُ: قولُهُ - تَعَالَى -: (وَحَمَلْناَهُ عَلَى ذَاتِ أَلْواَحٍ وَدُسُرٍ، تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ) [القمر: 13-14].
(وَحَمَلْنَاهُ): الضَّميرُ يعودُ عَلَى نوحٍ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ -.
وقولُهُ: (وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَحٍ وَدُسُرٍ)،
أيْ: عَلَى سفينةٍ ذاتِ ألواحٍ ودسرٍ، وهذِهِ السفينةُ كَانَ - عليْهِ
الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ - يصنَعُها، وكَانَ يمرُّ بِهِ قومُه، فيسخرونَ
مِنْهُ، فيقولُ: (إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ) [هود: 38].
صنعَهَا بأمرِ اللَّهِ ورعايةِ اللَّهِ وعنايتِهِ، وقَالَ اللَّهُ لَهُُ: (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا) [هود: 37]، فاللَّهُ - تَعَالَى - ينظرُ إِلَيْهِ وهُوَ يصنعُ الفُلْكَ، ويُلْهِمُهُ كَيْفَ يصنَعُهَا.
ووصَفَها اللَّهُ هُنا فِي قولِهِ: (ذَاتِ أَلْواَحٍ وَدُسُرٍ): (ذَاتِ): بمعنى: صاحبةِ،
والألواحِ: الخشبِ.
والدُّسُرِ:
مَا يُربَطُ بِهِ الخشبُ كالمساميرِ والحبالِ ومَا أشبهَ ذلِكَ، وأكثرُ
المفسِّرينَ عَلَى أنَّ المرادَ بها المساميرُ الَّتِي تُربطُ بها
الأخشابُ.
(تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا): هَذَا الشَّاهِدُ: (بأعيننا)،
أيْ: ذاتُ الألواحِ والدُّسُرِ بأعينِ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ -، والمرادُ
بالأعينِ هُنَا عينانِ فَقَطْ، كَمَا مرَّ، ومعنَى تَجْرِي بِها، أيْ:
مصحوبةً بنظرنِا بأعيُنِنَا، فالباءُ هُنَا للمصاحبَةِ، تَجري عَلَى الماءِ
الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّماءِ ونَبَعَ مِنَ الأرضِ؛ لأنَّ نوحاً - عليْهِ
الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ - دَعَا ربَّهُ (أَنِّى مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ) [القمر: 10]، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: (فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ، وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً) [القمر: 11-12]، فكانَتْ هذِهِ السَّفينةُ تجري بعينِ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ -.
قَدْ يقولُ قائلٌ: لمَاذَا لَمْ يَقُلْ: وحملْناهُ عَلَى السَّفينةِ، أو: حملنْاهُ عَلَى فَلَكٍ، بلْ قالَ: (عَلَى ذَاتِ أَلْوَحٍ وَدُسُرٍ)؟
والجوابُ عَلَى هَذَا أنْ نقولَ: عَدَلَ عن التَّعبيرِ بالفلكِ والسفينةِ إِلَى التَّعبيرِ بذاتِ ألواحٍ ودُسرٍ، لوجوهٍ ثلاثةٍ:
الوجهُ الأوَّلُ:
مراعاةٌ للآياتِ وفواصِلِها، فلو قالَ: حملْناه عَلَى فُلكٍ، لَمْ تتناسبْ
هذِهِ الآيةُ مَعَ مَا بعدَها ولاَ مَا قبْلَها، ولو قالَ: عَلَى سفينةٍ،
كذلِكَ، لكنْ مِنْ أجلِ تناسُبِ الآياتِ فِي فواصِلِهَا وفِي كلماتِها
قالَ: (عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ).
الوجهُ الثَّاني:
مِنْ أجلِ أنْ يتعلَّمَ النَّاسُ كَيْفَ يصنعونَ السُّفنَ، وبيانِ أنَّها
مِنَ الألواحِ والمساميرِ، وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: (وَلَقَد تَّرَكْناَهَا ءَايَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ) [القمر: 15]، فأبقى اللَّهُ - تَعَالَى - علمَها آيةً للخلقِ، يصنعونَ كَمَا ألَهَمَ اللَّهُ - تَعَالَى - نوحاً.
الوجهُ الثَّالثُ: الإشارةُ إِلَى قوتِها، حَيْثُ كانَتْ مِنْ ألواحٍ ودسرٍ، والتَّنكيرُ هُنَا للتَّعظيمِ.
ورُوعيَ التَّركيزُ عَلَى مادَّتِها، ونظيرُ ذلِكَ فِي ذكرِ الوصفِ دونَ الموصوفِ: قولُهُ - تَعَالَى -: (أَنِ اعْمَلْ سَابِغَتٍ) [سبأ: 11] ولَمْ يقلْ: دُرُوعاً، من أجل العنايةِ بفائدةِ هذِهِ الدُّروعِ، وهِيَ أن تكونَ سابغةً تامَّةً، فهذِهِ مِثلُهُا.
وقولُهُ: (تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا)، نقولُ فِيهَا: مَا قلنْاهُ فِي قولِهِ - تَعَالَى -: (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا) [الطور: 48].
الآيةُ الثَّالثةُ: قولُهُ: (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي، وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْني) [طه: 39]:
الخطابُ لموسَى - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ -.
فقولُهُ: (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي): اختلَفَ المفسِّرُونَ فِي معْنَاهَا:
فَمِنْهُمْ مَنْ قالَ: (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي)، يعني: أنِّي أحببْتُكَ.
ومِنْهُمْ
مَنْ قالَ: ألقيتُ عليكَ محبَّةً مِنَ النَّاسِ، والإلقاءُ مِنَ اللَّهِ،
أيْ: أنَّ: مَنْ رآكَ أحبَّكَ، وشاهِدُ هَذَا أنَّ امرأةَ فرعونَ لمَا
رأتْهُ أحبَّتْهُ وقالَتْ: (لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) [القصص: 9].
ولو
قَالَ قائلٌ: أَيُمكنُكُمْ أنْ تحملُوا الآيةَ عَلَى المعنيينِ؟ لقلْنا:
نَعَمْ! بناءً عَلَى القاعدةِ، وهُوَ أنَّ الآيةَ إِذَا كانَتْ تحتملُ
معنيينِ لاَ منافاةَ بيَنْهَمُا، فإنَّها تُحْملُ عَلَيْهِمَا جميعاً،
فموسَى - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ - محبوبٌ مِنَ اللَّهِ - عزَّ
وجلَّ -، ومحبوبٌ مِنَ النَّاسِ، إِذَا رآهُ النَّاسُ أحبُّوهُ، والواقعُ
أنَّ المعنيينِ متلازمانِ؛ لأنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - إِذَا أحبَّ عبداً،
أَلْقَى فِي قلوبِ العبادِ محبَّتَهُ.
ويُروى عن ابنِ عباسٍ - رَضِي اللَّهُ عَنْهُ - أنَّهُ قالَ: أحبَّه اللَّهُ، وحبَّبَهُ إِلَى خلقِهِ.
ثُمَّ قالَ: (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي):
الصُّنعُ: جعلُ الشَّيءِ عَلَى صفةٍ معيَّنةٍ، كصُنعِ صفائحِ الحديدِ
قُدوراً، وصُنعِ الخَشبِ أبواباً، وصُنعُ كُلِّ شيءٍ بحسبهِ، فصِناعةُ
البيتِ: بناءُ البيتِ، وصناعةُ الحديدِ: جعلُها أوانَيَ مَثَلاً أوْ
محرِّكاتٍ، وصنعُ الآدميِّ: معناهُ التَّربيةُ البدنيَّةُ والعقليَّةُ:
تربيتُهُ البدنيةُ بالغذاءِ، وتربيتُه العقليةُ بالآدابِ والأخلاقِ ومَا
أشَبْهَ ذلِكَ.
وموسَى - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ - حصلَ لَهُ ذلِكَ، فإنَّهُ رُبِّيَ عَلَى عينِ اللَّهِ:
لَمَّا
التقطَهُ آلُ فرعونَ، حماهُ اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - من قَتْلِهمْ، مَعَ
أنَّهم كانوا يقتلونَ أبناءَ بني إسرائيلَ، فقَضَى اللَّهُ - تَعَالَى -
أنَّ هَذَا الَّذِي تُقْتَلُ النَّاسُ مِنْ أجلِه سَيَتَربَّى فِي أحضانِ
آلِ فرعونَ، فالنَّاسُ يُقتَلونَ مِنْ أَجْلِهِ، وهَوُ يتربَّى آمناً فِي
أحضانِهم، وانظرْ إِلَى هذِهِ القُدرةِ العظيمةِ!!
ومِنْ تربيةِ اللَّهِ لَهُ عُرِضَ عَلَى المراضعِ – النِّساءِ اللاَّتي يُرضعْنَهُ -، ولكنَّهُ مَا رَضعَ مِنْ أيِّ واحدةٍ: (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ)، [القصص: 12] فمَا رضعَ مِنْ امرأةٍ قطُّ، وكانتْ أختُه قَدْ انتُدِبَتْ من قِبَلِ أُمِّهِ، فرأَتْهُم، وقالَتْ: (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناَصِحُونَ) [القصص: 12]؟ قالوا: نعمْ، نَحْنُ نَودُّ هَذَا، فَقَالَتْ: اتَّبِعوني، فتَبعِوها، قَالَ - تَعَالَى -: (فَرَدَدْناَهُ إِلَى أُمِّهِ كَىْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ)
[القصص: 13]! ولمْ يرَضَعْ مِنْ امرأةٍ قطُّ، مَعَ أنَّهُ رضيعٌ!، لكنَّ
هَذَا مِنْ كمالِ قدرَةِ اللَّهِ وصدقِ وعدِهِ؛ لأنَّ اللَّهَ - عزَّ وجلَّ
- قَالَ لَهَا: (فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ
فِى الْيَمِّ، وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي، إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ
وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) [القصص: 7].
الأمُّ شفقتُها عَلَى ابنِها لاَ أَحَدَ يتصوَّرُها، قِيلَ: لَهَا: اجعلي ابنَكِ فِي صندوقٍ، وأَلْقِيهِ فِي البحرِ، وسيأتِي إليكِ.
لولاَ
الإيمانُ الَّذِي معَ هذِهِ المرأةِ مَا فعلَتْ هَذَا الشَّيءَ!، تُلْقِي
ابنَها فِي البحرِ! لو أنَّ ابنَها سقطَ فِي تابوتهِ فِي البحرِ لجرَّتْهُ،
فكَيْفَ وهِيَ الَّتِي تُلقِيهِ؟! لكنْ لثِقَتِها بالرَّبِّ - عزَّ وجلَّ -
ووعدِه ألقَتْه فِي اليَمِّ.
وقولُهُ: (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِى)، بالإفرادِ، هَلْ يُنافِي مَا سبقَ مِنْ ذكرِها بالجمعِ؟!
الجوابُ:
لاَ تنافيَ، وذلِكَ لأنَّ المفردَ المضافَ يعُمُّ، فيشملُ كُلَّ مَا
ثَبَتَ لِلَّهِ مِنْ عينٍ، وحينئذٍ لاَ منافاةَ بينَ المفردِ، وبينَ الجمعِ
أوِ التَّثنِيَةِ.
إذاً: يَبْقَى النَّظرُ بينَ التَّثنيةِ والجمعِ، كَيْفَ نجمعُ بينهَمُا؟!
الجوابُ أنْ نقولَ:
إنْ كَانَ أقلُّ الجمعِ اثنينِ فلاَ منافاةَ؛ لأنَّنَا نقولُ: هَذَا
الجمعُ دالٌّ عَلَى اثنتينِ، فلاَ يُنافِيهِ، وإنْ كَانَ أقلُّ الجمعِ
ثلاثةً فإنَّ هَذَا الجمعَ لاَ يُرادُ بِهِ الثلاثةُ، وإنمَّا يُرادُ بهِ
التَّعظيمُ والتَّناسبُ بينَ ضميرِ الجمعِ وبينَ المضافِ إليْهِ.
وقدْ فسَّرَ أهلُ التَّحريفِ والتَّعطيلِ العينَ بالرُّؤيةِ بدونِ عينٍ، وقالُوا: (بِأَعْيُنِنَا):
برؤيةٍ منَّا، ولكنْ لاَ عينَ، والعينُ لاَ يمكنُ أنْ تُثبتَ لِلَّهِ -
عزَّ وجلَّ - أبداً؛ لأنَّ العينَ جزءٌ مِنَ الجسمِ، فَإِذَا أثبتْنا
العينَ لِلَّهِ أثبتْنا تجزئةً وجسماً، وَهَذَا شيءٌ ممتنعٌ، فلاَ يجوزُ،
ولكنَّهُ ذكَرَ العينَ مِنْ بابِ تأكيدِ الرُّؤيةِ، يعني: كأنمَّا نَراكَ
ولنا عينٌ، والأمرُ ليسَ كذلِكَ!!
فنقولُ لَهُم: هَذَا القولُ خطأٌ مِنْ عِدَّةِ أوجهٍ:
الوجهُ الأوَّلُ: أنَّهُ مخالِفٌ لظاهرِ اللَّفظِ.
الثَّاني: أنَّهُ مخالفٌ لإجماعِ السلفِ.
الثَّالثُ: أنَّهُ لاَ دليلَ عليْهِ، أيْ: أنَّ المرادَ بالعينِ مجرَّدُ الرُّؤيةِ.
الرَّابعُ:
أننَّا إِذَا قُلنْا بأنهَّا الرُّؤيةُ وأثبتَ اللَّهُ لنَفْسِه عَيناً
فلازمٌ ذلِكَ أنَّهُ يَرى بتلْكَ العينِ، وحينئذٍ يكونُ فِي الآيةِ دليلٌ
عَلَى أنَّها عينٌ حقيقيَّةٌ).
الروضة الندية للشيخ: زيد بن عبد العزيز بن فياض رحمه الله
المتن:
قال أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (* إثباتُ صفةِ عينَىِ الرَّحمنِ جلَّ وعلا *
وقولُهُ :({
وَاصْبِرْ لِحُكْـمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بأَعْيُنِنا } ، { وَحَمَلْنَاهُ
عَلى ذَاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ
كُفِرَ } ، { وأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي * وَلِتُصْنَعَ عَلَى
عَيْنِي } ).
الشرح:
قال الشيخ زيد بن عبد العزيز بن فياض (ت: 1416هـ): (قد
دَلَّ الكِتابُ والسُّنَّةُ الصَّرِيحةُ وإجماعُ أهلِ الحقِّ على أنَّ
اللَّهَ تَعَالَى مَوصوفٌ بأنَّ له عَيْنَيْنِ حقيقةً على ما يَليقُ
بجَلالِه وعظَمَتِه .
وقـولُه :{ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُـرٍ } الدُّسُرُ : المَسامِيرُ ، واحِدُها دِسارٌ ، والمرادُ بذاتِ ألواحٍ ودُسُرٍ السفينةُ
{ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا } بمَرْأًى مِنَّا ، وفي حِفْطِنا وكَلاءَتِنا ،
قولُه :{ وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي }. أيْ : لِتُرَبَّي î6تُغَذَّى وتُنَعَّمَ على عيني أَراكَ وأحْفَظُكَ .
ووَرَدَ
وصْفُ اللَّهِ بالعَيْنَيْنِ في القرآنِ بلفظِ المُفرَدِ تارةً ، وبلفظِ
الجَمْعِ تارةً ، ووَرَدَ في السُّنَّةِ بلفظِ التَّثنيةِ .
وذلك أنَّ المُفْرَدَ المُضافَ يُرادُ به أكثرُ مِن واحدٍ كقولِه :{ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا } ومنه :{ وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي }
ثم إنه ذَكَرَ العَيْنَ المُفرَدةَ المضافةَ إلى الضميرِ المُفرَدِ ،
والأَعْيُنَ مَجموعةً %3ضافةً إلى ضميرِ الجمعِ ، وذِكْرُ العَيْنِ
مُفرَدةً لا يدُلُّ على أنها عَيْنٌ واحدةٌ ، لَيْسَ إلا كقولِك : افْعَلْ
هذا على عَيْنِي ، وأُحِبُّكَ على عيني ، ولا يُريدُ أنَّ له عَيناً واحدةً
، وقد نَطقَ الكتابُ بلفظِ العَيْنِ مضافةً إليه ، مُفردةً ومَجموعةً ،
ونطَقَتِ السُّنَّةُ بإضافَتِها إليه مُثَنَّاةً ، كما قَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ الْعَبْدَ
إِذَا قَامَ فِي الصَّلاةِ قَامَ بَيْنَ عَيْنَيِ الرَّحْمَنِ ، فَإِذَا
الْتَفَتَ قَالَ لَهُ رَبُّهُ : إِلَى مَنْ تَلْتَفِتُ ؟ إِلَى خَيْرٍ لَكَ
مِنِّي ؟ " وقولُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ "
صَرِيحٌ بأنه لَيْسَ المرادُ إثباتَ عَينٍ واحدةٍ . فإنَّ ذلك عَورٌ
ظاهِرٌ تَعَالَى اللَّهُ عنه ، وهل يَفْهَمُ مِن قولِ الدَّاعي :
اللَّهُمَّ احْرُسْنَا بِعَيْنِكَ الَّتِي لا تنامُ أنها عَينٌ واحدةٌ
لَيْسَ إلاَّ ذِهْنٌ أَقْلَفُ ، وقلبٌ أَغْلَفُ ، وقَالَ عثمانُ بنُ سعيدٍ :
الأعورُ ضدُّ البصيرِ بالعينَيْنِ ، ولغةُ العربِ متنوِّعةٌ في إفرادِ
المُضافِ وتثنِيَتِه وجَمْعِه ، بحسَبِ أحوالِ المضافِ إليه ، فإنْ أضافوا
الواحدَ المُتَّصِلَ إلى مُفرَدٍ أفْرَدُوه ، وإنْ أضافوه إلى اسمِ جمعٍ
ظاهراً أو مُضْمَراً فالأحسَنُ جمْعُه مشاكَلةً للفظِهِ كقولِه :{ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا } وإنْ أُضِيفَ إلى ضميرِ جَمْعٍ جُمِعَتْ كقولِه :{ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعاماً } وإنْ أضافوه إلى اسمٍ مثنًىّ فالأفصَحُ في لُغَتِهم جمْعُه كقولِه :{فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} وإنما هُما قَلبانِ . وقولُه : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا }
وكقولِ العربِ : اضرِبْ أعناقَهُما ، وهذا أفصَحُ استعمالِهم ، وتارةً
يُفْرِدونَ المضافَ فيقولون : لِسانُهُما وقلبُهُما ، وتارةً يُثَنُّونَ
كقولِه : ظَهْرَاهُما مِثلُ ظُهورِ النَّرْسِينَ .
وإذا
كان مِن لُغتِهِم وضْعُ الجَمْعِ موضِعَ التَّثنِيةِ لئلا يَجْمَعُوا في
لفظٍ واحدٍ بينَ تثْنيتَيْنِ ، ولا لَبْسَ هناك ، فلأنْ يَضَعَ الجمعَ
موضِعَ التَّثنيةِ فيما إذا كان المضافُ إليه تثنيةً أوْلى بالجوازِ يدُلُّ
عليه : أنكَ لا تكادُ تجِدُ في كلامِهم : عينانِ ويَدانِ ونحوِ ذلك ، ولا
يَلْتَبِسُ على السَّامِعِ قولُ المتكلِّم : نَراكَ بأعْيُنِنا ، ونأخُذُكَ
بأيدِينا ، ولا يَفْهَمُ منه بَشرٌ على وجهِ الأرضِ عُيوناً كثيرةً على
وجهٍ واحدٍ).
التنبيهات السنية للشيخ: عبد العزيز بن ناصر الرشيد رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وقولُهُ: ( وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بأَعْيُنِنا ).(1)
وقولُه: ُ( وَحَمَلْنَاهُ عَلى ذَاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ. تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ)،وقولُهُ: (وأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي. وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ).(2)).
الشرح:
قال الشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد (ت: 1408هـ): ((1) قَولُهُ: (وَاصْبِرْ):
الصـَّبرُ لغةً: الحبسُ والمنعُ، وهو حبسُ النَّفْسِ عن الجزعِ، وحبسُ
اللسانِ عن التَّشكِّي والتَّسخُّطِ، وحبسُ الجوارحِ عن لطمِ الخدودِ وشقِّ
الجيوبِ، وذكره ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ تعالى، أفادت الآيةُ وجوبَ
الصَّبرِ قال ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ تعالى: هو واجبٌ بالإجماعِ، انتهى.
وينقَسِمُ الصَّبرُ إلى ثلاثةِ أقسامٍ:
صبرٍ على طاعةِ اللهِ، وصبرٍ عن معصيةِ اللهِ، وصبرٍ على أقدارِ اللهِ المؤلمةِ.
زاد الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ ابنُ تيميةَ رحمه اللهُ: وصبرٌ على الأهواءِ المضلَّةِ،
والنَّوعانِ الأوَّلان أفضلُ من الأخيرِ، وهو الصَّبرُ على أقدارِ اللهِ
المؤلمةِ، صرَّحَ بذلك السَّلفُ منهم سعيدُ بنُ جبيرٍ وميمونُ بنُ مِهرانَ
وغيرُهما، والنَّوعُ الأوَّلُ أفضلُ من النَّوعِ الثَّاني.
قال ابنُ رجبٍ رحمه اللهُ: وأفضلُ أنواعِ الصَّبرِ: الصِّيامُ، فإنَّهُ يجمعُ أنواعَ الصَّبرِ الثَّلاثةَ.
قال ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ في كتابِ ((المدارجِ)): وتمامُ الصَّبرِ أنْ يكونَ كما قال اللهُ: (وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ) الآيةَ وأقواه أَنْ يكونَ باللهِ معتَمِدًا عليه لا على نفسِه، ولا على غيرِه من الخلقِ. انتهى.
وقد
تكاثرتِ الأدلَّةُ على الحثِّ على الصَّبرِ والتَّرغيبِ فيه والثَّناءِ على
أهلِه، قال الإمامُ أحمدُ: ذكرَ اللهُ الصَّبرَ في تِسعين موضعًا من
كتابِهِ،
وفي الآيةِ إثباتُ صفةِ الحُكمِ للهِ -سُبْحَانَهُ- وتعالى، وقد تقدَّمتِ الإشارةُ إلى تقسِيمِه إلى قِسمينِ: حُكمٌ شرعِيٌّ دينيٌّ، وحكمٌ قدريٌّ كونيٌّ،
فالشَّرعيُّ متعلِّقٌ بأمرِه، والكونيُّ متعلِّقٌ بخلقِه وهو -سُبْحَانَهُ-
له الخَلْقُ والأمرُ، وحكمُه الدِّينيُّ الطَّلبيُّ نوعان بحسبِ المطلوبِ،
فإنَّ المطلوبَ إنْ كانَ محبوبًا له فالمطلوبُ فِعلُه إمَّا وجوبًا وإمَّا
استحبابًا، وإن كانَ مبغوضًا له فالمطلوبُ تركُه إمَّا تحْريما وإمَّا
كراهةً، وذلك أيضا موقوفٌ على الصَّبرِ، فهذا حكمُه الدِّينيُّ الشَّرعيُّ،
وأمَّا حكمُه الكونيُّ -وهو ما يقتَضِيه وما يقدِّرُه على العبدِِ من
المصايبِ الَّتي لا صُنْعَ له فيها- فغرضُه الصَّبرُ عليها، وفي وجوبِ
الرِّضا بها قولانِ للعُلماءِ أصحُّهما: إنَّه مستحَبٌّ. فرجعَ الدِّينُ
كلَُّه إلى هذهِ القواعدِ الثَّلاثِ: فِعْلُ المأمورِ وتركُ المحظورِ،
والصَّبْرُ على المقدورِ، انتهى. مِن كلامِ ابنِ القيِّمِ.
قَولُهُ: (فَإِنَّكَ بأَعْيُنِنا): أي بِمَرأى منَّا، وتحتَ حفظِنا وكَلاَءَتِنَا (واللهُ يعصِمُكَ مِن النَّاس)ِ.
قال
ابنُ القيِّمِ رحمَه اللهُ: وهذا يتضمَّنُ الحِراسةَ والكلاءةَ والحِفظَ
للصَّابرِ لحكمِه -سُبْحَانَهُ وتعالى-، وفيها معيَّةُ اللهِ -سُبْحَانَهُ
وتعالَى- للصَّابرِ لحكمِه -سُبْحَانَهُ- وحفظُه، وفيها إثباتُ فعلِ العبدِ
حقيقةً، وأدلَّةُ ذلك أكثرُ مِن أن تُحصرَ.
(2) قَولُهُ: (وَحَمَلْنَاهُ): أي نوحٌ عليه الصـَّلاةُ والسَّلامُ.
قَولُهُ: (عَلى ذَاتِ أَلْواحٍ): أي على سفينةٍ ذاتِ ألواحٍ، المرادُ خشبُ السَّفينةِ العريضُ.
قَولُهُ: (وَدُسُرٍ): أي المساميرُ الَّتي تُشدُّ بها الألواحُ، يقال: دَسَرْتُ السَّفينةَ، إذا شددتُها بالمساميرِ.
قَولُهُ: (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا): أي بأمرِنا بمَرْأى منَّا تحت حفظِنا وكلاءتِنا، والنَّونُ للتَّعظيمِ.
قَولُهُ: (جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ): أي جزاءً لهم على كُفرهِم، وانتصارًا لنوحٍ عليه السَّلامُ عليهم.
قَولُهُ: (وأَلْقَيْتُ): أي وَصَنعتُ
(عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي): أي إنَّ اللهَ أحبَّه وحبَّبهُ إلى خلقِه.
قَولُهُ: (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي): أي بِمَرأى ومنظرٍ منِّي، والمعنى أنَّ اللهَ أحبَّ موسى وحبَّبه إلى خلقِه، وربَّاه بِمَرأى منه سُبْحَانَهُ.
قال ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ تعالى: والفرقُ بين قَولِهِ: (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي)، وقَولُهُ: (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا)
أنَّ الآيةَ الأولى وردَتْ في إظهارِ أمرٍ كان خفيًّا، وإبداءِ ما كانَ
مكتُومًا، فإنَّ الأطفالَ إذْ ذاك كانوا يتغذَّون ويُصنعُونَ سِرًّا،
فلمَّا أرادَ أنْ يُصنعَ موسى ويُغذَّى ويُربَّى على حالِ أمْنٍ وظهورٍ
دخلت(على)في اللفظِ تَنبيهًا على المعنى،
لأنَّها تُعطي الاستعلاءَ، والاستعلاءُ ظهورٌ وإبداءٌ، فكأنَّه يقولُ:
وتُصنعُ على أمْنٍ لا تحتَ خوفٍ، وذَكرَ العينَ لتضمُّنِها معنى الرِّعايةِ
والكلاءةِ، وأمَّا قَولُهُ: (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) فإنَّه يريدُ برعايةٍ منَّا وحفظٍ، ولا يريدُ إبداءَ شيءٍ ولا إظهارَه بعد كتمٍ، فلم يحتجْ في الكلامِ إلى مَعنى(على)بخلافِ ما تقدَّمَ. اهـ.
وفي
هذه الآيةِ الكريمةِ إثباتُ محبَّةِ الله -سُبْحَانَهُ- لعبدِه موسى،
وتحبيبِه لخلقِه، وفيها عنايةُ اللهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- بعبدِه موسى
وتربيتُه على مَرأًى منه، وهذه عنايةٌ خاصَّةٌ ومعيَّةٌ لعبدِه موسى
تَقْتَضي حفظَه وكلاءتَه وعنايتَه،
وفي هذه الآياتِ إثباتُ صفةِ العَينينِ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى-،
كما يليقُ بجلالِه وعظمتِه، فيجبُ على المؤمنِ أنْ يُثبتَ لخالقِه وبارئِه
ما أثبتَه لنفسِه من العَينينِ والسَّمْعِ والبصرِ وغيرِها، وغيرُ المؤمنِ
مَن ينفِي عن اللهِ ما أثبَتَه في مُحكمِ تنـزيلِه، وكذلك أثبَتَه له
رسولُه -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-).