الدروس
course cover
الله عز وجل قد جمع بين النفي والإثبات فيما وصف به نفسه
11 Nov 2008
11 Nov 2008

4692

0

0

course cover
العقيدة الواسطية

القسم الثاني

الله عز وجل قد جمع بين النفي والإثبات فيما وصف به نفسه
11 Nov 2008
11 Nov 2008

11 Nov 2008

4692

0

0


0

0

0

0

0

الله عز وجل قد جمع بين النفي والإثبات فيما وصف به نفسه

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وَهُوَ - سُبْحَانَهُ - قَدْ جَمَعَ فِيمَا وَصَفَ وَسَمَّى بِهِ نَفْسَهُ بَيْنَ النَّفِي وَالإِثْبَاتِ ؛ فَلاَ عُدُولَ لأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَمَّا جَاءَت بِهِ المُرْسَلونَ . فَإِنَّهُ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ ، صِرَاطُ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِن النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينِ وَالشُّهداءِ وَالصَّالِحِينَ).

هيئة الإشراف

#2

9 Jan 2008

الروضة الندية للشيخ: زيد بن عبد العزيز بن فياض رحمه الله


قال الشيخ زيد بن عبد العزيز بن فياض (ت: 1416هـ): (وهُو سُبْحَانَهُ قَدْ جَمَعَ فِيما وَصَفَ وسَمَّى بِه نَفْسَهُ بينَ النَّفْيِ والإِثْباتِ .
فَلا عُدُولَ لأهْلِ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ ممَّا جَاءَ بِهِ المُرْسَلُونَ؛ فإِنَّهُ الصِّرَاطُ المُسْتَقِيمُ، صِرَاطُ الَّذينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ والصِّدِّيقينَ والشُّهَداءِ والصَّالِحين َ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً .
فالنفيُ - كما في السِّنَةِ والنَّوْمِ والتَّعَبِ واللُّغوبِ ، وكذلك السَّمِيُّ والنِّدُّ والْكُفْوَةُ ، والإثباتُ كما في قولِهِ :{وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ}. وهو العزيزُ الحكيمُ . . التَّوابُ الرَّحيمُ . . العزيزُ الجبَّارُ المُتَكَبِّرُ ، إلى غيرِ ذلك مِن أسمائِه سُبْحَانَهُ وصفاتِه . والقرآنُ جَاءَ بنَفْيٍ مُجمَلٍ وإثباتٍ مُفَصَّلٍ .
قَالَ الشَّيْخُ : فالكَلامُ في بابِ التَّوْحِيدِ والصِّفَاتِ هو مِن بابِ الخبرِ الدَّائرِ بينَ النَّفيِ والإثباتِ .
واللَّهُ سُبْحَانَهُ بَعَثَ رسُلَه بنفْيٍ مُجْمَلٍ وإثباتٍ مُفَصَّلٍ ، فأثْبَتوا لِلَّهِ الصِّفَاتِ على وجهِ التَّفصيلِ ، ونَفَوْا عنه ما لا يَصلُحُ له مِن التَّشبيهِ والتَّمثيلِ .
وأمَّا الإثباتُ المُفصَّلُ فإنَّه ذَكَرَ مِن أسمائِه وصفاتِه ما أنْزَلَه في مُحْكَمِ آياتِه ، فإنَّ في ذلك مِن إثباتِ ذاتِه وصفاتِه على وجهِ التَّفصيلِ ، وإثباتِ وحدانيَّةٍ بنفيِ التَّمثيلِ ما هدى اللَّهُ به عِبادَهُ إلى سواءِ السَّبِيلِ . فهذه طريقةُ الرُّسُلِ .
وأمَّا مَنْ زَاغَ وحَادَ عن سبيلِهم مِن الكُفَّارِ المشركينَ والَّذِين أُوتوا الكتابَ ممَّن دخَلَ في هَؤُلاَءِ مِن الصَّابئةِ والمتفلسِفةِ والجَهْمِيَّةِ والقرامِطةِ البَاطِنِيَّةِ ونحوِهم فإنَّهم على ضِدِّ ذلك يصفونَه بالصِّفَاتِ السَّلْبيَّةِ على وجهِ التَّفصيلِ ، ولا يُثْبِتونَ إلاَّ وُجوداً مُطْلقاً لا حقيقةَ له عندَ التَّحصيلِ . وإنما يَرْجِعُ إلى وُجودٍ في الأذهانِ يمْتَنِعُ تحَقُّقُه في الأعيانِ ، فقولُهم يستلْزِمُ غايةَ التَّعطيلِ ، وغايةَ التَّمثيلِ ، فَإنَّهمْ يُمَثِّلونه بالمُمْتَنِعاتِ والمَعدوماتِ والجمَاداتِ ، ويُعَطِّلونَ الأسماءَ والصِّفَاتِ تعطيلاً يَستلزِمُ نفْيَ الذَّاتِ ، فَغُلاتُهم يَسلُبونَ عنه النقيضَيْنِ ، فيقولون : لا مَوجودٌ ولا معدومٌ ، ولا حيٌ ولا ميِّتٌ ، ولا عالِمٌ ولا جاهِلٌ ، لأنَّهم يزعُمون أنَّهم إذا وصَفُوه بالإثباتِ شبَّهوهُ بالموجوداتِ ، وإذا وَصَفُوه بالنفيِ شبَّهُوه بالمعدوماتِ فوصَفُوه بالنقيضَيْنِ ، وهذا مُمْتَنِعٌ في بداهةِ العقولِ ، وحَرَّفوا ما أَنْزلَ اللَّهُ مِن الكتابِ ، وما جَاءَ به الرَّسُولُ فوَقَعُوا في شَرٍّ ممَّا فَرُّوا منه ، فإنهم شبَّهُوه بالممتنعاتِ ؛ إذْ سلْبُ النقيضَيْنِ كجَمْعِهما كِلاهما مِن الممتنعاتِ ، وقد عُلِمَ أنَّه لابدَّ مِن مَوجودٍ قديمٍ واجبٍ بذاتِه غنِيٍّ عمَّا سِواه قديمٍ أزليٍّ لا يجوزُ عليه الحدوثُ ولا العدمُ ، فوَصَفوه بما يمتَنِعُ وُجودُه فضْلاً عَن الوجوبِ أو الوجودِ أو القِدَمِ .
وقارَبَهم طائفةٌ مِن الفلاسفةِ وأتباعِهم ، فوصَفُوه بالسُّلُوبِ والإضافاتِ دونَ صِفَاتِ الإثباتِ ، وجَعَلوه هو الوجودَ المُطْلَقَ بشرطِ الإطلاقِ ، وقد عُلِمَ بصريحِ العقلِ أنَّ هذا لا يكونُ إلاَّ في الذِّهْنِ لا فيما خَرَجَ عنه مِن المَوجوداتِ وجعَلَوا الصِّفَاتِ هي الموصوفَ فجعلوا العِلْمَ عَينَ العالِمِ مُكابَرةً لِلقضَايا البديهيَّاتِ ، وجعلوا هذه الصِّفَةَ هي الأخرى فلم يُمَيِّزُوا بين العِلمِ والقُدرةِ والمشيئةِ جَحْداً للعلومِ الضروريَّاتِ .
وقارَبَهم طائفةٌ ثالثةٌ من أهلِ الكلامِ مِن المعتزِلَةِ ومَنِ اتَّبَعَهُم ، فأَثْبَتوا لِلَّهِ الأسماءَ دُونَ ما تضمَّنَتْه مِن الصِّفَاتَ ، فمنهم مَن جعَلَ العليمَ والقديرَ والسَّميعَ والبصيرَ كالأعلامِ المَحْضةِ المترادفاتِ ، ومنهم مَن قَالَ : عليمٌ بلا عِلمٍ ، قديرٌ بلا قُدرةٍ ، سميعٌ بلا سمْعٍ ، بصيرٌ بلا بصَرٍ ، فأثْبَتوا لِلَّهِ الاسْمَ دُونَ ما تضمَّنَه مِن الصِّفَاتِ ، والكلامُ على فَسادِ مقالةِ هَؤُلاَءِ وتناقُضِها بصريحِ المعقولِ المطابِقِ لصحيحِ المنقولِ مَذكورٌ في غيرِ هَؤُلاَءِ الكلماتِ ، وهَؤُلاَءِ يَفِرُّون مِن شيءٍ فيَقَعُونَ في نَظيرِه بلْ في شَرٍّ منه مَعَ ما يَلْزَمُهم مِن التَّحريفِ والتَّعطيلِ .
وذلك أنَّه قد عُلمَ بالضَّرورةِ أنَّه لابدَّ مِن مَوجودٍ قديمٍ غنيٍّ عمَّا سِواه ؛ إذْ نحنُ نُشاهِدُ حدوثَ المُحْدَثاتِ ، كالحيوانِ والمَعْدِنِ والنباتِ ، والحادثُ مُمْكنٌ لَيْسَ بواجِبٍ ولا ممتنِعٍ ، وقد عُلمَ بالأضرارِ أنَّ المُحْدَثَ لابدَّ له من مُحْدِثٍ ، والمُمْكنَ لابدَّ له مِن مُوجِدٍ ، كما قَالَ تَعَالَى :{أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ}. فإذا لم يَكونوا خُلِقوا من غيرِ خالقٍ، ولا هُمُ الخالِقونَ لأنْفُسِهم تَعَيَّنَ أنَّ لهم خالِقاً خلَقَهم .
وإذا كان مِن المَعْلومِ بالضَّرورةِ أنَّ في الوُجودِ ما هو قديمٌ واجِبٌ بنَفْسِه ، وما هو مُحْدَثٌ مُمْكنٌ يَقبَلُ الوجودَ والعدَمَ ، فمعلومٌ أنَّ هذا موجودٌ وهذا موجودٌ ، ولا يَلزَمُ مِن اتِّفاقِهِما في مُسَمَّى الوجودِ أن يكونَ وُجودُ هذا مثلَ وجودِ هذا ، بلْ وجودُ هذا يَخُصُّه ووجودُ هذا يَخُصُّه ، واتفاقُهُما في اسْمٍ عامٍّ لا يقتضِي تَماثُلَهما في مسمَّى ذلك الاسْمِ عندَ الإضافةِ والتَّخصيصِ والتَّقييدِ ، ولا في شيءٍ غيرِهِ ، فلا يقولُ عاقِلٌ إذا قِيلَ إنَّ العرشَ شيءٌ موجودٌ والبَعُوضَ شيءٌ موجودٌ :
إنَّ هذا مِثْلُ هذا لاتفاقِهِما في مسمَّى الشَّيْءِ والوجودِ؛ لأنَّه لَيْسَ في الخارجِ شيءٌ موجودٌ غيرُهما يَشتركانِ فيه ، بلِ الذِّهْنُ يأخُذُ معنًى مشتَركاً كُلِّياً هو مسمَّى الاسمِ المُطلْقِ، وإذا قِيلَ هذا موجودٌ وهذا موجودٌ فوجودُ كُلٍّ منهما يخُصُّه ولا يَشْرَكُه فيه غيرُه مَعَ أنَّ الاسْمَ حقيقةٌ في كُلٍّ منهما . اهـ .
((فَلا عُدُولَ لأهْلِ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ عَمَّا جَاءَ بِهِ المُرْسَلُونَ)) .
ومِنْ ذلك إثباتُ صِفَاتِ الكمالِ لِلَّهِ وتنزيهُهُ عمَّا لا يَليقُ به سُبْحَانَهُ ، فإنَّ الرُّسُلَ عليهم السَّلامُ قد أثْبَتوا لِلَّهِ صِفَاتِ الكمالِ ، وقرَّرُوا ذلك الأصلَ العظيمَ وأبدَوْا فيه وأعادُوا ولم يقولوا لأُِمَمِهم أنَّ هذه الصِّفَاتَ على خلافِ ظاهرِها ، وأنَّها واجبةُ التَّأويلِ كما يقولُه ذَوو الزيْغِ ، وآخِرُ الرُّسُلِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، الَّذِي أَكْملَ اللهُ به الدِّينَ ، ولم يَأْلُ جُهْداً في النُّصْحِ والتَّبليغِ، حَتَّى قَالَ : " تَرَكْتُكم على المَحَجَّةِ البيضاءِ ليلُها كنَهارِها، ولا يَزيغُ عنها بعدي إلا هالِكٌ ". وكان يُعَلِّمُ أصحابَه آدابَ الغائطِ والوطءِ ، وآدابَ الطَّعامِ والشَّرابِ ، وقَالَ : " مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ ، وَيَنْهَاهُمْ عَنْ شَرِّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ " . وقَالَ أبو ذَرٍّ : تُوفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما طائِرٌ يُقَلِّبُ جَناحَيْهِ إلاَّ ذَكَرَ لنا منه عِلماً .
فمِن المُحالِ مَعَ هذا أن يدَعَ ما خُلِقَ له الخَلْقُ ، وأُرْسِلَتْ له الرُّسُلُ وأُنْزِلَتْ به الكتُبُ ، وأُسِّسَتْ عليه المِلَّةُ ، وهو بابُ الإيمانِ باللَّهِ ، ومعرفَتِه ، ومعرفةِ أسمائِه وصفاتِه وأفعالِه ، مُتَلَبِّساً حقُّه بباطلِه ، مَعَ شِدَّةِ حاجةِ النُّفوسِ إلى معرفتِه ، وهو أفضلُ ما اكتسبَتْهُ النُّفوسُ ، وأجَلُّ ما حصَّلَتْهُ القُلوبُ ، فَكَيْفَ يَتَوَهَّمُ مَنْ لِلَّهِ ورسُولِهِ في قَلْبِه وَقارٌ أنْ يعتَقِدَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أمْسَكَ عن بيانِ هذا الأمرِ العظيمِ ؟ ولم يتكلَّمْ فيه بالصَّوابِ ؟ - مَعاذَ اللَّهِ - بلْ لا يَتِمُّ الإيمانُ إلا بأنْ يُعْتَقَدَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد بَيَّنَ ذلك أتَمَّ البيانِ وأوْضَحَهُ غايةَ الإيضاحِ ، ولم يدَعْ لقائِلٍ مَقالاً ولا لمُتأوِّلٍ تأويلاً .
ثم مِن المُحالِ أن يكونَ خيْرُ الأُمَّةِ وأفضَلُها وأسبَقُها إلى كُلِّ خيْرٍ قَصَّرُوا في هذا البابِ ، فجَفَوْا عنه وتَجاوَزوا فضَلُّوا فيه ، وإنما ابْتُلِيَ مَن خرَجَ عن مَنَاهِجِهم بهذَيْنِ الدَّائَيْنِ ، والحالُ في هَؤُلاَءِ المُبتدِعةِ الَّذِين فضَّلُوا طريقةَ الخلَفِ على طريقةِ السَّلَفِ ، حَيْثُ ظنُّوا أنَّ طريقةَ السَّلَفِ هي مُجرَّدُ الإيمانِ بألفاظِ القرآنِ والحديثِ ، مِن غيرِ فقهٍ لذلك بمَنزِلةِ الأُمِّيِّينَ الَّذِين قَالَ اللَّهُ فيهم :{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ}. وأنَّ طريقةَ الخلَفِ وهي استخراجُ معاني النُّصُوصِ المصروفةِ عن حقائقِها بأنواعِ المجازاتِ وغرائبِ اللغاتِ ، فهذا الظَّنُّ الفاسِدُ أوجبَ تلك المَقالاتِ- الَّتي مضمونُها نبذُ الإسلامِ وراءَ الظَّهْرِ.
فجمعوا بين الجهْلِ بطريقةِ السَّلَفِ في الكَذِبِ عليهم ، وبينَ الجهْلِ والضَّلالِ بتصويبِ طريقةِ الخلَفِ ، وسببُ ذلك اعتقادُهم أنَّه لَيْسَ في نفْسِ الأمرِ صفةٌ دلَّتْ عليها هذه النُّصُوصُ ، فلما اعتقَدُوا التَّعطيلَ وانتفاءَ الصِّفَاتِ في نفْسِ الأمرِ ، وكان لابدَّ مَعَ ذلك للنُّصوصِ مِن معنًى ، بَقَوْا مُتَردِّدينَ بين الإيمانِ باللَّفْظِ وتفويضِ المعنى - وهي الَّتِي يُسمُّونها طريقةَ السَّلَفِ - وبين صرْفِ اللَّفْظِ إلى معانٍ بنوعِ تكلُّفٍ ، وهي الَّتِي يسمُّونَها طريقةَ الخلَفِ ، فصارَ هذا الباطلُ مُرَكَّباً مِن فسادِ العقلِ ، والكُفْرِ بالسَّمْعِ ، فإنَّ النَّفْيَ إنما اعتمَدوا فيه على أمورٍ عقليَّةٍ ، ظنُّوها بيِّناتٍ وهي شُبُهاتٌ ، والسَّمْعَ حرَّفُوا فيه الكلامَ عَن مواضِعِه ، فلما انْبَنَى أمْرُهم على هاتَيْن المقدِّمَتَيْنِ الكاذبتَيْنِ كانتِ النتيجةُ استجهالَ السَّابقينَ الأوَّلينَ ، الَّذِينَ همْ أعْلمُ الأُمَّةِ باللَّهِ وصفاتِه، واعتقادَ أنَّهم كانوا أُمِّيِّينَ بمَنْزلةِ الصَّالحينَ مِن العامَّة، لم يَتَبَحَّروا في حقائقِ العِلمِ باللَّهِ، ولم يتَفَطَّنوا لدَقائقِ العِلمِ الإلهيِّ ، وأنَّ الخلَفَ الفضلاءَ حازوا قَصَبَ السَّبْقِ في هذا كلِّه ، وهذا القولُ إذا تَدبَّره الإنسانُ وجدَه في غايةِ الجهالةِ ، بلْ في غايةِ الضَّلالةِ ، كَيْفَ يكونُ هَؤُلاَءِ المتأخِّرونَ - لا سيما والإشارةُ إلى ضرْبٍ مِن المتكلِّمينَ كَثُرَ في بابِ الدِّينِ اضطرَابُهم ، وغَلُظَ عن معرفةِ اللَّهِ حِجابُهمْ ، وأُخْبِرَ الواقِفُ على نهايةِ أمرِهم بما انتهى إليه أمرُهم مِن الشكِّ والحَيْرَةِ .
كَيْفَ يكونُ هَؤُلاَءِ الحيارَى أَعلمَ باللَّهِ وأسمائِه وصفاتِه ، وأَحكمَ في بابِ ذاتِه وآياتِه مِن السَّابقينَ الأوَّلينَ مِن المهاجرينَ والأنصارِ والَّذِين اتَّبَعوهم بإحسانٍ ، مِن ورَثةِ الأنبياءِ وخُلفاءِ الرُّسُلِ ، الَّذِين وَهَبَهم اللَّهُ مِن الحكمةِ ما بَرَّزوا به على سائرِ أتباعِ الأنبياءِ فضْلاً عَن سائرِ الأُمَمِ الَّذِين لا كتابَ لهم ، وأحاطوا مِن حقائقِ المعارفِ وبواطنِ الحقائقِ بما لو جُمِعَتْ حكمةُ غيرِهم إليها لاسْتَحى مَن يطلُبُ المقابلةَ . وأصلُ العُدولِ في اللُّغَةِ المَيْلُ والانحرافُ .
والصِّراطُ المستقيمُ هو المذكورُ في دعاءِ المؤمنينَ في سُورةِ الفاتِحةِ ، وهو الصِّرَاطُ المذكورُ في قولِه تَعَالَى :{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} .
قَالَ ابنُ مسعودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : خَطَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطًّا بيَدِه ثم قَالَ : هذا سبيلُ اللَّهِ مستقيماً ، وخَطَّ عن يَمِينِه وعن شِمَالِه ثم قَالَ : " هَذِهِ السُّبُلُ ، لَيْسَ مِنْهَا سَبِيلٌ إِلاَّ عَلَيْهِ شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ " ثم قَرَأَ :{وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} .
ولا تكونُ الطَّرِيقُ صراطاً حَتَّى تتضمَّنَ خمسةَ أمورٍ : الاستقامةُ ، والإيصالُ إلى المقصودِ ، والقُرْبُ ، وسَعَتُه للمارِّينَ عليه ، وتَعَيُّنُه طريقاً للمقصودِ ، ولا يخْفَى تضمُّنُ الصِّرَاطِ المستقيمِ لهذه الأمورِ الخمسةِ .
فوصْفُه بالاستقامةِ يتضمَّنُ قُرْبَه ؛ لأنَّ الخطَّ المستقيمَ هو أقربُ خطٍّ فاصِلٍ بين نقطتَيْنِ ، وكلَّما تَعَوَّجَ طالَ وبَعُدَ ، واستِقامَتُه تتضمَّنُ إيصالَه إلى المقصودِ ، ونَصْبُهُ لِجَميعِ المارِّينَ عليه يَستلْزِمُ سَعَتَه ، وإضافَتَه إلى المُنْعَمِ عليهم ، ووصْفُه بمخالَفةِ صراطِ أهلِ الغضبِ والضَّلالِ يَستلْزِمُ تَعَيُّنَه طريقاً .
والصِّرَاطُ يُضافُ إلى اللَّهِ ، إِذْ هو الَّذِي شرَعَه ونصَبَه كقوله :{وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً} وقوله :{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ} وتارةً يُضافُ إلى العِبادِ كما في الفاتِحةِ ، لِكَوْنِهم أهلَ سُلوكِه ، وهو المَنْسُوبُ لهم وهم المارُّونَ عليه .
وفي تخصيصِه لأهلِ الصِّرَاطِ المستقيمِ بالنِّعمةِ ما دَلَّ على أنَّ النِّعْمَةَ المُطْلَقةَ هي المُوجِبةُ للفَلاحِ الدَّائمِ ، وأمَّا مُطْلَقُ النِّعْمَةِ فعَلَى المُؤْمِنِ والكافرِ ، فكُلُّ الخَلْقِ في نعمةٍ .
وهذا فصْلُ النزاعِ في مسألةِ : هلْ لِلَّهِ على الكافرينَ مِن نعمةٍ أمْ لا ؟ فالنِّعْمَةُ المُطْلَقةُ لأهلِ الإيمانِ ، ومُطْلَقُ النِّعْمَةِ يكونُ للمُؤْمِنِ والكافرِ، كما قَالَ تَعَالَى :{وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}، والنِّعْمَةُ مِن جِنْسِ الإحسانِ؛ بلْ هي الإحسانُ ، والرَّبُّ تَعَالَى إِحْسانُهُ على البَرِّ والفاجرِ ، والمُؤْمِنِ والكافرِ ، وأمَّا الإحسانُ المُطْلَقُ فللذين اتَّقَوْا ، والَّذِين هم مُحْسِنونَ .
وذُكِرَ الصِّرَاطُ المستقيمُ مُفْرَداً مُعَرَّفاً تعريفَيْنِ : تعريفاً باللامِ ، وتعريفاً بالإضافةِ ، وذلك يُفِيدُ تعَيُّنَهُ واختصاصَهُ وأنَّه صراطٌ واحدٌ ؛ وأمَّا طُرُقُ أهلِ الغضَبِ والضَّلالِ فإنه سُبْحَانَهُ يَجمعُها ، ويُفْرِدُها ، كقوله :{وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وهذا ؛ لِأنَّ الطَّرِيقَ المُوَصِّلَ إلى اللَّهِ واحدٌ ، وهو ما بَعَثَ به رسُلَه ، وأنْزَلَ به كتُبَه ، لا يصِلُ إليه أحدٌ إلا مِن هذا الطَّرِيقِ ، ولو أتَى النَّاسُ مِن كُلِّ طريقٍ ، واستَفْتَحوا مِن كُلِّ بابٍ فالطُّرُقُ عليهم مسدودةٌ والأبوابُ عليهم مُغْلَقةٌ ، إلاَّ مِن هذا الطَّرِيقِ الواحدِ ، فإنه مُتَّصِلٌ باللَّهِ مُوصِلٌ إلى اللَّهِ ، ولمَّا كانَ طالِبُ الصِّرَاطِ المستقيمِ طالبَ أمْرٍ أكْثَرُ النَّاسِ ناكِبونَ عنه ، مُريدٌ السَّلوكَ ، طَريقٌ مُرافِقُه فيها في غايةِ القلَّةِ والعِزَّةِ ، والنُّفُوسُ مَجْبولةٌ على وَحشْةِ التَّفرُّدِ، وعلى الأُنْسِ بالرَّفيقِ نَبَّهَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ على الرَّفيقِ في هذه الطَّرِيقِ وأنَّهم هم {الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً} فأَضافَ الصِّرَاطَ إلى الرفيقِ السَّالِكينَ له ، وهم الَّذِين أنعمَ اللَّهُ عليهم لِيَزُولَ عن الطَّالبِ للهدايةِ وسُلوكِ الصِّرَاطِ وَحْشةُ تفرُّدِه عن أهلِ زمانِه وبَنِي جِنْسِه ، وليَعلمَ أنَّ رَفِيقَه في هذا الصِّرَاطِ هم الَّذِينَ أَنْعمَ اللَّهُ عليهم فَلا يَكْتَرِثُ بمخالَفةِ النَّاكِبينَ عنه ، فإنَّهم هم الأَقَلُّونَ قدْراً وإنْ كانوا الأكثرينَ عدداً .
فالصِّرَاطُ المستقيمُ هو طاعةُ اللَّهِ ورسولِه ؛ وهو دِينُ الإسلامِ التَّامُّ ، وهو اتِّباعُ القرآنِ ؛ وهو لُزومُ السُّنَّةِ والجَماعةِ ، وهو طريقُ العبوديةِ وهو طريقُ الخوْفِ والرجاءِ).

هيئة الإشراف

#3

1 Dec 2008

التنبيهات اللطيفة فيما احتوت عليه الواسطية من المباحث المنيفة لابن سعدي رحمه الله

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وهو سبحانه قد جَمَعَ فيما وصف وسمّى به نفسَه بين النَّفْيِ والإثبات، فلا عُدولَ لأهلِ السُّنةِ والجماعةِ عما جاءَ به المُرْسَلونَ. فإنَّه الصراطُ المستقيمُ، صراطُ الذين أنعمَ اللهُ عليهم مِنَ النبيين والصِّدِّيقين والشُّهداءِ والصالحين).

الشرح:

قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): ( (وهو سبحانه قد جَمَعَ فيما وصف وسمّى به نفسَه بين النَّفْيِ والإثبات، فلا عُدولَ لأهلِ السُّنةِ والجماعةِ عما جاءَ به المُرْسَلونَ، فإنَّه الصراطُ المستقيمُ، صراطُ الذين أنعمَ اللهُ عليهم مِنَ النبيين والصِّدِّيقين والشُّهداءِ والصالحين) هذا الذي ذكر المصنِّف ضابطٌ نافعٌ في كيفية الإيمان بالله وبأسمائه الحُسنى وصفاته العليا وأنه مبنيٌّ على أصلين أحدهما النفيُ وثانيهما الإثبات: أما النفيُ فإنه ينفي عن الله ما يضاد الكمال من أنواع العيوب والنقائص، وينفي عنه أيضاً أن يكون له شريك أو نديد أو شبيه في شيء من صفاته أو في حقّ من حقوقه الخاصة، فكلّ ما ينافي صفات الكمال فإنّ الله منزّه عنه مقدَّس، والنفي مقصود لغيره، والقصد منه إثبات مَّا، لم يرد نفي شيء منه في الكتاب والسُّنة عن الله إلا بقصد إثبات ضدّه فنفي الشريك والنديد عن الله لكمال عظمته وتفرُّده بالكمال، ونفي السِّنَةِ والنَّوم والموت لكمال حياته، ونفي عزوب شيء عن علمه وقُدرته، ولهذا كان التنزيه والنَّفي لأمور مجملة عامة.
وأما الإثبات فإنه يجمع الأمرين: إثبات المجملات: كالحمد المطلق والكمال المطلق والمجد المطلق ونحوها، وإثبات المفصّلات: كتفصيل علم الله وقُدرته وحكمته ورحمته، ونحو ذلك من صفاته.
فأهل السُّنة والجماعة لزموا هذا الطريق الذي هو الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم وبلزومهم لهذا الطريق النافع تمت لهم النِّعمة، وصحّت عقائدهم، وكملت أخلاقهم، أما من سلك غير هذا السبيل فإنه منحرف في عقيدته وأخلاقه وآدابه).


تعليقات ابن باز على شرح السعدي على الواسطية

قال الشيخ عبد العزيز بن عبد الله ابن باز (ت: 1420هـ): (وهو سبحانه قد جَمَعَ فيما وصف وسمّى به نفسَه بين النَّفْيِ والإثبات(1)، فلا عُدولَ لأهلِ السُّنةِ والجماعةِ عما جاءَ به المُرْسَلونَ. فإنَّه الصراطُ المستقيمُ، صراطُ الذين أنعمَ اللهُ عليهم مِنَ النبيين والصِّدِّيقين والشُّهداءِ والصالحين.
(1) " طريقة الكتاب والسنة في أسماء الله وصفاته: الإثبات المفصل، والنفي المجمل فقد جمع فيما وصف وسمى به نفسه بين النفي المجمل. مثل قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، {لَمْ يَكُنْ لَهُ كَفُوًا أَحَدٌ}. {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا}.
وكذلك قوله في حديث أبي موسى: " إنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائباً" في حكم النفي المجمل؛ لأن الصمم والغيبة تتضمنان نفي نقائص كثيرة تلزم من صفتي الصمم والغيبة، لأن الأصم هو الذي لا يسمع ولا يصلح أن يكون إلهاً لهذا النقص العظيم الذي يلزم منه عدم سماع دعاء الداعين، وأصوات المحتاجين، وغير ذلك من النقائص، كما أن الغَيْبَة يلزم منها عدم اطِّلاعه على أحوال عباده، وعدم علمه بما ينبغي أن يعاملهم به ونحو ذلك " ا هـ.

هيئة الإشراف

#4

1 Dec 2008

شرح العقيدة الواسطية للشيخ مُحمَّد خَليل هَرَّاس رحمه الله

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وهُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ جَمَعَ فِيما وَصَفَ وسَمَّى بِهِ نَفْسَهُ بينَ النَّفْيِ والإِثْباتِ (1).
فَلا عُدُولَ لأهْلِ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ عَمَّا جَاءَ بِهِ المُرْسَلُونَ؛ فإِنَّهُ الصِّرَاطُ المُسْتَقِيمُ، صِرَاطُ الَّذينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ والصِّدِّيقينَ والشُّهَداءِ والصَّالِحينَ (2)
).

الشرح:

قال الشيخ محمد خليل هراس (ت: 1395هـ): ((1) لمَّا بَيَّنَ فيمَا سبقَ أنَّ أهلَ السُّنَّةِ والجماعةِ يصفون اللهَ عزَّ وجلَّ بما وصفَ بهِ نفسَهُ، وبما وصفَهُ بهِ رَسولُهُ، ولمْ يكنْ ذلكَ كلَّهُ إثباتًا ولا كلَّهُ نفيًا؛ نَبَّهَ على ذلكَ بقولِهِ: (وهوَ سبحانَهُ قدْ جمعَ.. إلخ).
واعلمْ أنَّ كُلاً مِن النَّفْيِ والإِثباتِ في الأَسماءِ والصفاتِ مُجملٌ ومفصَّلٌ.
أَمَّا الإِجمالُ في النَّفيِ؛ فهوَ أنَّ يُنْفَى عن اللهِ عزَّ وجلَّ كلُّ ما يضادُّ كمَالَهُ مِن أنَّواعِ العيوبِ والنَّقائصِ؛ مثلُ قولِهِ تعالى:
] لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ }، { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا }، {سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفونَ }.
وأَمَّا التَّفصيلُ في النَّفيِ؛ فهوَ أنْ يُنَزَّهَ اللهُ عن كلِّ واحدٍ مِن هذهِِ العيوبِ والنَّقائصِ بخصوصِهِ، فيُنَزَّهُ عنِ الوالدِ، والولدِ، والشَّريكِ، والصاحبةِ، والنِّدِّ، والضِّدِّ، والجهلِ، والعجزِ، والضَّلالِ، والنِّسيانِ، والسِّنَةِ، والنَّومِ، والعبثِ، والباطلِ … إلخ.
ولكنْ ليسَ في كتابِ اللهِ ولا في السُّنَّةِ نفيٌ محضٌ؛ فإنَّ النَّفيَ الصِّرْفَ لا مدحَ فيهِ، وإنما يُرادُ بكلِّ نفيٍ فيهمَا إثباتُ ما يُضَادُّهُ مِن الكمَالِ: فنفيُ الشَّرِيكِ والنِّدِّ؛ لإِثباتِ كمَالِ عظمتِهِ وتفرُّدِهِ بصفاتِ الكمَالِ، ونفيُ العجزِ؛ لإِثباتِ كمَالِ قدْرتِهِ، ونفيُ الجهلِ؛ لإِثباتِ سعةِ علمِهِ وإحاطتِهِ، ونفيُ الظلمِ؛ لإِثباتِ كمَالِ عدلِهِ، ونفيُ العبثِ؛ لإِثباتِ كمَالِ حكمتِهِ، ونفيُ السِّنَةِ والنَّومِ والموتِ؛ لإِثباتِ كمَالِ حياتِهِ وَقَيُّومِيَّتِهِ … وهكذا.
ولهذا كانَ النَّفيُ في الكتابِ والسُّنَّةِ إنَّمَا يأتي مجملاً في أكثرِ أحوالِهِ؛ بخلافِ الإِثباتِ؛ فإنَّ التَّفصيلَ فيهِ أكثرُ مِن الإِجمالِ؛ لأنَّهُ مقصودٌ لذاتِهِ.
وأَمَّا الإِجمالُ في الإِثباتِ؛ فمثلُ إثباتِ الكمَالِ المطلقِ، والحمدِ المطلقِ، والمجدِ المطلقِ، ونحوِ ذلكَ؛ كمَا يشيرُ إليهِ مثلُ قولِهِ تعالى: {الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمينَ}، {وَللهِ المَثَلُ الأَعْلَى}.
وأَمَّا التَّفصيلُ في الإِثباتِ؛ فهوَ متناوِلٌ لكلِّ اسمٍ أو صفةٍ وردتْ في الكتابِ والسُّنَّةِ، وهوَ مِن الكثيرِ بحيثُ لا يمكنُ لأحدٍ أنْ يحصيَه؛ فإنَّ منهَا ما اختصَّ اللهُ عزَّ وجلَّ بعلمِهِ؛ كمَا قالَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: (( سُبْحَانَكَ لاَ نُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ )).وفي حديثِ دُعاءِ المَكروبِ:(( أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ: سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ في كِتَابِكَ، أَوِ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِن خَلْقِكَ، أَوْ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ في عِلْمِ الغَيْبِ عندَكَ )).

(2) قولُهُ: (فلا عُدولَ.. إلخ). هذا مترتِّبٌ على ما تقدَّمَ مِن بيانِ أنَّ ما جاءَ بهِ الرُّسلُ عليهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ هوَ الحقُّ الذي يجبُ اتِّباعُهُ، ولا يصِحُّ العدولُ عنهُ، وقَدْ عَلَّلَ بأنَّهُ الصراطُ المستقيمُ؛ يعني: الطريقَ السَّويَّ القاصدَ الذي لا عِوجَ فيهِ ولا انحرافَ.
والصِّراطُ المستقيمُ لا يكونُ إلاَّ واحدًا، مَنْ زاغَ عنهُ أو انحرفَ؛ وَقَعَ في طريقٍ مِن طُرُقِ الضَّلالِ والجَوْرِ؛ كمَا قالَ تعالى:
{ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلهِ }.
والصراطُ المستقيمُ هوَ طريقُ الأُمَّةِ الوَسَطِ، الواقعُ بينَ طرَفَيِ الإِفراطِ والتَّفريطِ، ولهذا أمرنَا اللهُ عزَّ وجلَّ وعلَّمنَا أنْ نسألَهُ أنْ يهديَنَا هذا الصراطَ المستقيمَ في كلِّ ركعةٍ مِن الصَّلاَةِ؛ أي: يُلْهمُنَا ويوفقُنَا لسلوكِهِ واتِّباعِهِ، فإنَّهُ صِرَاطُ {الَّذِينَ أنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِّنَ النَّبيِّينَ والصِّدِّيقِينَ والشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}).

هيئة الإشراف

#5

1 Dec 2008

شرح العقيدة الواسطية للشيخ: صالح بن فوزان الفوزان

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وَهُو سُبْحَانَهُ قد جَمَعَ فِيما وَصَفَ وَسَمَّى بِهِ نَفْسَه بَيْنَ النَّفي وَالإثْبَاتِ. فَلاَ عُدُولَ لأَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ عَمَّا جَاءَ بِهِ المُرْسَلُونَ؛ فَإِنَّهُ الصِّراطُ المُسْتَقيمُ.(1)
صِرَاطُ الَّذينَ أَنعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحينَ.(2)
).

الشرح:

قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: ((1)(وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ جَمَعَ إلخ) هذا بيانٌ للمنهجِ الَّذي رسمه اللهُ في كتابهِ لإثباتِ أسمائِه وصفاتِه، وهو المنهجُ الَّذي يجبُ أَن يسيرَ عليه المؤمنون في هذا البابِ المهمِّ. فإنَّه سبحانَه: (قَدْ جَمَعَ فِيمَا وَصَفَ وَسَمَّى بِهِ نَفْسَهَ) أي في جَميعِ أسمائِه وصفاتِه (بَيْنَ النَّفْيِ والإثْباتِ) وهو نفيُ ما يُضَادُّ الكمالَ مِن أنواعِ العُيوبِ والنَّقائصِ، كنَفْيِ النِّدِّ والشَّريكِ والسِّنَةِ والنَّومِ والموتِ واللُّغُوبِ.
وأمَّا الإثباتُ، فهو إثباتُ صفاتِ الكمالِ ونُعُوتِ الجلالِ للهِ، كقولِه تعالى في الآيتيْن (23ـ24) مِن سورةِ الحشرِ (هُوَ اللهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ) وغيرِ ذلك مما سيذكرُ له المؤلفُ نماذجَ فيما يأتي.
وقولُه: (فَلاَ عُدُولَ لأَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ عَمَّا جَاءَ بِهِ الْمُرْسَلُونَ) أي لا ميْلَ لهم ولا انحرَافَ عَن ذلك. بَل هم مُقْتَفُونَ آثارَهُمْ مُسْتضِيئُون بأنوارِهِم. ومِن ذلك إثباتُ صفاتِ الكمالِ للهِ وتنزيهُه عمَّا لا يليقُ به؛ فإنَّ الرُّسلَ قد قرَّروا ذلك الأصلَ العظيمَ، وأمَّا أعداءُ الرُّسُلِ فإنَّهم قد عَدَلُوا عَن ذلك.
وقولُه: (فإنَّه الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ) تعليلٌ لقولِه: (فَلا عُدُولَ لأَهْلِ السُّنَّةِ) أي: لأنَّ ما جاء به المرسلون هو الصِّراطُ المستقيمُ، والصِّراطُ المستقيمُ هو: الطَّريقُ المعتَدِلُ الذي لا تعدُّدَ فيه ولا انقسامَ، وهو المذكورُ في قولِه تعالى مِن سورةِ الفاتحةِ: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ) وقولِه في الآيةِ (153) مِن سورةِ الأنعامِ: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) وهو الذي ندعو اللهَ في كُلِّ ركعةٍ مِن صَلواتِنَا أَن يهديَنَا إليه.
(2) أي أنّ الصِّراطَ المستقيمَ الذي جاء به المرسلون في الاعتقادِ وغيرِه، وسلَكَه أهلُ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ هو (صِرَاطُ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ) أي: أنعَم اللهُ عليهم الإنعامَ المطلقَ التَّامَّ المتَّصِلَ بسعادةِ الأَبدِ، وهم الَّذين أمرنا اللهُ أَن ندعوَه أن يهدِيَنَا طريقَهم، فهؤلاءِ الأصنافُ الأربعةُ هم أهلُ هذه النِّعْمَةِ المُطْلَقةِ، وهم:
1. النَّبيُّونَ ـ جمعُ نبيٍّ ـ وهم الَّذين اختصَّهم اللهُ بنبوَّتِه ورسالتِه، وتقدَّم تعريفُهم.
2. الصِّدِّيقُون: جمعُ صِدّيقٍ، وهو: المبالِغُ في الصِّدْقِ والتَّصدِيقِ ـ أي: المبالغُ في الانقيادِ للرَّسولِ صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ مع كمالِ الإخلاصِ للهِ.
3. الشُّهداءُ ـ جمعُ شَهيدٍ ـ وهو المقتولُ في سبيلِ اللهِ. سُمِّيَ بذلك؛ لأنَّه مَشْهودٌ له بالجنّةِ، ولأنَّ ملائكةَ الرَّحمةِ تَشْهَدُهُ.
4. الصَّالحون ـ جمعُ صَالحٍ، وهو القَائمُ بحُقوقِ اللهِ وحقوقِ عِبادِه.
والصِّراطُ تارةً يُضَافُ إلى اللهِ تعالى، كقولِه تعالى في الآية (153) مِن سورةِ الأنعامِ: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ) لأنَّه هو الذي شَرعَه ونصَبَه. وتارةً يُضَافُ إلى العبادِ، كما في قولِه: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) لكونهم سَلَكُوه. وفي قولِه: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) تنبيهٌ عَلى الرَّفيقِ في هذا الطَّريقِ، وأنَّهم هم الذين أنعم اللهُ عليهم مِن النبيِّين والصِّدِّيقين والشُّهداءِ والصَّالحين، ليزولَ عَن سالكِ هذا الطَّريقِ وحْشَةُ التَّفرُّدِ عَن أهلِ زَمانهِ، إذا استشعر أن رُفْقَتَه عَلى هذا الصِّراطِ الأنبياءُ والصِّدِّيقون والشُّهداءُ والصَّالحون.
ثم أورد الشيخُ رحمه اللهُ فيما يلي نماذجَ مِن الكتابِ والسُّنَّةِ، تشتملُ عَلى إثباتِ أسماءِ اللهِ وصفاتِه وفيما يلي إيرادُ ذلك.

هيئة الإشراف

#6

1 Dec 2008

شرح العقيدة الواسطية للشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): ( ((وَهُو سُبْحَانَهُ قد جَمَعَ فِيما وَصَفَ وَسَمَّى بِهِ نَفْسَه بَيْنَ النَّفي وَالإثْبَاتِ))(1).
قوله: ((فَلاَ عُدُولَ لأَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ عَمَّا جَاءَ بِهِ المُرْسَلُونَ؛ فَإِنَّهُ الصِّراطُ المُسْتَقيمُ، صِرَاطُ الَّذينَ أَنعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِنَ النَّبِيَّينَ وَالصِّدِّيقينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحينَ))(2) )
.


الشرح:

قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): ((1) بيَّنَ المؤلِّفُ -رحمَهُ اللَّهُ- فِي هذِهِ الجملةِ أنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - جمعَ فيمَا وصفَ وسمَّى بِهِ نَفْسَهُ بينَ النَّفيِ والإثباتِ، وذلِكَ لأنَّ تمامَ الكمالِ لاَ يكونُ إِلاَّ بثبوتِ صفاتِ الكمالِ وانتفاءِ مَا يضادُّها مِنْ صفاتِ النَّقصِ، فأفادَنَا -رحمَهُ اللَّهُ- أنَّ الصِّفاتِ قسمانِ:
1- صفاتٌ مثبتةٌ: وتُسمَّى عندَهُمْ: الصِّفاتِ الثُّبوتيَّةَ.
2- وصفاتٌ منفيةٌ: ويُسمُّونَها: الصِّفاتِ السَّلبيَّةَ، من السَّلْبِ، وهُوَ النَّفيُ، ولاَ حَرَجَ مِنْ أنْ نسمِّيَها سلبيَّةً، وإنْ كَانَ بعضُ النَّاسِ توقَّفَ وقالَ: لاَ نسمِّيها سلبيَّةً، بلْ نقولُ: منفيَّةٌ، فنقولُ: مَا دامَ السَّلبُ فِي اللُّغةِ بمعنى النَّفيِ فالاختلافُ فِي اللَّفظِ ولاَ يَضُرُّ.
فصفاتُ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ - قسمانِ: ثُبوتيةٌ وسلبيَّةٌ، أوْ إنْ شِئْتَ فقُلْ: مُثبَتةٌ ومنفيَّةٌ، والمَعْنَى واحدٌ.
فالمثبَتةُ: كُلُّ مَا أثبَتَهُ اللَّهُ لنَفْسِهِ، وكلُّها صفاتُ كمالٍ، ليسَ فِيهِا نقصٌ بوجهٍ مِنَ الوجوهِ، ومِنْ كمالِهَا: أنَّهُ لاَ يمكنُ أنْ يكونَ مَا أثبَتَهُ دالاًّ عَلَى التَّمثيلِ؛ لأنَّ المماثلةَ للمخلوقِ نقصٌ.
وإِذَا فهمْنَا هذِهِ القاعدةَ عرفْنَا ضلالَ أهلِ التَّحريفِ، الذينَ زَعَمُوا أنَّ الصِّفاتِ المثبَتةَ تستلزمُ التَّمثيلَ، ثُمَّ أخذُوا ينفونَهَا فِراراً من التَّمثيلِ.
ومثالُهُ: قالُوا: لو أثبتْنَا لِلَّهِ وجهاً لزمَ أنْ يكونَ مماثلاً لأوجِهِ المخلوقينَ، وحينئذٍ يجبُ تأويلُ معناهُ إِلَى معنىً آخرَ، لاَ إِلَى الوجهِ الحقيقيِّ.
فنقولُ لَهُمْ: كُلُّ مَا أثبتَ اللَّهُ لنَفْسِهِ مِنَ الصِّفاتِ، فَهُوَ صفةُ كمالٍ، ولاَ يمكنُ أبداً أنْ يكونَ فيمَا أثبَتَهُ اللَّهُ لنَفْسِهِ مِنَ الصِّفاتِ نقصٌ.
ولكنْ، إِذَا قَالَ قائلٌ: هَل الصِّفاتُ توقيفيَّةٌ كالأسماءِ، أوْ هِيَ اجتهاديَّةٌ؟ بمعنى أنَّهُ يصحُّ لَنَا أنْ نصِفَ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - بشيءٍ لمْ يَصِفْ بِهِ نَفْسَهُ؟
فالجوابُ أنْ نقولَ: إنَّ الصِّفاتِ توقيفيَّة عَلَى المشهورِ عِنْدَ أهلِ العِلمِ، كالأسماءِ، فلاَ تصِفُ اللَّهَ إلاَّ بمَا وصَفَ بِهِ نَفْسَهُ.
وحينئذٍ نقولُ: الصِّفاتُ تَنقسمُ إِلَى ثلاثةِ أقسامٍ: صفةُ كمالٍ مطلقٍ، وصفةُ كمالٍ بقيَّدٍ، وصفةُ نقصٍ مطلَقٍ.
أمَّا صفةُ الكمالِ عَلَى الإطلاقِ فَهِيَ ثابتةٌ لِلَّهِ - عزَّ وجلَّ -، كالمتكلِّمِ، والفعَّالِ لمَا يريدُ، والقادرِ… ونَحْوِ ذلِكَ.
وأمَّا صفةُ الكمالِ بقيدٍ فهذِهِ لاَ يوصَفُ اللَّهُ بِهَا عَلَى الإطلاق إِلاَّ مقيَّداً، مِثلُ: المَكرِ، والخِداعِ، والاستهزاءِ… ومَا أشَبْهَ ذلِكَ، فهذِهِ صفاتُ كمالٍ بقيدٍ، إِذَا كانتْ فِي مقابلةِ مَنْ يَفعلونَ ذلِكَ فهِيَ كمالٌ، وإنْ ذُكِرَتْ مُطلَقةً فلاَ تَصحُّ بالنِّسبةِ لِلَّهِ - عزَّ وجلَّ -، وَلِهَذَا لاَ يصحُّ إطلاقُ وصفِهِ بالماكرِ أوِ المستهزئِ أو الخادعِ، بلْ تُقيَّدُ، فنقولُ: ماكرٌ بالماكرينَ، مستهزئٌ بالمنافقينَ، خادِعٌ للمنافقينَ، كائدٌ للكافرينَ، فنُقيِّدُهَا؛ لأنَّها لَمْ تأتِ إِلاَّ مقيَّدةً.
وأمَّا صفةُ النَّقصِ عَلَى الإطلاقِ، فهذِهِ لاَ يُوصَفُ اللَّهُ بِها بأيِّ حالٍ مِن الأحوالِ، كالعاجزِ، والخائنِ، والأعمَى، والأصمِّ، لأنَّها نقصٌ عَلَى الإطلاقِ، فلاَ يُوصَفُ اللَّهُ بِها، وَانْظُرْ إِلَى الفَرْقِ بينَ خادعٍ وخائنٍ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ) ، فأثبَتَ خِداعَهَ لِمَنْ خَادَعَهُ، لكنْ قَالَ فِي الخِيانَةِ: (وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ) ، ولَمْ يقلْ: فخانَهُمْ؛ لأنَّ الخِيانةَ خداعٌ فِي مقامِ الائتمانِ، والخداعُ فِي مقامِ الائتمانِ نقصٌ، وليسَ فِيهِ مدحٌ أبداً.
فإذاً: صفاتُ النَّقصِ منفيَّةٌ عَنِ اللَّهِ مطلقاً.
والصِّفاتُ المأخوذةُ مِنَ الأسماءِ هِيَ كمالٌ بكُلِّ حالٍ، ويكونُ اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - قدْ اتَّصفَ بمدلولِهَا، فالسَّمعُ صفةُ كمالٍ دلَّ عَلَيْهِا اسمُهُ السَّميعُ، فكُلُّ صفةٍ دلَّتْ عَلَيْهِا الأسماءُ فهِيَ صفةُ كمالٍ مثبَتةٌ لِلَّهِ عَلَى سبيلِ الإطلاقِ، وهذِهِ نجعلُهَا قِسماً منفصلاً، لأنَّه ليسَ فِيهِا تفصيلٌ، وغيرُها تنقسمُ إِلَى الأقسامِ الثَّلاثةِ الَّتِي سلفَ ذِكرُها، وَلِهَذَا لَمْ يُسَمِّ اللَّهُ نَفْسَهُ بالمتكلِّمِ، مَعَ أنَّهُ يتكلَّمُ؛ لأنَّ الكلامَ قَدْ يكونُ خيراً، وقَدْ يكونُ شرًّا، وقدْ لاَ يكونُ خيراً ولاَ شرًّا، فالشرُّ لاَ يُنْسَبُ إِلَى اللَّهِ، واللَّغوُ كذلِكَ لاَ يُنْسَبُ إِلَى اللَّهِ؛ لأنَّهُ سَفَهٌ، والخيرُ يُنْسَبُ إِلَيْهِ، وَلِهَذَا لَمْ يسمِّ نَفْسَهُ بالمتكلِّمِ؛ لأنَّ الأسماءَ كَمَا وصَفَها اللَّهُ - عزَّ وجلَّ -: (وَلِلَّهِ الأَسْماءُ الْحُسْنَى) ، فليسَ فِيهِا أيُ شيءٍ مِنَ النَّقْصِ، وَلِهَذَا جاءتْ باسمِ التَّفضيلِ المُطلقِ.
إِذَا قَالَ قائلٌ: فَهِمْنَا الصِّفاتِ وأقسامَهَا، فمَا هُوَ الطَّريقُ لإثباتِ الصِّفةِ مَا دُمْنا نقولُ: إنَّ الصِّفاتِ توقيفيَّةٌ؟
فنقولُ: هناكَ عدَّةُ طرقٍ لإثباتِ الصِّفةِ:
الطَّريقُ الأوَّلُ: دلالةُ الأسماءِ عَلَيْها؛ لأنَّ كُلَّ اسمٍ فَهُوَ متضمِّنٌ لصفةٍ، ولِهَذَا قُلْنَا فيمَا سَبَقَ: إنَّ كُلَّ اسمٍ مِنْ أسماءِ اللَّهِ دالٌ عَلَى ذاتِهِ وعَلَى الصِّفةِ الَّتِي اشتُقَ مَنْها.
الطَّريقُ الثَّاني: أنْ يَنُصَّ عَلَى الصِّفةِ، مِثلُ: الوجهِ، واليَديْن، والعَيْنَيْن… ومَا أشبَهَ ذلِكَ، فهذِهِ بنصٍّ مِن اللَّهِ - عزَّ وجلَّ -، ومثلُ الانتقامِ، فقَالَ عَنْهُ - تَعَالَى -: (إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ) ، ليسَ مِنْ أسماءِ اللَّهِ المنتقِمُ، خِلافاً لمَا يُوجَدُ فِي بعضِ الكُتُبِ الَّتِي فِيهِا عدُّ أسماءِ اللَّهِ؛ لأنَّ الانتقامَ مَا جاءَ إِلاَّ عَلَى سبيلِ الوصفِ أو اسمِ الفاعِلِ مقيَّداً، كقولِهِ: (إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ) .
الطَّريقُ الثَّالثُ: أنْ تُؤْخَذَ مِنَ الفِعلِ، مثلُ: المتكلِّمِ، فنأخُذُها مِن (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً) .
هذِهِ هِيَ الطرقُ الَّتِي تُثبتُ بِهَا الصِّفةُ، وبناءً عَلَى ذلِكَ نقولُ: الصِّفاتُ أعمُّ مِنَ الأسماءِ؛ لأنَّ كُلَّ اسمٍ متضمِّنٌ لصفةٍ، وليسَ كُلُّ صفةٍ متضمِّنةً لاسمٍ.
وأمَّا الصِّفاتُ المنفيَّةُ عَنِ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ - فكثيرةٌ، ولكنَّ الإثباتَ أكثرُ؛ لأنَّ صفاتِ الإثباتِ كلَّها صفاتُ كمالٍ، وكلَّمَا تعدَّدتْ وتنوَّعتْ ظَهَرَ مِنْ كمالِ الموصوفِ مَا هُوَ أكثرُ، وصفاتُ النَّفيِ قليلةٌ، وَلِهَذَا نجدُ أنَّ صفاتِ النَّفيِ تأتي كثيراً عامَّةً غيرَ مخصَّصةٍ بصفةٍ معيَّنةٍ، والمخصَّصُ بصفةٍ معيَّنةٍ لاَ يكونُ إِلاَّ لسببٍ، مثلُ تكذيبِ المدَّعِينَ بأنَّ اللَّهَ اتَّصفَ بهذِهِ الصِّفةِ الَّتِي نفاهَا عنْ نَفْسِهِ أوْ دَفَعَ توهُّمَ هذِهِ الصِّفةِ الَّتِي نفَاهَا.
فالقسمُ الأوَّلُ العامَّةُ، كقوْلِهِ - تَعَالَى -: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) ، قالَ: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) فِي علْمِهِ وقدرتِهِ وسمعِهِ وبصرِهِ وعزَّتِهِ وحكمتِهِ ورحمتِهِ… وغيرِ ذلِكَ مِنْ صفاتِهِ، فلَمْ يفصِّلْ، بلْ قالَ: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)، وَهَذَا النَّفيُ العامُّ المجمَلُ يدلُّ عَلَى كمالٍ مطلَقٍ، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) فِي كُلِّ كمالٍ.
أمَّا إِذَا كَانَ مفصَّلاً فلاَ تجدُهُ إِلاَّ لسببٍ، كقولِهِ (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ) ، ردًّا لقولِ مَنْ قالَ: إنَّ لِلَّهِ ولداً، وقولُهُ: (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) كذلِكَ، وقولُهُ - تَعَالَى -: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاواتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ) ؛ لأنَّهُ قَدْ يَفْرِضُ الذِّهْنُ الَّذِي لاَ يقدِّرُ اللَّهَ حقَّ قدْرِهِ أنَّ هذِهِ السَّماواتِ العظيمةَ والأرضَ العظيمةَ إِذَا كَانَ خلْقُهَا فِي سِتةِ أيامٍ فسيلحقُهُ التَّعبُ، فَقَالَ: (وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ) ، أيْ: من تعبٍ وإعياءٍ.
فتبيَّنَ بِهَذَا أنَّ النَّفيَ لاَ يَرِدُ فِي صفاتِ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ - إِلاَّ عَلَى سبيلِ العمومِ أوْ عَلَى سبيلِ الخصوصِ لسببٍ؛ لأنَّ صفاتِ السَّلْبِ لاَ تتضمَّنُ الكمالَ إِلاَّ إِذَا كانتْ متضمِّنةً لإثباتٍ، وَلِهَذَا نقولُ: الصِّفاتُ السَّلبيَّةُ الَّتِي نفاهَا اللَّهُ عنْ نَفْسِهِ متضمِّنةٌ لثبوتِ كمالِ ضدِّها، فقولُهُ: (وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ): متضمِّنٌ كمالَ القوَّةِ والقُدرةِ، وقولُهُ: (وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) : متضمِّنٌ لكمالِ العدْلِ، وقولُهُ: (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) : متضمِّنٌ لكمالِ العلمِ والإحاطةِ… وهَلُمَّ جرًّا، فلاَ بُدَّ أنْ تكونَ الصِّفةُ المنفيَّةُ متضمِّنةً لثبوتٍ، وذلِكَ الثُّبوتُ هُوَ كمالٌ ضدُّ ذلِكَ المَنفيِّ، وإلاَّ لَمْ تكنْ مدحاً.
لاَ يُوجدُ فِي الصِّفاتِ المنفيَّةِ عَنِ اللَّهِ نفيٌ مجرَّدٌ؛ لأنَّ النَّفيَ المجرَّدَ عَدَمٌ، والعدمُ ليسَ بشيءٍ، فلاَ يتضمَّنُ مدحاً ولاَ ثناءً، ولأنَّهُ قَدْ يكونُ للعجزِ عَنْ تِلْكَ الصِّفةِ، فيكونُ ذمًّا، وقَدْ يكونُ لعدمِ القابليَّةِ، فلاَ يكونُ مدحاً ولاَ ذمًّا.
مثالُ الأوَّلِ الَّذِي للعجزِ قولُ الشَّاعِرِ:

قُبَيَّلَةٌ لاَ يَغْدِرُونَ بِذِمَّةٍ وَلاَ يَظْلِمونَ النَّاسَ حَبَّةَ خَرْدَل

ومثالُ الثَّاني الَّذِي لعدمِ القابليَّةِ: أنْ تقولَ: إنَّ جدارَنا لاَ يظلمُ أحداً.
والواجِبُ عَلَيْنَا نَحْوَ هذِهِ الصِّفاتِ الَّتِي أثبَتَها اللَّهُ لنَفْسِهِ والَّتِي نفَاهَا أنْ نقولَ: سمعْنَا وصدَّقْنَا وآمَّنَا.
هذِهِ هِيَ الصِّفاتُ، فِيهِا مثبَتٌ وفِيهِا منفيٌّ، أمَّا الأسماءُ فكلُّها مثبَتةٌ.
لكنَّ أسماءَ اللَّهِ - تَعَالَى - المثبَتةَ مَنْها مَا يدلُّ عَلَى معنًى إيجابيٍّ، ومِنْها مَا يدلُّ عَلَى معنًى سلبيٍّ، وَهَذَا هُوَ مَوْردُ التَّقسيمِ فِي النَفْيِ والإثباتِ بالنِّسبةِ لأسماءِ اللَّهِ.
فمثالُ الَّتِي مدلولُهَا إيجابيٌّ كثيرٌ.
ومثالُ الَّتِي مدلولُهَا سلبيٌّ: السَّلامُ، ومعنَى السَّلامِ، قَالَ العلماءُ: معناهُ: السَّالِمُ مِنْ كُلِّ عيبٍ، إذاً فمدلولُهُ سلبيٌّ، بمعنى: ليسَ فِيهِ نقصٌ ولاَ عيبٌ، وكذلِكَ القدُّوسُ قريبٌ مِنْ معنى السَّلامِ؛ لأنَّ معناهُ المُنَزَّهُ عَنْ كُلِّ نقصٍ وعيبٍ.
فصارَتْ عبارةُ المؤلِّفِ سليمةً وصحيحةً، وهُوَ لاَ يريدُ بالنِّسبةِ للأسماءِ أنَّ هناكَ أسماءً منفيَّةً؛ لأنَّ الاسمَ المنفيَّ ليسَ باسمٍ لِلَّهِ، لكنَّ مرادَهُ أنَّ مدلولاتِ أسماءِ اللَّهِ ثبوتيَّةٌ وسلبيَّةٌ.

(2) قولُهُ: ((فلاَ عدولَ لأهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ عمَا جاءَ بِهِ المُرْسَلونَ)): العدولُ: معناهُ الانصرافُ والانحرافُ، فأهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ لاَ يمكنُ أنْ يعدِلُوا عمَّا جاءتْ بِهِ الرُّسُلُ.
وإنمَّا جاءَ المؤلِّفُ بهَذَا النَّفيِ ليبيِّنَ أنَّهُمْ لكمالِ اتباعِهِم رَضِي اللَّهُ عَنْهُم لاَ يمكنُ أنْ يَعدِلوا عمَّا جاءتْ بِهِ الرُّسُلُ، فَهُمْ مستمسِكونَ تماماً، وغيرُ منحرفينَ إطلاقاً، عمَّا جاءتْ بِهِ الرُّسُلُ، بلْ طريقتُهُمْ أنَّهم يقولونَ: سَمِعْنَا وأطعْنَا فِي الأحكامِ، وسَمِعْنَا وصدَّقْنَا فِي الأخبارِ.
وقولُهُ: ((عمَّا جاءَ بِهِ المُرسَلُونَ)): مَا جاءَ بِهِ محمَّدٌ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ - واضحٌ أنَّنا لاَ نَعدلُ عَنْهُ؛ لأنَّهُ خاتَمُ النَّبِيِّينَ، وواجبٌ عَلَى جميعِ العبادِ أنْ يتَّبعُوه، لكنْ مَا جاءَ عَنْ غيرِهِ، هلْ لأهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ عدولٌ عَنْه؟ لاَ عُدولَ لَهُمْ عَنْهُ؛ لأنَّ مَا جاءَ عَنِ الرُّسُلِ - عَلَيْهِم الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ - فِي بابِ الأخبارِ لاَ يَختلفُ، لأنَّهُمْ صادِقونَ، ولاَ يمكنُ أن يُنْسَخَ؛ لأنَّهُ خبرٌ، فكُلُّ مَا أخبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنِ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ -، فهُوَ مقبولٌ وصِدْقٌ، ويجبُ الإيمانُ بِهِ.
مثلاً: قَالَ موسَى لفرعونَ لَمَّا قَالَ لَهُ: (فَمَا بَالُ القُرُونِ الأُولَى؟ قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى) ، فنَفَى عَنِ اللَّهِ الجهلَ والنِّسيانَ، فنَحْنُ يجبُ عَلَيْنَا أنْ نُصَدِّقَ بذلِكَ؛ لأنَّهُ جاءَ بِهِ رسولٌ مِنَ اللَّهِ، (قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى قَالَ رَبُّناَ الَّذِي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) ، فَلَوْ سَأَلَنا سائلٌ: مِنْ أيْنَ عَلِمْنا أنَّ اللَّهَ أَعْطَى كُلَّ شيءٍ خَلْقَه؟ فنقولُ: مِنْ كلامِ موسَى، فنؤمنُ بذلِكَ، ونقولُ: أَعْطَى كُلَّ شيءٍ خَلْقَهُ اللاَّئِقَ بِهِ، فالإنسانُ عَلَى هَذَا الوجهِ، والبعيرُ عَلَى هَذَا الوجهِ، والبقرةُ عَلَى هَذَا الوجهِ، والضَّأْنُ عَلَى هَذَا الوجهِ، ثُمَّ هَدَى كُلَّ مخلوقٍ إِلَى مصالِحِهِ ومنافِعِهِ، فكُلُّ شيءٍ يَعرفُ مصالِحَهُ ومنافِعَهُ، فالنَّملةُ فِي أيامِ الصَّيفِ تدَّخرُ قُوتَهَا فِي جحورِهَا، ولكنْ لاَ تدَّخِرُ الحَبَّ كَمَا هُوَ، بلْ تَقطمُ رءُوسَهُ، لئلاَ يَنْبُتَ؛ لأنَّهُ لو نَبَتَ لفَسَدَ عَلَيْهِا، وإِذَا جاءَ المَطرُ وابتلَّ هَذَا الحَبُّ الَّذِي وضَعتْهُ فِي الجُحورِ فإنَّها لاَ تُبقيهِ يأكلُهُ العَفنُ والرَّائحةُ، بلْ تنشرُهُ خارجَ جُحرِها، حَتَّى يَيْبَسَ مِنَ الشَّمسِ والرِّيحِ، ثُمَّ تُدخلُهُ!
لكنْ يجبُ التَّنبيهُ إِلَى أنَّ مَا نُسِبَ للأنبياءِ السَّابِقينَ يُحتاجُ فِيهِ إِلَى صحَّةِ النَّقلِ، لاحتمالِ أنْ يكونَ كَذِباً، كالَّذِي نُسِبَ إِلَى رسولِ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَأَوْلَى، وقولُهُ - رحمَهُ اللَّه -: ((عمَّا جاءَ بِهِ المُرْسَلونَ)): هَلْ يشملُ هَذَا الأحكامَ أوْ أنَّ الكلامَ الآنَ فِي بابِ الصِّفاتِ، فيختصُّ بالأخبارِ؟
إنْ نَظَرْنا إِلَى عُمومِ اللَّفظِ قُلْنَا: يشملُ الأخبارَ والأحكامَ.
وإنْ نَظَرْنا إِلَى السِّياقِ، قُلْنا: القرينةُ تَقتضِي أنَّ الكلامَ فِي بابِ العقائدِ، وهِيَ مِنْ بابِ الأخبارِ.
ولكنْ نقولُ: إنْ كَانَ كلامُ شيخِ الإسلامِ -رحمَهُ اللَّهُ- خاصًّا بالعقائدِ فَهُوَ خاصٌّ، وليسَ لنا فِيهِ كلامٌ، وإنْ كَانَ عامًّا فَهُوَ يشملُ الأحكامَ.
والأحكامُ الَّتِي للرُّسُلِ السَّابِقينَ اختلفَ فِيهِا العلماءُ: هلْ هِيَ أحكامٌ لَنَا إِذَا لَمْ يَرِدْ شرعُنَا بخلافِهَا، أوْ ليستْ أحكاماً لنَا؟
والصَّحيحُ أنَّها أحكامٌ لَنَا، وأنَّ مَا ثَبتَ عَنِ الأنبياءِ السَّابِقينَ مِنَ الأحكامِ فَهُوَ لَنَا، إِلاَّ إِذَا وَرَدَ شرعُنا بخلافِهِ، فَإِذَا وَردَ شرعُنَا بخلافِهِ، فَهُوَ عَلَى خلافِهِ، فمثلاً: السُّجودُ عندَ التَّحيَّةِ جائزٌ فِي شريعةِ يوسفَ ويعقوبَ وبَنِيهِ، لكنْ فِي شريعَتِنَا محرَّمٌ، كذلِكَ الإبلُ حرامٌ عَلَى اليَهودِ، (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) ، ولكنْ هِيَ فِي شَرِيعتِنَا حلالٌ.
فإذاً: يُمْكِنُ أنْ نَحْمِلَ كلامَ شيخِ الإسلامِ -رحمَهُ اللَّهُ- عَلَى أنَّهُ عامٌّ فِي الأخبارِ والأحكامِ، وأنْ نقولَ: مَا كَانَ فِي شَرْعِ الأنبياءِ من الأحكامِ فَهُوَ لَنَا، إِلاَّ بدليلٍ.
ولكنْ يَبْقَى النَّظرُ: كَيْفَ نَعرِفُ أنَّ هَذَا مِن شريعةِ الأنبياءِ السَّابِقينَ؟
نقولُ: لَنَا فِي ذلِكَ طريقانِ: الطَّريقُ الأوَّلُ: الكِتابُ، والطَّريقُ الثَّاني: السُّنَّةُ، فمَا حكَاهُ اللَّهُ فِي كتابِهِ عَنِ الأممِ السَّابِقينَ فَهُوَ ثابِتٌ، ومَا حكَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيمَا صحَّ عَنْهُ، فَهُوَ أيضًا ثابتٌ.
والباقي لاَ نُصدِّقُ ولاَ نُكذِّبُ، إلاَّ إِذَا وَرَدَ شَرْعُنَا بتَصديقِ مَا نَقِلَ أهلُ الكِتابِ، فإنَّنا نُصَدِّقُهُ، لاَ لِنَقْلِهِم، ولكنْ لِمَا جاءَ فِي شريعتِنا، وإِذَا وَردَ شرعُنا بتكذيبِ أهلِ الكتابِ فإنَّنا نكذِّبُهُ؛ لأنَّ شَرْعَنَا كذَّبَهُ، فالنَّصارى يَزعُمونَ بأنَّ المسيحَ ابنُ اللَّهِ، فنقولُ: هَذَا كَذِبٌ، واليهودُ يقولونَ: عُزَيْرٌ ابنُ اللَّهِ، فنقولُ: هَذَا كَذِبٌ.
قولُهُ -رحمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: ((فإنَّه الصِّراطُ المستقيمُ)): (فإنَّهُ): الضَّميرُ يَعودُ عَلَى مَا جاءتْ بِهِ الرُّسُلُ، ويمكنُ أنْ يَعودَ عَلَى طريقِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ، وهُوَ الاتِّباعُ وعدمُ العدولِ عَنْهُ، فمَا جاءتْ بِهِ الرُّسُلُ، ومَا ذهبَ إِلَيْهِ أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ: هُوَ الصِّراطُ المستقيمُ.
(صِراطُ): عَلَى وَزْنِ فعالٍ، بمعنى: مَصْرُوطٍ، مثلُ: فراشٍ، بمعنى: مَفروشٍ، وغِراسٍ، بمعنى: مَغروسٍ، فَهُوَ بمعنى اسمِ المفعولِ. والصِّراطُ إنَّمَا يُقالُ للطَّريقِ الواسعِ المستقيمِ، مأخوذٌ من الزَّرْطِ، وهُوَ بَلْعُ اللُّقْمَةِ بسرعةٍ؛ لأنَّ الطَّريقَ إِذَا كَانَ واسعًا لاَ يكونُ فِيهِ ضِيقٌ يتعثَّرُ النَّاسُ فِيهِ، فالصِّراطُ يقولونَ فِي تعريفِهِ: كُلُّ طريقٍ واسعٍ ليسَ فِيهِ صعودٌ ولاَ نزولٌ ولاَ اعوجاجٌ.
إذًا: الطَّريقُ الَّذِي جاءتْ بِهِ الرُّسُلُ هُوَ الصِّراطُ المستقيمُ، الَّذِي ليسَ فِيهِ عِوجٌ ولاَ أمْتٌ، طريقٌ مستقيمٌ ليسَ فِيهِ انحرافٌ يمينًا ولاَ شمالاً: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُستَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ) .
وعلَيْهِ، فيكونُ المستقيمُ صفةً كاشِفةً عَلَى تفسيرِنَا الصِّراطَ بأنَّهُ الطَّريقُ الواسعُ الَّذِي لاَ اعوجاجَ فِيهِ؛ لأنَّ هَذَا هُوَ المستقيمُ، أوْ يُقالُ: إنَّها صفةٌ مقيَّدةٌ؛ لأنَّ بعضَ الصِّراطِ قَدْ يكونُ غيرَ َمستقيمٍ،كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: (فَاهدُوهُم إِلَى صِرَاطِ الجَحِيمِ وَقِفُوهُم إِنَّهُم مَّسئُولُونَ) ، وَهَذَا الصِّراطُ غيرُ مستقيمٍ.
قولُهُ: ((صِرَاطُ الَّذينَ أَنْعَمَ اللَّه عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحينَ)): (صراطُ الَّذِينَ أنعمَ اللَّهُ عَلَيْهمْ)، أيْ: طريقُهُم، وأضافَهُ إِلَيْهمْ لأنَّهم سَالِكوهُ، فَهُم الَّذِينَ يَمشونَ فِيهِ، كَمَا أضافَهَ اللَّهُ إِلَى نَفْسِه أحيانًا: (وَإِنَّكَ لَتَهدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّستَقِيمٍ، صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِى الأَرْضِ) ، باعتبارِ أنَّهُ هُوَ الَّذِي شَرَعَهُ ووضَعَهُ لعبادِهِ، وأنَّهُ مُوَصِّلٌ إليْهِ، فَهُوَ صراطُ اللَّهِ - تَعَالَى - باعتبارَيْنِ، وصراطُ المؤمِنينَ باعتبارٍ واحدٍ، صراطُ اللَّهِ باعتبارَيْنِ هُما: أنَّهُ وَضَعَهُ لعبادِهِ، وأنَّهُ مُوصِّلٌ إليْه، وصراطُ المؤمنينَ، لأنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَسلكونَهُ وَحْدَهم.
وقولُهُ: ((الَّذِينَ أنعمَ اللَّهُ عَلَيْهمْ)): النِّعمةُ: كُلُّ فضلٍ وإحسانٍ مِنَ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ - عَلَى عبادِهِ، فَهُوَ نعمةٌ، وكُلُّ مَا بِنَا مِنْ نعمةٍ، فَهُوَ مِنَ اللَّهِ، ونِعَمُ اللَّهِ قسمانِ: عامَّةٌ وخاصَّةٌ، والخاصَّةُ أيضًا قسمانِ: خاصَّةٌ، وخاصَّةٌ أَعمُّ.
فالعامَّةُ: هِيَ الَّتِي تكونُ للمؤمنينَ وغيرِ المؤمنينَ.
ولِهَذَا، لو سألَنَا سائلٌ: هلْ لِلَّهِ عَلَى الكافرِ نِعمةٌ؟
قلْنَا: نَعَمْ، لكنَّها نعمةٌ عامَّةٌ، وهِيَ نِعمةُ مَا تقومُ بِهِ الأبدانُ، لا مَا تصلحُ بِهِ الأديانُ، مِثلُ الطَّعامِ والشَّرابِ والكِسوةِ والمَسكنِ ومَا أشبَهَ ذلِكَ، فهذِهِ يدخلُ فِيهِا المؤمنُ والكافرُ.
والنِّعمةُ الخاصَّةُ: مَا تصلحُ بِهِ الأديانُ مِنَ الإيمانِ والعلمِ والعملِ الصَّالحِ، فهذِهِ خاصَّةٌ بالمؤمنينَ، وهِيَ عامةٌ للنَّبيِّينَ والصِّدِّيقِينَ، والشُّهداءِ والصَّالحينَ.
ولكنَّ نِعمةَ اللَّهِ عَلَى النَّبِيِّينَ والرُّسُلِ نعمةٌ هِيَ أخصُّ النِعَمِ، واستَمِعْ إِلَى قولِهِ - تَعَالَى -: (وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيكَ الكِتَابَ وَالحِكمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَم تَكُن تَعلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيكَ عَظِيمًا) ، فهذِهِ النِّعمةُ الَّتِي هِيَ أَخَصُّ لاَ يَلحقُ المؤمنونَ فِيهِا النَّبِيِّينَ، بلْ هُمْ دُونَهُم.
وقولُهُ: ((صِراطُ الَّذِينَ أنعمَ اللَّهُ عَلَيْهم)): هِيَ كقولِهِ - تَعَالَى -: (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِم) .
فَمَنْ هُمُ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهمْ؟
فسَّرَها - تَعَالَى - بقولِهِ: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنعَمَ اللَّهُ عَلَيهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ) ، فهؤلاءِ أربعةُ أصنافٍ:
أَوَّلاً: النَّبيِّونَ، وهُمْ كُلُّ مَنْ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهم ونَبَّأَهُم، فَهُوَ داخلٌ فِي هذِهِ الآيةِ، فيَشملُ الرُّسُلَ؛ لأنَّ كُلَّ رسولٍ نبيٌّ، وليسَ كُلُّ نبيٍّ رسولاً، وعَلَى هَذَا فيكونُ النَّبيُّونُ شاملاً للرُسُلِ أُولِي العَزْمِ وغيرِهم، وشاملاً أيضًا للنَّبيِّينَ الَّذِينَ لَمْ يُرْسَلُوا، وهؤلاءِ أعَلَى أصنافِ الخَلْقِ.
ثانيًا: الصِّدِّيقونَ: جمعُ صِدِّيقٍ، عَلَى وَزْنِ فعيلٍ، صيغةُ مبالغةٍ.
فَمَنْ هُوَ الصِّدِّيقُ؟
أحسنُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الصدِّيقُ قولُهُ - تَعَالَى -: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ) ، وقَالَ - تَعَالَى -: (وَالَّذِينَ ءاَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) ، فَمَنْ حَقَّقَ الإيمانَ –ولاَ يَتِمُّ تحقيقُ الإيمانِ إِلاَّ بالصِّدْقِ والتَّصديقِ -، فَهُوَ صدِّيقٌ:
الصِّدقُ فِي العقيدةِ: بالإخلاصِ، وَهَذَا أصعبُ مَا يكونُ عَلَى المرءِ، حَتَّى قَالَ بعضُ السَّلَفِ: مَا جاهدتُ نَفْسِي عَلَى شيءٍ مجاهدتُهَا عَلَى الإخلاصِ، فلاَ بُدَّ مِن الصِّدقِ فِي المَقصدِ – وَهُوَ العقيدةُ – والإخلاصُ لِلَّهِ - عزَّ وجلَّ -.
الصِّدقُ فِي المَقالِ: لاَ يقولُ إلاَّ مَا طابقَ الواقِعَ، سواءٌ عَلَى نَفْسِهِ أوْ عَلَى غيرِهِ، فَهُوَ قائمٌ بالقسطِ عَلَى نَفْسِهِ وعَلَى غيرِهِ، أبيه وأمِهِ، وأخيهِ وأختِهِ … وغيرِهم.
الصِّدقُ فِي الفِعالِ: وهِيَ أنْ تكونَ أفعالُهُ مطابقةً لِمَا جاءَ بِهِ النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومِنْ صِدْقِ الفِعالِ أنْ تكونَ نابعةً عَنْ إخلاصٍ، فإنْ لمْ تكُنْ نابعةً عَنْ إخلاصٍ لَمْ تكُنْ صادقةً؛ لأنَّ فِعلَهُ يخالِفُ قولَهُ.
فالصِّدِّيقُ إذاً: مَنْ صَدَقَ فِي معتقدِهِ وإخلاصِهِ وإرادتِهِ، وفِي مقالِهِ وفِي فِعالِهِ.
وأَفْضلُ الصِّدِّيقِينَ عَلَى الإطلاقِ: أبو بكرٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ؛ لأنَّ أَفْضَلَ الأُممِ هذِهِ الأمَّةُ، وأَفضلُ هذِهِ الأمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّها أبو بكرٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ.
والصِّدِّيقيَّةُ مرتبةٌ تكونُ للرِّجالِ والنِّساءِ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - فِي عيسَى بنِ مريمَ: (وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) ، ويُقالُ: الصِّدِّيقةُ بنتُ الصِّدِّيقِ عائشةُ رَضِي اللَّهُ عَنْهُما، واللَّهُ - تَعَالَى - يَمنُّ عَلَى مَنْ يشاءُ مِنْ عبادِهِ.
أمَّا الشُّهداءُ فقِيلَ: هُمُ الذينَ قُتِلوا فِي سبيلِ اللَّهِ، لقولِهِ: (وَلِيَعلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءاَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُم شُهَدَاءَ)، وقِيلَ: العلماءُ، لقولِهِ - تَعَالَى -: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا العِلْمِ) ، فجعلَ أهلَ العِلمِ شَاهِدِينَ بمَا شَهِدَ اللَّهُ لنَفْسِهِ، ولأنَّ العلماءَ يشهدُونَ للرُّسُلِ بالبلاغِ وعَلَى الأُمَّةِ بالتَّبليغِ، ولَوْ قَالَ قائلٌ: الآيةُ عامَّةٌ لِمَنْ قُتِلُوا فِي سبيلِ اللَّهِ - تَعَالَى - وللعلماءِ؛ لأنَّ اللَّفظَ صالحٌ للوجْهِيَنِ، ولاَ يَتنافَيانِ، فيكونُ شاملاً للَّذينَ قُتِلوا فِي سبيلِ اللَّهِ وللعُلماءِ الَّذِينَ شَهِدُوا لِلَّهِ بالوحدانيَّةِ، وشَهِدُوا للنَّبيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بالبلاغِ، وشَهِدُوا عَلَى الأُمَّةِ بأنَّها بلَّغَتْ.
أمَّا الصَّالِحُونَ، فإنَّهُ يَشملُ كُلَّ الأنواعِ الثَّلاثةِ السَّابقةِ ومَنْ دونهَمُ فِي المرتبةِ، فالأنبياءُ صالحونَ، والصِّدِّيقونَ صالِحونَ، والشُّهداءُ صالِحونَ، فعَطْفُهَا مِنْ بابِ عطْفِ العامِّ عَلَى الخاصِّ.
والصَّالحُونَ هُمُ الذينَ قاموا بحقِّ اللَّهِ وحقِّ عبادِهِ، لكنْ لاَ عَلَى المرتبةِ السَّابقةِ –النُّبوَّةِ والصِّدِّيقيَّةِ والشَّهادةِ –، فَهُمْ دونَهُم فِي المرتبةِ.
هَذَا الصِّراطُ الَّذِي جاءتْ بِهِ الرُّسُلُ هُوَ صراطُ هؤلاءِ الأصنافِ الأربعةِ، فغيْرُهُم لاَ يمشُونَ عَلَى مَا جاءتْ بِهِ الرُّسُلُ.

هيئة الإشراف

#7

1 Dec 2008

التنبيهات السنية للشيخ: عبد العزيز بن ناصر الرشيد رحمه الله

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وهُو سُبْحَانَهُ قَدْ جَمَعَ فِيما وَصَفَ وسَمَّى بِه نَفْسَهُ بينَ النَّفْيِ والإِثْباتِ.(1)
فَلا عُدُولَ لأهْلِ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ عَمَّا جَاءَ بِهِ المُرْسَلُونَ؛ فإِنَّهُ الصِّرَاطُ المُسْتَقِيمُ(2)
صِرَاطُ الَّذينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ والصِّدِّيقينَ والشُّهَداءِ والصَّالِحينَ.(3)
).

الشرح:

قال الشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد (ت: 1408هـ): ( (1) قوله: (جَمَعَ): الجَمْعُ في اللغةِ: الضَّمُّ، والاجتماعُ: الانْضِمَامُ، والتَّفْرِيقُ ضِدُّه.
قولُه: (وَصَفَ): الوصفُ لغةً: نعتُه بما فِيهِ. وَصَفَ الشَّيءَ نعتَهُ بما فيه وحلاَّه, والصِّفةُ النَّعتُ، والصِّفةُ ما يَقُومُ بالموصوفِ كالعلمِ والجمالِ، وأسماؤه -سُبْحَانَهُ- تنقسمُ إلى قِسمين: أعلامٍ وأوصافٍ، والوَصْفِيَّةُ فيها لا تُنافي العَلَمِيَّةَ، بخلافِ أوصافِ العبادِ، وصفاتُه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- دَالَّةٌ على مَعَانٍ قائمةٍ بذاتهِ، فيجبُ الإيمانُ بها، والتَّصديقُ، وإثباتُها للهِ حقيقةً على ما يليقُ بجلالِ اللهِ وعظمتِه، وهي بالنَّظرِ إلى الذَّاتِ من قَبِيلِ المُتَرَادِفِ، و بالنَّظرِ إلى الصِّفاتِ من قَبِيلِ المُتَبايِنِ، وهي تنقسمُ كما مضى إلى قسمينِ: صِفَاتِ ذاتٍ وصِفَاتِ فِعْلٍ.
قولُه: (بين النَّفيِ والإثباتِ): فالنَّفيُ كقولِه: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) وقولِه: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) وقولِه: (لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ) وقولِه: (وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا).
والإثباتُ كقولِه: (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) وقولِه: (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) وقولِه: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ).
قالَ الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ بنُ تيميةَ رحمَه اللهُ: ومعاني التَّنـزيهِ تَرْجِعُ إلى هذين الأصْلين: إثباتِ الكمالِ، ونفيِ التَّشبيهِ والمثالِ، وقد دَلَّ عليهما سورةُ الإخلاصِ، فاسمُه الصَّمَدُ: يجمعُ معانيَ صفاتِ الكمالِ، والأَحَدُ: يَتَضمَّنُ أنَّه لا مِثلَ له ولا نَظيرَ. مِن المنهاجِ بتصرُّفٍ.
والنَّفيُ ليس مقصودًا لذاتِه، وإنَّما هو مقصودٌ لغيرِهِ، إذ النَّفيُ المحضُ ليس بمدحٍ ولا ثناءٍ، بل هو عَدَمٌ مَحْضٌ ولا مَدْحَ في ذلك.
قالَ الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ بنُ تيميةَ رحمَه اللهُ في كتابِه ((التَّدْمُرِيَّةِ)): ويَنبغي أن يُعْلَمَ أنَّ النَّفيَ ليسَ فيه كمالٌ ولا مدحٌ، إلا إذا تضمَّنَ إثباتًا، وكلُّ ما نَفى اللهُ عن نفسِه من النَّقائصِ ومُشَاركةِ أحدٍ له في خصائصِه فإنَّها تدلُّ على إثباتِ ضدِّها مِنْ أنواعِ الكمالاتِ. انتهى.
وطريقةُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ في النَّفيِ الإِجْمَالُ، وفي الإثباتِ التَّفْصِيلُ، كما جاء في الكتابِ والسُّنَّةِ: فَأثْبتوا له -سُبْحَانَهُ- الأسماءَ والصِّفاتِ ونفَوا عنه مماثلةَ المخلوقاتِ، ومَن خالفَهم من المُعَطِّلَةِ والمُتَفَلْسِفَةِ وغيرِهم عَكَسُوا القضيَّةَ فجاؤوا بنفيٍ مُفَصَّلٍ وإثباتٍ مُجْمَلٍ، فيقولون: ليسَ كذا ليسَ كذا. ذكر معناه في ((التَّدْمُرِيَّةِِ)) وغيرِها.

(2) قولُه: (فلا عُدولَ): أي فلا مَيْلَ ولا انحرافَ لأهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ عمَّا جاءَ به المُرسلون، بل هم مقتفون آثارَهُم، مستضِيئون بأنوارِهم، مؤمنونَ بجميعِهم، مُصَدِّقُون لهم في كلِّ ما أَخْبَروا به من الغيبِ، إذ هو الحقُّ والصِّدقُ الَّذي يجِبُ اعتقادُه واتِّباعهُ، ولا تجوزُ مخالفتُهُ، وأعظمُ ما جاءَ به المرسلونَ: هو الدَّعوةُ إلى توحيدِ اللهِ وعبادتهِ وحدَه لا شريكَ له، ومعرفتِه بأسمائِه وصفاتِه وأفعالِه، وأَنَّه لا شبيهَ له، ولا نظيرَ، فهذا دينُهم من أوَّلِهم إلى آخرِهم قالَ تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ) أي إنَّ الدِّينَ الَّذي جاءَ به محمَّدٌ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- هو دِينُ الأنبياءِ من أوَّلِهم إلى آخرِهم، ليسَ للهِ دِينٌ سِواه، فالإسلامُ دينُ أهلِ السَّماواتِ، ودينُ أهلِ التَّوحيدِ من الأرضِ، لا يَقْبلُ اللهُ من أحدٍ دِينًا سواه.
قال الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ رحمهُ اللهُ: فأهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ المتِّبعُون لمحمَّدٍ وإبراهيمَ وموسى وعيسى وغيرِهم من رسلِ اللهِ، يُثْبِتُون ما أَثْبَتُوه من تَكْلِيمِ اللهِ ومَحَبَّتِهِ ورَحْمَتِهِ وسائِرِ ما له من الأسماءِ والصِّفاتِ، ويُنَزِّهُونَهُ عن مُشَابَهَةِ الأَجسادِ الَّتي لا حياةَ فيها، وأمَّا أهلُ البدعِ من الجهميَّةِ ونحوِهِم فإنَّهم سَلَكُوا سبيلَ أعداءِ الرُّسلِ إبراهيمَ وموسى ومحمَّدٍ الَّذين أنكَروا أنَّ اللهَ كلَّمَ موسى تكليمًا، واتَّخذَ إبراهيمَ خليلاً، وقد كلَّم اللهُ محمَّدًا واتَّخذهُ خليلاً ورفعهُ فوقَ ذلك درجاتٍ، وتَابَعُوا فِرْعَوْنَ الَّذي قال: (يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَـلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَـهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا) وتَابَعُوا المُشركين الَّذين (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُواْ لِلرَّحْمَـنِ قَالُواْ وَمَا الرَّحْمَـنُ) الآيةَ. واتَّبَعُوا الَّذين أَلْحَدُوا في أسماءِ اللهِ, فهم يجحدون حقيقةَ الرَّحمنِ، أو أنَّه يَرْحَمُ، أو يُكَلِّمُ، وزعموا أنَّ مَن أَثْبَتَ له هذه الصِّفاتِ فقد شبَّههُ بالأَجْسامِ الميتةِ، وأنَّ هذا تشبيهٌ للهِ بخلقِه، تعالى اللهُ عن قولِهم عُلُوًّا كبيرًا.
قولُه: (فإنَّه الصِّراطُ المستقيمُ) أي أنَّ ما جاءَ به المرسلون هو الصِّراطُ المستقيمُ، المُوصِلُ إلى السَّعادةِ الأبديَّةِ، وهو الَّذي لا طريقَ إلى اللهِ ولا إلى جنَّتِه سواه، والصِّراطُ في اللغةِ: الطَّريقُ الواضحُ. قال الشَّاعرُ:

أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلَى صِرَاطٍ ... إِذا اعْوَجَّ الْمَوارِدُ مُسْتَقِيمٌ

والمستقيمُ: الَّذي لا اعْوِجَاجَ فيه ولا انحرافَ، قال تعالى: (وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ) وعن ابنِ مسعودٍ رَضِي اللهُ عَنْهُ قال: خَطَّ رسولُ اللهِ خَطًّا بِيَدِهِ ثمَّ قال: ((هَذَا سَبِيلُ اللهِ مُسْتَقِيمًا) ثمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِ ذَلِكَ الْخَطِّ وَعَنْ شِمَالِهِ، ثُمَّ قَالَ: ((وَهَذِهِ السُّبُلُ لَيْسَ مِنْ سَبِيلٍ إلاَّ وَعَلَيْهِ شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ)) ثُمَّ قَرَأَ (وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ) الآيةَ. رواه الإمامُ أحمدُ، والنَّسائيُّ، وابنُ أبي حاتمٍ، والحاكمُ. وصحَّحَه، والمرادُ بالصِّراطِ: قيل: الإسلامُ، وقيل: القرآنُ، وقيل: طريقُ السُّنَّةِ والجماعةِ.
قال ابنُ القيِّمِ رحمهُ اللهُ تعالى: ولا ريبَ أنَّ ما كانَ عليه رسولُ اللهِ وأصحابُه عِلْمًا وَعَمَلاً وهو معرفةُ الحقِّ وتقديمُه وإيثارُه على غيِرِه، هو الصِّراطُ المستقيمُ، وكلُّ هذه الأقوالِ المتقدِّمةِ دَالَّةٌ عليه جَامِعَةٌ له. انتهى.
والصِّراطُ المذكورُ في الكتابِ والسُّنَّةِ ينقسمُ إلى قسمين: مَعْنَوِيٍّ وحِسِيٍّ، فالمعنويُّ: هو ما تقدَّمتِ الإشارةُ إليه، والحِسِّيُّ: هو الجسرُ الَّذي يُنْصَبُ على مَتْنِ جهنَّمَ يومَ القيامةِ، يمرُّ النَّاسُ عليه على قَدْرِ أعمالِهم، فَبحَسَبِ استقامةِ الإنسانِ على الصِّراطِ المعنويِّ الَّذي نَصَبَهُ اللهُ لعبادِه في هذه الدَّارِ تكونُ استقامتُه على ذلك الصِّراطِ الحِسِّيِّ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ (جَزَاءً وِفَاقًا)، (وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ).
قال ابنُ القيِّمِ رحمهُ اللهُ تعالى: أفردَ الصِّراطَ لأنَّ الحقَّ واحدٌ، وهو صراطُ اللهِ المستقيمُ الَّذي لا صراطَ يوصلُ إليه سواه، وهو عبادةُ اللهِ بما شرعَ على لسانِ رسولِهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-، وهذا بخلافِ طرقِ الباطلِ فإنَّها متعدِّدةٌ مُتَشَعِّبَةٌ، ولهذا يجمعُها، كقولِه -سُبْحَانَهُ- وتعالى: (وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ) الآيةَ، ولا يناقضُ هذا قولَه سُبْحَانَهُ: (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ) فإنَّ تلك هي طُرُقُ مَرْضَاتِهِ الَّتي يَجْمَعُها سبيلُه الواحدُ.

(3) قولُه: (صراطُ): بَدَلٌ من الصـِّراطِ الأوَّلِ، أي طريقُ المُنْعَمِ عليهم، قال تعالى في سورةِ الفاتحةِ: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) وهؤلاءِ هم المذكورون في قولِه -سُبْحَانَهُ وتعالى: (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا) والنِّعْمةُ: بكسرِ النَّونِ الإحسانُ وبالضمِّ المَسَرَّةُ وبالفتحِ المتعةُ من العَيْشِ اللَّيِّنِ.
قوله: (أنعمَ اللهُ عليهِم): أي أنعمَ عليهِم الإنعامَ المطلقَ التَّامَّ، وهي النِّعمةُ المتِّصلةُ بسعادةِ الأبدِ، وهي نعمةُ الإسلامِ والسُّنَّةِ، وهي الَّتي أمرنَا اللهُ أنْ نسألَهُ أنْ يهديَنا صراطَ أهلِها، ومَن خَصَّهُمْ بها، وجعلَهُم أهلَ الرَّفيقِ الأعلى، كما قالَ تعالى: (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ) الآيةَ، فهؤلاءِ الأصنافُ الأربعةُ هم أهلُ هذه النِّعمةِ المُطْلَقَةِ وأصحابُها هم المَعْنِيِّونَ بقولِه: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِِسْلاَمَ دِينًا) فأضافَ إليهم الدِّينَ، إذ هم المُخْتَصُّون بهذا الدِّينِ القيِّم دونَ سائرِ الأُممِ، وأمَّا مُطْلَقُ النِّعْمَةِ فعلى المؤمنِ والكافرِ، فكلُّ الخلقِ في نعمتِه، فالنِّعمةُ المطلقَةُ لأهلِ الإيمانِ، ومطلقُ النِّعمةِ يكونُ للمؤمنِ والكافرِ. انتهى، ذكره ابنُ القيِّمِ.
وفي قولِه: (الَّذِينَ أَنعَمَ اللهُ عَلَيهِم) تنبيهٌ على الرَّفيقِ في هذا الطَّريق، وأنَّهم هم الَّذين أنعمَ اللهُ عليهم من النَّبيِّين والصِّدِّيقينَ والشُّهداءِ والصَّالحين، ليزولَ عن سَالِكِ هذا الطَّريقِ وَحْشَةُ التَّفَرُّدِ عن أهلِ زمانِه، وبَنِي جِنْسِهِ، إذا اسْتَشْعَر أنَّ رفيقَهُ في هذا الصِّراطِ هم الأنبياءُ والشُّهداءُ والصَّالحون.
قالَ بعضُ السَّلفِ: لاتستوحشْ من الحقِّ لِقِلَّةِ السَّالِكِينَ، ولاتَغْتَرَّ بالباطلِ لكثرةِ الهالكينَ، وقال تعالى: (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ)، وقال: (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ).
قال الشَّيخُ محمَّدُ بنُ عبدِ الوهَّابِ في كتابِهِ ((في مَسَائِل التَّوْحِيدِ)): وفيه عمقُ عِلْمِ السَّلفِ وهو عدمُ الاغترارِ بالكثرةِ وعدمُ الزُّهدِ في القلَّةِ. انتهى.
والصِّراطُ تارةً يُضافُ إلى اللهِ -سُبْحَانَهُ وتعالى، إذ هو الَّذي شَرَعَهُ ونَصَبَهُ، كقولِه: (وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا) وتارةً يُضافُ إلى العبادِ لكونِهِم أهلَ سلوكِه، أفادَه ابنُ القيِّمِ.
وفي قولِه: (الَّذين أنعمَ اللهُ عليهم) إشارةٌ إلى أنَّهم إنَّما استحقُّوا هذا الإنعامَ المطلقَ بسببِ سلوكِهم هذا الصِّراطَ، وفيه إشارةٌ إلى وجوبِ توحيدِ هذا الصِّراطِ بالسُّلوكِ، وأنْ لا صراطَ موصلٌ للسَّعادةِ سوى هذا الصِّراطِ.
قال ابنُ القيِّمِ في ((الكافيةِ الشَّافيةِ)):
فَلِواحِدٍ كنْ واحدًا في واحدٍ أعني سبيلَ الحقِّ والإيمانِ
قال ابنُ القيِّمِ رحمَه اللهُ تعالى في كتابِه ((مدارجِ السَّالكين)): والهدى التَّامُّ يتضمَّنُ توحيدَ المطلوبِ وتوحيدَ الطَّلبِ وتوحيدَ الطَّريقِ الموصلةِ، والانقطاعُ وتخلَّفُ الوصولِ يقعُ من الشِّركةِ في هذه الأمورِ أو في بعضِها، فالشِّركةُ في المطلوبِ تُنافي التَّوحيدَ والإخلاصَ، والشِّركةُ في الطَّلبِ تُنافي الصِّدقَ والعزيمةَ، والشِّركةُ في الطَّريقِ تنافي اتَّباعَ الأمرِ، فالأوَّلُ يوقعُ في الشِّركِ والرِّياءِ، والثَّاني يُوقِعُ في المعصيةِ والبطالةِ، والثَّالثُ يُوقِعُ في اتِّباعِ البدعةِ ومفارقةِ السُّنَّةِ. فتأمَّلْ، فتوحيدُ المطلوبِ يعصمُ من الشِّركِ والرِّياءِ، وتوحيدُ الطَّلبِ يعصِمُ من المعصيةِ، وتوحيدُ الطَّريقِ يعصِمُ من البدعةِ، والشَّيطانُ إنَّما يَنصبُ فَخَّه بهذه الطُّرقِ الثَّلاثةِ.
قولُه: (مِنَ النَّبِيِّينَ): الَّذين اختصَّهُم من خلقِه وشَرَّفَهم برسالتِه ونبوَّتِه، وقد تقدَّمَ الكلامُ على الأنبياءِ.
قولُه: (والصِّدِّيقينَ): الَّذين صدَّقوا أقوالَهم بأفعالِهم، فالصِّدِّيقُ المبالِغُ في الصِّدقِ كما في الحديثِ: ((إِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتىَّ يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا) أو المبالغُ في التَّصديقِ كما سُمِّيَ أبو بكرٍ الصِّدِّيقَ.
قال ابنُ القيِّمِ: الصِّدِّيقُ أبلغُ من الصَّدُوق، والصَّدوقُ أبلغُ من الصَّادِقِ، فأعلى مراتبِ الصِّدقِ الصِّديقيَّةُ، وهي كمالُ الانقيادِ للرَّسولِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- معَ كمالِ الإخلاصِ للمُرسِلِ.
قولُه: (والشُّهداءِ): والشَّهيدُ هو المقتولُ في سبيلِ اللهِ، قيل سُمِّيَ بذلكَ لأنَّ اللهَ وملائكتَه شهدُوا له بالجنَّةِ، أو لأنَّ ملائكةَ الرَّحمةِ تشهدُه، أي تحضُره، قالَ العلماءُ: والشَّهيدُ ينقسمُ إلى ثلاثةِ أقسامٍ:
الأوَّلِ: شهيدٌ في الدُّنْيَا والآخرةِ، وهو المقتولُ في سبيلِ اللهِ في حربِ الكفَّارِ.
الثَّاني: شهيدٌ في الآخرةِ دونَ أحكامِ الدُّنْيَا، وهو الغريقُ، والحريقُ، والمطعونُ، والمبطونُ، ومن قُتِلَ دونَ مالِه أو دونَ نفسِه أو دون حُرمتِهِ.
الثَّالثِ: شهيدٌ في الدُّنْيَا دون الآخرةِ، وهو من غَلَّ من الغنيمةِ أو قُتِلَ مُدْبِرًا.
قولُه: (والصَّالحين): الصَّالحُ: هو القائمُ بحدودِ اللهِ وحقوقِ عبادِهِ.
قالَ الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ في كتابِ ((الإيمانِ)): ولفظُ الصَّالحِ والشَّهيدِ يُذكرُ مفردًا فيتناولُ النَّبيِّين، والصِّدِّيقينَ، والشَّهداءَ، ويُذكرُ مع غيِرِهِ فيفُسَّرُ بِحسَبِهِ. اهـ.
وقدَّم النبِيِّين على الصِّدِّيقين لشرفِهِم، ولكونِ الصِّدِّيقِ تابعًا للنَّبيِّ، فاستحقَّ اسمَ الصِّدِّيقِ بكمالِ تصديقِه للنَّبيِّ، فهو تابعٌ محضٌ، وقدَّمَ الصِّدِّيقين على الشُّهداءِ لفضلِ الصِّدِّيقين عليهم، وقدَّمَ الشُّهداءَ على الصَّالحين لفضلِهِم عليهم. انتهى من ((البدائعِ)) بتصرُّفٍ
قالَ الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ رحمهُ اللهُ تعالى: وأفضلُ الخلقِ: النَّبيُّونَ، ثمَّ الصِّدِّيقونَ، ثمَّ الشَُّهداءُ، ثمَّ الصَّالحون، وأفضلُ كلِّ صنفٍ أتقاهُم. انتهى).

هيئة الإشراف

#8

6 Feb 2009

شرح العقيدة الوسطية للشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ ( مفرغ )


قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ: (ثم قال: (وهو سبحانه قد جمع فيما وصف وسمّى به نفسه بين النفي والإثبات)، الله جل وعلا جمع بين النفي والإثبات في قوله: { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } نفى في قوله: {ليس كمثله شيء} وأثبت في قوله: {وهوالسميع البصير}, كذلك قال: { الله لا إله إلا هو الحيّ القيوم } فأثبت، ثم قال: { لا تأخذه سنة ولا نوم } فنفى.
وقال سبحانه: {قل هو الله أحد * الله الصمد} فيها إثبات في هاتين الآيتين ثم نفى فقال: {لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد }, وهذا فيه بيان لقاعدة أهل السنة والجماعة في ذلك بأعظم دليل وأوضح استدلال في أنهم يجمعون في عقائدهم في الأسماء والصفات بين النفي والإثبات، وعندهم النفي يكون مجملا كما أجمله الله جل وعلا، وعندهم الإثبات يكون مفصلا كما فصله الله جل وعلا، وأما النفي المفصل الذي جاء في القرآن كقوله: {ولا يظلم ربك أحدا }، وكقوله: {لا تأخذه سنة ولا نوم}، وكقوله: {وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض إنه كان عليما قديرا}, فإن النفي لا يكون كمالاً، ولا يمدح به المنفي إلا إذا كان النفي يراد به إثبات كمال الضد، فالله جل وعلا نفى عن نفسه الظلم والغرض, من ذلك إثبات كمال ضد صفة الظلم وهو العدل {ولا يظلم ربك أحدا}، { وما ربك بظلاّم للعبيد } في هذا إثبات لكمال اتصافه بضد الظلم وهو العدل، وبعض العلماء يسمِي هذه الصفات: السلبية، يعني الصفات المسلوبة عن الله جل وعلا، وما الفائدة من السلب؟ الفائدة منه أن يثبت كمال ضده {لا تأخذه سنة ولا نوم}, وذلك لكمال حياته سبحانه، وقد يكون النفي لإثبات صفة واحدة، وقد يكون النفي لإثبات صفتين معا، يعني: النفي يكون المراد منه إثبات صفتين جميعا، يدل على ذلك قوله: {وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض} العجز الذي نفاه الله جل وعلا عن نفسه، قال العلماء: إما أن يكون لأجل عدم العلم عجز عن الشيء لأجل أنه ليس بعالم به، وإما أن يكون العجز لأجل عدم القدرة عليه هو غير قادر عليه: (عجزت من الكتابة لأني غير قادر عليها)، ( عجزت عن المسير لأني غير قادر عليه)، لكن (عجزت عن جواب سؤال لأني غير عالم به), فقوله هنا في هذا النفي: { وما كان الله ليعجزه من شيء} يراد به إثبات كمال ضد العجز, وكمال ضد العجز يكون بكمال صفتين وهي صفة العلم وصفة القدرة ولهذا قال جل وعلا في آخر هذه الآية قال: {إنه كان عليما قديرا}, قال: {وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض إنه كان عليما قديرا}، وقد تقرر أن كلمة
{إنه} في القرآن من أساليب التعليل لما قبلها إذا كان خبرا أو أمرا أو نهيا أو حكما أو استفهاما، يكون ما بعد إن تعليل لما قبلها.
{ما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض} ما علة ذلك؟ قال: { إنه كان عليما قديرا}, وهذا فيه ظهور أن النفي هنا أُريد به إثبات كمال ضده وهما صفتان: صفة العلم وصفة القدرة، ولذلك وصف الله جل وعلا نفسه بذلك في قوله: {إنه كان عليما قديرا} مع ما في كان من إثبات الكمال السابق واللاحق، وما في قوله: {عليما قديرا} من إثبات الكمال لدلالة صيغة المبالغة عليه.
قال هنا: (بين النفي والإثبات), المبتدعة عندهم عكس ذلك، عندهم الإثبات مجمل: نثبت لله صفات الكمال، ما هي؟ عندهم إجمال، أما النفي فإنه يكون مفصلا، يقولون: الله جل وعلا ليس بذي دم، وليس بذي جوارح، ليس به روح، ولا به أبعاض، ولا هو فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال ولا بذي جهة وليس بداخل العالم ولا خارجه …. الخ.
عندهم النفي كما ترى في كتاب التمهيد وغيره وكتب أهل الكلام، و( التمهيد ) يعني للباقلاّني، ترى أنه يأتي في وصف الله جل وعلا في النفي في صفحتين أو أكثر كلها نفي مفصل، ليس بكذا وليس بكذا وليس بكذا …، وإذا أتى الإثبات أجمله فقال وله صفات الكمال، ما هي؟ الصفات التي يثبتونها وهي الصفات السبع العقلية.
قال: (فلا عدول لأهل السنة والجماعة عما جاء به المرسلون)، وهذه كلمة عظيمة تدل على أن أهل السنة والجماعة، يعني السلف الصالح, أنهم تبعوا المرسلين.
و(لا عدول لهم)، يعني: لا ميل لهم ولا انحراف، ولا يعدلون: لا يوازنون بما جاء به المرسلون بشيء بل هم متبعون للمرسلين، وأما غيرهم فهم متبعون للمشركين أو لليهود أو للنصارى أو للملحدين, فكل بدعة في الأسماء والصفات ظهرت في هذه الأمة فإنها لم تستقا من الأنبياء والمرسلين وحاشاهم من ذلك، وإنما أخذت من المشركين وأهل الكتاب وقد قال النبي –عليه الصلاة والسلام–: ((لتتّبعنّ سنن من كان قبلكم))، وبين –عليه الصلاة والسلام– في الحديث الآخر الذي رواه البخاري وغيره من حديث ابن عباس قال: ((إن أبغض الرجال إلى الله ثلاثة)), وذكر منهم: ((مبتغ في الإسلام سنة الجاهلية)), وإذا رأيت فإن المشركين نفوا عن الله جل وعلا اسما من أسمائه الحسنى، فنفوا اسم الرحمن عن الله، قال سبحانه: {وهم يكفرون بالرحمن} فورثه النفاة، نفاة الأسماء في هذه الأمة، واتبعوا سبيل أهل الجاهلية فنفوا عن الله جل وعلا الأسماء الحسنى، أولئك وصفوا الله بما لم يصف به نفسه، ونفوا عن الله جل وعلا ما وصف به نفسه من اليهود والنصارى وجعلوا له مثيلا وشبيها فورثهم المجسمة وورثهم المؤولة فإذا كل بدعة حصلت في هذه الأمة في أبواب الأسماء والصفات فإنها من ابتغاء سنة الجاهلية، فإن أهلها إنما أخذوها من اليهود والنصارى والمشركين، كذلك في باب الإيمان، الذين قالوا بالقدر يعني بالجبر الذين قال بالجبر إنما أخذوها من الجبرية، وهم طائفة كانت قبل النبي -عليه الصلاة والسلام- موجودة، كذلك الذين قالوا بالإرجاء ورثوها ممن قبلهم، وكذلك في أبواب الإمامة، فإن اجتماع الناس على إمام واحد يطيعونه ويرضونه هذا إنما جاءت به الرسل، أما أهل الجاهلية فإنهم يعُدّون التفرق مفخرة ويعُدّون الاتباع والطاعة لوليّ أمر واحد، يعُدّون مسبة وذلا وهكذا، في أبواب الصحابة المشركون يسُبّون أتباع الرسل { أنؤمن لك واتبعك الأرذلون}, وفي هذه الأمة في باب العقائد خالف من خالف في العقيدة في الصحابة لأتباع الرسل فسبوهم يعني أن أهل السنة والجماعة تبعوا المرسلين وكل من خالف أهل السنة والجماعة فإنما تبع أهل الجاهلية،وهذه جملة يطول تفصيلها.
قال: (فإنه الصراط المستقيم) يعني الطريق الوحيد الموصل لرضى الله جل وعلا، (صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين)، وهذه جملة يؤخذ تفسيرها من الآية ونقف عند قوله: (وقد دخل في هذه الجملة ما وصف به نفسه)، أكرر وأقول أن ما ذكر هذا عرض إجمالي لا بد منه، لما ذكر من الكلمات والجمل وأما تفصيل الكلام على الصفات في مواضعها إن شاء الله تعالى، - وصلى الله وسلم على نبينا محمد).