الدروس
course cover
أهل السنة لا يحرفون ولا يكيفون ولا يمثلون
11 Nov 2008
11 Nov 2008

5597

0

0

course cover
العقيدة الواسطية

القسم الأول

أهل السنة لا يحرفون ولا يكيفون ولا يمثلون
11 Nov 2008
11 Nov 2008

11 Nov 2008

5597

0

0


0

0

0

0

0

أهل السنة لا يحرفون ولا يكيفون ولا يمثلون

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (بَلْ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ اللهََ تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سُورَةُ الشورى :11] ؛ فَلاَ يَنْفُونَ عَنْهُ مَا وَصَفَ بِهِ نفْسَهُ، وَلاَ يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَوَاضِِعِهِ ، وَلاَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَاءِ الله وَآيَاتهِ ، وَلاَ يُكَيِّفُونَ ، وَلا يُمَثِّلونَ صِفَاتِهِ بِصِفَاتِ خَلْقِهِ ؛ لأَنَّهُ - سُبْحَانَهُ - لاَ سَمِيَّ لَهُ ، وَلاَ كُفْوَ لَهُ ، وَلاَ نِدَّ لَهُ . وَلاَ يُقَاسُ بِخَلْقِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِنَفْسِِهِ وَبِغَيْرِهِ ، وَأَصْدَقُ قِيلاً وَأَحْسَنُ حَدِيثًا منْ خَلْقِهِ).

هيئة الإشراف

#2

1 Dec 2008

التنبيهات اللطيفة فيما احتوت عليه الواسطية من المباحث المنيفة لابن سعدي رحمه الله


قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): (بل يُؤمنونَ بأنَّ اللهَ سبحانه (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى:11]. فلا يَنْفُونَ عنه ما وَصَفَ بِهِ نفْسَهُ، ولا يحرِّفون الكلِمَ عن مواضعه، ولا يُلحدون في أسماء الله وآياتهِ، ولا يُكيِّفون ولا يُمَثِّلون صفاتِهِ بصفاتِ خلْقِهِ.لأنه سبحانه لا سمِيَّ له؛ ولا كُفوَ له ولا نِدَّ له، ولا يُقاسُ بخَلْقِهِ سبحانه وتعالى، فإنه سبحانه أعلَمُ بنفسِه وبغيرِه، وأصدقُ قِيلاً وأحسنُ حديثاً من خَلْقِهِ،
وقوله: (وهو السميع البصير) ونحوها من إثبات أسماء الله وصفاته تنفي التعطيل والتحريف.
فالمؤمن الموحِّد يثبت الصفات كلها على الوجه اللائق بعظمة الله وكبريائه، والمعطِّل ينفيها أو ينفي بعضها والمشبِّه الممثِّل يثبتها على وجه يليق بالمخلوق.
ونصوص الكتاب والسنة التي يتعذَّر إحصاؤها كلها تشترك في دلالتها على هذا الأصل، وهو إثبات الصِّفات على وجه الكمال الذي لا يشبهه كمال أحد، وهي في غاية الوضوح والبيان وأعلى مراتب الصِّدق،
فإن الكلام إنما يقصر بيانه ودلالته لأمور ثلاثة:
- إما جهل المتكلِّم وعدم علمه وقصوره.
- وإما: عدم فصاحته وبيانه.
- وإما: كذبه وغشّه.
أما نصوص الكتاب والسُّنة فإنها بريئة من هذه الأمور الثّلاثة من كل وجه، فكلام الله ورسوله في غاية الوضوح والبيان وفي غاية الصِّدق كما قال: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً)، (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً) ونظيره قوله تعالى: (وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) والرسول صلى الله عليه وسلم في غاية النُّصح والشَّفقة العظيمة على الخلْق، وهل يمكن أن يكون في كلامه شيء من النّقص أو القصور، بل كلامه هو الغاية التي ليس فوقها غاية في الوضوح والبيان للحقائق، وهذا برهان على أن كلام الله وكلام رسوله يوصل إلى أعلى درجات العلم واليقين، والله يقول وهو يهدي إلى السبيل، والحقّ النافع هو ما اشتمل عليه كلام الله وكلام رسوله في جميع الأبواب، لا سيما في هذا الباب الذي هو أصل الأصول كلها وهذا معنى قول المصنِّف في إيراده للآية الكريمة (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلاَمٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ). فسبَّح نفسه عما قاله المخالفون للرسل وسلّم على المرسلين لسلامة ما قالوه من النقص والعيب، أي قال الحمد لله رب العالمين لدلالة الحمد على الكمال المطلق من جميع الوجوه.

هيئة الإشراف

#3

1 Dec 2008

شرح العقيدة الواسطية للشيخ مُحمَّد خَليل هَرَّاس رحمه الله

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (بَلْ يُؤمِنُونَ بأَنَّ اللهَ ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ )(1).
فلا ينَفونَ عَنْهُ مَا وَصَفَ بهِ نَفْسَهُ، ولا يُحَرِّفونَ الكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، ولا يُلْحِدُونَ في أَسْماءِ اللهِ وآياتِهِ، ولا يُكَيِّفُونَ ولا يُمَثِّلُونَ صِفاتِهِ بَصِفاتِ خلْقِهِ(2)
لأنَّهُ سُبْحَانَهُ: لاَ سَمِيَّ لَهُ، ولا كُفْءَ لَهُ، ولا نِدَّ لَهُ(3).
ولا يُقَاسُ بخَلْقِهِ سُبْحَانَهُ وتَعالى(4)
فإِنَّهُ أَعْلَمُ بِنَفْسِهِ وبغَيْرِهِ، وأَصْدَقُ قِيلاً، وأَحْسَنُ حَدِيثًا مِنْ خَلْقِهِ
).

الشرح:

قال الشيخ محمد خليل هراس (ت: 1395هـ): ( (1) قولُهُ: ( ليسَ كَمِثْلِهِ )، هذهِ الآيةُ المُحكمةُ مِن كتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ هيَ دستورُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ في بابِ الصفاتِ، فإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ قدْ جمعَ فيهَا بينَ النَّفيِ والإِثباتِ، فنفَى عن نفسِهِ المِثْلَ، وأثبتَ لنفسِهِ سمعًا وبصرًا، فدلَّ هذا على أنَّ المذهبَ الحقَّ ليسَ هوَ نفيَ الصفاتِ مطلقًا؛ كمَا هوَ شأنُ المعطِّلةِ، ولا إثباتَهَا مطلقًا؛ كمَا هوَ شأنُ الممثِّلةِ، بلْ إثباتُهَا بلا تمثيلٍ.
وقَد اختُلِفَ في إعرابِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ} على وُجوهٍ أصحُّهَا: أنَّ الكافَ صلةٌ زِيدَتْ للتَّأكيدِ؛ كمَا في قولِ الشَّاعِرِ:

لَيْسَ كَمِثْلِ الفَتَى زُهَيْرٍ خُلُقٌ يُوازِيْهِ في الفَضائِل


(2) وقولُهُ: (فلا ينفون عنهُ … إلخ) تفريعٌ على ما قبلَهُ؛ فإنَّهم إذَا كانوا يؤمنون باللهِ على هذا الوجهِ؛ فلا ينفُون ولا يحرِّفون، ولا يكيِّفون ولا يمثِّلون.
والمواضعُ: جمعُ موضعٍ، والمرادُ بهَا المعاني التَّي يجبُ تنزيلُ الكلامِ عليهَا؛ لأنَّهَا هيَ المتبادِرةُ منهُ عندَ الإِطلاقِ، فَهُمْ لا يَعْدِلُونَ بهِ عَنْهَا.
وأَمَّا قولُهُ: (ولا يُلْحِدون في أسماءِ اللهِ وآياتِهِ)؛ فقدْ قالَ العلامةُ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ:
والإلحادُ في أسمائِهِ هوَ العدولُ بهَا وبحقائقِهَا ومعانِيهَا عن الحقِّ الثابتِ لهَا، مأخوذٌ من الميلِ؛ كمَا يدُلُّ عليهِ مادةُ ( لَ حَ دَ)، فمنهُ اللَّحْدُ، وهوَ الشَّقُّ في جانبِ القبرِ، الذي قدْ مالَ عن الوَسطِ، ومنهُ المُلْحِدُ في الدِّينِ: المائلُ عن الحقِّ، المُدْخِلُ فيهِ ما ليسَ منهُ. ا هـ.
فالإلحادُ فيهَا إمَّا أنْ يكونَ بجحدِهَا وإنكارِهَا بالكلِّيَّةِ، وإمَّا بجحدِ معانِيهَا وتعطيلِهَا، وإمَّا بتحريفِهَا عن الصَّوابِ وإخراجِهَا عن الحقِّ بالتَّأويلاتِ الفاسدةِ، وإمَّا بجعلِهَا أسماءً لبعضِ المبتَدَعاتِ؛ كإلحادِ أهلِ الاتِّحادِ.
وخلاصةُ ما تقدَّمَ أنَّ السَّلفَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ يؤمنون بكلِّ ما أخبرَ اللهُ بهِ عن نفسِهِ في كتابِهِ، وبكلِّ ما أخبرَ بهِ عنهُ رسولُهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلمَ إيمانًا سالمًا مِن التَّحريفِ والتَّعطيلِ، ومِن التَّكييفِ والتَّمثيلِ، ويجعلون الكلامَ في ذاتِ البارِي وصفاتِهِ بابًا واحدًا؛ فإنَّ الكلامَ في الصفاتِ فرعُ الكلامِ في الذَّاتِ، يُحْتَذَى فيهِ حَذْوَهُ، فإذَا كانَ إثباتُ الذاتِ إثباتَ وجودٍ لا إثباتَ تكييفٍ؛ فكذلكَ إثباتُ الصفاتِ.
وقَدْ يعبِّرون عن ذلكَ بقولِهِمْ: (تُمَرُّ كمَا جاءتْ بلا تأويلٍ) ومَنْ لمْ يفهمْ كلامَهمُ؛ ظنَّ أنَّ غَرَضَهُمْ بهذهِِ العبارةِ هوَ قراءةُ اللَّفْظِ دونَ التَّعرُّضِ للمعنَى، وهوَ باطلٌ، فإنَّ المرادَ بالتَّأويلِ المنفيِّ هنَا هوَ حقيقةُ المعنى وكُنْهُهُ وكيفيَّتُهُ.
قالَ الإمَامُ أحمدُ رَحِمَهُ اللهُ: (لا يوصَفُ اللهُ إلاَّ بِما وصفَ بهِ نفسَهُ، أو وصفَهُ بهِ رسولُهُ، لا يتجاوزُ القرآنَ والحديثَ).
وقالَ نُعيمُ بنُ حمَّادٍ شيخُ البخارِيِّ: ((مَنْ شبَّهَ اللهَ بخَلقِهِ كَفَرَ، ومَنْ جحدَ ما وصفَ اللهُ بهِ نفسَهُ كفرَ، وليسَ فيمَا وصفَ اللهُ بهِ نفسَهُ أو وصفَهُ بهِ رسولُهُ تشبيهٌ ولا تمثيلٌ)).
(3) قولُهُ: (لأنَّهُ سبحانَهُ لا سَمِيَّ لهُ.. إلخ) تعليلٌ لقولِهِ فيمَا تقدَّمَ إخبارًا عن أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ: لا يكيِّفون ولا يمثِّلون.
ومعنى: (لا سَمِيَّ لهُ)؛ أي: لا نظيرَ لهُ يستحقُّ مثلَ اسمِهِ، أو لا مُسَامِيَ لهُ يُسَامِيهِ، وقَدْ دلَّ على نفيِهِ قولُهُ تعالى في سورةِ مريمَ: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا}.فإنَّ الاستفهَامَ هنَا إنكاريٌّ معناهُ النَّفيُ.
وليسَ المرادُ مِن نفيِ السَّميِّ أنَّ غيرَهُ لا يُسمَّى بمثلِ أسمائِهِ، فإنَّ هناكَ أسماءٌ مشتركةٌ بينَهُ وبينَ خلقِهِ، ولكنَّ المقصودَ أنَّ هذهِ الأسماءَ إذَا سُمِّيَ اللهُ بهَا؛ كانَ معناهَا مختصًّا بهِ لا يَشْرَكُهُ فيهِ غيرُهُ، فإنَّ الاشتراكَ إنَّمَا هوَ في مفهومِ الاسمِ الكُلِّيِّ، وهذا لا وجودَ لهُ إلاَّ في الذِّهْنِ، وأَمَّا في الخارجِ؛ فلا يكونُ المعنى إلاَّ جزئيًّا مختصًّا، وذلكَ بحسَبِ ما يضافُ إليهِ، فإنْ أُضيفَ إلى الرَّبِّ؛ كانَ مختصًّا بهِ، لا يُشَارِكُهُ فيهِ العبدُ، وإنْ أُضيفَ إلى العبدِ كانَ مختصًّا بهِ لا يُشَارِكُهُ فيهِ الرَّبُّ.
وأَمَّا الكُفْءُ؛ فهوَ المكافئُ المساوِي، وقَدْ دلَّ على نفيِهِ قولُهُ تعالى: {ولَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}.
وأَمَّا النِّدُّ؛ فمعناهُ المساوِي المناوئُ؛ قالَ تعالى: {فَلاَ تَجْعَلُوا للهِ أَنْدادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمونَ}.
(4) وأَمَّا قولُهُ: (ولا يُقاسُ بخلقِهِ)؛ فالمقصودُ بهِ أنَّهُ لا يجوزُ استعمالُ شيءٍ من الأقيسةِ التَّي تقتضِي المماثلةَ والمساواةَ بينَ المَقِيسِ والمَقِيسِ عليهِ في الشُّؤونِ الإِلهيِّةِ.
وذلكَ مثلُ قياسِ التَّمثيلِ الذي يعرِّفُهُ علماءُ الأصولِ بأنَّهُ إلحاقُ فَرْعٍ بِأَصْلٍ في حُكمٍ جامعٍ؛ كإلحاقِ النَّبِيذِ بالخمرِ في الحرمةِ لاشتراكِهمَا في علَّةِ الحكمِ، وهيَ الإِسكارُ.فقياسُ التَّمثيلِ مبنيٌّ على وجودِ مماثلةٍ بينَ الفرعِ والأصلِ، واللهُ عزَّ وجلَّ لا يجوزُ أنْ يُمثَّلَ بشيءٍ مِن خلقِهِ.
ومثلُ قياسِ الشُّمولِ المعروفِ عندَ المناطقةِ بأنَّهُ الاستدلالُ بكليٍّ على جزئيٍّ بواسطةِ اندراجِ ذلكَ الجزئيِّ مَعَ غيرِهِ تحتَ هذا الكُلِّيِّ.فهذا القياسُ مبنيٌّ على استواءِ الأفرادِ المُنْدَرِجةِ تحتَ هذا الكُلِّيِّ، ولذلكَ يُحكَمُ على كلٍّ منهَا بما حُكِمَ بهِ عليهِ. ومعلومٌ أَنَّهُ لا مساواةَ بينَ اللهِ عزَّ وجلَّ وبينَ شيءٍ مِن خلقِهِ.
وإنما يُستعملُ في حقِّهِ تعالى قياسُ الأوْلى، ومضمونُهُ أنَّ كلَّ كمَالٍ ثبتَ للمخلوقِ وأمكنَ أنْ يتَّصِفَ بهِ الخالقُ؛ فالخالقُ أولى بهِ مِن المخلوقِ، وكلَّ نقصٍ تَنَزَّهَ عنهُ المخلوقُ فالخالقُ أحقُّ بالتَّنَزُّهِ عنهُ.
وكذلكَ قاعدةُ الكمَالِ التَّي تقولُ: إنَّهُ إذَا قُدِّرَ اثنانِ: أحدُهمَا موصوفٌ بصفةِ كمَالٍ، والآخرُ يمتنعُ عليهِ أنْ يتَّصفَ بتلكَ الصِّفةِ؛ كانَ الأوَّلُ أكملَ من الثَّانِي، فيجبُ إثباتُ مثلَ تلكَ الصِّفةِ للهِ ما دامَ وجودُهَا كمَالاً وعدمُهَا نقصًا).

هيئة الإشراف

#4

1 Dec 2008

شرح العقيدة الواسطية للشيخ: صالح بن فوزان الفوزان

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (بَلْ يُؤْمِنونَ بِأنَّ اللهَ سُبْحانَهُ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌُ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ، فَلاَ يَنْفُونَ عَنْهُ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَلاَ يُحرِّفُون الكَلِمَ عنْ مَوَاضِعِهِ.(1)
وَلاَ يُلْحِدُونَ في أَسْمَاءِ اللهِ وَآيَاتِهِ وَلاَ يُكَيِّفُونَ وَلاَ يُمَثِّلُونَ صِفَاتِهِ بِصِفَاتِ خَلْقِهِ.(2)
لأَنَّه سُبْحَانَهُ لا سَمِيَّ لَهُ وَلاَ كُفْؤ لَهُ وَلا نِدَّ لَهُ، وَلا يُقَاسُ بِخَلْقِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعالَى، فَإِنَّه سُبْحَانَهُ أَعلَمُ بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ، وَأَصْدَقُ قِيلاً، وَأَحْسَنُ حَدِيثاً مِنْ خَلْقِهِ.(3)
).

الشرح:

قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: ((1)لمّا ذكر المصنِّفُ رحمه اللهُ أنَّ الواجبَ هو الإيمانُ بصفاتِ اللهِ الثَّابتةِ في الكتابِ والسُّنَّةِ مِن غيرِ تحريفٍ ولا تعطيلٍ ومِن غيرِ تكييفٍ ولا تمثيلٍ، بيَّن موقِفَ أهلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ مِن ذلك. وهو أنَّهم يؤمنونَ بتلك الصِّفاتِ عَلى هذا المنهجِ المستقيمِ، فيثبتونها عَلى حقيقتِهَا نَافِين عنها التَّمثيلَ، فلا يُعطِّلُونَ ولا يمثِّلُونَ عَلى وَفْقِ ما جاء في قولهِ تعالى في الآيةِ (11) مِن سورةِ الشورى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّميعُ البَصِيرُ) فقولهُ تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ) ردٌّ عَلى الممَثِّلَةِ. وقولُه: (وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) ردٌّ عَلى المعطِّلةِ؛ لأنَّ فيه إثباتَ السَّمْعِ والبصرِ، فالآيةُ الكريمةُ دستورٌ واضحٌ في بابِ الأسماءِ والصِّفاتِ؛ لأنَّها جمعت بين إثباتِ الصِّفاتِ لله ونفيِ التَّمثيلِ عنها. وسيأتي تفسيرُها إنْ شاءَ اللهُ.
وقولُه: (فَلاَ يَنْفُونَ عَنْهُ مَا وَصَفَ بهِ نَفْسَهُ) أي: لا يحمِلُ أهلَ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ إيمانهُم بأنَّ اللهَ ليس كمثلِه شيءٌ عَلى أَن ينْفُوا عنه ما وصَف به نفسَه، كما يفعلُ ذلك الَّذين غَلَوْا في التنزيهِ حتى عطَّلوه مِن صفاتِه بحُجَّةِ الفِرارِ مِن التَّمثيلِ بصفاتِ المخلوقين. فأهلُ السُّنَّةِ يقولون: للهِ سبحانَه صِفاتٌ تخصُّه وتليقُ به، وللمخلوقين صِفاتٌ تخصُّهم وتليقُ بهم، ولا تشابُه بين صفاتِ الخالقِ وصفاتِ المخلوقِ، فلا يلزمُ هذا المحذورُ الذي ذكرتم أيُّها المعطِّلةُ.
وقولُه: (وَلاَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ) تقدّم بيانُ معنَى التَّحريفِ ـ أي: لا يغيِّرون كَلامَ اللهِ فيبدِّلُون ألفاظَه أو يغيِّرون معانِيَه، فيفسِّرونه بغيرِ تفسيرهِ، كما يفعلُ المعطِّلةُ الَّذين يقولون في: (اسْتَوَى) استولى، وفي: (وَجَاءَ رَبُّك)جاء أمرُ رَبِّك، ويفسِّرون رحمةَ اللهِ بإرادةِ الإنعامِ، ونحوَ ذلك.

(2)(وَلا يُلْحِدُونَ في أَسْمَاءِ اللهِ وَآياتِهِ) الإلحادُ لغةً: الميلُ والعُدولُ عَن الشيْءِ ـ ومنه: اللَّحْدُ في القبرِ، سُمِّي بذلك لميلِه وانحرافهِ عَن سَمْتِ الحفْرِ إلى جهةِ الْقِبْلَةِ ـ والإلحادُ في أسماءِ اللهِ وآياتهِ، هو: العُدولُ والميلُ بها عَن حقائِقِهَا ومعانِيها الصَّحيحةِ إلى الباطلِ.
والإلحادُ في أسماءِ اللهِ وصفاتهِ أنواعٌ: ـ
النَّوعُ الأوَّلُ: أنْ تُسَمَّى الأصنامُ بها ـ كتسميةِ اللاَّتِ من الإلهِ، والعُزَّى مِن العزيزِ، ومَناةَ مِن المنَّانِ.
النَّوعُ الثَّاني: تسميتُه سبحانَه وتعالى بما لا يليقُ به كتسميةِ النَّصارى له أبًا، وتسميةِ الفلاسفةِ له مُوجِبًا أو عِلّةً فاعلةً.
النَّوعُ الثَّالثُ: وصفُه سبحانَه وتعالى بما يُنزَّه عنه مِن النَّقائصِ، كقولِ اليهودِ الَّذين قالوا: (إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ) وقولهِم (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) وأنَّه استراح يومَ السَّبْتِ تعالى اللهُ عمَّا يقولون ـ.
النَّوعُ الرَّابعُ: جحْدُ معانِيهَا وحقائِقِهَا ـ كقولِ الجهميَّةِ: إنَّها ألفاظٌ مجرَّدةٌ، لا تتضمَّنُ صفاتٍ ولا معانيَ ـ فالسَّميعُ لا يدلُّ عَلى سمعٍ. والبصيرُ لا يدلُّ عَلى بصرٍ، والحيُّ لا يدلُّ عَلى حياةٍ. ونحوِ ذلك.
النَّوعُ الخامسُ: تشبيهُ صفاتِه بصفاتِ خلْقِه ـ كقولِ الممثِّلِ: يدُه كَيدِي إلى غيرِ ذلك ـ تعالى اللهُ. وقد توعَّد اللهُ الملحدين في أسمائهِ وآياتهِ بأشدِّ الوعيدِ، فقال سبحانَه في الآيةِ (180) مِن سورةِ الأعرافِ (وَللهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) وقال في الآيةِ (40) مِن سورةِ فصلت: (إِنَّ الَّذين يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا).
قولُه: (وَلا يكَيِّفونَ وَلاَ يمثِّلُونَ) إلخ تقدّم بيانُ معنَى التَّكييفِ والتَّمثيلِ.

(3)(لأنَّه سُبْحَانَهُ لا سَمِيَّ لَهُ) هذا تعليلٌ لما سَبق مِن قولِه عَن أهلِ السُّنَّةِ: (وَلاَ يكَيِّفُونَ وَلاَ يُمَثِّلُونَ صِفَاتِه بِصِفَاتِ خَلْقِهِ) و(سُبْحَانَهُ) سبُحانَ: مصدرٌ، مثلُ: غُفْرانٍ ـ مِن التَّسْبيحِ، وهو التَّنزيهُ(لاسَمِيَّ لَهُ) أي لا نظيرَ له يَستحقُّ مثلَ اسمِه، كقولِه تعالى في الآيةِ (65) مِن سورةِ مريمَ (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِياًّ) استفهامٌ معناه النفَّيُ أي لا أحدَ يُسَامِيه أو يماثلُه (وَلا كُفْؤَ لَهُ) الكُفْؤُ هو المُكَافِئُ، الممَاثِلُ، أي: لا مِثْلَ له، كقولِه تعالى في سورةِ الإخلاصِ: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) (وَلا نِدَّ لَهُ) النِّدُّ: هو الشَّبيهُ والنَّظيرُ. قال تعالى في الآيةِ (22) من سورةِ البقرةِ: (فَلاَ تَجْعَلُوا للهِ أنْدَاداً).
(وَلا يُقَاسُ بخَلْقِهِ) القياسُ في اللُّغةِ التَّمثيلُ ـ أي لا يُشَبَّهُ ولا يُمَثَّلُ بهم ـ قال سبحانَه في الآيةِ (74) من سورةِ النَّحلِ: (فَلاَ تَضْرِبُوا للهِ الأَمْثَالَ) فلا يُقَاسُ سبحانَه بخلْقهِ؛ لا في ذاتِه، ولا في أسمائِه وصفاتِه، ولا في أفعالِه، وكيف يُقَاسُ الخالقُ الكاملُ بالمخلوقِ النَّاقصِ ـ تعالى اللهُ عَن ذلك (فَإِنَّه سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ) وهذا تعليلٌ لما سبق مِن وجوبِ إثباتِ ما أثبته لنفسِه مِن الصِّفاتِ ومنعِ قياسِه بخلقِه، فإِنَّه إذا كان أعلمَ بنفسِه وبغيرِه، وجَب أن يُثبَتَ له مِن الصِّفاتِ ما أثبته لنفسِه، وأثبته له رسولُه صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ.
والخلقُ لا يُحيطونَ به عِلمًا، فهو الموصوفُ بصفاتِ الكَمالِ، التي لا تبلُغُها عقولُ المخلوقين، فيجبُ علينا أَن نرضَى بما رَضِيَه لنفسِه، فهو أعلمُ بما يليِقُ به، ونحنُ لا نعلمُ ذلك. وهو سبحانَه: (أصْدَقُ قِيلاً وَأَحْسَنُ حَدِيثًا مِنْ خَلْقِهٍ) فما أخبر به فهو صِدقٌ وحقٌّ، يجبُ علينا أَن نصدّقَه ولا نعارضَه ـ وألفاظُه أحسنُ الألفاظِ وأفصحُها وأوضحُها، وقد بيّن ما يليقُ به مِن الأسماءِ والصِّفاتِ أتَمَّ بيانٍ، فيجبُ قبولُ ذلك والتَّسليمُ له.

هيئة الإشراف

#5

1 Dec 2008

الروضة الندية للشيخ: زيد بن عبد العزيز بن فياض رحمه الله


قال الشيخ زيد بن عبد العزيز بن فياض (ت: 1416هـ): (بَلْ يُؤمِنُونَ بأَنَّ اللهَ سبحانه وتعالى :{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}.
ففي قولِه سُبْحَانَهُ :{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}. رَدٌّ على المُشَبِّهةِ المُمَثِّلةِ، وفي قولِه :{وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}. رَدٌّ على المُعَطِّلةِ ... وما أحسنَ قولَ صاحِبِ الكافيةِ الشَّافيَةِ

لَسْنَا نُشَبِّهُ وَصْفـَهُ بِصِفَاتِنَـا ... إِنَّ المُشَبِّـهَ عَابِـدُ اْلأَوْثَـانِ
كَلاَّ وَلاَ نُخْلِيهِ مِنْ أَوْصَـافِهِ ... إِنَّ الْمُعَطِّـلَ عَابِدُ الْبُهْتَـانِ

مَنْ شَبَّهَ اللَّهَ الْعَظِيـمَ بِخَلْقِهِ ... فَهْوَ النَّسِيبُ لِمُشْرِكٍ نَصْرَانِي

أَوْ عَطَّلَ الرَّحْمَنَ مِنْ أَوْصَافِهِ ... فَهْـوَ الْكَفُورُ وَلَيْسَ ذَا إِيمَانِ


قوله : ولا يُلْحِدُونَ في أَسْماءِ اللهِ وآياتِهِ . قَالَ تَعَالَى :{وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}. وأصلُ الإلحادِ في اللُّغَةِ المَيْلُ . قَالَ ابنُ الأثيرِ في "النهايةِ" : الإلحادُ : المَيْلُ والعُدولُ عن الحقِّ، والظُّلْمُ والعُدوانُ . واللَّحْدُ الشَّقُّ الَّذِي يُعْمَلُ في جانبِ القَبْرِ لمَوضعِ الميتِ ؛ لأنَّهُ أمْيَلُ عَن القبرِ إلى جانبِه . اهـ ، وقَالَ ابنُ القيِّمِ : والإلحادُ في أسمائِه هو العُدولُ بها وبحقائِقِهَا ومعانِيها عن الحقِّ الثَّابتِ لها ، وهو مأخُوذٌ مِن المَيْلِ ، كما يَدلُّ عليه مادَّةُ ( ل ح د ) فمنه اللَّحْدُ وهو الشَّقُّ في جانبِ القبرِ الَّذِي قد مَالَ عن الوسَطِ ، ومنه المُلْحِدُ في الدِّينِ : المائِلُ عن الحقِّ ، المُدْخِلُ فيه ما لَيْسَ منه . ومنه المُلْتَحِدُ وهو مُفْتَعِلٌ مِن ذلك، وقوله :{وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً} أيْ : مَن تَعْدِلُ إليه، وتهرُبُ إليه، وتلتجِئُ إليه مِن غيرِه ، تقولُ العربُ : الْتَحَدَ فلانٌ إلى فلانٍ ، إذا عَدَلَ إليه .
إذا عُرِفَ هذا ، فالإلحادُ في أسمائِه تَعَالَى أنواعٌ .
( أحدُها ): أنْ يُسَمَّى الأصنامُ بها ، كتَسْمِيَتِهم باللاتِ مِن الإلهيَّةِ ، والعُزَّى مِن العزيزِ ، وتسميتِهمُ الصَّنمَ إلهاً ، وهذا إلحادٌ حقيقةً ، فإنَّهم عدَلُوا بأسمائِه إلى أوثانِهم وآلهَتِهمُ الباطلةِ .
( الثَّاني ): تسميتُه بما لا يَلِيقُ بجَلالِه ، كتسْمِيَةِ النَّصـارى له أباً ، وتسميةِ الفلاسفةِ له مُوجِباً بذاتِه أو عِلَّةً فاعِلةً بالطَّبْعِ ونحوَ ذلك .
( وثَالثُها ): وصْفُه بما يَتَعالى عنه ويتقدَّسُ مِن النَّقائصِ كقَوْلِ أخبثِ اليهودِ : إنه فقيرٌ ، وقولِهم : إنه اسْتَرَاحَ بعد أنْ خَلَقَ خَلْقَه ، وقولِهم : يدُ اللَّهِ مغلولةٌ ، وأمثالَ ذلك ممَّا هو إلحادٌ في أسمائِه وصفاتِه .
( ورابعُها ): تعطيلُ الأسماءِ عن معانِيها ، وجَحْدُِ حقائِقِها كقولِ مَن يقولُ مِن الجَهْمِيَّةِ وأتْباعِهم : إنها ألفاظٌ مجرَّدةٌ لا تتضمَّنُ صفاتٍ ولا معانِيَ، فيُطلِقُونَ عليه اسمَ السَّمِيـعِ ، والبصـيرِ ، والحـيِّ ، والرَّحيـمِ ، والمُتـكلِّمِ ، والمُـريدِ، ويقولونَ : لا حياةَ له، ولا سَمْعَ، ولا بَصَرَ، ولا كلامَ، ولا إرادةَ تقومُ به . وهذا مِن أَعظمِ الإلحادِ فيها عقلاً وشرعاً ولغةً وفِطْرةً ، وهو مُقابِلُ إلحادِ المُشركينَ ، أولئك أعْطَوْا أسماءَه وصفاتِه آلِهتَهُم ، وهَؤُلاَءِ سَلَبُوه صفاتِ كَمالِهِ وجَحَدُوها وعطَّلُوها ، فكِلاهُما مُلْحِدٌ في أسمائِه .
ثم الجَهْمِيَّةُ وفُروخُهم مُتفاوِتُونَ في هذا الإلحادِ ، فمنهمُ الغالي والمتوسطُ والمنكوبُ . وكُلُّ مَن جَحَدَ شيئاً مِن ما وصَفَ اللَّهُ به نفْسَه أو وصَفَه به رَسُولُه فقد ألْحَدَ في ذلك فلْيَسْتَقِلَّ أوْ لِيَسْتَكْثِرْ .
( وخامِسُها ): تشبيهُ صفاتِه بصفاتِ خلْقِه ، تَعَالَى اللَّهُ عن ما يقولُ المشَبِّهونَ علوًّا كبيراً .
فهذا الإلحادُ في مقابلَةِ إلحادِ المُعَطِّلةِ ، فإنَّ أولئك نَفَوْا صِفةَ كمالِه وجَحَدُوها وهَؤُلاَءِ شبَّهُوها بصفاتِ خلْقِه ، فجَمَعَهمُ الإلحادُ ، وتفَرَّقَتْ بهم طُرُقُه ، وبرَّأَ اللَّهُ أَتباعَ رَسُولِه وورَثَتَِهُ القائمِينَ بسُنَّتِه عن ذلك كُلِّه فلم يَصِفُوه إلا بما وصَفَ به نفْسَه ، ولم يَجْحَدوا صفاتِه ، ولم يُشَبِّهوها بصفاتِ خلْقِه ، ولم يَعْدِلوا بها عن ما أُنْزِلَتْ عليه لفظاً ولا معنًى . بلْ أثْبَتوا له الأسماءَ والصِّفَاتِ ، ونَفَوْا عنه مشابَهةَ المخلوقاتِ ، فكان إثباتُهم بَرِيًّا مِن التَّشبيهِ ، وتنزيهُهُم خَلِيًّا مِن التَّعطيلِ ، ولا كمن شَبَّهَ حَتَّى كأنَّه يَعبدُ صنماً ، أو عطَّلَ حَتَّى كأنَّه لا يَعبدُ إلا عدماً .
وأهلُ السُّنَّةِ وسَطٌ في النِّحَلِ كما أنَّ أهلَ الإسلامِ وسَطٌ في المِلَلِ .اهـ. ولا يُكَيِّفُونَ ولا يُمَثِّلُونَ صِفاتِهِ بصِفاتِ خلْقِهِ .
كما قَالَ الإمامُ مالِكٌ وربيعةُ وغيرُهما مِن السَّلَفِ : الاستواءُ معلومٌ ، والكيْفُ مجهولٌ ، وهكذا يُقالُ في سائرِ الصِّفَاتِ .
فإذا قَالَ قائلٌ - مثلاً- : كَيْفَ يَنْزِلُ ربُّنا إلى سماءِ الدُّنْيَا ؟ قيلَ له : كَيْفَ هو ؟ فإذا قَالَ : لا أَعلمُ كيفيَّتَه ، قِيلَ له : ونحنُ لا نَعْلَمُ كيْفِيَّةَ نُزولِه ؛ إذِ العِلمُ بكيْفِيَّةِ الصِّفَةِ يستلْزِمُ العِلمَ بكيْفِيَّةِ الموصوفِ ، وهو فرعٌ له وتابعٌ له ؛ فَكَيْفَ تُطالِبُني بكيْفِيَّةِ سمْعِه وبصَرِه وتكلِيمِه واستوائِه ونُزولِه وأنتَ لا تَعلمُ كيْفِيَّةَ ذاتهِ ؟ وإذا كنتَ تُقِرُّ بأنَّ له حقيقةً ثابتةً في نفْسِ الأمرِ مستوجِبةً لصفاتِ الكمالِ لا يُماثلُها شيءٌ ، فسمْعُه وبصَرُه وكلامُه ونُزولُه واستواؤه ثابتٌ في نفْسِ الأمرِ ، وهو مُتّصِفٌ بصفاتِ الكمالِ الَّتِي لا يُشابِهُه فيها سمْعُ المخلوقينَ وبصَرُهم وكلامُهم ونُزولُهم واستواؤهُم ، وهذا الكلامُ لازِمٌ لهم في العقليَّاتِ وفي تأويلِ السَّمْعِيَّاتِ . فإنَّ مَن أثبتَ شيئاً ونفَى شيئاً بالعقلِ أُلْزِمَ إذاً في ما نَفاهُ مِن الصِّفَاتِ الَّتِي جَاءَ بها الكِتابُ والسُّنَّةُ نظيرَ ما يَلْزَمُه فيما أثْبَتَهُ ، ولو طُولِبَ بالفَرْقِ بينَ المَحْذورِ في هذا وهذا لم يجِدْ بينَهما فَرْقاً ، ولهذا لا يُوجَدُ لنُفاةِ بعضِ الصِّفَاتِ الَّذِين يُوجِبونَ فيما نَفَوْهُ إمَّا التَّفويضَ وإما التَّأوِيلَ المخالفَ لمُقْتَضى اللَّفْظِ قانونٌ مستقيمٌ .
فإذا قِيلَ لهم : لِمَ تأوَّلْتُم هذا وأَقررْتُم هذا ؟ والسُّؤالُ فيهما واحدٌ ، لم يكُنْ لهم جوابٌ صحيحٌ ، فإنَّ مَن تأوَّلَ النُّصوصَ على معنًى مِن المعاني آخَرَ لَزِمَهم في المعنى المصروفِ إليه ما كان يَلْزَمُهُم في المعنى المصْروفِ عنه . اهـ .
وقَالَ ابنُ القيِّمِ في معنى قولِ بعضِ السَّلَفِ : نُثْبِتُ الصِّفَاتِ لِلَّهِ بلا كيفٍ :
((ومُرادُ السَّلَفِ بقولِهم بلا كيفٍ هو نفيٌ للتأويلِ، فإنَّه التَّكييفُ الَّذِي يزعُمُه أهلُ التَّأويلِ، فإنَّهم همُ الَّذِين يُثْبِتونَ كيْفِيَّةً تُخالِفُ الحقيقةَ، فيَقَعُونَ في ثلاثةِ محاذيرَ : نفْيِ الحقيقةِ، وإثباتِ التَّكييفِ بالتَّأويلِ، وتعطيلِ الرَّبِّ عن صفَتِه الَّتِي أثبَتَها لنفْسِه ، وأمَّا أهلُ الإثباتِ فلَيْسَ أحدٌ منهم يُكَيِّفُ ما أثْبَتَه اللَّهُ تَعَالَى لنفْسِه ، ويقولُ : كَيْفِيَّتُهُ كذا وكذا حَتَّى يكونَ قولُ السَّلَفِ رَدًّا عليه ، وإنَّما رَدُّوا على أهلِ التَّأويلِ الَّذِي يتضمَّنُ التَّحريفَ والتَّعطيلَ ، تحريفَ اللَّفْظِ وتعطيلَ معناهُ . اهـ .
ولا يُمَثِّلُونَ ، والتَّمثيلُ كما تقدَّم ، أن يُشَبِّهَ صِفَاتِ اللَّهِ بصِفَاتِ خلْقِه ، كأن يقولَ : له يَدٌ كَيَدِي ، أو سمْعٌ كسمْعِي ونحوَ ذلك ، تَعَالَى اللَّهُ وتقدَّس .
فإِنَّهُ سبحانَه وتعالى أَعْلَمُ بِنَفْسِهِ وبغَيْرِهِ، وأَصْدَقُ قِيلاً، وأَحْسَنُ حَدِيثاً مِنْ خَلْقِهِ).

هيئة الإشراف

#6

1 Dec 2008

التنبيهات السنية للشيخ: عبد العزيز بن ناصر الرشيد رحمه الله

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (بَلْ يُؤمِنُونَ بأَنَّ اللهَ ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ).(1)
فلا ينَفونَ عَنْهُ مَا وَصَفَ بهِ نَفْسَهُ(2)
ولا يُحَرِّفونَ الكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، ولا يُلْحِدُونَ في أَسْماءِ اللهِ وآياتِهِ( 3)
ولا يُكَيِّفُونَ ولا يُمَثِّلُونَ صِفاتِهِ بِصِفاتِ خلْقِهِ، لأنَّهُ سُبْحَانَهُ: لاَ سَمِيَّ لَهُ، ولا كُفْؤَ لَهُ، ولا نِدَّ لَهُ، ولا يُقَاسُ بخَلْقِهِ(4)
فإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِنَفْسِهِ وبغَيْرِهِ،(5)
وأَصْدَقُ قِيلاً، وأَحْسَنُ حَدِيثاً مِنْ خَلْقِهِ.(6
)).

الشرح:

قال الشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد (ت: 1408هـ): ((1) قولـُه ( بل يؤمنونَ بأنَّ اللهَ ليس كمِثلهِ شيءٌ وهو السميعُ البصيُر ): كما قالَ سبحانَه: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) أي إنَّه سبحانه لا مثلَ له في ذاتِه، ولا في أسمائِه وصفاتِه، ولا في أفعالِه، فقولُه: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) ردٌّ على المُشَبِّهَةِ المُمَثِّلَةِ، وقوله: (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) ردٌّ على المُعطِّلةِ النُّفاةِ.
والكافُ في قولِه: ( ليس كمثلِهِ شيءٌ )، أصحُّ الأقوالِ أنَّها زائدةٌ، وهذا مَعروفٌ في لغةِ العربِ كقولِ الشَّاعرِ:
لَيْسَ كَمِثْلِ الْفَتَى زُهَيْرٍ خَلْقٌ يُوَازِيهِ في الْفَضَائِلِ
في هذه الآيةِ المُتقدّمةِ فوائدُ:
الأُولى: إثباتُ السَّمْعِ والبصَرِ والردُّ على مَنْ زعمَ أَنَّ السَّمعَ والبصرَ بمعنى العلمِ، وفيها الردُّ على الُمعطِّلةِ الَّذين يَنْفُون الصّفاتِ بالْكُليّةِ، كالجهميّةِ، والَّذين يُثْبِتون الأسماءَ دون المعاني، كالمعتزلةِ الّذين يقولونَ سميعٌ بلا سمْعٍ، بصيرٌ بلا بصرٍ، وتَصَوُّرُ هذا القولِ يَكفي في ردِّه واسْتِهْجَانِهِ.
وفيها الردُّ على الأشاعرةِ الَّذين يُثْبتون بعضَ الصّفاتِ، ويُؤَوِّلُون البعضَ الآخرَ، وهم مُتَنَاقِضُون أعظمَ تناقُضٍ، وفيها النَّفيُ المُجمَلُ والإثباتُ المفَصَّلُ، وفيها الجمعُ بين النَّفيِ والإثباتِ، وفيها تقديمُ النَّفيِ على الإثباتِ، لأنَّ الأوّلَ من بابِ التَّخْلِيَةِ، والثَّاني من بابِ التَّحْلِيَةِ.
وفيها الجمعُ بين السَّمعِ والبصرِ، فكثيراً ما يُقرَن بينهما لعمومِ مُتَعَلَّقِهِمَا، فسمْعُه سبحانه مُحيطٌ بجميعِ المَسْمُوعاتِ، وبصرُه مُحيطٌ بجميعِ المُبْصِرَات، وسمعُه سبحانَه ينقسمُ إلى قسمين:
الأوَّلِ: سمعٌ عامٌّ، وهو سمعُه سبحانَه لكلِّ مَسْمُوعٍ، كقولِه سبحانَه: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا ).
الثَّاني: سمعٌ خاصٌّ، وهو سمعُ الإِجَابةِ والإِثَابَة، كما قال سبحانه: (إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ ) الآيةَ، ومنه قولُ العبدِ: ( سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ) أي استجابَ سبحانَهُ لمن حمِدَهُ وأثنى عليه، وفيها إثباتُ الصِّفاتِ للهِ على ما يليقُ بجلالِهِ وعظمتِه، وفيها أنَّ صفاتِه ليست كصفاتِ خلقهِ، والمخلوقُ وإنْ كان يُوصَفُ بأنَّه سميعٌ بصيرٌ فليس سمعُه وبصرُه كَسَمْعِ الرَّبِّ وبصرِه، فصفاتُ الخالقِ كما يليقُ بِه، وصفاتُ المخلوقِ كما يليقُ بِه، إذ لا مُنَاسبةَ بين الخالِقِ والمخلُوقِ، فصفاتُ كلِّ موصوفٍ تناسبُ ذاتَه وحقيقتـَه، فلا يَعْلمُ كَيْفَ هُوَ إلا هُوَ.
قال بعضُ السّلفِ: إذا قالَ الجهميُّ: كيف استوى؟ كيف ينزلُ إلى السّماءِ الدّنيا؟ ونحوَ ذلك، فقل لَهُ: كَيْف هُوَ بِنَفْسِهِ؟ فإذا قالَ: لا يَعْلَمُ كَيْفَ هُوَ إلاَّ هُوَ، وَكُنْهُ البَارِي غَيْرُ مَعْلُومٍ لِلْبَشَرِ، فقلْ له: فالعلمُ بِكَيْفيَّةِ الصّفةِ مستلزمٌ للعلمِ بكيفيَّةِ المَوْصُوفِ فكيف يمكنُ أَنْ يُعلمَ كيفيَّةُ صفةٍ لموصوفٍ لم تُعْلَمْ كيفيّتُه، وإنَّما تُعْلمُ الذَّاتُ والصّفاتُ من حيث الجُمْلةُ، فلا سبيلَ إلى العلمِ بِالْكُنْهِ والكيفيّةِ، فإذا كانَ في المخلوقاتِ ما لا يُعْلَمُ كُنْهُهُ فكيف بالباري سبحانه، فهذه الجنّةُ، ورَد عن ابنِ عبّاسٍ: ليسَ في الدُّنيا ممَّا في الجنَّةِ إلا الأسماءُ، وهذه الرُّوحُ نَجْزِمُ بِوجودِهَا وأنّها تَعْرُجُ إلى السّماءِ وأنّها تُسلُّ منه وقتَ النّزْعِ، وقد أَمْسَكتِ النّصوصُ عن بيانِ كيفيّتِها، فإذا كان ذلك في المخلوقِ فكيفَ بالخالقِ سبحانه وتعالى؟
وفيها أعظمُ دلالةٍ على كثرةِ صفاتِ كمالِه ونُعُوتِ جلالِه، وأنَّها لكثرتِها وعظمتِها لم يكن له فيها مثلٌ.. وإلا فلو أُرِيدَ نفيُ الصّفاتِ لكانَ العَدَمُ المَحْضُ أَوْلَى بهذا المدحِ مع أنَّ كلَّ عاقلٍ يَفْهَمُ من قولِ القائلِ: فلانٌ لا مِثْلَ له أنّه قد تَميَّزَ عن النَّاسِ بأَوْصَافٍ ونُعوتٍ لا يشاركونَهُ بها، وهذا واضحٌ من معنى الآيةِ، أنَّ معناها إثباتُ الصّفاتِ لا نفيُها، خلافاً لأهلِ البدعِ من الجهميّةِ وغيِرِهم.
وفي الآية متمسَّكٌ لِمَنْ فَضَّل السَّمْعَ على البصرِ.

(2) قولُه: فلا ينفُون عنه ما وَصَف به نفسَهُ ووصفَهُ به رسولُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل يُثْبِتون له الأسماءَ والصّفاتِ، ويُنْفون عنه مُشَابهةَ المخلوقاتِ.
ورَضُوا لربِّهم ما رَضِيَهُ لنفسِه، ورَضِيَهُ له رسُولُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنّه سبحانَه أعلمُ بنفسِه وبغيرِه، وكذلك رسلُه فإنَّهم أعلمُ باللهِ وأصدقُ وأنْصَحُ من جميعِ خلقِ اللهِ، وأَقْدَرُ على البيانِ والتَّبليغِ، وقد بَلّغُوا البلاغَ المبينَ، وقد سارَ على منهاجِهم أصحابُ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والتَّابعون لهم بإحسانٍ، والخيرُ في اتّباعِهِم.
وَخَيرُ الأُمْورِ السَّالِفَاتُ عَلَى الهُدَى وَشَرُّ الأُمْورِ المُحْدَثاتُ البَدَائِعُ
وأمَّا أهلُ البدعِ من الجهميّةِ وغيرِهِم فَنَفَوا أسماءَ اللهِ وصفاتِه وعَطَّلوها؛ زعماً منهم أنَّ إثباتَها يقتضي التَّشبيهَ، أو التَّجسيمَ، أو التَّحَيُّزَ، ونحوَ ذلك من أقوالِ أهلِ الضَّلالِ الَّذين نَبَذوا كتابَ اللهِ وسنَّةَ رسولِه وراءَ ظهورِهم، ورضُوا بِالتَّلْمَذَةِ على اليهودِ والمجوسِ والصَّابِئِين وأَضْرَابِهِمْ من ضلاَّلِ الأممِ، فإنَّ أَصلَ مقالةِ التَّعطيلِ مأخوذةٌ عن هؤلاءِ، كما ذكر ذلك الشَّيخُ تقيُّ الدّينِ، وابنُ القيّمِ، وغيرُهُم، فإنَّ الجَهْمَ بنَ صفوانَ تلقَّى مقالةَ التَّعطيلِ عن الجَعْدِ بنِ درهمٍ، والجَعْدُ أخذها عن أَبَّانَ بِنِ سَمْعَانَ، وأبَّانُ أخذها عن طَالُوتَ ابْنِ أُخْتِ لَبِيدِ بنِ الأَعْصَمِ، الَّذي سَحَرَ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما أنَّ الجهمَ قابلَ قوماً من السُّمِنيَّةِ وسألوه عن اللهِ فتحيَّرَ ومكثَ أربعين يوماً لا يصلِّي، ويُرْوَى أنَّه دخلَ حَرَّانَ وقابلَ قوماً من الصَّابئةِ وبَاحَثَهُمْ، فمقالتُه هذه مَصَادِرُها لا شكَّ أنَّها أَخْبَثُ مَقَالَةٍ، وكفى بقومٍ أَعْرَضوا عن كتابِ اللهِ وسنَّةِ رسولِهِ وتتلمذُوا على هؤلاءِ الضُّلاَّلِ كفراً وضلالاً.
وَمَا عِوَضٌ لَنَا مِنْهَاجُ جَهْمٍ بِمِنْهَاجِ ابْنِ الآمِنَةِ الأَمِينِ

(3) قولـُه: (ولا يحرِّفون الكَلِمَ عن مواضعِهِ): أي يُغيِّرونه ويُفَسِّرونه بغيرِ معناهُ، قالَ تعالى: (مِنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ).
قالَ ابنُ كثيرٍ رحمهُ اللهُ: أي يَتَأَوَّلُونه على غيِرِ تأويلِه، ويُفسِّرونه بغيرِ مُرَادِ الله قَصْدًا منهم وافتراءً. قال في شرحِ الطَّحاويَّةِ: والتَّحريفُ على مراتبَ، منه ما يكونُ كفرًا، ومنه ما يكون فِسقًا، وقد يكونُ معصيةً، وقد يكونُ خطأً. انتهى.
قولُه: (ولا يُلحدونَ في أسماءِ اللهِ وآياتِه) أي يَمِيلون ويَعْدِلون عن الحقِّ الثَّابتِ، فالإِلْحَادُ معناه لغةً: الميلُ والعُدولُ عن الشَّيء، ومنه اللَّحْدُ في القبرِ؛ لانحرافِهِ إلى جهةِ القبلةِ عن سَمْتِ الحَفْرِ.
قال ابنُ القيِّمِ: الإلحادُ: هو العُدولُ بأسماءِ اللهِ وصفاتِه وآياتِه عن الحقِّ الثَّابتِ، وقال في ((النُّونيَّةِ)):

أَسْمَاُؤُه أَوْصَافُ مَدْحٍ كلُّها مشتقـَّةٌ قَدْ حُمِّلت لِمَعَانِي
إِيَّاكَ وَالإِلْحَادَ فِيهَا إِنَّهُ كُفْرٌ مَعَاذَ اللهِ مِنْ كُفْرانِي
وَحَقِيقَةُ الإِلحَادِ فِيهَا الْمَيْلُ بالـ إِشْرَاك والتَّعْطِيلِ وَالنُّكْرَانِي
فَالمُلْحِدُون إِذًا ثَلاَثُ طَوَائِفٍ فَعَلَيْهِمُ غَضَبٌ مِنَ الرَّحْمنِ

وقال أيضًا: والإلحادُ في أسماءِ اللهِ وصفاتِه أنواعٌ.
أحدُها: أن يُسمِّيَ الأصنامَ بها، كتسميةِ اللاَّتِ من الإِلهِ، والعُزَّى من العَزِيزِ ونحوِهِ.
الثَّاني: تسميتُه -سبحانه- بما لا يليقُ بجلالهِ، كتَسْمِيةِ النَّصارى له أبًا، وتسميةِ الفلاسفةِ له مُوجِبًا أو عِلَّةً فَاعِلَةً.
الثَّالثُ: وصفُه بما يتعالى وَيَتَقَدَّسُ عنه من النَّقائصِ، كقولِ أَخْبَثِ اليهودِ: إِنَّ اللهَ فقيرٌ، وقولِهِم: يَدُ اللهِ مَغْلولةٌ.
الرَّابعُ: تعطيلُ الأسماءِ الحُسْنى عن معانِيها وجحدُ حقائِقها، كقولِ مَن يقولُ من الجهميَّةِ: إنَّها ألفاظٌ مُجَرَّدةٌ لا تتضمَّنُ صفاتٍ ولا معانيَ، فَيُطلقون عليه اسمَ السَّميعِ والبصيرِ والحيِّ ويقُولون لا سمعَ له ولا بصرَ ولا حياةَ ونحوُ ذلك.
الخامسُ: تشبيهُ صفاتِه بصفاتِ خلقهِ، تعالى اللهُ عن قولِ الْمُلحِدين عُلوًّا كبيرًا، فَجَمَعَهُمُ الإلحَادُ وتفرَّقَت بِهِم طرقـُه، وَبَرَّأَ اللهُ أتباعَ رسولِه وورثتـَه القائمِين بسُنَّتِه عن ذلك كلِّه، فلم يَصِفُوه إلا بما وَصف به نفسَه، ولم يَجْحدوا صفاتِه ولم يُشَبِّهُوهَا بصفاتِ خلقهِ، ولم يَعْدِلوا بها عمَّا أُنْزلت له لفظًا ولا معنًى، بل أثبتوا له الأسماءَ والصِّفاتِ، ونَفَوْا عنه مشابهةَ المخلوقاتِ، فكانَ إثباتُهم بَرِيئاً من التَّشبيهِ، وتنـزيهُهُم خالياً من التَّعطيلِ، لا كَمَنْ شَبَّهَ حتَّى كأنَّه يعبدُ صنمًا، أو عَطَّلَ حتَّى كأنَّهُ يعبدُ عَدَمًا. انتهى.

(4) قولُه: (ولا يُكَيِّفونَ): شيئًا من صفاتـِه -سبحانه- وتعالى، فإنَّه الموصوفُ بصفاتِ الكمالِ الَّتي لا تَبْلُغُها عقولُ الخلائقِ، قالَ تعالى: (وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا) فيجبُ الإيمانُ بصفاتِ اللهِ واعْتِقَادُ أنَّها حقيقةٌ تليقُ بجلالِ اللهِ وعظمتِه، أمَّا كُنْهُها وكيفيَّتُها فهو ممَّا استأثرَ اللهُ بعلمِه، فلا سبيلَ إلى معرفتِه، وقد تقدَّمَ الكلامُ على هذا الموضوعِ.
قولُه: (ولا يمثِّلونَ صفاتِه بصفاتِ خلقِه): فمذهبُ أهلِ السُّنَّةِ إثباتُ الأسماءِ والصِّفاتِ، مع نفيِ مُمَاثَلَةِ المخلوقاتِ، إِثْباتًا بلا تمثيلٍ، وتَنْزِيهًا بلا تعطيلٍ، ليس كمثلِهِ شيءٌ وهو السَّميعُ البصيرُ.
قولُه: (لأنَّه -سبحانه- لا سَمِيَّ له): أي لا نظيرَ له، كما قالَ سُبْحَانَهُ: (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) أي من يُسَامِيه أو يُمَاثِلهُ، ويُروى عن ابنِ عبَّاسٍ مَثيلاً أو شَبيهاً.
قولُه: (ولا كُفْؤَ لَهُ): أي لا مِثلَ له سُبْحَانَهُ، قال تعالى: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ).
قولُه: (ولا نِدَّ لَهُ): أي لا شِبهَ له ولا نظيرَ، قالَ تعالى: (فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا).
وفي قولِهِ: (ولا نِدَّ لَهُ.. إلخ) رَدٌّ على المعتزلةِ الَّذين يَزْعُمون أنَّ العبدَ يخلقُ فِعْلَ نفسِه.
قولُه: (ولا يُقاسُ بخلقِه): أي لا يمثَّلُ بهم ولا يُشبَّهُ، والقياسُ في اللَّغةِ التَّمثيلُ.
قال تعالى: (فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأَمْثَالَ) فلا يُقاسُ -سُبْحَانَهُ- بخلقِه في أَفعالِهِ، ولا في صفاتِهِ، كما لا يُقَاسُ بهم في ذاتِه، خلافًا للمعتزلةِ ومَن وافقَهم من الشِّيعَةِ، فإنَّهم قَاسُوه -سُبْحَانَهُ- بخلقِه فَشَبَّهُوه بهم، فَوَضَعُوا له شريعةً مِنْ قِبَلِ أنفسِهِم فقالوا: يَجِبُ على اللهِ كذا، وَيَحْرُمُ عليه كذا بالقياسِ على المخلوقِ، فالمعتزلةُ ومَنْ وافقَهم مُشبِّهةٌ في الأفعالِ مُعَطِّلةٌ في الصِّفاتِ، جَحدوا بعضَ ما وصفَ اللهُ به نفسَهُ من صفاتِ الكمالِ، وسَمَّوْهُ توحيدًا، وشبَّهُوه بخلقِه فيما يَحْسُنُ ويقبحُ من الأفعالِ، وسَمَّوْا ذلك عدلاً، فعدلُهم إنكارُ قدرتِه -سُبْحَانَهُ- ومشيئتِه العامَّةِ الكاملةِ الَّتي لا يَخْرجُ عنها شيءٌ من الموجوداتِ ذواتِها وصفاتِها وأفعالِها، وتوحيدُهم: إلحادُهم في أسماءِ اللهِ الحُسنى، وتحريفُ معانيها عمَّا هي عليه، فكان توحيدُهم في الحقيقةِ تعطيلاً وعدلُهم شركًا، انتهى. مِن كلامِ ابنِ القيِّم بِتَصرُّفٍ.


(5) قولـُه: (فإنـَّه -سُبْحَانَهُ- أَعْلَمُ بنفسِه وبغيرِه): قالَ اللهُ تعالى: (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)، وقال: (وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا) أي لا يُحِيطُ الخلائقُ به -سُبْحَانَهُ- علمًا، فهو الموصوفُ بصفاتِ الكمالِ الَّتي لا تبلغُها عقولُ الخلائقِ، كما في الصَّحيحِ ((لاَ نُحْصِى ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ)) فما جاءَ في الكتابِ والسُّنَّةِ مِن صفاتِه -سُبْحَانَهُ- وَجَبَ الإيمانُ به، وَتَلَقِّيه بالقبولِ والتَّسليمِ، وتركُ التَّعَرُّضِ له بالرَّدِّ والتـَّشبيهِ والتَّمثيلِ، فهو الَّذي وَصَفَ بها نفسَه ووصفَهُ بها رسولُه -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- فعلينا أنْ نرضى بما رَضِيه لنفسِه، فإنَّه أعلمُ بما يَجُوزُ ويمتنعُ ويليقُ بجلالهِ.
قال الإمامُ الشَّافعيُّ رحمهُ اللهُ تعالى: آمَنْتُ باللهِ وبما جاءَ عن اللهِ على مُرَادِ اللهِ، وآمنتُ برسولِ اللهِ وبما جاءَ عن رسولِ اللهِ على مُرَادِ رَسُولِ اللهِ، وعلى هذا درَجَ السَّلفُ الصَّالحُ رضوانُ اللهِ عليهم، وقد أُمِرْنا باقتفاءِ آثارِهِم والاهتداءِ بِمَنَارِهِم كما قال -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالْنَوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فإنَّ كُلَّ مُحْدثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضلالةٌ)).
وقال ابنُ مسعودٍ رَضِي اللهُ عَنْهُ: ((اتَّبِعُوا ولا تَبْتَدِعُوا فَقَدِ كُفِيتُمْ)) وقال الشَّعْبِيُّ: ((عَلَيْكُمْ بِآثَارِ مَنْ سَلَفَ وَإِنْ رَفَضَكَ النَّاسُ، وَإِيَّاك وَآرَاءَ الرِّجالِ وَإِنْ زَخْرَفُوه لَكَ بِالْقَوْلِ)).
(6) قولُه: (وأصدقُ قيلاً): قالَ تعالى: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً) وثبتَ في الصَّحيحِ من حديثِ جابرٍ أنَّ رسولَ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- كانَ يقولُ في خطبتِه يومَ الجُمعةِ: ((إِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْي هَدْيُ مَحَمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-)) الحديثَ، فما أخبرَ بهِ اللهُ -سُبْحَانَهُ- فهو حقٌّ وصِدقٌ، علينا أنْ نصدِّقـَه ولا نُعَارِضَهُ ولا نُعْرِضَ عنه، فَمَنْ عَارَضَهُ بعقلِهِ لم يُصَدِّقْ به، وكذلك مَن أَقَرَّ بِلَفْظِهِ مع جَحدِ معناه، أو حرَّفه إلى معانٍ أُخَرَ غيرِ ما أُريدَ به. لم يكنْ مُصدِّقاً.
قولُه: (وأحسنُ حديثًا من خلقِه): قالَ اللهُ تعالى: (وَمَنْ أََصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا) لفظُه لفظُ استفهامٍ، ومعناه لا أَحَدَ أَحْسَنُ حديثًا منه سُبْحَانَهُ، فألفاظُه أفصحُ الألفاظِ وأَبْيَنُهَا وأعظمُها مُطَابقةً لمعانيها المرادةِ منها، ومعانيه أشْرَفُ المعاني، فلا تجدُ كلامًا أحسنَ تفسيرًا ولا أَتَمَّ بيانًا مِن كلامِهِ -سُبْحَانَهُ-، ولهذا سمَّاهُ اللهُ بيانًا، وأخبرَ أنَّه يَسَّرَهُ للذِّكرِ، يَسَّرَ ألفاظَه للحفظِ ويَسَّرَ معانيهِ للفهمِ، فَمُحَالٌ أن يتركَ بابَ الإيمانِ باللهِ وأسمائِه وصفاتهِ مُلتبسًا، وهو أشرفُ العلومِ على الإطلاقِ، بل قد بيَّنهُ اللهُ ورسولُه بيانًا شافيًا قاطِعًا للعذرِ، لا لَبْسَ فيه ولا إِشْكَالَ، فآياتُ الصِّفاتِ واضحةُ المعنى وضوحًا تامًّا، بحيث يَشْتَرِكُ في فَهْمِ معانيها العامُّ والخاصُّ، أي فَهْمُ أصلِ المعنى لا فهمُ الكُنْهِ والكيفيَّةِ كما أنَّها مُفيدةٌ للعلمِ اليقينيِّ الكاملِ).

هيئة الإشراف

#7

6 Feb 2009

شرح العقيدة الوسطية للشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ ( مفرغ )


قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ: (قال شيخ الإسلام بعد أن ذكر هذا قال: (بل يؤمنون بأن الله سبحانه)، (بل) هذه للإضراب, إضراب عن ما سبق إلى الآتي، والإضراب نوعان:
قد يكون إضراب لغلط،
وقد يكون إضراب للانتقال من كلام إلى كلام،
والذي في القرآن من الإضراب: الإضراب الانتقالي، وهنا يعني به الإضراب الانتقالي، قال: (بل يؤمنون)، أضرب عن الكلام السالف يعني عن تفصيله وعن تدقيق الكلام فيه وتنويع الكلام فيه، ودخل في كلام آخر، قال: (بل يؤمنون بأن الله سبحانه: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} فلا ينفون عنه ما وصف به نفسه ولا يحرفون الكلم عن مواضعه).
نؤمن بأن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير كما أخبر الله جل وعلا بذلك عن نفسه في سورة الشورى فقال: { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير }، وقال جل وعلا: { ولم يكن له كفواً أحد }، وقال سبحانه: { هل تعلم له سمياً }.
وقال جل وعلا: { فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون } يعني: لا تضربوا لله الأوصاف والنعوت إن الله يعلم ما يصف به نفسه وأنتم لا تعلمون، أن كيف تصفون الله جل وعلا.
هذه الآية وهي قوله: { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } فيها النفي والإثبات، نفى بقوله: { ليس كمثله شيء } وأثبت بقوله: { وهو السميع البصير }، وهذه قاعدة عظيمة أخبر الله جل وعلا بها، ومعنى ذلك أن هذا الدين، وأن هذا الإيمان بالصفات مبني على النفي والإثبات، نفي كما نفى الله بقوله { ليس كمثله شيء }، وإثبات كما أثبت الله بقوله { وهو السميع البصير }، يظهر من الآيات أن النفي جاء فيها مجملاً وأن الإثبات جاء فيها مفصلاً، فقال سبحانه تعالى: { ليس كمثله شيء } بنفي مجمل بدون تحديد هذا النفي، المبتدعة يعكسون القاعدة فيجعلون النفي مفصلا ويجعلون الإثبات مجملا، والله جل جلاله جعل النفي مجملا والإثبات مفصلا، قال { ليس كمثله شيء } هذا كل ما يعلق بالذهن فلا يصح أن يكون الله جل وعلا مثله { ليس كمثله شيء }، الإثبات مفصل { وهو السميع البصير }، هنا في قوله { ليس كمثله شيء } الكاف هذه مما تكلم فيها العلماء ولتقريرها فائدة في العقائد، وذلك أن قوله تعالى: { ليس كمثله شيء } شيء: اسم، ليس سبك الكلام: { ليس شيء كمثله }، والكاف هنا هذه ما نوعها؟ معنى الآية يتوقف على فهم معنى الكاف، هنا { ليس شيء كمثله } ليس كمثله شيء، الكاف هذه لأهل العلم فيها وجهان:
قال طائفة من أهل العلم: إن الكاف هنا صلة وهي الزائدة لإفادة تكرير الكلام والجملة مرتين أو أكثر واللغة العربية فيها زيادة الحرف لمزيد تأكيد الكلام، كما قال جل وعلا: { فبما رحمة من الله لنت لهم } يعني: فبرحمة من الله لنت لهم، يعني: {ما} هنا مزيدة لتوكيد الكلام.
ما معنى التوكيد هنا؟ تكرار الجملة لتعظيم شأنها، قال: فبرحمة من الله لنت لهم، فبرحمة من الله لنت لهم، هنا إذاً على هذا تكون الكاف صلة يعني زائدة لتأكيد المعنى، قال: { ليس كمثله شيء } – يعني: ليس مثله شيء ليس مثله شيء، ليس مثله شيء وهو السميع البصير، فالعربي يفهم من هذه الصلة، وهي مجيء الكاف هنا، أن الجملة كررت عليه أكثر من مرة وهذا من أسرار اللسان العربي، قال: { لا أقسم بيوم القيامة }، { لا } هذه صلة، معنى الكلام: أقسم بيوم القيامة، أقسم بيوم القيامة أقسم بيوم القيامة. { ولا أقسم بالنفس اللوامة }: أقسم بالنفس اللوامة، أقسم... وهكذا، فإذن مزيد الحرف لمزيد التأكيد، فقوله هنا: { ليس كمثله شيء } هذا للتأكيد ومزيد الكاف للتأكيد بخصوصها هذا معروف في اللغة، ومنه قول الشاعر:
*لو كان في قلبي كقدر قلامةٍ*
لو كان في قلبي كقدر قلامة لو كان في قلبي كقدر, ليس لـ (كان) هنا اسم، لأن في قلبي جار ومجرور. كقدر,
*لغيرك ما أتتك رسائل*
وهنا قال إذاً: { ليس كمثله شيء } فصار المعنى: ليس كمثله شيء، ليس مثله شيء، ليس مثله شيء { وهو السميع البصير }، وهذا الوجه هو الصحيح وهو الراجح عند العلماء المحققين.
الوجه الثاني: أن تكون الكاف بمعنى ( مثل ) فيكون المعنى: ليس مثل مثله شيء, ليس مثل مثله شيء يعني ما فيها تأكيد يعني: ليس مثله مثله شيء وهو السميع البصير. ونفي مثل المثل فائدته استحالة وجود المثل وليس كما ظُن أن فيه إثبات لوجود المثل، يعني صُرف النظر عن المثل إلى مثل المثل إبعادا لوجود المثل، لكن هذا فيه نوع ضعف مع أن كثير من العلماء قال به ومجيء الكاف بمعنى مثل كثير ومنه قوله جل وعلا في سورة البقرة: { ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة }، لما عطف { أشد } على موضع الكاف دلنا على أن الكاف ليست بحرف بل هي اسم؛ لأن الاسم لا يعطف على حرف.
قال هنا: { وهو السميع البصير } هذا إثبات إثبات مفصل، فصل الإثبات، قال: { السميع البصير }، والسميع: اسم من أسماء الله، البصير: اسم من أسماء الله، وأسماء الله جل وعلا تدل على ذاته دلالة الاسم على المسمى على الذات وفيها الصفة، السميع اسم لمن كان ذا سمع، والبصير اسم لمن كان ذا بصر فيها إثبات السمع والبصر لله جل وعلا، ما فائدة إثبات السمع والبصر هنا؟ قال العلماء: في هذا حكمة وفائدة عظيمة وهو أنه نفى أولا بقوله: { ليس كمثله شيء }، ثم أثبت هذين الاسمين لله المتضمنين لصفتي السمع والبصر، وسبب ذلك أن صفة السمع والبصر من الصفات التي تشترك فيها أكثر المخلوقات الحية ذات الروح مهما صغر من فيه حياة من ذوي الأرواح أو عظم، فعنده سمع وبصر، فانظروا إلى النملة عندها سمع وبصر { يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون } عندها سمع، سمعت وتبصر طريقها، تبصر أمراً، البعوضة كذلك لها سمع ولها بصر، الدّواب لها سمع ولها بصر، الإنسان له سمع وله بصر، فصفتا السمع والبصر من أكثر الصفات اشتراكا بين المخلوقات الحية ذوات الأرواح، فإذا كان ثَمَّ توهم في المماثلة فليكن توهم للمماثلة في اتصاف هذه المخلوقات بصفة السمع والبصر، فهل بصرك أيها الإنسان وسمعك من مثل بصر النملة وسمعها؟ لا شك أن ثَم قدْرا مشتركا في السمع بين البعوض والإنسان وفي البصر بين البعوض والإنسان لكن تختلف كيفيته، تختلف حقيقته، يختلف عظمه وتعلقه، وكذلك السمع، الإنسان يسمع من مسافة بعيدة، المخلوق الصغير الذبابة والبعوض هذا يسمع لأقل… وهكذا، فإذا كان كذلك دلّ على أن إثبات السمع والبصر في المخلوقات هو إثبات وجود لا إثبات مساواة، وهذا متصل بقوله: { ليس كمثله شيء }، فإذاً إثبات هاتين الصفتين لله التي عظم اشتراك المخلوقات مع الله جل وعلا في اسم الصفة وفي بعض معناها أن هذا ليس من جهة التمثيل في شيء ففيه أعظم ردٍ على الذين توهموا أن إثبات الصفات فيه تمثيل وفيه تجسيم، ظاهرٌ هذا؟
هنا تنبيه وهو أن التمثيل يختلف عن التشبيه:
فالتمثيل أن يجعل الشيء مماثلا للشيء في صفة كاملة أو في الصفات كلها، نقول: محمد مثل خالد، إذا كان محمدا مثل خالد في جميع الصفات أو في صفة كاملة، محمد مثل خالد في الكرم، يعني مماثله تماما.
أما المشابهة فهي اشتراك في بعض الصفة أو في بعض الصفات قال بعض العلماء، أو في كل الصفات يعني جعلوا التشبيه أوسع من التمثيل. يعني بعض العلماء جعل التمثيل أوسع من التشبيه.
ولهذا فإن نفي التشبيه إذا نُفي في نصوص العلماء أهل السنة والجماعة فإنما يعنون به التشبيه الذي هو التمثيل المماثلة في صفة كاملة أو المماثلة في الصفات أما التشبيه الذي هو اشتراك في المعنى اشتراك في جزء المعنى، فإن هذا ليس مرادا لهم؛ لأنهم يثبتون الاشتراك فالله جل وعلا له سمع وللمخلوق سمع وهناك اشتراك في اللفظ وفي جزء المعنى، فالسمع معناه معروف في اللغة، لكن من حيث تعلقه بالمخلوق يختلف عن جهة تعلقه بالخالق ولهذا فإننا نقول في الصفات هنا كما قال (ومن غير تكييف ولا تمثيل)، وإذا قيل ومن غير تشبيه فإنهم يريدون بالتشبيه التمثيل، وهذا مستعمل عند العلماء أنهم ينفون التشبيه ويريدون به التمثيل.
قال هنا (فلا ينفون عنه ما وصف به نفسه ولا يحرفون الكلم عن مواضعه) يعني: بل يثبتون ما وصف الله جل وعلا به نفسه ولا ينفون عنه صفة وصف بها نفسه، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه، وقد بينت لكم معناه عند شرح كلمة التحريف.
قال (ولا يلحدون في أسماء الله وآياته ولا يكيفون ولا يمثلون صفاته بصفات خلقه)، الإلحاد في أسماء الله: الميل بها والعدول بها عن حقائقها وعما يليق بها، وأصله في اللغة من: لحد، وألحد إذا مال، ألحد فلان في الطريق، أي: مال في الطريق، وهذا اللحد الذي هو جانب القبر الذي يوضع فيه الميت لحدٌ لأنه أميل به عن سمت الحفر، والإلحاد في أسماء الله هو الذي جاء في قوله تعالى: { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه } يعني: يميلون بها عما يليق بها، وهذا الإلحاد وهو الميل قد يكون بصرفها عن ظواهرها التي دلت عليه وقد يكون بترك التعبد بها وقد يكون بتحريفها، فالمشركون سموا العزى من العزيز، وهذا إلحاد وسموا اللات من الله أو من الإله، وهذا من الإلحاد ونحو ذلك، سموا مناة من المنان كما هي بعض الروايات وهذا كله من الإلحاد، ترك دعاء الله جل وعلا بأسمائه هذا من الإلحاد، هنا مراده نوع من ذلك الإلحاد وهو صرفها عن معانيها اللائقة بها؛ لأنه ميل بها وعدول عن اللائق بها، والواجب أن يسلك في الأسماء والصفات وآيات الله جل وعلا ما يليق بها، لا أن يمال عما يليق بها ويعدل عن حقائقها التي تليق بالله جل وعلا.
قال (ولا يكيفون ولا يمثلون صفاته بصفات خلقه)، وهذا جاء مقررا فيما سبق، ونقف عند هذا ونسأل الله جل وعلا لنا ولكم الهدى والرشاد والانتفاع بما سمعنا وصلى الله وسلم على نبينا محمد.


الوجه الثاني
القارئ:

(بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، (فلا ينفون عنه ما وصف به نفسه ولا يحرفون الكلم عن مواضعه.... حتى قرأ فلا عدول لأهل السنة والجماعة عن ما جاء به المرسلون فإنه الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين).

قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ: (بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والثناء على الله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد … قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - في هذه العقيدة المختصرة المباركة التي نسأل الله جل وعلا أن ينفعنا جميعا بها وأن يتقبل منا اعتقادنا لما فيها وأن يثبتنا عليه حتى نلقاه.
قال - رحمه الله تعالى - في وصف أهل السنة والجماعة (فلا ينفون عنه ما وصف به نفسه ولا يحرفون الكلم عن مواضعه) لا ينفون عنه ما وصف به نفسه كما نفى عنه الصفات التي وصف بها نفسه طوائف الضلال من الجهمية والمعتزلة والرافضة والكلابية والكرامية والأشعرية والماتريدية ونحو ذلك، فإن كل طائفة من هؤلاء نفت عن الله جل وعلا إما جميع الصفات وإما بعض الصفات، والذين ينفون عن الله جل وعلا ما وصف به نفسه إما أن يكونوا من الذين ينفون أكثر الصفات وهؤلاء يقال لهم: النفاة، نفاة الصفات، كالجهمية والمعتزلة، وإما أن يثبتوا منها سبعا أو عشرين أو ثمانية كحال الماتريدية وهؤلاء قد يقال في حقهم: الصفاتية؛ لأنهم يثبتون من الصفات أكثر مما أثبت أصولهم وهم المعتزلة والجهمية، فالكلابية تثبت من الصفات أكثر مما أثبت المعتزلة، وكذلك الأشاعرة والماتريدية، ولهذا قد يقال لهؤلاء الصفاتية في مقابلة النفاة، كما يذكر ذلك كثير من علماء أهل السنة ومنهم شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -، وهؤلاء جميعا سواء كانوا من النفاة أم كانوا من الصفاتية فهم ينفون عن الله جل وعلا ما وصف به نفسه، وهذا النفي قد يكون نفيا للصفة بالكلية، وقد يكون نفيا لمعناها بتأويلها بغير معناها وبحمل الظاهر فيها على غير ما دلت عليه ظاهر النصوص، هؤلاء ينفون، يعني أن مآل حالهم النفي سواء نفوه أصلا أو نفوا معناه الذي دلّ عليه الظاهر فالذين نفوا أن الله جل وعلا متصف بالرحمة اللائقة به هؤلاء نفوا الرحمة ولو قالوا: إن معنى الرحمة إرادة الإحسان ونثبت الرحمة بتأويل، هؤلاء أيضا ينفون، وأما أهل السنة والجماعة فإنهم يثبتون المعاني التي اشتملت عليها ألفاظ الصفات على ما يليق بالله جل وعلا على قاعدة: { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } يثبتون اللفظ ويثبتون ما في اللفظ من الصفة ويثبتون ويوقنون ويؤمنون بما دلّ عليه اللفظ من الصفة ويعلمون أصل معنى هذه الصفة؛ لأنها بلسان عربي مبين، ثم هم مع ذلك أعني أهل السنة والجماعة يقطعون الطمع عن إدراك الكنه وعن إدراك الكيفية، يعني عن إدراك كل المعنى وعن إدراك الكيفية، فإذاً أهل السنة لا ينفون عن الله ما وصف به نفسه بل يثبتون لله جل وعلا ما وصف به نفسه.
قال - رحمه الله تعالى - بعد ذلك (ولا يحرفون الكلم عن مواضعه) لأن الذين يحرفون الكلم عن مواضعه هم اليهود كما وصف الله جل وعلا طوائف اليهود بذلك بقوله: { من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه }، ومعنى تحريف الكلم عن مواضعه بحمله على غير ما دلّ عليه، والتحريف أصله العدول باللفظ عن معناه إلى غيره أو العدول بالمعنى عن أصله إلى غيره، يعني إلى غير الأصل، إما أن يقول: إن اللفظ هذا معناه لفظ آخر كمن حرّف { استوى } إلى (استولى) أو ينفون المعنى ويثبتون معنىً آخر وهؤلاء هم الذين يؤولون الصفات الفعلية وبعض الصفات الذاتية بما أثبتوا من الصفات العقلية، كما سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى.
(يحرفون الكلم) يُعنى به الكلمات الشرعية الدينية التي هي في باب الأخبار عن الله جل وعلا، وتحريف الكلم عن مواضعه هذا حرام وقد يكون كفرا وقد يكون كبيرة وقد يكون معصية وقد يكون خطأ يعذر فيه صاحبه وهو إذاً أقسام، فليس كل تحريف كفرا بل قد يكون كفرا وقد يكون كبيرة من كبائر الذنوب، قد يكون معصية وقد يكون خطأ، وتفصيل هذا وأمثلته تأتي في مواضعها في الرسالة إن شاء الله تعالى.
قال بعد ذلك ( ولا يلحدون في أسماء الله وآياته ) الإلحاد مرّ معنا وهو أنه الميل، ولهذا سمّي اللحد - لحد القبر - لحدا لأنه مائل عن سمت الحفر فيه ميول، فالإلحاد: الميل، ألحد يعني: مال، الملحد: المائل عن الحق إلى غيره، وفي الاصطلاح، الملحد: هو من مال عن الإيمان إلى الكفر.
قال ( لا يلحدون في أسماء الله وآياته ) يعني أن أهل السنة والجماعة يؤمنون بالأسماء - أسماء الله - وبالآيات وما اشتملت عليه الآيات من الأسماء والصفات، ولا يُميلونها ولا يخرجون بها عن حقائقها اللائقة بها، إذ إن صراط الأسماء المستقيم, هو صراط الآيات المستقيم، أن يؤخذ بها بما دلت عليه ألفاظها من المعاني ويُثْبَت ذلك لله جل وعلا فإذا حُرف ذلك فإن هذا من الإلحاد، بمعنى أنه إذا نفى صفة أو نفى اسما من أسماء الله فإن هذا من جنس الإلحاد في أسمائه وصفاته، وقد قال الله جل وعلا في محكم كتابه: { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه }، والإلحاد في أسماء الله وصفاته أنواع سبق ذكرها.
قال هنا (ولا يكيفون ولا يمثلون صفاته بصفات خلقه) التكييف مرّ مَعَنا معناه والتمثيل مرّ معنا معناه، إذاً أهل السنة والجماعة تميزوا عمّن سواهم بهذه الخصائص:
_ أنهم يثبتون لله جل وعلا ما أثبته لنفسه,
_ ولا ينفون عن الله جل وعلا ما وصف به نفسه،
_ ولا ينفون عن الله جل وعلا ما وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن سبيلهم ليس هو سبيل الزائغين الضالين المغضوب عليهم، الذين يحرفون الكلم عن مواضعه من الذين شابهوا اليهود أو الذين يلحدون في أسماء الله وآياته الذين شابهوا المشركين، وإنما يؤمنون بالأسماء والصفات على حقائقها اللائقة بالله جل وعلا...
ثم بين العلة في ذلك، فقال: (لأنه سبحانه لا سَمِيَّ له ولا كُفؤَ له ولا ندّ له ولا يقاس بخلقه سبحانه وتعالى)، هذا تعليل لما سبق، لِما لم ينف أهل السنة والجماعة عن الله ما وصف به نفسه؟، قال: (لأنه سبحانه لا سميَّ له ولا كفؤَ له)، فإذاً الصفات والأسماء وإن كان ظاهر المعنى قد يقتضي المشابهة فإن إثبات الأسماء لله جل وعلا وإثبات الصفات لله جل وعلا إثبات لها بإثبات اللفظ وإثبات المعنى الذي دلّ عليه اللفظ على ما يليق بالله جل وعلا، وأما الاشتراك في بعض المعنى فإن هذا لا ينفيه أهل السنة والجماعة؛ لأن الله جل وعلا هو الذي وصف نفسه بذلك كما سيأتي من قوله فإنه سبحانه أعلم بنفسه وبغيره، فهو جل وعلا الذي سمى نفسه السميع وسمى المخلوق بالسميع وبين السميع والسميع قدر مشترك من المعنى وهذا المعنى هو أصل السمع، والسمع الذي في المخلوق يناسب ذاته، والسمع الذي لله جل وعلا يناسب ذاته، وهذا على أصل القاعدة المقررة وهي أن: (القول في الصفات كالقول في الذات يحتذى فيه حذوه وينهج فيه منهاجه)؛ لأن الصفة، كل صفة، تناسب الموصوف فسمع المخلوق يناسب ذاته وسمع الله جل وعلا يناسب ذاته، ما بين الصفتين من القدر المشترك هذا هو ما يجمعهما في أصل اللغة في المعنى العام، أما المناسبة، مناسبة للذات فهذه في خارج الأصل، الأصل العام، وهذا فإن لله جل وعلا من الصفات أكملها فإن لله جل وعلا من الصفات أكملها وله من كل صفة كمال أكمل تلك الصفة وأعظمها وأشملها أثرا وأعمّها متعلقا، وهذا لا يعني بحال المماثلة، وإنما القدر المشترك في أصل المعنى هذا لا ينفيه أهل السنة؛ لأن الله جل وعلا أنزل القرآن بلسان عربي مبين ومعنى ذلك أن الكلمات التي فيها ذكر الأسماء والصفات أنها تفهم باللغة، وهذا سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى.
قال: (لأنه سبحانه لا سميَّ له) يأتي بيان معنى سبحانه عند الآية وهي قوله: {سبحان ربك رب العزة عمّا يصفون}، قال: (لأنه سبحانه لا سميّ له ولا كفؤ له ولا ندّ له)، هذه الألفاظ الثلاثة السميّ والكفؤ والندّ هذه جاءت في القرآن وهي متقاربة المعنى، قال جل وعلا: {هل تعلم له سميّا} وقال سبحانه: { ولم يكن له كفوا أحد }، وقال سبحانه: { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله }، فالله جل وعلا لا سميّ له لأنه قال: { هل تعلم له سميّا }، وهذا فيه الإنكار؛ لأنه قال: {هل تعلم له سميّا} والاستفهام إذا أتى بعده جملة يراد إبطالها فإنه يكون للإنكار، وإذا أتى بعده جملة يراد إثباتها صار الاستفهام للتوبيخ أو للحث أو نحو ذلك من المعاني المقررة في علم العربية، هنا قال: { هل تعلم له سميّا } هذا فيه النفي، يعني لا يُعلم له سميّ، بل إنكار أن يُعلم له سميّ سبحانه وتعالى، فلا أحد من خلقه يعلم لله جل وعلا سميّا، والسميُّ: هو المثيل والشبيه والنظير، كما فسرها ابن عباس - رضي الله عنه - وغيره وكذلك النّد، النّد: هو المثيل والنظير، كما ذكر ابن جرير عند آية البقرة عند قوله: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا} [1] [قال الأنداد جمع الند، والند: هو المثيل والنظير، واستشهد لذلك بقول حسان بن ثابت:


أتهجوه ولست له بندٍّ ....... فشرّكما لخيركما الفداء

وتروى: أتهجوه ولست له بكفؤٍ
فهذا ( الند والكفؤ والمثيل والسميّ )، هذه كلها معانيها متقاربة ولا ترادف بينها لكن المعاني متقاربة، وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان معانيها عند الآيات التي سيوردها الشيــخ - رحمه الله تعالى - بعد ذلك.
قال: (ولا يقاس بخلقه سبحانه وتعالى)، هذه الكلمة من شيخ الإسلام إبطال لأصل أصّله الجهمية وأصّله المعتزلة، يعني أصله أهل الكلام, أهل البدعة, الذين شقّوا صف الجماعة في باب الأسماء والصفات بل وفي باب القدر قالوا: إن الله جل وعلا يقاس بخلقه. ما معنى القياس ههنا؟ يعني أنه ما نفته العقول نفيناه وما أثبته العقل وأثبتته العقول أثبتناه، وبناءً على هذا نفوا عن الله جل وعلا أكثر الصفات الذاتية، فقالوا: إن إثبات الوجه لله جل وعلا يقتضي التجسيم, والعقل ينفي أن يتصف الله جل وعلا بهذا؛ لأن الوجه أبعاض وأجزاء والله جل وعلا ليس على ذلك. قالوا: إن الله جل وعلا لا يتصف بأن له يدين وذلك أن اليد جارحة. ما الدليل؟ القياس العقلي، وهكذا في سائر الصفات، نعم إن أهل السنة أثبتوا ما أثبته القرآن من القياس، وسيأتي ذلك في موضعه لكن ليس هو كل أنواع القياس.
قال هنا: (ولا يقاس بخلقه) يعني: في جميع الصفات التي اتصف الله جل وعلا بها، فإنما نثبتها مع قطع القياس وقطع المماثلة مع الخلق، فنحن نثبت لله جل وعلا الوجه، وليس وجه الله جل وعلا كوجه الإنسان أو كوجه مخلوق من مخلوقاته، نثبت لله جل وعلا يدين وليست اليدان لله جل وعلا كيدي بعض مخلوقاته، نثبت لله جل وعلا العينين وليست العينان لله جل وعلا كعيني بعض مخلوقاته … وهكذا، نثبت لله جل وعلا استواءً يليق بجلاله وليس استواؤه كاستواء خلقه، نثبت لله جل وعلا النزول كما أخبر النبي - عليه الصلاة والسلام - عن ربه جل وعلا وليس نزول الرحمن جل وعلا كنزول خلقه, وهذا كله على هذه القاعدة؛ لأنه سبحانه لا يقاس بخلقه وإنما كما ذكرنا من القاعدة أن: القول في الصفات كالقول في الذات. كما أن الله جل وعلا لا تشبهه ولا تماثله شيءٌ من الذوات فكذلك أسماؤه في عموم معناها وكُنهِ اتصاف الله جل وعلا بها وكيفية الاتصاف وأثر ذلك الأسماء، كذلك لا يقاس هذا بخلق الله جل وعلا في أسمائهم, إلى غير ذلك من الأصول العظيمة.
ثم ذكر تعليلا آخر للاتباع، فقال: (فإنه سبحانه أعلم بنفسه وبغيره)، لما اتبعنا على هذا الوجه من التسليم؟ لِمَا لم ندخل في هذا الأمر بالقياس وبالعقل وبما أصّله طوائف ممن يسميهم أولئك الحكماء؟لأن الله جل وعلا هو الذي وصف نفسه بذلك، وهو سبحانه أعلم بنفسه وبغيره، هل تعلمون ذلك منه؟! هل تعلمون كيف اتصف الله بصفاته؟! هل يعلم المبتدعة والمؤولة والمحرفة كل المعنى الذي تحمله الصفة؟! الجواب: لا، وإذا كان كذلك فبطلت دعوى المجاز وبطلت دعوى التأويل الذي يصرف الألفاظ عن ظاهرها، فإن الله جل وعلا أعلم بنفسه.
وهذا الباب باب الأسماء والصفات أعظم الأبواب التي يدخل منها الإيمان إلى القلب, وإذا كان كذلك, إذا كان كذلك فالله جل وعلا لا يبين للعباد من ذلك إلا ما فيه نفعهم ولو وقع في الأسماء والصفات في الآيات والأحاديث, لو وقع ألفاظ لو جاءت ألفاظ لا تراد ظواهرها من ذلك -لوقع عند الناس الاشتباه في هذا الأصل العظيم وهو الإيمان بالله؛ لأن الله جل جلاله إنما خضع له العباد وذلوا وعبدوه وأحبوه ورغبوا إليه ورهبوا منه وخافوه ورجوه كل ذلك لشهودهم آثار أسمائه وصفاته ولإيمانهم بأسمائه جل وعلا وصفاته ونعوت جلاله وأنواع توحيده فإنهم ما رأوا ذاته جل وعلا وإنما علموه جل وعلا بما علموا من الأسماء والصفات, وإذا كان كذلك كان محالا أن يبقى هذا الباب ملتبسا على الخلق أو تذكر فيها ألفاظ يمكن فيها الاجتهاد كألفاظ الفقه كالآيات التي فيها أحكام فقهية أو الأحاديث التي فيها أحكام فقهية التي تحتمل أكثر من معنى في بعضها، هذا الباب باب الأسماء والصفات محال أن يبقى فيه اللفظ محتملا؛ وذلك لأنه لا مدخل فيه للاجتهاد، وإذا كان فيه مدخل للاجتهاد فمعنى ذلك أن فيه سبيلا لإضلال الناس, والله جل وعلا إنما عرّف العباد بأسمائه وصفاته وأعلمهم بذلك ليكونوا في هذا الأصل العظيم على يقين وعلى ثبت وعلى إدراك تام لصفاته جل وعلا وما دلت عليه من المعاني, وبهذا تخضع قلوبهم له وتذل قلوبهم وتألهه جل وعلا محبة وانقيادا وتعظيما.
قال هنا: (فإنه سبحانه أعلم بنفسه وبغيره)، والعطف هنا في قوله: (وبغيره) مهم؛ لأن أولئك النفاة قاسوه جل وعلا بخلقه، والقياس ممتنع؛ لأن الله أعلم بنفسه فيما وصف به نفسه، وأعلم بغيره الذين وصفهم بصفات يشتركون في ألفاظها مع صفات الله جل وعلا، ويشتركون في جزء المعنى مع الله جل وعلا، يعني: مع صفات الله وأسمائه جل وعلا، فهو أعلم بنفسه وما يصلح له وما يليق به جل وعلا وأعلم بخلقه وما يصلح لهم ومايليق بهم، وهو جل وعلا وصف نفسه بالصفات، ووصف خلقه، سمّى نفسه بالأسماء وسمّى خلقه، وهو أعلم بنفسه وبخلقه، فلو كان مجال القياس واردا كما ادعوه، ولو كانت الشبهة ووقوع التمثيل والتجسيم كما ادعوه واردا لكان في هذا إلباساً على متلقي هذا الدين ومتلقي القرآن ليؤمن به, والله جل وعلا وصف آياته بأنها صدق وعدل، فقال سبحانه: {وتمّت كلمة ربك صدقا وعدلا}، وفي القراءة الأخرى: (وتمت كلمات ربك صدقا وعدلا)، وهي صدق في الأخبار وعدل في الأحكام، ولهذا فإن الله جل وعلا لما كان أعلم بنفسه وبغيره يعني: وبخلقه فإنه يُتلقى ما سمّى به نفسه وما وصف به نفسه بالتسليم العظيم؛ لأنه لا أحد أعلم بالله من الله ولا أحد أعلم بالله من خلقه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال بعده: "وأصدق قيلا" كما قال سبحانه: {ومن أصدق من الله قيلا}، وقال: {ومن أصدق من الله حديثا}، فالله جل وعلا لا أحد أصدق منه قيلا بل هو جل وعلا الذي كلماته صدق في أخباره إذا أخبر عن نفسه, فهو صدق وحق وإذا أخبر عن أسمائه فهو صدق وحق, وإذا أخبر عن صفاته فهو صدق وحق، وإذا كان كذلك فمعناه أن دعاوى أولئك كلها باطلة.
قال: (وأحسن حديثا من خلقه).


[1] ما بين المعقوفتين غير مسموع في الشريط؛ يرجى التأكد منه سماعا.

هيئة الإشراف

#8

16 Aug 2022

شرح العقيدة الواسطية للشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): ( ((بَلْ يُؤْمِنونَ بِأنَّ اللهَ سُبْحانَهُ: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌُ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) [الشورى: 11]))(1)
((فَلاَ يَنْفُونَ عَنْهُ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَلاَ يُحرِّفُون الكَلِمَ عنْ مَوَاضِعِهِ))(2)
((وَلاَ يُلْحِدُونَ في أَسْمَاءِ اللهِ وَآيَاتِهِ))(3)
((وَلاَ يُكَيَّفُونَ وَلاَ يُمَثِّلُونَ صِفَاتِ خَلْقِهِ؛ لأَنَّه سُبْحَانَهُ لا سَمِيَّ لَهُ وَلاَ كُفُوَ لَهُ وَلا نِدَّ لَهُ، وَلا يُقَاسُ بِخَلْقِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعالَى))(4)
((فَإِنَّه سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ، وَأَصْدَقُ قِيلاً، وَأَحْسَنُ حَدِيثَاً مِنْ خَلْقِهِ))(5) )
.


الشرح:

قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): ((1) قولُهُ: ((بلْ يؤمنونَ…))، أيْ: يُقرُّ أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ بذلِكَ إقراراً وتصديقاً بأنَّ اللَّهَ ليسَ كمثلِهِ شيءٌ، كَمَا قَالَ عَنْ نَفْسِه: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى: 11]، فهُنَا نَفَى المماثَلةَ، ثُمَّ أَثْبتَ السَّمعَ والبصرَ، فنَفَى العيبَ، ثُمَّ أثبتَ الكمالَ؛ لأنَّ نَفْيَ العيبِ قَبْلَ إثباتِ الكمالِ أحسن، وَلِهَذَا يُقالُ: التَّخليَةُ قَبْلَ التَّحليَةِ. فنَفْيُ العيوبِ يُبْدَأُ بِهِ أَوَّلاً، ثُمَّ يُذْكَرُ إثباتُ الكمالِ.
وكلمةُ (شَيْءٌ) نَكرةٌ فِي سياقِ النَّفيِ، فتعمُّ كُلَّ شيءٍ، لَيْسَ شيءٌ مثلَهُ أبداً - عزَّ وجلَّ -، أيُّ مخلوقٍ وإنْ عَظُمَ فليسَ مماثلاً لِلَّهِ - عزَّ وجلَّ -؛ لأنَّ مماثلةَ النَّاقصِ نَقصٌ، بلْ إنَّ طلبَ المفاضَلةِ بَيْنَ النَّاقصِ والكاملِ تجعلُهُ ناقصاً، كَمَا قِيلَ:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ السَّيْفَ يَنْقُصُ قَدْرُهُ إِذَا قِيْلَ إنَّ السَّيْفَ أَمْضَى مِنَ العَصَا
فهُنَا لو قُلْنَا: إنَّ لِلَّهِ مثيلاً لَزِمَ مَنْ ذلِكَ تَنقُّصُ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ -، فَلِهَذَا نقولُ: نَفَى اللَّهُ عن نَفْسِه مماثلةَ المخلوقينَ؛ لأنَّ مماثلةَ المخلوقِ نقصٌ وعيبٌ؛ لأنَّ المخلوقَ ناقصٌ، وتمثيلُ الكاملِ بالنَّاقصِ يجعلُهُ ناقصاً، بلْ ذِكرُ المفاضَلةِ بينهمَا يجعلُهُ ناقصاً، إلاَّ إِذَا كَانَ فِي مقامِ التَّحدِّي، كَمَا فِي قولِهِ - تَعَالَى -: (آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) [النمل: 59]، وقولِهِ: (قُلْ ءَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ) [البقرة: 140].
وفِي قولِهِ: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ): ردٌّ صريحٌ عَلَى الممثِّلةِ، الَّذِينَ يُثْبِتُون أنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَ- تَعَالَى - لَهُ مثيلٌ.
وحُجَّةُ هؤلاءِ يقولونَ: إنَّ القرآنَ عربيٌّ، وإِذَا كَانَ عربيًّا فَقَدْ خاطبَنَا اللَّهُ - تَعَالَى - بمَا نَفهمُ، ولاَ يُمكِنُ أنْ يخاطَبَنَا بمَا لاَ نَفهمُ، وقدْ خاطبَنَا اللَّهُ - تَعَالَى -، فَقَالَ: إنَّ لَهُ وجهاً، وإنَّ لَهُ عيناً، وإن لَهُ يَدَيْنِ… ومَا أشبَهَ ذلِكَ، ونَحْنُ لاَ نَعِقلُ بمقتضى اللُّغةِ العَربيةِ من هذِهِ الأشياءِ إِلاَّ مِثلَ مَا نُشاهِدُ، وعَلَى هَذَا فيَجِبُ أَنْ يكونَ مدلولُ هذِهِ الكلماتِ مماثِلاً لمدلولِهَا بالنِّسبةِ للمخلوقاتِ، يدٌ ويدٌ، وعينٌ وعينٌ، ووجهٌ ووجهٌ… وهكذا، فنَحْنُ إنَّمَا قُلْنَا بذلِكَ لأنَّ لدَيْنَا دليلاً.
ولاَ شكَّ أنَّ هذِهِ الحُجَّةَ واهِيَةٌ، ويُوهِّيَها مَا سَبَقَ مِنْ بيانِ أنَّ اللَّهَ لَيْسَ لَهُ مثيلٌ، ونقولُ: إنَّ اللَّهَ خاطبَنَا بمَا خاطبَنَا بِهِ مِنْ صفاتِهِ، لكنَّنا نَعلمُ عِلْمَ اليقينِ أنَّ الصِّفةَ بحسبِ الموصوفِ، ودليلُ هَذَا فِي الشَّاهِدِ، فإنَّهُ يُقالُ للجَمَلِ يدٌ وللذَّرَّة يدٌ، ولاَ أحدَ يفهمُ من اليدِ الَّتِي أضفْنَاها إِلَى الجملِ أنَّها مثلُ اليدِ الَّتِي أضفْناها إِلَى الذَّرَّةِ، هَذَا وهُوَ فِي المخلوقاتِ، فكَيْفَ إِذَا كَانَ ذلِكَ مِنْ أوصافِ الخالقِ؟! فإنَّ التَّبايُنَ يكونُ أَظْهرَ وأَجْلَى.
وعَلَى هَذَا فيكونُ قولُ هؤلاءِ الممثِّلةِ مَردوداً بالعقلِ، كَمَا أنَّه مَردودٌ بالسَّمعِ.
قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)، فأثبَتَ لنَفْسِهِ سُبْحَانَهُ وَ- تَعَالَى - السَّمعَ والبصرَ لبيانِ كمالِهِ، ونقصِ الأصنامِ الَّتِي تُعْبَدُ من دونِهِ، فالأصنامُ الَّتِي تُعْبَدُ مِنْ دونِ اللَّهِ - تَعَالَى - لاَ يسمعونَ، ولو سَمِعُوا، مَا استجابُوا، ولاَ يُبْصِرونَ، كَمَا قَالَ اللَّهُ - عزَّ وجلَّ -: (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ، أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) [النحل: 20، 21]، فَهُمْ لَيْسَ لَهُم سمعٌ ولاَ عقلٌ ولاَ بصرٌ، ولو فُرِضَ أنَّ لَهُمْ ذلِكَ، مَا استجابُوا: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُواْ مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ) [الأحقاف: 5].
فأهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ يؤمنُونَ بانتفاءِ المماثَلةِ عَنِ اللَّهِ، لأنَّها عيبٌ، ويُثْبِتُون لَهُ السَّمعَ والبصرَ، لقولِهِ - تَعَالَى -: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى: 11].
وإيمانُ الإنسانِ بذلِكَ يثُمرُ للعبدِ أنْ يعظِّمَهُ غايةَ التَّعظيمِ، لأنَّه لَيْسَ مثلَهُ أحدٌ مِنَ المخلوقاتِ، فَتُعَظِّمُ هَذَا الربَّ العظيمَ الَّذِي لاَ يماثِلُهُ أحدٌ، وإلاَّ لَمْ يكنْ هناكَ فائدةٌ من إيمانِكَ بأنَّهُ (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ).
إِذَا آمنْتَ بأنَّهُ سميعٌ فإنَّكَ سَوْفَ تَحترِزُ عنْ كُلِّ قولٍ يُغضِبُ اللَّهَ، لأنَّكَ تَعلمُ أنَّهُ يَسمعُكَ، فتَخْشَى عِقابهُ، فكُلُّ قولٍ يكونُ فِيهِ مَعصِيةُ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ - فَسوفَ تتحاشَاهُ، لأنَّكَ تُؤمنُ بأنَّهُ سميعٌ، وإِذَا لَمْ يُحدِثْ لكَ هَذَا الإيمانُ هَذَا الشَّيءَ فاعلمْ أنَّ إيمانَكَ بأنَّ اللَّهَ سميعٌ إيمانٌ ناقِصٌ بلاَ شَكَّ.
إِذَا آمنْتَ بأنَّ اللَّهَ سميعٌ، فلنْ تتكلَّمَ إِلاَّ بمَا يُرضيهَ، ولاَ سيَّمَا إِذَا كنْتَ تتكلَّمُ معبِّراً عن شَرْعِهِ، وهُوَ المُفْتِي والمُعلِّمُ، فإنَّ هَذَا أشدُّ، واللَّهُ سُبْحَانَهُ يقولُ: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِّيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [الأنعام: 144]، فإنَّ هَذَا مِن أظْلَمِ الظُّلْمِ، وَلِهَذَا قالَ: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [الأحقاف: 10]، وَهَذَا مِن عقوبةِ مَنْ يُفْتِي بلاَ عِلمٍ، أنَّهُ لاَ يُهْدَى، لأنَّهُ ظالِمٌ.
فحَذارِ يا أخي المُسلمَ أنْ تقولَ قولاً لاَ يُرْضِي اللَّهَ، سواءٌ قلْتَهُ عَلَى اللَّهِ، أوْ عَلَى غيرِ هَذَا الوَجْهِ.
وثُمَّرةُ الإيمانِ بأنَّ اللَّهَ بصيرٌ أنْ لاَ تفعلَ شيئًا يُغضِب اللَّهَ، لأنَّكَ تَعْلَمُ أنَّكَ لو تَنْظُرُ نَظرةً محرَّمةً لاَ يفهَمُ النَّاسُ أنَّها نظرةٌ محرَّمةٌ فإنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - يرى هذِهِ النَّظرةَ، ويَعلمُ مَا فِي قلبِكَ، (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ) [غافر: 19].
إِذَا آمنْتَ بهَذَا لاَ يمكنُ أنْ تَفعلَ فعلاً لاَ يَرضَاهُ أبداً.
استحِ مِنَ اللَّهِ كَمَا تَستحْيِي مِن أقربِ النَّاسِ إليْكَ، وأشدِّهِم تعظيماً مِنْكَ.
إذاً إِذَا آمنَّا بأنَّ اللَّهَ بصيرٌ، فَسَوْفَ تَتحاشَى كُلَّ فعلٍ يكونُ سبباً لغضَبِ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ -، وإلاَّ فإنَّ إيمانَنَا بذلِكَ ناقِصٌ.
لو أنَّ أحداً أشارَ بأُصبعِهِ أوْ شفتِهِ أوْ بعينِهِ أوْ برأْسِهِ لأمْرٍ مُحرَّمٍ، فالنَّاسُ الَّذِينَ حَوْلَهُ لاَ يعلمونَ عَنْهُ، لكنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - يراهُ، فليَحْذَرْ هَذَا مَنْ يؤمنُ بِهِ، ولو أنَّنا نؤمنُ بمَا تَقتَضِيهِ أسماءُ اللَّهِ وصفاتُهُ، لوُجِدَت الاستقامةُ كاملةً فِينَا. فاللَّهُ المُستعانُ.

(2) قولُهُ: ((فَلاَ يَنْفُونَ عَنْهُ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ))، أيْ: لاَ ينفِي أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ عن اللَّهِ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَه، لأنَّهُمْ متَّبِعونَ لِلنَّصِّ نفياً وإثباتاً، فكُلُّ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ يُثبتونَهُ عَلَى حقيقتِهِ، فلاَ يَنفُونَ عنِ اللَّهِ مَا وصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، سواءٌ كَانَ مِنَ الصِّفاتِ الذاتيَّةِ أو الفِعليَّةِ (أو الخبريَّةِ).
الصِّفاتُ الذاتيَّةُ، كالحياةِ، والقُدرةِ، والعِلمِ… ومَا أَشْبَهَ ذلِكَ، وتَنقسِمُ إلى: ذاتيَّةٍ معنويَّةٍ، وذاتيَّةٍ خبريَّةٍ، وهِيَ الَّتِي مُسمَّاهَا أبعاضٌ لَنَا وأجزاءٌ، كاليَدِ، والوجهِ، والعينِ، فهذِهِ يُسمِّيها العلماءُ: ذاتيَّةً خبريَّةً، ذاتيَّةٌ: لأنَّها لاَ تَنْفصلُ ولَمْ يَزَل اللَّهُ ولاَ يَزالُ متَّصِفاً بِها، خبريَّةٌ: لأَنَّهَا متلقَّاةٌ بالخبَرِ، فالعقلُ لاَ يدلُّ عَلَى ذلِكَ لولاَ أنَّ اللَّهَ أخبرَنَا أنَّ لَهُ يداً مَا عَلِمْنا بذلِكَ، لكنَّهُ أخبَرَنَا بذلِكَ، بخلافِ العِلمِ والسَّمعِ والبصرِ، فإنَّ هَذَا نُدركُهُ بعقولِنَا مَعَ دلالةِ السَّمعِ، لِهَذَا نقولُ فِي مِثلِ هذِهِ الصِّفاتِ اليدِ والوجهِ ومَا أشبَهَهَا: إنَّها ذاتيَّةٌ خبريَّةٌ، ولاَ نقولُ: أجزاءٌ وأبعاضٌ، بلْ نَتَحاشى هَذَا اللَّفظَ، لكنَّ مسمَّاها لنَا أجزاءٌ وأبعاضٌ؛ لأنَّ الجُزءَ والبَعْضَ مَا جازَ انفصالُهُ عن الكُلِّ، فالرَّبُّ - عزَّ وجلَّ - لاَ يُتَصَوَّرُ أنَّ شيئًا مِنْ هذِهِ الصِّفاتِ الَّتِي وَصَفَ بها نَفْسَهُ –كاليَدِ- أنْ تزولَ أبداً؛ لأنَّهُ موصوفٌ بها أزلاً وأبداً، وَلِهَذَا لاَ نقولُ: إنَّها أبعاضٌ وأجزاءُ.
والصِّفاتُ الفِعليَّةُ: هِيَ المتعلِّقةُ بمشيئتِهِ، إنْ شاءَ فَعَلَها، وإنْ شاءَ لَمْ يَفعلْها، وقَدْ ذَكَرْنا أنَّ هذِهِ الصِّفاتِ الفِعليَّةَ: مِنْهَا مَا يكونُ لَهُ سببٌ، وَمِنْهُا مَا لَيْسَ لَهُ سَبَبٌ، وَمِنْهَا مَا يكونُ ذاتيًّا فعليًّا.
قولُهُ: (ولاَ يحرِّفونَ الكَلِمَ عن مواضِعِه): (الكَلِمَ): اسمٌ، جمعُ كلمةٍ، ويُرادُ بِهِ كلامُ اللَّهِ وكلامُ رسولِهِ.
لاَ يحرِّفُونَهُ عَنْ مواضِعِه، أيْ: عن مدلولاتِهِ، فمثلاً قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (بَل يَدَاهُ مَبسُوطَتَانِ) [المائدة: 64]، يقُولونَ: هِيَ يدٌ حقيقيَّةٌ ثابتةٌ لِلَّهِ مِنَ غَيْرِ تكييفٍ ولاَ تمثيلٍ، والمحرِّفُون يقولونَ: قوَّتُهُ، أو: نِعْمَتُهُ، أمَّا أهلُ السُّنَّةِ فيقولونَ: القوَّةُ شيءٌ واليدُ شيءٌ آخَرُ، والنِّعمةُ شيءٌ واليدُ شيءٌ آخَرُ، فَهُمْ لاَ يُحرِّفُونَ الكَلِمَ عن مواضِعِهِ، فإنَّ التَّحريفَ مِنْ دَأْبِ اليهودِ، (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ) [النساء: 46]، فكُلُّ مَنْ حرَّفَ نصوصَ الكتابِ والسُّنَّةِ، ففِيهِ شبهٌ مِن اليهودِ، فاحْذَرْ هَذَا، ولاَ تَتَشَبهْ بالمغضوبِ عَلَيْهِمْ، الَّذِينَ جَعَلَ اللَّهُ مِنْهُمْ القِردةَ والخنازيرَ وعبدَ الطَّاغوتِ، لاَ تحرِّفْ، بلْ فَسِّر الكلامَ عَلَى مَا أرادَ اللَّهُ ورسولُهُ.
ومِنْ كلامِ الشَّافعيِّ مَا يُذْكَرُ عَنْهُ: آمنْتُ باللَّهِ وبمَا جاءَ عن اللَّهِ عَلَى مُرادِ اللَّهِ، وآمنْتُ برسولِ اللَّهِ وبمَا جاءَ عَنِ رَسولِ اللَّهِ عَلَى مُرادِ رسولِ اللَّهِ.

(3) قولُه: ((ولاَ يُلْحِدونَ …))، أيْ: أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ.
والإلحادُ فِي اللُّغةِ: المَيْلُ، ومِنْهُ سُمِّيَ اللَّحدُ فِي القبرِ؛ لأنَّهُ مائلٌ إِلَى جانبٍ مِنْهُ ولَيْسَ متوسِّطاً، والمتوسِّطُ يُسَمَّى شَقًّا، واللَّحدُ أَفضلُ مِن الشَّقِّ.
فَهُمْ لاَ يلحدُون فِي أسماءِ اللَّهِ، ولاَ يُلْحِدُونَ أيضًا فِي آياتِ اللَّهِ، فأفادَنَا المؤلِّفُ -رحمَهُ اللَّهُ- أنَّ الإلحادَ يكونُ فِي موضِعَيْنِ: فِي الأسماءِ وفِي الآياتِ.
هَذَا الَّذِي يُفيدُهُ كلامُ المؤلِّفِ قَدْ دلَّ عَلَيْهِِ القرآنُ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: (وَلِلَّهِ الأَسمَاءُ الحُسنَى فَادعُوهُ بِهَا، وَذَرُوا الَّذِينَ يُلحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ، سَيُجزَونَ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ) [الأعراف: 180]، فأَثْبَتَ اللَّهُ الإلحادَ فِي الأسماءِ، وقَالَ - تَعَالَى -: (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لاَ يَخْفَونَ عَلَينَا) [فصلت: 40]، فَأثْبَتَ اللَّهُ الإلحادَ فِي الآياتِ.
-فالإلحادُ فِي الأسماءِ هُوَ المَيْلُ فِيهِا عَمَّا يَجِبُ، وهُوَ أنواعٌ:
النَّوْعُ الأوَّلُ: أنْ يُسمَّى اللَّهُ بمَا لَمْ يُسَمِّ بِهِ نَفْسَهُ، كَمَا سمَّاهُ الفلاسفةُ: عَلَّةً فاعلةً، وسمَّاهُ النَّصارى: أبًا، وعيسَى: الابنَ، فهَذَا إلحادٌ فِي أسماءِ اللَّهِ، وكذلِكَ لو سُمِّيَ اللَّهُ بأيِّ اسمٍ لَمْ يُسَم بِهِ نَفْسَهُ، فَهُوَ ملحِدٌ فِي أسماءِ اللَّهِ.
ووجْهُ ذلِكَ أنَّ أسماءَ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ - توقيفيَّةٌ، فلاَ يمكنُ أنْ نُثبتَ لَهُ إلاَّ مَا ثَبتَ بالنَّصِ، فَإِذَا سمَّيْتَ اللَّهَ بمَا لَمْ يُسَمِّ بِهِ نَفْسَهُ فَقَدْ أَلحدْتَ ومِلْتَ عن الواجِبِ.
وتسميةُ اللَّهِ بمَا لَمْ يُسَمِّ بهِ نَفْسَهُ سوءُ أدَبٍ معَ اللَّهِ وظلمٌ وعُدوانٌ فِي حَقِّهِ؛ لأنَّهُ لو أنَّ أحداً دعاكَ بِغَيْرِ اسمِكَ أوْ سمَّاكَ بغيرِ اسمِكَ لاعتبرْتَهُ قَد اعْتَدَى عليِكَ وظَلَمَكَ، هَذَا فِي المخلوقِ، فكَيْفَ بالخالقِ؟!
إذًا لَيْسَ لَكَ حقٌّ أنْ تُسمِّيَ اللَّهَ بمَا لَمْ يُسمِّ بِهِ نَفْسَهُ، فإنْ فعلْتَ، فأنتَ مُلحِدٌ فِي أسماءِ اللَّهِ.
النَّوعُ الثَّاني: أنْ يُنكِرَ شيئًا مِن أسمائِهِ، عكسَ الأوَّلِ، فالأوَّلُ سَمَّى اللَّهَ بمَا لَمْ يُسمِّ بِهِ نَفْسَهُ، وَهَذَا جرَّدَ اللَّهَ ممَا سمَّى بِهِ نَفْسَهُ، فيُنكِرُ الاسمَ، سواءٌ أَنْكَرَ كُلَّ الأسماءِ أوْ بعضَهَا الَّتِي تُثْبَتُ لِلَّهِ، فَإِذَا أنكرَهَا، فقدْ أَلحدَ فِيهِا.
ووجْهُ الإلحادِ فِيهِا: أنَّهُ لمَّا أَثْبَتَهَا اللَّهُ لنَفْسِهِ وَجَبَ عليْنَا أنْ نُثبِتهَا لَهُ، فَإِذَا نفيْنَاهَا كَانَ إلحاداً ومَيْلاً بِها عمَّا يَجِبُ فِيها.
وهناكَ مِن النَّاسِ مَنْ أنكَرَ الأسماءَ، كغُلاةِ الجَهْميَّةِ، فَقَالَوُا: لَيْسَ لِلَّهِ اسمٌ أبداً، قالُوا: لأنَّكَ لو أَثْبَتَّ لَهُ اسماً شبَّهتَهُ بالموجوداتِ، وَهَذَا معروفٌ أنَّهُ باطلٌ مردودٌ.
النَّوْعُ الثَّالثُ: أنْ يُنكِرَ مَا دلَّتْ عليْهِ من الصِّفاتِ، فَهُوَ يثبِتُ الاسمَ، لكنْ يُنكِرُ الصِّفَةَ الَّتِي يتضمَّنُهَا هَذَا الاسمُ، مِثْلُ أنْ يقولَ: إنَّ اللَّهَ سميعٌ بلاَ سَمعٍ، وعليمٌ بلاَ عِلْمٍ، وخالِقٌ بلاَ خَلقٍ، وقادرٌ بلاَ قُدرةٍ … وَهَذَا معروفٌ عن المُعْتَزِلَةِ، وهُوَ غيرُ معقولٍ!
ثُمَّ هؤلاءِ يجعلونَ الأسماءَ أعلاماً مَحْضةً متغايِرةً، فيقولُوا: السَّميعُ غيرُ العليمِ، لكنْ كلُّها لَيْسَ لَهَا معنًى، السَّميعُ لاَ يدلُّ عَلَى السَّمْعِ، والعليمُ لاَ يدلُّ عَلَى العِلْمِ، لكنْ مجرَّدُ أعلامٍ!!
ومِنْهُمْ آخَرُونَ يقولُونَ: هذِهِ الأسماءُ شيءٌ واحدٌ، فَهِيَ عليمٌ وسميعٌ وبصيرٌ، كلُّها واحدٌ، لاَ تَخْتلِفُ إِلاَّ بتركيبِ الحروفِ فَقَطْ، فَيجْعَلُ الأسماءَ شيئًا واحدًا!!
وكُلُّ هَذَا غيرُ معقولٍ، ولذلِكَ نَحْنُ نقولُ: إنَّهُ لاَ يُمْكنُ الإيمانُ بالأسماءِ حَتَّى تُثْبِتَ مَا تضمَّنَتْهُ من الصِّفاتِ.
ولعلَّنَا مِنْ هُنا نتكلَّمُ عَلَى دلالةِ الاسمِ، فالاسمُ لَهُ أنواعٌ ثلاثةٌ فِي الدَّلالةِ: دلالةُ مطابَقةٍ، ودلالةُ تضمُّنٍ، ودلالةُ التزامٍ:
1- فدلالةُ المطابَقةِ: دلالةُ اللَّفظِ عَلَى جميعِ مدلولِهِ، وعَلَى هَذَا فكُلُّ اسمٍ دالٌّ عَلَى المُسمَّى بِهِ، وهُوَ اللَّهُ، وعَلَى الصِّفَةِ المشتقِّ مِنْها هَذَا الاسمُ.
2- ودلالةُ التَّضمُّنِ: دلالةُ اللَّفظِ عَلَى بعضِ مدلولِهِ، وعَلَى هَذَا فدلالةُ الاسمِ عَلَى الذَّاتِ وحدَها أوْ عَلَى الصِّفَةِ وحْدَها من دلالةِ التَّضمُّنِ.
3- ودلالةُ الالتزامِ: دلاَلَتُهُ عَلَى شيءٍ يُفْهَمُ لاَ مِن لفظِ الاسمِ، لكنْ مَن لازِمِهِ، وَلِهَذَا سمَّينَاهُ: دلالَةَ الالتزامٍ.
مثلُ كلمَةِ الخالقِ: اسمٌ يدلُّ عَلَى ذاتِ اللَّهِ، ويدلُّ عَلَى صِفَةِ الخَلْقِ.
إذاً: فباعتبارِ دلالتِهِ عَلَى الأَمْرَيْنِ يُسمَّى دلالةَ مطابَقةٍ؛ لأنَّ اللَّفظَ دلَّ عَلَى جميعِ مدلولِهِ، ولاَ شكَّ أنَّكَ إِذَا قُلْتَ: الخالقُ،فإنَّكَ تفهمُ خالِقاً وخَلْقاً.
- وباعتبارِ دلالتِهِ عَلَى الخالقِ وحدَه أوْ عَلَى الخَلْقِ وحدَهُ يُسمَّى دلالةَ تضمُّنٍ؛ لأنَّهُ دلَّ عَلَى بَعْضِ مَعْنَاهُ.
- وباعتبارِ دلالتِهِ عَلَى العِلمِ والقُدرةِ يُسمَّى دلالةَ التزامٍ، إذْ لاَ يمكنُ خَلْقٌ إِلاَّ بعِلمٍ وقُدرةٍ، فدلالتُهُ عَلَى القُدرةِ والعِلمِ دلالةُ التزامٍ.
وحينئذٍ يتبيَّنُ أنَّ الإنسانَ إِذَا أنكرَ واحداً مَنْ هذِهِ الدَّلالةِ فَهُوَ ملحدٌ فِي الأسماءِ.
ولو قَالَ: أَنَا أؤمِنُ بدلالةِ الخالقِ عَلَى الذَّاتِ، ولاَ أُؤمِنُ بدلالتِهِ عَلَى الصِّفةِ، فَهُوَ مُلحدٌ فِي الاسمِ.
لوْ قالَ: أَنَا أؤمِنُ بأنَّ (الخالِقَ) تدلُّ عَلَى ذاتِ اللَّهِ وعَلَى صِفَةِ الخَلْقِ، لكنْ لاَ تدلُّ عَلَى صفَةِ العِلمِ والقُدرةِ. قُلْنا: هَذَا إلحادٌ أيضاً، فلازمٌ عليْنَا أنْ نُثبِتَ كُلَّ مَا دلَّ عَلَيْهِِ هَذَا الاسمُ، فإنكارُ شيءٍ ممَا دلَّ عَلَيْهِِ الاسمُ من الصِّفَةِ إلحادٌ فِي الاسمِ، سواءٌ كانَتْ دلالتُهُ عَلَى هذِهِ الصِّفةِ دلالةَ مطابَقَةٍ أوْ تضمُّنٍ أو التزامٍ.
ولنَضربْ مَثلاً حسِّيًّا تتبيَّنُ فِيهِ أنواعُ هذِهِ الدَّلالاتِ: لو قُلْتُ: لي بيتٌ، فكلمةُ (بيتٌ) فِيهِا الدَّلالاتُ الثَّلاثُ، فتَفهمُ مِنْ (بيتٌ) أنَّها تدلُّ عَلَى كُلِّ البيتِ دلالةَ مطابَقةٍ. وتدلُّ عَلَى مجلسِ الرِّجالِ وحدَهُ، وعَلَى الحمَّاماتِ وحْدَهَا، وعَلَى الصَّالةِ وحْدَها، دلالةَ تضمُّنٍ؛ لأنَّ هذِهِ الأشياءَ جزءٌ مَنَ البيتِ، ودلالةُ اللَّفظِ عَلَى جزءِ معناهُ دلالةُ تضمُّنٍ، وتدلُّ عَلَى أنَّ هناكَ بانِياً بناهُ دلالةَ التزامٍ؛ لأنَّهُ مَا مَنْ بيتٍ إِلاَّ ولَهُ بانٍ.
النَّوعُ الرَّابعُ من أنواعِ الإلحادِ فِي الأسماءِ: أنْ يُثَبِتَ الأسماءَ لِلَّهِ والصِّفاتِ، ولكنْ يجعلُهَا دالَّةً عَلَى التَّمثيلِ، أيْ: دالَّةً عَلَى بَصَرٍ كبصرِنَا، وعلمٍ كعلمِنَا، ومغفرةٍ كمغفرتِنَا … ومَا أَشبَهَ ذلِكَ، فهَذَا إلحادٌ؛ لأنَّهُ مَيْلٌ بِها عمَّا يَجِبُ فِيهِا، إذِ الواجِبُ إثباتُها بِلاَ تمثيلٍ.
النَّوعُ الخامِسُ: أنْ يَنْقلَهَا إِلَى المعبوداتِ، أوْ يشتقَّ أسماءً مِنْهَا للمعبوداتِ، مثلُ أنْ يسمِّيَ شيئًا معبوداً بالإلَهِ، فهَذَا إلحادٌ، أوْ يشتقَّ مِنْهُا أسماءً للمعبوداتِ،مثلُ: اللاَّتِ مِن الإلَهِ، والعُزَّى مِن العزيزِ، ومَناةَ مِن المنَّانِ، فنقولُ: هَذَا أيضاً إلحادٌ فِي أسماءِ اللَّهِ؛ لأنَّ الواجِبَ عليْكَ أنْ تَجعلَ أسماءَ اللَّهِ خاصَّةً بهِ، ولاَ تتعدَّى وتتجاوزَ فتشتقَّ للمعبوداتِ مِنْهُا أسماءً.
هذِهِ أنواعُ الإلحادِ فِي أسماءِ اللَّهِ.
فأهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ لاَ يُلحِدُون فِي أسماءِ اللَّهِ أبداً، بلْ يُجْرُونها عَلَى مَا أرادَ اللَّهُ بِهَا سُبْحَانَهُ وَ- تَعَالَى -، ويُثبِتُونَ لَهُا جميعَ أنواعِ الدَّلالاتِ؛ لأنَّهم يَرَوْنَ أنَّ مَا خالَفَ ذلِكَ، فَهُوَ إلحادٌ.
- وأمَّا الإلحادُ فِي آياتِ اللَّهِ - تَعَالَى -، فالآياتُ جمعُ آيةٍ، وهِيَ العلامةُ المُميِّزةُ للشَّيْءِ عَنْ غَيْرِهِ، واللَّهُ - عزَّ وجلَّ - بعثَ الرُّسُلَ بالآياتِ لاَ بالمُعجزاتِ، لِهَذَا كَانَ التَّعبيرُ بالآياتِ أحسنَ مِنَ التَّعبيرِ بالمعجزاتِ،
أَوَّلاً: لأنَّ الآياتِ هِيَ الَّتِي يُعبَّرُ بِهَا فِي الكتابِ والسُّنَّةِ.
ثانياً: أنَّ المعجزاتِ قَدْ تقعُ مِنْ ساحرٍ ومُشَعْوِذٍ ومَا أشَبْهَ ذلِكَ، تُعْجِزُ غَيْرَهُ.
ثالثاً: أنَّ كلمةَ (آياتٍ) أَدَلُّ عَلَى المَعْنَى المقصودِ مِنْ كلمةِ معجزاتٍ، فآياتُ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ - هِيَ العلاماتُ الدَّالَّةُ عَلَى اللَّهِ - عزَّ وجلَّ -، وحينئذٍ تكونُ خاصَّةً بِهِ، ولولاَ أنَّها خاصَّةٌ مَا صارتْ آيةً لَهُ.
وآياتُ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ - تنقسمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: آياتٌ كونيَّةٌ، وآياتٌ شرعيَّةٌ:
فالآياتُ الكونيَّةُ: مَا يتعلّقُ بالخلقِ والتَّكوينِ، مثالُ ذلِكَ قولُهُ: (وَمِن آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالقَمَرُ) [فصلت: 37]، (وَمِن آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ) [الروم: 20]، (وَمِن آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاواتِ وَالأَرضِ وَاختِلاَفُ أَلسِنَتِكُم وَأَلْوَانِكُم، إِنَّ فِي ذلِكَ لاَيَاتٍ لِلعَالِمِينَ، وَمِن آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيلِ وَالنَّهَارِ وَابتِغَاؤُكُم مِن فَضْلِهِ، إِنَّ فِي ذلِكَ لاَيَاتٍ لِقَومٍ يَسمَعُونَ، وَمِن آيَاتِهِ يُرِيكُمُ البَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءٍ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوتِهَا، إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَاتٍ لِقَومٍ يَعقِلُونَ وَمِن آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُم دَعْوَةً مِنَ الأَرْضِ إِذَا أَنتُم تَخرُجُونَ) [الروم: 22- 25]، فهذِهِ الآياتُ كونيَّةٌ، وإنْ شِئْتَ، فقُلْ: كونيَّةٌ قَدريَّةٌ، وكانتْ آيةً لِلَّهِ لأنَّهُ لاَ يَستطيعُ الخَلقُ أنْ يَفعلُوها، فمَثلاً: لاَ يستطيعُ أحدٌ أنْ يَخْلُقَ مِثلَ الشَّمسِ والقمرِ، ولاَ يستطيعُ أنْ يأتيَ باللَّيلِ إِذَا جاءَ النَّهارُ، ولاَ بالنَّهارِ إِذَا جاءَ اللَّيلُ، فهذِهِ الآياتُ كونيَّةٌ.
والإلحادُ فِيهِا أنْ يَنْسُبَهَا إِلَى غَيْرِ اللَّهِ استقلالاً أوْ مشاركةً أوْ إعانةً، فيقولُ: هَذَا مِن الوَلِيِّ الفلانيِّ، أوْ: مِنَ النَّبِيِّ الفلانيِّ، أو: شارَكَ فِيهِ النَّبيُّ الفلانيُّ، أو الوليُّ الفلانيُّ، أوْ أعانَ اللَّهَ فِيهِ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمتُم مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَملِكُونَ مِثقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاواتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ، وَمَا لَهُم فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وِمَا لَهُ مِنهُم مِن ظَهِيَرٍ) [سبأ: 22]، فنَفَى كُلَّ شيءٍ يتعلَّقُ بِهِ المُشْرِكُونَ بكونِ معبوداتِهِمْ لاَ تَمْلِكُ شيئًا فِي السَّماواتِ والأرضِ استقِلالاً أوْ مُشاركةً، ولاَ مُعينَةً لِلَّهِ - عزَّ وجلَّ -، ثُمَّ جاءَ بالرَّابع: (وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَن أَذِنَ لَهُ) [سبأ: 23]، لمَّا كَانَ المشركُونَ قَدْ يقولُونَ: نَعَمْ هذِهِ الأصنامُ لاَ تَملكُ ولاَ تُشاركُ ولَمْ تُعاوِنْ، لكنَّها شُفعاءُ، قالَ: (وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَن أَذِنَ لَهُ)، فقَطَعَ كُلَّ سببٍ يتعلَّقُ بِهِ المشركُونَ.
القِسمُ الثَّاني مِنَ الآياتِ: الآياتُ الشَّرعيَّةُ، وهِيَ مَا جاءتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنَ الوحيِ، كالقرآنِ العظيمِ، وهُوَ آيةٌ، لقولِهِ - تَعَالَى -: (تِلكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتلُوهاَ عَلَيكَ بِالحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ المُرسَلِينَ) [البقرة: 252]، (وَقَالُوا لَولاَ أُنزِلَ عَلَيهِ آيَاتٌ مِن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَوَلَم يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتلَى عَلَيهِمْ) [العنكبوت: 50- 51]، فَجَعَلَهُ آياتٍ.
ويكونُ الإلحادُ فِيهِا إمَّا بتكذيبِهِا أوْ تحريفِهِا أوْ مخالفتِهِا:
فتكذيبُها: أنْ يقولَ: لَيْسَتْ مِنَ عندِ اللَّهِ، فيكذِّبُ بها أصلاً، أَوْ يكذِّبُ بمَا جاءَ فِيهِا مِن الخبَرِ مَعَ تصديقِهِ بالأصْلِ، فيقولُ مثلاً: قصَّةُ أصحابِ الكهفِ ليستْ صحيحةً، وقصَّةُ أصحابِ الفيلِ ليستْ صحيحةً، واللَّهُ لَمْ يُرسلْ عليْهِم طيراً أبابيلَ.
وأمَّا التَّحريفُ فَهُوَ تغييرُ لفظِهَا، أوْ صَرْفُ معنَاهَا عمَّا أرادَ اللَّهُ بِها ورسولُهُ، مِثلُ أنْ يقولَ: استوى عَلَى العَرْشَ، أيْ: استوْلَى، أوْ: يَنـزِلُ ربُّنَا إِلَى السَّماءِ الدُّنْيَا، أيْ: يَنـزلُ أمرُهُ.
وأمَّا مخالفَتُهَا فبِتَرْكِ الأوامرِ أوْ فِعلِ النَّواهِي.
قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - فِي المسجدِ الحرامِ: (وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلحَادٍ بِظُلمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) [الحج: 25]، فكُلُّ المعاصِي إلحادٌ فِي الآياتِ الشَّرعيَّةِ؛ لأنَّهُ خروجٌ بَهَا عمَّا يجبُ لَهَا، إذ الواجبُ عَلَيْنَا أنْ نمتثِلَ الأوامرَ وأنْ نَجْتنِبَ النَّواهِيَ، فإنْ لَمْ نَقُمْ بذلِكَ فهَذَا إلحادٌ.

(4) قولُهُ: ((وَلاَ يُكَيِّفونَ))، أيْ: أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ، وسبقَ أنَّ التَّكييفَ ذِكرُ كيفيَّةِ الصِّفَةِ، سواءٌ ذكرْتَهَا بلسانِكَ أوْ بقلبِكَ، فأهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ لاَ يُكيِّفونَ أبدًا، يعني: لاَ يقولُونَ: كيفيَّةُ يَدِهِ كذا وكذا، ولا: كيفيَّةُ وجهِهِ كذا وكذا، فلاَ يُكيِّفُونَ هَذَا باللِّسانِ ولاَ بالقلبِ أيضًا، يعني: نَفْسَ الإنسانِ لاَ يَتصوَّرُ كَيْفَ استوَى اللَّهُ - عزَّ وجلَّ -، أوْ كَيْفَ يَنـزلُ؟ أوْ كَيْفَ وجْهُهُ؟ أوْ كَيْفَ يدُهُ؟ ولاَ يجوزُ أنْ يحاولَ ذلِكَ أيضًا؛ لأنَّ هَذَا يؤدِّي إِلَى أحدِ أمرَيْنِ: إمَّا التَّمثيلُ، وإمّا التَّعطيلُ.
وَلِهَذَا لاَ يجوزُ للإنسانِ أنْ يحاوِلَ معرِفَةَ كيفيَّةِ استواءِ اللَّهِ عَلَى العَرشِ، أوْ يقولَهُ بلسانِهِ، بلْ ولاَ يَسأَلُ عن الكَيْفيَّةِ؛ لأنَّ الإمامَ ماِلكًا -رحمَهُ اللَّهُ- قالَ: ((السُّؤالُ عَنْهُ بدعةٌ))، لاَ تَقُلْ: كَيْفَ استوَى؟ كيفَ يَنـزلُ؟ كيفَ يأتِي؟ كيفَ وجْهُهُ؟ إنْ فعلْتَ ذلِكَ، قُلْنا: إنَّكَ مبتدعٌ … وقدْ سَبَقَ ذِكرُ الدَّليلِ عَلَى تَحريمِ التَّكييفِ، وذَكَرْنَا الدَّليلَ عَلَى ذلِكَ من السَّمعِ والعقلِ.
قولُهُ: ((ولاَ يُمثِّلُون))، أيْ: أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ: ((صفاتهِ بصفاتِ خَلْقِهِ))، وَهَذَا معنى قولِهِ فيمَا سَبَقَ: ((مِنْ غَيْرِ تمثيلٍ))، وسَبَقَ لنا امتناعُ التَّمثيلِ سمعاً وعقلاً، وأنَّ السَّمعَ وَرَدَ خبرًا وطلباً فِي نَفْيِ التَّمثيلِ، فَهُمْ لاَ يُكيِّفُونَ ولاَ يمثِّلونَ.
قولُهُ: ((لأنَّه سبحانَهُ)): (سُبْحَانَ): اسمُ مصدرٍ سَبَّحَ، والمَصْدَرُ تسبيحٌ، ف(سُبْحَانَ) بمعنَى تسبيحٍ، لكنَّها بغيرِ اللَّفظِ، وكُلُّ مَا دلَّ عَلَى معنَى المصدرِ وليسَ بلفظِهِ، فَهُوَ اسمُ مصدرٍ، كسُبْحَانَ مِن سبَّحَ، وكَلامٍ مِن كلَّمَ، وسلامٍ مِن سلَّمَ، وإعرابُها مفعولٌ مطلَقٌ منصوبٌ عَلَى المفعوليَّةِ المطلَقةِ، وعاملُها محذوفٌ دائماً.
ومعنى (سبَّحَ)، قَالَ العلماءُ: معناها: نَزَّهَ، أصْلُها مِنَ السَّبْحِ، وَهُوَ البُعْدُ، كأنَّكَ تُبْعِدُ صفاتِ النَّقصِ عَنِ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ -، فَهُوَ سُبْحَانَهُ وَ- تَعَالَى – منـزَّهٌ عَنْ كُلِّ نَقصٍ.
قولُهُ: ((لاَ سَمِيَّ لَهُ)): دليلُ ذلِكَ قولُهُ - تَعَالَى -: (رَّبُّ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَينَهُمَا فَاعبُدهُ وَاصطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعلَمُ لَهُ سَمِيًّا) [مريم: 65]: (هَلْ): استفهامٌ، لكنَّهُ بمعنى النَّفيِ، ويأتي النَّفيُ بصيغةِ الاستفهامِ لفائدةٍ عظيمةٍ، وهِيَ التَّحدِّي؛ لأنَّ هناكَ فرقًا بَيْنَ أنْ أقولَ: لاَ سَمِيَّ لَهُ، و:(هَلْ تَعلَمُ لَهُ سَمِيًّا)؛ لأنَّ (هَلْ تَعلَمُ لَهُ سَمِيًّا) متضمِّنٌ للنَّفيِ وللتَّحدِّي أيضًا، فَهُوَ مُشْرَبٌ معنَى التَّحدِّي، وهذِهِ قاعدةٌ مهمِّةٌ: كلَّمَا كَانَ الاستفهامُ بمعنَى النَّفيِ فَهُوَ مُشْرَبٌ معنى التَّحدِّي، كأنِّي أقولُ: إنْ كُنْتَ صادقاً، فأْتِني بِسَمِيٍّ لَهُ، وعَلَى هَذَا، ف(هَلْ تَعلَمُ لَهُ سَمِيًّا): أبلغُ مِن: (لاَ سَمِيَّ لَهُ).
والسَّمِيُّ: هُوَ المُسامِي،أيْ: المُماثِلُ.
قولُهُ: ((ولاَ كُفْءَ لَهُ)): والدَّليلُ قولُهُ - تَعَالَى -: (وَلَم يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدُ) [الإخلاص: 4].
قولُهُ: ((ولاَ نِدَّ لَهُ)): والدَّليلُ قولُهُ - تَعَالَى -: (فَلاَ تَجعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأنتُم تَعلَمُونَ) [البقرة: 22]، أيْ: تعلمُونَ أنَّه لاَ نِدَّ لَهُ، والنِّدُّ بمعنَى النَّظيرِ.
وهذِهِ الثَّلاثةُ –السَّميُّ والكفءُ والنِّدُّ- معناها متقاربٌ جِدًّا؛ لأنَّ معنَى الكفءِ: الَّذِي يكافِئُهُ، ولاَ يكافئُ الشَّيءُ الشَّيءَ إِلاَّ إِذَا كَانَ مِثْلَهُ، فإنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلَهُ، لَمْ يكنْ مكافِئًا لَهُ، إذًا: لاَ كُفءَ لَهُ، أيْ: لَيْسَ لَهُ مثيلٌ سُبْحَانَهُ وَ- تَعَالَى -.
وَهَذَا النَّفيُ المقصودُ مَنْهُ كَمالُ صفاتِهِ؛ لأنَّهُ لكمالِ صفاتِهِ لاَ أحدَ يماثِلُهُ.
قولُهُ: ((ولاَ يُقاسُ بخَلقِهِ سُبْحَانَهُ وَ- تَعَالَى -)): القِياسُ ينقسِمُ إِلَى ثلاثةِ أقسامٍ: قياسُ شمولٍ، وقياسُ تمثيلٍ، وقياسُ أولويَّةٍ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ وَ- تَعَالَى - لاَ يُقاسُ بخلقِهِ قياسَ تمثيلٍ ولاَ قياسَ شمولٍ:
1 - قياسُ الشُّمولِ: هُوَ مَا يُعْرَفُ بالعامِّ الشَّامِلِ لجميعِ أفرادِهِ، بحَيْثُ يكونُ كُلُّ فردٍ مِنْهُ داخلاً فِي مُسمَّى ذلِكَ اللَّفظِ ومعناهُ، فمثلاً: إِذَا قُلْنَا: الحياةُ، فإنَّهُ لاَ تقاسُ حياةُ اللَّهِ - تَعَالَى - بحياةِ الخَلْقِ مِنْ أجْلِ أنَّ الكُلَّ يشملُهُ اسمٌ (حَيٌّ).
2 - وقياسُ التَّمثيلِ: هُوَ أنْ يَلْحَقَ الشَّيءُ بمثيلِهِ، فيجعلُ مَا ثبتَ للخالقِ مثلَ مَا ثبتَ للمخلوقِ.
3 - وقياسُ الأولويةِ: هُوَ أنْ يكونَ الفَرْعُ أوْلى بالحكمِ من الأصلِ، وَهَذَا يقولُ العلماءُ: إنَّهُ مستعملٌ فِي حقِّ اللَّهِ، لقولِهِ تَعَالى: (وَِلِلَّهِ المَثَلُ الأَعلَى) [النحل: 60]، بمعنى كلُّ صفةِ كمالٍ، فلِلَّهِ - تَعَالَى - أعْلاَها، والسَّمعُ والعِلمُ والقُدرةُ والحياةُ والحِكمةُ ومَا أشبَهَهَا موجودةٌ فِي المخلوقاتِ، لكنْ لِلَّهِ أعلاها وأكملُهَا.
وَلِهَذَا أحياناً نستدلُّ بالدَّلالةِ العقليَّةِ من زاويةِ القياسِ بالأوْلى، فمثلاً: نقولُ: العُلوُّ صفةُ كمالٍ فِي المخلوقِ، فَإِذَا كَانَ صفةَ كمالٍ فِي المخلوق فَهُوَ فِي الخالقِ من بابٍ أوْلَى، وَهَذَا دائماً نجدُه فِي كلامِ العلماءِ.
فقولُ المؤلِّفِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: ((ولاَ يُقاسُ بخلقِهِ))، بعد قولِهِ: ((لاَ سميَّ ولاَ كفءَ لَهُ، ولاَ نِدَّ لَهُ))، يعني: القياسَ المُقتضِي للمساواةِ، وهُوَ قياسُ الشُّمولِ وقياسُ التَّمثيلِ.
إذًا يمتنعُ القياسُ بَيْنَ اللَّهِ وبَيْنَ الخَلْقِ للتَّبايُنِ بَيْنَهُمَا، وإِذَا كنَّا فِي الأحكامِ لاَ نَقِيسُ الواجِبَ عَلَى الجائزِ، أو الجائزَ عَلَى الواجبِ ففِي بابِ الصِّفاتِ بينَ الخالقِ والمخلوقِ مِنْ بابٍ أوْلى.
لو قَالَ لَكَ قائلٌ: اللَّهُ موجودٌ، والإنسانُ موجودٌ، ووجودُ اللَّهِ كوجودِ الإنسانِ بالقياسِ.
فنقولُ: لاَ يصحُّ؛ لأنَّ وجودَ الخالقِ واجبٌ، ووجودَ الإنسانِ مُمْكنٌ.
فَلَوْ قالَ: أَقِيسُ سَمعَ الخالقِ عَلَى سَمعِ المخلوقِ.
نقولُ: لاَ يُمكنُ، سَمعُ الخالقِ واجبٌ لَهُ لاَ يعتريهِ نقصٌ، وهُوَ شاملٌ لكُلِّ شيءٍ، وسمعُ الإنسانِ ممكنٌ؛ إذْ يجوزُ أنْ يُولَدَ الإنسانُ أصمَّ، والمولودُ سميعاً يلحقُهُ نقصُ السَّمعِ، وسمعُهُ محدودٌ.
إذاً لاَ يمكنُ أنْ يُقاسَ اللَّهُ بخلقِهِ، فكُلُّ صفاتِ اللَّهِ لاَ يمكنُ أنْ تقاسَ بصفاتِ خلقِهِ، لظهورِ التَّبايُنِ العظيمِ بينَ الخالقِ وبينَ المخلوقِ.

(5)قَالَ المؤلِّفُ هَذَا تمهِيَداً وتوطئةً لوجوبِ قبولِ مَا دلَّ عَلَيْهِ كلامُ اللَّهِ تَعالى مِن صفاتِهِ وغيرِهَا، وذلِكَ أنَّهُ يَجِبُ قَبولُ مَا دلَّ عَلَيْهِ الخبرُ إِذَا اجتمعتْ فِيهِ أوصافٌ أربعةٌ:
الأوَّلُ: أنْ يكونَ صادِراً عن عِلمٍ، وإليْهِ الإشارةُ بقولِهِ: ((فإنَّهُ أَعْلَمُ بنَفْسِهِ وبغيرِهِ)).
الوصفُ الثَّاني: الصِّدقُ، وأشارَ إِلَيْهِ بقولِهِ: ((وَأَصْدَقُ قِيلاً)).
الوصفُ الثَّالثُ: البيانُ والفصاحةُ، وأشارَ إِلَيْهِ بقولِهِ: ((وأَحْسَنُ حديثاً)).
الوصفُ الرَّابعُ: سلامةُ القصدِ والإرادةِ، بأنْ يريدَ المخبِرُ هدايةَ مَن أخْبَرَهُمْ.
فدليلُ الأوَّلِ- وهُوَ العِلمُ-: قولُهُ - تَعَالَى -: (وَرَبُّكَ أَعلَمُ بِمَن فِي السَّمَاواتِ وَالأَرضِ وَلَقَدْ فَضَّلنَا بَعضَ النَّبِيينَ عَلَى بَعضٍ) [الإسراء: 55]، فَهُوَ أعلمُ بنَفْسِه وبغيرِهِ من غيرِهِ، فَهُوَ أعلمُ بِكَ من نَفْسِكَ؛ لأنَّهُ يَعلمُ مَا سَيَكُونُ لَكَ فِي المستقبلِ، وأنْتَ لاَ تَعلمُ مَاذَا تَكْسِبُ غدًا؟
وكلمةُ (أَعلَمُ) هُنَا اسمُ تفضيلٍ، ولَقَدْ تحاشَاهَا بعضُ العلماءِ، وفسَّرَ (أَعلَمُ) ب(عالمٍ)، فَقَالَ: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعلَمُ بِالمُهتَدِينَ) [النحل: 125]، أيْ: هُوَ عالِمٌ بَمَنْ ضلَّ عن سبيلِهِ، وَهُوَ عالمٌ بالمهتدِينَ. قالَ: لأنَّ (أَعْلَمُ) اسمُ تَفْضِيلٍ، وهُوَ يَقتضِي اشتِراكَ المفضَّلِ والمفضَّلِ عَلَيْهِِ، وَهَذَا لاَ يَجوزُ بالنِّسبةِ لِلَّهِ، لكنْ (عالمٌ) اسمُ فاعلٍ، ولَيْسَ فِيهِ مقارنةٌ ولاَ تفضيلٌ.
فنقولُ لَهُ: هَذَا غلطٌ، فاللَّهُ يعبِّرُ عن نَفْسِه ويقولُ: (أَعلَمُ) وأنْتَ تقولُ: عالمٌ! وإِذَا فسَّرْنَا (أَعلَمُ) ب(عالمٍ)، فقدْ حططْنَا مَنْ قدرِ علمِ اللَّهِ؛ لأنَّ (عالِمَ) يَشتركُ فِيهِا غيرُ اللَّهِ عَلَى سبيلِ المساواةِ، لكنْ (أَعلَمُ) مقتضاهُ أنْ لاَ يساويَهُ أحدٌ فِي هَذَا العلمِ، فَهُوَ أعلمُ مِنْ كُلِّ عالمٍ، وَهَذَا أكملُ فِي الصفَةِ بلاَ شكٍ.
ونقولُ لَهُ: إنَّ اللُّغةَ العربيَّةَ بالنِّسبةِ لاسمِ الفاعلِ لاَ تمنعُ المساواةَ فِي الوصْفِ، لكنْ بالنِّسبةِ لاسمِ التَّفضيلِ تمنعُ المُشارَكةَ فيمَا دلَّ عَلَيْهِ.
ونقولُ أيضًا: فِي بابِ المقارَنةِ لاَ بأسَ أنْ نقولَ: أعلمُ، بمعنى: أنْ تأتيَ باسمِ التَّفضيلِ، ولو فُرِضَ خُلوُّ المفضَّلِ عليْهِ من ذلِكَ المعنى، كَمَا قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: (أَصحَابُ الجَنَّةِ يَومَئِذٍ خَيرٌ مُّستَقَرًّا وَأَحسَنُ مَقِيلاً) [الفرقان: 24]، فجاءَ باسمِ التَّفضيلِ، مَعَ أنَّ المفضَّلَ عَلَيْهِ ليسَ فِيهِ شيءٌ مِنْهُ إطلاقًا.
وفِي بابِ مجادلةِ الخصمِ ومحاجَّتِهِ يجوزُ أنْ نأتيَ باسمِ التَّفضيلِ، وإنْ كَانَ المفضَّلُ عَلَيْهِِ لَيْسَ فِيهِ شيءٌ مِنْهُ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: (آللَّهُ خَيرٌ أَمَّا يُشرِكُونَ) [النمل: 59]، ومعلومٌ أنَّ مَا يشركُونَ ليسَ فِيهِ خيرٌ، وقَالَ يوسفُ: (أَأَربَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيرٌ أَمِ اللَّهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ) [يوسف: 39]، والأربابُ ليسَ فِيهَا خَيرٌ.
فالحاصلُ أنْ نقولَ: إنَّ (أَعلَمُ) الواردةُ فِي كتابِ اللَّهِ يُرادُ بِها معناها الحقيقيُّ، ومَنْ فسَّرَها ب(عالمٍ)، فَقَدْ أخطأَ مَنْ حَيْثُ المَعْنَى ومَنْ حَيْثُ اللُّغةُ العربيَّةِ.
ودليلُ الوَصْفِ الثَّاني –الصِّدقُ-: قولُهُ - تَعَالَى -: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً)، أيْ: لاَ أَحَدَ أصْدَقُ مِنْهُ، والصِّدْقُ مُطابقةُ الكلامِ للواقعِ، ولاَ شيءَ مِنَ الكلامِ يُطابِقُ الواقِعَ كَمَا يُطابقُهُ كلامُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَ- تَعَالَى -، فكلُ مَا أخبرَ اللَّهُ بهِ فَهُوَ صدقٌ، بلْ أصدقُ مِنْ كُلِّ قولٍ.
ودليلُ الوصفِ الثَّالثِ –البيانُ والفصاحةُ-: قولُهُ - تَعَالَى -: (وَمَن أَصدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا)، وحُسْنُ حديثِهِ يتضمَّنُ الحُسْنَ اللَّفظيَّ والمعنويَّ.
ودليلُ الوصفِ الرَّابعِ – سلامةُ القصدِ والإرادةِ-: قولُهُ - تَعَالَى -: (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُم أَن تَضِلُّوا) [النساء: 176]، (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُم وَيَهدِيَكُم سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبلِكُم) [النساء: 26].
فاجتمعَ فِي كلامِ اللَّهِ الأوصافُ الأربعةُ الَّتِي توجبُ قَبولَ الخَبرِ.
وإِذَا كَانَ كذلِكَ، فإنَّهُ يجبُ أنْ نقبلَ كلامَهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، وأنْ لاَ يلحقَنَا شكٌّ فِي مدلولِهِ؛ لأنَّ اللَّهَ لَمْ يتكلَّمْ بهَذَا الكلامِ لأجْلِ إضلالِ الخلقِ، بلْ لِيُبيِّنَ لَهُمْ ويهديَهُمْ، وصَدَرَ كَلامُ اللَّهِ عنْ نَفْسِه أوْ عَنْ غيْرِهِ عَنْ أعلمِ القائِلينَ، ولاَ يمكنُ أنْ يعتريَهُ خلافُ الصِّدقِ، ولاَ يمكنُ أنْ يكونَ كلاماً عييًّا غيرَ فصيحٍ، وكلامُ اللَّهِ لَو اجتمعتِ الإنسُ والجنُ عَلَى أنْ يأتُوا بمثلِهِ لَمَا استطاعُوا، فَإِذَا اجتمعتْ هذِهِ الأمورُ الأربعةُ فِي الكلامِ وَجَبَ عَلَى المخاطَبِ القَبولُ بمَا دلَّ عليْهِ.
مثالُ ذلِكَ: قولُهُ - تَعَالَى - مُخاطِباً إبليسَ: (مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) [ص: 75] قَالَ قائلٌ: فِي هذِهِ الآيةِ إثباتُ يَدَيْنِ لِلَّهِ - عزَّ وجلَّ - يَخْلُقُ بَهِمَا مَنْ شاءَ، فنُثبِتهُمَا؛ لأنَّ كلامَ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ - صادِرٌ عَنْ عِلمٍ وصِدقٍ، وكلامُهُ أَحْسنُ الكلامِ وأفصحُهُ وأَبْيَنُهُ، ولاَ يُمْكِنُ أنْ لاَ يكونَ لَهُ يدانِ، لكنْ أرادَ مِنَ النَّاسِ أنْ يعتقدُوا ذلِكَ فِيهِ، ولو فُرِضَ هَذَا لكَانَ مقتضاهُ أنَّ القُرآنَ ضلالٌ، حَيْثُ جاءَ بوصفِ اللَّهِ بمَا لَيسَ فِيهِ، وَهَذَا ممتنعٌ، فَإِذَا كَانَ كَذلِكَ وَجَبَ عليْكَ أنْ تُؤْمِنَ بأنَّ لِلَّهِ - تَعَالَى - يَديْنِ اثنتَيْنِ خَلَقَ بهِمَا آدمَ.
وإِذَا قلْتَ: المرادُ بهِمَا النِّعمةُ أو القُدرةُ.
قُلْنَا: لاَ يمكنُ أنْ يكونَ هَذَا هُوَ المرادُ، إلاَّ إِذَا اجترأْتَ عَلَى ربِّكَ، ووصفْتَ كلامَهُ بضدِّ الأوصافِ الأربعةِ الَّتِي قُلْنَا، فنقولُ: هلِ اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - حينمَا قَالَ (بِيَدَيَّ): عالِمٌ بأنَّ لَهُ يَدَيْنِ؟ فسيقولُ: هُوَ عالِمٌ، فنقولُ: هلْ هُوَ صادقٌ؟ فسيقولُ: هُوَ صادقٌ بلاَ شكٍّ، ولاَ يستطيعُ أنْ يقولَ: هُوَ غيرُ عالمٍ، أَوْ غيرُ صادقٍ، ولاَ أنْ يقولَ: عبَّرَ بِهمَا وَهُوَ يريدُ غيرَهُمَا عَيًّا وعَجْزًا، ولاَ أنْ يقولَ: أرادَ مِنْ خَلقِهِ أنْ يؤمنُوا بمَا ليسَ فِيهِ مِنَ الصِّفاتِ إضلالاً لَهُمْ، فنقولُ لَهُ: إذاً مَا الَّذِي يمنعُكَ أنْ تُثْبِتَ لِلَّهِ اليَدَيْنِ؟! فاستغفِرْ ربَّكَ، وتُبْ إِلَيْهِ، وقُلْ: آمنتُ بمَا أخبرَ اللَّهُ بِهِ عنْ نَفْسِهِ؛ لأنَّهُ أَعلمُ بنَفْسِهِ وبغيْرِهِ، وأصدقُ قِيلاً، وأَحسنُ حديثًا من غيْرِهِ، وأتمُّ إرادةً مِنْ غيْرِهِ أيضًا.
وَلِهَذَا أتى المؤلِّفُ -رَحِمَهُ اللَّهُ- بهذِهِ الأوصافِ الثَّلاثةِ، ونَحْنُ زِدْنَا الوَصْفَ الرَّابِعَ، وهُوَ: إرادةُ البَيانِ للخلقِ وإرادةُ الَهِدَايةِ لَهُمْ، لقولِهِ - تَعَالَى -: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبلِكُمْ) [النساء: 26].
هَذَا حُكْمُ مَا أخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ بكلامِهِ الَّذِي هُوَ جامِعٌ للكمالاتِ الأربعِ فِي الكَلامِ.