11 Nov 2008
أركان الإيمان
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وَهُوَ الإِيمَانُ بِاللهِ ، وَمَلاَئِكَتِهِ ، وَكُتُبِهِ ، وَرُسُلِهِ ، وَالبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَالإِيمَانُ بِالقَدَرِ : خَيْرِهِ وَشَرِّهِ).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ مُحمَّد خَليل هَرَّاس رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وهُوَ الإِيمانُ باللهِ، ومَلائِكَتِهِ، وكُتُبِهِ، ورُسُلِهِ، والبَعْثِ بَعْدَ المَوْتِ، والإِيْمانِ بالقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ(1)).
الشرح:
قال الشيخ محمد خليل هراس (ت: 1395هـ): ( (1) هذهِِ
الأمورُ السِّتَّةُ هيَ أركانَُ الإِيمانِ، فلا يتمُّ إيمانُ أحدٍ إلاَّ
إذَا آمنَ بِهَا جميعًا على الوجهِ الصَّحيحِ الذي دلَّ عليهِ الكتابُ
والسِّنَّةُ، فمَنْ جَحَدَ شيئًا مِنهَا أو آمنَ بهِ على غيرِ هذا الوجهِ؛
فقَدْ كَفرَ.
وقَدْ
ذُكِرَتْ كلُّهَا في حديثِ جبريلَ المشهورِ، حينَ جاءَ إلى النَّبِيِّ
صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلمَ في صورةِ أعرابيٍّ يسألُهُ عن الإِسلامِ
والإِيمانِ والإِحسانِ؟ فقالَ: (( أَنْ تُؤْمِنَ
بِاللهِ، وَمَلاَئِكَتِهِ، وَكُتِبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَتُؤْمِنَ بِالبَعْثِ
بَعْدَ المَوْتِ، وَبِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ؛ حُلْوِهِ وَمُرِّهِ
مِنَ اللهِ تَعَالى )).
والملائكةُ:
جَمعُ مَلَكٍ، وأصلُهُ مَألَكٌ؛ مِن الْأَلُوكَةِ، وهيَ الرِّسالةُ، وهُمْ
نوعٌ مِنْ خَلقِ اللهِ عزَّ وجلَّ، أسكنَهُمْ سَمَاوَاتِهِ، ووكَّلهُمْ
بشُؤُونِ خلقِهِ، ووصفَهُمْ في كتابِهِ بأنَّهُمْ {لا يعصُونَ اللهَ ما أمرَهُمْ ويفعلونَ ما يُؤْمَرُونَ}، وأَنَّهُمْ {يُسبِّحونَ لهُ بالليلِّ والنَّهَارِ لا يَفْتُرُونَ}.
فيجبُ
علينَا الإِيمانُ بما وردَ في حقِّهِمْ مِنْ صفاتٍ وأعمالٍ في الكتابِ
والسُّنَّةِ، والإِمساكُ عمَّا وراءَ ذلكَ؛ فإنَّ هذا مِن شؤونِ الغيبِ
التَّي لا نعلمُ منهَا إلاَّ ما علَّمَنَا اللهُ ورسولُهُ.
والكُتُبُ:
جمعُ كِتَابٍ، وهوَ مِن الكَتْبِ؛ بمعنى: الجَمْعِ والضَّمِّ، والمرادُ
بهَا الكُتُبُ المنـزَّلةُ مِن السَّماءِ على الرُّسلِ عليهِمْ الصَّلاةُ
والسَّلامُ.والمعلومُ لنَا منهَا: صُحُفُ إبراهيمَ، والتَّوراةُ التَّي
أُنزلتْ على موسى في الألواحِ، والإِنجيلُ الذي أُنزلَ على عيسى،
والزَّبُورُ الذي أُنزلَ على داودَ، والقرآنُ الكريمُ الذي هوَ آخرُهَا
نزولاً، وهوَ المصدِّقُ لهَا، والمُهيمنُ عليهَا، وما عداهَا يجبُ
الإِيمانُ بهِ إجمالاً.
والرُّسلُ: جمعُ رسولٍ، وقَدْ تقدَّمَ أَنَّهُ مَنْ أَوحى اللهُ إليهِ بشرعٍ وَأَمَرَهُ بتبليغِهِ.
وعلينَا أنْ نؤمِنَ تفصيلاً بمَنْ سمَّى اللهُ في كتابِهِ مِنْهُمْ، وهُمْ خمسةٌ وعشرونَ، ذَكَرَهُمُ الشَّاعرُ في قولِهِ:
في { تِلْكَ حُجَّتُنَا } مِنْهُمْ ثَمَانِيَةٌ
مِن بَعْدِ عَشْرٍ ويَبْقَى سَبْعَةٌ وهُمُ
إِدْرِيْسُ هُودٌ شُعَيْبٌ صالِحٌ وكَذا
ذُو الكِفْلِ آدَمُ بالمُخْتَارِ قَدْ خُتِمُوا
وأَمَّا
مَنْ عدا هؤلاءِ مِن الرُّسلِ والأنبياءِ؛ فنؤمنُ بِهِمْ إجمالاً على معنى
الاعتقادِ بِنُبُوَّتِهمْ ورسالتهِمْ، دُونَ أنْ نُكَلِّفَ أنفُسَنا
البحثَ عن عِدَّتِهِمْ، وأسمائِهِمْ، فإنَّ ذلكَ مما اختصَّ اللهُ بعلمِهِ؛
قالَ تعالى:{وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ ورُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْك}.
ويجبُ
الإِيمانُ بأنَّهُمْ بَلَّغُوا جميعَ ما أُرسِلُوا بهِ على ما أمرَهمُ
اللهُ عزَّ وجلَّ، وبيَّنُوهُ بيانًا لا يسعُ أحدًا ممَّنْ أُرسلُوا إليهِ
جهلُهُ، وأَنَّهُمْ مَعصومونَ مِن الكذبِ والخيانةِ، والكتمانِ
والبَلادَةِ.
وأنَّ أفضلَهمْ أُولُو العَزمِ، والمشهورُ أنَّهمْ: محمدٌ، وإبراهيمُ، وموسى، وعيسى، ونوحٌ؛ لأنَّهُمْ ذُكِروا معًا في قولِهِ تعالى:{وإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيْثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وإِبْرَاهيمَ وَمُوْسَى وَعِيْسَى بنِ مَرْيَمَ }.
وقولِهِ:(
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بهِ نُوحًا وَالَّذي أَوْحَيْنَا
إِليكَ ومَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْراهِيْمَ وَمُوسْى وَعِيْسَى أَنْ
أَقِيَموا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ).
و(البَعْثُ) في الأصلِ: الإِثارةُ والتَّحريكُ، والمرادُ بهِِ في لسانِ الشَّرعِ:
إخراجُ المَوتى مِن قُبورِهِمْ أحياءً يومَ القيامةِ؛ لفصلِ القضاءِ
بينَهمُ، فمَنْ يعملْ مثقالَ ذرَّةٍ خيرًا يَرَهُ، ومَنْ يعملْ مثقالَ
ذرَّةٍ شرًّا يرهُ.
ويجبُ
الإِيمانُ بالبعثِ على الصِّفةِ التَّي بيَّنهَا اللهُ في كتابِهِ، وهوَ
أنَّهُ جمعُ ما تحلَّلَ من أجزاءِ الأجسادِ التَّي كانَتْ في الدُّنيا،
وإنشاؤُهَا خَلقًا جديدًا، وإعادةُ الحياةِ إليهَا.
وَمُنْكِرُ
البعثِ الجُسمانِّي – كالفلاسفةِ والنَّصارى – كافرٌ، وأَمَّا مَنْ أقرَّ
بهِ ولكنَّهُ زعمَ أنَّ اللهَ يبعثُ الأرواحَ في أجسامٍ غيرَ الأْجسامِ
التَّي كانَتْ في الدُّنيَا؛ فهوَ مبتدعٌ وفاسقٌ.
وأَمَّا (القَدَرُ)؛ فهوَ في الأصلِ مصدرٌ، تقولُ: قَدَرْتُ الشَّيءَ – بفتحِ الدَّالِ وتخفيفِهَا – أقْدِرُهُ – بكسرِهَا – قَدْرًا وقَدَرًا؛ إذَا أحطتَ بمقدارِهِ.
والمرادُ بهِ في لسانِ الشَّرعِ
أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ علِمَ مقاديرَ الأشياءِ وأزمانَهَا أزلاً، ثمَّ
أوجدَهَا بقُدرتِهِ ومشيئتِهِ على وِفْقِ ما علِمَهُ منهَا، وأنَّهُ
كتبَهَا في اللَّوْحِِ قبلَ إحداثِهَا؛ كمَا في الحديثِ:(( أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ القَلَمُ، فَقالَ لَهُ: اكْتُبْ. قالَ: وَمَا أَكْتُبُ؟ قالَ: اكْتُبْ كُلَّ مَا هُوَ كَائِنٌ )).وقالَ تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُصِيبَةٍ في الأرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ في كِتابٍ مِن قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا}).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ: صالح بن فوزان الفوزان
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وَهُوَ
الإيمانُ بِاللهِ، وَمَلاَئِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالبَعْثِ
بَعْد المَوْتِ، والإيمانُ بالقَدَر خَيْرِه وَشَرِّهِ(1) ).
الشرح:
قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: ((1) (وَهُوَ) أي: اعتقادُ الْفِرْقَةِ النَّاجيةِ (الإيمانُ) معناه لغةً: التَّصديقُ ـ قال اللهُ تعالى: في الآية (17) من سورةِ يوسفَ: (وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا) أي مُصَدِّقٍ ـ.
وتعريفُه شَرْعًا: أنَّه قولٌ باللِّسانِ، واعتقادٌ بالقلبِ، وعملٌ بالجوارحِ.
وقولُه: (باللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِه وَرُسُلِه والبَعْثِ بَعْدَ الموتِ، والإيمانُ بالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ)
هذه هي أركانُ الإيمانِ السِّتَّةُ التي لا يَصِحُّ إيمانُ أحدٍ إلاَّ إذا
آمن بها جميعا عَلى الوجْهِ الصَّحيحِ، الذي دلَّ عليه الكتابُ
والسُّنَّةُ، وهذه الأركانُ هي:
1- الإيمانُ باللهِ
ـ وهو الاعتقادُ الجازمُ بأنَّه رَبُّ كُلّ شيْءٍ ومَلِيكُه، وأنَّه
متَّصِفٌ بصفاتِ الكمالِ، مُنزَّهٌ عَن كُلِّ عيبٍ ونقْصٍ، وأنَّه
المستحِقُّ للعبادةِ وحدَه لا شريكَ له. والقيامُ بذلك عِلْما وعَملاً.
2- الإيمانُ بالملائكةِ ـ أي التَّصديقُ بوجودِهم وأنَّهم كما وصفهم اللهُ في كتابهِ، كما في الآية (27) مِن سورةِ الأنبياءِ: (عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ)
وقد دلَّ الكتابُ والسُّنَّةُ عَلى أصنافِ الملائكةِ وأوصافِهم، وأنَّهم
موكَّلُونَ بأعمالٍ يؤدُّونَها كما أمرهم اللهُ، فيجبُ الإيمانُ بذلك
كُلِّه.
3- الإيمانُ بالكتبِ
أي: التَّصديقُ بالكتبِ التي أنزلها اللهُ عَلى رُسُلِه وأنَّها كَلامُه،
وأنَّها حَقٌّ ونورٌ وهُدًى، فيجبُ الإيمانُ بما سمَّى اللهُ منها؛
كالتَّوراةِ والإنجيلِ والزَّبورِ والقرآنِ، والإيمانُ بما لم يُسِمِّ
اللهُ منها.
4- الإيمانُ بالرُّسُلِ
الَّذين أرسلهم اللهُ إلى خلْقِه، أي: التَّصديقُ بهم جميعا، وأنَّهم
صادقون فيما أخبروا به وأنَّهم بلّغوا رسالاتِ رَبِّهِم ـ لا نفرِّقُ بين
أحدٍ منهم، بل نؤمنُ بهم جميعاً، مَن سَمّى اللهُ منهم في كتابهِ ومَن لم
يُسَمِّ منهم، كما قال تعالى: في الآيةِ (164) مِن سورةِ النِّساءِ: (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) وأفضلُهم: أولو العَزْمِ وهم: نوحٌ وإبراهيمُ وموسى وعيسى ومحمَّدٌ عليهمُ الصَّلاة والسَّلامُ، ثم بقيَّةُ الرُّسلِ ثم الأنبياءُ، وأفضلُ الجميعِ: خاتمُ الرُّسلِ نبيُّنا محمَّدٌ صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ. وأصحُّ ما قِيل في الفرْقِ بين النبيِّ والرَّسولِ: أنَّ النبيَّ: مَن أُوحِيَ إليه بشَرْعٍ ولم يُؤْمَرْ بتبليغِه. والرَّسول: مَن أُوحِي إليه بشَرْعٍ، وأُمِر بتبليغِه.
5- الإيمانُ بالبعْثِ:
وهو التَّصديقُ بإخراجِ الموتى مِن قبورِهم أحياءً يومَ القيامةِ؛ لفَصْلِ
القَضاءِ بينهم، ومُجَازَاتِهم بأعمالِهم عَلى الصّفةِ التي بيَّنها اللهُ
في كتابهِ، وبيّنها الرَّسولُ صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ في سُنَّتِه.
6- الإيمانُ بالقَدَرِخيرِه وَشرِّه:
وهو التَّصديقُ بأنَّ الله سبحانَه عَلِم مَقَاديرَ الأشياءِ وأزمَانَها
قبل وجودِهَا، ثم كتَبها في اللَّوْحِ المحفوظِ، ثم أوْجَدها بقُدْرَتِه
ومشيئَتِه في مواعيدِهَا المُقَدَّرةِ. فكُلُّ مُحدَثٍ مِن خيْرٍ أوْ
شَرٍّ، فهو صَادِرٌ عَن علمِه وتقديرِه ومشيئتِه وإرادتِه، ما شاءَ كانَ،
وما لم يَشَأْ لم يكُنْ.
هذا شرحٌ مُجْمَلٌ لأصولِ الإيمانِ وسيأتي - إنْ شاء اللهُ - شرحُها مُفَصَّلاً.
شرح العقيدة الواسطية للشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): ( ((وَهُوَ الإيمانُ بِاللهِ، وَمَلاَئِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالبَعْثِ بَعْد المَوْتِ، والإيمانُ بالقَدَر خَيْرِه وَشَرّهِ))(1) ).
الشرح:
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): ((1)
هذِهِ العقيدةُ أصَّلَهَا لنا النَّبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فِي جوابِ جبريلَ حِينَ سألَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا الإسلامُ؟ مَا الإيمانُ؟ مَا الإحسانُ؟ متى
السَّاعةُ؟ فالإيمانُ –قَالَ لَهُ-: ((أنْ تُؤْمِنَ باللَّهِ، وملائكتِهِ، وكتبِهِ، ورسلِهِ، واليومِ الآخرِ، والقدَرِ خيرِهِ وشرِّهِ)).
((الإيمانُ باللَّهِ)): الإيمانُ فِياللُّغةِ:
يقولُ كثيرٌ مِنَ النَّاسِ: إِنَّهُ التَّصديقُ، فصدَّقْتُ وآمنْتُ
معناهُمَا لغةً واحدٌ، وقد سَبقَ لنَا فِي التَّفسيرِ أنَّ هَذَا القولَ
لاَ يَصِحُّ، بلِ الإيمانُ فِي اللُّغةِ: الإقرارُ بالشَّيءِ عن تصديقٍ بِهِ، بدليلِ أنَّكَ تقولُ: آمنتُ بكذا، وأقررْتُ بكذا، وصدَّقتُ فلاناً. ولاَ تقولُ: آمنتُ فلاناً.
إذاً، فالإيمانُ يتضمَّنُ
معنىً زائداً عَلَى مجرَّدِ التَّصديقِ، وَهُوَ الإقرارُ والاعترافُ
المستلْزِمُ للقَبولِ للأخبارِ والإذعانِ للأحكامِ، هَذَا الإيمانُ، أمَّا
مجرَّدُ أنْ تُؤمنَ بأنَّ اللَّهَ موجودٌ، فهَذَا ليسَ بإيمانٍ، حَتَّى
يكونَ هَذَا الإيمانُ مستلْزِماً للقَبولِ فِي الأخبارِ والإذعانِ فِي
الأحكامِ، وإلاَّ فليسَ إيماناً.
والإيمانُ باللَّهِ يتضمَّنُ أربعةَ أُمورٍ:
1- الإيمانُ بوجودِهِ سُبْحَانَهُ وَ- تَعَالَى -.
2- الإيمانُ بربوبيَّتِهِ، أيْ: الانفرادُ بالرُّبوبِيَّةِ.
3- الإيمانُ بانفرادِهِ بالألوهِيَّةِ.
4- الإيمانُ بأسمائِهِ وصفاتِهِ.
لاَ يمكنُ أنْ يتحقَّقَ الإيمانُ إِلاَّ بذلِكَ.
فمَنْ لَمْ يُؤمِنْ بوجودِ
اللَّهِ، فليس بمؤمنٍ، ومَن آمَنَ بوجودِ اللَّهِ لاَ بانفرادِهِ
بالرُّبوبِيَّةِ، فَلَيْسَ بمؤمنٍ، ومَن آَمَن باللَّهِ وانفرادِهِ
بالرُّبوبِيَّةِ لاَ بالأُلوهِيَّةِ، فَلَيْسَ بمؤمنٍ، ومَن آمَنَ باللَّهِ
وانفرادِهِ بالرُّبوبِيَّةِ وبالأُلوهِيَّةِ، لكنْ لَمْ يؤمنْ بأسمائِهِ
وصفاتِهِ، فليسَ بمؤمنٍ، وإنْ كَانَ الأخيرُ فِيهِ مَن يَسْلُبُ عَنْهُ
الإيمانَ بالكُلِّيَّةِ،وفيِهِ مَن يَسلُبُ عَنْهُ كمالَ الإيمانِ.
الإيمانُ بوجودِهِ:
إِذَا قَالَ قائلٌ: مَا الدَّليلُ عَلَى وجودِ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ -؟
قُلْنا: الدَّليلُ عَلَى وجودِ اللَّهِ:
العقلُ، والحِسُّ، والشَّرْعُ، ثلاثةٌ كلُّها تَدلُّ عَلَى وجودِ اللَّهِ،
وإنْ شِئْتَ، فَزِدْ: الفِطْرةَ، فتكونُ الدَّلائلُ عَلَى وجودِ اللَّهِ
أربعةً: العقلُ، والحِسُّ، والفِطْرةُ، والشَّرْعُ، وأخَّرْنَا الشَّرْعَ،
لاَ لأنَّهُ لاَ يستحِقُّ التَّقديمَ، لكنْ لأنَّنا نخاطِبُ مَنْ لاَ
يُؤمِنُ بالشَّرْعِ.
-فأمَّا دلالةُ العقلِ، فنقولُ: هل وجودُ هذِهِ الكائناتِ بنْفِسِها، أوْ وُجِدتْ هكذا صُدْفةً؟
فإنْ قُلْتَ: وُجِدتْ
بنَفْسِها، فمستحيلٌ عَقْلاً، مَا دامتْ هِيَ معدومةً، كَيْفَ تكونُ
موجودةً وهِيَ معدومةٌ؟! المعدومُ لَيْسَ بشيءٍ حَتَّى يوجِدَ، إذاً لاَ
يمكنُ أنْ تُوجِدَ نَفْسَها بنَفْسِها! وإنْ قُلْتَ: وُجِدَتْ صُدفةً،
فنَقولُ: هَذَا يستحيلُ أيضاً، فأنتَ أيُّها الجاحِدُ، هَلْ مَا أُنْتِجَ
مِن الطَّائراتِ والصَّواريخِ والسَّياراتِ والآلاتِ بأنواعِها، هل وُجِدَ
هَذَا صُدفةً؟! فيقولُ: لاَ يمكنُ أنْ يكونَ، فكذلِكَ هذِهِ الأطيارُ،
والجبالُ، والشَّمسُ، والقمرُ، والنُّجومُ، والشَّجرُ، والجَمْرُ،
والرِّمالُ، والبِحارُ، وغيرُ ذلِكَ، لاَ يمكنُ أنْ تُوجدَ صُدفةً أبداً.
ويُقالُ: إنَّ طائفةً من
السُّمنيَّةِ جَاءُوا إِلَى أبي حنِيفةَ -رحمَهُ اللَّهُ- وهُمْ مِنْ أهلِ
الهندِ، فناظَرُوهُ فِي إثباتِ الخالقِ - عزَّ وجلَّ -، وكَانَ أبو
حَنِيفةَ مِن أَذْكَى العُلماءِ، فوَعدَهُم أنْ يأْتُوا بعدَ يومٍ أوْ
يَوْمَيْنِ، فجاءوا، قالوا: مَاذَا قُلْتَ؟ قالَ: أنا أُفكِّرُ فِي سفينةٍ
مملوءةٍ مِن البَضائعِ والأرزاقِ، جاءتْ تشُقُّ عُبابَ الماءِ حَتَّى
أَرْسَتْ فِي الميناءِ، ونزَلَتِ الحُمولةُ، وذَهَبْتْ وليسَ فِيهَا قائدٌ
ولاَ حمَّالونَ، قالوا: تُفَكِّرُ بهَذَا؟! قال: نعمْ، قالوا: إذاً لَيْسَ
لَكَ عقلٌ! هل يُعْقَلُ أنَّ سفينةً تأْتِي بدونِ قائدٍ وتَنْزِلُ
وَتَنْصَرِفُ؟! هَذَا ليسَ مَعقولاً! قالَ: كَيْفَ لاَ تَعقِلونَ هَذَا،
وتعقلونَ أنَّ هذِهِ السَّماواتِ، والشَّمسَ، والقمرَ، والنُّجومَ،
والجِبالَ، والشَّجرَ، والدوابَّ، والنَّاسَ كلَّها بِدُونِ صانعٍ؟!
فعَرَفوا أنَّ الرَّجلَ خاطبَهُم بعقولِهم، وعَجَزُوا عن جوابِهِ هَذَا أوْ
معناهُ.
وقِيلَ: لأعرابيٍّ مِن
البادِيَةِ: بِمَ عَرفتَ ربَّكَ؟ فَقَالَ: الأَثَرُ يَدُلُّ عَلَى المسيرِ،
والبَعْرةُ تدلُّ عَلَى البعيرِ، فسماءٌ ذاتُ أبراجٍ، وأرضٌ ذاتُ فجاجٍ،
وبحارٌ ذاتُ أمواجٍ، ألاَ تدلُّ عَلَى السَّميعِ البصيرِ؟
وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ - عزَّ وجلَّ -: (أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ) [الطورُ: 35].
فحينئذٍ يكونُ العقلُ دالاًّ دلالةً قطعيَّةً عَلَى وجودِ اللَّهِ.
-وأمَّا دلالةُ الحسِّ عَلَى
وجودِ اللَّهِ، فإنَّ الإنسانَ يَدْعُو اللَّهَ - عزَّ وجلَّ -، يقولُ: يا
ربِّ! ويَدْعُو بالشَّيءِ، ثُمَّ يُسْتَجابُ لَهُ فِيهِ، وهذِهِ دلالةٌ
حِسِّيَّةٌ، هُوَ نَفْسُهُ لَمْ يدْعُ إِلاَّ اللَّهَ، واستجابَ اللَّهُ
لَهُ، رأى ذلِكَ رَأْيَ العَيْنِ، وكذلِكَ نحنُ نَسمعُ عمَّنْ سَبقَ
وعمَّنْ فِي عَصْرِنا، أنَّ اللَّهَ استجابَ لَهُ.
فالأعرابيُّ الَّذِي دَخلَ
والرَّسولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخطُبُ النَّاسَ يومَ
الجمعةِ قالَ: هَلَكَت الأَمْوَالُ، وَانْقَطَعَت السُّبُلُ، فَادْعُ
اللَّهَ يُغِيثُنَا، قَالَ أَنَسٌ: وَاللَّهِ، مَا فِي السَّمَاءِ مِنْ
سَحَابٍ وَلاَ قَزْعَةٍ (أَي: قِطْعَةِ سَحَابٍ)، وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ
سَلْعٍ (جَبَلٍ فِي المَدينةِ تَأْتِي مِنْ جِهَتِهِ السُّحُبُ) مِنْ
بَيْتٍ وَلاَ دَارٍ… وَبَعْدَ دُعاءِ الرَّسولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فَوْراً خَرَجَتْ سَحَابةٌ مِثْلُ التُّرْسِ، وَارْتَفَعَتْ
فِي السَّمَاءِ وَانْتَشَرَتْ وَرَعَدَتْ وَبَرَقَتْ وَنَزَلَ المَطَرُ،
فَمَا نَزَلَ الرَّسولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلاَّ
وَالمَطَرُ يَتَحَادَرُ مِنْ لِحْيَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ.
وَهَذَا أمرٌ واقعٌ يدلُّ عَلَى وجودِ الخالقِ دلالةً حِسِّيَّةً.
وفِي القرآنِ كثيرٌ مِن هَذَا، مِثلُ: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّى مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ) [الأنبياءُ: 83-84]، وغيرُ ذلِكَ مِن الآياتِ.
-وأمَّا دلالةُ الفِطْرةِ،
فإنَّ كثيراً مِن النَّاسِ الَّذِينَ لَمْ تَنْحَرِفْ فِطَرُهُمْ يؤمنونَ
بوجودِ اللَّهِ، حَتَّى البهائمُ العُجْمُ تُؤمِنُ بوجودِ اللَّهِ،
وقِصَّةُ النَّملةِ الَّتِي رُوِيتْ عن سليمانَ - عليْهِ الصَّلاَةُ
والسَّلاَمُ -، خَرَجَ يَستسْقِي فوَجدَ نَملةً مُستلْقِيةً عَلَى
ظَهْرِهَا، رافِعةً قوائمَها نحوَ السَّماءِ، تقولُ: اللَّهُمَّ، أَنَا
خَلْقٌ مِن خَلْقِكَ، فلاَ تَمْنَعْ عَنَّا سُقْياكَ، فَقَالَ: ارْجِعوا،
فَقَدْ سُقيتُمْ بدَعْوةِ غيرِكُمْ.
فالفِطَرُ مجبولةٌ عَلَى معرفةِ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ - وتوحيدِهِ.
وقدْ أشارَ اللَّهُ - تَعَالَى - إِلَى ذلِكَ فِي قولِهِ: (وَإِذْ
أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ
وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى
شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القِيَمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا
غَافِلِينَ، أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ ءَابَاؤُنَا مِن قَبْلُ
وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ) [الأعرافُ: 172-173]، فهذِهِ
الآيةُ تدلُّ عَلَى أنَّ الإنسانَ مجبولٌ بفِطرَتِهِ عَلَى شَهادتِهِ
بوجودِ اللَّهِ وربوبيتَّهِ، وسواءٌ أقلْنا: إنَّ اللَّهَ اسْتَخْرَجَهُمْ
مِن ظَهرِ آدمَ واستشهَدَهُم، أوْ قُلْنا: إنَّ هَذَا هُوَ مَا ركَّبَ
اللَّهُ - تَعَالَى - فِي فِطَرِهِمْ مِن الإقرارِ بِهِ، فإنَّ الآيةَ
تدلُّ عَلَى أنَّ الإنسانَ يَعْرِفُ ربَّهُ بفطرَتِهِ.
هذِهِ أدلَّةٌ أربعةٌ تدلُّ عَلَى وجودِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَ- تَعَالَى -.
-وأمَّا دلالةُ الشَّرعِ؛ فلأنَّ
مَا جاءتْ بِهِ الرُّسلُ مِن شرائعِ اللَّهِ - تَعَالَى - المتضمِّنةِ
لجميعِ مَا يُصْلحُ الخَلقَ، يدلُّ عَلَى أنَّ الَّذِي أَرْسَلَ بها ربٌّ
رحيمٌ حكيمٌ، ولاَ سِيَّمَا هَذَا الْقُرْآنِ المجيدُ، الَّذِي أَعْجَزَ
البَشرَ والجِنَّ أنْ يَأْتُوا بمثْلِه.
((وملائكَتِهِ)): الملائكةُ جمعُ: ملأك، وأصلُ ملأكٍ: مألكُ؛ لأنَّهُ مِن الألوكةِ، والألوكةُ فِي اللُّغةِ الرِّسالةُ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: (جَاعِلِ المَلَئِكَةِ رُسُلاً أُوْلِى أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى) [فاطرٌ: 1].
فالملائكةُ عالَمٌ
غَيْبِيٌّ، خَلقَهُم اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - من نُورٍ، وجعلَهُمْ طائِعينَ
لَهُ مُتذَلِّلِينَ لَهُ، ولِكُلٍّ مِنْهُم وظائفُ خَصَّهُ اللَّهُ بِهَا،
ونَعلمُ مِن وظائِفِهمْ:
أوَّلاً: جِبريلُ: مُوَكَّلٌ بالوَحيِ، يَنْزلُ بِهِ مِنَ اللَّهِ - تَعَالَى - إِلَى الرُّسُلِ.
ثانياً: إسرافيلُ: مُوَكَّلٌ بنَفخِ الصُّورِ، وَهُوَ أيضاً أَحدُ حَمَلةِ العرشِ.
ثالثاً: ميكائيلُ: مُوَكَّلٌ بالقَطْرِ والنَّباتِ.
وهؤلاءِ الثَّلاثةُ
كلُّهمْ مُوَكَّلُونَ بمَا فِيهِ حياةٌ، فجبريلُ مُوَكَّلٌ بالوَحيِ،
وفِيهِ حياةُ القلوبِ، وميكائيلُ بالقَطْرِ والنَّباتِ، وفِيهِ حياةُ
الأرضِ، وإسرافيلُ بنفخِ الصُّورِ، وفِيهِ حياةُ الأجسادِ يومَ الميعادِ،
وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يَتوسَّلُ بربوبيَّةِ اللَّهِ لهمْ فِي دعاءِ الاستفتاحِ فِي صلاةِ
اللَّيلِ، فيقولُ: ((اللَّهُمَّ، رَبَّ جِبْرَائِيلَ
وَمِيكَائيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، عَالِمَ
الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمْ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا
فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِني لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الحَقِّ
بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ))، هَذَا الدُّعاءُ الَّذِي كَانَ يقولُهُ فِي قيامِ اللَّيلِ متوسِّلاً بربوبيَّةِ اللَّهِ لهُمْ.
كذلِكَ نَعلَمُ أنَّ مِنْهُم مَن وُكِّلَ بقَبْضِ أرواحِ بَنِي آدمَ،
أوْ بقَبْضِ رُوحِ كُلِّ ذِي رُوحٍ، وَهُمْ: مَلَكُ الموتِ وأعوانُه، ولاَ
يُسمَّى عَزرائيلَ، لأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عن النَّبيِّ - عليْهِ
الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ - أنَّ اسمَه هَذَا.
قَالَ - تَعَالَى -: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ) [الأنعامُ: 61]. وقَالَ - تَعَالَى -: (قُلْ يَتَوَفَّكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِى وُكِّلَ بِكُمْ) [السجدةُ: 11].
وقَالَ - تَعَالَى -: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا) [الزمرُ: 42].
ولاَ منافاةَ بينَ هذِهِ
الآياتِ الثَّلاثِ، فإنَّ الملائكةَ تَقْبِضُ الرُّوحَ، فإنَّ مَلَكَ
الموتِ إِذَا أخرجَها من البَدنِ تكونُ عندَهُ ملائكةٌ، إنْ كَانَ الرَّجلُ
مِن أهلِ الجنَّةِ، فيكونُ مَعَهم حَنوطٌ من الجنَّةِ، وكَفَنٌ من
الجنَّةِ، يأخذونَ هذِهِ الرُّوحَ الطَّيِّبةَ، ويَجعلونَهَا فِي هَذَا
الكَفَنِ، ويَصْعَدُون بِهَا إِلَى اللَّهِ - عزَّ وجلَّ -، حَتَّى تَقِفَ
بين يَدَيِ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ -، ثُمَّ يقولَ: اكْتُبُوا كتابَ عبدِي
فِي علِّيِّينَ، وأعيدوهُ إِلَى الأرضِ، فتَرْجِعُ الرُّوحُ إِلَى الجسدِ
مِن أجلِ الاختبارِ، مَنْ ربُّكَ؟ ومَا دينُكَ؟ ومَن نبيُّكَ؟ وإنْ كَانَ
الميتُ غيرَ مؤمنٍ –والعياذُ باللَّهِ- فإِنَّهُ يَنْزِلُ ملائكةٌ مَعَهُمْ
كَفَنٌ مِن النَّارِ وحَنوطٌ من النَّارِ، يأْخُذونَ الرُّوحَ، ويجعلونَها
فِي هَذَا الكَفَنِ، ثُمَّ يَصعدونَ بِهَا إِلَى السَّماءِ، فَتُغْلَقُ
أبوابُ السَّماءِ دُونهَا، وَتُطْرَحُ إِلَى الأرضِ، قَالَ اللَّهُ -
تَعَالَى -: (وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا
خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ
فِي مَكاَنٍ سَحِيقٍ) [الحج: 31]، ثُمَّ يقولُ اللَّهُ: اكْتُبوا كِتابَ عَبْدِي فِي سجِّينٍ، نَسألُ اللَّهَ العافِيةَ.
هؤلاءِ مُوَكَّلونَ بقبضِ
الرُّوحِ مِن مَلَكِ الموتِ إِذَا قبضَها، وملَكُ الموتِ هُوَ الَّذِي
يُباشِرُ قبْضَها، فلاَ منافاةَ إِذًا، والَّذِي يَأمرُ بذلِكَ هُوَ
اللَّهُ، فيكونُ فِي الحقيقةِ هُوَ المتوَفِّي.
ومِنْهُمْ ملائكةٌ سيَّاحونَ فِي الأرضِ، يَلتمسونَ حِلقَ الذِّكرِ، إِذَا وَجَدوا حلقةَ العِلمِ والذِّكرِ، جلسُوا.
وكذلِكَ هَنَاكَ ملائكةٌ يَكتبونَ أعمالَ الإنسانِ: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ، كِرَاماً كَاتِبِينَ، يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) [الإنفطارُ: 10-12]، (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق: 18].
دخَلَ أحدُ أصحابِ الإمامِ
أحمدَ عَلَيْهِ وهُوَ مريضٌ -رحمَهُ اللَّهُ-، فوجدَهُ يئنُ مِن المرضِ،
فقَالَ لَهُ: يا أبا عبدِ اللَّهِ، تئنُّ وَقَدْ قَالَ طاوُسٌ: إنَّ
المَلَكَ يَكتُبُ حَتَّى أنينَ المريضِ؛ لأنَّ اللَّهَ يقولُ: (مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق: 18]؟ فجعلَ أبو عبدِ اللَّهِ يَتصبَّرُ، وتَرَكَ الأنينَ؛ لأنَّ كلَ شيءٍ يُكْتَبُ، (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ): (مِن):
زائدةٌ لتوكيدِ العمومِ، أيَّ قولٍ تقولُهُ يُكْتَبُ، لكنْ قد تُجَازى
عَلَيْهِ بخيرٍ أوْ بِشرٍّ، هَذَا حسَبَ القولِ الَّذِي قِيلَ:
ومِنْهُمْ أيضاً ملائكةٌ يَتعاقبونَ عَلَى بنِي آدمَ فِي اللَّيلِ والنَّهارِ، (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) [الرعدُ: 11].
وَمِنْهُم ملائكةٌ رُكَّعٌ وسُجَّد لِلَّهِ فِي السَّماءِ، قَالَ النَّبِيُّ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ -: ((أَطَّتِ السَّمَاءُ، وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ))، والأطيطُ:
صريرُ الرَّحْلِ، أيْ: إِذَا كَانَ عَلَى البعيرِ حملٌ ثقِيلَ:، تسمعُ
لَهُ صريراً من ثقلِ الحملِ، فيقولُ الرسولُ - عليْهِ الصَّلاَةُ
والسَّلاَمُ -: ((أَطَّتِ السَّمَاءُ، وَحُقَّ لَهَا
أَنْ تَئِطَّ، مَا مِنْ مَوْضِعِ أَرْبَعِ أَصَابَعَ مِنْهَا إِلاَّ
وَفِيهِ مَلَكٌ قَائِمٌ لِلَّهُِ أَوْ رَاكِعٌ أَوْ سَاجِدٌ))، وعَلَى سِعَةِ السَّماءِ فِيهِا هؤلاءِ الملائكةُ.
وَلِهَذَا قَالَ الرَّسولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي البيتِ المعمورِ الَّذِي مرَّ بِهِ فِي ليلةِ المعراجِ، قالَ:
((يَطُوفُ بِهِ (أَوْ قَالَ: يَدْخُلُهُ) سَبْعُونَ أَلف مَلَكٍ كُلَّ
يَوْمٍ، ثُمَّ لاَ يَعُودُونَ إِلَيْهِ آخِرَ مَا عَلَيْهِمْ))،
والمعنَى: كُلَّ يومٍ يأتي إِلَيْهِ سبعونَ ألْفِ مَلَكٍ غيرِ الَّذِينَ
أَتَوْهُ بالأمسِ ولاَ يعودونَ لَهُ أبداً، يأتي ملائكةٌ آخرونَ غَيْرُ من
سَبَقَ، وَهَذَا يدلُّ عَلَى كثرةِ الملائكةِ، وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ -
تَعَالَى -: (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ) [المدثر: 31].
ومنْهُمْ ملائكةٌ مُوكَّلونَ بالجنَّةِ وموكَّلونَ بالنَّارِ، فخازِنُ النَّارِ اسمُهُ مالِكٌ، يقولُ أهلُ النَّارِ: (يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ)
[الزخرفُ: 77]، يعني: ليُهْلِكْنا ويُمِتْنا، فَهُمْ يَدْعُونَ اللَّهَ
أنْ يُميتَهُمْ؛ لأنَّهمْ فِي عذابٍ لاَ يُصْبَرُ عليْهِ، فيقولُ: (إِنَّكُم مَّاكِثُونَ) [الزخرفُ: 77]، ثُمَّ يُقالُ لَهُمْ: (لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ) [الزخرفُ: 78].
المهمُ: أنَّهُ يجبُ علينا أنْ نؤمِنَ بالملائكةِ.
وكَيْفَ الإيمانُ بالملائكةِ؟
نؤمنُ بأنَّهمْ عالَمٌ
غَيْبِيٌّ لاَ يُشاهَدونَ، وقد يُشاهَدونَ، إنَّما الأصلُ أنَّهمْ عالَمٌ
غَيْبِيٌّ، مخلوقونَ مِن نورٍ، مكلَّفونَ بمَا كلَّفهم اللَّهُ بِهِ مِن
العباداتِ، وَهُمْ خاضِعونَ لِلَّهِ - عزَّ وجلَّ - أتمَّ الخضوعِ، (لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم: 6].
كذلِكَ نؤمنُ بأسماءِ مَن
عَلِمْنا بأسمائِهمْ، ونُؤْمِنُ بوظائفِ مَنْ عَلِمْنَا بوظائِفِهم، ويجبُ
علَيْنا أنْ نؤمنَ بذلِكَ عَلَى مَا عَلِمْنَا.
وهُمْ أجسادٌ، بدليلِ قولِهِ - تَعَالَى -: (جَاعِلِ الْمَلائِكَةَ رُسُلاً أُوْلِى أَجْنِحَةٍ)
[فاطر: 1]، ورأى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جبريلَ
عَلَى صورتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْها، لَهُ ستُّمِائَةِ جناحٍ، قَدْ
سدَّ الأُفُقَ، خِلافاً لمَنْ قال: إنهم أرواحٌ.
إِذَا قَالَ قائلٌ: هل
لَهُم عقولٌ؟ نقولُ: هل لَكَ عَقْلٌ؟ مَا يسألُ عن هَذَا إِلاَّ رجلٌ
مجنونٌ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: (لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم: 6]، فهلْ يُثْنِي عليْهِم هَذَا الثَّناءَ وليسَ لَهُم عقولٌ؟! (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ والنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ)
[الأنبياء: 20]، أنقولُ: هؤلاءِ ليْسَ لَهُم عقولٌ؟! يأتَمِرونَ بأمرِ
اللَّهِ، ويفعلونَ مَا أمَرَ اللَّهُ بِهِ، ويبلِّغونَ الوَحْيَ، ونقولُ:
ليسَ لَهُم عقولٌ؟! أحقُّ مَن يُوصَفُ بعدمِ العقلِ مَنْ قالَ: إنَّه لاَ
عقولَ لَهُمْ!!
و((كُتُبِه))، أيْ: كُتُبِ اللَّهِ الَّتِي أنزلَها مَعَ الرُّسُلِ.
ولكُلِّ رسولٍ كتابٌ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالمِيزَانَ)
[الحديد: 25]، وَهَذَا يدلُّ عَلَى أنَّ كُلَّ رسولٍ مَعَهُ كتابٌ، لكنْ
لاَ نعرِفُ كُلَّ الكتبِ، بلْ نَعرِفُ مِنْهُا: صُحُفَ إبراهِيمَ وموسَى،
التَّوراةَ والإنجيلَ، الزَّبُورَ، القرآنَ، ستَّةً؛ لأنَّ صُحُفَ موسَى
بعضُهُمْ يقولُ: هِيَ التَّوراةُ، وبعضُهُمْ يقولُ: غَيْرُها، فإنْ كانَت
التوراةَ، فهِيَ خمسةٌ، وإنْ كانتْ غَيْرَها، فهِيَ ستَّةٌ،
ولكنْ مَعَ ذلِكَ نَحْنُ نُؤمنُ بكُلِّ كتابٍ أنزَلَهُ اللَّهُ عَلَى الرُّسُلِ، وإنْ لَمْ نَعلمْ بِهِ، نؤمِنُ بِهِ إجمالاً.
((وَرُسُلِهِ))،
أيْ: رُسُلِ اللَّهِ، وَهُم الَّذِينَ أَوْحَى اللَّهُ إليْهِمْ
بالشَّرائعِ، وأَمَرَهُمْ بتبليغِها، وأوَّلَهُمْ نُوحٌ، وآخِرُهم محمَّدٌ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
الدَّليلُ عَلَى أنَّ أوَّلَهُمْ نُوحٌ: قولُهُ - تَعَالَى -: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ) [النساء: 163]، يعني: وَحْيًا، كإيحائِنا إِلَى نوحٍ والنَّبِيِّينَ مِن بعدِه، وهُوَ وَحْيُ الرِّسالةِ. وقولُهُ: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالكِتَابَ) [الحديد: 26] (فِي ذرِّيَّتِهما)، أيْ: ذُرِّيَّةُ نوحٍ وإبراهِيمَ، والَّذِي قَبْلَ نوحٍ لاَ يكونُ من ذُرِّيَّتِهِ. وكذلِكَ قولُهُ - تَعَالَى -: (وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ) [الذاريات: 46]، قدْ نقولُ: إنَّ قولَهُ: (مِن قَبْلُ): يدلُّ عَلَى مَا سَبَقَ.
إذاً مِن القرآنِ ثلاثةُ أدلَّةٍ تدلُّ عَلَى أنَّ نوحاً أوَّلُ الرُّسُلِ.
ومِن السُّنَّةِ مَا ثَبَتَ فِي حديثِ الشَّفاعةِ: ((أَنَّ أَهْلَ الموْقِفِ يَقُولُونَ لِنُوحٍ: أَنْتَ أَوَّلُ رَسُولٍ أَرْسَلَهُ اللَّهُ إِلى أَهْلِ الأَرْضِ))، وَهَذَا صريحٌ.
أمَّا آدمُ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ -، فَهُوَ نبيٌّ، وليسَ بِرَسولٍ.
وأمَّا إدريسُ، فذَهَبَ
كثيرٌ مِن المؤرِّخِينَ أوْ أكثرُهُم وبعضُ المفسِّرينَ أيضاً إِلَى
أَنَّهُ قبلَ نوحٍ، وأَنَّهُ مِن أجدادِهِ، لكنَّ هَذَا قولٌ ضعيفٌ جدّاً،
والقرآنُ والسُّنةُ تَردُّهُ، والصَّوابُ مَا ذَكَرْنَا.
وآخِرُهمْ محمَّدٌ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ -، لقولِهِ - تَعَالَى -: (وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) [الأحزاب: 40]، ولَمْ يَقُلْ: وخاتَمَ المُرْسَلينَ؛ لأنَّه إِذَا خَتَمَ النُّبوَّةَ، خَتَمَ الرِّسالَةَ مِن بابٍ أَوْلى.
فإنْ قُلْتَ: عيسَى - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ - يَنْزِلُ فِي آخرِ الزَّمانِ، وهُوَ رسولٌ، فمَا الجوابُ؟
نقولُ: هُوَ لاَ ينـزلُ بشريعةٍ جديدةٍ، وإنمَا يحكمُ بشريعةِ النَّبيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فَإِذَا قَالَ قائلٌ: مِن
المتَّفقِ عَلَيْهِ أنَّ خَيْرَ هذِهِ الأمَّةِ بعدَ نبيِّها أبو بكرٍ،
وعيسَى يحكمُ بشريعةِ النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
فيكونُ مِن أتباعِهِ، فكَيْفَ يَصِحُّ قولنُا: إنَّ خَيْرَ هذِهِ الأمَّةِ
بعدَ نبيِّها أبو بكرٍ؟
فالجوابُ: أحدُ ثلاثةِ وُجوهٍ:
أولُها:
أنَّ عيسَى - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ - رسولٌ مستَقِّلٌ مِن أُولِي
العَزْمِ، ولاَ يَخطرُ بالبالِ المقارنةُ بَيْنَهُ وبَيْنَ الواحدِ مِن
هذِهِ الأُمَّةِ، فكَيْفَ بالمفاضَلةِ؟! وعَلَى هَذَا يسقطُ هَذَا الإيرادُ
من أصْلِهِ؛ لأنَّهُ من التَّنطُّعِ، وقدْ هَلكَ المُتَنَطِّعون، كَمَا
قَالَ النَّبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
الثَّاني: أنْ نقولَ: هُوَ خيرُ الأمةِ إِلاَّ عيسَى.
الثَّالثُ:
أنْ نقولَ: إنَّ عيسَى ليسَ مِن الأُمَّةِ، ولاَ يصحُّ أنْ نقولَ: إِنَّهُ
مِن أمَّتِهِ، وَهُوَ سابقٌ عَلَيْهِ، لكنَّهُ مِن أتباعِهِ إِذَا نزلَ؛
لأنَّ شريعةَ النَّبيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باقيةٌ
إِلَى يومِ القيامةِ.
فإنْ قَالَ قائلٌ: كَيْفَ
يكونُ تابِعاً، وَهُوَ يقتلُ الخنـزيرَ، ويَكسِرُ الصَّليبَ، ولاَ يقبلُ
إِلاَّ الإسلامَ مَعَ أنَّ الإسلامَ يُقِرُّ أهلَ الكتابِ بالجزيةِ؟!
قُلْنا:
إخبارُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلِكَ إقرارٌ
لَهُ، فتكونَ مِن شَرْعِهِ، ويكونُ نَسْخاً لِمَا سَبقَ من حُكْمِ الإسلامِ
الأوَّلِ.
((وَالبَعْثِ بَعْدَ المَوْتِ)): البعثُ بمعنَى الإخراجِ، يعني: إخراجَ النَّاسِ مِن قبورِهِم بعدَ موتِهِم.
وَهَذَا من معتقَدِ أهلِ السُّنةِ والجماعةِ.
وَهَذَا ثابتٌ بالكتابِ
والسُّنَةِ وإجماعِ المسلمينَ، بلْ إجماعِ اليهودِ والنَّصارى، حَيْثُ
يُقِرُّونَ بأنَّ هناكَ يوماً يُبْعَثُ النَّاسُ فِيهِ ويُجازَوْنَ،
-أمَّا الْقُرْآنُ، فيقولُ اللَّهُ - عزَّ وجلَّ -: (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ قُلْ بَلَى وَرَبِّى لَتُبْعَثُنَّ) [التغابن: 7]، وقَالَ - عزَّ وجلَّ -: (ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ تُبْعَثُونَ) [المؤمنون: 15-16].
-وأمَّا فِي السُّنَّةِ، فجاءتِ الأحاديثُ المتواتِرةُ عن النَّبيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذلِكَ.
-وأجمعَ المسلمِونَ عَلَى
هَذَا إجماعاً قطعيًّا، وأنَّ النَّاسَ سيُبْعثونَ يومَ القيامةِ، ويلاقون
ربَّهُمْ، ويجازَوْنَ بأعمالِهِمْ، (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ) [الزلزلة: 7-8].
(يَأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَقِيهِ)
[الانشقاق: 6]، فتذكَّرْ هَذَا اللِّقاءَ، حَتَّى تعملَ لَهُ، خَوْفاً
مِنْ أَنْ تقِفَ بيَن يَدَيِ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ - يومَ القيامةِ، وليسَ
عندَكَ شيءٌ مِنَ العَمَلِ الصَّالحِ، انظُرْ مَاذَا عَمِلْتَ ليومِ
النَّقلةِ؟ ومَاذَا عملْتَ ليومِ اللِّقاءِ؟ فإنَّ أكثرَ النَّاسِ اليومَ
يَنظُرونَ مَاذَا عمِلُوا للدُّنْيا، مَعَ العلْمِ بأنَّ هذِهِ الدُّنْيَا
الَّتِي عَمِلُوا لَهَا لاَ يَدْرُونَ هَلْ يُدْرِكُونَها أمْ لا؟ قَدْ
يُخَطِّطُ الإنسانُ لعملٍ دُنْيويٍّ يفعلُهُ غداً أوْ بعدَ غدٍ، ولكنَّهُ
لاَ يُدْرِكُ غداً ولاَ بعدَ غدٍ، لكنَّ الشَّيءَ المتيقَّنَ أنَّ أكثرَ
النَّاسِ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَذَا) [المؤمنون: 63]، وأعمالُ الدُّنْيَا يقولُ: (وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِّن دُونِ ذلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ) [المؤمنون: 63]، فأتى بالجملةِ الاسميةِ المُفيدةِ للثُّبوتِ والاستمرارِ: (وهُمْ لُهَا عَامِلُونَ)، وقَالَ - تَعَالَى -: (لَّقَدْ كُنتَ فِى غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا) [ق: 22]، يعني: يومُ القيامةِ، وقال تعالى:(فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) [ق: 22].
هَذَا البعثُ الَّذِي
اتفقتْ عَلَيْهِ الأديانُ السماويةُ، وكُلُّ متدينٍ بدين، هُوَ أحدُ أركانِ
الإيمانِ الستةِ، وَهُوَ من معتقداتِ أهلِ السُّنةِ والجماعةِ، ولاَ
ينكرُهُ أحدٌ ممن ينتسبُ إِلَى ملةٍ أبداً.
((وَالإيمانُ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ)) هَذَا الركنُ السادسُ: الإيمانُ بالقَدَرِ خيرِهِ وشرِّه.
القدرُ: هُوَ تقديرُ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ - للأشياء.
وقدْ كَتَبَ اللَّهُ مقاديرَ كُلِّ شيءٍ قَبْلَ أنْ يخلقَ السماواتِ والأرضَ بخمسينَ ألفِ سنةٍ، كَمَا قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاءِ والأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتَبٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) [الحج: 70].
وقولُهُ: ((خَيْرِهِ وشرِّه)):
أمَّا وصفُ القدرِ بالخيرِ فالأمرُ فِيهِ ظاهرٌ، وأمَّا وصفُ القدرِ
بالشرِّ فالمرادُ بِهِ شرُّ المقدورِ لاَ شرُّ القَدَرِ الَّذِي هُوَ
فِعْلُ اللَّهِ، فإنَّ فعلَ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ - ليْسَ فِيهِ شرٌ، كلُ
أفعالِهِ خَيْرٌ وحكمةٌ، لكنَّ الشرَّ فِي مفعولاتِهِ ومقدوراتِهِ، فالشرُّ
هُنَا باعتبارِ المقدورِ والمفعولِ، أمَا باعتبارِ الفعلِ، فلا، وَلِهَذَا
قَالَ النَّبِيُّ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ -: ((والشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ)).
فمثلاً، نَحْنُ نجدُ فِي
المخلوقاتِ المقدوراتِ شرًّا، ففِيهِا الحيَّاتُ والعقاربُ، والسباعُ،
والأمراضُ، والفقرُ، والجدبُ، ومَا أشْبَهَ ذلِكَ، وكُلُّ هذِهِ بالنسبةِ
للإنسانِ شرٌ، لأنَّها لاَ تلائِمُهُ، وفِيهِا أيضاً المعاصي، والفجورُ،
والكفرُ، والفسوقُ، والقتلُ، وغيرُ ذلِكَ، وكُلُّ هذِهِ شرٌ، لكنْ باعتبار
نِسبَتِها إِلَى اللَّهِ هِيَ خَيْرٌ؛ لأنَّ اللَّهَ - عزَّ وجلَّ - لَمْ
يقدّرْها إِلاَّ لحكمةٍ بالغةٍ عظيمةٍ، عَرَفَها مَنْ عَرَفَها،
وَجَهِلَهَا من جَهِلَهَا.
وعَلَى هَذَا يجبُ أنْ
تعرفَ أنَّ الشرَّ الَّذِي وُصِفَ بِهِ القدرُ إنمَا هُوَ باعتبارِ
المقدوراتِ والمفعولاتِ، لاَ باعتبارِ التقديرِ الَّذِي هُوَ تقديرُ
اللَّهِ وفِعْلُه.
ثُمَّ اعلَمْ أيضاً أَنَّ
هَذَا المفعولَ الَّذِي هُوَ شرٌ قدْ يكونُ شرًّا فِي نفسِهِ، لكنَّهُ خيرٌ
من جهةٍ أُخْرَى، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: (ظَهَرَ
الفَسَادُ فِى البَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ
لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)
[الروم: 41]، النَّتيجَةُ طَيِّبةٌ، وعَلَى هَذَا فيكونُ الشرُّ فِي هَذَا
المقدورِ شرًّا إضافيًّا، يعني: لاَ شرًّا حقيقيًّا؛ لأنَّ هَذَا ستكونُ
نتيجتُهُ خيراً.
ولْنفرِضْ حدَّ الزَّانِي
مَثَلاً إِذَا كَانَ غيرَ مُحْصِنٍ أنْ يُجْلَدَ مائةَ جلدةٍ، ويُسَفَّرَ
عن البلدِ لمدَّةِ عامٍ، هَذَا لاَ شكَّ أَنَّهُ شرٌّ بالنسبةِ إليْهِ؛
لأنَّهُ لاَ يلائِمُهُ، لكنَّهُ خَيْرٌ مِن وجْهٍ آخرَ؛ لأنَّهُ يكونُ
كفَّارةً لَهُ، فهَذَا خَيْرٌ؛ لأنَّ عقوبةَ الدُّنْيَا أهونُ من عقوبةِ
الآخرةِ، فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ، ومِن خَيْرِهِ أنَّهُ ردعٌ لغيرِهِ ونكالٌ
لغيْرِهِ، فإنَّ غَيْرَهُ لو همَّ أنْ يَزْنِيَ وهُوَ يعلَمُ أَنَّهُ
سيُفعلُ بِهِ مثلُ مَا فُعِلَ بهَذَا، ارتدَعَ، بلْ قدْ يكونُ خيراً لَهُ
هُوَ أيضاً، باعتبارِ أنَّهُ لنْ يعودَ إِلَى مثْلِ هَذَا العملِ الَّذِي
سبَّبَ لَهُ هَذَا الشَّيءَ.
أمَا بالنِّسبةِ للأمورِ
الكونيَّةِ القدَريَّةِ فهناكَ شيءٌ يكونُ شرًّا باعتبارِه مَقْدُوراً،
كالمَرَضِ مثلاً، فالإنسانُ إِذَا مَرِضَ، فلاَ شكَّ أنَّ المرضَ شرٌّ
بالنِّسبةِ لَهُ، لكنْ فِيهِ خيرٌ لَهُ فِي الواقعِ، وخَيْرُهُ تكفيرُ
الذُّنوبِ، قدْ يكونُ الإنسانُ عَلَيْهِ ذنوبٌ مَا كفَّرَها الاستغفارُ
والتَّوبةُ، لوجودِ مانعٍ، مثلاً لعدَمِ صدقِ نيَّتِهِ مَعَ اللَّهِ - عزَّ
وجلَّ -، فتأتِي هذِهِ الأمراضُ والعقوباتُ، فتكفِّرُ هذِهِ الذُّنوبَ.
ومِنْ خَيْرِهِ أنَّ
الإنسانَ لاَ يَعْرِفُ قَدْرَ نِعْمةِ اللَّهِ عَلَيْهِ بالصِّحَّةِ إِلاَّ
إِذَا مَرِضَ، نَحْنُ الآنَ أصحَّاءُ، ولاَ نَدرِي مَا قَدْرُ الصِّحَّةِ،
لكنْ إِذَا حَصَلَ المرضُ، عَرَفْنا قَدْرَ الصِّحَّةِ، فالصِّحَّةُ تاجٌ
عَلَى رُءوسِ الأصِحَّاءِ، لاَ يعرفُها إِلاَّ المرضَى… هَذَا أيضاً خيرٌ،
وَهُوَ أنَّكَ تَعرفُ قَدْرَ النِّعمةِ.
ومِنْ خَيْرِهِ أنَّهُ قدْ
يكونُ فِي هَذَا المرضِ أشياءُ تَقتلُ جراثيمَ فِي البدنِ لاَ يَقتلُها
إِلاَّ المرضُ، يقولُ الأطباءُ: بعضُ الأمراضِ المعيَّنَةِ تَقتلُ هذِهِ
الجراثيمَ الَّتِي فِي الجسدِ وأنتَ لاَ تدري.
فالحاصلُ أَنَّنَا نقولُ:
أَوَّلاً:
الشرُّ الَّذِي وُصِفَ بِهِ القَدْرُ هُوَ شرٌّ بالنِّسبةِ لمقدورِ
اللَّهِ، أمَّا تقديرُ اللَّهِ، فكلُّه خَيْرٌ، والدَّليلُ قولُ النَّبِيِّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ)).
ثانياً:
أنَّ الشَّرَّ الَّذِي فِي المقدورِ ليسَ شرًّا مَحْضًا، بلْ هَذَا
الشَّرُّ قدْ يَنتجُ عَنْهُ أمورٌ هِيَ خَيْرٌ، فتكونُ الشَّرِّيَّةُ
بالنِّسبةِ إِلَيْهِ أَمْراً إضافِيًّا.
هَذَا، وسيتكَلَّمُ المؤلِّفُ -رحمَهُ اللَّهُ- عَلَى القَدَرِ بكلامٍ مُوسَّعٍ يُبَيِّنُ درجاتِهِ عندَ أهلِ السُّنَّةِ.
الروضة الندية للشيخ: زيد بن
عبد العزيز بن فياض رحمه الله
قال الشيخ زيد بن عبد العزيز بن فياض (ت: 1416هـ): (هذه الأصولُ الستَّةُ هي أركانُ الإيمانِ . قَالَ تَعَالَى :{لَّيْسَ
الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ
وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ
وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} وقَالَ :{
آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ
كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ
بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ } وقَالَ :{ وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً } وفي حديثِ جِبريلَ المَشهورِ حين سألَ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن الإيمانِ :
الإيمانُ أنْ تُؤْمِنَ باللَّهِ ، وملائكتِهِ ، وكُتُبِهِ ، ورُسُلِهِ ، واليومِ الآخِرِ ، وتُؤْمِنَ بالقَدَرِ خيْرِهِ وشرِّهِ .
وهذه الأركانُ العظيمةُ قد
اتَّفَقَتْ عليها الرُّسُلُ والشَّرائِعُ ، ونزلَتْ بها الكتُبُ ، وآمَنَ
بها جميعُ المسْلمِينَ ، ولم يَجْحَدْ شيئاً منها إلاَّ مَن خَرَجَ عن
دائرةِ الإيمانِ وصارَ مِن الكافرِينَ .
والإيمانُ باللَّهِ معناهُ :
الاعتقادُ الجازِمُ أنَّ اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شيءٍ ومَلِيكُهُ ، وأنَّه
الخالِقُ وحْدَهُ ، وأنَّه الذي يستحِقُّ أنْ يُفْرَدَ بالعِبادةِ
والذُّلِّ والخُضُوعِ ، وجميعِ أنواعِ العِبادةِ ، وأنَّه المُتَّصِفُ
بصِفاتِ العظمةِ والكَمالِ ، المُنَزَّهُ عن كُلِّ سُوءٍ ونقْصٍ .
والإيمانُ بالملائكةِ :
الاعتقادُ الجازِمُ بأنَّهم مَوْجُودونَ قائِمونَ بوَظائِفِهمُ التي
كلَّفَهُمُ اللَّهُ بها، لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أمَرَهُم ويَفْعلونَ ما
يُؤْمَرُونَ. كمَا أمَرَتْ بذلك النصوصُ مِن القرآنِ والسُّنَّةِ، فكُلُّ
حَرَكةٍ في السَّمَوَاتِ والأرضِ مِنْ حرَكاتِ الأفلاكِ والنُّجومِ
والشَّمْسِ والقَمرِ والرِّياحِ والسَّحابِ والنَّباتِ والحيوانِ فهِي
ناشِئةٌ عن المَلائكةِ المُوَكَّلِينَ بالسَّمَوَاتِ والأرضِ، كما قَالَ
تَعَالَى :{فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً ] [فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً}،
وهِي الملائكةُ عندَ أهلِ الإيمانِ وأتْباعِ الرُّسُلِ . وأمَّا
المُكَذِّبُونَ للرسُلِ المُنْكِرونَ للصانِعِ ، فيقولون : هي النُّجومُ ،
وقد دَلَّ الكِتابُ والسُّنَّةُ على أصنافِ الملائكةِ ، وأنَّها مُوَكَّلةٌ
بأصنافِ المخلوقاتِ، وأنَّه سُبْحَانَهُ وَكَّلَ بالجبالِ ملائكةً،
ووَكَّلَ بالسَّحابِ والمطرِ ملائكةً، ووَكَّلَ بالرَّحِمِ ملائكةً
تُدَبِّرُ أمْرَ النُّطْفةِ حَتَّى يَتِمَّ خَلْقُها. ثم وَكَّلَ بالعبدِ
ملائكةً لحِفْظِهِ وما يعمَلُهُ وإحصائِهِ وكتابتِهِ، ووكَّلَ بالموتِ
ملائكةً، ووَكَّلَ بالسُّؤالِ في القبرِ ملائكةً، ووكَّلَ بالأفلاكِ
مَلائكةً يُحَرِّكُونها ، ووَكَّلَ بالشَّمْسِ والقمرِ ملائكةً ، ووَكَّلَ
بالنَّارِ وإيقادِها وتعذيبِ أهْلِها وعِمارَتِها ملائكةً ، ووَكَّلَ
بالجَنَّةِ وغِرَاسِها وعَمَلِ الأنهارِ فيها ملائكةً . فالمَلائكةُ
أعْظَمُ جُنودِ اللَّهِ، ولَفْظُ المَلَكِ يُشْعِرُ بأنَّه رَسُولٌ
مُنَفِّذٌ لأَِمْرِ غَيْرِهِ، فلَيْسَ لهم مِن الأمرِ شيءٌ، بلِ الأمرُ
كلُّه للَّهِ الواحدِ القَهَّارِ { يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } اهـ .
وكُتُبِهِ فيجِبُ
الإيمانُ بكُتُبِ اللَّهِ المُنَزَّلةِ مِن السَّمَاءِ على الأنبياءِ ما
عَلِمْنا مِن ذلك كالتَّوراةِ والإنجيلِ والزَّبُورِ والقرآنِ وما لم
نَعْلَمْ . قَالَ الحافِظُ : والإيمانُ بكُتُبِ اللَّهِ : التَّصديقُ
بأنَّها كلامُ اللَّهِ ، وأنَّ ما تضمَّنُهُ حقٌّ اهـ ، ويجِبُ مَعَ
الإيمانِ بالقرآنِ، وأنَّه مُنَزَّلٌ من عندِ اللَّهِ تكلَّمَ اللَّهُ به
كما تكلَّمَ بالكُتُبِ المُنزَّلةِ على الأنبياءِ، يجِبُ مَعَ هذا كلِّه
اتِّباعُ ما فيهِ مِنْ أوامِرَ واجْتنابُ ما فيه مِن زَواجِرَ .
ورُسلِهِ
فيجِبُ التَّصْديقُ بهم ، والإيمانُ بأنبياءِ اللَّهِ ورسُلِهِ مِن
أوَّلِهم إلى آخِرِهم ، قَالَ في شَرحِ الطَّحَاويِّةِ : وأمَّا الأنبياءُ
والمُرْسَلُونَ فعلينا الإيمانُ بمَن سمَّى اللَّهُ في كتابِهِ مِن رسُلِهِ
، والإيمانُ بأنَّ اللَّهَ أرسَلَ رُسُلاً سِواهُم ، وأنبياءَ لا يَعلمُ
عددَهُم وأسماءَهُم إلاَّ اللَّهُ تَعَالَى الذي أرْسَلَهُمْ . فعَلَيْنا
الإيمانُ بهم جُمْلةً ؛ لأنَّه لم يأْتِ في عددِهِم نَصٌّ ، وقَد قالَ
تَعَالَى :{وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ}
وعلينا الإيمانُ بأنَّهم بَلَّغُوا جميعَ ما أُرْسِلُوا به على ما
أمَرَهُمُ اللَّهُ به، وبَيَّنُوهُ بياناً لا يَسَعُ أحداً ممَّن أُرْسِلوا
له جَهْلُهُ ولا يَحِلُّ خِلافُهُ ، قَالَ تَعَالَى :{فَهَلْ
عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} {وَأَطِيعُواْ اللَّهَ
وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ فَإِن تَولَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا
الْبَلاَغُ الْمُبِينُ}، وأمَّا أُولُو العَزْمِ مِن الرُّسُلِ فقد
قِيلَ فيهم أقوالٌ أحسَنُها ما نقلَهُ البَغَوِيُّ وغيرُهُ عن ابنِ عبَّاسٍ
وقتادةَ ، أنَّهم : نُوحٌ ، وإبراهيمُ ، ومُوسى ، وعيسى ، ومُحَمَّدٌ عليه
الصَّلاةُ والسَّلامُ ، وهُمُ المَذْكُورونَ في قولِهِ تَعَالَى :{شَرَعَ
لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا
إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ
أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ كَبُرَ عَلَى
الْمُشْرِكِينَ} الآيةَ . وأمَّا الإيمانُ بمُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فتصديقُهُ واتِّباعُ ما جَاءَ به مِن
الشَّرائعِ إجْمالاً وتفصيلاً . اهـ
والبعْثُ بعدَ الموتِ :
هو الإيمانُ بأنَّ هناك داراً آخِرةً يُجَازَى فيها المُحْسِنُ بإحسانِهِ ،
والمُسِيءُ بإساءتِهِ ، ويَغفرُ اللَّهُ ما دُونَ الشِّرْكِ لمَن يشاءُ .
وقد كان المُشرِكونَ
الأوَّلونَ يُنْكرونَ البعثَ ، ويقولون : ما هِي إلاَّ حياتُنا الدُّنْيَا
نموتُ ونحيا وما نحن بمَبْعُوثِينَ ، وقد ردَّ اللَّهُ عليهم وكذَّبَهم في
زعْمِهم الباطلِ ، وبَيَّنَ أنَّ مَن كان قادِراً على إيجادِهِم مِن
العَدَم - إذْ أخْرَجَهُم لهذه الدُّنْيَا ، ولم يكونوا شيئاً - هو كذلك
قادِرٌ على إعادتهم مرَّةً أُخرى بطريقِ الأوْلَى . قَالَ تَعَالَى :{وَقَالُواْ
أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً
جَدِيداً * قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً * أَوْ خَلْقاً مِّمَّا
يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي
فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، وقَالَ :{أَوَلَمْ
يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ
مٌّبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي
الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ
مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} الآياتِ .
والإيمانُ بالبعثِ :
أحدُ أرْكانِ الإيمانِ ، والصحيحُ أنَّه مِمَّا دَلَّ عليه العقلُ مَعَ
الشَّرْعِ ، قَالَ الحافِظُ : ومُنَاسبةُ التَّرتيبِ المذكورِ وإنْ كانتِ
الواوُ لا تُرَتِّبُ . بلِ المُرادُ مِن التَّقديمِ أَنَّ الخيْرَ
والرَّحْمَةَ مِن اللَّهِ، ومِن أعظَمِ رحمتِهِ أنْ أنزَلَ كتُبَهُ إلى
عِبادِهِ، والمُتَلَقِّي لذلك منهمُ الأنْبِيَاءُ، والواسِطةُ بينَ اللَّهِ
وبينهمُ الملائكةُ . اهـ ، وقَالَ أيضاً : وقدَّمَ الملائكةَ على الكُتُبِ
والرُّسُلِ نظَراً للتَّرْتيبِ الواقِعِ لأنَّه سُبْحَانَهُ أرسَلَ
المَلَكَ بالكِتابِ إلى الرَّسُولِ، قَالَ : ولَيْسَ فيه مُتَمَسَّكٌ
لِمَنْ فضَّلَ المَلَكَ على الرَّسُولِ (قلتُ): ومسألةُ تفضيلِ المَلَكِ
على الرَّسُولِ أو بالعكسِ مسألةٌ لا طائِلَ تحْتَها .
((وأصلُ البعثِ
إثارةُ الشَّيْءِ عن جفاءٍ ، وتحريكٌ عن سكونٍ . والمُرادُ هنا إحياءُ
الأمواتِ وخُروجُهم مِن قُبورِهم ونحوِها إلى حُكْمِ يومِ القيامةِ)) .
((والإيمانُ بالقدَرِ خيْرِهِ وشرِّهِ))
وقد دلَّ على إثباتِ القدَرِ الكِتابُ والسُّنَّةُ وإجماعُ السَّلَفِ
الصَّالحِ ، وخالَفَ في ذلك القدَرِيَّةُ النُّفاةُ ، وقدْ أنْكَرَ
السَّلَفُ عليهم أَشَدَّ الإنكارِ لَمَّا أظْهَرُوا بِدْعَتَهم
وسَمَّوْهُمْ مَجُوسَ هذه الأُمَّةِ .
قَالَ ابنُ عُمَرَ ، وقد
قِيلَ له إنَّ قوماً يقولون لا قَدَرَ : إني منهم بريءٌ ، وإنَّهم منِّي
بُرَآءُ ، والذي يحْلِفُ به عبدُ اللَّه بنُ عمرَ لو كان لِأحدِهم مِثْلُ
أُحُدٍ ذهباً ثم أنفقَهُ في سبيلِ اللَّهِ ما قَبِلَهُ اللَّهُ منه حَتَّى
يُؤْمِنَ بالقدَرِ . ثم ذَكَرَ حديثَ سؤالِ جبريلَ للنبيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفيه : وتؤمِنَ بالقدَرِ خيْرِهِ وشرِّهِ . وقَالَ ابنُ عبَّاسٍ : الإيمانُ بالقدَرِ نظامُ التَّوْحِيدِ ، فمَن كذَّبَ بالقدَرِ نقَضَ تكذيبُه توحيدَهُ .
(( والقدَرُ مصْدَرٌ نقولُ
: قَدَرْتُ الشَّيْءَ بتخفيفِ الدَّالِ وفتْحِها أقْدِرُهُ بالكسرِ
والفتْحِ قَدَراً وقَدْراً إذا أحطتُ بمقدارِهِ ، والمرادُ أنَّ اللَّهَ
تَعَالَى عَلِمَ مقاديرَ الأشياءِ وأزْمانَِها قبْلَ إيجادِها ، ثم أوْجَدَ
ما سَبَقَ في عِلْمِهِ أنَّه يُوجَدُ . فكُلُّ مُحْدَثٍ صادِرٌ عن
عِلْمِهِ وقُدْرَتِه وإرادتِهِ ؛ هذا هُو المعلومُ مِن الدِّينِ
بالبَراهينِ القَطْعِيَّةِ ؛ وعليه كانَ السَّلَفُ مِن الصَّحَابَةِ وخيارِ
التَّابِعِينِ إلى أنْ حدَثَتْ بِدْعةُ القدَرِ في أواخِرِ زمَنِ
الصَّحَابَةِ )) .
فهذه أركانُ الإيمانِ السِّتَّةُِ ، آمَنَ بها حقيقةَ الإيمانِ أَتْباعُ الرّسُلِ .
وأمَّا أعداؤهم ومَن سلَكَ
سبيلَهُم مِن الفلاسفةِ وأهلِ البِدعِ فهم مُتَفاوِتُونَ في جَحْدِها
وإنكارِها ، وأعظمُ النَّاسِ لها إنكاراً هم الفلاسفةُ المُسَمَّوْنَ عندَ
مَن يُعَظِّمُهُم بالحُكماءِ، فإنَّ مَنْ عَلِمَ حقيقةَ قَوْلِهِمْ عَلِمَ
أنَّهم لا يُؤمنونَ باللَّهِ ولا رُسُلِهِ ولا كُتُبِهِ ولا مَلائكتِهِ ولا
باليومِ الآخِرِ، فإنَّ مَذْهَبَهُم أنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مَوْجودٌ لا
ماهِيَةَ له ولا حقيقةَ ، فلا يعلَمُ الجُزئياتِ بأعْيانِها، وكلُّ
مَوجودٍ في الخارِجِ فهو جُزئِيٌّ، ولا يفعَلُ عندَهم بقُدْرَتِهِ
ومَشيئَتِهِ ، وإنَّما العالَمُ عندهم لاَزِمٌ له أزَلاً وأبداً ، وإنْ
سَمَّوْهُ مَفعولاً له فمُصانَعةً ومُصالحةً للمسْلمِينَ في اللَّفْظِ،
ولَيْسَ عندهم بمفعولٍ ولا مَخْلوقٍ ولا مَقْدورٍ عليه ، ويَنْفُونَ عنه
سمْعَهُ وبصَرَهُ وسائرَ صِفاتِهِ ، فهذا إيمانُهمْ باللَّهِ ، وأمَّا
كُتُبُهُ عندهم فإنَّهم لا يَصِفونَهُ بالكلامِ ، فلا يُكَلِّمُ ولا
يتَكَلَّمُ ، ولا قَالَ ، ولا يقولُ ، والقرآنُ عندهمْ فيْضٌ فاضَ من
العقلِ الفعَّالِ على قلبِ بشَرٍ زَاكِي النَّفْسِ طاهرٍ مُتَميِّزٍ مِن
النَّوعِ الإنْسَانِيِّ بثلاثِ خَصائصَ : قوَّةُ الإدراكِ ، وسُرعتُهُ
لِيَنالَ الْعِلْمَ أعظمَ ممَّا ينالُهُ غيرُهُ ، وقوَّةُ النَّفْسِ
ليؤثِّرَ بها في هَيُولَِيِ العِلْمِ بقَلْبِ صورةٍ إلى صورةٍ ، وقُوَّةُ
التَّخْييلِ ليَخِلَ بها القُوى العَقْلِيَّةَ في أشْكالٍ محسوسةٍ وهِي
الملائكةُ عندهم ، ولَيْسَ في الخارجِ ذاتٌ منْفَصِلةٌ تصعدُ وتنزِلُ ،
وتَذهبُ وتَجيءُ ، وتَرى وتُخاطِبُ الرَّسُولَ ، وإنما ذلكَ عندهم أُمورٌ
ذِهنيَّةٌ لا وُجودَ لها في الأعيانِ .
وأمَّا اليومُ الآخِرُ
فهُم أشدُّ النَّاسِ تكذيباً وإنكاراً له في الأعْيانِ، وعندهم أنَّ هذا
العالَمَ لا يُخَرَّبُ، ولا تَنْشَقُّ السَّمَاواتُ، ولا تَنْفَطِرُ ، ولا
تنكدرُ النجومُ ، ولا تُكَوَّرُ الشَّمْسُ والقمرُ ، ولا يقومُ النَّاسُ
مِن قُبُورِهم ويُبْعَثُونَ إلى جَنَّةٍ ونارٍ . كُلُّ هذا عِنْدَهم أمثالٌ
مَضْروبةٌ لتفهيمِ العَوَامِّ لا حقيقةَ لها في الخارِجِ كما يَفْهَمُ
منها أَتْباعُ الرُّسُلِ . فلا مَبْدَأَ عندهم ولا مَعادَ ولا صانِعَ ، ولا
نُبُوَّةَ ، ولا كُتُبَ نزلَتْ مِن السَّمَاءِ تكلَّمَ اللَّهُ بها ، ولا
ملائكةَ تَنَزَّلَتْ بالوَحْيِ مِن اللَّهِ .
وقد أبْدَلَتْها
المُعْتَزِلةُ بأُصُولِهمُ الخمسةِ التي هدَموا بها كثيراً مِنَ الدِّينِ ،
فإنَّهم بَنَوْا أصْلَ دِينِهِمْ على الجِسْمِ والعَرَضِ الذي هو
المَوْصُوفُ والصِّفَةُ عندهم ، واحْتَجُّوا بالصِّفاتِ التي هِي
الأَعْراضُ على حُدُوثِ المَوْصُوفِ الذي هو الجِسْمُ ، وتكلَّمُوا في
التَّوْحِيدِ على هذا الأصلِ . فنَفَوْا عَن اللَّهِ كُلَّ صِفةٍ
تَشْبِيهاً بالصِّفاتِ المَوْجُودَهِ في المَوْصُوفاتِ التي هِي الأجْسامُ .
ثم تكلَّمُوا بعدَ ذلك في أفْعَالِهِ التي هِي القدَرُ ، وسَمَّوْا ذلك العَدْلَ .
ثم تكلَّمُوا في
النُّبُوَّةِ له والشَّرائِعِ ، والأمْرِ والنَّهْيِ ، والوَعْدِ والوعيدِ ،
وهِي مسائِلُ الأحكامِ التي هِي المَنْزِلَةُ بين المَنْزِلَتَيْنِ ،
ومسألةُ إنفاذِ الوعيدِ .
ثمَّ تكلَّمُوا في مسألَةِ
إلزامِ الغيرِ بذلك الذي هو الأمْرُ بالمَعْرُوفِ والنَّهْيُ عن المُنْكرِ
، وضمَّنُوهُ جَوازَ الخُروجِ على الأئمةِ بالْقِتَالِ . فهذه أُصُولُهُمُ
الخمسةُ التي وَضَعُوها بإِزَاءِ أُصُولِ الدِّينِ الخَمسةِ التي بُعِثَ
بها الرَّسُولُ ، والرَّافِضَةُ المتأَخِّرُونَ جَعَلوا الأُصُولَ أربعةً :
التَّوْحِيدُ، والعدلُ،
والنُّبُوَّةُ، والإمامةُ، وأُصُولُ أهْلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ تابِعةٌ
لِمَا جاءَ به الرَّسُولُ، وقَالَ أبو طالِبٍ المَكِّيُّ : أُصُولُ
الإيمانِ سبعةٌ : يَعْني هذه الخَمسةَ ، والإيمانَ بالقدَرِ ، والإيمانَ
بالجَنَّةِ والنَّارِ وهذا حقٌّ والأدِلَّةُ عليه ثابِتةٌ مُحْكَمةٌ
قَطْعِيَّةٌ . ا هـ).
التنبيهات السنية للشيخ: عبد العزيز بن ناصر الرشيد رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وهُوَ الإِيمانُ باللهِ(1)
ومَلائِكَتِهِ، وكُتُبِهِ، ورُسُلِهِ(2) والبَعْثِ بَعْدَ المَوْتِ، والإِيْمانِ بالقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ).
الشرح:
قال الشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد (ت: 1408هـ): ( (1) قولُه: ( الإيمانُ باللهِ ): الإيمانُ معناه لغةً: التَّصْدِيقُ، قال اللهُ سبحانَه وتعالى: (وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا ) أي مصدِّقٍ، وكذلك إذا أُقْرِنَ العَملُ فمعناه التَّصديقُ، قالَ اللهُ: (إِلاَّ الَّذِينَ آمَنواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ).
أمَّا الإيمانُ في الشَّرعِ:
فهو قولٌ وعملٌ واعتقادٌ، وذكرَ بعضُهم إجماعَ السّلفِ على ذلك، ومعنى
الإيمانِ باللهِ: إثباتُ وجودهِ سبحانه وأنَّه مُتَّصِفٌ بصفاتِ الجلالِ
والعظمةِ والكمالِ، مُنَزَّهٌ من كلِّ عيبٍ ونقصٍ، وأنّه مستحقٌّ للعبادةِ
لا إلهَ غيرُه ولا ربَّ سواه.
(2) قولُه: ( وملائكتِه ): أي التـَّصديقُ بِوُجُودِهِمْ وأنـَّهم كما وصفَهم اللهُ سبحانَه وتعالى: (عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلونَ )
فيجبُ الإيمانُ بهم إِجْمَالاً فيما لم نَعْلَمْهُ تَفْصِيلاً، أمَّا مَنْ
عُلِمَ عَينُه كجبريلَ ومِيكائيلَ وإسرافِيلَ ونحوِهِم فيجبُ الإيمانُ
بِأَعْيَانِهِمْ.
أمَّا عددُهم فلا يعلمُه إلا اللهُ، وقد
دلَّ الكتابُ والسُّنَّةُ على أصنافِ الملائكةِ، وأنّها مُوَكَّلةٌ بأصنافِ
المخلوقاتِ: منهم مُوَكَّلون بالسَّحابِ والمطرِ، ومنهم موكَّلون
بالأرحامِ، ومِنهم موكَّلون بحفظِ بني آدمَ، ومنهم موكَّلون بحفظِ ما
يعملُهُ وِإحْصَائِه وكتابتِه، ومنهم الموكَّلونَ بالموتِ والسّؤالِ في
القبِرِ، إلى غيِرِ ذلك من أصنافِ الملائكةِ ممَّا لا يعلمهُ إلا اللهُ (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ )
وممَّا تقدَّم يُعلَمُ بطلانُ قولِ من قالَ: إِنَّ الملائكةَ لا عقولَ
لهم، فقد تقدَّم أَنَّ منهم السُّفَرَاءَ بينَ اللهِ ورسلِه،
والمُوَكَّلِيَن بِأَصْنَافِ المخلوقاتِ، إلى غيرِ ذلك ممَّا تواترتْ به
الأدلَّةُ من صفاِتهم وما كلَّفهُم اللهُ به، وما جاءت به الأدلَّةُ من
عبادِتهم العظيمةِ، وخوفِهم من اللهِ سبحانه وتعالى، فهل يُصَدِّقُ عاقلٌ
أو من شَمَّ رائحةَ الإيمانِ بما زَعَمَهُ هذا السَّفِيهُ، لا شكَّ أنَّ
هذا قولٌ باطلٌ مُصَادِمٌ لأدلَّةِ الكتابِ والسّنّةِ.
وقولُهُ: ( وكتبِه ):
أي التّصديقُ بأنَّها كلامُ اللهِ، وأنَّها حقٌّ ونورٌ وهدًى فيجبُ
الإيمانُ بما سمَّى اللهُ منها من التَّوراةِ والإنجيلِ والزَّبورِ، ونؤمنُ
بأنَّ للهِ سِوَى ذلك كتباً أنزلها على أنبيائِه لا يَعرِفُ أسماءَها
وعددَها إلا اللهُ سبحانه، قال تعالى: (آمَن الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ )
الآيةَ. وغيرَها من الآياتِ الدّالَّةِ على أنَّ اللهَ تكلَّمَ بها حقّاً،
وأنَّها أُنْزِلَتْ من عِنْدِه، وفي ذلك إثباتُ صفةِ الكلامِ والعُلُوِّ:
أمَّا الإيمانُ بالقرآنِ فَالإِقْرَارُ به، واتِّبَاعُ ما فيه وذلك أمرٌ
زائدٌ على الإيمانِ بغيرهِ من الكتبِ.
قولُه: ( ورسلِه ):
أي التَّصديقُ بأنّهم صادقون فيما أخْبَروا بهِ وأنَّهم بلَّغُوا
الرّسالةَ وأَدَّوُا الأمانةَ وأنَّهم بيّنوا ما لا يَسَعُ أحداً ممَّن
أُرسِلُوا إليهم جَهلُه ولا يَحِلُّ خِلافُه وأنَّه يجبُ احترامُهم وأَنْ
لا يفرّقَ بينهم، فيجبُ الإيمانُ بمنْ سمَّى اللهُ في كتابِه من رسلِه
وأَنَّ للهِ رسُلاً غيرَهم وأنبياءً لا يعلمُ عددَهم إلا اللهُ، فعلينا
الإيمانُ بهم جُمْلَةً لأنّه لم يأتِ نصٌّ صحيحٌ في عددِهم، وقد قال تعالى:
(وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ) الآية، وقد سبقَ الكلامُ في هذا الموضوعِ.
فيجبُ الإيمانُ بجميعِ الأنبياءِ
والمرسَلين، وتصديقُهم بكلِّ ما أَخْبَرُوا به من الغيبِ، وطاعتُهم في كلِّ
ما أَمرُوا به ونَهُوا عنه، قال تعالى: (قولواْ
آمَنّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا
أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ
نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ).
قال ابنُ رجبٍ رحمَهُ اللهُ تعالى:
والإيمانُ بالرُّسُلِ يلزمُ منه الإيمانُ بجميعِ ما أَخْبَرُوا به من
الملائكةِ والأنبياءِ والكتبِ والبعثِ والقَدَرِ وغيِرِ ذلك من صفاتِ اللهِ
وصفاتِ اليومِ الآخرِ؛ كالصِّراطِ والميزانِ والجنّةِ والنّارِ ونحوِ ذلك.
وأفضلُ الخلقِ على الإطلاقِ
نبيُّنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والأفضلُ بعدَه أُولوا الْعَزْمِ
من الرّسلِ ثمَّ بَقِيَّةُ الرّسلِ ثمَّ الأنبياءُ، ولا يَبْلُغُ
الوَلِيُّ مهما بَلَغَ من الجِدِّ والاجتهادِ في طاعةِ اللهِ درجةَ
الأنبياءِ عليهم السّلامُ. وقد شَنَّعَ الشّيخُ تقيُّ الدّينِ رحمهُ اللهُ
على من يزعُمُ ذلك وَرَدَّ عليه أَسوأَ رَدٍّ، وقال: إنّ ذلك مُخالفٌ لدينِ
الإسلامِ واليهودِ والنّصارى.
وأمـَّا الكلامُ على قولـِه: ( والبعثِ بعدَ الموتِ والإيمانِ بالقدرِ ) فسيأتي إنْ شاءَ اللهُ.
التنبيهات اللطيفة فيما احتوت عليه الواسطية من المباحث المنيفة لابن سعدي رحمه الله
قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): (وأصلها الذي تُبنى عليه: هو الإيمان بهذه الأصول الستة التي صرّح بها، الكتابُ والسُّنة في مواضع كثيرة جُملة وتفصيلاً وتأصيلاً وتفريعاً وهي المذكورة في حديث جبريل المشهور حين قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: ما الإيمان؟ فأجابه. فهذه الرسالة من أولها إلى آخرها تفصيلٌ لهذه الأصول الستة).
شرح العقيدة الوسطية للشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ ( مفرغ )
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ: (قال هنا في بيان هذا الاعتقاد: (وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والإيمان بالقدر خيره وشره).
اعتقاد أهل السنة والجماعة مبني على
هذه الأركان التي بينها الشيخ -رحمه الله تعالى- في هذه الكلمات، وهذه
الكلمات هي أركان الإيمان التي جاء الأمر بها في الآيات وفي الأحاديث
الصحيحة،
قال جل وعلا: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين}، فذكر هذه الخمسة,
وقال جل وعلا في آخر السورة نفسها: {كلٌ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله}،
وقال جل وعلا في القدر: {إنا كل شيء خلقناه بقدر}،
وقد جاءت هذه الستة
في حديث جبريل المشهور وهي أركان الإيمان حيث سأل جبريل النبي عليه الصلاة
والسلام فقال: أخبرني عن الإيمان ؟ فقال: ((الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره)) من الله تعالى، هذه الأركان الستة هي أركان الإيمان،
والإيمان إذا قرن
بالإسلام فيعنى به الاعتقاد الباطن، وهذه الرسالة فيها ذكر الاعتقاد،
اعتقاد أهل السنة والجماعة فتحصل أن الإسلام يعني به الأمور الظاهرة
والإيمان يعنى به الأمور الباطنة، يعني أمور اعتقاد القلب، وهو مبني على أركان ستة:
الأول: الإيمان بالله،
الثاني: الإيمان بالملائكة،
الثالث: الإيمان بالكتب،
الرابع: الإيمان بالرسل،
الخامس: الإيمان بالبعث بعد الموت أو الإيمان باليوم الآخر،
السادس: الإيمان بالقدر خيره وشره من الله تعالى...
الإيمان ما هو؟ قال هنا: (وهو الإيمان)، يعني:
اعتقاد أهل السنة والجماعة هو الإيمان، الإيمان له معنى في اللغة وله معنى
في الشرع؛ لأنه من الألفاظ التي نقلت من معناها اللغوي إلى معنى شرعي مثل
الصلاة والزكاة ونحو ذلك، فأما معناه في اللغة: فهو التصديق أو التصديق الجازم كما قال تعالى مخبراً عن قول إخوة يوسف لأبيهم: { وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين }
يعني: ما أنت بمصدقنا ولو كنا صادقين، فالإيمان في اللغة هو: التصديق، آمن
لفلان يعني: صدقه، آمنت لكلامك يعني: صدقت لكلامك بحيث أنه لا ريب عندي
فيما أقول.
أما معناه في الشرع: فإن الإيمان: قول وعمل قول
القلب وعمل القلب وكذلك قول اللسان وقول القلب وعمل الجوارح والأركان فإذاً
الإيمان في اللغة له معنى أما في الشرع فالزيادة على معناه اللغوي أنه له
موارد القلب والجوارح قول وعمل، حصّل هذا أهل العلم بقولهم: إن الإيمان في
الشرع هو القول باللسان، يعني: بشهادة التوحيد والاعتقاد بالجنان، الاعتقاد
المفصل الذي سيأتي هنا، والعمل بالجوارح والأركان فهذا هو معنى الإيمان في
النصوص وهو المراد بالإيمان عند أهل السنة والجماعة.
قول القلب هو اعتقاد القلب، الإيمان قول وعمل قول القلب وقول اللسان وعمل
القلب وعمل الجوارح والأركان هذه أربعة أشياء تحتاج إلى تفصيلها قول القلب:
هو اعتقاده، لا بد من أن يكون ثَمَّ قول وهو اعتقاد القلب، اعتقادات القلب
هي أقواله؛ لأنه يحدِّث بها نفسه قلباً فهو يقولها في قلبه، فأقوال القلب
هي الاعتقادات وهي التي ستأتي مفصلة في هذا الكتاب.
قول اللسان بالشهادة لله بالتوحيد بقول: (لا إله إلا الله محمد رسول الله)،
ثم عمل القلب، عمل القلب أوله نيته وإخلاصه، أنواع أعمال القلوب من التوكل
والرجاء والرغب والرهبة والخوف والمحبة والإنابة والخشية ونحو ذلك من
أنواع أعمال القلوب، عمل الجوارح بأنواع الأعمال مثل: الصلاة والزكاة
والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك من الأعمال، هذا هو
الإيمان، بعضه، بعض هذا الإيمان هو قول القلب الذي هو اعتقاداته، وهذا هو
الذي سيأتي تفصيله في هذه الأركان فإذاً هذه الأركان [هي أركان الإيمان وهي
بعض الإيمان، هي الأركان التي يقوم عليها الإيمان، إذا تحققها]* المعتقد لها فإنه سيتبع قول اللسان سيتبع بعد ذلك عمل القلب سيتبع بعد ذلك عمل الجوارح والأركان وكلها من حقيقة الإيمان.
قال هنا: (وهو الإيمان بالله وملائكته)، الإيمان بالله قبل أن ندخل فيه، هذه الستة تفصيلها في هذه الرسالة إما باقتضاب أو بتفصيل.
أولها: الإيمان بالله، الإيمان بالله يشمل أشياء:
الأول: أول درجات الإيمان بالله أن يؤمن بأن
الله جل وعلا موجود، بأن له ربا موجودا وأنه لم يوجد من عدم وأن لهذا
الملكوت موجد، هذا أول درجات الإيمان بالله.
الثاني: أن يؤمن بأن هذا الذي له هذا الملك أنه
واحد فيه واحد في ربو بيته لا شريك له في ملكه يحكم في ملكه بما يشاء لا
معقب لحكمه ولا مراجعَ له في أمره جل وعلا، نعني بالمراجع: عدم المنفذ في
أمره جل وعلا وهذا هو الذي يُعنى به توحيد الربوبية.
الثالث: الإيمان بأن هذا الذي له ملكوت كل شيء
وأنه صاحب هذا الملك وحده دونما سواه الذي ينفذ أمره في هذا الملكوت
العظيم، أن له الأسماء الحسنى والصفات العلى، له النعوت الكاملة له، الكمال
المطلق بجميع الوجوه الذي ليس فيه نقص من وجه من الوجوه بل له الكمال في
أسمائه، له الكمال في صفاته، له الكمال في أفعاله، له الكمال في حكمه في
بريته وفي خلقه، وهذا هو الذي يعنى بتوحيد الأسماء والصفات، ويعتقد مع ذلك
أنه في تلك النعوت وتلكم الصفات أنه ليس ثم أحد يماثله فيها ولا يكافؤه
فيها كما قال جل وعلا: { هل تعلم له سميا }، وكما قال جل وعلا: { ولم يكن له كفواً أحد }، فليس له جل وعلا مثيل ولا كفء ولا نظير ولا ند ولا عدل تبارك ربنا وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
الرابع: وهو الأخير، وهو المهم الأعظم في
الإيمان بالله، الإيمان بأن هذا الموجود الذي له الملك وحده دونما سواه
والذي له نعوت الجلال والجمال والكمال على وجه الكمال أنه هو المستحق
للعبادة وحده دونما سواه وأن كل ما سواه فلا يستحق شيئاً من العبادة، وأن
أنواع العبادات عبادة القلب أو عبادات الجوارح -أن المستحق لها بقليلها
وكثيرها هو الله جل وعلا وحده دونما سواه، فمن أتى بهذه الأربعة فقد أتى
بالإيمان بالله الذي هو ركن من أركان الإيمان ومن ترك الأولى منها فهو ملحد
لا شك يتبع ذلك أنه لا يعتقد شيء بعد ذلك، وكذلك من أشرك في الربوبية من
لم يعتقد الربوبية الكاملة لله جل وعلا وحده فإنه يتبع ذلك، وكذلك من لم
يوحد الله جل وعلا في العبادة فإنه لا يسمى مؤمناً بالله ولو كان يعتقد أن
الله جل وعلا موجود وأن له الربوبية الكاملة له وحده دونما سواه وأنه ذو
الأسماء الحسنى والصفات العلى، فإذا لم يوحد الله جل وعلا في العبادة في
نفسه أو أقر عدم توحيد الله جل وعلا بتصحيحه لذلك أو بتجويزه له فهو لم
يؤمن بالله.
بقي الثالث: وهو توحيد الأسماء والصفات، هل من لم يؤمن بهذا نقض عدم إيمانه
بذلك، إيمانه أصلاً فيصبح كافراً؟!، يقال: من لم يؤمن بتوحيد الأسماء
والصفات ففي حقه تفصيل، تفصيله يأتي إن شاء الله تعالى في هذه الرسالة لأن
شيخ الإسلام, هذه الجملة وهي الإيمان بالله، سيأتي بعد قليل ويقول: (ومن الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه)
وسيذكر الإيمان بالأسماء والصفات من الكتاب والسنة على وجه التفصيل. نرجئ
تفصيل هذا الحكم إلى موضعه، إذاً من أنكر توحيد الأسماء والصفات يعني من لم
يثبت لله جل وعلا جميع الأسماء والصفات أو قال بالتشبيه في بعض المواضع أو
نحو ذلك فهل يقال: إن هذا ليس بمؤمن بالله؟ ليس بمؤمن بهذا الركن؟ الجواب
ثم تفصيل يأتي في موضعه إن شاء الله وهو من المهمات لأن من الناس من غلا في
هذا الجانب وكفر بالإخلال بشيء من أفراد توحيد الأسماء والصفات.
الثاني من أركان الإيمان: الإيمان بالملائكة، والملائكة: جمع ملأك, وتخفف إلى ملك, وأصل ملأك: مألك من الأُلوكة وهي الرسالة الخاصة كما قال الشاعر:
ألكني إليها وخير الرسول ... أعلمهم بنواحي الخبر
يعني:
أرسلني إليها برسالة خاصة, تقول العرب: له ألوكةٌ وألكْنى, وألكَنى إذا
أرسل برسالة خاصة, والملائكة: جمع مألك أو ملأك وهم المرسلون برسالة خاصة
من الله جل وعلا، فإذاً مبنى هذا الاسم على الإرسال، والملائكة هم الموكلون
من الله جل وعلا المرسلون في تصريف ملكوته فهم موكلون بتصريف ملكوت الله
جل وعلا كما قال سبحانه: { قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم} والإيمان بالملائكة مرتبتان: إيمان إجمالي, وإيمان تفصيلي.
والإيمان الإجمالي:
هو المعني بهذا الركن، ومعنى الإيمان الإجمالي أن يؤمنَ العبدُ بأن لله جل
وعلا خلقاً وهم الملائكة وأنهم مطهرون عباد مكرمون ليسو بمعبودين ولا
يستحقون ذلك وأن الله جل وعلا خصهم بأنواع من الرسالات لإنفاذ أمره في
خلقه، وهذه الأخيرة قد تدخل في التفصيل، الإيمان التفصيلي، فمن اعتقد هذا
الإيمان الإجمالي وهو أن لله جل وعلا خلقاً هم الملائكة وأنهم مطهرون لا
يعصونه لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون وأنهم عبيداً لله وليسو
بمعبودين فقد حقق هذا الركن، أتى بهذا الركن، وهذه هي المرتبة الإجمالية
يعني من اعتقد هذا من العوام أو غيره إذا سألته هل تؤمن بالملائكة؟ فقال
نعم الملائكة موجودون، يُعبدون أو يَعبدون الله قال يَعبدون الله حقق هذا
الركن.
المرتبة الثانية: الإيمان التفصيلي: وهي الإيمان
بكل ما أخبر الله جل وعلا به في كتابه أو أخبر به النبي صلى الله عليه
وسلم في السنة من أحوال الملائكة وصفاتهم وخلقهم ومميزاتهم وما وكِّلوا به
وأنواع مهماتهم ونحو ذلك.هذا الإيمان تفصيلي يلزم العبد الإيمان به إذا علم
النصَّ في ذلك فإذا علم النص، وجب عليه الإيمان بما جاء في النص من هذا
لأنه أمر غيبي ومن لم يصل إليه النص فإنه لا يكون ناقضاً لإيمانه بالملائكة
إذا كان قد أتى بالإيمان الإجمالي، لأن الإيمان التفصيلي يختلف فيه الناس
وهو تبع العلم، فمثلاً لو سألت عامياً وقلت له: تعرف إسرافيل؟ هل تؤمن
بإسرافيل؟ فقال: ما أؤمن بإسرافيل من إسرافيل هذا؟ ما أؤمن. قال: ملك من
الملائكة، قال:ما في ملك اسمه إسرافيل، فهذا لا يعد كافراً منكراً لوجود
هذا الملك إلا إذا عُرِّف بالنصوص وعُلِمَ بها إعلاماً يكون الجاحدُ له
كافرا فيكون بعد ذلك ليس بمؤمن بهذا الملك وهذا مرجعه إلى تكذيب النصوص لا
عدم الإيمان بالملائكة لأنه قد يكون مؤمنا بجنس الملائكة لكن ليس مؤمناً
بهذا على هذا الوجه فيكون مكذباً للنص فيعرَّف ويعلَّم، فإن أنكر كفر.
الملائكة أنواع:
منهم الموكلون بالمطر،
منهم الموكلون بالموت، فالموكل
بقبض الأرواح ملك من الملائكة، اسمه عند أهل الكتاب عزرائيل، وفي بعض
الآثار أو بعض المقاطيع سمي (عبد الرحمن) هذا هو الموكل بقبض أرواح
العالمين كما قال جل وعلا: {قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم}، وتحته أيضا ملائكة هو رئيسهم وهو كبيرهم، تحته ملائكة يتوفون الناس يأمرهم فيقبضون الأرواح كما قال جل وعلا: {توفته رسلنا وهم لا يفرطون}.
كذلك منهم الموكل بتبليغ الوحي من الله جل وعلا للرسل أو بتبليغ الوحي من الله جل وعلا للملائكة وهو جبريل عليه السلام،
ومنهم الموكل بالقطر والحياة على الأرض وهو ميكائيل
ومنهم الموكل بالنفخ في الروح وإعادة الحياة، وهو إسرافيل،
وهؤلاء الثلاثة -وهم جبريل وميكال وإسرافيل- هم أشرف الملائكة وهم سادة الملائكة،
هذا كله من الإيمان بالتفصيل، الإيمان التفصيلي، وهذا قد
ألفت فيه مؤلفات ترجعون إليها في أوصاف الملائكة في خلقتهم وفي منازلهم وفي
أحوالهم وفي أعمالهم وفي عباداتهم وما وكلوا به من الأعمال، ومن أحسن ما
كتب في هذا كتاب (عالم الملائكة الأبرار) للدكتور الأشقر فإنه جمع فيه جمعا
حسناً طيباً وتحرى الصواب في كثير من مباحثه.
الركن الثالث: الإيمان بالكتب, والإيمان بالكتب أيضاً له مرتبتان: إيمان إجمالي وإيمان تفصيلي، وكذلك الإيمان بالرسل له مرتبتان: مرتبة
إيمان إجمالي وإيمان تفصيلي على نحو ما ذكرنا في الملائكة. وحبذا لو
ترجعون إلى تفصيل ذلك حتى ما نطيل في تفصيله والبحث فيها معروف مشهور، ومن
أحسن من ذكر تفصيل ذلك الشيخ حافظ الحكمي في كتابه (معارج القَبُول) فلو
رجعتم إليه لمعرفة المعنى الإجمالي للكتب والمعنى التفصيلي، المعنى
الإجمالي للرسل والمعنى التفصيلي، وما يحصل به الكفر من ذلك وما لا يكون
عدم المعتقِد له كافراً يرجع فيه إلى ذلك لأجل اختصار الوقت.
هنا مناسبة وهو أن الإيمان بالله هو الأصل، هو المقصود والملائكة هم
الواسطة بين الله جل وعلا وبين خلقه، فهم الذين ينـزلون بالوحي إلى الرسل،
وينـزلون بالكتب وبالشرائع، ولهذا رتبت هنا أحسن ترتيب فقدِّم الإيمان
بالله لأن منه جل وعلا المبتدأ وإليه المعاد والإيمان به هو المقصود وكل
أمور الإيمان هي كالتفريع للإيمان بالله، والملائكة لأنهم يأخذون الوحي من
الله جل وعلا ويسمعونه فينقلونه إلى الرسل وينـزلون بالكتب فثلث بالكتب ثم
الرسل فالترتيب بين هذه الأربعة إيمان بالله، ملائكته؛ لأنهم هم الواسطة،
الكتب؛ لأن الملائكة تنـزل بها الرسل لأنهم هم ختام هذه السلسلة ثم الرسل
ينقلونها إلى الناس.
ثم لا بد من الإيمان بالبعث بعد الموت، الإيمان باليوم الآخر وهو الإيمان
بالموت وما بعده إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، الإيمان
بالبعث بعد الموت، وهذا الإيمان بالبعث بعد الموت يأتي تفصيله إن شاء الله
تعالى في هذه الرسالة فقد أطال عليه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في موضعه،
فيدخل في الإيمان بما بعد البعث جميع ما يحصل في عرصات القيامة حتى دخول
أهل الجنة الجنة وأهل النار النار.
(والإيمان بالقدر خيره وشره)، يعني: الإيمان بأن
الأمور التي تجري في ملكوت الله وإنما هي بقدر سابق بعلم سابق ليست عن غير
علم من الله وعن غير تقدير من الله بل كل شيء بقدر كما قال جل وعلا: {إنا كل شيء خلقناه بقدر}، ويأتي تفصيل هذه الجملة في موضعها في هذه الرسالة.
هذه أركان الإيمان الستة عند أهل السنة، وأما عند غير أهل السنة ونعني بغير
أهل السنة المعتزلة والرافضة والخوارج ومن شابههم من لم يدخل في الالتزام
بالسنة بوجه عام فهؤلاء عندهم أصول الإيمان غير هذه الستة، فهذه الستة هي
أصول الإيمان عندنا وهي التي تنبني عليها العقيدة عندنا وكل ما في الاعتقاد
تفصيل لها، أما عند أهل الاعتزال فأصول الإيمان عندهم خمسة مشهورة بالأصول الخمسة عند المعتزلة وهي:
التوحيد والعدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمنـزلة بين
المنـزلتين، ذكرنا الخمسة التوحيد والعدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
والمنزلة بين المنزلتين، وإنفاذ الوعيد.
وأما الرافضة فعندهم الأصول أربعة أصول الإيمان أربعة، أركان الإيمان التي تنبني عليها عقيدتهم أربعة وهي: الإمامة والنبوة والعدل والتوحيد، ويرتبونها هكذا: التوحيد، العدل، النبوة، الإمامة.
فإذا أردت أن تعرف معتقد أهل السنة والجماعة فمعتقدهم تفصيل لهذه الستة،
ومعتقد المعتزلة تفصيل لتلك الخمسة، ومعتقد الرافضة تفصيل لتلك الأربعة.
بعض السلف زاد على هذه الأركان، قال: والإيمان بالجنة والنار، والإيمان
بالجنة والنار هو من الإيمان باليوم الآخر.
هذه خلاصة لمعنى هذه الجمل التي ذكرها شيخ الإسلام رحمه الله تعالى أسأل
الله أن ينفعني وإياكم بما سمعنا وأن يزيدنا علما وهدى واهتداء وأن يوفقنا
للعلم النافع والعمل الصالح وصلى الله وسلم على نبينا محمد.