11 Nov 2008
الرسل صادقون مَصْدُوقون فيما يصفون به ربهم جل وعلا
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (ثُمَّ رُسُلُهُ صَادِقُونَ مَصْدُوقُونَ ، بِخِلاَفِ الَّذِينَ يَقُولُونَ عَلَيْهِ مَا لاَ يَعْلَمُونَ . ولِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى : {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلاَمٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، فَسَبَّح نَفْسَهُ عَمَّا وَصَفَهُ بِهِ المُخالِفونَ للرُّسُلِ ، وَسَلَّم عَلَى المُرْسَلِينَ ؛ لِسَلامةِ مَا قَالُوهُ مِن النَّقصِ وَالعَيْبِ).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ مُحمَّد خَليل هَرَّاس رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (ثُمَّ رُسُلُهُ صادِقُونََ ؛ بخِلافِ الَّذينَ يَقُولونَ عليِهِ مَا لا يَعْلَمونَ (1).
ولهذا
قالَ: (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلاَمٌ
عَلَى المُرْسَلينَ والحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمينَ )، فَسَبَّحَ
نَفْسَهُ عَمَّا وَصَفَهُ بِهِ المُخَالِفُونَ لِلرُّسُلِ، وسَلَّمَ عَلَى
المُرْسَلينَ؛ لِسَلامَةِ مَا قَالُوهُ مِنَ النَّقْصِ والعَيْبِ (2)).
الشرح:
قال الشيخ محمد خليل هراس (ت: 1395هـ): ((1) قولُهُ: (فإنَّهُ أعلمُ بنفسِهِ وبغيرِهِ) … إلى قولِهِ: (ثمَّ رُسُلهُ صادقون مصدُوقون).
تعليلٌ لصحَّةِ مذهبِ السَّلفِ في الإِيمانِ بجميعِ الصفاتِ الواردةِ في
الكتابِ والسُّنَّةِ؛ فإنَّهُ إذَا كانَ اللهُ عزَّ وجلَّ أعلمُ بنفسِهِ
وبغيرِهِ، وكانَ أصدقَ قولاً وأحسنَ حديثًا، وكانَ رسلُهُ عليهِمُ الصلاةُ
والسَّلامُ صادقين في كلِّ ما يخبرون بهِ عنهُ، مَعصومين من الكذبِ عليهِ
والإِخبارِ عنهُ بما يُخَالفُ الواقعَ؛ وجبَ التَّعويلُ إذًا في بابِ
الصفاتِ نفيًا وإثباتًا على ما قالَهُ اللهُ وقالَهُ رسولُهُ الذي هوَ
أعلمُ خلقِهِ بهِ، وأنْ لا يُتْرَكَ ذلكَ إلى قولِ مَنْ يَفترون على اللهِ
الكذبَ ويقولون عليهِ ما لا يعلمون.
وبيانُ ذلكَ أنَّ الكلامَ إنَّمَا تَقْصُرُ دَلاَلَتُهُ على المعانِي المُرادةِ منهُ لأحدِ ثلاثةِ أسبابٍ:
إمَّا لجهلِ المُتكلِّمِ وعدمِ علمِهِ بما يتَكَلَّمُ بهِ، وإمَّا لعدمِ
فصاحتِهِ وقدْرتِهِ على البيانِ، وإمَّا لِكَذِبِهِ وغِشِّهِ وتَدلِيسِهِ.
ونصوصُ الكتابِ والسُّنَّةِ بريئةٌ مِن هذهِ الأمورِ الثلاثةِ مِن كلِّ
وجهٍ، فكلامُ اللهِ وكلامُ رسولِهِ في غايةِ الوضوحِ والبيانِ, كمَا أنَّهُ
المثلُ الأَعلى في الصِّدقِ والمطابقةِ للواقعِ؛ لصدورِهِ عن كمَالِ
العِلمِ بالنِّسَبِ الخارجيَّةِ، وهوَ كذلكَ صادرٌ عن تمامِ النُّصحِ،
والشَّفَقةِ، والحرصِ على هدايةِ الخلقِ وإرشادِهِمْ.
فقد اجْتَمعتْ لهُ الأمورُ الثَّلاثةُ التَّي هيَ عناصرُ الدَّلاَلةِ والإِفهَامِ على أكملِ وجهٍ.
فالرسولُ
صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلمَ أعلمُ الخلقِ بما يريدُ إخبارَهمْ بهِ، وهوَ
أقدرُهُمْ على بيانِ ذلكَ والإِفصاحِ عنهُ، وهوَ أحرصُهُمْ على هدايةِ
الخلقِ، وأشدُّهمُ َإرادةً لذلكَ، فلا يُمكنُ أنْ يقعَ في كلامِهِ شيءٌ مِن
النَّقْصِ والقُصورِ؛ بخلافِ كلامِ غيرِه؛ فإنَّهُ لا يخلو مِن نقصٍ في
أحدِ هذهِ الأمورِ أو جميعِهَا، فَلا يصحُّ أنْ يُعْدَلَ بكلامِهِ كلامُ
غيرِهِ؛ فضلاً عن أنْ يُعْدَلَ عنهُ إلى كلامِ غيرِهِ؛ فإنَّ هذا هوَ غايةُ
الضَّلالِ ومنتهى الخِذْلاَنِ.
(2) قولُهُ: (ولهذا قالَ … إلخ).
تعليلٌ لِمَا تقدَّمَ مِنْ كَوْنِ كلامِ اللهِ وكلامِ رسولِهِ أكملَ
صدقًا، وأتمَّ بيانَا ونصحًا، وأبعدَ عن العيوبِ والآفاتِ من كلامِ كلِّ
أحدٍ.
و ( سبحانَ )؛
اسمُ مصدرٍ مِن التَّسبيحِ، الذي هوَ التَّنْزيهُ والإِبعادُ عن السُّوءِ،
وأصلُهُ مِن السَّبْحِ، الذي هوَ السُّرعةُ والانطلاقُ والإِبعادُ، ومنهُ
فرسٌ سبَوُحٌ؛ إذَا كانَتْ شديدةَ العَدْوِ.
وإضافةُ
الرَّبِّ إلى العزَّةِ مِن إضافةِ الموصوفِ إلى صفتِهِ، وهوَ بدلٌ مِن
الرَّبِّ قبلَهُ.فهوَ سبحانَهُ ينـزِّهُ نفسَهُ عمَّا ينسبُهُ إليهِ
المشركون مِن اتخاذِ الصاحبةِ والولدِ، وعن كلِّ نقصٍ وعيبٍ، ثمَّ يسلِّمُ
على رُسُلِهِ عليهِمُ الصلاةُ والسَّلامُ بعدَ ذلكَ؛ للإِشارةِ إلى أَنَّهُ
كمَا يجبُ تَنْزيهُ اللهِ عزَّ وجلَّ وإبعادُهُ عن كلِّ شائبَةِ نقصٍ
وعيبٍ، فيجبُ اعتقادُ سلامةِ الرُّسلِ في أقوالِهمْ وأفعالِهمْ مِن كلِّ
عيبٍ كذلكَ، فَلا يكذِبون على اللهِ، ولا يشركون بهِ، ولا يغُشُّون
أُممَهُم، ولا يقولون على اللهِ إلاَّ الحقَّ.
قولُهُ: {والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ}.
ثناءٌ منهُ سبحانَهُ على نفسِهِ بما لهُ من نُعُوتِ الكمَالِ، وأوصافِ
الجلالِ، وحميدِ الفعالِ، وقَدْ تقدَّمَ الكلامُ على معنى الحمدِ، فأغنى عن
إِعادتِهِ).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ: صالح بن فوزان الفوزان
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (ثُمَّ رُسُلُهُ صَادِقُون مَصْدوقُون؛ بِخِلاَفِ الَّذِينَ يَقُولُونَ عَلَيْهِ مَا لاَ يَعْلَمُونَ.(1)
وَلِهذا قالَ سُبْحانَهُ وَتَعالى: (سُبحَانَ رَبّكَ رَبّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلاَمٌ عَلَى المُرسَلِينَ وَالحَمدُ ِللهِ رَبّ العَالَمِينَ)
فَسَبَّحَ نَفْسَهُ عَمَّا وَصَفَهُ بِهِ المُخالِفونَ للرُّسُلِ،
وَسَلَّمَ على المُرْسَلينَ لِسَلامَةِ ما قالوهُ مِنَ النَّقْصِ
وَالعَيْبِ.(2)).
الشرح:
قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: ((1)(ثُمَّ رُسُلُهُ صَادِقُونَ مَصْدُوقُونَ) هذا عطْفٌ عَلى قولِه: (فَإِنَّه أَعْلَمُ بِنَفْسِه.إلخ)
الصِّدْقُ: مُطَابقةُ الخبرِ للواقعِ ـ أي: صادقون فيما أَخبروا به عِن
اللهِ تعالى، مصدوقون أي فيما يأتيهم مِن الوحيِ بواسطةِ الملائكةِ؛ لأنَّه
مِن عندِ اللهِ، فهم لا ينطقون عَن الهوى.وهذا توثيقٌ لسندِ الرُّسلِ
عليهم الصَّلاة والسَّلامُ، فقد قيل لهم الحقُّ وبلَّغُوه للخَلقِ، فيجبُ
قَبولُ ما وصفوا اللهَ به، فهم (بِخِلاَفِ الَّذينَ يَقُولُونَ عَلَيْهِ مَا لاَ يَعْلَمُونَ)
أي بِخِلافِ الَّذين يقولون عَلى اللهِ بلا علْمٍ في شرْعِه ودينهِ، وفي
أسمائِه وصفاتِه، بل بمجرّدِ ظنونِهم وتخيُّلاتِهم أو بما يتلَقَّونَه عِن
الشَّياطينِ كالمتنبِّئين الكَذَبةِ والمبتدعةِ والزَّنادقةِ والسَّحرةِ
والكهَّانِ والمنجِّمين وعلماءِ السُّوءِ، كما قال تعالى: في الآياتِ
(221ـ223) مِن سورةِ الشُّعراءِ (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ
عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلى كُلّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ.
يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ) وقال تعالى في الآيةِ (79) مِن سورةِ البقرة (فَوَيْلٌ للَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللهِ) الآيةَ.
فإذا كان اللهُ سبحانَه
وتعالى أعلمَ بنفسِه وبغيرهِ، وكان أصدقَ قولاً وأحسنَ حديثًا مِن خلقِه،
وكان رسلُه عليهم الصَّلاة والسَّلامُ صادقين في كُلِّ ما يخبرون به عنه،
والواسطةُ بينهم وبين اللهِ التي تأتيهم بالوحْيِ مِن عندِه واسطةً صادقةً
مِن ملائكتهِ الكرامِ؛ وجَب التَّعويلُ إذن عَلى ما قاله اللهُ ورسلُه لا
سِيَّما في بابِ الأسماءِ والصفاتِ نفْيًا وإثباتًا، ورفضُ ما قاله
المبتدعةُ والضُّلاّلُ مِمن يدّعي المجازَ في الأسماءِ والصِّفاتِ وينفِيها
بشتّى وسائلِ النَّفيِ، مُعْرِضين عمّا جاءت به الرُّسلُ. معتمدين عَلى
أهوائهِم أو مقلِّدين لمَن لا يصلُحُ للقُدوةِ مِن الضُّلاّلِ.
(2)المفرداتُ:
ولهذا: تعليلٌ لما سبق مِن كَونِ كَلامِ اللهِ وكَلامِ رسلِه أصدقَ وأحسنَ.
(سُبْحانَ): اسمُ مصدرٍ مِن التَّسبيحِ وهو التنزيهُ.
(رَبِّك): الرَّبُّ هو المالكُ السيِّدُ المربِّي لخلْقِه بنعَمِه.
(العزَّةِ): القوةِ والغَلَبةِ والمنَعَةِ. وإضافَةُ الرَّبِّ إلى العزةِ مِن إضافةِ الموصوفِ إلى الصِّفةِ.
(يصِفُون): أي يصفُه به المخالفون للرُّسلِ مما لا يليقُ بجلالهِ.
(وسَلامٌ): قيل هو مِن السَّلامِ بمعنَى التَّحيَّةِ. وقيل: مِن السَّلامةِ مِن المَكَارِه.
(عَلى المرسلين): الَّذين أرسلهم اللهُ إلى خلقِه وبلَّغوا رسالاتِ رَبِّهم، جمعِ مُرْسَلٍ، وتقدّم تعريفُه.
(العالمين): جمعِ عَالَمٍ، وهو كُلُّ مَن سوى اللهِ.
المعنَى الإجماليُّ: قد بيَّنه الشَّيخُ رحمه اللهُ بقولهِ: فسبح نفسه.. إلخ
ما يُسْتفادُ مِن الآياتِ:
1- تنزيهُ اللهِ سبحانَه عمّا يصفُه به الضُّلالُ والجُهَّالُ ممّا لا يليقُ بجلالِه.
2- صِدقُ الرُّسلِ ووجوبُ قَبولِ ما جاءوا به وما أخبروا به عِن اللهِ.
3- مشروعيّةُ السَّلامِ عَلى الرُّسلِ عليهم الصَّلاة ُوالسَّلامُ واحترامُهُم.
4- رَدُّ كُلِّ ما يخالفُ ما جاءت به الرُّسُلُ، لا سيِّما ما يتعلَّقُ بأسماءِ اللهِ وصفاتهِ.
5- مشروعيّةُ الثَّناءِ عَلى اللهِ وشكرِه عَلى نِعَمِهِ التي مِن أَجَلِّهَا نعمةُ التَّوحيدِ).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (((ثُمَّ رُسُلُهُ صَادِقُون مَصْدوقُون؛ بِخِلاَفِ الَّذِينَ يَقُولُونَ عَلَيْهِ مَا لاَ يَعْلَمُونَ))(1)
((وَلِهذا قالَ سُبْحانَهُ وَتَعالى: (سُبحَنَ رَبّكَ رَبّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلَمٌ عَلَى المُرسَلِينَ، وَالحَمدُ ِللهِ رَبّ العَلَمِينَ) ))(2).
((فَسَبَّحَ
نَفْسَهُ عَمَّا وَصَفَهُ بِهِ المُخالِفونَ للرُّسُلِ، وَسَلَّمَ على
المُرْسَلينَ لِسَلامَةِ ما قالوهُ مِنَ النَّقْصِ وَالعَيْبِ))(3) ).
الشرح:
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): ((1) فقال المؤلف: ((ثُمَّ رُسلُهُ صادقُونَ مُصدَّوقُونَ)): الصَّادقُ: المُخْبِرُ بمَا طابقَ الواقعَ، فكُلُّ الرُّسُلِ صادِقُونَ فيمَا أخبَرُوا بِهِ.
ولكنْ: لاَ بدَّ أنْ
يَثبتَ السَّنَدُ إِلَى الرُّسُلِ عَلَيْهِم السَّلامُ، فَإِذَا قالتِ
اليهودُ: قَالَ موسى كذا وكذا، فلاَ نقبلُ حَتَّى نَعلمَ صِحَّةَ سَنَدِهِ
إِلَى موسى، وإِذَا قالتِ النَّصارَى: قَالَ عيسَى كذا وكذا، فلاَ نَقبلُ
حَتَّى نَعْلمَ صحَّةَ السَّندِ إِلَى عيسَى، وإِذَا قَالَ قائلٌ: قَالَ
محمَّدٌ رَسولُ اللَّهِ كذا وكذا، فلاَ نَقبلُ حَتَّى نَعْلَمَ صحَّةَ
السَّندِ إِلَى محمَّدٍ.
فَرَسُلُهُ صادِقونَ فيمَا
يقولُون، فكُلُّ مَا يُخْبرونَ بِهِ عنِ اللَّهِ وعنْ غيرِهِ مِنْ
مخلوقاتِهِ، فَهُمْ صادقُونَ فِيهِ، لاَ يكذِبُونَ أبداً.
وَلِهَذَا أجمعَ العلماءُ عَلَى أنَّ الرُّسُلَ - عَلَيْهِم الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ - معصومُون من الكَذِبِ.
((مَصْدُوقونَ)) أو: ((مصدَّقُونَ)): نسختانِ:
أمَّا عَلَى نُسخةِ ((مَصْدُوقونَ))، فالمَعْنَى
أنَّ مَا أُوحيَ إِلَيْهِم فَهُوَ صِدقٌ، والمَصْدُوقُ: الَّذِي أَخْبَرَ
بالصِّدقِ، والصَّادِقُ: الَّذِي جاءَ بالصِّدْقِ، ومِنْهُ قولُ الرَّسولِ -
عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ - لأبي هريرةَ حينَ قَالَ لَهُ الشيطانُ:
إنكَّ إِذَا قرأْتَ آيةَ الكُرْسِيِّ لَمْ يزلْ عليْكَ مِنَ اللَّهِ حافظٌ،
ولاَ يقربُكَ شيطانٌ حَتَّى تُصْبِحَ، قَالَ لَهُ: ((صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ))،
يعني: أخبَرَكَ بالصِّدْقِ. فالرُّسُلُ مَصْدُوقُونَ، كُلُّ مَا أُوحِيَ
إليْهِم، فَهُوَ صِدقٌ، مَا كذَبَهُمْ الَّذِي أرسَلَهُمْ، ولاَ كذَبَهُمْ
الَّذِي أُرسِلَ إِلَيْهِمْ، وهُوَ جبريلُ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ
-، (إِنَّهُ لَقَولُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي العَرشِ مَكِينٍ مُّطَاعٍ ثُمَّ أَمِينٍ).
وأمَّا عَلَى نسخةٍ: ((مُصَدَّقونَ))، فالمَعْنَى أنَّهُ يجبُ عَلَى أُممِهِمْ تصديقُهُمْ، وعَلَى هَذَا يكونُ معنَى ((مصَدَّقُونَ))، أيْ: شرعاً، يعني: يجبُ أنْ يُصدَّقوا شَرْعاً، فَمَنْ كذَّبَ بالرُّسلِ أوْ كذَّبَهُمْ، فَهُوَ كافِرٌ، ويجوزُ أنْ يكونَ ((مصَدَّقُونَ)) لَهُ وَجْهٌ آخرُ، أيْ: أنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - صَدَّقَهُم، ومعلومٌ أنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - صدَّقَ الرُّسُلَ، صدَّقهمْ بقوْلِهِ وبفعْلِهِ:
أمّا بقوْلِهِ، فإنَّ اللَّهَ قَالَ لرَسولِهِ محمدٍ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ -: (لَكِنِ اللَّهُ يَشهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيكَ) ، وقالَ: (وَاللَّهُ يَعلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) ، فهَذَا تصديقٌ بالقوْلِ.
أمَّا تصديقُهُ بالفعلِ،
فبالتَّمكينِ لَهُ، وإظهارِ الآياتِ، فَهُوَ يأتي للنَّاسِ يدعُوهُم إِلَى
الإسلامِ، فإنْ لَمْ يقبَلُوا فالجِزيةِ، فإنْ لمْ يقبلُوا، استباحَ
دماءَهُمْ ونساءَهُمْ وأموالَهُمْ، واللَّهُ - تَعَالَى - يُمكِّنُ لَهُ،
ويفتحُ عَلَيْهِ الأرضَ أرضًا بَعْدَ أرضٍ، وحَتَّى بلغتْ رسالتُهُ مشارِقَ
الأرضِ ومغارِبَهَا، فهَذَا تصديقٌ مِنَ اللَّهِ بالفعلِ، كذلِكَ أيضاً
مَا يُجْريهِ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ من الآياتِ هُوَ تصديقٌ لَهُ، سواءٌ
كانتِ الآياتُ شرعيَّةً أمْ كونيَّةً، فالشَّرعيَّةُ كَانَ دائماً يُسألُ عنِ الشيءِ وهُوَ لاَ يعلَمُهُ، فيُنزِلُ اللَّهُ الجوابَ: (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِن أَمر رَبِي) ، إذاً هَذَا تصديقٌ بأنَّهُ رسولٌ، ولَوْ كَانَ غَيْرَ رسولٍ، مَا أجابَ اللَّهُ (يَسْئَلُونَكَ
عَنِ الشَّهرِ الحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ
وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفرُ بِهِ وَالمَسجِدِ الحَرَامِ
وَإِخَراجُ أَهلِهِ مِنهُ أَكبَرُ عِندَ اللَّهِ) . فالجوابُ: (قُل قِتَالٌ فِيهِ) … إلخ، فهَذَا تصديقٌ مِن اللَّهِ - عزَّ وجلَّ -.
والآياتُ الكونيَّةُ
ظاهرةٌ جدًّا، ومَا أكثرُ الآياتِ الكونيَّةِ الَّتِي أيَّدَ اللَّهُ بها
رسولَهُ، سواءٌ جاءَتْ لسببٍ أوْ لغيرِ سَبَبٍ، وَهَذَا معروفٌ فِي
السِّيرةِ.
فَفَهِمْنَا مِنْ كلمةِ: ((مصدَّقُون)):
أنَّهُمْ مصدَّقونَ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ بالآياتِ الكونيَّةِ
والشَّرعيَّةِ، مصدَّقُونَ من قِبَلِ الخَلْقِ، أيْ: يجبُ أنْ يصدَّقُوا،
وإنَّمَا حَمَلْنا ذلِكَ عَلَى التَّصديقِ شرعًا؛ لأنَّ مِن النَّاسِ مَنْ
صَدَّقَ ومِنَ النَّاسِ مَنْ لَمْ يصدِّقْ، لكنِ الواجبُ التَّصديقُ.
قَولُهُ: ((بِخِلافِ الَّذيِنَ يَقُولُونَ عَلَيْه مَا لاَ يَعْلَمُونَ)): فهؤلاءِ كاذبونَ أوْ ضالُّونَ؛ لأنَّهُمْ قالوا مَا لاَ يعلَمُون.
وكأنَّ المؤلِّفَ يشيرُ إِلَى أهلِ التَّحريفِ؛ لأنَّ أهلَ التَّحريفِ قالُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ يعلمونَ مِنْ وجْهَيْنِ: قالُوا: إنَّهُ لمْ يُرِدْ كذا، وأرادَ كذا، فَقَالُوا فِي السَّلْبِ والإيجابِ بمَا لاَ يعلمُونَ.
مثلاً: قالُوا: لَمْ
يُرِدْ بالوجْهِ الوجْهَ الحقيقيَّ، فهُنَا قالُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ
يعلمُونَ بالسَّلبِ، ثُمَّ قالُوا: والمُرادُ بالوجْهِ الثَّوابُ،
فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ يعلمونَ فِي الإيجابِ.
وهؤلاءِ الَّذِينَ يقولونَ
عَلَى اللَّهِ مَا لاَ يعملونَ لاَ يكُونونَ صادِقِينَ ولاَ مَصدُوقينَ
ولاَ مصدَّقِينَ، بلْ قامتِ الأدلَّةُ عَلَى أنَّهُمْ كاذِبونَ
مُكذَّوبُونَ بمَا أوحى إِلَيْهِمْ الشيطانُ.
(2) وقَوْلُهُ: ((ولِهَذَا))، أيْ: لأجْلِ كمالِ كلامِهِ وكلامِ رُسُلِهِ.
((قالَ: (سُبْحانَ رَبِّكَ) )): وَسَبقَ معنَى التَّسبيحِ، وهُوَ تَنـزيهُ اللَّهِ عَنْ كُلِّ مَا لاَ يليقُ بِهِ.
وقولُهُ: (رَبِّكَ):
أضافَ الرُّبوبيَّةَ إِلَى محمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-، وهِيَ ربوبيَّةٌ خاصَّةٌ، مِنْ بابِ إضافةِ الخالقِ إِلَى المخلوقِ.
وقولُهُ: (رَبِّ العِزَّةِ):وعزَّةُ اللَّهِ غيرُ مخلوقةٍ؛ لأنَّها مِنْ صفاتِهِ، فنقولُ: هذِهِ منْ بابِ إضافةِ الموصوفِ إِلَى الصِّفةِ، وعَلَى هَذَا، ف(رَبِّ العِزَّةِ) هُنَا معناهَا: صاحبُ العزَّةِ، كَمَا يُقالُ: ربُّ الدَّارِ، أيُ: صاحِبُ الدَّارِ.
قولُهُ: (عَمَّا يَصِفُونَ)، يعني: عمَا يصِفُهُ المُشركونَ، كَمَا سَيذكرُهُ المؤلِّفُ.
قولُهُ: (وَسَلاَمٌ عَلَى المُرْسَلِينَ)، أيْ: عَلَى الرُّسُلِ.
قولُهُ: (وَالحَمدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ):
حَمِدَ اللَّهُ نَفْسَهُ - عزَّ وجلَّ - بَعْدَ أنْ نزَّهَهَا؛ لأنَّ فِي
الحمدِ كمالَ الصِّفاتِ، وفِي التَّسبيحِ تنزيها عن العيوبِ، فجمعَ فِي
الآيةِ بينَ التَّنـزيهِ عَنِ العيوبِ بالتَّسبيحِ، وإثباتِ الكمالِ
بالحمدِ.
(3)
معنى هذِهِ الجملةِ واضحٌ، وبَقيَ أنْ يُقالَ: وحَمِدَ نَفْسَهُ لكمالِ
صفاتِهِ بالنِّسبةِ لنَفْسِهِ وبالنِّسبةِ لرسلِهِ، فإنَّهُ - سُبْحَانَهُ -
محمودٌ عَلَى كمالِ صفاتِهِ وعَلَى إرسالِ الرُّسُلِ، لِمَا فِي ذلِكَ
مِنْ رحمةِ الخَلقِ والإحسانِ إليْهِمْ).
الروضة الندية للشيخ: زيد بن عبد العزيز بن فياض رحمه الله
قال الشيخ زيد بن عبد العزيز بن فياض (ت: 1416هـ): (فإِنَّهُ
سبحانَه وتعالى أَعْلَمُ بِنَفْسِهِ وبغَيْرِهِ، وأَصْدَقُ قِيلاً،
وأَحْسَنُ حَدِيثاً مِنْ خَلْقِهِ ، ثُمَّ رُسُلُهُ صادِقُونَ ؛ بخِلافِ
الَّذينَ يَقُولونَ عليِه مَا لا يَعْلَمونَ .
وإذا
كان كذلك فيجبُ أنْ يُثْبَتَ له مِن الصِّفَاتِ ما أثبَتَه لنفْسِه
وأثبَتَه له رَسُولُه مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وأنْ
يُقْتَصَرَ في هذا البابِ بابِ الأسماءِ والصِّفَاتِ على ما وَرَدَ به
النصُّ ، وما لم يأتِ به النصُّ كلفظِ الجِسْمِ والجوهرِ والعَرَضِ ونحوِ
ذلك ، فلا يُطْلِقُونَه على اللَّهِ نَفْياً ولا إثباتاً .
وما
جَاءَ في الكِتابِ والسُّنَّةِ مِن الصِّفَاتِ ، فهم يَصِفُون اللَّهَ به ،
ويُثْبتون له حقيقةً مَعَ نفْيِ مماثَلةِ المخلوقاتِ ؛ لِأنَّ اللَّهَ
خاطَبَنا بلسانٍ عربيٍّ مُبينٍ ، وأمَرَنا أنْ نتدَبَّرَ القُرآنَ ،
والأصلُ في الكلامِ الحقيقةُ .
((ومَنِ ادَّعى صرْفَ اللَّفْظِ عن ظاهرِه إلى مَجازِه لم يَتِمَّ له ذلك إلاَّ بأربعِ مَقاماتٍ)) :
( الأول ) : بيانُ امتناعِ إرادةِ الحقيقةِ .
( الثَّاني ) : بيانُ صلاحيةِ اللَّفْظِ لذلك المعنى الَّذِي عَيَّنَه ، وإلاَّ كان مُفْتَرِياً على اللُّغَةِ .
( الثَّالثُ ) : بيانُ تعيينِ ذلك المُجْمَلِ إن كان له عدَّةُ مَجازاتٍ .
( الرَّابعُ ) :
الجوابُ عن الدليلِ المُوجِبِ لإرادةِ الحقيقةِ، فما لم يقُمْ بهذه
الأربعةِ كانت دعْواهُ صرْفَ اللَّفْظِ عن ظاهرِه دَعْوى باطلةً ، وإنِ ادَّعى مُجَرَّدَ صرْفِ اللَّفْظِ عن ظاهرِه ولم يُعَيِّنْ مُجْمَلاً لَزِمَه أمْرانِ : أحدُهما : بيانُ الدَّلِيلِ الدَّالِّ على امتناعِ إرادةِ الظَّاهرِ . والثَّاني : جوابُه عن المُعارِضِ )) . ونُفاةُ الصِّفَاتِ أو بعضِها لَيْسَ معهم دليلٌ على نَفْيِها إلاَّ مُجرَّدَ الظنِّ والدعْوَى .
قَالَ
ابنُ القيِّمِ : فصْلٌ في بيانِ أنَّه مَعَ كمالِ عِلمِ المتكلِّمِ
وفصاحتِه وبيانِه ونُصْحِه يمتنِعُ عليه أنَّه يُريدُ بكلامِهِ خلافَ
ظاهرِه وحقيقتِه ، ويُكْتَفى مِن هذا الأصلِ بذِكْرِ مُناظَرَةٍ جَرَتْ
بينَ سُنِيٍّ وجَهْمِيٍّ حدَّثِني بمَضْمونِها شيخُنا عبدُ اللَّهِ بنُ
تيميةَ أنَّه جمَعَهُ وبعضَ الجَهْمِيَّةِ مجلسٌ ، فَقَالَ الشَّيْخُ : قد
تطابقَتْ نصوصُ الكِتابِّ والسُّنَّةِ والآثارِ على إثباتِ الصِّفَاتِ
لِلَّهِ تَعَالَى، وتنوَّعَتْ دَلالَتُها أنواعاً تُوجِبُ العِلمَ
الضروريَّ بثُبوتِها، وإرادةَ المتكلِّمِ اعتقادَ ما دلَّتْ عليه، والقرآنُ
مملوءٌ مِن ذِكْرِ الصِّفَاتِ، والسُّنَّةُ ناطِقةٌ بما نطَقَ به القرآنُ
مُقَرِّرةٌ له مصدِّقَةٌ له ، مُشْتَمِلَةٌ على زيادةٍ في الإثباتِ .
فتارةً يذكُرُ الاسمَ الدَّالَّ على الصِّفَةِ كالسَّميعِ والبصيرِ ،
وتارةً يذكُرُ المصدرَ وهو الوصفُ الَّذِي اشْتُقَّتْ منه تِلك الصِّفَةُ
كقوله :{أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} وتارةً بِذِكْرِ حُكْمِ تلك الصِّفَةِ كقوله :{ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ } .
ونظائرُ
ذلكَ كثيرةٌ إلى أضعافِ ذلك ، مما لو جُمِعَتِ النُّصوصُ والآثارُ فيه لم
تنقُصْ عن نصوصِ الأحكامِ وآثارِها ، ومِن أَبْيَنِ المُحالِ وأوضحِ
الضلالِ حَمْلُ ذلك كلِّه على خلافِ حقيقتِه وظاهرِه ، ودعوى المجازِ فيه
والاستعارَةِ ، وأنَّ الحقَّ في أقوالِ النُّفاةِ المُعطِّلِينَ ، وأنَّ
تأويلاتِهم هي المُرادَةُ مِن هذه النصوصِ ؛ إذ يَلزمُ مِن ذلك مَحاذيرُ
ثلاثةٌ لا بُدَّ منها وهي : القدْحُ في عِلمِ المتكلِّمِ بها ، أو في
بيانِه ، أو في نُصْحِه ، وتقريرُ ذلك أنْ يُقالَ : إما أنْ يكونَ
المتكلِّمُ بهذه النُّصُوصِ عالماً أنَّ الحقَّ في تأويلاتِ النفاةِ
المعطِّلينَ أو لا يَعْلمُ ذلك ، فإنْ لم يَعلمْ ذلك كان قدْحاً في عِلمِه
((وإنْ كان عالِماً أنَّ الحقَّ فيها فلا يَخْلو إمَّا أنْ يكونَ قادراً
على التَّعبيرِ بعباراتِهم الَّتِي هي تنزيهُ اللَّهِ بزعْمِهم عن
التَّشبيهِ والتَّمثيلِ والتَّجسيمِ ، وأنَّه لا يَعرفُ اللَّهَ مَن لم
يُنَزِّهِ اللَّهَ بها ، أو لا يكونُ قادراً على تلك العبارةِ ، فإنْ لم
يكنْ قادراً على التَّعبيرِ بذلك لَزِمَ القدْحُ في فصاحَتِه ، وكان ورَثةُ
الصَّابئةِ وأفراخُ الفلاسفةِ وأوقاحُ المعتزِلةِ والجَهْمِيَّةُ وتلامذةُ
الملاحدةِ أفصحَ منه وأحسنَ بياناً وتعبيراً عن الحقِّ ، وهذا مما يَعلمُ
بُطلانَه بالضَّرورةِ أولياؤه وأعداؤه ومُوافِقوه ومُخالِفُوه ، فإنَّ
مُخالِفيه لم يَشُكُّوا أنَّه أفصحُ الخلْقِ وأقدَرُهم على حُسنِ
التَّعبيرِ بما يُطابِقُ المعنى ويُخلِّصُه مِن اللَّبْسِ والإشكالِ ، وإن
كان قادراً على ذلك ولم يتكلَّمْ به ، وتكلَّمَ دائماً بخلافِه ، كان ذلك
قدْحاً في نُصْحِه ، وقد وصَفَ اللَّهُ رسلَه بأنَّهم أنصحُ الخلْقِ
لأُمَمِهم ، فَمَعَ النُّصْحِ والبيانِ والمعرفةِ التَّامَّةِ كَيْفَ يكونُ
مَذهبُ النُّفاةِ المعطِّلةِ أصحابِ التَّحريفِ هو الصَّوابَ ، وقولُ أهلِ
الإثباتِ أَتْباعِ القرآنِ والسُّنَّةِ باطلاً . اهـ .
بخلافِ
الَّذِينَ يقولونَ عليه ما لا يعلمونَ مما يدَّعِي المَجازَ في الأسماءِ
والصِّفَاتِ وينفيها بشتَّى وسائلِ النَّفْيِ ، مُعْرِضِينَ عما دلَّتْ
عليه النُّصُوصُ القرآنيَّةُ والأحاديثُ النبويَّةُ الَّتِي لا تُحْصى
كثرةً .
قَالَ الشَّيْخُ : وجِماعُ الأمرِ أنَّ الأقسامَ المُمكِنةَ في آياتِ الصِّفَاتِ وأحادِيثها سِتَّةُ أقسامٍ ،
كُلُّ قِسْمٍ عليه طائفةٌ مِن أهلِ القبلةِ ، فقِسمانِ يقولون : تَجْري
على ظواهِرِها ، وقِسمانِ يقولون على خلافِ ظواهِرِها ، وقِسمانِ
يَسْكُتونَ .
أمَّا الأوَّلُونَ فقِسمانِ : أحدُهما :
مَن يُجْريها على ظاهرِها ، ويجعَلُ ظاهرَها مِن جنسِ صِفَاتِ المخلوقينَ
فهَؤُلاَءِ المشبِّهةُ، ومذهبُهم باطلٌ أنْكَره السَّلَفُ ، وإليه توجَّه
الردُّ بالحقِّ .
والثَّاني :
مَن يُجْريها على ظاهرِها اللائقِ بجَلالِ اللَّهِ تَعَالَى كما يُجْري
اسمَ العليمِ والقديرِ والرَّبِّ والإلهِ والموجودِ ونحوِ ذلك على ظاهرِها
اللائقِ بجَلالِ اللَّهِ ، فإنَّ ظواهِرَ هذه الصِّفَاتِ في حقِّ المخلوقِ :
إما جوهرٌ مُحْدَثٌ ، وإما عَرَضٌ قائمٌ به فالعِلمُ والقُدْرةُ والكلامُ
والمشيئةُ والرَّحْمَةُ والرِّضَى والغَضَبُ ونحوُ ذلك في حَقِّ العبدِ
أَعراضٌ ، والوجهُ واليدُ والعَيْنُ في حقِّه أجْسَامٌ . فإذا كان اللَّهُ
موصوفاً عندَ عامَّةِ أهلِ الإثباتِ بأنَّ له عِلماً وقُدرةً وكلاماً
ومشيئةً ، وإنْ لم يكنْ ذلك عَرَضاً يجوزُ عليه ما يجوزُ على صِفَاتِ
المخلوقينَ ، جازَ أنْ يكونَ وجهُ اللَّهِ ويَداه صِفَاتٍ لَيْسَت أجساماً
يجوزُ عليها ما يجوزُ على صِفَاتِ المخلوقينَ ، وهذا هو المذهبُ الَّذِي
حكاهُ الخطَّابيُّ وغيرُه عن السَّلَفِ ، وعليه يدلُّ كلامُ جمهورِهمْ
وكلامُ الباقِينَ لا يُخالِفُه ، وهو أمرٌ واضحٌ ، فإنَّ الصِّفَاتِ
كالذَّاتِ ، فكما أنَّ ذاتَ اللَّهِ ثابتةٌ حقيقةً مِن غيرِ أن تكونَ مِن
جنسِ ذواتِ المخلوقينَ ، فكذلك صِفَاتُه ثابتةٌ حقيقةً مِن غيرِ أن تكونَ
مِن جنسِ صِفَاتِ المخلوقينَ .
ومعلومٌ
أنَّ صِفَاتِ كُلِّ موصوفٍ تُناسِبُ ذاتَه وتلائمُ حقيقتَه ، فمَن لم
يَفهمْ مِن صِفَاتِ الرَّبِّ الَّذِي لَيْسَ كمِثْله شيءٌ إلا ما يناسِبُ
المخلوقَ . فقد ضَلَّ في عقلِه ودِينِه ، وما أحسنَ ما قاله بعضُهم : إذا
قَالَ لكَ الجَهْمِيُّ : كَيْفَ اسْتَوَى وكَيْفَ يَنْزلُ إلى سماءِ
الدُّنْيَا ، وكَيْفَ يداه ونحوَ ذلك ؟ فقُلْ له : كَيْفَ هو في نفْسِه ،
فإذا قَالَ لك لا يَعلمُ ما هو إلا هو ، وكُنْهُ البَارِي غيرُ معلومٍ
للبشرِ ، فقُلْ له : والعِلمُ بكيْفِيَّةِ الصِّفَةِ مستلْزِمٌ للعِلمِ
بكيْفِيَّةِ الموصوفِ .
فَكَيْفَ
يمكنُ أن تَعلمَ كيْفِيَّةَ صِفةِ موصوفٍ لم تَعلَمْ كيفيَّتَه ، وإنَّما
تَعلَمُ الذَّاتَ والصِّفَاتِ مِن حَيْثُ الجُملةُ على الوجهِ الَّذِي
ينبغي لك .
بلْ هذه المخلوقاتُ في الجَنَّةِ قد ثبتَ عن ابنِ عباسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أنَّه قَالَ :
لَيْسَ في الدُّنْيَا ممَّا في الجَنَّةِ إلا الأسماءُ ، وقد أخبَرَ اللَّهُ تَعَالَى : أنَّه لا تَعلمُ نفْسٌ ما أُخْفِيَ لهم مِن قُـرَّةِ أَعْيُنٍ ، وأخـبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّ في الجَنَّةِ ما لا عينٌ رأتْ ، ولا أُذُنٌ سمعَتْ ، ولا خَطَرَ على قلبِ بشَرٍ .
فإذا
كان نعيمُ الجَنَّةِ وهو خَلْقٌ مِن خَلْقِ اللَّهِ كذلك . فما الظَّنُّ
بالخالِقِ سُبْحَانَهُ ؟! وهذه الرُّوحُ قد عَلِمَ العاقلُ اضطرابَ
النَّاسِ فيها ، وإمساكَ النُّصُوصِ عن بيانِ كيفيَّتِها . أفلا يَعْتَبِرُ
العاقلُ بها عن الكلامِ في كيْفِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى ؟ مَعَ أَنَّا
نَقطعُ أنَّ الرُّوحَ في البَدَنِ، وأنَّها تَخرُجُ منه ، وتَعرُجُ إلى
السَّمَاءِ ، وأنَّها تُسَلُّ منه وقتَ النزْعِ . كما نطقَتْ بذلك
النُّصُوصُ الصَّحيحةُ. فعدَمُ مُماثَلَتِها للبَدنِ لا ينفي أنْ تكونَ هذه
الصِّفَاتُ ثابتةً لها بحَسبِها .
وأمَّا القِسمانِ اللذانِ ينفيانِ ظاهرَها ويقولون :
هي على خلافِ ظاهرِها ، أعني الَّذِين يقولون لَيْسَ لها في الباطنِ
مدلولٌ هو صفةٌ لِلَّهِ تَعَالَى قطُّ ، وأنَّ اللَّهَ لا صفةَ له
ثُبوتيَّةً ، أو يُثْبتونَ بعضَ الصِّفَاتِ ، أو يُثْبتونَ الأحوالَ دونَ
الصِّفَاتِ على ما قد عُرِفَ مِن مذاهبِ المتكلِّمِينَ .
فهَؤُلاَءِ قِسمانِ : قِسْمٌ يتأوَّلُونها ويُعيِّنُون المرادَ مِثْلَ قولِهم : (( استوَى بمعنى
استوْلَى )) أو بمعنى عُلُوِّ المكانةِ والقَدْرِ ، أو بمعنى ظُهورِ
نُورِه للعرْشِ، أو بمعنى انتهاءِ الخلْقِ إليه . إلى غيرِ ذلك مِن معاني
المتكلِّمِينَ . وقِسمٌ يقولون : اللَّهُ أعلمُ بما أرادَ بها، لكنَّا نَعلمُ أنَّه لم يُرِدْ إثباتَ صفةٍ خارجةٍ عما عَلِمْناه .
وأمَّا القِسمانِ الواقفانِ فقِسْمٌ يقولون :
يجوزُ أن يكونَ المرادُ بظاهرِها المرادَ اللائقَ باللَّهِ تَعَالَى،
ويجوزُ أنْ يكونَ المرادُ صفةً لِلَّهِ. وهذه طريقةُ كثيرٍ مِن الفقهاءِ
وغيرِهم ، وقِسْمٌ يُمْسِكونَ عن ذلك كُلِّه ،
ولا يَزيدونَ على تِلاوةِ القرآنِ وقراءةِ الحديثِ، مُعْرِضينَ بقُلوبِهم
وألسنَتِهم عن هذه التَّقديراتِ . فهذه الأقسامُ السِّتَّةُ الَّتِي لا
يمكنُ أنْ يَخرُجَ الرجُلُ عن قِسْمٍ منها. والصَّوابُ في كثيرٍ من آياتِ
الصِّفَاتِ وأحادِيثِها القطْعُ بالطَّرِيقةِ الثَّانيةِ . اهـ
ولهذا قالَ :{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلاَمٌ عَلَى المُرْسَلِينَ والحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمينَ} . فَسَبَّحَ
نَفْسَهُ عَمَّا وَصَفَهُ بِهِ المُخَالِفُونَ لِلرُّسُلِ، وسَلَّمَ عَلَى
المُرْسَلينَ؛ لِسَلامَةِ مَا قَالُوهُ مِنَ النَّقْصِ والعَيْبِ .
التَّسبيحُ :
هو التَّنْزيهُ والتَّبرِئةُ مِن العُيوبِ ، أيْ : ولأنَّه سُبْحَانَهُ
أَعْلمُ بنفْسِه وبغيرِه ، وأصْدَقُ قِيلاً وأحسَنُ حديثاً مِن غيرِه ؛
ولِأنَّ رسُلَه صادِقُون مُصَدِّقُونَ ، وقد أخْبَرُوا عنِ اللَّهِ أنَّه
مُتَّصِفٌ بصفاتِ الكمالِ ، وهم لا يقولونَ إلا الحَقَّ والصِّدْقَ ، وقد
بَلَّغُوا ما أُرْسِلوا به على الوجهِ الأكملِ ، فمَنْ نهَجَ نَهْجَ
الرُّسُـلِ وسارَ على طريقِهم صدَّقَهُم فيما أخْبَروا به .
ومَن حَادَ عن سبيلِهم ، كذَّبَهم ، ورَدَّ ما جاءوا به ، بالتَّكذيبِ الصَّريحِ أو بالتَّأويلِ الفاسدِ .
ونَزَّهَ اللَّهُ نفْسَه عمَّا نسَبَهُ إليه المُشركونَ مِن اتِّخاذِ الصَّاحِبةِ والوَلدِ ، وعن كُلِّ نَقْصٍ وعَيْبٍ .
وفي
اقْتِرانِ السَّلامِ على المُرْسلينَ بتسبيحِه لنفْسِه ما يتضمَّنُ
الرَّدَّ على كُلِّ مُبْطِلٍ ومُبْتَدِعٍ . فسَلامُهُ عليهم يقتضِي
سلامَتَهم مِن كُلِّ ما يقولُ المُكَذِّبونَ المخالِفونَ لهم ، ويتضمَّنُ
سَلامَةَ كُلِّ ما جاءوا به مِن الكَذِبِ والشِّرْكِ والنَّقصِ والعيبِ ،
وأَعْظمُ ما جاءوا به هو التَّوْحِيدُ ومعرِفةُ اللَّهِ بصفاتِ كَمَالِه
مما وصَفَ به نفْسَه على أَلْسِنَةِ رُسُلِه . وهذه الآيةُ :
كقولهِ تَعَالَى :{قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى}
.فإنَّه يتضمَّنُ حمْدَه بِما له مِن نُعوتِ الكمالِ وأوصافِ الجَلالِ
والأفعالِ الحميدةِ والأسماءِ الحُسْنَى وسلامةِ رسُلِه مِن كُلِّ نقصٍ
وعيبٍ ، فالرَّبُّ سُبْحَانَهُ حَمِدَ نفْسَه وسلَّمَ على عِبادِه وأمَرَ
رَسُولَه بتبليغِ ذلك . فإذا قَالَ الرَّسُولُ الحمدُ لِلَّهِ وسلامٌ على
عِبادِه الَّذِين اصطَفى ، كان قد حَمِدَ اللَّهَ بما حَمِدَ به نفْسَه،
وسلَّمَ به هو على عِبادِه ، فهو سلامٌ مِن اللَّهِ ابتداءً ، ومِن
المُبَلِّغِ بلاغاً ، ومِن العِبادةِ اقتداءً وطاعةً . فنحنُ نقولُ كما أمَرَنا : الحمدُ لِلَّهِ ، وسلامٌ على عبادِه الَّذِين اصطَفى .
وقَالَ
الحافِظُ ابنُ كثيرٍ : ولمَّا كان التَّسبيحُ يتضمَّنُ التَّنزيهَ
والتَّبرِئةَ مِن النقصِ بدَلالةِ المطابَقةِ ، ويستلْزِمُ إثباتَ الكمالِ ،
كما أنَّ الحمدَ يَدلُّ على إثباتِ صِفَاتِ الكمالِ مطابقةً ويستلْزِمُ
التَّنزيهَ مِن النقصِ فُرِّقَ بينَهما في هذا الموضعِ وفي مَواضِعَ كثيرةٍ
. اهـ).
التنبيهات السنية للشيخ: عبد العزيز بن ناصر الرشيد رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (ثُمَّ رُسُلُهُ صادِقُونَ(1)؛ بخِلافِ الَّذينَ يَقُولونَ على الله مَا لا يَعْلَمونَ.(2)
ولهذا قالَ سُبْحَانَهُ: ( سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلاَمٌ عَلَى المُرْسَلينَ والحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمينَ )(3)
فَسَبَّحَ
نَفْسَهُ عَمَّا وَصَفَهُ بِهِ المُخَالِفُونَ لِلرُّسُلِ، وسَلَّمَ عَلَى
المُرْسَلِينَ؛ لِسَلامَةِ مَا قَالُوهُ مِنَ النَّقْصِ والعَيْبِ.(4) ).
الشرح:
قال الشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد (ت: 1408هـ): ( (1) قولُه: (ثمَّ رسلُهُ صادقون):
أي فيما جاؤوا بِه عن اللهِ، والصِّدقُ هو مُطابقةُ الخبرِ للواقعِ،
فرسُلُه عليهمُ السَّلامُ صادِقون في جميعِ ما أَتَوْا به إذ هو الحقُّ
الصِّدْقُ المُطابقُ للواقعِ، فلا يَصِحُّ لإنسانٍ قولٌ ولا عملٌ إلا
باعتقادِ صدقِهم وأَمَانَتِهِمْ، وأنَّهم بلَّغُوا البلاغَ المبينَ بأبلغِ
عِبَارةٍ وأَوْضَحِ أسلوبٍ، ليسَ في كلامِهم لُغْزٌ، ولا أَحَاجِي، وليس له
باطنٌ يخالفُ ظاهرَه، وأنَّ لديهم من القدرةِ على التعبيرِ وكمالِ العلمِ
وتمامِ الشَّفقةِ والنُّصحِ ما ليسَ عند غيرِهِم، فيجبُ أن يكونَ بيانُهم
للحقِّ أكملَ من بيانِ كلِّ أحدٍ، فمِن المُحَالِ أن يتركوا بابَ الإيمانِ
باللهِ وأسمائِه وصفاتِهِ مُلْتَبِسًا، وهو أشرفُ العلومِ على الإطلاقِ
وأَجَلُّهَا وأَوْجَبُهَا، قد بَيَّنوه غايةَ البيانِ ولم يبقَ فيه شكٌّ
ولا إشكالٌ.
قالَ
الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ رحمه اللهُ: ومعلومٌ أنَّه -صلَّى اللهُ عليهِ
وسلَّمَ- قد بلَّغَ الرِّسالَةَ كما أُمِرَ ولم يَكْتُمْ منها شيئًا، فإنَّ
كِتْمَانَ ما أنزله اللهُ عليه يُنَاقِضُ مُوجبَ الرِّسالةِ، كما أنَّ
الكذبَ يُنَاقِضُ مُوجبَ الرِّسالةِ، قال: ومِن المعلومِ في دينِ المُسلمين
أنَّه مَعْصُومٌ من الكِتمانِ لشيءٍ من الرِّسالةِ، كما أنَّه مَعْصُومٌ
من الكذبِ فيها، والآيةُ تشهدُ له بأنَّه بلَّغَ الرِّسالةَ كما أمرَ
اللهُ، وبيَّنَ ما أُنْزِلَ إليه من ربِّه، وقد وَجَبَ على كلِّ مسلمٍ
تصديقُه في كلَّ ما أَخْبَر به.
(2) قوله: (مَصْدُوقون): أي فيما يَأْتِيهم من الوحيِ الكريمِ، قال تعالى: (
قُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا
أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَبِّهِمْ لاَ
نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) فيجبُ
الإيمانُ بجميعِ الأنبياءِ والمُرسلين، وأَنْ لا يُفرَّقَ بين أحدٍ منهم
وتصديقُهم فيما أَخْبَروا به واتَّباعُهم في كلِّ ما جَاؤوا به فهو حقٌّ
وصدقٌ، وقد اتَّفقَ العلماءُ على كُفْرِ من كَذَّبَ نبيـًّا مَعْلُومَ
النُّبوَّةِ، وكذا من سَبَّهُ أو انْتَقَصَهُ وَيَجِبُ قتلُهُ؛ لأَنَّ
الإيمانَ واجبٌ بجميعِ المرسلين، واتَّباعُهم واتَّباعُ ما أُنْزل إليهم،
وقد ختمهم اللهُ بمحمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- وأَنْزَل عليه
الكتابَ والحكمةَ، وجعل دعوتَه عامَّةً لجميعِ الثـَّقلين، باقيةً إلى يومِ
القيامةِ، وانقطعتْ به حُجَّةُ العبادِ على اللهِ سُبْحَانَهُ، وقد بَيَّن
اللهُ بِه كلَّ شيءٍ، وأَكَمْلَ له ولأمَّتِه الدِّينَ خَبَرًا وأمْرًا،
وأَقْسَمَ بنفسِه أنَّهم لا يُؤمِنونَ حتَّى يحكِّمُوه فيما شَجَرَ
بَيْنهم، قال تعالى: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) الآيةَ، وفي حديثِ أنسٍ أَنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ)).
وأعظمُ
ما جاءَ به -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- هو وإخوانُه من الرُّسُلِ: هو
الدعوةُ إلى توحيدِ اللهِ وعبادتِه وحدَه لا شريكَ له: ومعرفتِه بأسمائِه
وصفاتِه وأفعالِه، وأنَّه لا شبيهَ له ولا نظيرَ، فهذا هو مفتاحُ دعوتِهم
وزُبْدَةُ رسالتِهم من أوَّلِهم إلى آخِرهم، فَدِينُهُم واحدٌ، وإنَّما
اختلَفَت الشَّرائِعُ كما قالَ النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((نَحْنُ مَعَاشِرَ الأنْبِيَاءِ أَوْلاَدُ عَلاَّتٍ دِيِنُنُا وَاحِدٌ)) الحديثَ.
قولُه: (بخلافِ الَّذينَ يقولونَ على اللهِ ما لا يعلمونَ)
أي بخلافِ الَّذينَ يقولونَ على اللهِ في شرعِه ودينِه أو في أسمائِه
وصفاتِه وأفعالِه ما لا يَعْلمونَ، بل بِمُجَرَّدِ عقولِهم الفاسدةِ،
وتَخَيُّلاتِهِم الكَاسِدَةِ، الَّتي ما أَنْزَلَ اللهُ بها من سلطانٍ، قال
تعالى: (وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) وقال: (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لتفترُواْ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ )
فالقولُ على اللهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- بلا علمٍ من أعظمِ المنكراتِ،
ولهذا جعلَه في أعظمِ مراتبِ التَّحريمِ، فإنَّه بَدَأَ بِأَسْهَلِهَا،
وختمَ بأشدِّها، وأعظمِها تحريمًا، وهو القولُ على اللهِ بلا علمٍ، وتواترَ
عنِ النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ)).
قال
ابنُ القيِّمِ رحمَهُ اللهُ: فالقولُ على اللهِ بغيرِ علمٍ من كبائرِ
الذُّنوبِ، سواءٌ كان في أسماءِ اللهِ وصفاتِه وأفعالِه، أو في أحكامِه
وتقديمِ الخَيَالِ المُسَمَّى بالعقلِ والسَّياسةِ الظَّالمةِ،
والعَوَائِدِ الباطلةِ، والآراءِ الفاسدةِ، والأَذْوَاقِ والكُشُوفَاتِ
الشَّيطانيَّةِ على ما جاءَ به رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-
انتهى بتصرُّفٍ.
(3) قولُه: ولهذا قالَ سُبحانَه:(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلاَمٌ عَلَى المُرْسَلينَ والحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمينَ).
ذكرَ
المُصنِّفُ رحمه اللهُ تعالى هذه الآيةَ الكريمةَ دليلاً على ما تقدَّمَ من
إثباتِ صدقِ الرُّسلِ عليهم السَّلامُ، وصحَّةِ ما جاؤوا به، وأنَّه
الحقُّ الَّذي يجبُ اعتقادُه، وأنَّ الأنبياءَ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ
بَلَّغُوا الرِّسالةَ، وأَدُّوْا الأمانةَ، ووصفُوا اللهَ بما يَليِقُ به
من صفاتِ الكمالِ، ونَزَّهُوه عن صفاتِ النَّقصِ والعيبِ، وأنَّ مَن قالَ
بخلافِ ما جاؤوا به فهو كاذبٌ على اللهِ، قائلٌ عليه بدونِ علمٍ.
قولُه: (سُبْحَانَ رَبِّكَ): أي تَنْزِيهًا للهِ عن كلِّ نقصٍ وعيبٍ.
قال ابنُ القيَّمِ: التَّسْبِيحُ:
تَنْزِيهُ اللهِ عن كلٍّ سوءٍ، وأصلُ اللفظةِ من المُبَاعَدَةِ من قولِهم:
سَبَحْتُ في الأرضِ، إذا تَبَاعَدْتُ فيها. انتهى، وتأتي سُبْحانَ
للتَّعجُّبِ.
قولُه: (رَبِّ العِزَّةِ): أي القوَّةِ والغلبةِ، وأَضافها إليه لاختصاصِها به، والعزَّةُ يُرادُ بها
عِزَّةُ القوَّةِ، وَعِزَّةُ الامتناعِ، وعزَّةُ الغَلَبَةِ والقهرِ، فله
-سُبْحَانَهُ- العزَّةُ التَّامَّةُ بالاعتباراتِ الثَّلاثِ، يُقالُ في الأوَّلِ: عَزَّ يَعَزَّ بفتحِ العينِ في المستقبلِ، وفي الثَّاني بكسرِ العينِ، وفي الثَّالثِ بضمِّها.
قولُه: (عَمَّا يَصِفُونَ) أي تَنَزَّهَ -سُبْحَانَهُ- وتقدَّسَ عمَّا يصِفُه به المخالفونَ للرُّسُلِ من النَّقائصِ والعيوبِ.
قولُه: (وَسَلاَمٌ عَلَى المُرْسَلينَ): أي سلامُ اللهِ عليهم في الدُّنْيَا والآخرةِ، لسلامةِ ما قالوه في ربِّهم وصحَّتِهِ وأَحقيَّتِه.
قولُه: (والحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمينَ): قولُه: (ربِّ):
هو الخالقُ الرَّازقُ المدبِّرُ لجميعِ الأمورِ، ولا يُطلقُ إلا على اللهِ
-سُبْحَانَهُ وتعالَى- إلا إذا أُضيفَ فيطلَقُ على غيرِه كَرَبِّ الدارِ،
وربِّ الدَّابَّةِ، ونحوِ ذلك، ولفظةُ ربِّ وإلهٍ فيهما دَلالةُ الاقترانِ
والانفرادِ، فإذا أُفْرِدَ أحدُهما دَخَل فيه الآخرُ، وإذا ذُكِرَا مَعًا
فُسِّرَ الرَّبُّ بما تقدَّم، وفُسِّرَ الإلهُ بأنَّه المَعْبودُ
المُطَاعُ.
قولُه: (العالَمِين):
العَالَمُ: كُلُّ مَنْ سِوَى اللهِ، سُمِّي بذلك لأنَّه علامةٌ على وُجودِ
خالقِه ومُوجِدِه، ووحدانيَّتِه، وأنَّه المستحقُّ للعبادةِ كما قيل:
فَوَا عَجَبًا كَيْفَ يُعْصَى الإِلَهُ أَمْ كَيْفَ يجْحَدُهُ الَجاحِدُ
وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدُ
ويُروى
أنَّ أعرابيًّا سُئِلَ عن اللهِ فقالَ: "يا سبحانَ اللهِ، إنَّ البَعْرَةَ
لَتَدُلُّ على البعيرِ، وإنَّ الأَثَرَ لَيَدُلُّ على المَسِيرِ،
فَسَمَاءٌ ذَاتُ أَبْرَاجٍ، وأَرْضٌ ذَاتُ فِجَاجٍ، وبَحْرٌ ذَاتُ
أَمْوَاجٍ، ألا يدلُّ ذلك على وجودِ اللطيفِ الخبيرِ "، ففي هذه الآيةِ
نَزَّه نفسَه -سُبْحَانَهُ- عمَّا لا يليقُ بجلالِه، ثمَّ سَلَّمَ على
المرسلينَ، وهذا يقتضي سلامتَهم من كلِّ ما يَقُوله المُكَذِّبُونَ لهم،
وإذا سَلِمُوا من ذلك لَزِم سَلامةَُ كلِّ ما جَاءوا به من الكذبِ
والفسادِ، وأعظمُ ما جاءوا به: هو التَّوحيدُ ومعرفةُ اللهِ -سُبْحَانَهُ-
وتعالى، وَوَصْفُه بما يليقُ بجلالِه ممَّا وصفَ به نفسَه على ألسنتِهم،
وإذا سَلِمَ ذلك من الكذبِ والمحالِ فهو الحقُّ المحضُ وما خَالَفه فهو
الباطلُ والكذبُ والمحالُ.
قال
ابنُ كثيرٍ رحمهُ اللهُ: ولمَّا كانَ التَّسبيحُ يتضمَّنُ التَّنـزيهَ
والتَبْرِئَةَ من النَّقصِ بدلالةِ المُطابقةِ، ويستلزمُ إثباتَ الكمالِ،
كما أَنَّ الحمدَ يدلُّ على إثباتِ صفاتِ الكمالِ مُطابقةً ويَسْتَلْزِمُ
التَّنـزيهَ عن النَّقصِ، قَرَنَ بينهما في هذا الموضعِ وفي مواضعَ كثيرةٍ
من القرآنِ؛ ولهذا قال: ((سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) الآيةَ. انتهى.
وفي هذهِ الآيةِ إثباتُ أنواعِ التَّوحيدِ الثَّلاثةِ،
فإِنَّ الحمدَ يتضمَّنُ إثباتَ أنواعِ التَّوحيدِ الثَّلاثةِ، فإنَّ
الحمدَ مَدْحُ الْمَحْمُودِ بصفاتِ كمالهِ ونعوتِ جلالِه، مع محبَّتِه
والرِّضا عنه والخضوعِ له، ومن المعلومِ أنَّ فاقدَ صفاتِ الكمالِ لا يكونُ
إلهًا، ولا مدبِّرًا، بل هو مذمومٌ، مَعِيبٌ، ليس له الحمدُ، وإنَّما
الحمدُ لمَن له صفاتُ الكمالِ، ونُعوتُ الجلالِ، الَّتي لأجلِهَا استحقَّ
الحمدَ، واشتملتْ هذه الآيةُ على وصفِه -سُبْحَانَهُ- بالعزَّةِ
المتضمَّنةِ للقوَّةِ والقدرةِ وعدمِ النَّظيرِ، والحمدِ المُتَضَمَّنِ
لصفاتِ الكمالِ والتَّنـزيهِ عن أضدادِها، وعلى إثباتِ صفةِ الكلامِ، وعلى
الرَّدِّ على جميعِ المُخالفين، وإثباتِ أنَّ ما جاءَ به المرسلونَ هو
الحقُّ الَّذي يتعيَّنُ اعتقادُه لسلامةِ ما قالُوه في ربِّهم من النَّقصِ
والعيبِ. انتهى. مِن كلامِ ابنِ القيِّم مُلَخَّصًا.
(4) قولُه: (فسبـَّحَ نفسَه):
أي نزَّهَها عما يَصِفُه به العبادُ إلا ما وَصَفَهُ به المرسلون
وأتباعُهم، فإنَّ هذه الكلمةَ: أي سبحانَ ربِّك، تنـزيهٌ للرَّبِّ،
وتعظيمُه وإجلالُه عمَّا لا يليقُ به من النَّقائصِ والعيوبِ، فالرُّسلُ
عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ وأتباعُهم وَصفوه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- بصفاتِ
الكمالِ ونَزَّهُوه عمَّا لا يليقُ به من الشَّبيهِ والمثالِ، وأمَّا
أعداءُ الرُّسلِ فوصفوه بضدِّ ذلك من النَّقائصِ والعيوبِ وأَلْحَدُوا في
أسماءِ الله وصفاتِه وآياتِه، وحَرَّفُوا الكَلِمَ عَنْ مواضِعه، فالحقُّ
هو ما كانَ عليه الرَّسولُ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- وأصحابُه، وما جاء
به عِلْمًا وَعَمَلاً واعتقادًا في بابِ صفاتِ الرَّبِّ وأسمائِه، وتوحيدِه
وأَمْرِهِ ونَهْيِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِه، وكلُّ ذلك مُسَلَّمٌ إلى
رسولِ اللهِ دونَ آراءِ الرِّجالِ وأَوْضَاعِهِمْ وَأَفْكَارِهِمْ
واصْطِلاَحَاتِهِمْ، فكلُّ ما خالفَ ما عليهِ الرَّسولُ وأصحابُه فهو باطلٌ
مردودُ على صاحبِه كائنًا مَن كانَ.
قولُه: (لسلامةِ ما قالُوه):
أي أَنَّ ما قالُوه في ربِّهم سالمٌ من النَّقصِ والعيبِ، فإنهَّم
أَعْلَمُ الخلقِ بالحقِّ وأَنْصَحُ الخلقِ وأفصحهُم وأقدرُهم على البيانِ
والتَّبليغِ، فَمَا بَيَّنُوه من أسماءِ اللهِ وصفاتِهِ وغيرِ ذلك هو
الغايةُ في الكمالِ، وهو الحقُّ الَّذي يجبُ اعتقادُه واتَّباعُه، ولا
تحِلُّ مخالفتُه.
قال في القاموسِ: السَّلامةُ: البراءةُ من العيوبِ. اهـ.، والعيبُ والنَّقصانُ مُترادفان).
شرح العقيدة الوسطية للشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ ( مفرغ )
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ: (ثم قال - رحمه الله تعالى -: (ثم رسله صادقون مصدوقون)،
الرسل: جمع رسول، وهم الذين أوحي إليهم بكتاب وأمروا بتبليغه إلى قوم
مخالفين كما مرّ معنا في أول هذه الرسالة، صادقون: جمع الصادق، والصادق اسم
لمن قام به الصدق، والصدق مطابقة الخبر للواقع، كما
قال: (والصدق أن يطابق الواقع ما تقوله)، إذا طابق الواقع ما تقوله فهذا هو
الصدق, إذا خالف الواقع، إذا خالف ما تقوله الواقعة أو خالف الواقعة ما تقوله فإن هذا يعد كذبا سواء كان خطأ أو كان متعمدا، هذا في الاصطلاح.
ورسل الله جل وعلا صادقون يعني: قام بهم الصدق، لم يخبروا بشيء من أسماء
الله جل وعلا وصفاته ولا من دينه إلا وقد طابق الواقعة، فهم لم يذكروا شيئا
عن الله جل وعلا لا يطابق الواقع، بل ما وصفوا الله جل وعلا به هذا يطابق
الحال وصف الرسل ربهم جل وعلا بأنه استوى على العرش، فقال موسى لفرعون، ذكر
أن ربه جل وعلا هو الأعلى فقال فرعون: { ياهامان ابن لي صرحا لعلّي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى}
فهذا العلو نفاه فرعون ورسل الله مجمعون على ارشاد الناس وتبيين تلك الصفة
لهم، فهو جل وعلا له الصفات وأخبر رسله بما له من الصفات ورسله أخبروا
الخلق بذلك وهم صادقون في ذلك، فمن نفى صفة فقد كذّب الرسول، هذا حقيقة
حاله لكن قد يكون التكذيب له وجه من العذر، فلا يكون كافرا بذلك، رسله
صادقون مصدوقون.
يعني قال هنا: (بخلاف الذين يقولون عليه ما لا يعلمون)
القول على الله بلا علم حرام سواء أكان القول في الأسماء والصفات، في
العقائد أو في الأحكام العملية، يعني: سواء أكان في الأحكام الخبرية التي
هي العقائد أو في الحلال والحرام وهي الأحكام العملية، القول على الله بلا
علم أشد المحرمات، ولهذا عنه تفرع كل ضلال، وقد ذكر الله جل وعلا تحريمه في
عدة آيات في كتابه جل وعلا، من هم الذين قالوا على الله ما لا يعلمون؟
قالها كل مخالف للرسل، فإن مشركي العرب مثلاً وصفوا الله جل وعلا بخلاف ما
قاله الرسل، خلاف ما قاله النبي – عليه الصلاة والسلام -، وأخبروا عن أسماء
الله جل وعلا بخلاف ما جاءت به الرسل، وعن صفات الله جل وعلا بخلاف ما
جاءت به الرسل، بل أثبتوا لله صفات ونفوا أسماء بما عندهم، فقال الله جل
وعلا عنهم: {وهم يكفرون بالرحمن}، وهذا قول على الله بلا علم، وقال عن اليهود: {لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء}، وأخبر أنهم قالوا: {يد الله مغلولة}،
وهذا كله في باب الأسماء والصفات، قالوا على الله ما لا يعلمون، ورث هذا
القول منهم, من أولئك طوائف الضلال، فالجهمية ومن تفرع عنهم من المعتزلة
والأشاعرة والماتريدية وأشباه هؤلاء، كل طائفة أثبتت لله أسماء ونفت صفات
من عقولهم ومن آرائهم بلا دليل، فجعلوا من أسماء الله جل وعلا وصفاته صفات
السلبية، مثل: القديم، ونحو ذلك ومثل الموجود، فجعلوها من الأسماء ومن
الصفات، والمعتزلة بل الجهمية قبلهم نفوا أن يكون لله جل وعلا أسماء فيها
صفات، فيفسرها الجهمية بالصفات، يفسرها الجهمية يفسرون الأسماء بالمخلوقات
المنفصلة، والمعتزلة يفسرون الأسماء بالذات التي ليس فيها صفة، فيجعلون
دلالة السميع هي دلالة العليم هي دلالة البصير، دلالة على الذات بدون
المعنى، فتكون عندهم من قبيل المترادف المحض؛ لأنها دالة على ذات بلا معنى،
وهذا كله قول على الله بلا علم. هذه لا شك جُمل من الكلام وعَرضٌ عام
سيأتي تفصيله بدقته وبتحريراته في مواضعه من هذه الرسالة.
قال هنا: (لهذا قال سبحانه وتعالى: {سبحان ربك رب العزة عماّ يصفون * وسلام على المرسلين * والحمد لله رب العالمين}، فسبح نفسه عمّا وصفه به المخالفون للرسل)، وقوله هنا: {سبحان ربك}:
سبحان: هذا مفعول مطلق، يعني أسبح سبحانه، وأصله في اللغة: معناه:
الإبعاد، يقولون: سبحان فلان من كذا، يعني: بَعُدَ فلان من كذا، وقد قال
الشاعر:
أقول لما جاءني فخره ... سبحان من علقمة الفاخر
يقول:
أقول لما جاءني فخره سبحان من علقمة، يعني: بعيد جدا أن يكون لعلقمة من
يفخر به، وتسبيح الله، سبحان الله معناها: تنزيه الله عن كل نقص وعيب وسوء،
وموارده في الكتاب والسنة خمسة:-
- تنـزيه الله جل وعلا عن الشريك في الربوبية كما ادعاه الملحدون.
- تنـزيه الله جل وعلا عن الشريك في الألوهية كما ادعاه المشركون.
- تنـزيه الله جل وعلا في أسمائه وصفاته أن تسلب معانيها اللائقة بها وتنزيه الله جل وعلا في أسمائه وصفاته عن مماثلة المخلوقين لها.
- تنـزيه الله جل وعلا-هذا الرابع تنزيه الله جل
وعلا في أمره الكوني وقدره الكوني عن أن يكون بلا حكمة أو أن يكون عبثا،
كما ادعاه من قالوا خلقنا الله عبثا ومن نفوا الحكمة في الخلق والإيجاد
وتقدير الأشياء.
- والخامس -وهو الأخير-: تنـزيه الله جل وعلا في شرعه وأمره الديني عن النقص وعن منافاة الحكمة.
فالله جل وعلا ينزه نفسه بقوله: {سبحان ربك } يعني: تنزيها لله من كل سوء ادعاه المخالفون للرسل وهم ادعوا الشركة له في الربوبية فينزّه لله جل وعلا عن الشريك في الربوبية. {سبحان ربك}
يعني: تنزيهاً لله، إذا قلت في الركوع: سبحان ربي العظيم, معناه تنزيها
لله ربي العظيم عن كل سوء ونقص في هذه الموارد الخمسة التي في الكتاب
والسنة في الربوبية والألوهية وفي الأسماء والصفات وفي الشرع وفي الأمر
الكوني والقدر.
قال هنا: {سبحان ربك رب العزة }، ربك: هنا
الإضافة للتشريف، أضاف الربوبية إلى النبي - عليه الصلاة والسلام -لتشريفه
بها، في هذا المقام العظيم، وهذا يقتضي أن كلام النبي - عليه الصلاة
والسلام -عن ربه الذي جحده الجاحدون أنه هو الأكمل وهو الأليق بالله جل
وعلا، ثم قال بعدها: { رب العزة }، {سبحان ربك رب العزة}
بمعنى صاحب العزة، بمعنى ذي العزة المتصف بالعزة، والعزة صفة لله جل وعلا
ومن أسمائه سبحانه وتعالى. (العزيز) والعزيز: هو الذي كملت له أوصاف العزة،
والعزة في الكتاب والسنة جاءت, يعني التي يتصف الله جل وعلا بها، جاءت على ثلاث معانٍ: -
الأول: العزة التي هي بمعنى الامتناع والغنى وعدم الحاجة، الامتناع عمن يغالط أو عمن يسيء والغنى هذه كلها معنى واحد، والغنى عن الخلق.
والثاني: العزة بمعنى القهر والغلبة.
والثالث: العزة بمعنى القوة، طبعا معنى القوة الخاصة، قوة لا يُقوى عليها، قوة لا يَنِدُّ عنها شيء.
وهذه التي ذكرها ابن القيم، هذه المعاني الثلاث في النونية، حيث قال في بيان معان اسم الله العزيز، قال -رحمه الله- :-
وهو العزيز فلن يُرام جنابـه ... أنّى يُرام جناب ذي السلطان
وهو العزيز القاهر الغـلاب ... لم يغلبه شيء هذه صفتـان
وهو العزيز بقوة هي وصفه ... فالعز حينئذٍ ثـلاث معـان
وهي التي قد كملت له سبحانه …. إلى آخـــر ما قال …
هنا ذكر الثلاثة معاني العزة، قال:
وهو العزيز فلن يرام جنابـه ... أنّى يرام جناب ذي السلطان
ثم المعنى الثالث:
وأما العزة بمعى الامتناع فهذه يأتي فعلها مكسورا عزَّ، يعِزُّ، وأما القهر
والغلبة فسيكون فعلها المضارع مضموما، عزَّ، يعِزُّ، عِزَّةً، المصدر في
الجميع عزة لكن المضارع يختلف المعنى هكذا قرّره ابن القيم وغيره من
العلماء.
ردا على سؤال غير مسموع: لا, القهر والغلبة, القهر والغلبة هذه متعدية والقوة هذه لازمة.
قال: {عمّا يصفون}، {سبحان ربك رب العزة عمّا يصفون }،
وبهذا يصح أن تقول لله جل وعلا بهذا الدليل رب الرحمه، رب السمع، رب
البصر، رب العزة، رب الجمال، رب النور، … ونحو ذلك بمعنى ( صاحب ) يعني
المتصف بهذه.
قال: {عما يصفون } يعني: عن الذي يصفون،
والمفعول به (اللِّي) هو الضمير محذوف يعني: عما, عن الذي يصفونه, يعني:هو
الله جل وعلا به، ومن هم الواصفون الذين نزه الله جل وعلا نفسه عن وصفهم؟
هم الذين لم يستجيبوا للرسل، فقال: {وسلام على المرسلين} وذلك لأن المرسلين أنزل الله جل وعلا عليهم السلام وهو جل وعلا السلام، من أسمائه السلام وهو الذي يعطي السلامة، وقال هنا عن نفسه: {وسلام على المرسلين}،
فهو الذي جعل الأنبياء والمرسلين أهل السلامة، والسلامة متبعضة: هناك
سلامة في القول بصحته ومطابقته للواقع، وسلامة في الفهم، وسلامة في
العبودية، وسلامة في الاعتقاد، وسلامة في التبليغ، فجهات السلامة كثيرة
والله جل وعلا أعطاها عباده المرسلين، ولهذا قال هنا: { سلام على المرسلين } وأفاد الإعطاء التعدية بِعَلى، قال: {سلام على المرسلين}، وفي قوله: { على}
ما يفيد أن السلامة صارت عليهم وقد أحاطت بهم، وهذا في هذا المقام ظاهر
الفائدة؛ لأن المرسلين وصفوا الله جل وعلا بالصفات العُلا وسموهُ بالأسماء
الحسنى، وفي هذه السورة التي هي سورة (الصافات) ذكر الله جل وعلا عن
المشركين أنهم استكبروا عن قول: ( لا إله إلاّ الله ) فقال فيها: {إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلاّ الله يستكبرون ويقولون أئنّا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون}،
وذكر في آخر السورة أنهم جعلوا الملائكة بنات لله جل وعلا، وهذا فيه وصف
لله جل وعلا، والأنبياء والرسل لم يصفوا الله جل وعلا بذلك بل هم سالمون
مُسلّمون في أقوالهم وفي أعمالهم وفي تبليغهم، ولهذا قال هنا: {وسلام على المرسلين}؛ لسلامة ما وصفوه به من النقص والعيب وهذا لا شك أنه واسع المعنى.
ثم قال: {والحمد لله رب العالمين}، والحمد مرَّ معنا معانيه الكثيرة في أول هذه الرسالة، وقوله هنا: { لله رب العالمين}، هذا فيه فائدة نبهنا عليها مرارا وهو أن هذه الآية دليل على أن الربوبية غير الإلهية؛ لأنه قال: { الحمد لله}،
والمعتمد عندنا أن لفظ الجلالة ( الله ) مشتق وعليه يكون مشتق من الألوهة
لأن الاشتقاق يكون من المصدر والرب من الربوبية، والربوبية إذن غير
الألوهية، قد قال الإمام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله تعالى - " إن اسم
الرب والإله من الأسماء التي إذا اجتمعت افترقت، وإذا افترقت اجتمعت، وذلك
إما بدلالة اللفظ أو بدلالة التضمن واللزوم ".
قال: {رب العالمين}، العالمون جمع العالم،
والعالم هو كل ما سوى الله جل وعلا فكل ما سوى الله جل وعلا عالم وسمّي
عالما من العلامة، لأنه علامة على أنه مربوب وأن له ربّا خالقا، أو من
العلم؛ لأن به علم ما لله جل وعلا من الحق والأسماء والصفات كما قال
الشاعر:
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه الواحد