الدروس
course cover
منهج أهل السنة في باب الأسماء والصفات
11 Nov 2008
11 Nov 2008

9727

0

2

course cover
العقيدة الواسطية

القسم الأول

منهج أهل السنة في باب الأسماء والصفات
11 Nov 2008
11 Nov 2008

11 Nov 2008

9727

0

2


2

0

0

0

0

منهج أهل السنة في باب الأسماء والصفات

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وَمِن الإِيمَانِ باللهِ الإِيمَانُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ ، وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم منْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلاَ تَعْطِيلٍ ، وَمنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلاَ تَمْثِيلٍ).

هيئة الإشراف

#2

23 Nov 2008

التنبيهات اللطيفة فيما احتوت عليه الواسطية من المباحث المنيفة لابن سعدي رحمه الله


قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): (ومنَ الإيمانِ بالله، الإيمانُ بما وصفَ به نَفْسَهُ في كتابِه وبما وصَفَهُ به رسولُهُ محمدٌ صلى الله عليه وسلم من غيرِ تحريفٍ ولا تعطيلٍ، ومن غير تكييفٍ ولا تمثيلٍ([1]).

ذكر المصنِّف رحمه الله هذا الأصل والضّابطَ العظيم في الإيمان بالله إجمالاً قبل أن يشرع في التفصيل ليبني العبد على هذا الأصل جميع ما يردُّ عليه من الكتاب والسُّنة فيستقيم له إيمانه ويسلم من الانحراف؛ فذكر أنه يجب ويتعين الإيمان بكل ما أخبر الله به في كتابه وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم إيماناً صحيحاً سالماً من التحريف والتعطيل وسالماً من التكييف والتمثيل بل يثبت ما أثبته الله ورسوله ولا يزيد على ذلك ولا ينقص، فإن الكلام على ذات الباري وصفاته واحد فكما أن لله ذات لا شبه الذوات فله تعالى صفات لا تشبهها الصفات، فمن مال إلى نفي الصِّفات أو بعضها فهو نافٍ معطل محرِّف، ومن كيَّفها أو مثَّلها بصفات الخلق فهو ممثل مشبِّه.
والفرق بين التحريف والتعطيل:
أن التعطيل نفيٌ للمعنى الحق الذي دلّ عليه الكتاب والسنَّةُ.
والتحريف: تفسير للنصوص بالمعاني الباطلة التي لا تدلّ عليها بوجه من الوجوه.
فالتحريف والتعطيل قد يكونان متلازمين إذا أثبت المعنى الباطل ونُفِيَ المعنى الحق، وقد يوجد التعطيل بلا تحريف، كما هو قول النافين للصفات، الذين ينفون الصفات الواردة في الكتاب والسُّنَّة، ويقولون ظاهرها غير مراد، ولكنهم لا يعينون معنى آخر ويسمون أنفسهم مفوِّضة ويظنون أن هذا مذهب السلف وهو غلط فاحش، فإنّ السلف يثبتون الصفات، وإنما يفوِّضون علم كيفيَّتها إلى الله فيقولون ا لوصف المذكور معلوم، والكيف مجهول والإيمان به واجب، وإثباته واجب و السؤال عن كيفيته بِدعة، كما قال الإمام مالك وغيره في الاستواء.
وأما قوله: (من غير تكييف ولا تمثيل) فالفرق بينهما:
- أن التكييف: هو تكييف صفات الله والبحث عن كنهها،
- والتمثيل: أن يقال فيها مثل صفات المخلوقين. ونفي الكفؤ والنِّد والسمي ينفي ذلك التكييف والتمثيل).


تعليقات ابن باز على شرح السعدي على الواسطية

قال الشيخ عبد العزيز بن عبد الله ابن باز (ت: 1420هـ): ( ([1]) "التحريف": معناه تغيير ألفاظ الأسماء والصفات، أو تغيير معانيها.
كقول الجهمية في:]استوى [: استولى. وكقول بعض المبتدعة: إن معنى " الغضب في حق الله " إرادة الانتقام، وأن معنى " الرحمة " كذلك إرادة الإنعام.
وكل هذا تحريف. فقولهم:]استوى [: استولى؛ من تحريف اللفظ.
وقولهم: الرحمة: إرادة الإنعام. والغضب: إرادة الانتقام؛ من تحريف المعنى.
والقول الحق أن معنى الاستواء: الارتفاع والعلو كما هو صريح لغة العرب، وجاء به القرآن، ليدل على أن معناه: الارتفاع والعلو على العرش، على وجه يليق بجلال الله وعظمته.
وكذا الغضب والرحمة: صفتان حقيقيتان، تليقان بجلال الله وعظمته كسائر الصفات الواردة في القرآن والسنة.
و "التعطيل": معناه سلب الصفات، ونفيها عن الله تعالى.
وهو مأخوذ من قولهم: جِيدٌ مُعَطَّلٌ أي خال من الحُلْي.
فـ " الجهمية " وأشباههم قد عطلوا الله عن صفاته، فلذلك سموا بالمعطلة.
وقولهم هذا من أبطل الباطل إذ لا يعقل وجود ذات بدون صفات، والقرآن والسنة متضافران على إثبات هذه الصفات على وجه يليق بجلال الله وعظمته.
و " التكييف ": معناه بيان الهيئة التي تكون عليها الصفات.
فلا يقال: كيف استوى؟ كيف وجهه؟ ونحو ذلك؛ إذ القول في الصفات كالقول في الذات يحتذى حذوه ويقاس عليه، فكما أن له ذاتا ولا نعلم كيفيتها فكذلك له صفات ولا نعلم كيفيتها، إذْ لا يعلم ذلك إلا هو، مع إيماننا بحقيقة معناها.
وأما " التمثيل " فمعناه: التشبيه.
فلا يقال: ذات الله مثل ذواتنا، أو شبه ذواتنا، وهكذا.
فلا يقال في صفاته: إنها مثل صفاتنا، أو شبه صفاتنا، بل على المؤمن أن يلتزم قوله تعالى:]لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [ [ الشورى: 11 ]، و:]هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [ [ مريم: 65 ]. والمعنى: لا أحد يُساميه أي يشابهه.
* فائدة: ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، قال: " إذا قال لك: نُؤَوِّل معنى الغضب: إرادة الانتقام، والرحمة: إرادة الإنعام، فقل: وهل إرادة الخالق تشبه إرادة المخلوق، أم أنها إرادة تليق بجلاله وعظمته؟
فإن قال الأول: فقد شبه، وإن قال الثاني فقل: ولم لا تقل: رحمة وغضب يليقان بجلاله وعظمته، وبذلك تحجه وتَخْصِمُه " ا هـ).

هيئة الإشراف

#3

23 Nov 2008

شرح العقيدة الواسطية للشيخ مُحمَّد خَليل هَرَّاس رحمه الله

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (ومِنَ الإِيْمانِ باللهِ: الإِيمانُ بِمَا وَصَفَ بهِ نَفْسَهُ في كِتابِهِ العَزيزِ، وبِمَا وَصَفَهُ بهِ رَسُولُهُ محمَّدٌ صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ، مِنْ غَيْرِ تَحْريفٍ ولا تَعْطيلٍ، ومِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ ولا تَمْثيلٍ(1) ).

الشرح:

قال الشيخ محمد خليل هراس (ت: 1395هـ): ( (1) وقولُهُ: (ومِن الإِيمانِ باللهِ.. إلخ): هذا شروعٌ في التَّفصيلِ بعدَ الإِجمالِ، و(مِن) هنَا للتبعيضِ، والمعنى: ومِن جملةِ إيمانِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ بالأصلِ الأوَّلِ الذي هوَ أعظمُ الأصولِ وأساسُهَا، وهوَ الإيمانُ باللهِ: أنَّهُمْ يؤمنون بما وصفَ بهِ نفسَهُ … إلخ.
وقولُهُ: (مِن غيرِ تحريفٍ) متعلِّقٌ بالإِيمانِ قبلَهُ؛ يعني أنَّهمْ يؤمنونَ بالصفاتِ الإِلهيَّة على هذا الوجهِ الخالي من كلِّ هذهِ المعاني الباطلةِ؛ إثباتًا بلا تمثيلٍ، وتنـزيهًا بلا تَعطيلٍ.
والتَّحريفُ في الأصلِ مأخوذٌ مِن قولِهِمْ: حَرَفْتُ الشَّيءَ عن وجهِهِ حَرْفًا، من بابِ ضَرَبَ؛ إذَا أَمَلْتَهُ وغَيَّرْتَهُ، والتَّشديدُ للمبالغةِ.
وتحريفُ الكلامِ: إمالتُه عن المعنى المتبادِرِ منهُ إلى معنىً آخرَ لا يدُلُّ عليهِ اللَّفظُ إلاَّ باحتمالٍ مرجوحٍ، فلا بُدَّ فيهِ مِن قرينةٍ تُبَيِّنُ أَنَّهُ المرادُ.
وأَمَّا التَّعطيلُ؛ فهوَ مأخوذٌ مِن العَطْلِ، الذي هوَ الخُلُوُّ والفراغُ والتَّرْكُ، ومنهُ قولُهُ تعالى:{وبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ}.أي: أَهْملَهَا أَهلُهَا، وتركوا وِرْدَهَا.
والمرادُ بهِ هنَا نفيُ الصفاتِ الإِلهيةِ، وإنكارُ قيامِهَا بذاتِهِ تعالى.
فالفرقُ بينَ التَّحريفِ والتَّعطيلِ: أنَّ التَّعطيلَ نفيٌ للمعنى الحقِّ الذي دلَّ عليهِ الكتابُ والسُّنَّة، وأَمَّا التَّحريفُ؛ فهوَ تفسيرُ النُّصوصِ بالمعاني الباطلةِ التَّي لا تدلُّ عليهَا.والنِّسبةُ بينَهمَا العمومُ والخصوصُ المطلقُ، فإنَّ التَّعطيلَ أعمُّ مُطلقًا مِن التَّحريفِ؛ بمعنى أَنَّهُ كلما وُجِدَ التَّحريفُ؛ وُجدَ التَّعطيلُ؛ دونَ العكسِ، وبذلكَ يوجدانِ معًا فيمَنْ أثبتَ المعنى الباطلَ، ونفَى المعنى الحقَّ، ويوجدُ التَّعطيلُ بدونِ التَّحريفِ فيمَنْ نفى الصفاتِ الواردةَ في الكتابِ والسُّنَّةِ، وزعمَ أنَّ ظاهرَهَا غيرُ مرادٍ، ولكنَّهُ لمْ يُعَيِّنْ لهَا معنىً آخرَ، وهوَ ما يُسَمُّونَهُ بالتَّفويضِ.
ومِن الخطأِ القولُ بأنَّ هذا هوَ مذهبُ السَّلفِ؛ كمَا نسبَ ذلكَ إليهِم المتأخرونَ مِن الأشاعرةِ وغيرِهمْ، فإنَّ السَّلفَ لمْ يكونوا يفوِّضون في عِلمِ المعنى، ولا كانَوا يقرؤون كلاماً لا يَفْهَمَونَ مَعْنَاهُ، بلْ كانُوا يَفْهَمُونَ معانيَ النُّصوصِ مِن الكتابِ والسُّنَّةِ، ويُثبتونَهَا للهِ عزَّ وجلَّ، ثمَّ يُفَوِّضُونَ فيمَا وراءَ ذلكَ من كُنْهِ الصفاتِ أو كيفيَّاتِهَا؛ كمَا قالَ مالكٌ حينَ سُئِلَ عن كيفيَّةِ استوائِهِ تعالى على العرشِ: ((الاستواءُ معلومٌ، والكيفُ مجهولٌ)).
وأَمَّا قولُهُ: (ومِن غيرِ تكييفٍ ولا تمثيلٍ)؛ فالفرقُ بينهمَا أنَّ التَّكييفَ أنْ يعتقدَ أنَّ صفاتَهُ تعالى على كيفيَّةِ كذا، أو يَسألُ عنْها بكيفَ.وأَمَّا التَّمثيلُ؛ فهوَ اعتقادُ أنَّهَا مثلُ صفاتِ المخلوقين.
وليسَ المرادُ مِن قولِهِ: (مِن غيرِ تكييفٍ) أنَّهمُ يَنْفُونَ الكيفَ مطلقًا؛ فإنَّ كلَّ شيءٍ لا بُدَّ أنْ يكونَ على كيفيَّةٍ ما، ولكنَّ المرادَ أنَّهمُ يَنْفُونَ عِلْمَهُمْ بالكَيْفِ، إذْ لا يعلمُ كيفيَّةَ ذاتِهِ وصفاتِهِ إلاَّ هوَ سبحانَهُ.

هيئة الإشراف

#4

23 Nov 2008

شرح العقيدة الواسطية للشيخ: صالح بن فوزان الفوزان

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وَمِنَ الإيمانِ بِاللهِ: الإيمانُ بِما وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ في كِتابِهِ، وَوَصَفَهُ بِهِ رَسولُهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غيرِ تحْريفٍ ولا تعطيلٍ، ومِن غيرِ تكييفٍ ولا تمثيلٍ.(1) ).

الشرح:

قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: ((1) بعد ما ذكَر المصنِّفُ رحمه اللهُ الأُصولَ التي يجبُ الإيمانُ بها مُجْمَلةً، شرَعَ يذكُرُها عَلى سبيلِ التَّفصيلِ، وبدأَ بالأصلِ الأوَّلِ، وهو الإيمانُ باللهِ تعالى، فذكر أنَّه يدْخلُ فيه الإيمانُ بصِفاتِه التي وصفَ نفْسَه بها في كتابهِ، أو وصفَه بها رسولُه في سُنَّتهِ وذلك بأن نُثْبتَهَا له كما جاءت في الكتابِ والسُّنَّةِ بألفاظِها ومَعَانِيها من غيرِ تحريفٍ لألفاظِهَا ولا تعْطيلٍ لمعانِيها ولا تشبيهٍ لها بصفاتِ المخلوقين. وأنْ نعتمدَ في إثباتِهَا عَلى الكتابِ والسُّنَّةِ فقط، لا نتجاوزُ القرآنَ والحديثَ، لأنَّها توْقِيفيَّةٌ.
والتَّحْرِيفُ: هو التغييرُ وإِمالةُ الشيْءِ عَن وَجْهِه، يقالُ: انحرف عَن كذا. إذا مال ـ وهو نوعانِ: ـ
النَّوعُ الأوَّلُ: تحريفُ اللَّفظِ، وهو العُدولُ به عَن جِهَتِه إلى غيرِها، إِمَّا بزيادةِ كلمةٍ أو حَرْفٍ أو نُقْصَانهِ أو تغييرِ حَركةٍ كقولِ أهلِ الضَّلالِ في قوله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوَى) أي: استولى! فزادوا في الآيةِ حرفًا. وكقولهِم في قولِه تعالى: (وَجَاءَ رَبُّكَ) أي: أمرُ رَبِّك. فزادوا كلمةً. وكقولهِم في قولِه تعالى: (وَكلّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيماً) بِنَصْبِ لَفظِ الجلالةِ، فغيَّروا الحركةَ الإعرابيّةَ مِن الرَّفعِ إلى النَّصْبِ.
النوعُ الثاني: تحريفُ المعنَى ـ وهو العُدولُ به عَن وجهِه وحقيقتِه، وإعطاءُ اللَّفظِ معنَى لفظٍ آخَرٍ، كقولِ المبتدعةِ: إنَّ معنَى الرَّحمةِ: إرادةُ الإنعامِ. وإنّ معنَى الغضبِ إرادةُ الانتقامِ.
والتَّعطيلُ: لغةً الإخلاءُ ـ يقالُ عطَّله أي: أخلاه، والمرادُ به هنا نفيُ الصِّفاتِ عَن اللهِ سبحانَه وتعالى. والفرقُبين التَّحريفِ والتَّعطيل: أنَّ التحريفَ هو: نفْيُ المعنَى الصَّحيحِ، الذي دلّت عليه النُّصوصُ، واستبدالُه بمعنًى آخرَ غيرِ صَحيحٍ. والتَّعطيلُ هو: نفيُ المعنَى الصَّحيحِ مِن غيرِ استبدالٍ له بمعنًى آخرَ، كفِعلِ المُفَوِّضَةِ ـ فكُلُّ مُحرِّفٍ مُعَطِّلٌ، وليس كُلُّ مُعَطِّلٍ مُحَرِّفًا.
والتَّكْييفُ: هو تعيينُ كيفيّةِ الصِّفَةِـ يقالُ: كيّف الشيْءَ، إذا جَعلله كيفيَّةً معلومةً، فتكييفُ صفاتِ اللهِ هو تعيينُ كيفيَّتِهَا والهيئةِ التي تكونُ عليها، وهذا لا يمكنُ للبَشرِ؛ لأنَّه ممّا استأثر اللهُ تعالى بعلمِه، فلا سبيلَ إلى الوصولِ إليه؛ لأنَّ الصفةَ تابعةٌ للذّاتِ، فكما أنَّ ذاتَ اللهِ لا يمكنُ للبشرِ معرفةُ كيفيَّتِهَا ـ فكذلك صفتُه سبحانَه لا تُعْلَمُ كيفيَّتُهَا. ولهذا لما سُئِل الإمامُ مالكٌ رحمه اللهُ فقيل له: (الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوَى) كيْفَ استوى؟ فقال: الاستواءُ، معلومٌ والكيفُ مجهولٌ، والإيمانُ به واجبٌ والسُّؤالُ عنه بدعةٌ. وهذا يُقالُ في سائرِ الصِّفاتِ.
والتَّمثيلُ: هو التَّشبيهُ، بأَن يقالَ: إنَّ صفاتِ اللهِ مثلُ صِفاتِ المخلوقين، كأنْ يقالَ: يدُ اللهِ كأيدِينا، وسمعُه كسمعِنَا تعالى اللهُ عَن ذلك، قال تعالى في الآيةِ (11) مِن سورةِ الشورى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) فلا يقالُ في صفاتِه: إنَّها مِثلُ صفاتِنا أو شِبْهُ صفاتِنا أو كصفاتِنَا ـ كما لا يقالُ: إنَّ ذاتَ اللهِ مثلُ أو شِبْهُ ذواتِنا ـ فالمؤمنُ الموحِّدُ يثبتُ الصفاتِ كُلَّها عَلى الوجهِ اللائقِ بعَظمةِ اللهِ وكبريائِه. والمعطِّلُ ينفِيهَا أو ينفِي بعضَها. والمشبِّهُ الممثِّلُ يثبتُهَا عَلى وجهٍ لا يليقُ باللهِ، وإنَّما يليقُ بالمخلوقِ.

هيئة الإشراف

#5

23 Nov 2008

الروضة الندية للشيخ: زيد بن عبد العزيز بن فياض رحمه الله

المتن:

قال أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (أَمَّا بَعْدُ: فَهَذَا اعْتِقادُ الفِرْقةِ النَّاجِيَةِ الْمنْصُورَةِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ ، أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَة).


الشرح:

قال الشيخ زيد بن عبد العزيز بن فياض (ت: 1416هـ): ( ((ومِنَ الإِيمانِ باللهِ : الإِيمانُ بِمَا وَصَفَ بهِ نَفْسَهُ في كِتابِهِ العَزيزِ، وبِمَا وَصَفَهُ بهِ رَسُولُهُ محمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ غَيْرِ تَحْريفٍ ولا تَعْطيلٍ، ومِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ ولا تَمْثيلٍ)).
ومِن هنا إلى آخِرِ العقيدةِ كالتَّفْصيلِ لِمَا سَبَقَ .
وذَكَرَ في هذه الجُملةِ قاعدةَ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ في الصِّفاتِ ، وهِي أنَّهم يَصِفُونَ اللَّهَ بما وَصَفَ به نفْسَهُ ، وبِمَا وصَفَهُ به رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إثباتاً بلا تَمْثيلٍ ، وتَنْزِيهاً بلا تَعْطيلٍ ، كما قَالَ الإمامُ أحمدُ رَحِمَهُ اللَّهُ : لا يُوَصَفُ إلاَّ بِما وَصَفَ به نفْسَهُ أوْ وصَفَهُ به رَسُولُهُ، لا يُتَجاوَزُ القرآنُ والحديثُ؛ وقَالَ نُعَيْمُ بنُ حمَّادٍ شيخُ البُخارِيِّ رحمِهَما اللَّهُ : ومَنْ شَبَّهَ اللَّهَ بِخَلْقِه كَفَرَ، ومَن جَحَدَ ما وصَفَ اللَّهُ بهِ نفْسَهُ كَفَرَ، ولَيْسَ فيما وصَفَ اللَّهُ بهِ نفْسَهُ أو وصَفَهُ به رَسُولُهُ تَشْبيهٌ ولا تَمْثيلٌ. وقَالَ الإمامُ الشَّافِعيُّ رحِمه اللَّهُ : لِلَّهِ أسماءٌ وصِفاتٌ لا يَسَعُ أحداً جهْلُها، فمَن خالَفَ بعدَ ثُبوتِ الحُجَّةِ عليه كَفَرَ، وأمَّا قَبْلَ قِيامِ الحُجَّةِ فيُعْذَرُ بالجَهْلِ .
وقَالَ الشَّيْخُ : ومَنْ شَكَّ في صِفةٍ مِن صِفاتِ اللَّهِ ومِثْلُهُ لا يجهَلُها فمُرْتَدٌّ، وإنْ كان مِثْلُهُ يجهَلُها لَيْسَ بمُرْتٍَدٍّ.
ولا يُوصَفُ اللَّهُ إلاَّ بما وصَفَ به نفْسَهُ أو وَصَفَهُ به رَسُولُهُ ؛ لأنَّ بابَ الأسماءِ والصِّفاتِ تَوْقِيفِيٌّ ، فلا يَتَجاوَزُ القرآنَ والحديثَ ، كما قَالَ الإمامُ أحمدُ وغيرُهُ مِن السَّلَفِ . وقولُهُ : مِن غيرِ تحريفٍ ولا تعطيلٍ إلخ . فأهلُ السُّنَّةِ وسَطٌ بين فِرَقِ الضَّلالِ ، فالجَهْمِيَّةُ والمُعْتزِلَةُ ومَن تَبِعَهُم نَفَوْا الصِّفَاتِ وعطَّلُوها ، وكذلك الأشْعَرِيَّةُ نَفَوْا بعضاً وأَثْبَتُوا بعضاً .
والمُشَبِّهَةُ كدَاودَ الجَوَارِبِيِّ ، وهِشامِ بنِ الحَكَمِ الرَّافضيِّ غَلَوْا في الإثباتِ فَضَلُّوا ، وهَدَى اللَّهُ أهلَ السُّنَّةِ للطريقِ الأَمْثَلِ .
وما أحسْنَ المَثَلَ المَضْروبَ للمُثْبِتِ للصِّفاتِ مِن غيرِ تشبيهٍ ولا تعطيلٍ باللَّبَنِ الخالِصِ السَّائغِ للشَّارِبِينَ يخرُجُ مِن بين فَرْثِ التَّعطيلِ ودَمِ التَّشبيهِ . قَالَ بعضُ العلماءِ : المُعَطِّلُ يَعبدُ عدَماً، والمُمَثِّلُ يَعبدُ صَنَماً، والمُوَحِّدُ يَعبدُ إلهاً واحِدا فرْداً صَمَداً .
وقَالَ الخطَّابيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَذْهَبُ السَّلَفِ إجراءُ آياتِ الصِّفَاتِ وأحادِيثِها على ظاهِرِها مَعَ نَفْيِ الكَيْفيَّةِ والتَّشبيهِ عنها . إذِ الكلامُ في الصِّفَاتِ فَرْعٌ على الكَلامِ في الذاتِ يُحْتَذَى فيه حَذْوه ، ويُتَّبَعُ فيه مِثَالُهُ . فإذا كان إثباتُ الذَّاتِ إثباتَ وُجودٍ لا إثباتَ تَكْييفٍ فكذلك إثباتُ الصِّفَاتِ إثباتُ وُجودٍ لا إثباتُ تَكْييفٍ . وقد يُعَبِّرُونَ عن ذلك بقولهم تُمَرُّ كما جاءَتْ ولا يُتَعَرَّضُ لها بتأْوِيلٍ ، ومُرادُهم أنَّه يجِبُ إثباتُ حقيقةِ الصِّفَاتِ دونَ التَّكْييفِ ، وقد يَظُنُّ مَنْ يُنْسبُ لهم أنَّهم أرَادُوا التَّفويضَ أوْ أنَّها مِن المُتَشابهِ ، وهذا ظَنٌّ خاطِئٌ .
قَالَ الشَّيْخُ : وأمَّا إدخالُ أسماءِ اللَّهِ وصِفاتهِ أو بعضِ ذلك في المُتشابهِ الَّذِي لا يَعْلَمُ تأويلَهُ إلاَّ اللَّهُ ، أوِ اعتقادُ أنَّ ذلك هو المُتشابِهُ الَّذِي استأثَرَ اللَّهُ بعِلْمِ تأويلِهِ ، كما يقولُ كُلَّ واحدٍ مِن القوْلَيْنِ طَوائِفُ مِن أصحابِنا وغيرِهِم . فإنَّهم وإنْ أَصابوا في كثيرٍ مما يقولون ونَجَوْا مِن بِدَعٍ وقَعَ فيها غيرُهُم ، فالكلامُ على هذا مِن وَجْهَيْنِ :
( الأَوَّلُ ) : أنِّي لا أعْلَمُ عن أحدٍ مِن سلَفِ الأُمَّةِ ولا مِن الأئمَّةِ لا أحمدَ بنِ حنبلٍ ، ولا غيرِهِ أنَّه جَعَلَ ذلك مِن المُتشابهِ الدَّاخِلِ في هذه الآيةِ ، ونَفَى أنْ يَعْلَمَ معناه أحدٌ ، وجعلوا أسْماءَ اللَّهِ وصِفاتِهِ بمَنْزِلةِ الكلامِ الأعجميِّ الَّذِي لا يُفْهَمُ ، ولا قالوا : إنَّ اللَّهَ يُنَزِّلُ كلاماً لا يَفْهَمُ مَعْناه أحدٌ ، وإنَّما قالوا : كلماتٌ لها مَعَانٍ صحيحةٌ ، قالوا في أحاديثِ الصِّفَاتِ : تمُرُّ كما جاءَتْ ، ونَهَوْا عن تأويلاتِ الجَهْمِيَّةِ ورَدُّوها وأبْطَلُوها . . ويُقِرُّونَ النُّصوصَ على ما دلَّتْ عليه مِن معناها ، ويَفْهَمونَ منها بعضَ ما دلَّتْ عليه ، كما يَفْهمونَ ذلك في سائِرِ نُصوصِ الوَعْدِ والوعيدِ والفضائلِ وغيرِ ذلك .
وأحمدُ قد قَالَ في غيرِ أحاديثِ الصِّفَاتِ : تمُرُّ كما جاءتْ في أحاديثِ الوعيدِ مِثْلَ :"مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا" . وأحاديثِ الْفَضَائِلِ . ومَقْصُودُه : أنَّ الحديثَ لا يُحَرَّفُ كَلِمُه عَن مَواضعِهِ كما يَفْعلُهُ مَن يُحَرِّفُهُ، وسُمِّيَ تحريفُه تأويلاً بالْعُرْفِ المتأخِّرِ، فتأويلُ هَؤُلاَءِ المتأخرين عند الأئمَّة تحريفٌ باطلٌ، وكذلك نصَّ أحمدُ في كتابِ الردِّ على الجهميِّةِ والزنادقةِ أنَّهم تمَسَّكوا بمتشابِه القُرآنِ وتَكَلَّمَ أحمدُ على ذلك المُتشابِهِ وبيَّنَ معناه وتفسيرَهُ بما يُخالِفُ تأويلَ الجهميةِ ، وجَرى ذلك على سُنَنِ الأئمةِ قَبْلَهُ .
وقَالَ الشَّيْخُ أيضاً : وأمَّا التَّفويضُ فمَعْلُومٌ أنَّ اللَّهَ أمَرَنا أنْ نتدبَّرَ القرآنَ ، وحَضَّنا على عقْلِهِ وفهْمِهِ ، فَكَيْفَ يجوزُ مَعَ ذلك أنْ يُرادَ مِنَّا الإعراضُ عن فهْمِه ومعرِفَتِه وعقْلِه ؟ وحقيقةُ قولِ هَؤُلاَءِ ( أهَلِ التَّفويضِ ) في المخاطِبِ لنا أنَّه لم يُبَيِّنِ الحقَّ ولا أوْضَحَه مَعَ أمْرِه لنا أنْ نَعتَقِدَه ، وأنَّ ما خاطَبَنا به وأمَرَنا باتِّباعِه والردِّ إليه لم يُبَيِّنْ به الحقَّ ولا كشَفَهُ ، بلْ دلَّ ظاهِرُه على الكُفْرِ والباطلِ ، وأراد مِنَّا أنْ لا نَفْهَمَ منه شيئاً ، أو أنْ نفهَمَ منه ما لا دليلَ عليه فيه ، وهذا كلُّه مما يُعلم بالاضْطِرارِ تنزيهُ اللَّهِ ورَسُولِهِ عنه ، وأنَّه مِنْ جنسِ أقوالِ أهلِ التَّحريفِ والإلحادِ . اهـ . ((مِنْ غيرِ تحريفٍ ولا تعطيلٍ)) التَّحريفُ صرْفُ الكلامِ عن ظاهِرِه .
قَالَ فِي "القاموسِ" : التَّحريفُ التَّغييرُ ، وقَطُّ القلَمِ مُحَرَّفاً وَاحْرَوْرَفَ : مَالَ وعَدَلَ كانْحَرَفَ . وقَالَ الراغِبُ في "مُفرداتِهِ" : تحريفُ الشَّيْءِ إمالَتُه كتحريفِ القلَمِ ، وتحريفُ الكلامِ أن تجعَلَهُ على حرْفٍ مِن الاحتمالِ يمكنُ حمْلُهُ على الوجهيْنِ ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ)، وقَالَ ابنُ القيِّمِ : فالتَّحريفُ تحريفُ المعاني بالتَّأويلاتِ الَّتِي لم يُرِدْها المتكلِّمُ بها . والتَّبديلُ تبديلُ لفظٍ بلفظٍ آخَرَ . والكتمانُ جحْدُه، وهذه الأدواءُ الثلاثةُ منها غيَّرَتِ الأديانَ والمِلَلَ . اهـ، وقَالَ في موضعٍ آخرَ : والتَّحريفُ نوعانِ تحريفُ اللَّفْظِ وتحريفُ المعنى . فتحريفُ اللَّفْظِ العدولُ عن جهتِه إلى غيرِها إمَّا بزيادةٍ وإمَّا بنُقْصانٍ ، وإمَّا بتغييرِ حركةٍ إعرابيَّةٍ ، وإمَّا غيرِ إعرابيَّةٍ . فهذه أربعةُ أنواعٍ ، وقد سلَكَ فيها الجهميَّةُ ، والرافضةُ ؛ فإنَّهم حرَّفُوا نُصوصَ الحديثِ ، ولم يتمكَّنُوا مِن ذلك في ألفاظِ القرآنِ . وإن كان الرافضةُ حرَّفُوا كثيراً مِن لفظِهِ ، وادَّعَوا أنَّ أهلَ السُّنَّةِ غيَّرُوهُ عن وجْهِهِ . وأما تحريفُ المعنى فهذا الَّذِي جالوا فيه وصالوا وتَوَسَّعوا وسمَّوْه تأويلاً ، وهو اصطلاحٌ فاسِدٌ حادِثٌ لم يُعْهَدْ به استعمالٌ في اللُّغَةِ وهو العُدولُ بالمعنى عن وجْهِه وحقيقتِه ، وإعطاءُ اللَّفْظِ معنَى لفظٍ آخَرَ بقدْرٍ ما مُشْترَكٍ بينَهما .
وأصحابُ تحريفِ الألفاظِ شرٌّ مِن هَؤُلاَءِ مِن وجهٍ ، وهَؤُلاَءِ شرٌّ مِن وجهٍ ، فإنَّ أولئكَ عدَلُوا باللَّفْظِ والمعنى عمَّا هما عليه فأفْسَدوا اللَّفْظَ والمعنى ، وهَؤُلاَءِ ترَكُوا اللَّفْظَ على حالِه فكانوا خيْراً مِن أولئك مِن هذا الوجهِ ، ولكنَّ أولئك لمَّا أرادوا المعنى الباطلَ صرَفوا له لفظاً يصلُحُ له لئلا يتنافَرَ اللَّفْظُ والمعنى بحَيْثُ إذا أُطْلِقَ ذلك اللَّفْظُ المحَرَّفُ فُهِمَ منه المعنى المحرَّفُ ، فإنَّهم رَأَوْا أنَّ العُدولَ بالمعنى عن وجهِه وحقيقتِه مَعَ بقاءِ اللَّفْظِ على حالِه ممَّا لا سبيلَ إليه فبدَءُوا بتحريفِ اللَّفْظِ ليَستقِيمَ لهم حُكْمُهم على المعنى الَّذِي قَصَدُوا . اهـ
قولُه : ولا تعطيلٌ . العَطَلُ في اللُّغَةِ الخُلوُّ والفراغُ ، والتَّرْكُ ، ومنه {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ}. قَالَ الراغبُ : العَطَلُ فقْدانُ الزِّينةِ والشُّغْلِ . يُقالُ : عَطَلَتِ المرأةُ فهي عُطُلٌ وعاطلٌ ؛ ومنه قَوْسٌ عُطُلٌ لا وَتَرَ عليه ، وعَطَّلْته مِن الحُلِيِّ ومِن العمَلِ فتعطَّلَ قَالَ : { وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ } . ويُقَالُ لمَن يجعلُ العالَمَ بزعْمِه فارغاً عن صانعٍ أتقنَهُ وزَيَّنَه مُعَطِّلٌ ، وعطَّلَ الدَّارَ عن ساكِنها والإبلَ عن راعِيهَا . اهـ .
وسُمِّيَ جاحِدُو الصِّفَاتِ مُعَطِّلِينَ ؛ لِنَفْيِهم عن اللَّهِ صفاتِ كَمالِهِ وإخلائِهم له منها .
قَالَ ابنُ القيِّمِ : أصلُ الشِّركِ وقاعِدُته الَّتِي يرجِعُ إليها هو التَّعطيلُ ، وهو ثلاثةُ أقسامٍ تعطيلُ المصنوعِ عن صانِعِه وخالِقِه، وتعطيلُ الصَّانعِ سُبْحَانَهُ عن كَمالِه المُقَدَّسِ بتعطيلِ أسمائِهِ وصِفاتِهِ ، وأفعالِهِ ، وتعطيلُ مُعاملَتِه عن ما يجِبُ على العبادِ من حقيقةِ التَّوْحِيدِ . اهـ
وقد سَأَلَ أحدُ المُناظِرينَ للشَّيخِ في العقيدةِ : ما المُرادُ بالتَّحريفِ والتَّعطيلِ ؟

ومقصودُه أنَّ هذا يَنفي التَّأويلَ الَّذِي أثْبَتَهُ أهلُ التَّأويلِ وهو صرْفُ اللَّفْظِ عن ظاهِرِه ، إمَّا وجوباً وإمَّا جوازاً . قَالَ الشَّيْخُ فقلتُ :
تحريفُ الكلامِ هو تحريفُ الكلامِ عن مَواضعِه كما ذمَّهُ اللَّهُ تَعَالَى في كتابِهِ ، وهو إزالةُ اللَّفْظِ عما دلَّ عليه مِن المعنى ، مِثْلَ تأويلِ بعضِ الجَهْمِيَّةِ لقولِه تَعَالَى :{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} أيْ : جرَّحَهُ بأظافيرِ الحكمةِ تجريحاً .
ومِثْلَ تأويلاتِ القرامِطةِ والباطنيَّةِ وغيرِهم مِن الجَهْمِيَّةِ والرَّافضةِ والقدَرِيَّةِ وغيرِهم ، فسكتَ وفي نفْسِه ما فيها ، وقد ذكرتُ في غيرِ هذا المجلسِ أني عدلْتُ عن لفظِ التَّأويلِ إلى لفظِ التَّحريفِ؛ لأنَّ التَّحريفَ اسمٌ جاءَ القرآنُ بذَمِّه، وأنا تحرَّيْتُ في هذه العقيدةِ اتِّباعَ الكِتابِ والسُّنَّةِ ، فبيَّنْتُ ما ذَمَّ اللَّهُ مِن التَّحريفِ ، ولم أذكُرْ فيها لفظَ التَّأويلِ بنَفْيٍ ولا إثباتٍ ؛ لأنَّه لفظٌ له عِدَّةُ معانٍ، كمَا بيَّنْتُه في مَوضعِه مِن القواعدِ ، فإنَّ معنى لفظِ التَّأويلِ في كتابِ اللَّهِ غيرُ لفظِ التَّأويلِ في اصطلاحِ كثيرٍ مِن أهلِ التَّفسيرِ والسَّلَفِ ؛ لِأَنَّ مِن المعاني الَّتِي قد سُمِّيَ تأويلاً ما هو صحيحٌ منقولٌ عن السَّلَفِ ، مما تقومُ الحُجَّةُ عن صِحَّتِه ؛ إذْ ما قامتِ الحُجَّةُ على صِحَّتِه وهو منقولٌ عن السَّلَفِ فلَيْسَ فيه مِن التَّحريفِ .اهـ .
((والتَّأويلُ تفعيلٌ مِن آلَ يَؤُولُ إلى كذا، إذا صارَ إليه )) . قَالَ الجوهريُّ : التَّأويلُ تفسيرُ ما يَؤُولُ إليه الشَّيْءُ . ثم تُسَمَّى العاقِبةُ تأويلاً؛ لِأنَّ الأمْرَ يصيرُ إليها كقوله :{ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} وتُسَمَّى حقيقةُ الشَّيْءِ المُخْبَرِ به تأويلاً؛ لأنَّ الأمْرَ ينتهي إليه ، ومنه قولُه :{هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} فمَجِيءُ تأويلِه نفْسُ ما أخبَرَتْ به الرُّسُلُ مِن اليومِ الآخِرِ والمَعادِ وتفاصيلِه ، والجَنَّةِ والنَّارِ .
وأمَّا التَّأويلُ في اصطلاحِ أهلِ التَّفسيرِ والسَّلَفِ فمُرادُهم به معنى التَّفسيرِ والبيانِ ، كقولِ مُحَمَّدِ بنِ جريرٍ الطبَريِّ : القولُ في تأويلِ قولِه تَعَالَى كذا وكذا . فهذا التَّأويلُ يَرْجِعُ إلى فَهْمِ المُؤْمِنِ ، ويحصُلُ في الذِّهْنِ ، والأوَّلُ يعودُ إلى وقوعِ حقيقتِهِ في الخارجِ . وأما المُعتزِلَةُ والجَهْمِيَّةُ وغيرُهم مِن المُتكلِّمِينَ فمُرادُهم بالتَّأويلِ صرْفُ اللَّفْظِ عن ظاهِرِه ، وهذا هو الشَّائِعُ في عُرْفِ المتأخِّرينَ مِن أهلِ الأصولِ والفقهِ ، ولهذا يقولون : التَّأويلُ على خِلافِ الأصلِ ؛ والتَّأويلُ يَحتاجُ إلى دليلٍ ، وهذا التَّأويلُ هو الَّذِي صُنِّفَ في تَسْوِيغِه وإبطالِه مِن الجانبَيْنِ .
قولُه : (( ومِن غيرِ تكييفٍ ولا تمثيلٍ ))
كيفيَّةُ الشَّيْءِ حالُه وكُنْهُهُ ، أوِ السُّؤالُ عنه بصيغةِ كيْفَ ، فالتَّكييفُ البحثُ عن كُنْهِ الصِّفَاتِ ،والتَّمثيلُ أنْ يُقالَ فيها : مِثْلُ صفاتِ المخلُوقِينَ .
((وإنما نَفَى السَّلَفُ عن صفاتِ اللَّهِ التَّكييفَ ؛ لأنَّ العِلْمَ بكيْفِيَّةِ الصِّفَةِ يَستلْزِمُ العِلْمَ بكيْفِيَّةِ المَوصوفِ)) .
((والمُكيِّفُونَ يُثْبِتونَ كيْفِيَّةً، يقولون : إنَّهم عَلِمُوا كيْفِيَّةَ ما أُخْبِرُوا به مِن صفاتِ الرَّبِّ ، وكما نَفَى السَّلَفُ التَّحريفَ والتَّعطيلَ في مَقامِ النَّفْيِ والسَّلْبِ)) .
كذلك رَفَضوا التَّكييفَ والتَّمثيلَ في مَقامِ الإيجابِ والثُّبوتِ ، فلا إفْراطَ ولا تفريطَ ، ولا غُلُوَّ ولا تقصيرَ .
والتَّعبيرُ بالتَّكييفِ والتَّمثيلِ ، أوْلَى مِن التَّعبيرِ بالتَّشبيهِ .
قَالَ الشَّيْخُ في المُناظَرةِ : وقلتُ لهم أيضاً : ذَكَرْتُ في النَّفْيِ التَّمثيلَ ولم أذْكُرِ التَّشبيهَ ؛ لأنَّ التَّمثيلَ نفاهُ اللَّهُ بنَصِّ كتابِه حيثُ قَالَ : {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وقَالَ :{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} وكان أحَبَّ إلَيَّ مِن لفظٍ لَيْسَ في كتابِ اللَّهِ ولا في سُنَّةِ رَسُولِه ، وإنْ كان قد يُعْنَى بنفْيِه معنًى صحيحٌ ، كما قد يُعْنَى به معنًى فاسدٌ . وقلتُ : قَوْلِي مِن غيرِ تكييفٍ ولا تمثيلٍ بنفْيِ كُلِّ باطلٍ . وإنما اخترْتُ هذينِ الاسْمَيْنِ ؛ لأنَّ التَّكييفَ مأثورٌ عن السَّلَفِ ، كما قَالَ مالِكٌ وربيعةُ وابنُ عُيَيْنَةَ وغيرُهمُ المَقالةَ الَّتِي تلَقَّاها العلماءُ بالقَبولِ ، الاستواءُ معلومٌ ، والكيفُ مجهولٌ ، والإيمانُ به واجبٌ ، والسُّؤالُ عنه بدعةٌ فاتَّفَقَ هَؤُلاَءِ السَّلَفُ على أنَّ التَّكييفَ غيرُ معلومٍ لنا فنفَيْتُ ذلك اتِّباعاً لسلَفِ الأُمَّةِ ، وهو أيضاً منْفِيٌّ بالنصِّ ، فإنَّ تأويلَ آياتِ الصِّفَاتِ يَدخُلُ فيها حقيقةُ الموصوفِ وحقيقةُ صفاتِه ، وهذا مِن التَّأويلِ الَّذِي لا يعلَمُه إلاَّ اللَّهُ ، كما قد قَرَّرْتُ ذلك في قاعدةٍ مُفْرَدةٍ ذَكَرْتُها في التَّأويلِ والفَرْقِ بين عِلْمِنا بالكلامِ وعِلْمِنا بتأويلِه .
وكذلك التَّمثيلُ منفِيٌّ بالنَّصِّ والإجماعِ القديمِ مَعَ دَلالةِ العقلِ على نفْيِه وكذلك نفيُ التَّكييفِ .
إذْ كُنْهُ الباري غيرُ معلومٍ للبشرِ .
وذَكَرْتُ في ضِمْنِ ذلكَ كلامَ الخطَّابيِّ الَّذِي نَقَلَ أنَّه مَذهبُ السَّلَفِ ، وهو إجراءُ آياتِ الصِّفَاتِ وأحادِيثِها على ظاهِرِها مَعَ نفْيِ الكيْفِيَّةِ والتَّشبيهِ عنها ؛ إذِ الكلامُ في الصِّفَاتِ فرْعٌ على الكلامِ في الذَّاتِ اهـ .
قَالَ : والمقصودُ أنَّ أهلَ السُّنَّةِ مُتَّفِقُونَ على أنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شيءٌ لا في ذاتِه ولا في صِفاتِه ولا في أفعالِه ، ولكنَّ لفظَ التَّشبيهِ في كلامِ النَّاسِ لفظٌ مُجْمَلٌ ، فإنْ أرادَ بنَفْيِ التَّشبيهِ ما نَفاهُ القرآنُ ودلَّ عليه العقلُ فهذا حقٌّ ، فإنَّ خصائِصَ الرَّبِّ لا يُوصفُ بها شيءٌ مِن المخلوقاتِ، ولا يُماثِلُه شيءٌ مِن المخلوقاتِ في شيءٍ مِن صفاتِه، ومَن جعلَ صفاتِ اللَّهِ مِثلَ صفاتِ المخلوقِ فهو المُشَبِّهُ المُبْطِلُ المَذْمومُ . وإنْ أرادَ بالتَّشبيهِ أنَّه لا يَثبُتُ لِلَّهِ شيءٌ مِن الصِّفَاتِ فلا يُقالُ : له عِلْمٌ ولا قُدْرةٌ ولا حياةٌ؛ لِأنَّ العبدَ موصوفٌ بهذه الصِّفَاتِ، وكذلك في كلامِه وسَمْعِه وبَصَرِه ورُؤيتِه وغيرِ ذلك، وهُم يُوافِقونَ أهلَ السُّنَّةِ على أنَّ اللَّهَ موجودٌ حيٌّ عليمٌ قديرٌ، ولا يُقالُ : هذا التَّشبيهُ يجِبُ نفْيُه، وهذا مما يدلُّ عليه الكِتابُ والسُّنَّةُ وصريحُ العقلِ، ولا يُمْكِنُ أنْ يُخالِفَ فيه عاقِلٌ. فإنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى نفْسَه بأسماءٍ ، وسمَّى بعضَ عِبادِه بأسماءٍ ، وكذلك سمَّى صفاتِه بأسماءٍ، وسمَّى بعضَ صفاتِ خَلْقِه ، ولَيْسَ المُسَمَّى كالمُسَمَّى ، فسَمَّى نفْسَه حيًّا ، عليماً ، قديراً ، رءوفاً ، حليماً ، عزيزاً ، حكيماً ، سميعاً، بصيراً ، مَلِكاً ، مؤمناً ، جبَّاراً ، متكبِّراً ، وقد سمَّى بعضَ عِبادِه بذلك ، فإنَّهما وإنِ اتَّفَقا في مُسَمَّى ما اتَّفَقا فيه فإنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُخْتَصٌّ بوُجودِه وعِلْمِه وقُدْرَتِه وسائِرِ صفاتِه، والعبدُ لا يَشْرِكُهُ في شيءٍ مِن ذلك، والعبدُ أيضاً مُخْتَصٌّ بوُجودِه وعِلْمِه وقُدْرَتِه، واللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَن مُشارَكةِ العبدِ في خصائِصِه، وإنِ اتَّفَقا في مُسَمَّى الوجودِ والعِلْمِ والقُدْرَةِ . فهذا المُشْتَرَكُ مُطْلَقٌ كُلِّيٌّ يُوجَدُ في الأذهانِ لا في الأعيانِ، والمَوجودُ في الأعيانِ مختَصٌّ الاشتِراكُ فيه، وهذا مَوضعٌ اضطربَ فيه كثيرٌ مِن النُّظَّارِ حَيْثُ توَهَّمُوا أنَّ الاتِّفاقَ في مسمَّى هذه الأشياءِ يُوجِبُ أن يكونَ الوجودُ الَّذِي للربِّ هو الوجودُ الَّذِي للعبدِ.

هيئة الإشراف

#6

23 Nov 2008

التنبيهات السنية للشيخ: عبد العزيز بن ناصر الرشيد رحمه الله

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (ومِنَ الإِيْمانِ باللهِ: الإِيمانُ بِمَا وَصَفَ بهِ نَفْسَهُ وَ وَصَفَهُ بهِ رَسُولُهُ محمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(1)
مِنْ غَيْرِ تَحْريفٍ ولا تَعْطيلٍ(2)
و لا تَكْيِيفٍ(3)
ولا تَمْثيلٍ.(4)
).

الشرح:

قال الشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد (ت: 1408هـ): ( (1) وأمـَّا الكلامُ على قولـِه: ( والبعثِ بعدَ الموتِ والإيمانِ بالقدرِ ) فسيأتي إنْ شاءَ اللهُ.
قولُه: ( ومن الإيمانِ باللهِ الإيمانُ بما وصفَ به نفسَهُ ): فمن جَحَدَ صفاتِ اللهِ سبحانه وتعالى فليسَ بمؤمنٍ، قال تعالى: (وهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَـنِ ) الآية، وكذلك من عطَّلَها أو شَبَّهَهَا بصفاتِ خلقِه، قال نعيمُ بنُ حَمَّادٍ: من شبَّه اللهَ بخلقِه كفرَ، ومن نفى ما وَصَفَ به نفسَه فقد كفرَ، وليسَ فيما وصفَ اللهُ به نفسَه أو وصفَه به رسولُه تَشْبِيهاً وقال ابنُ القيِّمِ رحمهُ اللهُ في (( النُّونِيَّةِ )):
مَنْ شَبَّهَ اللهَ الْعَظِيمَ بِخَلْقِهِ فَهُوَالنَّسِيبُ لِمُشْرِكٍ نَصْرَاني
أَوْ عَطَّلَ الرَّحْمنَ مِنْ أْوصَافِهِ فَهُوَ الْكَفُورُ وَلَيْسَ ذَا إِيَمانِ
وفي قولهِ: ( بما وصفَ به نفسَهُ ووصفَهُ به رسولُه ): إثباتُ أنَّ صفاتِه سبحانَه وتعالى إنما تُتلقَّى من السَّمعِ لا بآراءِ الخلقِ، فصفاتُه سبحانَه مَبْنِيَّةٌ على التَّوْقِيفِ فلا يُوصَفُ إلا بما وَصَفَ به نفسَه أو وَصَفَهُ بِه رسولُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال أحمدُ رحمهُ اللهُ: لا يُوصفُ اللهُ إلا بما وصفَ به نفسَه، أو وصفَهُ به رسولُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا يتجاوَزُ القرآنَ والحديثُ.
قال ابنُ القيّمِ رحمهُ اللهُ في البَدَائِعِ: ما يُطلَقُ عليه في بابِ الأسماءِ والصّفاتِ تَوْقِيفِيٌّ، وما يُطلقُ عليه في بابِ الأخبارِ لا يجبُ أَنْ يكونَ تَوْقِيفِيّاً كالشَّيءِ والموجودِ والقديمِ ونحوِ ذلك.
ذكَر المصنِّفُ رحمهُ اللهُ تعالى هذا الأصلَ العظيمَ في بابِ الأسماءِ والصّفاتِ، فَيُنَاسِبُ أن نَضُمَّ إليه عدّةَ أصولٍ مجموعةٍ من كتبِ المحقّقينَ لتكونَ كالمقدّمةِ.
أوَّلا: إنَّ أسماءَ اللهِ وصفاتِه غيرُ محصورةٍ بعددٍ معروفٍ، وأمَّا حديثُ (( إنَّ لله تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسماً مَنْ أحْصَاهَا دَخَلَ الجنَّةَ)) فليسَ فيه حَصْرٌ لها، وإنَّما غايةُ ما فيه: أنَّ هذه الأسماءَ مَوْصُوفَةٌ بأنَّ من أَحْصاها دخلَ الجنَّةَ، كما تقولُ عندي مائةُ عبدٍ عَدَدْتُهُمْ للجهادِ في سبيلِ اللهِ، فلا يُنافي أنّ لديك عبيداً غيرَهم أعْددتَهُم لغيرِ ذلك.
ثانياً: إنَّ الصّفاتِ تنقسمُ إلى قسمين:
القسمِ الأوّلِ: صفاتٌ ذَاتِيَّةٌ، وهي الَّتي لا تَنْفَكُّ عنه بِحَالٍ، كالغِنَى، والقدرةِ، والعُلوِّ، والرَّحمةِ، ونحوِ ذلك من الصّفاتِ الَّتي هي من لوازمِ ذاتِهِ.
القسمِ الثَّاني: صفاتٌ فعليّةٌ، وهي كلُّ صفةٍ تَعَلَّقَتْ بمشيئتهِ وإرادتهِ، ويُعَبَّرُ عنها بالأفعالِ الاختياريّةِ، كالاستواءِ والمَجِيءِ والنّزولِ ونحوِ ذلك.
ثالثاً: أركانُ الإيمانِ بالأسماءِ والصّفاتِ، الإيمانُ بالصّفةِ وما دلَّتْ عليه من المعنى وبما تعلَّقَ بها من الآثارِ، فَتُؤْمِنُ بأنّه عليمٌ، وذو علمٍ عظيمٍ، وأنَّه لا تَخْفَى عليه خَافِيةٌ.
رابعاً: ليسَ في أسماءِ اللهِ وصفاتِه نفيٌ مَحْضٌ، بل كلُّ نفيٍ وُجِدَ في أسماءِ الله وَصِفاتِه فهو لإثباتِ كمالٍ ضِدِّه، إذِ النَّفيُ المحضُ عَدَمٌ، والعدمُ ليس بشيءٍ، فضلاً عن أنْ يُمْدَحَ به، كما قالَ تعالى: (وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ) أي لِكَمالِ عَدْلِهِ، (وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا )، أي لكمالِ قوّتِه واقتدارِهِ.
خامساً: طريقةُ أهلِ السّنّةِ والجماعةِ، هو الإجمالُ في النَّفيِ والتَّفصيلُ في الإثباتِ كما دلَّ على ذلك الكتابُ والسّنّةُ، قال تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ) فَأَجْمَلَ في النّفيِ وَفصَّل في الإثباتِ، وهذا عكسُ ما عليه أهلُ البدعِ من الجَهْمِيَّةِ والمُعتزلَةِ وأشباهِهم فإنَّهم يُجْمِلون في الإثباتِ ويُفَصِّلون في النَّفي.
سادساً: أسماءُ اللهِ سبحانه وتعالى وصفاتُه هي بِالنَّظَرِ إلى الذَّاتِ من قبيلِ المترادفِ، وبالنّظرِ إلى الصّفاتِ من قَبِيلِ المُتبَايِنِ.
سابعاً: أسماءُ اللهِ سبحانَه وصفاتُه حقيقةٌ، وليستْ من قَبِيلِ الَمجازِ، خلافاً للمبتدعةِ من الجهميَّةِ والمعتزلةِ وغيرِهِم، فعلى كلامِ هؤلاء لا يكونُ سبحانَه حيّـاً حقيقةً، ولا مريداً حقيقةً، ولا قادراً، تعالى اللهُ عن قولِهِم، وهذا لازمٌ لكلِّ من ادّعى المجازَ في أسماءِ الرّبِّ وصفاتِه وأفعالِه لزوماً لا مَحِيدَ عنه، وكفى أصحابُ هذهِ المقالةِ كفراً.
ثامناً: أسماؤُه سبحانَه وتعالى تنقسمُ إلى قسمين: أَعْلاَمٌ، وأوصافٌ، والوصفيّةُ فيها لا تُنافي العلميَّةَ، بخلافِ أوصافِ العبادِ.
تاسعا: للاسمِ مِن أسمائِه ثلاثُ دلالاتٍ: دلالةٌ على الذّاتِ والاسمِ. بِالْمُطَابَقَةِ، وعلى أحدهِما بِالتَّضَمُّنِ، وعلى الصّفةِ الأخرى بالالتزامِ، مثالُه اسمُ السَّميعِ، يدلُّ على ذاتِ الرَّبِّ وسَمْعِهِ بالمطابقةِ، وعلى الذَّاتِ وحدَها والسّمعِ وحدَه بِالتَّضَمُّنِ، ويدلُّ على الحيِّ وصفةِ الحياةِ بالالتزامِ، وكذلك سائرُ أسمائهِ وصفاتهِ.
عاشراً: إذا كانتِ الصّفةُ منقسمةً إلى كمالٍ ونقصٍ لم تدخلْ بِمطلقِها في أسمائه سبحانه، بل يُطلَقُ عليه منها كمالُها كالمريدِ والصَّانعِ، فإِنَّ هذه الألفاظَ لا تدخلُ في أسمائِه، فإنَّ الصّنعَ والإرادةَ مُنقسمةٌ إلى محمودٍ ومذمومٍ.
الحاديَ عشرَ: لا يلزمُ من الإِخبارِ عنه بالفعلِ مُقَيَّداً أَنْ يُشتقَّ له منه اسمٌ مُطلقٌ، وقد غَلطَ من جعلَ من أسمائِه الَماكِرَ والفَاتِنَ والُمُضِلَّ، تَعالى اللهُ عن قَوْلِهم، ثمَّ إِنَّه على فَهْمِ هذا الغَاِلطِ أنْ يجعلَ من أسمائِه الجَائِيَ والغَضْبانَ ونحوَ ذلك من الأسماءِ الَّتي أُطلقَتْ عليه أفعالُها، وهذا لا يقولُه مسلمٌ ولا عاقلٌ، انتهى من كلامِ ابنِ القيِّمِ ملخصاً.
الثَّاني عشرَ: الأسماءُ والصّفاتُ الَّتي تستعملُ في حقِّ الخالقِ والمخلوقِ، كالعلمِ، والقدرةِ، والسّمعِ، والبصرِ، ونحوِ ذلكَ، هي حقيقةٌ في الخالقِ والمخلوقِ، خلافاً للجهميَّةِ.
قال ابنُ القيّمِ: وهذا قولُ عامَّةِ العقلاءِ وهو الصّوابُ.
الثَّالثَ عشرَ: أسماءُ اللهِ وصفاتُه من قبيلِ المُحْكمِ وليستْ من المتشابِه، فإنَّ معناها واضحٌ معروفٌ في لغةِ العربِ، وأمَّا الكُنْهُ والكَيْفِيَّةُ فهو ممَّا اسْتَأثَرَ اللهُ بِعِلْمِهِ.
الرَّابعَ عشرَ: لا يَلْزمُ من اتّحادِ الاسمينِ تماثلُ مُسَمَّاهُمَا، فإنَّ اللهَ سمَّى نفسَهُ بأسماءٍ تَسَمّى بها بعضُ خلقِه، وكذلك وصفَ نفسَه بصفاتٍ وُصِفَ بها بعضُ خلقِه، فلا يلزمُ من ذلك التَّشبيهُ، فقد وَصَفَ نَفْسَهُ بالسَّمعِ، والبصرِ، والعلمِ، والقدرةِ، وَوُصِفَ بذلك بعضُ خلقهِ، فليس السَّميعُ كالسَّميعِ، ولا البصيرُ كالبصيرِ، فصفاتُ كلِّ موصوفٍ تُناسِبُ ذاتَه وتليقُ به، ولا مُنَاسَبَةَ بين الخالقِ والمخلوقِ.
الخامسَ عشرَ: ذكرَ الشّيخُ تقيُّ الدّينِ في كتابِه (( التّدْمُرِيَّةِ ) أصلين عظيمين نافعين من هذا البابِ:
الأوَّلَ: القولُ في الصّفاتِ كالقولِ في الذَّاتِ، فكما أنَّنا نُثْبِتُ لله ذاتاً لا تُشْبِهُ الذّواتِ فيجبُ أنْ نثبتَ له صفاتٍ لا تشبهُ الصّفاتِ، فالصّفاتُ فَرْعُ الذَّاتِ يُحْذَى فيها حَذْوَها.
الثَّاني: القولُ في بعضِ الصّفاتِ كالقولِ في البعضِ الآخرِ إذ لا فرقَ، فمن أثبتَ الصّفاتِ ونفَى البعضَ الآخرَ كالأشاعرةِ، فقد تَنَاقَضَ، إذ الدّليلُ الَّذي ثبتت به الصّفاتُ الَّتي أقرُّوا بها يوجدُ مثلُه أو أقوى منه يثبِتُ البعضَ الآخرَ، إلى غيرِ ذلك من الأصولِ العظيمةِ الَّتي ذكرها الشَّيخُ تقيُّ الدّينِ، وابنُ القيّمِ، وغِيرُهما من المحقّقين في كتبِهِم، وقد أَفْرَدْنَا تلك الأصولَ في رسالةٍ مفردةٍ فارْجِعْ إليها.
(2) قولهُ: ( من غير تحريفٍ ): أي تغييرٍ لألفاظِ الأسماءِ والصّفاتِ، أو تغييرٍ لمعانيها، وقد ذَمَّ اللهُ سبحانَه وتعالى الَّذين يحُرِّفُون الكَلِمَ عن مَوَاضِعِه، كما قالَ اللهُ سبحانه وتعالى عن اليهودِ: (مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ) أي يُغَيِّرُونَهُ ويُفَسِّرُونَهُ بغيرِ معناهُ، فالتَّحريفُ لغةً: التَّغييرُ وإِمَالَةُ الشَّيءِ عن وجهِهِ، يُقال انْحَرَفَ عن كذا أي مَالَ وعَدَلَ، واصطلاحاً: هو التَّغييُر لألفاظِ الأسماءِ والصّفاتِ أو معانيها، كقول الجَهْمِيَّةِ في قولِهِ سبحانه: (الرَّحْمَـنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) أي اسْتَوْلَى، وقوله (وَجَاءَ رَبُّكَ ) أي أَمرُهُ، فالتَّحريفُ ينقسمُ إلى قسمين:
الأوَّلِ: تحريفُ اللفظِ، كقولِهم في (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً ) بِنَصْبِ لفظِ الجلالةِ، وكقولِهِم في (استوَى ): استولى، (وَجَاءَ رَبُّكَ ) أي أَمْرُهُ. وَيُرْوَى أنَّ جَهْمِيّاً طلبَ من أبي عمرو بِنِ اِلعلاءِ أحدِ القُرَّاءِ يقرأُ: (وَكَلَّمَ اللَّهَ مُوسَى تَكْلِيماً) بِنَصْبِ لفظِ الجلالةِ، فقال له: هَبْنِي فَعَلْتُ ذلك فما تَصنَعُ بقولِه: (وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ ) فَبُهِتَ الجَهْمِيُّ.
الثَّاني: التَّحريفُ المعنويُّ: كقولِهم في قوله سبحانه وتعالى: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً ) أي جَرَّحَهُ بِأَضَافِيِرِ الْحِكْمَةِ تَجْريحاً.
قال ابنُ القيّمِ رحمهُ اللهُ: والتَّحريفُ نوعان تحريفُ اللفظِ، وتحريفُ المعنى، فتحريفُ اللفظِ: العُدُولُ عن جِهَتِهِ إلى غيرِها، إمَّا بزيادةٍ أو نقصانٍ، وإمَّا بتغييرِ حَرَكةٍ إِعْرابيّةٍ أو غيرِ إِعْرابيّةٍ، فهذه أربعةُ أنواعٍ. وأمَّا تحريفُ المعنى: فهو العُدُولُ بالمعنى عن وجهِه وحقيقتِه، وإعطاءُ اللفظِ معنى لفظٍ آخرَ بِقَدَرٍ مَا مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُما.
قولُه: ( ولا تعطيلٍ ): وهو لغةً: الإخلاءُ، يقالُ جِيدٌ عُطْلٌ، أي خَالٍ مِنَ الزِّينَةِ، قال الشّاعرُ:
وَجِيدٍ كَجِيدِ الرِّيم لَيْسَ بِفاحِشٍ إِذَا هِيَ نَصَّتْهُ وَلاَ بِمُعَطَّلِ
وأمَّا معناهُ هنا فهو جحدُ الصّفاتِ وإنكارُ قِيامِها بذاتِه سبحانَه، ونفيُ ما دلَّت عليه من صفاتِ الكمالِ، وأوَّلُ مَنْ قالَ بالتَّعطيلِ في الإسلامِ: الَجَعْدُ بنُ دِرْهَمٍ، فقتلهُ خالدُ بنُ عبدِ اللهِ القَسْرِيُّ بعدَ استشارةِ علماءِ زمانِه.
قال ابنُ القيّمِ رحمهُ اللهِ في (( النُّونِيَّةِ )):
وَلِذَا ضَحَّى بِجَعْدٍ خَالِدُ الـ قَسْرِيُّ يَوْمَ ذَبَائِحِ الْقُرْبَانِ
شَكَرَ الضَّحِيَّةَ كُلُّ صَاحِبِ سُنَّةٍ ِلله دَرُّكَ مِنْ أَخِي قُرْبَانِ
وتلقَّى عن الجعدِ مقالةَ التَّعطيلِ: الجَهْمُ بنُ صَفْوانَ التِّرْمِذِيُّ، فنشرها ونَاضَل عنها، فلذا نُسِبَ المذهبُ إليه، فيقالُ: جَهْميَّةٌ بفتحِ الجيمِ، والجهمُ قتَله سَلَمُ بنُ أَحْوَزَ أميرُ خُرَاسَانَ والتّعطيلُ ينقسمُ إلى ثلاثةِ أقسامٍ، كما ذكره ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ:
الأوَّلِ: تعطيلُ المَصْنوعِ مِن صَانِعِهِ، كتعطيلِ الفلاسفةِ الَّذين زعَموا قِدَمَ هذه المخلوقاتِ، وأنَّها تتصرَّفُ بطبيعتِهَا.
الثَّاني: تعطيلُ الصَّانعِ مِن كَمَالِهِ المُقَدَّسِ بتعطيلِ أسمائهِ وصفاتهِ، كتعطيلِ الجهميَّةِ وأشباهِهِم من المعتزلةِ وغيرِهِم.
الثَّالثِ: تعطيلُ حَقِّ معاملتِه، بتركِ عبادتِه، أو عبادةِ غيرِهِ معَه.
قال ابنُ القيّمِ رحمه اللهُ: والتَّعطيلُ شرٌّ من الشّركِ، فإنَّ المُعَطِّلَ جاحدٌ للذَّاتِ أو لِكَمَالِها، وهو جَحْدٌ لحقيقةِ الألوهيّةِ، فإنَّ ذاتًا لا تسمعُ ولا تبصِرُ ولا تغضبُ ولا تَرْضى ولا تفعلُ شيئًا وليسَتْ داخلَ العالمِ ولا خارجَه ولا متّصلةً بالعالم‎ِ ولا منفصلةً ولا فوقَ ولا تحتَ ولا يمينَ ولا شِمالَ، هو والعدمُ سواءٌ، والمُشْرِكُ مُقِرٌّ باللهِ، لكنْ عبدَ معه غيرَه، فهو خيرٌ من المعطِّلِ للذَّاتِ والصّفاتِ.
(3) قولـُه: ( ولا تكييفٍ): وهو تعيينُ كُنْهِ الصّفةِ، يُقالُ كَيَّفَ الشّيءَ: أي جَعَلَ له كيفيّةً مَعْلومةً، وكيفيّةُ الشّيءِ صفتُه وحالُه، فالتّكييفُ تعيينُ كُنْهِ الصّفةِ وكيفيّتِها، وهذا ممَّا استأثرَ اللهُ به، فلا سبيلَ إلى الوصولِ إِليه، إذ الصّفةُ تابعةٌ للموصوفِ، فَكما لا يَعلمُ كَيْفَ هُوَ أَلاَّ هُوَ، فكذلك صفاتُهُ فالصّفاتُ يحُذَى فيها حَذْوَ الذّاتِ، وقد سُئِلَ مالكٌ رحمهُ اللهُ تعالى فقيلَ له: (الرَّحْمَـنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) كيف اسْتَوى؟ فقال: الاستواءُ معلُومٌ، والكَيْفُ مَجْهُولٌ، والإِيماَنُ به وَاجِبٌ، والسُّؤالُ عنه بِدْعَةٌ، وكذلك رُوِيَ عن ربيعةَ نحواً من هذه الإجابةِ، وكذلك رُوِيَ عن أمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فقوله: الاستواءُ مَعْلومٌ، أي في لغةِ العربِ، وقولُه: والكَيْفُ مجهولٌ، أي كيفيّةُ استوائِهِ سبحانه وتعالى لا يَعْلَمُ كُنْهَها وكيفيَّتـَها إلا هو سبحانَه، وقولُهُ: الإيمانُ به واجبٌ، لتكاثرِ الأدلَّةِ من الكتابِ والسّنـّةِ في إثباتِ ذلك، والسّؤالُ عنهُ، أي عن الكيفيّةِ بِدْعَةٌ، فَفَرَّقَ مالكٌ رحمه اللهُ بين المَعْنى المَعْلُومِ من هذه اللفظةِ، وبين الكَيْفِ الذي لا يَعْقِلُهُ البشرُ.
وإجابةُ مالكٍ رحمه الله تعالى وغيرِهِ جوابٌ كَافٍ شَافٍ في جميعِ مسائلِ الصّفاتِ، فإذا سُئلَ إنسانٌ عن المجيءِ أو النّزولِ أو السّمعِ أو البصرِ أو غيرِ ذلك، أجابَ بجوابِ مالكٍ رحمه اللهُ، فيُقالُ مثلاً: المَجِيءُ معلومٌ والكيفُ مجهولٌ، وكذلك مَنْ سُئِلَ عن الغضبِ والرّضى والضّحكِ وغيرِ ذلك فمعانيها كلُّها مفهومةٌ، وأمَّا كيفيَّتُها فغيرُ معقولةٍ، إذ تَعقُّلُ الكيفيّةِ فَرْعُ العِلْمِ بكيفيّةِ الذّاتِ وكُنْهِها، فإذا كانَ ذلك غيرَ معقولٍ للبشرِ فكيف يُعقلُ لهم كيفيّةُ الصّفاتِ؟!
(4) قولـُهُ: ( ولا تمثيلَ ): التـَّمثيلُ هو التـَّشبيهُ، يقال مَثَّلَ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ سَوَّاهُ وَشَبَّهَهُ بِهِ، وجعله مثلَهُ وعلى مِثَالِهِ، فالشَّبيهُ والمثيلُ والنَّظيرُ ألفاظٌ مُتقاربةٌ، فلا تُمثـّلُ صفاتُهُ بصفاتِ خَلْقِهِ، فإنَّه لا مثلَ له ولا شِبْهَ له ولا نَظِيرَ، لا في ذاتِه وأسمائِه، ولا في صفاتِه وأفعالِه، كما قالَ سبحانه وتعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) والتَّشبيهُ ينقسمُ إلى قسمين:
الأوَّلِ: تشبيهُ المخلوقِ بالخالقِ، كتشبيهِ النَّصارَى عيسى باللهِ، وكتشبيهِهِم عُزيراً وتشبيهِ المشركين أصنامَهم باللهِ، وهذا النَّوعُ هو الَّذي أُرْسلتِ الرُّسلُ وأُنْزلت الكتبُ في النَّهيِ عنه، وهو أعظمُ الذّنوبِ على الإطلاقِ، ومُحْبِطٌ لجميعِ الأعمالِ.
الثَّاني: تشبيهُ الخالقِ بالمخلوقِ، كقولِ المُشِّبهِ: ‌للهِ يَدٌ كَأَيْدِينَا، وسَمْعٌ كأسماعِنا، وهذا هو الـَّذي صُنِّفَتْ كتبُ التَّوحيدِ للرَّدِّ على قائلِهِ، وكلا النّوعين كفرٌ، وكلُّ مشبِّهٌ معطِّلٌ وبالعكسِ، فإنَّ المعطِّلَ لم يفهمْ من صِفَاتِ اللهِ إلا ما يليقُ بالمخلوقِ، فأرادَ بزعمِهِ الفاسدِ تنـزيهَهُ عن ذلك فوقعَ في التَّعطيلِ، فَشَبَّهَ أوَّلاً وعَطَّل ثانياً وشبَّههُ ثالثاً بالمعدوماتِ والنَّاقصاتِ، تعالى اللهُ عن قولِهِم.
وكذلك المشبِّهُ عطَّلَ الصّفةَ الَّتي تليقُ باللهِ ووصفَه بصفاتِ المخلوقِ، فعطَّلَ أوَّلاً، وشبَّههُ ثانياً، فكلُّ مُعطِّلٍ مُشبِّهٌ وبالعكسِ.
قال الشّيخُ تقيُّ الدّينِ في (( الحَمَوِيَّةِ )): وكلُّ واحدٍ من فَريقي التَّعطيلِ والتَّمثيلِ فهو جامعٌ بين التَّعطيلِ والتَّمثيلِ، أمَّا المُعَطِّلُون فإنَّهم لم يَفْهَمُوا من أسماءِ اللهِ وصفاتِه إلا ما هو اللائقُ بالمخلوقِ، ثمَّ شَرَعُوا في نفيِ تلك المَفْهُوماتِ، فقد جَمَعوا بين التَّمثيلِ والتَّعطيلِ، مثَّلوا أولاً، وعَطَّلوا آخراً، وهذا تَشبيهٌ وتَمثيلٌ منهم للمفهومِ من أسمائهِ وصفاتِه بالمفهومِ من أسماءِ خلقِه وصفاتهِم، وتَعطيلٌ لما يَسْتَحقُّه هو من الصّفاتِ اللائقةِ باللهِ سبحانه، ومذهبُ السّلفِ بين التَّعطيلِ والتَّمثيلِ فلا يُمَثلِّون صفاتِ اللهِ بصفاتِ خلقِه، كما لا يُمثِّلون ذاتَه بِذواتِ خَلْقِهِ، فلا يَنفُون عنه ما وَصَف به نفسَه، أو وَصَفَهُ به رسولُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيُعَطِّلُون أسماءَه الحسنى وصفاتِه، ويُحرِّفُون الكلمَ عن مواضِعه، ويُلحدُونَ في أسماءِ اللهِ وآياتِه. انتهى).

هيئة الإشراف

#7

1 Dec 2008

شرح العقيدة الواسطية للشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): ( ((وَمِنَ الإيْمانِ بِاللهِ: الإيمانُ بِما وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ في كِتابِهِ، وَبِما وَصَفَهُ بِهِ رَسولُهُ))(1)
((من غير تحريفٍ ولا تعطيلٍ، ومن غير تكييفٍ ولا تمثيلٍ))(2) )
.


الشرح:

قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): ((1) قولُهُ: ((ومِن الإيمانِ)): (مِن): هُنَا للتَّبعيضِ، لأنَّنا ذَكَرْنا أنَّ الإيمانَ باللَّهِ يتضمَّنُ أربعةَ أمورٍ: الإيمانُ بوجودِهِ، وانفرادُهُ بالرُّبوبِيَّةِ، وبالأُلوهِيَّةِ، وبالأسماءِ والصِّفاتِ، يعني: بعضَ الإيمانِ باللَّهِ: الإيمانُ بمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَه.
وقولُهُ: ((بمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي كتابِهِ)): ينبغي أنْ يُقالَ: وسمَّى بِهِ نَفْسَهُ، لكنَّ المؤلِّفَ رحِمَهُ اللَّهُ ذَكَرَ الصِّفةَ فَقَطْ: إمَّا لأنَّهُ مَا مِن اسمٍ إِلاَّ ويتضمَّنُ صِفةً، أوْ لأنَّ الخلافَ فِي الأسماءِ خلافٌ ضعيفٌ، لَمْ ينكرْهُ إِلاَّ غلاةُ الجهميَّةِ والمعتزِلةِ، فالمعتزِلةُ يُثْبِتونَ الأسماءَ، والأشاعرةُ والماتُريدِيَّةُ يثبتونَ الأسماءَ، لكنْ يُخالِفونَ أهلَ السُّنَّةِ فِي أكثرِ الصِّفاتِ.
فنَحْنُ الآنَ نقولُ: لمَاذَا اقتصرَ المؤلِّفُ عَلَى ((مَا وصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ))؟
نقولُ: لأحدِ أمَريْنِ: إمَّا لأنَّ كُلَّ اسمٍ يتضمَّنُ صِفةً، وإمَّا لأنَّ الخلافَ فِي الأسماءِ قليلٌ بالنِّسْبةِ للمُنتسِبينَ للإسلامِ.
((فِي كتابِهِ)): (كتابِه) يعني: القرآنَ، وسمَّاه اللَّهُ - تَعَالَى - كتاباً؛ لأنَّهُ مكتوبٌ فِي اللَّوْحِ المَحْفُوظِ، ومكتوبٌ فِي الصُحُفِ الَّتِي بأيدي السَّفَرةِ الكرامِ البَررةِ، ومكتوبٌ كذلِكَ بينَ النَّاسِ يكتبونَهُ فِي المصاحفِ، فَهُوَ كتابٌ بمعنَى مكتوبٍ، وأضافَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ؛ لأنَّهُ كلامُهُ سُبْحَانَهُ وَ- تَعَالَى -، فهَذَا القرآنُ كلامُ اللَّهِ، تكلَّم بِهِ حقيقةً، فكُلُّ حرفٍ مِنْه فإنَّ اللَّهَ قدْ تكلَّمَ بِهِ.
وفِي هذِهِ الجملةِ مباحثُ:
المبحثُ الأوَّلُ: أنَّ مِن الإيمانِ باللَّهِ الإيمانَ بمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ
ووجهُ ذلِكَ أنَّ الإيمانَ باللَّهِ –كَمَا سَبَقَ- يتضمنُ الإيمانَ بأسمائِهِ وصفاتِهِ، فإنَّ ذاتَ اللَّهِ تُسمَّى بأسماءٍ وتُوصفُ بأوصافٍ، ووجودُ ذاتٍ مجرَّدةٍ عن الأوصافِ أمرٌ مستحيلٌ، فلاَ يُمكنُ أنْ تُوَجدَ ذاتٌ مجرَّدةً عن الأوصافِ أبداً، وقدْ يَفرِضُ الذِّهْنُ أنَّ هَنَاكَ ذاتًا مجرَّدةً مِن الصِّفاتِ، لكنَّ الفَرْضَ ليْسَ كالأمرِ الواقعِ، أي: أنَّ المفروضَ ليس كالمشهودِ، فلاَ يوجدُ فِي الخارجِ –أيْ: فِي الواقعِ المشاهَدِ- ذاتٌ ليْسَ لَهُا صفاتٌ أبداً.
فالذِّهنُ قدْ يَفْرضُ مثلاً شيئًا لَهُ أَلْفُ عينٍ، فِي كُلِّ ألفِ عَيْنٍ ألفُ سوادٍ وألفُ بياضٍ، ولَهُ ألفُ رِجلٍ، فِي كل رِجلٍ ألفُ أُصبَعٍ، فِي كُلِّ أُصبعٍ ألفُ ظُفْرٍ، ولَهُ ملايينُ الشَّعْرِ، فِي كُلِّ شعرةٍ ملايينُ الشَّعرِ… وهكذا! يفرضُهُ وإنْ لَمْ يكنْ لَهُ واقعٌ، لكنَّ الشَّيءَ الواقِعَ لاَ يمكنُ أنْ يُوجِدَ شيئًا بدونِ صفةٍ.
لِهَذَا، كَانَ الإيمانُ بصفاتِ اللَّهِ مِن الإيمانِ باللَّهِ، لو لَمْ يكنْ مِنْ صفاتِ اللَّهِ إلاَّ أَنَّهُ موجودٌ واجبُ الوجودِ، وَهَذَا باتِّفاقِ الناسِ، وعَلَى هَذَا، فلاَ بدَّ أنْ يكونَ لَهُ صفةٌ.
المبحثُ الثَّاني: أنَّ صِفاتِ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ - مِن الأُمورِ الغَيْبيَّةِ، والواجبُ عَلَى الإنسانِ نحوَ الأمورِ الغيبيَّةِ: أنْ يؤمنَ بها عَلَى مَا جاءتْ، دونَ أنْ يرجعَ إِلَى شيءٍ سوَى النُّصوصِ.
قَالَ الإمامُ أحمدُ: لاَ يُوصفُ اللَّهُ إلاَّ بمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَه، أوْ وَصَفَهُ بِهِ رسولُه، لاَ يُتَجاوَزُ القرآنُ والحديثُ.
يعني أنَّنا لاَ نَصِفُ اللَّهَ إِلاَّ بمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَه فِي كتابِهِ، أوْ عَلَى لسانِ رسولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ويدلُّ لذلِكَ القرآنُ والعقلُ:
ففِي القرآنِ: يقولُ اللَّهُ - عزَّ وجلَّ -: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّىَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَالإِثُمَّ وَالْبَغْىَ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِلْ بِهِ سُلْطَناً، وَأَن تَقوُلُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) [الأعراف: 33]، فَإِذَا وصفتَ اللَّهَ بصفةٍ لَمْ يَصِف اللَّهُ بها نَفْسَهُ، فقدْ قُلْتَ عَلَيْهِ مَا لاَ تعلمُ، وَهَذَا محرَّمٌ بنصِ القرآنِ.
ويقولُ اللَّهُ - عزَّ وجلَّ -: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً) [الإسراء: 36]، ولو وَصَفْنا اللَّهَ بمَا لَمْ يَصِفْ بِهِ نَفْسَهُ، لكُنَّا قَفَوْنا مَا ليس لنا بِهِ عِلمٌ، فوقعْنَا فيمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ.
وأمَّا الدَّليلُ العقليُّ، فلأنَّ صفاتِ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ - مِن الأمورِ الغيبيَّةِ، ولاَ يمكنُ فِي الأُمورِ الغَيْبيَّةِ أنْ يُدْرِكَهَا العقلُ، وحينئذٍ لاَ نَصِفُ اللَّهَ بمَا لَمْ يَصِفْ بِهِ نَفْسَه، ولاَ نُكيِّفُ صفاتِه؛ لأنَّ ذلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ.
نَحْنُ الآنَ لاَ نُدْرِكُ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نعيمَ الجنَّةِ مِنْ حَيْثُ الحقيقةِ، مَعَ أَنَّهُ مخلوقٌ، فِي الجنَّةِ فاكهةٌ ونخلٌ، ورُمَّانٌ، وسُرَرٌ، وأكوابٌ وحورٌ، ونَحْنُ لاَ نُدركُ حقيقةَ هذِهِ الأشياءِ، ولو قِيلَ: صِفْها لنا، لاَ نستطيعُ وَصْفَها، لقولِهِ - تَعَالَى -: (فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءَ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة: 17]، ولقولِهِ - تَعَالَى - فِي الحديثِ القُدْسيِّ: ((أَعْدَدْتُ لِعَبَادِيَ الصَّالِحينَ مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ، وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ)).
فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي المخلوقِ الَّذِي وُصِفَ بصفاتٍ معلومةِ المَعْنَى ولاَ تُعْلَمُ حقيقتُها، فكَيْفَ بالخالقِ؟!
مثالٌ آخرُ: الإنسانُ فِيهِ روحٌ، لاَ يحيا إلاَّ بِها، لَوْلاَ أنَّ الرُّوحَ فِي بَدنِهِ مَا حَيِيَ، ولاَ يستطيعُ أنْ يَصِفَ الرُّوحَ، لو قِيلَ: لَهُ: مَا هذِهِ الرُّوحُ الَّتِي بكَ؟ مَا هِيَ الَّتِي لو نُزِعَتْ مِنْكَ، صرْتَ جُثَّةً، وإِذَا بَقِيَتْ فأنتَ إنسانٌ تَعقلُ وتَفهمُ وتُدْركُ؟ لجلسَ يَنظرُ ويُفكِّرُ، فلاَ يستطيعُ أنْ يَصِفَها أبداً، مَعَ أَنَّهَا قريبةٌ مِنْهُ، فِي نَفْسِه وبَيْنَ جنبيْهِ، ويَعجِزُ عنْ إدراكِها، مَعَ أَنَّهَا حقيقةٌ، يعنِي: شيءٌ يُرَى، كَمَا أخبرَ النَّبِيُّ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ - بـ((أَنَّ الرُّوح إِذَا قُبِضَ، تَبِعَهُ البَصَرُ))، فالإنسانُ يَرى نَفْسَه وهِيَ مقبوضةٌ، وَلِهَذَا تبقى العينُ مفتوحةً عندَ الموتِ تُشاهِدُ الرُّوحَ، وهِيَ قدْ خَرَجَتْ، وتُؤخذُ هذِهِ الرُّوحُ، وتُجعلُ فِي كَفنٍ، ويُصعدُ بها إِلَى اللَّهِ، ومعَ ذلِكَ مَا يستطيعُ أنْ يَصِفَها، وهِيَ بَيْنَ جنْبَيْهِ، فكَيْفَ يحاولُ أنْ يَصِفَ الرَّبَّ بأمرٍ لَمْ يَصِفْ بِهِ نَفْسَهُ!
ولاَ بدَّ إذاً من تحقُّقُ ثُبوتِ الصِّفاتِ للَّهِ.
المبحثُ الثَّالثُ: أنَّنا لاَ نَصِفُ اللَّهَ - تَعَالَى - بمَا لَمْ يَصِفْ بِهِ نَفْسَه.
ودليلُ ذلِكَ أيضاً مِن السَّمْعِ والعقلِ:
ذَكَرْنا مِن السَّمْعِ آيَتَيْنِ.
وأمَّا مِنَ العقلِ، فقلْنا: إنَّ هَذَا أمرٌ غَيْبِيٌّ، لاَ يمكنُ إدراكُهُ بالعقلِ، وضَرَبْنا لذَلِكَ مَثَلَيْنِ:
المبحثُ الرَّابعُ: وجوبُ إجراءِ النُّصوصِ الواردةِ فِي الكتابِ والسُّنَّةِ عَلَى ظاهرِها، لاَ نَتعدَّاها.
مثالُ ذلِكَ: لَمَّا وَصَفَ اللَّهُ نَفْسَه بأنَّ لَهُ عَيْناً، هَلْ نقولُ: المرادُ بالعينِ الرُّؤيةُ لاَ حقيقةُ العينِ؟ لو قُلْنا ذلِكَ، مَا وَصَفْنا اللَّهَ بمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ.
ولَمَّا وَصَفَ اللَّهُ نَفْسَهُ بأنَّ لَهُ يَديْنِ: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) [المائدة: 64]، لو قُلْنَا: إنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - ليْسَ لَهُ يدٌ حقيقةً، بَل المرادُ باليَدِ مَا يُسْبِغُهُ مِن النِّعَمِ عَلَى عبادِهِ، فهَل وَصَفْنا اللَّهَ بمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ؟ لا.
المبحثُ الخامسُ: عُمومُ كلامِ المؤلِّفِ يشملُ كُلَّ مَا وَصفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ مِن الصِّفاتِ الذَّاتيَّةِ المعنويَّةِ والخبريَّةِ، والصِّفاتِ الفِعليَّةِ.
فالصِّفاتُ الذَّاتيَّةُ هِيَ الَّتِي لَمْ يَزلْ ولاَ يَزالُ متَّصِفاً بها، وهِيَ نَوعانِ: معنويَّةٌ وخبريَّةٌ:
فالمعنويَّةُ، مِثلُ: الحياةِ، والعلمِ، والقُدرةِ، والحِكمةِ… ومَا أشْبَهَ ذلِكَ، وَهَذَا عَلَى سبيلِ التَّمثيلِ لاَ الحَصْرِ.
والخبريَّةُ، مِثلُ: اليدينِ، والوجهِ، والعينينِ… ومَا أشْبَهَ ذلِكَ ممَّا سمَّاهُ، نظيرُهُ أبعاضٌ وأجزاءٌ لَنَا.
فاللَّهُ - تَعَالَى - لَمْ يَزَلْ لَهُ يَدانِ ووجهٌ وعَيْنانِ، لَمْ يَحْدُثْ لَهُ شيءٌ مِن ذلِكَ بعدَ أنْ لَمْ يَكُنْ، ولَنْ يَنفَكَّ عن شيءٍ مِنْهُ، كَمَا أنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ حيًّا ولاَ يَزالُ حيًّا، لَمْ يَزَلْ عالِماً ولاَ يَزالُ عالِماً، ولَمْ يَزلْ قادِراً ولاَ يَزالُ قادِراً…وَهَكَذَا، يَعنِي: ليسَ حياتُهُ تَتجدَّدُ، ولاَ قُدْرتُه تَتجدَّدُ، ولاَ سَمْعُه يتجدَّدُ، بلْ هُوَ موصوفٌ بهَذَا أَزَلاً وأبداً، وتجدُّدُ المسموعِ لاَ يَستلزمُ تجدُّدَ السَّمْعِ، فأَنَا مَثلاً عِنْدَمَا أَسْمعُ الأَذَانَ الآنَ، فهَذَا ليسَ مَعناهُ أنَّهُ حَدَثَ لي سَمعٌ جديدٌ عِنْدَ سَماعِ الأذانِ، بلْ هُوَ مُنذُ خَلَقَهُ اللَّهُ فيَّ، لكنَّ المسموعَ يتجدَّدُ، وَهَذَا لاَ أثرَ لَهُ فِي الصِّفةِ.
واصطَلحَ العلماءُ -رحمهُمْ اللَّهُ- عَلَى أنْ يُسمُّوها الصِّفاتِ الذَّاتِيَّةَ، قالُوا: لأنَّها ملازِمةٌ للذَّاتِ، لاَ تَنفكُّ عَنْها.
والصِّفاتُ الفِعْليةُ هِيَ الصِّفاتُ المتعلِّقةُ بمشيئتِهِ، وهِيَ نوعانِ:
صفاتٌ لَهُا سببٌ معلومٌ، مِثلُ: الرِّضَا، فاللَّهُ - عزَّ وجلَّ - إِذَا وَجَدَ سَبَبَ الرِّضَى رَضِيَ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: (إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ عَنكُمْ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ) [الزمر: 7].
وصفاتٌ لَيْسَ لَهُا سببٌ معلومٌ، مثلُ: النُّزولِ إِلَى السَّماءِ الدُّنْيَا حينَ يَبْقَى ثلثُ اللَّيلِ الآخِرِ.
ومِنَ الصِّفاتِ مَا هُوَ صفةٌ ذاتيَّةٌ وفِعليَّةٌ باعتبارَيْنِ، فالكلامُ صفةٌ فِعليَّةٌ باعتبارِ آحادِهِ، لكنْ باعتبارِ أصلِهِ صفة ذاتيَّةٌ؛ لأنَّ اللَّهَ لَمْ يَزلْ ولاَ يَزالُ متكلِّماً، لكنَّهُ يتكلَّمُ بمَا شاءَ متَى شاءَ، كَمَا سيأتِي فِي بحثِ الكلامِ إنْ شاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -.
اصطلحَ العلماءُ -رحمَهُم اللَّهُ- أنْ يُسمُّوا هذِهِ الصِّفاتِ الصِّفاتِ الفِعليَّةَ؛ لأنهَّا مِن فِعْلِه سُبْحَانَهُ وَ- تَعَالَى -.
ولَهَا أدلَّةٌ كثيرةٌ مِن القرآنِ، مِثلُ: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) [الفجر: 22]، (هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ المَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ) [الأنعام: 158]، (رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ) [المائدة: 119]، (وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ) [التوبة: 46]، (أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِى الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ) [المائدة: 80].
ولَيْسَ فِي إثباتهِا لِلَّهِ - تَعَالَى - نقصٌ بوجهٍ مِن الوجوهِ، بَلْ هَذَا مِنْ كَمالِهِ أنْ يكونَ فاعلاً لمَا يُريدُ.
وأُولَئِكَ القومُ المحرِّفُونَ يقولونَ: إثباتُهَا مِن النَّقصِ! وَلِهَذَا يُنكرونُ جميعَ الصِّفاتِ الفِعليَّةِ، يقولونَ: لاَ يجيءُ، ولاَ يَرْضَى، ولاَ يَسْخَطُ، ولاَ يَكْرَهُ، ولاَ يُحِبُّ… يُنكرونَ كُلَّ هذِهِ، بِدَعْوَى أنَّ هذِهِ حادِثةٌ، والحادثُ لاَ يَقومُ إِلاَّ بحادِثٍ، وَهَذَا باطلٌ؛ لأنَّهُ فِي مُقابَلةِ النَّصِّ، وَهُوَ باطلٌ بنَفْسِهِ، فإنَّه لاَ يَلزمُ مِنْ حُدوثِ الفِعلِ حدوثُ الفاعلِ.
المبحثُ السَّادسُ: أنَّ العقلَ لاَ مَدْخلَ لَهُ فِي بابِ الأسماءِ والصِّفاتِ:
لأنَّ مَدارَ إثباتِ الأسماءِ والصِّفاتِ أوْ نَفْيِهَا عَلَى السَّمعِ، فعقولُنَا لاَ تَحكُمُ عَلَى اللَّهِ أبداً، فالمدارُ إذاً عَلَى السَّمعِ، خلافاً للأشعريَّةِ والمعتزِلةِ والجهميَّةِ وغيرِهِمْ مِنْ أهلِ التَّعطيلِ، الَّذِينَ جَعلُوا المدارَ فِي إثباتِ الصِّفاتِ أوْ نفيِهَا عَلَى العقلِ، فَقَالَوا: مَا اقتضَى العقلُ إثباتَهُ أثبتْناهُ، سواءٌ أثبَتَهُ اللَّهُ لنَفْسِهِ أمْ لاَ! ومَا اقتضَى نفْيَهُ نفيْناهُ، وإِنْ أثبَتهُ اللَّهُ! ومَا لاَ يقتضِي العقلُ إثباتَهُ ولاَ نَفْيَهُ، فأكثرُهُم نَفَاهُ، وقالَ: إنَّ دلالةَ العقلِ إيجابيةٌ، فإنْ أوجبَ الصِّفةَ أثبتْناهَا، وإنْ لَمْ يُوجِبْها نفيْنَاها! ومِنْهُمْ مَن توقَّفَ فِيهِ، فلاَ يُثبِتُها؛ لأنَّ العقلَ لاَ يُثبِتُها، لكنْ لاَ يُنكرُهَا؛ لأنَّ العقلَ لاَ يَنفِيهَا، ويقولُ: نتوقَّفُ! لأنَّ دلالةَ العقلِ عِنْدَ هَذَا سلبيَّةٌ، إِذَا لَمْ يُوجِبْ، يتوقَّفُ، ولَمْ يَنْفِ!
فصارَ هؤلاءِ يحكِّمونَ العقلَ فيمَا يجبُ أوْ يمتنعُ عَلَى اللَّهِ - عزَّ وجلَّ -.
فيتفرَّعُ عَلَى هَذَا: مَا اقتضى العقلُ وَصْفَ اللَّهِ بِهِ، وُصِفَ اللَّهُ بِهِ، وإنْ لَمْ يكنْ فِي الكتابِ والسُّنَّةِ، ومَا اقتضَى العقلُ نَفْيَه عن اللَّهِ نَفَوْه، وإنْ كَانَ فِي الكتابِ والسُّنَّةِ.
وَلِهَذَا يقولونَ: لَيْسَ لِلَّهِ عينٌ، ولاَ وجهٌ، ولاَ لَهُ يدٌ، ولاَ استوى عَلَى العرشِ، ولاَ ينـزلُ إِلَى السَّماءِ الدنيا… لكنهم يحرِّفونَ، ويُسمُّونَ تحريفَهُم تأويلاً، وَلَوْ أَنْكَرُوا إنكارَ جَحْدٍ لكفروا؛ لأنَّهم كذَّبُوا، لكنَّهُمْ يُنكِرونَ إنكارَ مَا يُسمُّونَهُ تأويلاً، وهُوَ عندَنا تَحريفٌ.
والحاصِلُ أنَّ العقلَ لاَ مجالَ لَهُ فِي بابِ أسماءِ اللَّهِ وصفاتِه.
فإنْ قُلْتَ: قولُكَ هَذَا يناقضُ القرآنَ؛ لأنَّ اللَّهَ يقولُ: (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا) [المائدة: 50]، والتفضيلُ بَيْنَ شيءٍ وآخَرَ مرجعُهُ إِلَى العقلِ، وقَالَ - عزَّ وجلَّ -: (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى) [النحل: 60]، وقالَ: (أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَ يَخْلُقُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ) [النحل: 17]… وأَشباهُ ذلِكَ ممَّا يُحيلُ اللَّهُ بِهِ عَلَى العقلِ، فيمَا يُثْبِتُه لنَفْسِه ومَا يَنفِيهِ عن الآلِهَةِ المدَّعاةِ؟
فالجوابُ أنْ نَقولَ: إنَّ العقلَ يُدْرِكُ مَا يَجِبُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَ- تَعَالَى -، ويَمتنعُ عَلَيْهِ، عَلَى سبيلِ الإجمالِ، لاَ عَلَى سَبيلِ التَّفصيلِ، فمثلاً: العقلُ يُدْرِكُ بأنَّ الرَّبَّ لاَ بُدَّ أنْ يكونَ كامِلَ الصِّفاتِ، لكنْ هَذَا لاَ يَعني أنَّ العقلَ يُثبِتُ كُلَّ صفةٍ بعيْنِهَا أوْ يَنفِيهَا، لكنْ يُثبِتُ أوْ يَنفِي عَلَى سبيلِ العمومِ أنَّ الرَّبّ لاَ بدَّ أنْ يكونَ كامِلَ الصِّفاتِ، سالِماً مِن النَّقصِ.
فمثلاً: يدركُ بأنَّهُ لاَ بدَّ أن يكونَ الرَّبُّ سميعاً بصيراً، قَالَ إبراهِيَمُ لأبيهِ: (يَأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ) [مريم: 42].
ولاَ بدَّ أنْ يكونَ خالِقاً؛ لأنَّ اللَّهَ قالَ: (أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ) [النحل: 17]، (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً) [النحل: 20].
يدركُ هَذَا، ويدركُ بأنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَ- تَعَالَى - يَمتنعُ أنْ يكونَ حادِثاً بعدَ العدمِ؛ لأنَّهُ نقصٌ؛ ولقولِهِ تَعَالَى - محتجًّا عَلَى هؤلاءِ الذينَ يَعبدونَ الأصنامَ -: (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) [النحل: 20]، إذاً يَمتنعُ أنْ يكونَ الخالقُ حادِثاً بالعقل.
العقلُ أيضاً يُدْرِكُ بأنَّ كُلَّ صفةِ نقصٍ فهِيَ ممتنعةٌ عَلَى اللَّهِ؛ لأنَّ الرَّبَّ لاَ بدَّ أنْ يكونَ كاملاً، فيُدركُ بأنَّ اللَّهَ - عزَّ وجلَّ - مسلوبٌ عَنْهُ العَجزُ؛ لأنَّهُ صفةُ نَقْصٍ، إِذَا كَانَ الرَّبُّ عاجزاً وعُصِيَ، وأرادَ أنْ يُعاقبَ الَّذِي عصَاهُ وَهُوَ عاجِزٌ، فلاَ يُمكِنُ!
إذاً، العقلُ يُدركُ بأنَّ العَجْزَ لاَ يمكنُ أنْ يُوصَفَ اللَّهُ بِهِ، والعَمَى كذلِكَ، والصَّممَ كذلِكَ، والجهلَ كذلِكَ… وَهَكَذَا عَلَى سبيلِ العمومِ نُدركُ ذلِكَ، لكنْ عَلَى سبيل التَّفصيلِ… لاَ يمكنُ أنْ نُدركَهُ، فنتوقَّفَ فِيهِ عَلَى السَمْعِ.
سؤالٌ: هلْ كُلُّ مَا هُوَ كمالٌ فينا يكونُ كمالاً فِي حقِّ اللَّهِ، وهَلْ كُلُّ مَا هُوَ نقصٌ فِينَا يكونُ نقصاً فِي حقِّ اللَّهِ؟
الجوابُ: لا؛ لأنَّ المقياسَ فِي الكَمالِ والنَّقْصِ لَيْسَ باعتبارِ مَا يُضافُ للإنسانِ، لظُهورِ الفَرْقِ بَيْنَ الخالِقِ والمخلوقِ، لكنْ باعتبارِ الصِّفةِ من حَيْثُ هِيَ صفةٌ، فكُلُّ صفةِ كمالٍ، فهِيَ ثابتهٌ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَ- تَعَالَى -.
فالأكلُ والشُّربُ بالنِّسبةِ للخالقِ نقصٌ؛ لأنَّ سبَبَهُمَا الحاجَةُ، واللَّهُ - تَعَالَى - غنيٌّ عمَّا سِواهُ، لكنْ هُمَا بالنِّسبةِ للمخلوقِ كمالٌ، ولِهَذَا إِذَا كَانَ الإنسانُ لاَ يأكلُ، فلاَ بدَّ أنْ يكونَ عليلاً بمرضٍ أوْ نحوِه، هَذَا نقصٌ.
والنَّومُ بالنسبةِ للخالِق نقصٌ، وللمخلوقِ كمالٌ، فظَهَرَ الفَرْقُ.
التَّكبُّرُ كمالٌ للخالقِ ونقصٌ للمخلوقِ؛ لأنَّهُ لاَ يتمُّ الجلالُ والعظَمةُ إِلاَّ بالتَّكبُّرِ، حَتَّى تكونَ السَّيطرةُ كاملةً، ولاَ أحدَ ينازعُهُ… وَلِهَذَا توعَّدَ اللَّهُ - تَعَالَى - مَنْ ينازِعُهُ الكبرياءَ والعظمةَ، قالَ: ((مَنْ نَازَعَني وَاحِداً مِنْهُمَا عَذَّبْتُهُ)).
فالمُهِمُّ أنَّهُ لَيْسَ كُلُّ كمالٍ فِي المَخْلوقِ يكونُ كمالاً فِي الخالقِ، ولاَ كُلُّ نقصٍ فِي المخلوقِ يكونُ نقصاً فِي الخالقِ، إِذَا كَانَ الكمالُ أو النَّقصُ اعتباريًّا.
هذِهِ ستَّةُ مباحثَ تحتَ قولِهِ: ((مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَه))، وكلُّها مباحثُ هامَّةٌ، وقدَّمْناهَا بَيْنَ يَدَيِ العقيدةِ؛ لأنَّهُ سيَنبنِي عَلَيْها مَا يأتِي إنْ شاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -.
قولُهُ: ((وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ)): وَوَصْفُ رسولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لربِّهِ يَنْقَسِمُ إِلَى ثلاثةِ أقسامٍ: إمَّا بالقَوْلِ، أوْ بالفِعلِ، أوْ بالإقرارِ.
أ- أمَّا القَولُ، مثلُ: ((رَبُّنا! اللَّهُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ! تَقَدَّسَ اسْمُكَ، أَمْرُكَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ))، وقولُهُ فِي يمينِهِ: ((لاَ وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ)).
ب- وأمَّا الْفِعْلُ، فَهُوَ أَقَلُّ مِنَ القَوْلِ، مِثلُ إشارَتِهِ إِلَى السَّماءِ يستشهِدُ اللَّهَ عَلَى إقرارِ أُمَّتِهِ بالبلاغِ، وَهَذَا فِي حَجَّةِ الوداعِ فِي عَرَفةَ، خَطَبَ الناسَ، وقالَ: ((أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ؟)). قالوا: نعمْ. ثَلاثَ مرَّاتٍ. قال: ((اللَّهُمَّ! اشْهَدْ)). يَرْفَعُ إصبعَهُ إِلَى السَّماءِ، وَيَنْكُتُها إِلَى النَّاسِ. فَرَفَعَ إصبعَهُ إِلَى السَّماءِ، هَذَا وَصْفُ اللَّهِ - تَعَالَى - بالعُلُوِّ عن طريقِ الفِعلِ.
وجاءَهُ رجلٌ وهُوَ يَخْطُبُ النَّاسَ يومَ الجمعةِ، قالَ: يا رسولَ اللَّهِ! هَلَكتِ الأموالُ… فرفَعَ يَدَيْهِ. وَهَذَا أيضاً وصفٌ لِلَّهِ بالعُلُوِّ عَنْ طريقِ الفِعلِ.
وغيرُ ذلِكَ من الأحاديثِ، الَّتِي فِيهِا فِعلُ النَّبيِّ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ - إِذَا ذَكَرَ صِفةً مِن صفاتِ اللَّهِ.
وأحياناً يَذْكُرُ الرَّسولُ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ - الصِّفةَ مِن صِفاتِ اللَّهِ بالقَولِ، ويُؤَكِّدُها بالفِعلِ، وذلِكَ حينمَا تلاَ قولَهُ - تَعَالَى -: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعَا بَصِيرًا) [النساء: 58] فوضَعَ إبهامَهُ عَلَى أُذُنِه اليُمْنَى، والَّتِي تَلِيهَا عَلَى عَيْنِهِ، وَهَذَا إثباتٌ للسَّمعِ والبَصَرِ بالقولِ والفِعْلِ.
وحينئذٍ نقولُ: إنَّ إثباتَ الرَّسولِ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ - للصِّفاتِ يكونُ بالقولِ ويكونُ بالفعلِ، مُجْتَمِعَيْنِ ومُنْفَرِدَيْنِ.
ج- أمَّا الإقرارُ، فَهُوَ قليلٌ بالنِّسبةِ لِمَا قَبْلَهُ، مِثلُ: إقرارِهِ الجاريةَ الَّتِي سأَلَها: ((أَيْنَ اللَّهُ؟)). قالتْ: فِي السَّمَاءِ. فَأَقَرَّها، وقالَ: ((أَعْتِقْها)).
وكإقرارِه الحَبْرَ مِن اليهودِ، الَّذِي جاءَ وقَالَ للرَّسولِ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ -: إنَّنا نَجِدُ أنَّ اللَّهَ يجعلُ السَّماواتِ عَلَى إصبعٍ، والأرضينَ عَلَى إصْبَعٍ، والثَّرَى عَلَى إصْبعٍ… إِلَى آخرِ الحديثِ، فضحِكَ النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تصديقاً لقولِهِ، وَهَذَا إقرارٌ.
إِذَا قَالَ قائلٌ: مَا وجْهُ وجوبِ الإيمانِ بمَا وَصَفَ الرَّسولُ بِهِ ربَّهُ، أوْ مَا دليلُهُ؟ نقولُ: دليلُهُ قولُهُ - تَعَالَى -: (يَأَيُّهَا الّذِينَ ءَامَنُواْ ءَامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِن قَبْلُ) [النساء: 136]، وكلُّ آيةٍ فِيهِا ذكرُ أنَّ الرَّسولَ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ - مُبَلِّغٌ، فهِيَ دالَّةٌ عَلَى وجوبِ قبولِ مَا أخْبَرَ بِهِ مِنْ صفاتِ اللَّهِ؛ لأنَّهُ أَخبرَ بِهَا وبلغَّها إِلَى النَّاسِ، وكُلُّ مَا أخبرَ بِهِ، فَهُوَ تبليغٌ مِنَ اللَّهِ، ولأنَّ الرَّسولَ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ - أَعْلَمُ النَّاسِ باللَّهِ، وأنصحُ النَّاسِ لعِبادِ اللَّهِ، وأَصْدَقُ النَّاسِ فيمَا قالَ، وَأَفْصَحُ النَّاسِ فِي التَّعبِيرِ، فاجتمَعَ فِي حقِّهِ مِن صِفاتِ القَبولِ أربعٌ: العِلمُ، والنُّصحُ، والصِّدقُ، والبَيانُ، فيَجِبُ عَلَيْنا أنْ نَقْبَلَ كُلَّ مَا أَخْبَرَ بِهِ عن ربِّهِ، وهُوَ –واللَّهِ- أَفْصَحُ وأَنْصَحُ وأَعْلَمُ مِن أُولَئِكَ القومِ الَّذِينَ تبِعَهُم هؤلاءِ مِنَ المناطِقةِ والفلاسِفَةِ، ومَعَ هَذَا يقولُ: ((سُبْحَانَكَ! لاَ أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ)).
(2) قولُهُ (مِنْ غيرِ تحريفٍ ولاَ تعطيلٍ، ومِنْ غيرِ تكييفٍ ولاَ تمثيلٍ ).
فِي هذِهِ الجملةِ بيانُ صفةِ إيمانِ أهلِ السُّنةِ بصفاتِ اللَّهِ - تَعَالَى -، فأهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ يؤمنونَ بها إيماناً خالياً مِنْ هذِهِ الأُمورِ الأربعةِ: التَّحريفِ، والتَّعطيلِ، والتَّكييفِ، والتَّمثيلِ.
فالتَّحريفُ: التَّغييرُ، وَهُوَ إمَّا لفظيٌّ وإمَّا معنويٌّ.
والغالِبُ أنَّ التَّحريفَ اللَّفظيَّ لاَ يَقعُ، وإِذَا وَقَعَ، فإنمَا يَقعُ مِنْ جاهلٍ، فالتَّحريفُ اللَّفظيُّ يعني تغييرَ الشَّكلِ، فمثلاً: فلا تَجِدُ أحداً يقولُ: ((الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ)) بفتحِ الدَّالِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ جاهلاً… هَذَا الغالبُ!
لكنَّ التَّحريفَ المعنويَّ هُوَ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ كثيرٌ من النَّاسِ.
فأهلُ السُّنةِ والجماعةِ إيمانهُم بمَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ خالٍ مِن التَّحريفِ، يعني: تَغييرَ اللَّفظِ أو المعنَى.
وتغييرُ المَعْنَى يُسمِّيهِ القائِلونَ بِهِ تأويلاً، ويُسمُّونَ أنَفْسَهم بأهَلِ التَّأويلِ، لأجْلِ أنْ يَصْبِغُوا هَذَا الكلامَ صبغةَ القَبولِ؛ لأنَّ التأويلَ لاَ تَنفرُ مِنْهُ النُّفوسُ ولاَ تَكرهُهُ، لكنْ مَا ذهبوا إِلَيْهِ - فِي الحقيقةِ - تحريفٌ، لأنَّه ليْسَ عَلَيْهِ دليلٌ صحيحٌ، إِلاَّ أنَّهُم لاَ يَستطيعونَ أنْ يَقولُوا: تحريفاً! ولو قالوا: هَذَا تحريفٌ، لأَعْلَنُوا عَلَى أنْفُسِهم برفضِ كلامِهم.
وَلِهَذَا عبَّرَ المؤلِّف -رحمَهُ اللَّهُ- بالتَّحريفِ دونَ التَّأويلِ، مَعَ أنَّ كثيراً ممَّن يتكلَّمونَ فِي هَذَا البابِ يُعبِّرونَ بنفِي التَّأويلِ، يقولونَ: مِنْ غيرِ تأويلٍ، لكنْ مَا عبَّرَ بِهِ المؤلِّفُ أَوْلى لوجوهٍ أربعةٍ:
الوجْهُ الأوَّلُ: أَنَّه اللفظُ الَّذِي جاءَ بهِ القرآنُ، فإنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - قال: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ) [النساء: 46]، والتعبيرُ الَّذِي عبَّرَ بِهِ القرآنُ أولى مِنْ غيرهِ؛ لأنَّهُ أدلُ عَلَى المعنى.
الوجْهُ الثَّاني: أنَّهُ أدلُّ عَلَى الحالِ، وأقربُ إِلَى العَدْلِ، فالمُؤَوِّلُ بغيرِ دليلٍ ليْسَ مِنَ العَدلِ أنْ نُسمِّيَهُ مُؤوِّلاً، بلِ العَدْلُ أنْ نِصفَهُ بمَا يستحقُ، وَهُوَ أن يكونَ محرِّفاً.
الوجْهُ الثَّالثُ: أنَّ التَّأويلَ بغيرِ دليلٍ باطلٌ، يجبُ البُعْدُ عَنْهُ والتَّنفيرُ مِنْهُ، واستعمالُ التَّحريفِ فِيهِ أبلغُ تنفيراً مِن التَّأويلِ؛ لأنَّ التَّحريفَ لاَ يقبلُه أحدٌ، لكنَّ التَّأويلَ لَيِّنٌ، تقبلُهُ النَّفْسُ، وتَستفصِلُ عن معناهُ، أمَّا التَّحريفُ، بمجرَّدِ مَا نقولُ: هَذَا تحريفٌ. يَنفرُ الإنسانُ مِنْهُ، وإِذَا كَانَ كذلِكَ، فإنَّ استعمالَ التَّحريفِ فيمن خالفوا طريقَ السَلَفِ أَلْيقُ مِن استعمالِ التَّأويلِ.
الوجْهُ الرَّابعُ: أنَّ التَّأويلَ ليس مذموماً كلَّه، قَالَ النَّبِيُّ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ -: ((اللَّهُمَّ فَقِّهُهُ فِي الدِّينِ، وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلُ))، وقَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْويِلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ) [آل عمران: 7]، فامتدَحَهُم بأنَّهمْ يَعْلَمونَ التَّأويل.
والتَّأويلُ ليس كلُّه مذموماً؛ لأنَّ التَّأويلَ لَهُ معانٍ متعدِّدةٌ، يكونُ بمعنَى التَّفسيرِ، ويكونُ بمعنى العاقِبةِ والمآلِ، ويكونُ بمعنَى صرفِ اللَّفظِ عن ظاهرِهِ.
(أ)- يكونُ بمعنَى التَّفسيرِ، كثيرٌ مِن المفسِّرينَ عنْدَمَا يفسِّرونَ الآيةَ، يقولون: تأويلُ قولِهِ - تَعَالَى - كذا وكذا، ثُمَّ يَذْكُرونَ المعنَى، وسُمِّيَ التَّفسيرُ تأويلاً، لأنَّنا أوَّلْنَا الكلامَ، أيْ: جعلْناهُ يُؤَوْلُ إِلَى معناهُ المرادِ بِهِ.
(ب)- تأويلٌ بمعنَى: عاقبةِ الشَّيءِ، وَهَذَا إنْ وَرَدَ فِي طَلبٍ، فتأويلُهُ فِعلُهُ إنْ كَانَ أمراً، وتَرْكُهُ إنْ كَانَ نهِيَاً، وإنْ وَردَ فِي خبرٍ، فتأويلُهُ وُقوعُهُ.
مثالُهُ فِي الخبرِ قولُهُ - تَعَالَى -: (هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِى تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ) [الأعراف: 53]، فالمعنَى: مَا يَنتظرُ هؤلاءِ إِلاَّ عاقبةَ ومآلَ مَا أُخْبِروا بِهِ، يومَ يأتي ذلِكَ المُخْبَرُ بِهِ يقولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قبلُ: قَدْ جاءتْ رُسلُ ربِّنَا بالحقِّ.
ومِنْه قولُ يوسفَ لَمَّا خَرَّ لَهُ أبواهُ وإخوتُهُ سُجَّداً، قالَ: (هَذَا تَأْوِيلُ رُؤيَايَ مِن قَبْلُ) [يوسف: 100]: هَذَا وقوعُ رُؤْيايَ؛ لأنَّهُ قَالَ ذلِكَ بعد أنْ سَجَدُوا لَهُ.
ومثالُهُ فِي الطَّلبِ قولُ عائشةَ - رضيَ اللَّهُ عَنْها -: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُكثرُ أنْ يقولَ فِي ركوعِهِ وسجودِهِ بَعْدَ أنْ أُنزِلَ عَلَيْهِ قولُهُ - تَعَالَى -: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) [النصر: 1]، يُكْثِرُ أنْ يقولَ فِي ركوعِهِ وسجودِهِ: ((سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي))، يتأوَّلُ القرآنَ. أيْ: يَعملُ بِهِ.
(ج)- المَعْنَى الثَّالثُ للتَّأويلِ: صرفُ اللَّفظِ عن ظاهرِهِ، وَهَذَا النَّوعُ يَنقسمُ إِلَى محمودٍ ومذمومٍ، فإنْ دلَّ عَلَيْهِ دليلٌ، فَهُوَ محمودُ النوعِ، ويكونُ مِن القِسمِ الأوَّلِ، وَهُوَ التَّفسيرُ، وإنْ لَمْ يدلْ عَلَيْهِ دليلٌ، فَهُوَ مذمومٌ، ويكونُ مِن بابِ التَّحريفِ، ولَيْسَ مِنْ بابِ التَّأويلِ.
وَهَذَا الثَّاني هُوَ الَّذِي دَرَجَ عَلَيْهِ أهلُ التحريفِ فِي صفاتِ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ -.
مثالُهُ قولُهُ - تَعَالَى -: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) [طه: 5]: ظاهِرُ اللَّفظِ أنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - استوى عَلَى العرشِ: استقرَ عَلَيْهِ، وعلاَ عَلَيْهِِ، فَإِذَا قَالَ قائلٌ: معنى (اسْتَوَى): استَوْلَى عَلَى العرشِ، فنقولُ: هَذَا تأويلٌ عنْدَكَ، لأنَّكَ صَرَفْتَ اللَّفظَ عن ظاهِرِه، لكنْ هَذَا تحريفٌ فِي الحقيقةِ؛ لأنَّهُ مَا دلَّ عَلَيْهِ دليلٌ، بلْ الدَّليلُ عَلَى خلافِهِ، كَمَا سيأتي إنْ شاءَ اللَّهُ.
فأمَّا قولُهُ - تَعَالَى -: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تستعْجِلُوهُ) [النحل: 1]، فمعنى: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ)، أيْ: سَيأتِي أمْرُ اللَّهِ، فهَذَا مخالِفٌ لظاهِرِ اللَّفظِ، لكنْ عَلَيْهِ دليلٌ، وهُوَ قولُهُ: (فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ).
وكذلِكَ قولُهُ - تَعَالَى -: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) [النحل: 98]، أيْ: إِذَا أردتَ أنْ تقرأَ، وليسَ المعنى: إِذَا أَكْمَلْتَ القراءةَ، قُلْ: أعوذُ باللَّهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ، لأنَّنا عَلِمْنَا مِن السُّنَّةِ أنَّ النبيَّ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ - إِذَا أرادَ أنْ يقرأَ استعاذَ باللَّه من الشَّيطانِ الرَّجيمِ، لاَ إِذَا أكمَلَ القراءةَ، فالتَّأويلُ صحيحٌ.
وكذلِكَ قولُ أنسٍ بنِ مالكٍ: كَانَ النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا دخَلَ الخلاءَ، قالَ: ((أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الخُبُثِ وَالخَبَائِثِ))، فمعنى ((إِذَا دخَلَ)): إِذَا أرادَ أنْ يدخلَ؛ لأنَّ ذكرَ اللَّهِ لاَ يليقُ داخلَ هَذَا المكانِ، فَلِهَذَا حملْنَا قولَهُ: ((إِذَا دَخَلَ)) على: إِذَا أرادَ أنْ يَدْخلَ، هَذَا التَّأويلُ الَّذِي دلَّ عَلَيْهِ الدَّليلُ صحيحٌ، ولاَ يَعْدُو أنْ يكونَ تفسيراً.
لذلِكَ قُلْنَا: إنَّ التَّعبيرَ بالتَّحريفِ عن التَّأويلِ الَّذِي لَيْسَ عليْهِ دليلٌ صحيحٌ أَوْلى؛ لأنَّهُ الَّذِي جاءَ بِهِ القرآنُ، ولأنَّهُ ألْصقُ بطريقِ المحرِّفِ، ولأَنَّهُ أشدُّ تنفيراً عن هذِهِ الطَّريقةِ المخالِفةِ لطريقِ السَّلَفِ؛ ولأنَّ التَّحريفَ كُلَّهُ مَذْمومٌ، بخلافِ التَّأويلِ، فإنَّ مِنْهُ مَا يكونُ مذموماً ومحموداً، فيكونُ التَّعبيرُ بالتَّحريفِ أَوْلى مِن التَّعبيرِ بالتَّأويلِ مِن أربعةِ أَوْجُهٍ.
((ولاَ تعطيلَ)): التَّعطيلُ بمعنى التَّخليةِ والتَّرْكِ، كقولِهِ - تَعَالَى -: (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ) [الحج: 45]، أيْ: مُخلاَّةٍ متروكةٍ.
والمرادُ بالتَّعطيلِ: إنكارُ مَا أثبتَ اللَّهُ لنَفْسِهِ من الأسماءِ والصِّفاتِ، سواءٌ كَانَ كُلِّيًّا أوْ جزئيًّا، وسواءٌ كَانَ ذلِكَ بتحريفٍ أوْ بجحودٍ، هَذَا كلُّهُ يُسمَّى تعطيلاً.
فأهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ لاَ يُعطِّلونَ أيَّ اسمٍ مِنْ أسماءِ اللَّهِ، أوْ أيَّ صفةٍ مِن صفاتِ اللَّهِ، ولاَ يَجْحَدونَها، بلْ يُقِرُّونَ بها إقراراً كامِلاً.
فإنْ قُلْتَ: مَا الفرقُ بينَ التَّعطيلِ والتَّحريفِ؟
قلْنا: التَّحريفُ فِي الدَّليلِ، والتَّعطيلُ فِي المَدْلولِ، فمثلاً: إِذَا قَالَ قائلٌ: معنى قولِهِ - تَعَالَى -: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) [المائدة: 64]، أيْ: بلْ قُوَّتاهُ، هَذَا محرِّفٌ للدَّليلِ، ومُعطِّلٌ للمرادِ الصَّحيحِ؛ لأنَّ المرادَ اليدُ الحقيقيَّةُ، فَقَدْ عطَّلَ المَعْنَى المرادَ، وأثبتَ معنًى غيرَ المرادِ. وإِذَا قالَ: بلْ يداهُ مبسوطتانِ، لاَ أَدْرِي! أُفوِّضُّ الأمرَ إِلَى اللَّهِ، لاَ أُثْبِتُ اليدَ الحقيقيَّةَ، ولاَ اليدَ المحرَّفَ إِلَيْهِا اللَّفظُ. نقولُ: هَذَا معطِّلٌ، وليس بمحرِّفٍ؛ لأنَّهُ لَمْ يُغيِّرْ معنَى اللَّفظِ، ولَمْ يُفَسِّرْهُ بغيرِ مُرادِهِ، لكِنْ عطَّلَ معناهُ الَّذِي يُرادُ بِهِ، وَهُوَ إثباتُ اليدِ لِلَّهِ - عزَّ وجلَّ -.
أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ يتبرَّءُونَ مِن الطَّريقتَيْنِ: الطَّريقةِ الأُولى: الَّتِي هِيَ تحريفُ اللَّفظِ بتعطيلِ معناهُ الحقيقيِّ المُرادِ، إِلَى معنًى غيرِ مُرادٍ، والطريقةُ الثَّانِيَةُ: وهِيَ طريقةُ أهلِ التَّفويضِ، فَهُمْ لاَ يُفَوِّضُونَ المَعْنَى، كَمَا يقولُهُ المفوِّضةُ، بلْ يقولونَ: نَحْنُ نقولُ: (بَلْ يَدَاهُ)، أيْ: يداهُ الحقيقيَّتانِ (مَبْسُوطَتَانِ)، وهمَا غيرُ القوَّةِ والنِعْمَةِ.
فعقيدةُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ بريئةٌ من التَّحريفِ ومِن التَّعطيلِ.
وبهَذَا نَعرفُ ضلالَ أوْ كَذِبَ مَنْ قالُوا: إنَّ طريقةَ السَّلَفِ هِيَ التَّفويضُ، هؤلاءِ ضلُّوا، إنْ قالوا ذلِكَ عن جهلٍ بطريقةِ السَّلَفِ، وكَذَبُوا إنْ قالوا ذلِكَ عن عَمْدٍ، أوْ نقولُ: كَذَبوا عَلَى الوجهَيْنِ عَلَى لغةِ الحجازِ؛ لأنَّ الكَذِبَ عِنْدَ الحجازيِّينَ بمعنَى الخطأِ.
وعَلَى كُلِّ حالٍ لاَ شكَّ أنَّ الذينَ يقولونَ: إنَّ مذهبَ أهلِ السُّنَّةِ هُوَ التَّفويضُ، أنَّهمْ أَخطئُوا؛ لأنَّ مذهبَ أهلِ السُّنَّةِ هُوَ إثباتُ المَعْنَى وتفويضُ الكيفيَّةِ.
ولْيُعْلمْ أنَّ القولَ بالتَّفويضِ –كَمَا قَالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ- مِنْ شرِّ أقوالِ أهلِ البدعِ والإلحادِ!
عندمَا يَسمعُ الإنسانُ التَّفويضَ، يقولُ: هَذَا جيِّدٌ، أسلمُ مِن هؤلاءِ وهؤلاءِ، لاَ أقولُ بمذهبِ السَّلَفِ، ولاَ أقولُ بمذهبِ أهلِ التَّأويلِ، أَسْلُكُ سبيلاً وسطاً، وأسلمُ مِنْ هَذَا كلِّهِ، وأقولُ: اللَّهُ أعلمُ، ولاَ نَدري مَا مَعناهَا. لكنْ يَقولُ شيخُ الإسلامِ: هَذَا مِن شرِّ أقوالِ أهلِ البدعِ والإلحادِ،
وصَدَقَ رحَمُه اللَّهُ، إِذَا تأملْتَهُ، وجدْتهُ تَكذِيباً للقرآنِ، وتجهِيَلاً للرَّسولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، واستطالةً للفلاسفةِ.
تكذيبٌ للقرآنِ؛ لأنَّ اللَّهَ يقولُ: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ) [النحل: 89]، وأيُّ بيانٍ فِي كلماتٍ لاَ يُدْرى مَا معناهَا؟! وهِيَ مِن أكثرِ مَا يَرِدُ فِي القرآنِ، وأكثرُ مَا وَرَدَ فِي القُرآنِ أسماءُ اللَّهِ وصفاتُهُ، إِذَا كُنَّا لاَ نَدْرِي مَا معناهَا، هَلْ يكونُ القُرآنُ تِبيانًا لكُلِّ شيءٍ؟! أيْنَ البَيانُ؟!
إنَّ هؤلاءِ يَقولونَ: إنَّ الرَّسولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لاَ يَدْرِي عَنْ معانِي القُرآنِ فيمَا يَتعلَّقُ بالأسماءِ والصِّفاتِ، وإِذَا كَانَ الرَّسولُ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ - لاَ يَدْرِي، فغيرُهُ مِن بابِ أَوْلَى.
وأَعجبُ مِنْ ذلِكَ يقولونَ: الرَّسولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتكلَّمُ فِي صفاتِ اللَّهِ، ولاَ يَدْرِي مَا معناهُ، يقولُ: ((ربُّنا اللَّهُ الَّذِي فِي السَّماءِ))، وإِذَا سُئِلَ عَنْ هَذَا؟ قالَ: لاَ أَدْرِي، وكذلِكَ فِي قولِهِ: ((يَنْزِلُ ربُّنا إِلَى السَّماءِ الدُّنْيا))، وإِذَا سُئِلَ: مَا مَعْنَى ((يَنـزِلُ ربُّنا))؟ قالَ: لاَ أَدْرِي… وعَلَى هَذَا، فقِسْ.
وهلْ هناكَ قدْحٌ أَعظمُ مِن هَذَا القدْحِ بالرَّسولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بلْ هَذَا مِن أكبرِ القَدْحِ! رسولٌ مِنْ عندِ اللَّهِ لِيُبَيِّنَ للنَّاسِ، وَهُوَ لاَ يَدرِي مَا معنى آياتِ الصِّفاتِ وأحادِيثِها، وَهُوَ يتكلَّمُ بالكلامِ ولاَ يَدرِي معنى ذلِكَ كلِّهِ!
فَهَذَانِ وَجْهانِ: تكذيبُ القرآنِ، وتجهِيَلُ الرَّسولِ.
وفِيهِ فتحُ البابِ للزَّنادِقةِ الَّذِينَ تَطاوَلُوا عَلَى أهلِ التَّفويضِ، وقالوا: أَنْتُمْ لاَ تَعرفونَ شيئاً، بلْ نَحْنُ الَّذِينَ نَعرِفُ، وأَخَذوا يفسِّرونَ القرآنَ بغيرِ مَا أرادَ اللَّهُ، وقالوا: كونُنا نُثْبِتُ مَعانيَ للنُّصوصِ خَيْرٌ مِنْ كونِنَا أُمِّيينَ لاَ نَعرفُ شيئاً، وذَهَبُوا يتكلَّمونَ بمَا يُريدونَ مِن معنَى كلامِ اللَّهِ وصفاتِهِ!! ولاَ يستطيعُ أهلُ التَّفويضِ أنْ يُردُّوا عَلَيْهِم؛ لأنَّهم يقولونَ: نَحْنُ لاَ نَعلمُ مَاذَا أرادَ اللَّهُ، فجائزٌ أنْ يكونَ الَّذِي يريدُ اللَّهُ هُوَ مَا قلْتُمْ! ففَتحوا بابَ شرورٍ عظيمةٍ، وَلِهَذَا جاءتِ العبارةُ الكاذِبةُ: ((طريقةُ السَّلَفِ أَسْلَمُ، وطريقةُ الخَلَفِ أَعْلَمُ وأَحْكمُ))!
يقولُ شيخُ الإسلامِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: ((هذِهِ قالَها بعضُ الأغبياءِ)). وَهُوَ صحيحٌ، أنَّ القَائِلَ غبيٌّ.
هذِهِ الكلمةُ مِنْ أَكْذَبِ مَا يكونُ نُطْقاً ومَدلولاً، ((طريقةُ السَّلَفِ أَسلمُ، وطَريقةُ الخَلفِ أَعْلَمُ وأَحْكَمُ))، كَيْفَ تكونُ أَعلمَ وأَحكمَ وتِلكَ أسلمَ؟! لاَ يُوجدُ سلامةٌ بُدونِ عِلمٍ وحِكمةٍ أبداً! فالَّذِي لاَ يَدْري عن الطَّريقِ لاَ يسلمُ؛ لأنَّهُ ليسَ مَعَهُ عِلمٌ، لو كَانَ مَعَهُ عِلمٌ وحِكمةٌ، لسَلِمَ، فلاَ سلامةَ إِلاَّ بعِلمٍ وحِكْمةٍ.
إِذَا قُلْتَ: إنَّ طريقةَ السَّلَفِ أسلمُ، لَزِمَ أنْ تقولَ: هِيَ أَعلمُ وأَحكمُ، وإلاَّ لكنتَ متناقِضاً.
إذاً فالعبارةُ الصَّحيحةُ: ((طريقةُ السَّلفِ أَسلمُ وأَعلمُ وأَحكمُ))، وَهَذَا مَعلومٌ.
وطريقةُ الخَلفِ مَا قالَهُ القائلُ:
لَعَمْري لَقَدْ طُفْتُ المَعاهِدَ كُلَّها وَسَيرْتُ طَرْفِي بيْنَ تِلْكَ المَعالِمِ
فَلَمْ أَرَ إلاَّ واضِعاً كَفَّ حائِرٍ عَلَى ذَقَنٍ أَوْ قارِعاً سِنَّ نادِمِ
هذِهِ الطَّريقةُ الَّتِي يقولُ عَنْها: إنَّه مَا وَجدَ إِلاَّ واضِعاً كفَّ حائرٍ عَلَى ذَقَنٍ، وَهَذَا ليسَ عندَهُ عِلمٌ، أوْ آخَرَ قارعاً سنَّ نادمٍ؛ لأنَّه لَمْ يَسلكْ طريقَ السَّلامةِ أبداً.
والرَّازي –وَهُوَ مِن كُبرائِهِمْ- يقولُ:
نِهايَةُ إِقْدامِ العُقولِ عِقالُ وأَكْثَرُ سَعْيِ العالَمِينَ ضَلالُ
،وَأَرْواحُنا فِي وَحْشَةٍ مِنْ جُسومِنا وغايَةُ دُنْيانا أَذًى وَوَبالُ
وَلَمْ نَسْتَفِدْ مِن بَحْثِنا طُولَ عُمرِنا سِوى أنْ جَمَعْنَا فِيهِ قِيلَ وقالُوا
ثُمَّ يقولُ: ((لقدْ تأملْتُ الطُّرقَ الكلاميَّةَ، والمناهجَ الفلسفيَّةَ، فمَا رأيْتُها تَشفِي عليلاً، ولاَ تَروي غَليلاً، ووجدتُ أَقربَ الطُّرقِ طريقةَ القرآنِ، أقرأُ فِي الإثباتِ: (الرَّحمَنُ عَلَى العَرْشِ استَوَى) [طه: 5]، (إِليهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ) [الشورى:11]، ومَن جرَّبَ مِثلَ تَجْرِبتِي، عَرفَ مِثلَ مَعرفَتِي)).
أهؤلاءِ نقولُ: إنَّ طريقَتَهُمْ أَعلمُ وأَحكَمُ؟!
الَّذِي يقولُ: ((إِنِّي أَتَمنَّى أنْ أموتَ عَلَى عقيدةِ عجائزِ نيسابورَ))، والعجائزُ مِن عوامِّ النَّاسِ، يتمنَّى أنَّهُ يعودُ إِلَى الأُمِّيَّاتِ! هلْ يُقالُ: إنَّهُ أَعْلمُ وأَحكمُ؟!
أينَ العلمُ الَّذِي عندَهُمْ؟!
فتَبَيَّنَ أنَّ طريقةَ التَّفويضِ طريقٌ خاطِئٌ؛ لأنَّهُ يتضمَّنُ ثلاثَ مَفاسِدَ: تكذيبُ القرآنِ، وتجهِيَلُ الرَّسولِ، واستطالةُ الفلاسفةِ! وأنَّ الَّذِينَ قالُوا: إنَّ طريقةَ السَّلَفِ هِيَ التَّفويضُ، كَذَبوا عَلَى السَّلَفِ، بلْ هُم يُثْبِتونَ اللَّفظَ والمعنَى، ويُقررِّونَهُ، ويَشرحونَهُ بأوفى شَرحٍ.
أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ لاَ يُحرِّفونَ ولاَ يُعطِّلونَ، ويقولونَ بمعنَى النُّصوصِ كَمَا أرادَ اللَّهُ: (ثم استَوَى عَلَى العَرْشِ) [الأعراف: 54]، بمعنى: علاَ عَلَيْهِ، وليْسَ معناهُ: استَولى.
(بِيَدِهِ): يد حقيقيَّة، ولَيْسَت القُوَّةَ والنِّعمَةَ، فلاَ تحريفَ عندَهُمْ ولاَ تعطيلَ.
((ومِن غيرِ تكييفٍ)): لَمْ ترِدْ فِي الكتابِ والسُّنَّةِ، ولكنْ وَرَدَ مَا يدلُّ عَلَى النَّهْيِ عَنْهَا.
التَّكييفُ: هُوَ أنْ تَذكُرَ كيفيَّةَ الصِّفةِ، وَلِهَذَا تقولُ: كيَّفَ يُكيِّفُ تَكييفاً، أيْ: ذَكَرَ كيفيَّةَ الصِّفةِ.
والتَّكييفُ يُسألُ عَنْهُ ب(كَيْفَ)، فَإِذَا قُلْتَ مثلاً: كَيْفَ جاءَ زيدٌ؟ تقولُ: راكِباً. إذاً، كيَّفْتَ مَجيئَهُ، كَيْفَ لونُ السَّيارةِ؟ أبيضُ. فذكرْتَ اللَّوْنَ.
أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ لاَ يُكيِّفونَ صفاتِ اللَّهِ، مُستنِدينَ فِي ذلِكَ إِلَى الدَّليلِ السَّمعيِّ والدَّليلِ العقليِّ، - أمَّا الدَّليلُ السَّمعيُ فمثلُ قولِهِ - تَعَالَى -: (قُل إِنَّماَ حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنهَا وَمَا بَطَنَ، وَالإِثْمَ وَالبَغْيَ بِغَيرِ الحَقِّ، وَأَنْ تُشرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَم يُنَزِّلْ بِهِ سُلطَاناً، وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعلَمُونَ) [الأعراف: 33]، والشَّاهِدُ فِي قولِهِ: (وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعلَمُونَ).
فَإِذَا جاءَ رجلٌ وقالَ: إنَّ اللَّهَ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ، عَلَى هذِهِ الكيفيَّةِ … ووَصَفَ كيفيَّةً معيَّنةً. نقولُ: هَذَا قَدْ قَالَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ يَعلمُ، هلْ أَخبرَكَ اللَّهُ بأَنَّهُ استَوَى عَلَى هذِهِ الكيفيَّةِ؟! لا، أخْبَرَنَا اللَّهُ بأَنَّهُ استَوَى، ولَمْ يُخبِرْنَا كَيْفَ استَوَى. فنقولُ: هَذَا تكييفٌ وقولٌ عَلَى اللَّهِ بغيرِ عِلْمٍ.
وَلِهَذَا قَالَ بعضُ السلفِ: إِذَا قَالَ لكَ الجهميُّ: إنَّ اللَّهَ يَنـزلُ إِلَى السَّماءِ، فكَيْفَ يَنـزلُ؟ فقُلْ: إنَّ اللَّهَ أخبَرَنَا أَنَّهُ يَنـزلُ، ولَمْ يُخْبِرْنَا كَيْفَ يَنـزِلُ. وهذِهِ قاعدةٌ مفيدةٌ.
دليلٌ آخرُ مِنَ السَّمعِ: قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: (وَلاَ تَقْفُ ماَ لَيسَ لَكَ بِهِ عِلمٌ، إِنَّ السَّمعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنهُ مَسئُولاً) [الإسراء: 36]: لاَ تَتَّبِعْ مَا ليسَ لكَ بِهِ عِلمٌ (إِنَّ السَّمعَ وَالبَصَرَ والفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنهُ مَسئُولاً) [الإسراء: 36].
وأمَّا الدَّليلُ العقليُّ، فكيفيَّةُ الشَّيءِ لاَ تُدرَكُ إلاَّ بواحدٍ مِن أمورٍ ثلاثةٍ: مشاهدْتُهُ، أوْ مشاهدةُ نظيرِهِ، أوْ خبرُ الصَّادقِ عَنْهُ. أيْ: إمَّا أنْ تكونَ شاهدْتَهُ أنتَ وعرفْتَ كيفيَّتَهُ، أوْ شاهدْتَ نظيرَهُ، كَمَا لو قَالَ واحدٌ: إنَّ فلاناً اشْتَرَى سيَّارةَ داتسن موديل ثَمَانٍ وثَمَانِينَ، رَقْمَ أَلْفَيْنِ. فتَعرفُ كيفيَّتَها؛ لأنَّ عندكَ مِثْلَهَا، أوْ خبرُ صادقٍ عَنْهُ، أتاكَ رجلٌ صادقٌ وقالَ: إنَّ سيَّارةَ فلانٍ صِفَتُها كذا وكذا … ووصَفَها تَمامًا، فتُدركُ الكيفيَّةَ الآنَ.
وَلِهَذَا أيضاً قَالَ بعضُ العلماءِ جواباً لطيفاً: إنَّ معنَى قولِنَا: ((بدونِ تكييفٍ)): لَيْسَ معناهُ ألاَّ نَعتقِدَ لَهُا كيفيَّةً، بلْ نَعتقِدُ لَهُا كيفيَّةً، لكنَّ المَنْفِي عِلْمُنَا بالكيفيَّةِ؛ لأنَّ استواءَ اللَّهِ عَلَى العَرْشِ لاَ شكَّ أنَّ لَهُ كيفيَّةً، لكنْ لاَ تُعْلَمُ، نُزولَهُ إِلَى السَّماءِ الدُّنْيَا لَهُ كيفيَّةٌ، لكنْ لاَ تُعْلَمُ، لأنَّهُ مَا مِن موجودٍ إِلاَّ ولَهُ كيفيَّةٌ، لكنَّها قدْ تكونُ معلومَةً، وقدْ تكونُ مجهولةً.
سُئِلَ الإمامُ مالِكٌ -رحمَهُ اللَّهُ- عن قولِهِ - تَعَالَى -: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) [طه: 5]: كَيْفَ استوى؟ فأطْرَقَ مالكٌ برأسِهِ حَتَّى علاهُ العَرقُ، ثُمَّ رفَعَ رَأسَهُ، وقالَ: ((الاستواءُ غيرُ مجهولٍ))، أيْ: مِنْ حَيْثُ المَعْنَى معلومٌ؛ لأنَّ اللُّغةَ العربيَّةَ بينَ أَيدِينَا، كُلُّ المواضِعَ الَّتِي وَردَتْ فِيهِا (اسْتَوَى) معدَّاةٌ ب(عَلَى) معناهَا العُلُوُّ. فَقَالَ: ((الاستواءُ غيرُ مجهولٍ، والكَيْفُ غيرُ معقولٍ))؛ لأنَّ العقلَ لاَ يُدْرِكُ الكَيْفَ، فَإِذَا انتفى الدَّليلُ السَّمعيُّ والعقليُّ عن الكيفيَّةِ وجَبَ الكفُّ عَنْها، ((والإيمانُ بِهِ واجبٌ))؛ لأنَّ اللَّهَ أخْبَرَ بِهِ عن نَفْسِه، فوَجبَ تصديقُهُ، ((والسُّؤالُ عَنْهُ بدعةٌ)): السُّؤالُ عن الكيفيَّةِ بدعةٌ؛ لأنَّ مَنْ هُمْ أحرصُ مِنَّا عَلَى العِلمِ مَا سألُوا عنها، وَهُم الصَّحابةُ، لمَّا قَالَ اللَّهُ: (اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) [الأعراف: 54]، عَرفُوا عظمةَ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ -، ومعنَى الاستواءِ عَلَى العَرْشِ، وأنَّهُ لاَ يُمكنُ أنْ تسألَ: كَيْفَ استوى؟ لأنَّكَ لَنْ تدركَ ذلِكَ، فنَحْنُ إِذَا سُئِلْنا فنقولُ: هَذَا السُّؤالُ بدعةٌ.
وكلامُ مالكٍ -رحمَهُ اللَّهُ- ميزانٌ لجميعِ الصِّفاتِ، فإنْ قِيلَ: لكَ مثلاً: إنَّ اللَّهَ يَنـزِلُ إِلَى السَّماءِ الدُّنْيا، كيفَ ينـزِلُ؟ فالنُّزولُ غيرُ مجهولٍ، والكيفُ غيرُ معقولٍ، والإيمانُ بِهِ واجبٌ، والسُّؤالُ عَنْهُ بدعةٌ، والَّذينَ يسألونَ: كَيْفَ يُمْكنُ النُّزولُ وثُلثَ اللَّيلِ يَتنقلُ؟! فنقولُ: السُّؤالُ هَذَا بدعةٌ، كَيْفَ تَسألُ عنْ شيءٍ مَا سألَ عَنْهُ الصَّحابةُ؟ وَهُمْ أَحْرَصُ مِنكَ عَلَى الخيرِ وعَلَى العِلمِ بمَا يَجِبُ لِلَّهِ - عزَّ وجلَّ -، ولَسْنَا بِأَعْلمَ مِنَ الرَّسولِ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ -، فَهُوَ لَمْ يُعلمْهُمْ. فسُؤالُكَ هَذَا بدعةٌ، ولولاَ أنَّنا نُحسنُ الظَّنَّ بكَ، لقُلْنا مَا يليقُ بِكَ بأنَّكَ رجلٌ مبتدعٌ.
والإمامُ مالِكٌ -رحمَهُ اللَّهُ- قالَ: ((مَا أَراكَ إِلاَّ مُبتدِعاً))، ثُمَّ أمرَ بِهِ فأُخرِجَ؛ لأنَّ السَّلَفَ يَكرهونَ أهلَ البدعِ وكلامَهُمْ، واعتراضاتِهمْ، وتقديراتِهمْ، ومجادلاتِهمْ.
فأنتَ يا أخي عليكَ فِي هَذَا البابِ بالتَّسليمِ، فَمِنْ تمامِ الإسلامِ لِلَّهِ - عزَّ وجلَّ - ألاَّ تبحثَ فِي هذِهِ الأمورِ، وَلِهَذَا أُحذِّرُكُمْ دائماً مِن البحثِ فيمَا يَتعلَّقُ بأسماءِ اللَّهِ وصفاتِهِ عَلَى سبيلِ التَّعنُّتِ والتَّنطُّعِ والشَّيءِ الَّذِي مَا سأَلَ الصَّحابةُ عَنْهُ، لأنَّنا إِذَا فَتَحْنا عَلَى أنْفُسِنا هذِهِ الأبوابَ انفتحتْ عَلَيْنَا الأبوابُ، وتهدَّمَتِ الأسوارُ، وعَجَزْنا عن ضَبْطِ أنَفْسِنا، فلذلِكَ قُلْ: سَمِعْنا،وأطعْنَا،وآمَنَّا،وصدَّقْنا،آمَنَّا وصدَّقْنا بالخبرِ، وأطعْنَا الطَّلبَ، وسَمِعْنا القولَ، حَتَّى تَسلَمَ!
وأيُّ إنسانٍ يسألُ فيمَا يتعلَّقُ بصفاتِ اللَّهِ عن شيءٍ مَا سألَ عَنْهُ الصَّحابةُ، فقلْ كَمَا قَالَ الإمامُ مالكٌ، فإنَّ لكَ سَلَفاً: السُّؤالُ عن هَذَا بدعةٌ. وإِذَا قُلْتَ ذلِكَ لن يُلِحَّ عليكَ، وإِذَا ألحَّ فقلْ: يا مبتدعُ السُّؤالُ عَنْهُ بدعةٌ، اسألْ عن الأحكامِ الَّتِي أنتَ مُكلَّفٌ بها، أمَّا أنْ تسألَ عن شيءٍ يتعلَّقُ بالرَّبِّ - عزَّ وجلَّ - وبأسمائِهِ وصفاتِهِ ولَمْ يسألْ عَنْهُ الصَّحابةُ فهَذَا لاَ نقبلُهُ مِنْكَ أبداً.
وهَنَاكَ كلامٌ للسَّلفِ يَدلُّ عَلَى أنَّهمْ يَفْهَمونَ معانيَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسولِهِ من الصِّفاتِ، كَمَا نُقِلَ عن الأوزاعيِّ وغيرِهِ، نُقِلَ عَنهُمْ أنَّهُمْ قالُوا فِي آياتِ الصِّفاتِ وأحادِيثِها: ((أَمِرُّوها كَمَا جاءتْ بلاَ كَيْفٍ))، وَهَذَا يدلُّ عَلَى أنَّهم يُثبتونَ لَهُا معنًى مِن وَجْهَيْنِ:
أَوَّلاً: أنَّهُمْ قالُوا: ((أَمِرُّوها كَمَا جاءتْ))، ومعلومٌ أنَّها ألفاظٌ جاءتْ لِمَعانٍ، ولَمْ تأتِ عَبَثاً، فَإِذَا أمْرَرْناها كَمَا جاءتْ لَزِمَ مِنْ ذلِكَ أنْ نُثْبِتَ لَهُا معنًى.
ثانياً: قولُهمْ: ((بلاَ كيفٍ))؛ لأنَّ نَفْيَ الكيفيَّةِ يدلُّ عَلَى وُجودِ أصلِ المعنى؛ لأنَّ نَفْيَ الكيفيَّةِ عن شيءٍ لاَ يُوجِدُ لَغوًا وعَبَثًا.
إذًا: فهَذَا الكلامُ المشهورُ عِنْدَ السَّلَفِ يدلُّ عَلَى أنَّهمْ يُثْبتونَ لَهُذِهِ النُّصوصِ معنًى.
((ولاَ تَمثيلَ))، يعني: ومِنْ غيرِ تمثيلٍ، فأهلُ السُّنَّةِ يَتبرَّءُونَ مِن تمثيلِ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ - بخَلْقِهِ، لاَ فِي ذاتِهِ، ولاَ فِي صفاتِهِ.
والتَّمثيلُ: ذِكْرُ مماثلٍ للشيءِ، وبَيْنَهُ وبَيْنَ التَّكييفِ عمومٌ وخصوصٌ مطلَقٌ؛ لأنَّ كُلَّ ممثَّلٍ مكيَّفٌ، ولَيْسَ كُلُّ مكيَّفٍ ممثَّلاً؛ لأنَّ التَّكييفَ ذِكرُ كيفيَّةٍ غيرِ مقرونةٍ بمماثلٍ، مثلُ أنْ تقولَ: لي قَلمٌ كيفيَّتُه كذا وكذا، فإنْ قَرَنْتَه بمماثلٍ صارَ تَمثيلاً، مِثلُ أنْ أقولُ: هَذَا القَلمُ مِثلُ هَذَا القَلمِ، لأنِّي ذَكَرْتُ شيئًا مُماثِلاً لشيءٍ، وعَرَّفْتُ هَذَا القَلمَ بذِكرِ مماثِلِه.
وأهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ يُثبِتونَ لِلَّهِ - عزَّ وجلَّ - الصِّفاتِ بدونِ مماثَلةٍ، يقولونَ: إنَّ اللَّهَ - عزَّ وجلَّ - لَهُ حياةٌ ولَيْسَتْ مِثلَ حياتِنَا، لَهُ علمٌ وليسَ مِثلَ عِلمِنَا، لَهُ بَصَرٌ وليسَ مِثلَ بصرِنَا، لَهُ وجهٌ وليسَ مِثلَ وجوهِنَا، لَهُ يدٌ وليستْ مِثلَ أيدِينَا… وَهَكَذَا جميعُ الصِّفاتِ، يقولونَ: إنَّ اللَّهَ - عزَّ وجلَّ - لاَ يُماثِلُ خَلْقَهُ فيمَا وصَفَ بِهِ نَفْسَهُ أبداً، ولَهُمْ عَلَى ذلِكَ أدلَّةٌ سمعيَّةٌ وأدلَّةٌ عقليَّةٌ،
I- الأدلَّةُ السَّمعيَّةُ تنقسمُ إِلَى قسميْنِ: خبرٌ، وطلبٌ.
-فمِن الخبرِ قولُهُ - تَعَالَى -: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى: 11]، فالآيةُ فِيهِا نَفْيٌ صريحٌ للتَّمثيلِ، وقولُهُ: (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) [مريم: 65]، فإنَّ هَذَا وإنْ كَانَ إنشاءً لكنَّهُ بمعنى الخبرِ؛ لأنَّهُ استفهامٌ بمعنى النَّفْيِ، وقولُهُ: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) [الإخلاص: 4]، فهذِهِ كلُّها تدلُّ عَلَى نفيِ المُماثَلَةِ، وهِيَ كلُّها خبريَّةٌ.
-وأمَّا الطَّلبُ فقَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: (فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلَّهِ أَندَاداً) [البقرة: 22]، أيْ: نُظراءَ مُماثِلينَ، وقالَ: (فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأَمْثَالَ) [النحل: 74].
فَمَنْ مثَّلَ اللَّهَ بخَلقِهِ فَقَدْ كَذَّبَ الخَبَرَ، وعصَى الأمْرَ، وَلِهَذَا أَطْلَقَ بعضُ السَّلَفِ القَولَ بالتَّكفيرِ لِمَنْ مثَّلَ اللَّهَ بخَلقِهِ، فقَالَ نعيمُ بنُ حمَّادٍ الخُزاعيُّ شيخُ البُخاريِّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: ((مَنْ شبَّهَ اللَّهَ بخلقِهِ فقدْ كَفَرَ))؛ لأنَّهُ جَمعَ بَيْنَ التَّكذيبِ بالخَبَرِ وعِصيانِ الطَّلَبِ.
وأمَّا الأدِلَّةُ العقليَّةُ عَلَى انتفاءِ التَّماثُلِ بينَ الخالِقِ والمَخلُوقِ:
فَمِنْ وجوهٍ:
أَوَّلاً: أنْ نقولَ: لاَ يُمْكنُ التَّماثُلُ بينَ الخالقِ والمخلوقِ بأيِّ حالٍ مِن الأحوالِ، لَوْ لَمْ يكنْ بَيْنَهُمَا مِن التَّبايُنِ إلاَّ أصلُ الوُجودِ، لكَانَ كافِياً، وذلِكَ أنَّ وجودَ الخالِقِ واجبٌ، فَهُوَ أزليٌّ أبديٌّ، ووجودُ المخلوقِ ممْكنٌ مسبوقٌ بعدمٍ ويَلحقُهُ فِناءٌ، فمَا كانا كذلِكَ لاَ يمكنُ أنْ يُقالَ: إنَّهمَا متماثلانِ.
ثانِيا: أَنَا نَجِدُ التَّباينَ العظيمَ بينَ الخالقِ والمخلوقِ فِي صفاتِهِ وفِي أفعالِهِ، فِي صفاتِهِ يسمعُ - عزَّ وجلَّ - كلَّ صوتٍ مَهْمَا خَفِيَ ومَهْمَا بَعُدَ، لو كَانَ فِي قعرِ البحارِ، لسَمِعَهُ - عزَّ وجلَّ -.
وأنزلَ اللَّهُ قولَهُ - تَعَالَى -: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ ،وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعُ بَصِيرٌ) [المجادلة: 1]، تقولُ عائشةُ: ((الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذي وَسِعَ سَمْعُهُ الأَصْواتَ، إِنِّي لَفِي الحُجْرَةِ، وَإِنَّهُ لَيَخْفَى عَلَيَّ بَعْضُ حَدِيثِها))، واللَّهُ - تَعَالَى - سمِعَها مِن عَلَى عرشِهِ، وبَيْنَهُ وبَيْنَها مَا لاَ يَعلمُ مَداهُ إلاَّ اللَّهُ - عزَّ وجلَّ -، ولاَ يُمكنُ أنْ يقولَ قائلٌ: إنَّ سَمْعَ اللَّهِ مثلَ سمْعِنَا.
ثالثاً: نقولُ: نَحْنُ نعلمُ أنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - مُباينٌ للخَلقِ بذاتِهِ: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاواتِ وَالأَرْضَ) [البقرة: 255]، (وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ) [الزمر: 67]، ولاَ يُمْكِنُ لأحدٍ مِن الخلقِ أنْ يكونَ هكذا، فَإِذَا كَانَ مبايناً للخَلقِ فِي ذاتِهِ، فالصِّفاتُ تابعةٌ للذَّاتِ، فيكونُ أيضاً مبايناً للخلقِ فِي صفاتِهِ - عزَّ وجلَّ -، ولاَ يمكنُ التماثلُ بينَ الخالقِ والمخلوقِ.
رابعاً: نقولُ: إنَّنا نشاهِدُ فِي المخلوقاتِ أشياءَ تتَّفِقُ فِي الأسماءِ وتختلفُ فِي المسمَّياتِ، يَختلِفُ النَّاسُ فِي صفاتِهمْ، هَذَا قويُّ البصرِ وَهَذَا ضعيفُهُ، وَهَذَا قويُّ السَّمعِ وَهَذَا ضعيفُهُ، هَذَا قويُّ البَدنِ وَهَذَا ضعيفُهُ،وَهَذَا ذَكرٌ وهذِهِ أُنْثَى… وَهَكَذَا التَّباينُ فِي المخلوقاتِ الَّتِي من جِنسٍ واحدٍ، فمَا بالُكَ بالمخلوقاتِ المختلفةِ الأجناسِ؟ فالتَّباينُ بينها أَظْهَرُ، ولِهَذَا لاَ يُمْكِنُ لأحدٍ أنْ يقولَ: إنَّ لي يداً كيَدِ الجملِ، أوْ لي يداً كيَدِ الذَّرَّةِ، أوْ لي يداً كيَدِ الَهِرِّ، فعندَنَا الآنَ إنسانٌ وجَملٌ وذَرَّةٌ وهِرٌّ، كُلُّ واحدٍ لَهُ يدٌ مختلفةٌ عن الثَّاني، مَعَ أنَّها متَّفقةٌ فِي الاسمِ. فنقولُ: إِذَا جازَ التَّفاوتُ بينَ المسمَّياتِ فِي المخلوقاتِ مَعَ اتِّفاقِ الاسمِ، فجوازُه بينَ الخالقِ والمخلوقِ من بابٍ أَوْلَى، بلْ نَحْنُ نقولُ: إنَّ التَّفاوتَ بينَ الخالقِ والمخلوقِ ليسَ جائزاً فقطْ، بلْ هُوَ واجبٌ، فعنْدَنَا أربعةُ وجوهٍ عقليَّةٍ، كلُّها تدلُّ عَلَى أنَّ الخالقَ لاَ يمكنُ أنْ يُماثِلَ المخلوقَ بأيِّ حالٍ مِنَ الأحوالِ.
رُبَّمَا نقولُ أيضاً: هناكَ دليلٌ فِطْرِيٌّ، وذلِكَ لأنَّ الإنسانَ بفطرَتِهِ بِدُونِ أنْ يُلقَّنَ يَعرفُ الفرقَ بينَ الخالقِ والمخلوقِ، ولولاَ هذِهِ الفِطرةُ مَا ذهبَ يدْعُو الخالِقَ.
فتبيَّنَ الآنَ أنَّ التَّمثيلَ مُنتفٍ سمعاً وعقلاً وفِطرةً.
فإنْ قَالَ قائلٌ: إنَّ النبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حدَّثَنا بأحاديثَ تَشتبِهُ عَلَيْنا، هلْ هِيَ تمثيلٌ أوْ غيرُ تمثيلٍ؟ ونَحْنُ نضعُها بينَ أيدِيكمْ:
-قَالَ النَّبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ القَمَرَ لَيْلَةَ البَدْرِ، لاَ تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ))، فَقَالَ: ((كَمَا))، والكافُ للتَّشبيهِ، وَهَذَا رَسولُ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ونَحْنُ مِن قاعدَتِنَا أنْ نُؤْمِنَ بمَا قَالَ الرَّسولُ، كَمَا نُؤمنُ بمَا قَالَ اللَّهُ، فأَجِيبوا عن هَذَا الحديثِ؟
نقولُ: نُجيبُ عَنْ هَذَا الحديثِ وعَنْ غيرِهِ بجوابَيْنِ: الجوابُ الأوَّلُ مُجمَلٌ، والثَّاني مُفصَّلٌ.
فالأوَّلُ المجمَلُ: أنَّه لاَ يمكنُ أنْ يَقعَ تعارضٌ بينَ كلامِ اللَّه وكلامِ رسولِهِ الَّذِي صحَّ عَنْهُ أبداً؛ لأنَّ الكُلَّ حقٌّ، والحقُّ لاَ يَتعارضُ، والكُلُّ مِنْ عندِ اللَّهِ، ومَا عندَ اللَّهِ - تَعَالَى - لاَ يَتناقَضُ (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً) [النساء: 82]، فإنْ وَقَعَ مَا يُوهِمُ التَّعارضَ فِي فَهْمِكَ، فاعلَمْ أنَّ هَذَا ليسَ بحسَبِ النَّصِّ، ولكنْ باعتبارِ مَا عنْدَكَ، فأنتَ إِذَا وقعَ التَّعارُضُ عندَكَ فِي نُصوصِ الكتابِ والسُّنَّةِ فإمَّا لقلَّةِ العِلمِ، وإمَّا لقُصورِ الفَهْمِ، وإمَّا للتَّقصيرِ فِي البحثِ والتَّدبُّرِ، ولوْ بحثْتَ وتدبرْتَ، لوجدْتَ أنَّ التَّعارُضَ الَّذِي توهَّمْتَهُ لاَ أصْلَ لَهُ، وإمَّا لسُوءِ القَصْدِ والنِّيَّةِ، بحَيْثُ تَستعرضُ مَا ظاهرُهُ التَّعارُضُ لطلبِ التَّعارُضِ، فتُحْرَمُ التَّوفيقَ، كأهلِ الزَّيغِ الَّذِينَ يتَّبِعونَ المُتَشَابِهَ.
ويتفرَّعُ عَلَى هَذَا الجوابِ المُجْمَلِ أنَّهُ يجبُ عَلَيْكَ عِنْدَ الاشتباهِ أنْ تَرُدَّ المُشْتبِهَ إِلَى المُحْكَمِ؛ لأنَّ هذِهِ الطَّريقَ طريقُ الرَّاسخينَ فِي العِلْمِ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: (هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ ءَايَتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَبِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ، وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا) [آل عمران: 7]، ويَحمِلونَ المُتشابِهَ عَلَى المُحْكَمِ حَتَّى يَبْقَى النَّصُّ كلُّهُ مُحكماً.
وأمَّا الجَوابُ المُفصَّلُ فأنْ نُجيبَ عَنْ كُلِّ نصٍّ بعينِهِ، فنقولُ:
عَنْ قولِ النبيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ القَمَرَ لَيْلَةَ البَدْرِ، لاَ تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ)). لَيْسَ تَشبِيهاً للمرئيِّ بالمرئيِّ، ولكنَّهُ تشبيهٌ للرُّؤيةِ بالرُّؤيةِ، ((تَرَوْنَ… كَمَا تَرَوْنَ))، فالكافُ في: ((كَمَا تَرَوْنَ)): داخلةٌ عَلَى مصدرٍ مُأَوَّلٍ؛ لأنَّ (ما) مصدريَّةٌ، وتقديرُ الكلامِ: كرؤيتِكُمْ القمرَ ليلةَ البدرِ، وحينئذٍ يكونُ التَّشبيهُ للرُّؤيةِ بالرُّؤيةِ، لاَ المرئيِّ بالمرئيِّ، والمرادُ أنَّكُمْ تَرَوْنَهُ رُؤيةً واضِحةً، كَمَا تَرَوْنَ القمرَ ليلةَ البدرِ، وَلِهَذَا أعقَبَهُ بقولِهِ: ((لاَ تُضَامُونَ فِي رُؤْيتِهِ))، أوْ: ((لاَ تُضارُّون فِي رؤيتِهِ))، فزالَ الإشكالُ الآنَ!
-قَالَ النَّبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ))، والصُّورةُ مماثِلةٌ للأُخرَى، ولاَ يُعقلُ صورةٌ إِلاَّ مماثِلةٌ للأُخْرى، وَلِهَذَا أَكتُبُ لكَ رِسالةً، ثُمَّ تُدخلُهَا الآلةَ الفوتوغرافيَّةَ، وتُخْرِجُ الرِّسالةَ، فَيُقالُ: هذِهِ صورةُ هذِهِ، ولاَ فَرْقَ بين الحُروفِ والكَلِماتِ، فالصُّورةُ مطابِقةٌ للصُّورةِ، والقائلُ: ((إنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ)): الرَّسُولُ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ - أَعْلَمُ وأَصْدَقُ، وأَنْصَحُ وأَفْصَحُ الخَلْقِ.
والجوابُ المُجْمَلُ أنْ نقولَ: لاَ يمكنُ أنْ يناقِضَ هَذَا الحديثُ قولَهُ - تَعَالَى -: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى: 11]، فإنْ يَسَّرَ اللَّهُ لكَ الجَمعَ فاجمع، وإنْ لَمْ يَتيسَّرْ، فَقُلْ: (ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا) [آل عمران: 7]، وعقيدتُنَا أنَّ اللَّهَ لاَ مَثِيلَ لَهُ، بِهَذَا تَسْلَمُ أمامَ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ -.
هَذَا كلامُ اللَّهِ، وَهَذَا كلامُ رسولِهِ، والكُلُّ حقٌّ، ولاَ يمكنُ أنْ يكذِّبَ بعضُه بعضاً؛ لأنَّهُ كلَّه خبرٌ ولَيْسَ حُكماً كي يُنْسَخَ، فأقولُ: هَذَا نفيٌ للمماثَلةِ، وَهَذَا إثباتٌ للصُّورةِ، فَقُلْ: إنَّ اللَّهَّ ليسَ كمثلِهِ شيءٌ، وإنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدمَ عَلَى صورتِهِ، فهَذَا كلامُ اللَّهِ، وَهَذَا كلامُ رسولِهِ، والكُلُّ حقٌ نؤمنُ بِهِ، ونقولُ: كُلٌّ مِن عِنْدَ ربِّنَا، ونَسكتُ، وَهَذَا هُوَ غايةُ مَا نستطيعُ.
وأمَّا الجوابُ المفصَّلُ فنقولُ: إنَّ الَّذِي قالَ: ((إنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدمَ عَلَى صورتِهِ)): رَّسولُ الَّذِي قالَ: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى: 11]، والرَّسولُ لاَ يمكنُ أنْ ينطقَ بمَا يكذِّبُ المُرسِلَ، والَّذِي قالَ: ((خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ)): هُوَ الَّذِي قالَ: ((إنَّ أوَّلَ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ القَمَرِ))، فهَلْ أنتَ تعتقدُ أنَّ هؤلاءِ الَّذِينَ يَدخلونَ الجنَّةَ عَلَى صورةِ القمرِ مِنْ كُلِّ وجهٍ، أوْ تعتقدُ أنَّهمْ عَلَى صُورةِ البَشرِ، لكنْ فِي الوَضاءةِ والحُسْنِ والجمالِ واستدارةِ الوجهِ، ومَا أشبَهَ ذلِكَ عَلَى صورةِ القمرِ، لاَ مِنْ كل وَجْهٍ؟! فإنْ قُلْتَ بالأوَّلِ، فمقتضاهُ أنَّهم دخلُوا وليسَ لَهُم أعْيُنٌ،وليسَ لَهُم آنافٌ،وليسَ لَهُم أفواهٌ! وإنْ شِئنْا قُلْنَا: دَخَلُوا وهُمْ أحجارٌ، وإنْ قُلْتَ بالثَّاني، زالَ الإشكالُ، وتبيَّنَ أنَّهُ لاَ يَلزمُ مِنْ كونِ الشَّيءِ عَلَى صورةِ الشَّيءِ أنْ يكونَ مماثلاً لَهُ مِن كُلِّ وجْهٍ.
فإنْ أَبَى فهْمُكَ وتقاصَرَ عنْ هَذَا وقالَ: أنا لاَ أَفْهمُ إِلاَّ أنَّه مماثِلٌ.
قُلْنَا: هناكَ جوابٌ آخَرُ، وهُوَ أنَّ الإضافةَ هُنَا من بابِ إضافةِ المخلوقِ إِلَى خالقِهِ، فقولُهُ: ((عَلَى صُورتِهِ))، مِثْلُ قولِهِ - عزَّ وجلَّ - فِي آدَمَ: (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي) [ص: 72]، ولاَ يمكنُ أنَّ اللَّهَ - عزَّ وجلَّ - أعْطَى آدَمَ جُزْءاً من رُوحِهِ، بلْ المرادُ الرُّوحُ الَّتِي خلَقَها اللَّهُ - عزَّ وجلَّ -، لكنَّ إضافتَهَا إِلَى اللَّهِ بخُصوصِها مِن بابِ التَّشريفِ، كَمَا نقولُ: عِبادُ اللَّهِ، يشملُ الكافرَ والمسلمَ والمؤمنَ والشَّهِيدَ والصِّدِّيقَ والنَّبيَّ، لكنَّنَا لو قُلْنَا: محمَّدٌ عبدُ اللَّه، هذِهِ إضافةٌ خاصَّةٌ، لَيْسَتْ كالعبوديةِ السَّابقةِ.
فقولُهُ: ((خَلَقَ آدمَ عَلَى صورتِهِ))، يعني: صورةً مِنَ الصُّورِ الَّتِي خلقَهَا اللَّهُ وصوَّرها، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ) [الأعراف: 11]، والمصوَّرُ آدمُ، إذاً: فآدمُ عَلَى صورةِ اللَّهِ، يعني: أنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي صوَّرَهُ عَلَى هذِهِ الصُّورةِ الَّتِي تُعدُّ أحسنَ صورةٍ فِي المخلوقاتِ، (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) [التين:4]، فإضافةُ اللَّهِ الصُّورةَ إِلَيْهِ مِن بابِ التَّشريفِ، كأنَّهُ - عزَّ وجلَّ - اعتنَى بهذِهِ الصُّورةِ، ومِنْ أجلِ ذلِكَ لاَ تَضْرِبِ الوجْهَ، فتعيبَه حِسًّا، ولاَ تُقبِّحْهُ فتقولُ: قَبَّحَ اللَّهُ وجهَكَ ووجْهَ مَنْ أَشْبَهَ وجهَكَ، فتعيبَهُ معنىً، فمِن أجلِ أنَّهُ الصُّورةُ الَّتِي صورَّها اللَّهُ وأضافَهَا إِلَى نَفْسِهِ تَشريفاً وتكريماً لاَ تُقبِّحْهَا بعيبٍ حِسِّيٍّ ولاَ بعيبٍ معنويٍّ.
ثُمَّ هلْ يُعتَبَرُ هَذَا الجوابُ تحريفاً أم لَهُ نظيرٌ؟
نقولُ: لَهُ نظيرٌ، كَمَا في: بيتِ اللَّهِ، وناقةِ اللَّهِ، وعبدِ اللَّهِ؛ لأنَّ هذِهِ الصُّورةَ (أيْ: صورةَ آدمَ) منفصلِةٌ بائنةٌ مِنَ اللَّهِ، وكُلَّ شيءٍ أضافَهُ اللَّهُ إِلَى نَفْسِهِ وهُوَ منفصلٌ بائنٌ عنه، فَهُوَ مِنَ المخلوقاتِ، فحينئذٍ يزولُ الإشكالُ.
ولكنْ إِذَا قَالَ قائلٌ: أيمَا أسلمُ المَعْنَى الأوَّلُ أو الثَّاني؟ قُلْنَا: المَعْنَى الأوَّلُ أَسْلَمُ، مَا دُمْنَا نجدُ أنَّ لظاهرِ اللَّفْظِ مساغاً فِي اللُّغةِ العربيَّةِ وإمكاناً فِي العقلِ، فالواجبُ حَمْلُ الكلامِ عَلَيْهِِ، ونَحْنُ وجدْنا أنَّ الصورةَ لاَ يَلزمُ مِنْهُا مماثلةُ الصُّورةِ الأُخرى، وحينئذٍ يكونُ الأسْلمُ أنْ نَحمْلَهُ عَلَى ظاهرِهِ.
فَإِذَا قُلْتَ: مَا هِيَ الصورةُ الَّتِي تكونُ لِلَّهِ ويكونُ آدمُ عَلَيْهِا؟
قُلْنَا: إنَّ اللَّهَ - عزَّ وجلَّ - لَهُُ وَجْهٌ ولَهُ عينٌ ولَهُ يدٌ ولَهُ رجلٌ - عزَّ وجلَّ -، لكنْ لاَ يَلزمُ مِنْ أنْ تكونَ هذِهِ الأشياءُ مماثلةً للإنسانِ، فهناكَ شيءٌ من الشَّبَهِ، لكنَّه ليسَ عَلَى سبيلِ المماثلةِ، كَمَا أنَّ الزُّمْرةَ الأُولى مِنْ أهلِ الجنَّةِ فِيهِا شبهٌ مِن القمرِ، لكنْ بدونِ مماثلةٍ، وبهَذَا يصدُقُ مَا ذهبَ إِلَيْهِ أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ، مِن أنَّ جميعَ صفاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَ- تَعَالَى - لَيْسَتْ مماثِلةً لصفاتِ المخلوقينَ، مِنْ غيرِ تحريفٍ ولاَ تعطيلٍ، ومِنْ غيرِ تكييفٍ ولاَ تمثيلٍ.
نسمعُ كثيراً من الكُتُبِ الَّتِي نقرأُها يقولونَ: تشبيهٌ، يعبِّرونَ بالتَّشبيهِ وهُمْ يَقصدُون التَّمثيلَ، فأيمَا أَوْلى: أنْ نعبِّرَ بالتَّشبيهِ، أوْ نُعبِّرَ بالتَّمثيلِ؟
نقولُ: بالتَّمثيلِ أَوْلى.
أَوَّلاً: لأنَّ القرآنَ عَبَّرَ بِهِ: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى: 11]، (فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلَّهِ أَندَاداً) [البقرة: 22]… ومَا أشْبَهُ ذلِكَ، وكُلُّ مَا عبَّرَ بِهِ القرآنُ، فَهُوَ أولى مِنْ غَيْرِهِ، لأنَّنا لاَ نجدُ أفصحَ مِنَ القرآنِ، ولاَ أدلَّ عَلَى المَعْنَى المرادِ مِنَ القرآنِ، واللَّهُ أَعلمُ بمَا يريدُهُ مِنْ كلامِهِ، فتكونُ موافقةُ القرآنِ هِيَ الصَّوابَ، فنعبِّرُ بنفيِ التَّمثيلِ، وَهَكَذَا فِي كُلِّ مكانٍ، فإنَّ موافقةَ النَّصِّ فِي اللَّفظِ أَوْلى مِنْ ذِكر لفظٍ مرادفٍ أوْ مقاربٍ.
ثانياً: أنَّ التَّشبيهَ عِنْدَ بعضِ النَّاسِ يعني إثباتَ الصِّفاتِ، وَلِهَذَا يُسمُّونَ أهلَ السُّنَّةِ: مُشبِّهةً، فَإِذَا قُلْنَا: مِنْ غَيْرِ تشبيهٍ. وَهَذَا الرَّجُلُ لاَ يَفهمُ مِنَ التَّشبيهِ إِلاَّ إثباتَ الصِّفاتِ صارَ كأنَّنا نقولُ لَهُ: مِنْ غَيْرِ إثباتِ صفاتٍ، فصارَ معنى التَّشبيهِ يوهِمُ معنىً فاسداً، فَلِهَذَا كَانَ العدولُ عَنْهُ أَوْلى.
ثالثاً: أنَّ نفيَ التَّشبيهِ عَلَى الإطلاقِ غَيْرُ صحيحٍ؛ لأنَّ مَا مِنْ شَيْئَيْنِ مِنَ الأعيانِ أوْ مِنَ الصِّفاتِ إِلاَّ وبَيْنَهُمَا اشتراكٌ مَنْ بعضِ الوجوهِ، والاشتراكُ نوعُ تشابُهٍ، فلو نَفَيْتَ التَّشبيهَ مطلقاً، لكنْتَ نَفَيْتَ كُلَّ مَا يشتركُ فِيهِ الخالقُ والمخلوقُ فِي شيءٍ ما.
مثلاً: الوجودُ، يَشتركُ فِي أصلِهِ الخالقُ والمخلوقُ، هَذَا نوعُ اشتراكٍ ونوعُ تشابُهٍ، لكنْ فرقٌ بينَ الوجودَيْنِ، وجودُ الخالقِ واجبٌ، ووجودُ المخلوقِ مُمْكِنٌ.
وكذلِكَ السَّمعُ فِيهِ اشتراكٌ، الإنسانُ لَهُ سمعٌ، والخالقُ لَهُ سَمعٌ، لكنْ بينهمَا فرقٌ، لكنْ أصلُ وجودِ السَّمعِ مشتركٌ.
فَإِذَا قُلْنَا: مِنْ غيرِ تشبيهٍ. وَنَفَيْنَا مطلَقَ التَّشبيهِ، صارَ فِي هَذَا إشكالٌ.
وبهَذَا عرفْنَا أنَّ التَّعبيرَ بالتَّمثيلِ أَوْلى مِنْ ثلاثةِ أوجهٍ.
فإنْ قُلْتَ: مَا الفرقُ بينَ التَّكييفِ والتَّمثيلِ؟
فالجوابُ: الفرقُ بَيْنَهُمَا من وَجْهِيَنَ:
الأولُ: أنَّ التَّمثيلَ ذكرُ الصِّفةِ مقيدةً بمماثلِ، فتقولُ يدُ فلانٍ مثلُ يدِ فلانٍ، والتَّكييفُ: ذكرُ الصِّفةِ غيرَ مقيدةٍ بمماثلٍ، مثلُ أنْ تقولَ: كيفيَّةُ يدِ فلانٍ كذا وكذا.
وعَلَى هَذَا نقولُ: كُلُّ ممثِّلٍ مكيِّفٍ، ولاَ عكسَ.
الثَّاني: أنَّ الكيفيَّةَ لاَ تكونُ إِلاَّ فِي الصِّفةِ والَهَيْئَةِ، والتَّمثيلُ يكونُ فِي ذلِكَ وفِي العددِ، كَمَا فِي قولِهِ - تَعَالَى -: (اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) [الطلاق: 12]، أيْ: فِي العدد.

هيئة الإشراف

#8

6 Feb 2009

شرح العقيدة الوسطية للشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ ( مفرغ )


القارئ:

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، (فإنه سبحانه أعلم بنفسه وبغيره وأصدق قيلاً وأحسن حديثاً من خلقه، ثم رسله صادقون مصدوقون بخلاف الذين يقولون على الله ما لا يعلمون، ولهذا قال سبحانه وتعالى: {سبحان ربك رب العزة عما يصفون * وسلام على المرسلين * والحمد لله رب العالمين} فسبح نفسه عن ما وصفه به المخالفون للرسل، وسلم على المرسلين لسلامة ما قالوه من النقص والعيب، وهو سبحانه قد جمع فيما وصفه وسمى به نفسه بين النفي والإثبات، فلا عدول لأهل السنة والجماعة عن ما جاء به المرسلون، فإنه الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين).

قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ: (بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير حمدا كثيرا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله وصفيه وخليله - صلى الله عليه - وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين، أما بعد:
فهذه الجمل التي سيأتي بيان ما فيها من العلم النافع من كلام شيخ الإسلام والمسلمين أبي العباس أحمد بن تيمية - رحمه الله تعالى -، هذه الجمل هي كالتفصيل بل هي تفصيل لما سبق من ذكر مجمل أركان الإيمان فإنه ذكر أركان الإيمان مجملة دون تفصيل ولهذا قال بعد أن ذكر أركان الإيمان قال: (ومن الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه وبما وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم).
قال: (ومن الإيمان بالله) يعني أن الإيمان بالصفات الإيمان بما وصف الله جل وعلا به نفسه في كتابه ووصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - فيما ثبت في السنة أن هذا بعض الإيمان بالله وذلك لأن الإيمان بالله جل وعلا متركبٌ من ثلاثة أشياء: الإيمان بأن الله جل وعلا واحد في ربوبيته، واحد في إلاهيته، واحد في أسمائه وصفاته، فالإيمان بتوحيد الأسماء والصفات هو بعض الإيمان بالله، ولهذا قال (ومن الإيمان بالله)، وهذه الجملة تفيد أن أهل السنة والجماعة الذين يقررون هذا الاعتقاد أنهم ساعون في تكميل الإيمان بالله بإيمانهم بالأسماء والصفات التي أخبر الله جل وعلا بها عن نفسه، وأخبر بها عنه أعلم الخلق بربه النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وذكر ههنا القاعدة العظيمة في هذا الباب، وذلك بقوله: (من الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم)، وهذا تقرير لقاعدة هذا الباب، وهذا الباب -أعني باب الأسماء والصفات- سيكون في هذه الرسالة في أكثرها فإنه أطال عليه المؤلف - رحمه الله تعالى - إطالة لشدة الحاجة إليه ولكثرة المخالفين فيه ولكثرة الاشتباه في هذا الباب، ذكر قاعدة هذا الباب بقوله (الإيمان بما وصف الله به نفسه في كتابه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم) وهذه الجملة نأخذ منها أن هذا الباب إنما عُمدته على كتاب الله جل وعلا وعلى السنة التي ثبتت عن المصطفى - صلى الله عليه وسلم -،

فإذاً مصدر توحيد الأسماء والصفات إنما هو الكتاب والسنة، وهذا كما قال أئمتنا - رحمهم الله تعالى - ومنهم الإمام أحمد بن حنبل الشيباني - رحمه الله - إذ قال في الصفات: "لا نتجاوز القرآن والحديث" يعني: في الأمور في الأسماء والصفات، وفي الأمور الغيبية لا نتجاوز القرآن والحديث، فصارت قاعدة أن ما جاء في كتاب الله وما ثبت في السنة أنه يثبت لله جل وعلا ومن الأسماء والصفات والأفعال، وكذلك في الاعتقادات في الأمور الغيبية، وإذا تقرر هذا وأن القاعدة: (أن كل ما جاء في الكتاب من صفة الله جل وعلا من أسمائه ومن أفعاله أنه يثبت لله جل وعلا وما ثبت في السنة يثبت لله جل وعلا)، إذا تقرر هذا فثمّ بيان وهو أن ما يوصف الله جل وعلا به مما يكون في كلام أهل العلم مما لم يأت في الكتاب والسنة هذا على أقسام، فإن القاعدة كما ذكرنا أنه لا يتجاوز القرآن والحديث ولكن ربما استعمل بعض أهل العلم من أئمة السنة ألفاظا هي داخلة في باب الصفات أو داخلة في باب الأفعال ولم تثبت صفة لله جل وعلا في الكتاب والسنة، وهذا الباب قال أهل العلم: إنه من باب الإخبار، والقاعدة عندهم: (أن باب الإخبار أوسع من باب الصفات)، كما أن باب الصفات أوسع من باب الأسماء، وهذا القسم سيأتي إن شاء الله إيضاح هذه القاعدة بعد ذكر بقية الأقسام، وتارة يكون ثَمّ ذكر لصفة من الصفات أو لفعل من الأفعال ولا يصح أن ينسب إلى الله جل وعلا، فقد يطلق بعض التابعين أو بعض العلماء كلمة لا تصح أن تكون صفة لله جل وعلا، أطلقوها إما من جهة الاجتهاد أو من جهة الحاجة إليها في زمن معين ونحو ذلك، وإذا كانت الصفة لا يصح أن يوصف الله جل وعلا بها فإنها ترد لأن قاعدة هذا الباب ألا يُتجاوز القرآن والحديث.
ومن الأقسام في هذا أيضا وهو القسم الثالث أن يكون ثمّ اطلاق لبعض الكلمات التي فيها وصف لله جل وعلا لكن ليس هناك ظهور في معناها من أنها تحمل معنىً صحيحا، يصح أن يقال: إنه من باب الإخبار عن الله جل وعلا بما ثبت جنسه أو معناه في الكتاب والسنة، وقد يكون أنها تحتمل المعنى الصحيح أو تحتمل معنىً غير صحيح، وذلك في مثل تسمية الله جل وعلا بـ (الدليل) مثلاً فإن بعض أهل العلم سمّوا الله جل وعلا بذلك من باب الإخبار، خاصة في الدعاء من مثل ما أرشد به الإمام أحمد، حيث أرشد من يدعو إلى أن يدعو بقوله: " يا دليل الحيارى دُلّني على صراطك المستقيم" أو نحو ذلك فأثبت طائفة هذا الاسم ولكن هذا يحتمل المعنى الصحيح ويحتمل معنى آخر ولهذا فإن هذا الباب يطلق فيه مما لم يأتِ في الكتاب والسنة مما جاء على هذا مما هو محتمل يطلق فيه على الوجه الذي يكون فيه كمال لله جل وعلا، وهذا في مثل هذا الاسم وهو (الدليل) فإن الله جل وعلا دليل دلّ العباد عليه فإن العباد ما استدلوا على الله جل وعلا إلاّ بدلالته فالله جل وعلا دليل وهو جل وعلا مدلول عليه, أيضا ولهذا المعنى الصحيح ساغ الإخبار بمثل هذا وسيأتي إن شاء الله مزيد تفصيل.
المقصود أن القاعدة المقررة عندهم هي ألا يُتجاوز القرآن والحديث، فما لم يأت بالكتاب والسنة من الصفات مما ليس جنسه موجودا في الكتاب والسنة ليس معناه فإنه لا يصح أن ينسب إلى الله جل وعلا ولو في باب الأخبار، ولكن إذا كان في باب الأخبار قد جاء مثله فإنه ينسب وقد يسمى الله جل وعلا بذلك في باب الأخبار، مثل ما يقال: إنه جل وعلا ( قديم ) أو إنه (صانع ) أو إنه ( مريد ) ونحو ذلك فهذه الألفاظ لم تأت لا في القرآن ولا في السنة أن الله جل وعلا ( قديم ) أو أنه ( مريد ) يعني بالاسم أو التسمية الخاصة باسم الصانع وذلك لأن هذه الأشياء تنقسم إلى ما فيه كمال وما فيه نقص فلاحتمالها لم تطلق في باب الصفات وإنما يجوز أن تطلق في باب الخبر عن الله جل وعلا، يعني: يخبر عن الله جل وعلا بأنه موجود بأنه مريد يخبر عن الله جل وعلا بأنه قديم وهذا ليس من باب الاسم ولا من باب الصفة.
يتبع هذا أن نذكر قواعد مهمة في مقدمة شرحنا لهذا الكتاب العظيم وهو ( العقيدة الواسطية ) قواعد مهمة في باب الأسماء والصفات، هي كالتفصيل لهذه القاعدة التي نبه عليها شيخ الإسلام بقوله (ومن الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه وبما وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم):
فمن القواعد المقررة في ذلك: (أن باب الأسماء لله جل وعلا أضيق من باب الصفات وأن باب الصفات أضيق من باب الأفعال وأن باب الأفعال أضيق من باب الإخبار)، ومعنى هذا بعبارة مختلفة أن باب الأخبار أو باب الإخبار عن الله جل وعلا أوسع من باب الأفعال وباب الأفعال أوسع من باب الصفات وباب الصفات أوسع من باب الأسماء، فإذا ثبت في الكتاب والسنة صفة لله جل وعلا لا يعني أنه يسوغ أن يشتق منها اسم لله جل وعلا، بل قد يكون ثمةَّ صفة وصف الله جل وعلا بها ولا يلزم أن يشتق له منها جل وعلا اسم؛ لأن هذا الباب مبناه على التوقيف، ليس مبناه على الاشتقاق، مبناه على التوقيف فإذا أطلق الاسم تقيدنا بذلك بإثبات الاسم, إذا أطلقت الصفة تقيدنا بذلك بإطلاق الصفة لكن إذا ثبت الاسم لله فإننا - كما سيأتي في القاعدة التي تلي إن شاء الله - فإنه لأن باب الأسماء أضيق فإن الاسم يشتمل على دلالة على الذات وعلى دلالة على الصفة، فيشتق من الاسم صفة، فمثلا الله جل وعلا ( الرحمن ) فنقول: إنه جل وعلا موصوف بصفة الرحمة، الله جل وعلا ( السميع ) نقول: إنه جل وعلا موصوف بصفة السمع، الله جل وعلا ( حييٌّ ) نقول: إنه جل وعلا موصوف بصفة الحياء ونحو ذلك وهذا كثير في هذا الباب.
كذلك (باب الأفعال أوسع من باب الصفات)، يعني: قد يكون في الكتاب والسنة وصف الله جل وعلا بالفعل ولكن لم تأت الصفة من الفعل فهنا يتقيد بالكتاب والسنة، فنثبت لله جل وعلا ما أثبته لنفسه بالفعل وأما الصفة أو الاسم من باب أولى فإنه لا يذكر _ يعني لا يوصف الله جل وعلا به – مثلا: إنه جل وعلا وصف نفسه بأنه يستهزئ وأنه يخادع وأنه جل وعلا يمكر وهذه أفعال هي لله جل وعلا على وصف الكمال ونعت الكمال الذي لا يشوبه نقص وقد أُطلقت في الكتاب والسنة بالمقابلة، قال جل وعلا في سورة البقرة: { [1] يستهزءون* الله يستهزئ بهم }، وقال جل وعلا: {يخادعون الله وهو خادعهم}، وقال جل وعلا: {ويمكرون ويمكر الله}، فإذاً هذه وصف الله جل وعلا بها من باب ذكر فعله جل وعلا فلا يشتق له من ذلك اسم كما غلط من غلط في ذلك من أمثال القرطبي في شرحه للأسماء الحسنى في قوله: إنه يشتق من: يَمكر، ماكر، أو أن من صفاته: المكر، هكذا بإطلاق أو أنه يشتق له من قوله: يستهزئ أنه مستهزئٌ، أو أن له صفة الاستهزاء بإطلاق ونحو ذلك، وإنما المقرر أن لا يتجاوز القرآن والحديث، فيقال: يوصف الله جل وعلا بأنه يستهزئ بمن استهزأ به فنأتي بصيغة الفعل؛ لأن هذا هو محض الاتباع أما إطلاق اشتقاقات فإن هذا فيه شيء نعم قد يطلق الاشتقاق مقيدا وهذا ينفي النقص فنقول أو فيقول القائل مثلا: الله جل وعلا يوصف بمخادعة من خادعه, يوصف بالاستهزاء بمن استهزأ به أو بأوليائه, يوصف بالمكر بمن مكر به أو بنبيه, أو بأوليائه، وهذا إذا كان على وجه التقييد, إذا كان على وجه التقييد فإنه أجازه العلماء؛ لأنه ليس فيه نقص وليس فيه تعدّي للمعنى؛ لأن المعنى المراد هو إثبات الصفة مقيدة ولكن الأولى أن يلزم ما جاء في الكتاب والسنة مثل صفة ( الملل ) الله جل وعلا لا يقال إنه يوصف بالملل هذا باطل لأن الملل نقص ولكن الله جل وعلا وصف نفسه بأنه يملُ ممن ملَ منه، وهذا على جهة الكمال، فإن هذه الصفات التي تحتمل كمالا ونقصا فإن لله جل وعلا منها الكمال، والكمال فيها يكون على أنحاء منها أن يكون على وجه المقابلة، قال جل وعلا: {إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم}، وقال جل وعلا: {ويمكرون ويمكر الله}، فهو جل وعلا يخادع من خادعه يستهزأ بمن استهزأ به، وهذا كمال لأنه من آثار أنه جل وعلا عزيز جبار ذو الجلال وذو الكمال وذو القدرة العظيمة، فهو جل وعلا لا يعجزه شيء.
ومن القواعد والتفصيل أيضا: (باب الإخبار أوسع من باب الأفعال)، يعني أن باب الأفعال مقيد بالنصوص ولكن قد يكون باب الإخبار نخبر عن الله جل وعلا بفعل أو بصفة أو باسم لكنه ليس من باب وصف الله جل وعلا به وإنما من جهة الإخبار لا جهة الوصف, وهذا سائغ كما ذكرت لك آنفا؛ لأن باب الأخبار أوسع هذه الأبواب، فإذا كان الإخبار بمعنى صحيح لم ينف في الكتاب والسنة وثبت جنسه في الكتاب والسنة، فإنه لا بأس أن يخبر عن ذلك مثل أن يخبر عن الله جل وعلا بأنه الصانع فإنه جاء في القرآن قوله جل وعلا: {صنع الله الذي أتقن كل شيء}، وقد جاء أيضا في الحديث: ((إن الله صانع ما شاء))، وكذلك ((إن الله صانع كل صانع وصنعته)).
ردا على مداخلة غير مسموعة: لا، ((إن الله صانع)) هذه رواية الحاكم في المستدرك ((إن الله صانع كل صانع وصنعته)) بلفظ "صانع"، (واللي) في مسلم ((إن الله خالق ما شاء وإن الله صانع ما شاء)) هذا أيضا من هذا الباب فإذن لفظ (الصانع) مثل (المريد)، قال بعض أهل العلم ومنه (الشيء)، فإنه يخبر عن الله جل وعلا بالشيء وهذا فيه نظر لأنه جاء في الصحيح - صحيح البخاري - أن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: ((لا شيء أغير من الله جل وعلا)) والمقصود من هذا أن هذه القاعدة مهمة لك جدا فيما سنأتي من بيان الأسماء والصفات وتقرير عقيدة أهل السنة والجماعة في ذلك، من القواعد في هذا الباب أن..
ردا على مداخلة غير مسموعة: أنا ذكرت لك هذا تُقيد بما قُيدت به في النصوص، فالله جل وعلا لم يصف نفسه بأنه يستهزأ دون مقابلة وإنما وصف نفسه بأنه يستهزأ بمن استهزأ به فقال: { [2]يستهزءون * الله يستهزئ بهم}، لم يصف نفسه مطلقا بأنه يخادع بل وصف نفسه بأنه يخادع من خادعه, وهذا كله تقييد؛ وذلك لأن هذه الصفات تحتمل كلاما ونقصا فإنها عند الناس أن ذو الاستهزاء وذو المخادعة وذو المكر ونحو ذلك أنها ليست بجهات كمال, والله جل وعلا كل كمال للمخلوق هو جل وعلا أحق به, كل كمال للمخلوق الله جل وعلا أحق به وهذه الأشياء مثل مثلا الاستهزاء فإن الذي لا يرد على الاستهزاء في العرف العام هذا قد يكون مأخذه العجز, وقد يكون مأخذه الضعف، مثل من يستهزؤ به كبير قوم أو يستهزؤ به أمير أو ملك أو رئيس أو نحو ذلك فمن جهة الضعف لا يرد ذلك والله جل وعلا موصوف بصفات الكمال ولهذا مع أن العرب تعلم أن الجهل مذموم وتذم الجاهلين وتذم الجهل لكن قال عمرو بن كلثوم مثبتا لنفسه كمال هذا الوصف بقوله:

ألا لا يجهلن أحد علينا ....... فنجهل فوق جهل الجاهلينَ

وذلك لأن الجهل منه على من جهل عليه هذا من آثار قوته وعزته ومن آثار جبروته ومن آثار ملكه وسلطانه فلهذا صار كمالا بهذا الاعتبار.
على كل حال هذه لها أيضا تفاصيل يأتي إن شاء الله مزيد بيان لها عند الآيات التي فيها تقرير ذلك. من القواعد المقررة في ذلك، نعم
قائل يسأل بصوت غير مسموع؟ الشيخ: نعم. هو جل وعلا يعني قصدك أنه يسمى بأنه ماكر أو من جهة أنه لم تأت بالمقابلة.
الإجابة: لا.. هو جعل في السياق ما يدل على ذلك بقوله: {ويمكرون ويمكر الله} فالله جل وعلا يمكر وهم يمكرون، والله جل وعلا خير من يمكر، إذا كانوا يمكرون فالله جل وعلا يمكر بهم, وقد يكون في بعض هذه بعض النصوص إطلاقا غير هذه, أستحضر أنا بعض النصوص فيها إطلاق لكنها المعروف أنها تقيد بما قيدت به في النصوص الأخرى.
نقول أيضا من القواعد المقررة في هذا الباب: (أن أسماء الله جل وعلا لا تحصر بعدد معين)، كما جاء في الحديث الصحيح أو الحسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بيّن أن لله جل وعلا أسماء استأثر بها في علم الغيب عنده، قال عليه الصلاة والسلام في تعليمه الدعاء: (( اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ماضٍ فيَّ حكمك عدل فيَّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي … )) إلى آخر الحديث، فدلّ هذا الحديث على أن أسماء الله جل وعلا لا تحدّ بحدٍّ، أما ما جاء في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: (( إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة )) فهذا تخصيص لتسعة وتسعين اسما بهذا الفضل بأن من أحصاها دخل الجنة وليس معناه حصر الأسماء الحسنى في هذا العدد، وأسماء الله جل وعلا حسنى كما قال سبحانه: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه}, ومعنى كون أسماء الله جل وعلا حسنى أنها بالغة في الحُسن نهاية الحُسن وبالغة في الجمال والجلال والكمال نهاية الجلال ونهاية الجمال ونهاية الكمال، وأسماء الله جل وعلا هذه التسعة والتسعين التي قال فيها - عليه الصلاة والسلام - من أحصاها دخل الجنة، فُسِّر الإحصاء بأشياء، وجماع ذلك ثلاثة أمور، الإتيان بها مجتمعة هو معنى الإحصاء:
- الأول: حفظها،
- الثاني: معرفة معانيها،
- الثالث: التعبد لله جل وعلا بها, حفظها معرفة معانيها, التعبد لله جل وعلا بها, بسؤاله بها, وبدعائه بها ونحو ذلك.
القاعدة التالية: (أن أسماء الله جل وعلا وصفات الله جل وعلا تنقسم باعتبارات)، فمن انقسامها أنها تنقسم إلى صفات ذاتية وصفات فعلية: -
ونعني بالصفات الذاتية: الصفة التي لا تنفك عن الله جل وعلا، يعني أن الله جل وعلا موصوف بها دائما ليس في حال دون حال بل هو جل وعلا, موصوف بتلك الصفات الذاتية مثل الرحمة، فإن الله جل وعلا من صفاته الذاتية أنه رحيم أنه ذو رحمة، كذلك الغنى فالله جلَّ وعلا غنيٌّ، هذا من صفات الذات، كذلك القدرة فالله جل وعلا قدير، ذلك من صفات ذاته، وكذلك العلو فالله جل وعلا موصوف بأنه ذو العلو ونعني بالعلو جميع أقسامه: علو الذات وعلو القهر وعلو القَدر, وهذا كله صفة ذاتية لله جل وعلا، لا تنفك عن الموصوف، فالله جل وعلا سميع هذه صفة ذاتية له جل وعلا، الله جل وعلا بصير، صفة ذاتية.
القسم الثاني: الصفات الفعلية: و نعني بالصفات الفعلية التي يتصف الله جل وعلا بها. بمشيئته " وقدرته " يعني أنه ربما اتصف بها في حال وربما لم يتصف بها، مثل صفة الغضب مثلا، فالله جل وعلا ليس من صفاته الذاتية الغضب فإنه يغضب ويرضى، يغضب حينا ويرضى حينا، وهذا كما جاء في آية سورة طه، قال جل وعلا: {ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى} وهنا الغضب يحلُّ وهذا أيضا جاء مبينا في حديث الشفاعة أنه - عليه الصلاة والسلام – قال: ((إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله)), وهذا باب واسع مثل الاستواء، فإن الاستواء صفة فعلية باعتبار أن الله جل وعلا لم يكن مستويا على العرش، ثم استوى على العرش وهذا باب واسع، وهذا يسمّى عند كثير من العلماء يسمّى بالصفات الاختيارية، وهي التي نفاها ابن كلاّب ومن شابهه وأخذ نهجه من الأشاعرة و الماتريدية ونحوهم، كما سيأتي تفصيله إن شاء الله في مواضعه.
أيضا من التقسيمات، أن أسماء الله جل وعلا وصفاته من حيث معناها، منها ما هو وصف جلال أو أسماء جلال، ومنها ما هي أوصاف أو أسماء جمال ومنها ما هي أوصاف أو أسماء لمعاني الربوبية, ومنها أوصاف أو أسماء لمعاني الألوهية ونحو ذلك، فهذه انقسامات للمعاني، أسماء الله جل وعلا منها أسماء جلال ومنها أسماء جمال، وضابط ذلك أن أسماء الجمال ما كان فيها فتح باب المحبة من العبد لربه جل وعلا من جنس أسماء وصفات الرحمة وصفة الرحمة والأسماء المأخوذة منها كالرحمن والرحيم ونحو ذلك من جهة أو من مثل اسم الله جل وعلا الجميل أو صفة الجميل، صفة الجمال لله اسم الله جل وعلا النور أو صفة النور لله جل وعلا، أن الله جل وعلا رزّاق اسم الله الرزّاق وأنه ذو الرزق ونحو ذلك مما فيه إحسان بالعباد، هذا يقال له: صفات جمال ولهذا يقول شيخ الإسلام في ختمه للقرآن، الختم المشهور النسبة إليه، يقول في أوله: (صدق الله العظيم المتوحد في الجلال بكمال الجمال تعظيما وتكبيرا، الذي نزّل الفرقان على عبده …) الخ.
هنا قال: (متوحد بالجلال بكمال الجمال)، وذلك أن أسماء الله جل وعلا منها جلال ومنها جمال, أما أسماء الجلال وصفات الجلال فضابطها أنها الأسماء والصفات التي فيها معاني جبروت الله جل وعلا وعزته وقهره من مثل اسم الله العزيز القهار والجبار والقوي والمنتقم ونحو ذلك من الأسماء والصفات, فمعاني العزة, معاني الجبروت، معاني القهر ونحو ذلك هذه كلها جلال؛ لأنها تورث الإجلال تورث التعظيم تورث الخوف والهيبة لله جل وعلا ومن الله جل وعلا.
صفات أو أسماء من جهة الربوبية، وذلك اسم الله جل وعلا الرب المالك، الملك والسيد عند من أطلقه اسم لله جل وعلا ومدبر الأمر الذي يجير ولا يجار عليه، الرزّاق ونحو ذلك، معاني الربوبية الأسماء التي هي من معاني الربوبية هذه كلها يقال لها: أسماء فيها معاني الربوبية وقد تكون ببعض الاعتبارات أسماء جلال وقد تكون أسماء جمال، وهذا باب واسع يطلب من مظانه.
من القواعد المقررة في الأسماء والصفات أن العقل... نعم
ردا على مداخلة غير مسموعة: معاني الألوهية يعني الأسماء التي فيها معاني الألوهية هذا مثل الله و..
-.....
-نعم.
-....
-والمعبود يعني مع أن المعبود ما أطلق باسم يعني ما فيه معاني تدل على إفراد الله جل وعلا بأفعال العبيد.
-......
-هه؟ نعم؟
-......
تقسيم هذا من جهة المعنى, هذا التقسيم يقول دليله هذا دليله اللغة هذا المعنى يعني صفات الجلال هكذا هي في اللغة هذه صفات جلال، إن الله جميل يحب الجمال هوجميل جل وعلا في ذاته وفي أسمائه وصفاته وأفعاله وهوجل وعلا ذو الجلال والإكرام فوصف نفسه بأنه ذو الجلال ووصف نفسه بأنه جميل والله جلَّ وعلا له جمال الذات وله جلال الذات وله جلال الصفات والأسماء وله جمال الصفات والأسماء، هذا مأخذه مع النصوص أيضا مأخذه اللغة لأن الجلال غير الجمال,ومأخذ الجلال من الأسماء غير مأخذ الجمال من الأسماء وهذا ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع وذكره ابن القيم في مواضع وهو مقرر عند العلماء في شرح حديث ((إن الله جميل يحب الجمال))، وكذلك عند قوله: {ذو الجلال والإكرام}.
من القواعد المقررة في هذا أن العقل تابع للنقل وأن النصوص نصوص الكتاب والسنة لا يُحكّم فيها القوانين العقلية التي اصطلح عليها طوائف من الخلق، بل نأخذ القواعد العقلية من النصوص، النصوص مصدر للقواعد العقلية كما أنها مصدر للشرع وللأحكام، وهذا فيه إبطال لمن قدم العقل على النقل أو جعل أن العقل أصل والسمع فرع، وهذه القاعدة هي التي كتب فيها شيخ الإسلام كتابه العظيم العجاب (درء تعارض العقل والنقل) والذي قال فيه ابن القيم - رحمه الله تعالى - مثنيا عليه معظما له قال:

واقرأ كتاب العقل والنقل الذي ....... ما في الوجود له مثيل ثاني

وصدق؛ فإنه في دحض أصول المتكلمين وأصول المبتدعة من الأشاعرة ونحوهم والمعتزلة فإنه أصل ليس ثمّ مصنف يعدله في هذا من مصنفات علماء المسلمين "درء التعارض" إيه مطبوع طبعة بتحقيق الدكتور محمد رشاد سالم ي نحو أحد عشر مجلداً، وهذه القاعدة سنستفيد منها في الرد على أولئك في مواضعه وتفصيلها يأتي إن شاء الله تعالى.
[3] [من القواعد المقررة في هذا الباب التي سنحتاجها إن شاء الله تعالى فيما سنأتي من بيان معاني الآيات والأحاديث التي فيها الصفات (أن] الواجب على العباد أن يؤمنوا بما أنزل الله جل وعلا في كتابه، والإيمان بما أنزل الله جل وعلا في كتابه أو أخبر به نبيه - صلى الله عليه وسلم - من الأسماء والصفات) يكون بأشياء: -
الأول: إثبات الصفة لأن الله جل وعلا أثبتها، فتثبت كما أثبتها الله جل وعلا بها وهذا أول درجات الإيمان.
الثاني أن يثبت المعنى الذي يدل عليه ظاهر اللفظ، فإن القرآن نزل بلسان عربيّ مبين تعقل معانيه وتفهم ألفاظه بلسان العرب وبلغة العرب، وآيات الصفات وآيات الأسماء هي من القرآن، فتفهم باللسان العربي، فكل اسم من أسماء الله له معنى يدل عليه، وكل صفة من صفات الله لها معنى تدل عليه بظاهر اللفظ فيجب إثبات الصفة من حيث هي ويجب إثبات المعنى الذي في اللفظ أو نقول ما سبب ذلك إثبات المعنى لم؟ لأن الله جل وعلا قال: {أفلا يتدبرون القرآن}, وقال: {بلسان عربيّ مبين} يعني: بيّن واضح وهذا يعني أن آيات الكتاب ومنها آيات الأسماء والصفات أنه يتعلق بها التدبر والفهم، والتدبر فرع العلم بالمعنى، ليست الأسماء والصفات غير معلومة المعنى، فإن معانيها معلومة. والتدبر للمعاني، أما لو لم تكن لمعانٍ صارت بمنزلة الأحرف الهجائية، ألف باء تاء ثاء … الخ، ليس لها معاني خاصة تدل عليها، وهذا يعني أنها لا تعقل ولا تتدبر ولكن الله جل وعلا أمرنا أن نعقل وأن نتدبر كتابه، وأعظم ما في القرآن الدلالة والعلم بالله جل وعلا ووصف الله جل وعلا ونعوت كماله جل وعلا وهذه كلها متعلق بها التدبر، كيف يكون التدبر لغير هذا المطلب الأعظم.
أيضا من الإيمان بها أن يؤمن بمتعلقاتها في الخلق وبآثارها في الخلق، فإن الأسماء والصفات لها آثار متعلقة بخلق الله، متعلقة بملكوت الله فكل اسم وكل صفة له أثر، فنؤمن بالصفة من حيث هي ونؤمن بما اشتملت عليه من المعنى، ونؤمن بالأثر الذي للصفة، وهذا قد يسمّى متعلق الصفة، فمثلا الله جل وعلا موصوف بأنه ذو سمع وأنه السميع وهذا نثبت فيه أن الله جل وعلا له السمع ونثبت معنى السمع, ثم نثبت أثر هذه الصفة في الخلق وأن الله جل وعلا لا يعزب عنه مسموع، سبحان من وسع سمعه الأصوات.
_ سؤال: ما معنى السمع؟
جواب: السمع هذا, سؤال جيد: ما معنى السمع؟.. السمع من حيث هو معناه إدراك ما يُسمع. هذا معنى السمع. السمع إدراك ما يسمع.
وهنا تنبيه، وهو أن المعاني يصعب تفسيرها بخلاف الذوات والأعيان، فإنه يسهل التعريف بها، ولهذا تجد أن معاني القلوب مثلا أو ما يقوم بالقلوب بالقلب, قلب البشر من الصفات، فإنه إذا عرفه فإنه يعرف ما قام بقلبه بتعلقه بذاته بتعلقه بالبشر، مثلا: لو طلب تعريف الرحمة فإنها معنى قلبي, كل واحد يدرك منا معنى الرحمة؛ لأنها معنى قلبي يشعر به والدلالة بما يشعر به، هذه دلالة أعظم من دلالات الألفاظ فإذا أراد أن يعبّر عنه ربما عَسُرَ عليه أن يعبّر بتعبير مطلق، يعني بتعبير عام يشمل ما في قلبه ويشمل غيره، ربما عَسُرَ على كثير من الناس بل ربما عَسُرَ على كثير من أهل العلم، ولكن الخاصة يؤتيهم الله جل وعلا من ذلك ما يشاء....
فإذا عرف معرف الرحمة فإنه ربما يعرفها بالنظر إلى حاله، مثل ما عرَّفها الأشاعرة: كل أعمال القلوب التي في الإنسان, ووصف الله جل وعلا بها، عرّفوها بناء على أنها أعمال قلوب للإنسان، ولهذا نفوها عن الله جل وعلا، وهذا في المعاني كثير، لهذا نقول: إن المعاني تعقل معانيها، صفات هذه التي هي من هذا الجنس تعقل معانيها وأما تفسيرها فلا بد أن تقف عليه بعبارة من عبارات أهل العلم المحققين؛ لأن تفسير تلك المعاني قد يكون من المفسّر بالنظر إلى بعض متعلقاتها، يفسِّر الرحمة من جهة تعلقها بالمخلوق، يفسر الحياء من جهة اتصاف المخلوق به، يفسر الغضب من جهة اتصاف المخلوق به، يفسر الرضا من جهة اتصاف المخلوق به … وهكذا، فإن هذه وجودها مطلقا وجودها مطلق من دون إضافة كما هو معلوم، إنما يوجد في الأذهان أما في الخارج يعني في الواقع، فإنما توجد مضافة رحمة الله، رحمة الإنسان، فإذا عرّف معرِّف هذه المعاني فإنه قد ينظر في ذلك ينظر إلى ما يعقله من نفسه، ولهذا ضلّ من ضلّ في هذا الباب من هذه الجهة، فتنبهوا لهذه القاعدة وهي أن المعاني تفسيرها من دون إضافة قد يَعسُر على كثيرين فخذ تفسيرها من أهل العلم المحققين حتى بعض اللغويين يفسرها باعتبار من قامت به ربما فسّر الحياء وهو ينظر إلى حياء المخلوق لكن الحياء الذي هو مطلق عن الإضافة، الذي هو وجود كلّي في الذهن معنىً كلّي في الذهن قد لا يصل إلى تعريفه لأنه إنما وجد في ذهنه بالتخصيص، ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في التدمرية في قاعدته المعروفة في الفرق بين التعميم: أن المعاني هذه لا توجد كلية إلاّ في الأذهان، أما في الخارج فإنما توجد بالإضافات والنِّسب.
القواعد في هذا كثيرة، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى منها، ربما يضيق الوقت عليها على تعداد ما سنستخدمه، أنا ذكرت أشياء سنستخدمها إن شاء الله في فهم النصوص والرد على المخالفين من المؤولة والمعطلة والمشبهة والمجسمة ونحو ذلك من أصناف أهل الضلال في هذه الأبواب.
بقيت القاعدة الأخيرة التي نختم بها، وهي أن ظاهر النصوص مراد، وأن الإيمان إنما يكون بظاهر النص؛ لأن الظاهر هو ما يتبادر إلى الذهن من النص، وهذا هو الذي كلفنا الله جل وعلا بالإيمان به، إذ لم نكلف في الغيبيات بأن نؤمن بأشياء وراء الظاهر؛ لأنها لا تدرك وهذه الغيبيات لابد من إدراكها نقـول: إن الظاهر هو الذي يجب الإيمان به فما هو ظاهر النصوص ؟، ظاهر النصوص هو إثبات المعنى دون إثبات الكيفية ولهذا وجب الإيمان به؛ لأن فيه إثبات معنى دون إثبات الكيفية، الله جل وعلا وصف نفسه بأنه استوى على العرش، وهذا إثبات لمعنى دون إثبات لكيفية، وصف الله جل وعلا نفسه بأنه يغضب { وغضب الله عليهم } وهذا إثبات للمعنى دون إثبات للكيفية، وصف الله جل وعلا نفسه بأنه يرضى، وهذا إثبات للمعنى دون إثبات الكيفية، فظاهر النص هو المعنى الذي دلّ عليه أما كيفية الاتصاف فإن هذه لا يدُلُّ عليها ظاهر النصوص، ولهذا ضل من ضل حيث زعم وظنّ أن ظاهر النصوص فيه التشبيه أو فيه التمثيل ففهم من الغضب، غضب المخلوق، يعني كيفية غضب المخلوق، فهم من الرضا رضا المخلوق، يعني كيفية رضا المخلوق فيفسرون الغضب مثلا بأنه ثوران دم القلب أو غليان دم القلب وهذا أثر الغضب في المخلوق وليس هو معنى الغضب، بل الغضب له معنىً كلّي لا يتقيد بالمخلوق، وهذا الباب مهم جدا، فإن الإيمان بظاهر النص هو إيمان بالمعنى الذي دلَّ عليه هذا الظاهر، وهذا الظاهر أحيانا يكون إفرادياً نفهمه من كلمة واحدة، وأحياناً يكون هذا الظاهر تركيبياً نفهمه من تركيب الكلام، يعني أن الظاهر ينقسم إلى قسمين، ظاهر إفرادي وظاهر تركيبي: -
الظاهر الإفرادي هو الذي دلَّ عليه أفـراد الكلام يعني كلمة واحدة كقـوله: { وغضب الله عليهم }، وكقوله: { ومن يحلل عليه غضبي } وكقوله: { إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها } ونحو ذلك من الصفات.
وأما الظاهر التركيبي فهو الذي يفهم لا من جهة لفظٍ ولكن من جهة الكلام كله، وهذا حجة وهو أصل في اللغة وهو مقرر عند أئمة أهل اللغة من السُّنيين، وكذلك أئمة أهل السنة في كتب العقائد وغيرها، مثاله قوله تعالى: { فأتى الله بنيانهم من القواعد } أتى الله بنيانهم من القواعد، هنا لا يفهم منه صفة الإتيان لله جل وعلا، لكن هنا يفهم الكلام بظاهره التركيبي وهو أن الله جل وعلا أتى بنيانهم من القواعد، ومعلوم أن تركيب الكلام لا يدلّ على أن الإتيان كان بالذات وإنما الإتيان كان بالصفات، ولهذا فسَّره المفسّرون بأنه إتيان بعذابه أو بقدرته أو بنحو ذلك، كذلك قوله جل وعلا: { ألم تر إلى ربك كيف مدَّ الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا …} إلى آخر الآيات، قال: { ألم تر إلى ربك كيف مدَّ الظل } هنا ليست رؤية إلى الله جل وعلا، يعني إلى الذات، ولكن تركيب الكلام وظاهر الكلام الذي أُمرنا بالإيمـان به هنا ظاهر تركيبي ليس لفظيا، وذلك لأن دلّ على معنى قـوله: { ألم تر إلى ربك } دل على معناها قـوله: { كيف مدّ الظل }، وهذه قاعدة مهمة جدا، وكذلك الحقيقة الحقيقة تنقسم إلى.. وهذا الذي ذكرت لك بيّنه شيخ الإسلام رحمه الله في مواضع ومنها في أول المجلد الثالث من ردِّه على الرازي أول المجلد الثالث في رده على الرازي في بيان تلبيس الجهمية أو الرد على كتاب التأسيس والتقديس أو يسمّى نقض التأسيس والتقديس، وهذا القسم لم يطبع وهو من الأقسام المهمة جدا في الكتاب كذلك الحقيقة تنقسم إلى قسمين: حقيقة تفهم من مفرد الكلام وحقيقة تفهم من تركيب الكلام، وهي مرتبطة بتقسيم ظاهر الكلام إلى ظاهر إفرادي وظاهر تركيبي، فمثلا ادُّعيَ المجاز في قوله تعالى ادعي المجاز في قوله تعالى: { واسأل القرية } وادُّعي المجاز في قوله تعالى: { واخفض لهما جناح الذلّ من الرحمة } وادُّعي المجاز في قوله تعالى: { الرحمن الرحيم } وادُّعي المجاز في أشياء كثيرة، وهم يزعمون أن أن مثل قوله: { واسأل القرية } فيها إثبات للمجاز لأن الحقيقة حقيقة اللفظ لم تُعنى بيقين، وفهموا من حقيقة اللفظ هنا أن السؤال متوجه إلى القرية، والسؤال متوجه إلى العير، ففهموا من قوله: { واسأل القرية } أن السؤال يتوجه إلى القرية، ونقول: هذا ليس بظاهر الكلام وليس بحقيقته أيضاً، لأن الحقيقة هنا تركيبية، ولأن الظاهر هنا ليس هو ما دل عليه مفرد اللفظ كما زعموا بل الحقيقة التركيبية هي المفهومة من قوله: { واسأل القرية } ومعلوم أن السؤال لم نؤمر بتوجيهه إلى جدران القرية وبيوتها وأرضها، وإنما لمن يفهم السؤال ويجيب عليه وهم أهل القرية فهذا يسمى حقيقة تركيبية أو ظاهر دلّ عليه تركيب الكلام وفيه نفي للمجاز.
نقف عند هذا وأسأل الله عز وجل أن يعلمنا ما ينفعنا وأن يوفقنا للهدى والرشاد، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.


مجلس آخر

القارئ:

(ومن الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه ووصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل).
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ: (بسم الله الرحمن الرحيم _ الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى أله وصحبه أجمعين، اللهم إنا نسألك علما نافعا وعملاً صالحاً وقلباً خاشعاً ودعاءً مسموعاً، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما والحمد لله على كل حال.
ذكر شيخ الإسلام رحمه الله تعالى أن من الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرنا هذه الجملة وما يتبعها من القواعد المهمة, وهذا الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه وبما وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ادعاه كثيرون, ادعاه طوائف من المنتسبين إلى القبلة، ولكن دعوى الإيمان بما وصف الله جل وعلا به نفسه ووصفه به رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لما كانت دعوى عند كثيرين التزم أهل السنة والجماعة أن يذكروا قيد هذا الإيمان فإن الإيمان بهذه النصوص التي هي نصوص الصفات ليس إيماناً على وفق ما تشتهي النفس أو يؤدي إليه العقل بل على قاعدة وتلكم القاعدة هي: أن يكون الإيمان بتلك النصوص بما وصف الله به نفسه وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل، وهناك محرفون يقولون: نؤمن بالصفات على ما جاء في الكتاب والسنة لكنهم يحرفونها عن مواضعها, فأهل السنة خالفوهم وآمنوا بالنصوص من غير تحريف، وهناك معطلة عطلوا نصوص الصفات عن معانيها اللائقة بها أو عطلوا الله جل وعلا عن الوصف الذي وصف به نفسه على كماله وأولوه وحرفوه وتوجهوا به إلى معنى أخر فخالفهم أهل السنة فآمنوا بظاهر النصوص من غير تعطيل لها ولا تأويل يصرفها عن حقائقها اللائقة بالله جل جلاله، كذلك آمنوا بالنصوص من غير تكييف لأن هناك من آمن فكيَّف فجعل نصوص الصفات مكيَّفة بكيفيات اخترعوها وابتدعوها في أذهانهم, وهؤلاء يزعمون أنهم آمنوا بالنصوص لكن أهل السنة بيَّنوا أن الإيمان لا بد أن يكون من غير تكييف, وهناك ممثلة مجسمة آمنوا بالنصوص على زعمهم وجعلوا ظاهر النص يراد به أمثلة معروفة فقالوا: يدُ الله كأيدينا وعين الله كأعيننا وسمع الله كسمعنا ونحو ذلك، زعموا أنهم آمنوا لكن آمنوا إيماناً فيه تمثيل وإذاً يكون إيمان هؤلاء الأصناف الأربعة يكون إيماناً مُدْعى ليس إيماناً شرعياً فمتى يكون الإيمان بالنصوص- نصوص الصفات – صحيحاً ؟ إذا جمع هذه الأربعة: أن يؤمن بما وصف الله به نفسه وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل، فهذه القواعد الأربعة:
أن نؤمن بالنصوص ولا نحرفها,
نؤمن بالنصوص ولا نعطل الله جل وعلا أو وصفه الذي وصف به نفسه أو وصفه به رسوله،
نؤمن بالنصوص نصوص الصفات من دون تكييف لهذه الصفات بكيفيات معهودة أو غير معهودة،
نؤمن بالنصوص ولا نمثل الله جل وعلا بخلقه بل ننـزهه،
وهذا يحتاج في بيانه إلى بيان المراد بهذه الألفاظ الأربعة، ما معنى تحريف ؟ ما معنى التعطيل ؟ ما معنى التكييف؟ وما معنى التمثيل ؟.
أما التحريف؛ فأصله في اللغة: من الانحراف بالشيء عن وجهه وهو صرفه عن وجهه ومعناه إلى غيره, وهذا تحريف بمعنى التغيير والتبديل, فإذاً يكون معنى التحريف: التغيير والتبديل، حرَّف: أي غير وبدل, قال جل وعلا عن اليهود: { من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه }, قال المفسرون إن معنى قوله: { يحرفون الكلم عن مواضعه } يعني: يحرفون ما أنزل عليهم عن معانيه اللائقة به بل يخترعون له معاني من عندهم, وسمى الله جل وعلا هذا منهم تحريفا. قال: { من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه }, والتحريف في نصوص الصفات معناه أن تغير وتبدل ألفاظها أومعانيها عن ظواهرها, فإذا صُرف ظاهر النص عن معناه اللائق به فإن هذا سواء أكان في اللفظ أو في المعنى فإن هذا تحريف؛ لأنه تغيير وتبديل، قال العلماء: التحريف من حيث هو في تعلقه بنصوص الصفات أو بغيره يكون في اللفظ وفي المعنى, والتحريف في اللفظ: إما بزيادة أو نقصان، أو بتغير حركة إعرابية أو بغير تغيير حركة إعرابية, والتحريف في المعنى: يكون بتغيير معنى الكلمة عن معناها المعروف في لغة العرب تحريف بزيادة، تحريف في اللفظ بزيادة كما فعل اليهود فإن الله جل وعلا أخبر عنهم بقوله: { فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم }, قيل لهم: قولوا حطة, فقالوا حبة في شعرة, غيروا اللفظ بزيادة بل غيروه من أصله, أو بزيادة كما روي أنهم قالوا: حنطة بزيادة النون, كذلك فعل المعتزلة والجهمية و الأشاعرة ونحوهم حينما فسروا معنى استوى على العرش بقولهم: استولى { الرحمن على العرش استوى } قالوا: استولى، فهذا تحريف في اللفظ بزيادة حرف, فإن كلمة استوى ليس فيها حرف اللام, زادوا اللام فغيروا المعنى، استوى جعلوا معناها استولى, ومعنى استوى المعروف في اللغة: علا وارتفع.
كذلك قد يكون بنقص في اللفظ ويَنقص يُنقص اللفظ يكون نقصاً في اللفظ, وقد يكون بتغيير حركة إعرابية في النص من مثل ما قال جهمي لأبي عمرو بن العلاء أحد القراء والنحاة والعلماء المتحققين بالسنة قال له جهمي: يا أبا عمرو ألا تقرأ { وكلم اللهَ موسى تكليما }. { وكلم اللهَ }هذا تغير، حركة إعرابية، لأن القراءة: {وكلَّم اللهُ موسى تكليما ً}, فالله جل جلاله هو فاعل الكلام وموسى في الإعراب مفعول به،كلم اللهُ موسى، أراد أن يغير يحرف بتغيير حركة إعرابية فقال: ألا تقرأ: { وكلم اللهَ موسى تكليماً }. يعني: أن له وجهاً في العربية عند هذا القائل؛ لأن موسى الحركة لا تظهر في آخره فإذا قرئ: { وكلم اللهَ موسى }يكون المكلِّم هو موسى والمكلَّم هو الله جل جلاله، وقال له أبو عمرو بن العلاء هبني قلت ذلك وقرأته على هذا النحو فماذا تقول في قوله تعالى: { وكلمه ربه }؛ فبُهت.
هذا من نوع تغيير حركة إعرابية، تغيرت الحركة وهذا ربما لجأ إليه كثير من الذين يزعمون أن عندهم علما بالنحو منهم لكن مع ظهور العلم وقوته بطل ذلك منهم، قد يكون تحريف بغير حركة إعرابية، يعني لا فيه زيادة في اللفظ ولا نقصان لا فيه تغيير حركة إعرابية، يكون تحريف للفظ بغير هذه الأنحاء بغير حركة إعرابية كمثل هذا الذي قلت،في قوله: { وكلم الله موسى } أراد أن يجعل موسى المكلِّم فهو حرَّف فغير موسى من كونه مفعولاً به إلى كونه فاعلا هذا ما دلت عليه حركة إعرابية، من غير حركة إعرابية كذلك يدخل في هذا الذين يحرفون الكلام فيجعلونه بمعنى آخر لفظ له معنى يجعلون له معنى آخر. مثلاً: يجعلون قوله تعالى:{ لما خلقت بيدي }, { وما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي },يجعلون معناه: بقدرتي، أو بقدرتي, هذا تحريف للفظ هل هو من جهة المعنى، قد جعلوا لفظ مكان لفظ، يقولون: اليد هنا هي القدرة، ليست اليد هي المعروفة أو القسم الثاني أنه تحريف من جهة المعنى، وهذا كثير كادعاء المجاز في آيات الصفات وكتأويل النصوص على غير ما دلت عليه لغة العرب، مثلاً: يأتون لقول الله جل وعلا: { الرحمن الرحيم }, فيقولون: الرحمة هي إرادة الإحسان, هذا تحريف للرحمة عن معناها, تغيير لها عن معناها, بأي شيء؟ بالأخذ بالمجاز, والأخذ بالمجاز في نصوص الصفات باطل, ومن أصول أهل الضلال في الصفات أما في غير الصفات يعني في اللغة من غير دخوله في الصفات فهو خلاف أدبي مع أن الصحيح عند المحققين أنه لا مجاز أصلاً.
هنا يدخل في المحرفة الذين حرفوا الكلم عن مواضعه، يدخل فيهم الجهمية أول ما يدخل؛ لأن أصل التحريف إنما جاء من جهة الجهم من جهة جهم بل من جهة الجعد بن درهم قبله بل من جهة اليهود؛ لأن هذه المقالة أخذها الجعد عن اليهود لأنهم هم الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، وكان أول ما بدأ التحريف حين نفي اتصاف الله جل وعلا بالكلام فقال إن قوله: { وكلم اللهُ موسى تكليماً } أي: جرحه بأظافير الحكمة تجريحاً فليس من جهة الكلام وإنما من جهة التجريح ({كلم } أي: جرح من الكلْمِ وهو الجرح, هذا أول ما بدأت فنفوا صفة الكلام تسلسل ذلك فإذن يدخل فيه أولاً: الجهمية, والجهمية يحرفون من جهات:
أولاً: الأسماء الحسنى والصفات العلا, هم يقولون بها في القرآن لكن يجعلون تفسيرها بمخلوقات منفصلة, فصفة الله عند الجهمية هي الوجود المطلق فقط غيره من الأسماء الحسنى:السميع البصير الحي القيوم العليم الحكيم يفسرها الجهمية بمخلوقات منفصلة يعني: السميع هو من يُسمع، البصير هو من يبصر، المتكلم هو من يتكلم يعني مخلوقات الله جل وعلا المنفصلة، العزيز هو من أعز أو من عز، القيوم هو من أقيم أو من قام وهكذا.
فيجعلون هذه الأسماء تعلقت بالخلق من آثار صفة الله عندهم الوجود، فعندهم الوجود عام، يدخل فيه المعتزلة؛ فإن المعتزلة حرّفوا, حرّفوا الغيبيات جميعاً في الصفات والأسماء في الأمور الغيبية، عذاب القبر في الميزان, الحوض, الصراط ونحو ذلك, جميع الأمور الغيبية صرفوها حرفوها عن معانيها وهكذا، يدخل فيه أيضاً الأشاعرة فإنهم يحرفون.
هل كل تحريف يعد كفراً؟
الجواب: ليس كل تحريف يعد كفراً فإن أهل السنة لم يكفروا الذين فسروا استوى باستولى، فإن كان التحريف في جميع الصفات كفعل الجهمية فإن هذا يعد كفراً والجهمية عندهم كفار؛ لأنهم حرّفوا ونفوا صفات الله جل وعلا, إن كان التحريف في بعض الصفات رؤي ما هذه الصفة؟ فإن كانت الدلالة عليها ظاهرة ولا يحتملها وجه، يعني ليس للتأويل فيها مدخل، هنا يُكفر به،كتكفير من نفى رؤية الله جل وعلا، وتكفير من جعل كلام الله جل وعلا مخلوقاً أما غيره مما قد يكون لقائله عذر في تأويله فإنه لا يقال بكفره, ولهذا أهل السنة والجماعة لم يكفروا الأشاعرة والماتريدية والكلابية والسالمية والكرامية وأشباه هؤلاء.
( ولا تعطيل ) , هذه اللفظة الثانية, والتعطيل أصله في اللغة من عطل يعطل تعطيلاً، وهو عُطْل إذا كان خالياً، يقال: هذا مكان معطل إذا كان خالياً ليس فيه شيء، ويقال أيضاً في المرأة: جيدها معطل إذا كان خالياً من الحلي,
ومنه قول الشاعر في وصف امرأة أو في وصف جيد امرأة. يقول:

وجيد كجيد الريم ليس بفاحش ....... إذا هي نصته ولا بمعطل

بمعطل يعني: خال من الحلي فهذا أصله،

فإذا ًالإخلاء هذا هو التعطيل، ومعنى قول الله جل وعلا: { وبئر معطلة } أي: خالية من الماء؛ لأنه لم يستفد منها أو لم تحفر ويُعتنى بها لإخراج الماء، تعطيل النصوص، تعطيل الصفات، تعطيل الله جل وعلا عن صفاته، هذه بمعنى إخلاء الله جل وعلا عن الوصف عن أوصافه يعني نفي الصفات وجعل الله جل وعلا ليس متصفا بالصفات، والتعطيل عند العلماء أقسام أشهرها ثلاثة، وهي:

أولاً: تعطيل المخلوق عن خالقه، يعني إخلاء المخلوق عن أن يكون مخلوقاً بنفي أن يكون ثَمَّ خالق له كقول الملاحدة.
الثاني: تعطيل الخالق عن أوصافه التي وصف بها نفسه أو وصفها بها رسله.
الثالث: تعطيل الخالق عن استحقاقه العبادة وحده لا شريك له.
والأول بحثه في توحيد الربوبية، والثاني بحثه في توحيد الأسماء والصفات، والثالث بحثه في توحيد الألوهية فإذاً التعطيل دخل فيه أنواع التوحيد.
فإذا كان تعطيلاً للمخلوق عن الخالق صار ذلك نفياً لتوحيد الربوبية، إذا كان تعطيلاً للخالق لله عن أوصافه صار تعطيلاً ونفياً للأسماء والصفات، إذا كان تعطيلا للخالق عما يستحقه من عبادته وحده دونما سواه صار تعطيلاً في الألوهية،
هنا المقصود الثاني إذاً المقصود بالتعطيل أن يُعطل اللهُ جل وعلا عن أوصافه، يعني أن يصف نفسه بصفة، أن يصفه رسوله صلى الله عليه وسلم بصفة فيخلى اللهُ جل وعلا من هذه الصفة يعني كأن لم يصف نفسه بذلك الوصف وكأن لم يصفه رسوله صلى الله عليه وسلم بذلك الوصف، فإنَّ وصف الله جل وعلا نفسه جلبٌ لهذه الصفة له جل وعلا لنعلمها لأننا لم نعلم أنه جل وعلا متصف بهذه الصفة فأخبرنا الله بأنه متصف بهذه الصفة، فصار إثباته جل وعلا لنفسه هذه الصفة، هذا زيادة علم عما كان عندنا من قبل فإذا نفيت صار ذلك إخلاء لله جل وعلا عن الوصف، فصار تعطيلاً، فإذن يدخل في المعطلة الذين ينفون وصف الله جل وعلا بكل الصفات كفعل الجهمية، ويدخل فيهم الذين ينفون أوصاف الله جل وعلا غير الثلاث صفات المشهورة، وهي عند المعتزلة، كذلك يدخل فيه الذين يعطلون الله جل وعلا عن الاتصاف بغير سبع الصفات المشهورة عند الكلابية ومن تبعهم من الأشاعرة والماتريدية، وهذا باب واسع يأتي إن شاء الله تفصيله.
فإذن كل من لم يصف الله جل وعلا بما وصف به نفسه بأن حرَّف أو أوَّل، أخلى الله جل وعلا عن الوصف اللائق به كما أخبر، منع الأخذ بظواهر النصوص فإن هذا يُعدُ تعطيلاً، أهل السنة يخالفون المبتدعة الذين يعطلون.
فإذن إيمان المعطل بالنص، هل هو حقيقة أم دعوى؟
هو دعوى؛ فالأشعري والماتريدي والمعتزلي والإباضي والرافضي وأشباههم، يقولون: نؤمن بالنصوص لكنهم يعطلون النصوص عن معانيها ويجعلون هذه المعاني للنصوص في الصفات راجعة إلى الأوصاف التي يثبتونها, فالجهمي: يُرجع كل صفة إلى صفة الوجود, بجعل الأوصاف والأسماء أثرا لصفة الوجود, المعتزلي: يجعل الصفات والأسماء من آثار الصفات الثلاث التي يثبتها, الأشعري والماتريدي والكلابي: يجعل كل صفة راجعة إلى الصفات السبع التي يثبتها، فمثلاً: صفة النـزول لله جل وعلا ينفيها أولئك فالأشعري يفسرها, يقول: نؤمن بأنه ينـزل لكن نزوله ليس نزولاً حقيقياً وإنما هو نزول الرحمة, نزول الإجابة، إجابته جل وعلا للداعين في هذا الوقت المتأخر من الليل، فهم يجعلون الصفة راجعة إلى الصفات التي يثبتونها، فالرحمة مثلاً عندهم: إرادة الإحسان، لما؟ لأنهم يجعلون من الصفات السبع صفة الإرادة. الغضب عندهم: إرادة الانتقام،لم؟ لأن الإرادة عندهم من الصفات السبع وهكذا فكل صفة يعطلونها عن معناها الذي دلت عليه اللغة،يقولون نؤمن بالنص
لكن نجعل هذه الصفة معناها أحد الأوصاف السبعة التي أثبتناها. وهذه الأوصاف السبعة لإثباتهم لها، وسبب ذلك مزيد تفصيل يأتي في مكانه إن شاء الله تعالى من هذه الرسالة المباركة.
قال: ( ومن غير تكييف ) هنا لاحظ أنه كرر ( من غير )، (من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل)، والسبب في ذلك أن التحريف والتعطيل متقاربان، وكذلك التكييف والتمثيل متقاربان، لكن التكييف والتمثيل غير التحريف والتعطيل فالتكييف والتمثيل يدخل فيه المجسمة, والتحريف والتعطيل يدخل فيه المعطلة, ولهذا قال العلماء: المعطل يعبد عدماً، والمجسم يعبد صنماً, لما؟ لأنه جسم, تخيل إلهه على نحو ما فعبد هذا المتخيل، فصار المتخيل صورة فصار صنماً, أما المعطل فيعبد عدماً؛ لأنه يعبد إلهاً ليس له صفة أو ليس له أسماء أو نعوت فهو يعبد عدماً، فإذا كان لا يصف الله بشيء فهذا يعبد العدم المحض كفعل الجهمية وهكذا.
قال: (من غير تكييف)، التكييف من كيّف الشيء يكيفه تكييفاً إذا جعل له كيفية. والتكييف معناه أن يجعل لصفة الله جل وعلا كيفية, قد تكون هذه الكيفية معلومة المثال وقد لا تكون معلومة المثال، مثلاً: يجعل اتصاف الله جل وعلا باليد على مثال يعلمه يجعل الكيفية على نحو ما، يقول مثلاً: الله جل وعلا استوى على العرش،كيفية الاستواء كذا وكذا، قد يكون يكيفها بما عهد فيكون تمثيلاً وقد يكيفها بشيء خيال في ذهنه فيعد تكييفاً من غير مثال، ما المقصود هنا بهذا الموضع بالتكييف, لما عطف عليه التمثيل بالواو والواو تقتضي المغايرة؟ دل على أنهم يريدون بالتكييف، التكييف على غير مثال معلوم يعني يخترع له كيفية لا مثال لها وإن كان التمثيل يدخل في التكييف لكنه لما عطف بالواو علمنا أنه يريد بالتكييف غير التمثيل، وأن التمثيل له وصف والتكييف له وصفه، فكيف يكون التكييف؟، مثلاً:يتخيل صورة ليد الله جل وعلا،يتخيل صورة لاستواء الله جل وعلا،يتخيل صورة وحالاً لنـزول الله جل وعلا، يتخيل صورة لغضب وحالاً لغضب الله جل وعلا، هذا كله تكييف، يعني جعل للصفات كيفية، وهذا هو التكييف الذي سلكه طائفة من المجسمة، لأن المجسمة على قسمين: مجسمة مكيفة, ومجسمة ممثلة،
منهم مجسمة مكيفة جعلوا لله جل وعلا كيفية اخترعوها في أذهانهم ليس لها مثال ومنهم من جعله جل وعلا جسماً على مثال يعلمونه مثل مخلوق أو نحو ذلك، هذا معنى التكييف، ونفيه لا شك أنه من أعظم المعلومات التي يعلمها المؤمن أنه إذا وصف الله جل وعلا يصفه بصفة يؤمن بمعناها ولا يعلم كيفيتها،ولهذا قرر الإمام مالك هذه القاعدة، آخذاً لها من قوله جل وعلا: { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير }, فقال لمن سأله عن الاستواء: ( الاستواء معلوم والكيف غير معقول ) , وهذه أثبت من الرواية الأخرى التي فيها: ( الكيف مجهول والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة ) الاستواء معلوم يعني في اللغة: معلوم المعنى وأن معنى الاستواء العلو والارتفاع، والكيف غير معقول لا تعقل لا تُعقل كيفية استواء الله جل وعلا فإيمان المؤمن باستواء الله جل وعلا إيمان معنى لا إيمان كيفية؛ لأنه إيمان بما دل عليه ظاهر اللفظ أما الكيفية فإن قلب المؤمن قد انقطعت علائقه، انقطع طمعه، وانقطع طلبه للدرك والإدراك لكيفية الاتصاف فإن هذا لا يعلمه إلا الله جل وعلا، وهذه قاعدة تقولها في كل صفة، إذا قيل لك كيف النـزول؟ قلت: النـزول معلوم، والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة، كيف غضب الله جل وعلا؟، تقول: الغضب معلوم والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة. كيف الاستواء؟، كيف الرضا؟، كيف الأسف؟،كيف الرحمة؟،كيف المجئ؟، كيف الإتيان؟، ونحو ذلك كل هذا، هذه معلومة المعنى لكن كيفياتها غير معقولة.
قال هنا: ( ولا تمثيل ) التمثيل: من مثل يمثل تمثيلاً، إذا جعل للشيء مثالاً، وقد ذكرت لك أن التمثيل في الأصل نوع من التكييف، لكن هنا أفرده فصار قسيماً للتكييف، صار التكييف شيئاً والتمثيل شيئاً آخر، فما المراد بالتمثيل؟ أن يجعل لصفة الله جل وعلا مثالاً يعلمه، يجعل اتصاف الله جل وعلا باليد على نحو اتصاف المخلوق بها، يجعل اتصاف الله جل وعلا بالغضب على نحو اتصاف المخلوق به، يجعل اتصاف الله جل وعلا بالنزول على نحو اتصاف المخلوق به, ولهذا تجد أن كل معطل ممثل؛ لأنه لم يعطل إلا وقد استحضر التمثيل قبل أن يعطل فإذا سألت المعطل الذي نفى لما عطلت؟ لم قلت في النزول تنزل رحمة الله؟ لِمَ لم تقل ينزل الله كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك الذي هو أعلم الخلق بربه؟ قال: هذا غير معقول، هذا يستحيل كيف ينـزل؟! هذا يقتضي التشبيه فهو استحضر أو ظن أن ظاهر النص هو التمثيل فمثّل أولا ثم نفى ثانياً, ولهذا يقول العلماء: كل محرف أو معطل لنصوص الصفات فقد مثل وعطل فالممثل والمكيف خير من المعطل؛ لأنه إنما وقع في شر واحد وبدعة واحدة وهي التمثيل والتكييف أما المعطل المحرف النافي للصفات فقد مثل باطناً ثم عطل ظاهراً، قام بقلبه بالتمثيل أن الله جل وعلا في هذه الصفة مثل المخلوق كيف يد الله جارحة!! يتكلم بحرف وصوت، معنى ذلك يلزم اللسان واللهاة... إلى آخره فاستحضر التمثيل يعني ظن، فهم من النص أنه يدل على التمثيل فمثل ثم بعد ذلك نفي هذا وعطل. نسأل الله جل وعلا العافية.
قال هنا: (ولا تمثيل)، ولهذا التمثيل من فعل المجسمة، كذلك التكييف من فعل المجسمة، والمجسمة والمعطلة أعداء لأهل السنة والجماعة؛ لأن أهل السنة والجماعة يؤمنون بالنصوص، لا يمثلون ولا يجسمون ولا يعطلون ولا يحرفون، بل يثبتون النصوص على ما دلت عليه كما سيأتي بيان ذلك في عقيدتهم في نصوص الصفات التي سيسوقها شيخ الإسلام رحمه الله جل وعلا الواسعة عليه.


[1] هذه الكلمة لم ترد هكذا في كتاب الله وإنما وردت {مستهزءون} الآية (14) سورة البقرة.
[2] لم ترد (يستهزءون) في هذا الموضع وإنما {مستهزءون}, راجع الحاشية 2.
[3] ما بين المعقوفتين غير مسموع في الشريط؛ يرجى التأكد منه سماعا.