30 Oct 2008
الدرس السابع والعشرون: كشف الشبهة الثالثة عشرة وهي احتجاجهم بأن الناس يطلبون الشفاعة من الأنبياء يوم القيامة
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (وَلَهُمْ شُبْهَةٌ أُخْرى:
وَهِيَ ما ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ النَّاسَ يَوْمَ القِيامَةِ يَسْتَغِيثُونَ بآدَمَ، ثُمَّ بِنُوحٍ، ثُمَّ بِإِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ بِمُوسى، ثُمَّ بِعِيسَى، فَكُلُّهُمْ يَعْتَذِرُون حَتَّى يَنْتَهُوا إِلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالُوا: فَهَذا يَدُلُّ عَلى أَنَّ الاسْتِغَاثَةَ بِغَيْرِ اللهِ لَيْسَتْ شِرْكاً.
فَالجوَابُ:
أَنْ
تَقُولَ: سُبْحَانَ مَنْ طَبَعَ على قُلُوبِ أَعْدَائِهِ، فَإِنَّ
الاسْتِغَاثَةَ بِالمَخْلُوقِ على ما يَقْدِرُ عَلَيْهِ لا نُنْكِرُها،
كَمَا قَالَ تَعالى في قِصَّةِ موسى: {فاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} وَكَمَا
يَسْتَغِيثُ الإِنْسَانُ بِأَصْحَابِهِ في الحَرْبِ وغيرِه في أَشْياء
يَقْدِرُ عَلَيْها المَخْلُوقُ، وَنَحْنُ أَنْكَرْنَا اسْتِغَاثَةَ
العِبَادَةِ الَّتِي يَفْعَلُونَها عِنْدَ قُبُورِ الأَوْلِيَاءِ وغيرِهم
أَوْ في غَيْبَتِهِم في الأَشْياء الَّتي لا يَقْدِرُ عَلَيْها المخلوق ولا
يقدر عليها إلا الله تعالى.
إِذَا
ثَبَتَ ذَلِكَ فالاستغاثةُ بِالأَنْبِيَاءِ يَوْمَ القِيَامَةِ يُرِيدُون
مِنْهُمْ أَنْ يَدْعُوا اللهَ أَنْ يُحَاسِبَ النَّاسَ حَتَّى يَسْتَرِيحَ
أَهْلُ الجَنَّةِ مِنْ كَرْبِ المَوْقِفِ،وَهَذَا
جَائِزٌ في الدُّنْيا وَالآخِرَةِ، أَنْ تَأْتِيَ عِنْدَ رَجُلٍ صَالحٍ
حيٍّ يُجَالِسُكَ ويَسْمَعُ كَلامَكَ تَقُولُ لَهُ: ادْعُ اللهَ لِي، كَمَا
كانَ أَصْحابُ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَسْأَلُونَهُ في حَيَاتِهِ؛ في الاستسقاء وغيره، وَأَمَّا بَعْدَ مَوْتِهِ
فَحَاشَا وَكَلاَّ أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ ذَلِكَ عِنْدَ قَبْرِهِ، بَلْ
أَنْكَرَ السَّلَفُ عَلَى مَنْ قَصَدَ دُعَاءَ اللهِ عِنْدَ قَبْرِهِ
فَكَيْفَ دُعَاءَه نَفْسِهِ؟).
شرح سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ
المتن:
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (وَلَهُمْ شُبْهَةٌ أُخْرى:
وَهِيَ ما ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ النَّاسَ يَوْمَ القِيامَةِ يَسْتَغِيثُونَ بآدَمَ، ثُمَّ بِنُوحٍ، ثُمَّ بِإِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ بِمُوسى، ثُمَّ بِعِيسَى، فَكُلُّهُمْ يَعْتَذِرُون حَتَّى يَنْتَهُوا إِلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالُوا: فَهَذا يَدُلُّ عَلى أَنَّ الاسْتِغَاثَةَ بِغَيْرِ اللهِ لَيْسَتْ شِرْكاً(1).
فَالجوَابُ:
أَنْ
تَقُولَ: سُبْحَانَ مَنْ طَبَعَ على قُلُوبِ أَعْدَائِهِ، فَإِنَّ
الاسْتِغَاثَةَ بِالمَخْلُوقِ على ما يَقْدِرُ عَلَيْهِ لا نُنْكِرُها،
كَمَا قَالَ تَعالى في قِصَّةِ موسى: {فاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} وَكَمَا
يَسْتَغِيثُ الإِنْسَانُ بِأَصْحَابِهِ في الحَرْبِ وغيرِه في أَشْياء
يَقْدِرُ عَلَيْها المَخْلُوقُ، وَنَحْنُ أَنْكَرْنَا اسْتِغَاثَةَ
العِبَادَةِ الَّتِي يَفْعَلُونَها عِنْدَ قُبُورِ الأَوْلِيَاءِ وغيرِهم
أَوْ في غَيْبَتِهِم في الأَشْياء الَّتي لا يَقْدِرُ عَلَيْها المخلوق ولا
يقدر عليها إلا الله تعالى(2).
إِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فالاستغاثةُ بِالأَنْبِيَاءِ يَوْمَ القِيَامَةِ يُرِيدُون مِنْهُمْ أَنْ يَدْعُوا اللهَ أَنْ يُحَاسِبَ النَّاسَ حَتَّى يَسْتَرِيحَ أَهْلُ الجَنَّةِ مِنْ كَرْبِ المَوْقِفِ،وَهَذَا جَائِزٌ في الدُّنْيا وَالآخِرَةِ، أَنْ تَأْتِيَ عِنْدَ رَجُلٍ صَالحٍ حيٍّ يُجَالِسُكَ ويَسْمَعُ كَلامَكَ تَقُولُ لَهُ: ادْعُ اللهَ لِي، كَمَا كانَ أَصْحابُ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَهُ في حَيَاتِهِ؛ في الاستسقاء وغيره، وَأَمَّا بَعْدَ مَوْتِهِ فَحَاشَا وَكَلاَّ أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ ذَلِكَ عِنْدَ قَبْرِهِ، بَلْ أَنْكَرَ السَّلَفُ عَلَى مَنْ قَصَدَ دُعَاءَ اللهِ عِنْدَ قَبْرِهِ فَكَيْفَ دُعَاءَه نَفْسِهِ؟(3)).
الشرح:
قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (ت: 1389هـ): ((1) (وَلَهُم شُبْهَةٌ أُخْرَى) يَعْنِي: مُشْرِكِي هَذِهِ الأَزْمَانِ، غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ (وَهو مَا ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَثَبَتَ (أَنَّ النَّاسَ يَوْمَ القِيَامَةِ يَسْتَغِيثُونَ بآدَمَ، ثُمَّ بِنُوحٍ، ثُمَّ بِإِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ بِمُوسَى، ثُمَّ بِعِيسَى) إِذَا اشْتَدَّ وطَالَ بِهُم المَوْقِفُ عَمَدُوا إِلَى الاسْتِغَاثَةِ بهؤلاء (فَكُلُّهُم يَعْتَذِرُونَ حَتَّى يَنْتَهُوا إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَيَقُولُ: ((أَنَا لَهَا)) (قَالُوا) قَالَ المُشَبِّهُونَ بِهَذَا الحَدِيثِ: (فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الاسْتِغَاثَةَ بِغَيْرِ اللهِ لَيْسَتْ شِرْكًا)
وَهَذَا مِن جَهْلِهِم، مَا عَرَفُوا الفَرْقَ بَيْنَ الاسْتِغَاثَتَيْنِ؛
فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيَاتُه مَعَهُم في
القِيَامَةِ أَكْمَلُ.وَالاسْتِغَاثَةُ الشِّرْكِيَّةُ التي أَنْكَرْنَاهَا هي ما يَأْتِي بَيَانُه؛ وهي الاسْتِغَاثَةُ بالغَائِبِ أو المَيِّتِ أو الحَيِّ الحَاضِرِ الذي لاَ يَقْدِرُ.وأَمَّا الجَائِزَةُ فهي
طَلَبُ الحَيِّ الحَاضِرِ، وجِنْسُ سُؤَالِ النَّبِيِّ مَوْجُودٌ في
اليَوْمِ الآخِرِ وإِنْ كَانَ قَد انْقَطَعَ العَمَلُ، مَوْجُودٌ في
النُّصُوصِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْفَعُ
لِمَنْ أُذِنَ لَهُ فِيهِ.فَفَرْقٌ بَيْنَ مَا هو مَعْلُومُ الجَوَازِ وَبَيْنَ مَا هو مَعْلُومُ الحُرْمَةِ والشِّرْكِ.
(2) (فالجَوَابُ أَنَّ نَقُولَ: سُبْحَانَ مَن طَبَعَ عَلَى قُلُوبِ أَعْدَائِهِ)
فَحَالَ بَيْنَهُم وبَيْنَ مَعْرِفَةِ الفَرْقِ بَيْنَ هَذِه
الاسْتِغَاثَةِ وهذه الاسْتِغَاثَةِ؛ فَصَارُوا لاَ يُبْصِرُونَ الشَّمْسَ
في رَابِعَةِ النَّهَارِ، فَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الشِّرْكِ
والتَّوْحِيدِ فَهَذِهِ شَيْءٌ وهَذِهِ شَيْءٌ آخَرُ، وبَيْنَهُما فَرْقٌ
في الكِتَابِ والسُّنَّةِ وفَرْقٌ في الحُكْمِ والحَدِّ (فَإِنَّ الاسْتِغَاثَةَ بالمَخْلُوقِ عَلَى مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ لاَ نُنْكِرُهَا) يَسْتَغِيثُ إِنْسَانٌ إِنْسَانًا في شَيْءٍ يَقْدِرُ عَلَيْهِ (كَمَا قَالَ تَعَالَى في قِصَّةِ مُوسَى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} وَكَمَا يَسْتَغِيثُ الإِنْسَانُ بِأَصْحَابِهِ في الَحْربِ، وغَيْرِهَا مِن الأَشْيَاءِ التي يَقْدِرُ عَلَيْهَا المَخْلُوقُ.وَنَحْنُ أَنْكَرْنَا اسْتِغَاثَةَ العِبَادَةِ التي يَفْعَلُونَها عِنْدَ قُبُورِ الأَوْلِيَاءِ) الأَمْواتِ مُطْلَقًا (أو في غَيْبَتِهِم) والغَائِبِينَ مُطْلقًا.
وَقَوْلُه: (عِنْدَ قُبُورِ الأَوْلِيَاءِ في غَيْبَتِهِم) خَرَجَ مَخْرَجَ الوَاقِعِ والغَالِبِ؛ وإِلاَّ فالأَصْنَامُ ونَحْوُها كَذَلِكَ والحَيُّ الحَاضِرُ (في الأَشْيَاءِ التي لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهَا إِلاَّ اللهُ)
كَالسُّؤَالِ مِنْهُ هِدَايَةَ القُلُوبِ؛ أَوْ رَفْعَ جَبَلٍ ونَحْوَه،
وَهَذَا كُلُّهُ اسْتِغَاثَةٌ شِرْكِيَّةٌ وكُلُّهَا أَنْكَرْنَاهَا؛ فَمَن
سَوَّى بَيْنَهُما فَقَدْ سَوَّى بَيْنَ المُتَضَادَّيْنِ وسَوَّى بَيْنَ
المُخْتَلِفَيْنِ، فهو نَظِيرُ التَّفْرِيقِ بَيْنَ المُتَماثِلَيْنِ؛
فإِنَّ الاسْتِغَاثَةَ بالمَيِّتِ شِرْكٌ أَصْلاً لِكَوْنِهِ فَاقِدَ
الحَرَاكِ ولاَ يَدْرِي وَلاَ يَقْدِرُ.
والاسْتِغَاثَةُ بالغَائِبِ أيضًا شِرْكٌ لِكَوْنِهِ لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَدْرِي.
والاسْتِغَاثَةُ بالحَيِّ الحَاضِرِ فيها تَفْصيِلٌ:
-فَإِنْ
كَانَ فِيمَا لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ كَرَدِّ البَصَرِ بِغَيْرِ أَمْرٍ
طِبِّيٍّ، أو هِدَايَةِ القَلْبِ بِغَيْرِ الإِرْشَادِ والحُجَّةِ أو نحوِ
ذلك، فَهَذَا كُلُّه شِرْكٌ أَنْ يَفْعَلَ بِسِرِّهِ -أي: بأُلُوهِيَّتِهِ-
شَيْئًا مِن ذَلِكَ؛ فَإِنَّ هَذََا لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلاَّ اللهُ.
- والاسْتِغَاثَةُ بالحَيِّ الحَاضِرِ القَادِرِ أَمْرٌ فِطْرِيٌّ ضَرُورِيٌّ مَعْلُومٌ بالشَّرْعِ والحِسِّ والاسْتِعْمَالِ؛ فَإِنَّ الإِنْسَانَ مَدَنِيٌّ مُحْتَاجٌ إلى بَنِي جِنْسِهِ ومُسَاعَدَتِهم في جَمِيعِ مَعَاشِهِ واتِّصَالاَتِهِ وهَكَذَا كُلُّ حَيَاةِ العَالَمِ عَلَى هَذَا.
(3) (إِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ)
أي: إِذَا تَقَرَّرَ مَا تَقَدَّمَ وهو الفَرْقُ بَيْنَ
الاسْتِغَاثَتَيْنِ؛ الاسْتِغَاثَةِ الشِّرْكِيَّةِ التي أَنْكَرْنَاهَا،
والجَائِزَةِ، أنَّ التي أَنْكَرْنَاهَا اسْتِغَاثَةُ العِبَادَةِ …. إلخ،
لا الاسْتِغَاثَةُ بالحَيِّ الحَاضِرِ فِيمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ (فالاسْتِغَاثَةُ بالأَنْبِيَاءِ يَوْمَ القِيَامَةِ)
مِن الثَّانِيَةِ؛ فَإِنَّهَا اسْتِغَاثَةٌ بِحَيٍّ حَاضِرٍ قَادِرٍ، هم
مَعَ النَّاسِ حَاضِرِينَ قَادِرِينَ في حَيَاةٍ أَكْمَلَ مِن هَذِهِ
الحَيَاةِ الدُّنْيَا (يُرِيدُونَ مِنْهُم أَنْ يَدْعُوا اللهَ أنْ يُحَاسِبَ النَّاسَ حَتَّى يَسْتَرِيحَ أَهْلُ الجَنَّةِ مِن كَرْبِ المَوْقِفِ) فحَقِيقَتُهَا أَنْ يَرْغَبُوا إِلَيْهِم أَنْ يَسْأَلُوا اللهَ ويَدْعُوه (وَهَذَا جَائِزٌ في الدُّنْيَا) وَلاَ مَحْذُورَ فِيهِ (و) جَائِزٌ في (الآخِرَةِ أَنْ تَأْتِيَ عِنْدَ رَجُلٍ صَالِحٍ حَيٍّ يُجَالِسُكَ ويَسْمَعُ كَلاَمَكَ) قَادِرٍ عَلَى الكَلاَمِ (وَتَقُولَ: ادْعُ اللهَ لِي)؛ لأَِنَّه مُتَمَكِّنٌ؛ وكَذَلِكَ الأَنْبِيَاءُ مَعَ النَّاسِ يَوْمَ القِيَامَةِ مُتَمَكِّنُونَ أَنْ يَسْأَلُوا اللهَ وَيَدْعُوه (كَمَا كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَه) ذَلِكَ (في حَيَاتِهِ)
كَمَا قَالَتْ أُمُّ أَنَسٍ: (يَا رَسُولَ اللهِ، خُوَيْدِمُكَ أَنَسٌ
ادْعُ اللهَ لَهُ) وكَمَا قَالَ عُكَّاشَةُ بنُ مِحْصَنٍ: (ادْعُ اللهَ
أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ).(وأَمَّا بعدَ مَوْتِهِ فَحَاشَا وَكَلاَّ أَنَّهُم سَأَلُوه ذَلك عِنْدَ قَبْرِهِ)
بل جَاءَتْهُمُ الكُرُوبُ وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ زَمَنَ الحَرَّةِ ولاَ
غَيْرِها بل يَعُدُّونَه مِن أَعْظَمِ المُنْكَرَاتِ؛ فَإِنَّ هَذَا هو
الشِّرْكُ الأَكْبَرُ، ولِعِلْمِهِم أنَّ ذَلِكَ مُخْتَصٌّ في حَيَاتِهِ
وَأَنَّه انْقَطَعَ بَعْدَ مَمَاتِهِ فَلاَ يَسْتَغِيثُونَه ولاَ
يَسْأَلُونَه أَنْ يَدْعُوَ اللهَ لَهُم أو يَدْعُوَ لَهُ (بل أَنْكَرَ السَّلَفُ عَلَى مَن قَصَدَ دُعَاءَ اللهِ) وَحْدَه مُخْلِصًا (عِنْدَ قَبْرِهِ)
قَبْرِ النَّبِيِّ يَظُنُّهُ أَجْوَبَ كَمَا أَنْكَرَ عَلِيُّ بنُ
الحُسَيْنِ، وهو أَعْلَمُ أَهْلِ البَيْتِ في زَمَانِهِ، عَلَى مَن أَتَى
قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو اللهَ
فَنَهَاهُ وقَالَ: أَلاَ أُحَدِّثُكَ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِن أَبِي عَنْ
جَدِّي عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:
((لاَ تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا وَلاَ بُيُوتَكُمْ قُبُورًا، وَصَلُّوا
عَلَيَّ فَإِنَّ صَلاَتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُمْ)).
(فَكَيْفَ دُعَاؤُهُ) النَّبِيَّ (نَفْسَهُ)
إِذَا كَانَ هَذَا إِنْكَارَ السَّلَفِ عَلَى مَن قَصَدَ دُعَاءَ اللهِ
وَحْدَه لاَ شَرِيكَ له عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ فَكَيْفَ دُعَاؤُه
نَفْسِه؟ كَيْفَ لَوْ وجَدُوهُ يَدْعُو النَّبِيَّ نَفْسَهُ؟ فَإِنَّهُم
يَكُونُونَ أَشَدَّ إِنْكَارًا؛ فَإِنَّ الأَوَّلَ بِدْعَةٌ ولاَ يَجُوزُ،
وَأَمَّا الثَّانِي فَهُو الشِّرْكُ الأَكْبَرُ؛ لأَِنَّهُ صَدَرَ مِنْهُ
مُخُّ العِبَادَةِ وهو دُعَاءُ غَيْرِ اللهِ، فَمَا ظَنُّكَ لَوْ سَمِعُوا
مَن يَقُولُ: انْصُرْنِي أَوْ ارْزُقْنِي؟
شرح الشيخ: محمد بن صالح العثيمين
المتن:
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (وَلَهُمْ شُبْهَةٌ أُخْرى:
وَهِيَ ما ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ النَّاسَ يَوْمَ القِيامَةِ يَسْتَغِيثُونَ بآدَمَ، ثُمَّ بِنُوحٍ، ثُمَّ بِإِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ بِمُوسى، ثُمَّ بِعِيسَى، فَكُلُّهُمْ يَعْتَذِرُون حَتَّى يَنْتَهُوا إِلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالُوا: فَهَذا يَدُلُّ عَلى أَنَّ الاسْتِغَاثَةَ بِغَيْرِ اللهِ لَيْسَتْ شِرْكاً.
فَالجوَابُ:
أَنْ
تَقُولَ: سُبْحَانَ مَنْ طَبَعَ على قُلُوبِ أَعْدَائِهِ، فَإِنَّ
الاسْتِغَاثَةَ بِالمَخْلُوقِ على ما يَقْدِرُ عَلَيْهِ لا نُنْكِرُها،
كَمَا قَالَ تَعالى في قِصَّةِ موسى: {فاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} وَكَمَا
يَسْتَغِيثُ الإِنْسَانُ بِأَصْحَابِهِ في الحَرْبِ وغيرِه في أَشْياء
يَقْدِرُ عَلَيْها المَخْلُوقُ، وَنَحْنُ أَنْكَرْنَا اسْتِغَاثَةَ
العِبَادَةِ الَّتِي يَفْعَلُونَها عِنْدَ قُبُورِ الأَوْلِيَاءِ وغيرِهم
أَوْ في غَيْبَتِهِم في الأَشْياء الَّتي لا يَقْدِرُ عَلَيْها المخلوق ولا
يقدر عليها إلا الله تعالى(1).
إِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فالاستغاثةُ بِالأَنْبِيَاءِ يَوْمَ القِيَامَةِ يُرِيدُون مِنْهُمْ أَنْ يَدْعُوا اللهَ أَنْ يُحَاسِبَ النَّاسَ حَتَّى يَسْتَرِيحَ أَهْلُ الجَنَّةِ مِنْ كَرْبِ المَوْقِفِ،وَهَذَا جَائِزٌ في الدُّنْيا وَالآخِرَةِ، أَنْ تَأْتِيَ عِنْدَ رَجُلٍ صَالحٍ حيٍّ يُجَالِسُكَ ويَسْمَعُ كَلامَكَ تَقُولُ لَهُ: ادْعُ اللهَ لِي، كَمَا كانَ أَصْحابُ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَهُ في حَيَاتِهِ؛ في الاستسقاء وغيره، وَأَمَّا بَعْدَ مَوْتِهِ فَحَاشَا وَكَلاَّ أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ ذَلِكَ عِنْدَ قَبْرِهِ، بَلْ أَنْكَرَ السَّلَفُ عَلَى مَنْ قَصَدَ دُعَاءَ اللهِ عِنْدَ قَبْرِهِ فَكَيْفَ دُعَاءَه نَفْسِهِ؟(2)).
الشرح:
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): ((1) قولُهُ: (ولهم شُبْهةٌ أخرى) يَعْنِي: في أنَّ الاستغاثةَ بغيرِ اللهِ لَيْسَتْ شركًا.
وقدْ أَجابَ عنها بِجوابيْنِ:
الأوَّلُ: أنَّ هذهِ استغاثةٌ بمخلوقٍ فيما يَقْدِرُ عليهِ، وهذا لا يُنْكَرُ؛ لِقولِهِ تعالى في قِصَّةِ مُوسَى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ}.
الجوابُ الثَّاني: أنَّ
النَّاسَ لمْ يَسْتَغِيثوا بهؤلاءِ الأنبياءِ الكرامِ لِيُزِيلوا عنهم
الشِّدَّةَ، ولكنَّهم يَسْتَشْفِعونَ بهم عندَ اللهِ عزَّ وجلَّ لِيُزِيلَ
هذهِ الشِّدَّةَ.
وهناكَ
فرقٌ بينَ مَنْ يَسْتَغِيثُ بالمخلوقِ لِيَكْشِفَ عنه الضَّرَرَ
والسُّوءَ، ومَنْ يَسْتَشْفِعُ بالمخلوقِ إلى اللهِ لِيُزِيلَ اللهُ عنهُ
ذلكَ.
(2) قولُهُ: (إذا ثَبَتَ ذلكَ فاسْتِغاثَتُهم بالأنبياءِ...)
إلخ، هذا هوَ الجوابُ الثَّاني، وهوَ: أنَّ استغاثتَهم بالأنبياءِ مِنْ
بابِ طلَبِ دعائِهم إلى اللهِ عزَّ وجلَّ أنْ يُرِيحَ الخلْقَ مِنْ هذا
المَوْقِفِ العظيمِ، وليسَ دُعاءً لهم، بلْ طلبَ دعائِهم لربِّهم عزَّ
وجلَّ، وهذا أمرٌ جائزٌ كما أنَّ الصَّحابةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهم
يَسْأَلونَ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنْ يَدْعُوَ اللهَ
لهم، فَفِي الصَّحيحَيْنِ مِنْ حديثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أنَّ
رَجُلاً دَخَلَ المسجدَ يومَ الجُمُعةِ والنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ فَقالَ: (يَا رَسُولَ اللهِ، هَلَكَت
الأَمْوَالُ وَانْقَطَعَت السُّبُلُ، فَادْعُ اللهَ يُغِيثُنَا) - ولمْ
يَقُلْ: فأَغِثْنا يا رسولَ اللهِ، بلْ قالَ: (فَادْعُ اللهَ يُغِيثُنَا) -
فَرَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ
وَقَالَ: ((اللهُمَّ أَغِثْنَا)) ثَلاَثَ
مَرَّاتٍ، فَأَنْشَأَ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سَحَابَةً
فَأَمْطَرَتْ، وَلَمْ يَرَوا الشَّمْسَ أُسْبُوعًا كَامِلاً وَالمَطَرُ
يَنْهَمِرُ.
وَفِي الجُمُعَةِ التَّالِيَةِ دَخَلَ رَجُلٌ، أَو الرَّجُلُ الأَوَّلُ، فَقَالَ: (يَا
رَسُولَ اللهِ، غَرِقَ المَالُ وَتَهَدَّمَ البِنَاءُ، فَادْعُ اللهَ
تَعَالَى يُمْسِكُهَا عَنَّا) فَدَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَآلِهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ وَقَالَ: ((اللهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلاَ عَلَيْنَا، اللهُمَّ عَلَى الآكَامِ وَالظِّرَابِ وَبُطُونِ الأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ)) فَانْفَرَجَت السَّمَاءُ وَخَرَجَ الصَّحَابَةُ يَمْشُونَ فِي الشَّمْسِ. فهذا طلَبُ دُعاءٍ مِنْ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ للهِ عزَّ وجلَّ، وليسَ دُعَاءً لِرسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، ولا اسْتِغَاثةً بهِ. وبِهذا
يُعْرَفُ أنَّ هذهِ الشُّبْهةَ الَّتي لَبَّسَ بها هؤلاءِ شُبْهةٌ لا
تَنْفَعُهم، بلْ هيَ حُجَّةٌ داحِضةٌ عندَ اللهِ عزَّ وجلَّ.
ثمَّ
ذَكَرَ المؤلِّفُ رَحِمَهُ اللهُ أنَّهُ لا بَأْسَ أنْ تَأْتِيَ لِرَجُلٍ
صالحٍ تَعْرِفُهُ وتَعْرِفُ صلاحَهُ، فتَسْأَلَهُ أنْ يَدْعُوَ اللهَ لكَ،
وهذا حقٌّ، إلاَّ أنَّهُ لا يَنْبَغِي للإِنسانِ أنْ يَتَّخِذَ ذلكَ
دَيْدَنًا لهُ، كُلَّما رَأَى رجلاً صالِحًا قالَ: ادْعُ اللهَ لي، فإنَّ
هذا ليسَ مِنْ عادةِ السَّلَفِ رَضِيَ اللهُ عَنْهم، وفيهِ اتِّكالٌ على
دُعاءِ الغيرِ، ومِن المَعلومِ أنَّ الإنسانَ إذا دَعا ربَّهُ بِنفسِهِ
كانَ خيرًا لهُ؛ لأنَّهُ يَفْعَلُ عِبادةً يَتَقَرَّبُ بِها إلى اللهِ عزَّ
وجلَّ؛ فإنَّ الدُّعاءَ مِن العبادةِ كما قالَ اللهُ تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} الآيةَ.والإِنسانُ
إذا دَعا ربَّهُ بنفسِهِ فإنَّهُ يَنالُ أجْرَ العِبادةِ، ثمَّ يَعْتَمِدُ
على اللهِ عزَّ وجلَّ في حُصولِ المَنْفَعَةِ ودَفْعِ المَضَرَّةِ،
بِخلافِ ما إذا طَلَب مِنْ غيرِهِ أنْ يَدْعُوَ اللهَ لهُ؛ فإنَّهُ
يَعْتَمِدُ على ذلكَ الغيرِ، ورُبَّما يَكونُ تَعَلُّقُهُ بهذا الغيرِ
أَكْثَرَ مِنْ تَعَلُّقِهِ ب اللهِ عزَّ وجلَّ، وهذا الأمرُ فيهِ خُطورةٌ. وقدْ
قالَ شيخُ الإِسلامِ رَحِمَهُ اللهُ: (إذا طَلَبَ الإِنسانُ مِنْ شخصٍِ
أنْ يَدْعُوَ لهُ فإنَّ هذا مِن المسألةِ المذمومةِ) فيَنْبَغِي للإِنسانِ
إذا طَلَبَ مِنْ شخصٍ أنْ يَدْعُوَ لهُ أنْ يَنْوِيَ بذلكَ نفْعَ ذلكَ
الغيرِ بِدعائِهِ لهُ، فإنَّهُ يُؤْجَرُ على هذا، وربَّما يَنالُ ما جاءَ
بهِ الحديثُ أنَّ الرَّجلَ إذا دَعا لأخيهِ بِظَهْرِ الغيبِ قَالَت
الملائكةُ: ((آمِينَ، ولكَ بِمثلِها))(1).
حاشية الشيخ صالح بن عبد الله العصيمي على شرح ابن عثيمين
قال الشيخ صالح بن عبدالله العصيمي: ( (1) فيستفاد مما قرره المصنف -رحمه الله- أن قول العبد لغيره:
(ادع الله لي) جائز بشرطين:
الأول: ألا يُتخذ عادة يلازمها العبد.
الثاني: أن ينوي بذلك نفع من يطلب منه الدعاء.
ووراءهما شرط ثالث: هو
وارد في كلام المصنف -رحمه الله- إجمالاً وهو أن يكون من يطلب منه الدعاء
رجلاً صالحاً فلا يتوجه بطلبه لغير صالح؛ لأن مظنة إجابة دعاء الصالح آكد.
شرح كشف الشبهات لفضيلة الشيخ: صالح بن فوزان الفوزان
المتن:
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (وَلَهُمْ شُبْهَةٌ أُخْرى:
وَهِيَ ما ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ النَّاسَ يَوْمَ القِيامَةِ يَسْتَغِيثُونَ بآدَمَ، ثُمَّ بِنُوحٍ، ثُمَّ بِإِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ بِمُوسى، ثُمَّ بِعِيسَى، فَكُلُّهُمْ يَعْتَذِرُون حَتَّى يَنْتَهُوا إِلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالُوا: فَهَذا يَدُلُّ عَلى أَنَّ الاسْتِغَاثَةَ بِغَيْرِ اللهِ لَيْسَتْ شِرْكاً.
فَالجوَابُ:
أَنْ
تَقُولَ: سُبْحَانَ مَنْ طَبَعَ على قُلُوبِ أَعْدَائِهِ، فَإِنَّ
الاسْتِغَاثَةَ بِالمَخْلُوقِ على ما يَقْدِرُ عَلَيْهِ لا نُنْكِرُها،
كَمَا قَالَ تَعالى في قِصَّةِ موسى: {فاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} وَكَمَا
يَسْتَغِيثُ الإِنْسَانُ بِأَصْحَابِهِ في الحَرْبِ وغيرِه في أَشْياء
يَقْدِرُ عَلَيْها المَخْلُوقُ، وَنَحْنُ أَنْكَرْنَا اسْتِغَاثَةَ
العِبَادَةِ الَّتِي يَفْعَلُونَها عِنْدَ قُبُورِ الأَوْلِيَاءِ وغيرِهم
أَوْ في غَيْبَتِهِم في الأَشْياء الَّتي لا يَقْدِرُ عَلَيْها المخلوق ولا
يقدر عليها إلا الله تعالى.
إِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فالاستغاثةُ بِالأَنْبِيَاءِ يَوْمَ القِيَامَةِ يُرِيدُون مِنْهُمْ أَنْ يَدْعُوا اللهَ أَنْ يُحَاسِبَ النَّاسَ حَتَّى يَسْتَرِيحَ أَهْلُ الجَنَّةِ مِنْ كَرْبِ المَوْقِفِ،وَهَذَا جَائِزٌ في الدُّنْيا وَالآخِرَةِ، أَنْ تَأْتِيَ عِنْدَ رَجُلٍ صَالحٍ حيٍّ يُجَالِسُكَ ويَسْمَعُ كَلامَكَ تَقُولُ لَهُ: ادْعُ اللهَ لِي، كَمَا كانَ أَصْحابُ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَهُ في حَيَاتِهِ؛ في الاستسقاء وغيره، وَأَمَّا بَعْدَ مَوْتِهِ فَحَاشَا وَكَلاَّ أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ ذَلِكَ عِنْدَ قَبْرِهِ، بَلْ أَنْكَرَ السَّلَفُ عَلَى مَنْ قَصَدَ دُعَاءَ اللهِ عِنْدَ قَبْرِهِ فَكَيْفَ دُعَاءَه نَفْسِهِ؟(1)).
الشرح:
قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: ((1) هذه
شُبْهَةٌ أُخْرَى مِن شُبَهِهِم وهي أنَّهم يَقُولُونَ: إِنَّه ثَبَتَ في
الحَدِيثِ الصَّحِيحِ -حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ العُظْمَى- أنَّ النَّاسَ
يَوْمَ القِيَامَةِ إِذَا طَالَ عَلَيْهِم الوُقُوفُ والقِيَامُ عَلَى
أَقْدَامِهِم خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، والشَّمْسُ قَدْ دَنَتْ مِنْهُم،
فالخَلاَئِقُ كلُّهُم مَجْمُوعُونَ مِن أَوَّلِهِم إلى آخِرِهِم في زِحَامٍ
شَدِيدٍ، والشَّمْسُ عَلَى رُؤُوسِهِم قَرِيبَةٌ مِنْهُم، وهُم واقِفُونَ
عَلَى أَقْدَامِهِم، فَعِنْدَمَا يَحْصُلُ لَهُم هذا الكَرْبُ
يَتَذَاكَرُونَ الشَّفَاعَةَ عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَرَوْنَ أنَّ
الأنْبِيَاءَ هم أَوَّلُ الَّذِينَ يَشْفَعُونَ عِنْدَ اللهِ.
فَيَأْتُونَ
إِلَى آدَمَ يَطْلُبُونَ منه أَنْ يَشْفَعَ عِنْدَ اللهِ لَهُم
لِيُرِيحَهُم مِن المَوْقِفِ فيَعْتَذِرُ -عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-
بِسَبَبِ مَا حَصَلَ مِنْهُ مِن الخَطِيئَةِ، مَعَ أنَّه تَابَ مِنْهَا
وتَابَ اللهُ عَلَيْهِ، ولَكِنْ يَسْتَحِي مِن اللهِ -عزَّ وجلَّ- ثُمَّ
يَأْتُونَ إلَى نُوحٍ أوَّلِ الرُّسُلِ فَيَعْتَذِرُ، ثُمَّ يَأْتُونَ
إِلَى مُوسَى فيَطْلُبُونَ منه فيَعْتَذِرُ، ثُمَّ يَأْتُونَ إلى عِيسَى
-عَلَيْهِ السَّلامُ- آخِرِ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فيَعْتَذِرُ؛
لأَِنَّ المَوْقِفَ مَوْقِفٌ عَظِيمٌ أَمَامَ اللهِ -سُبْحَانَه وتَعَالَى-
ثُمَّ يَأْتُونَ إِلَى مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-
فيَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((أَنَا لَهَا أَنَا لَهَا))
ثُمَّ يَأْتِي ويَسْجُدُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ، ويَحْمَدُ اللهَ ويُثْنِي
عَلَيْهِ، ويَدْعُوه ويَسْتَمِرُّ سَاجِدًا بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ حَتَّى
يُقَالَ لَهُ: ((يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ وَسَلْ تُعْطَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ)) لأَِنَّه لاَ أَحَدَ يَشْفَعُ عِنْدَ اللهِ إلاَّ بإذْنِهِ.
والرَّسُولُ ما ذَهَبَ إِلَى اللهِ وشَفَعَ ابْتِدَاءً، بل اسْتَأْذَنَ مِن رَبِّهِ وسَجَدَ بَيْنَ يَدَيْهِ حتَّى أَذِنَ له، وهذا كقولِهِ تَعَالَى: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إلاَّ بِإِذْنِهِ} فَيَطْلُبُ مِن اللهِ أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَ عِبَادِهِ، ويُرِيحَهُم مِن المَوْقِفِ، فَيَسْتَجِيبُ اللهُ شَفَاعَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وهذه تُسَمَّى الشَّفَاعَةَ العُظْمَى والمَقَامَ المَحْمُودَ، وهي قولُه تَعَالَى: {عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} بِمَعْنَى أنَّه يَحْمَدُهُ عَلَيْهِ الأَوَّلُونَ والآخِرُونَ.
قَالَ القُبُورِيُّونَ:فهذا فيه جَوَازُ الاسْتِغَاثَةِ بالأَنْبِيَاءِ والأَوْلِيَاءِ والصَّالِحِينَ، وأَنْتُم تَقُولُونَ: لاَ يُسْتَغَاثُ إلاَّ باللهِ وقَالُوا: فهذا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ طَلَبَ الشَّفَاعَةِ مِن الرَّسُولِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- جَائِزٌ حيًّا وميِّتًا، وكذلك غيرُه.
والجَوَابُ عن هذا كَمَا يَقُولُ الشَّيْخُ:إنَّ
هذا طَلَبٌ مِن إِنْسَانٍ حَيٍّ قَادِرٍ عَلَى الدُّعَاءِ، وعَلَى
الاسْتِئْذَانِ بالشَّفَاعَةِ، والطَلَبُ مِن الإنسانِ في حَالِ حَيَاتِهِ
وقُدْرَتِهِ لَيْسَ هو مِن المَمْنُوعِ، كَمَا في قِصَّةِ مُوسَى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} وكَمَا يَسْتَغِيثُ الإِنسانُ بإخْوَانِهِ في الحَرْبِ وغَيْرِهَا.
ففيه
فَرْقٌ بَيْنَ عَمَلِ هؤلاءِ المُشْرِكِينَ وبَيْنَ مَا في الحَدِيثِ
الصَّحِيحِ، وفي قِصَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، فبهذا
التَّفْصِيلِ زَالَتْ هذه الشُّبْهَةُ والحَمْدُ للهِ.
شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ
المتن:
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (وَلَهُمْ شُبْهَةٌ أُخْرى:
وَهِيَ ما ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ النَّاسَ يَوْمَ القِيامَةِ يَسْتَغِيثُونَ بآدَمَ، ثُمَّ بِنُوحٍ، ثُمَّ بِإِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ بِمُوسى، ثُمَّ بِعِيسَى، فَكُلُّهُمْ يَعْتَذِرُون حَتَّى يَنْتَهُوا إِلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالُوا: فَهَذا يَدُلُّ عَلى أَنَّ الاسْتِغَاثَةَ بِغَيْرِ اللهِ لَيْسَتْ شِرْكاً.
فَالجوَابُ:
أَنْ
تَقُولَ: سُبْحَانَ مَنْ طَبَعَ على قُلُوبِ أَعْدَائِهِ، فَإِنَّ
الاسْتِغَاثَةَ بِالمَخْلُوقِ على ما يَقْدِرُ عَلَيْهِ لا نُنْكِرُها،
كَمَا قَالَ تَعالى في قِصَّةِ موسى: {فاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} وَكَمَا
يَسْتَغِيثُ الإِنْسَانُ بِأَصْحَابِهِ في الحَرْبِ وغيرِه في أَشْياء
يَقْدِرُ عَلَيْها المَخْلُوقُ، وَنَحْنُ أَنْكَرْنَا اسْتِغَاثَةَ
العِبَادَةِ الَّتِي يَفْعَلُونَها عِنْدَ قُبُورِ الأَوْلِيَاءِ وغيرِهم
أَوْ في غَيْبَتِهِم في الأَشْياء الَّتي لا يَقْدِرُ عَلَيْها المخلوق ولا
يقدر عليها إلا الله تعالى.
إِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فالاستغاثةُ بِالأَنْبِيَاءِ يَوْمَ القِيَامَةِ يُرِيدُون مِنْهُمْ أَنْ يَدْعُوا اللهَ أَنْ يُحَاسِبَ النَّاسَ حَتَّى يَسْتَرِيحَ أَهْلُ الجَنَّةِ مِنْ كَرْبِ المَوْقِفِ،وَهَذَا جَائِزٌ في الدُّنْيا وَالآخِرَةِ، أَنْ تَأْتِيَ عِنْدَ رَجُلٍ صَالحٍ حيٍّ يُجَالِسُكَ ويَسْمَعُ كَلامَكَ تَقُولُ لَهُ: ادْعُ اللهَ لِي، كَمَا كانَ أَصْحابُ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَهُ في حَيَاتِهِ؛ في الاستسقاء وغيره، وَأَمَّا بَعْدَ مَوْتِهِ فَحَاشَا وَكَلاَّ أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ ذَلِكَ عِنْدَ قَبْرِهِ، بَلْ أَنْكَرَ السَّلَفُ عَلَى مَنْ قَصَدَ دُعَاءَ اللهِ عِنْدَ قَبْرِهِ فَكَيْفَ دُعَاءَه نَفْسِهِ؟).
الشرح:
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ: (نذكر
أصلاً في جواب شبه المشبهين من المشركين، وذلك أن توحيد العبادة أدلته
كثيرة محكمة، والمجيب على الشبه إذا أشتبه عليه جوابٌ فإنه يعود
إلى الأصل، وهو تقرير الأدلة التي جاءت في توحيد العبادة، ثم يُدخل الصورة
هذه التي أوردها المشبه في تلك الأدلة حتى يُبطل الاستدلال من وجهٍ
إجمالي، وهذه طريقة نافعة.ثم بعد ذلك يأتي إلى الجواب الذي يكون فيه تخصيص لتلك المسألة التي احتجوا عليها ببعض الأدلة.
ومسألة الاستغاثة راجعة إلى الدعاء،فإن
الاستغاثة طلبٌ ودعاء؛ لأن الأصل في فعل (استفعل) أي: طلب الشيء، وقد يكون
لغير الطلب في مواضع متعددة، فإذا أُتي بـ(استَفعَل) فإنها تحمل على
الطلب؛ لأنها تدل عليه في مواضعه، فاستسقى: طلب السقيا، واستغاث: طلب
الغوث، واستعان: طلب العون، إلى آخر أمثال ذلك.فإذا
كانت طلباً فإنها سؤال وإنها دعاء، ولهذا الأدلة العامة في الكتاب والسنة
تمنع السؤال بغير الله جل وعلا، تمنع دعاء غير الله، تمنع الطلب من غير
الله جل وعلا؛ كما في قوله سبحانه: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} وكما في قوله جل وعلا: {وَمَنْ
يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا
حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}
وفي خصوص الاستغاثة، قال جل وعلا: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ}وكما في قوله: {إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ}ونحو ذلك من الآيات التي فيها إفراد الله- جل وعلا- بالطلب.وإذا كان كذلك في القرآن، فهذا عام يشمل ما يقدر عليه المطلوب منه، وما لا يقدر عليه. وكذلك ما جاء في السنة من قوله عليه الصلاة والسلام: ((إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله)) فالسؤال والطلب من مخلوق لا يجوز، بل يجب إفراد الله بالطلب.هذه أدلة الكتاب والسنة في هذا بخصوصه،لكن هذا العموم أو هذا الإطلاق ورد ما يقيده في النصوص، فالنصوص العامة - كما ذكرنا لك - أو المطلقة تمنع السؤال مطلقاً ((إذا سألت فاسأل الله)) مطلقاً بلا تفصيل، هل يقدر أولا يقدر؟ هل هو حي أم ليس بحي؟ هل هو حاضر أم ليس بحاضر؟ ((إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله)) وكذلك: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً}لكن جاء في القرآن وفي السنة تقييدات جعلتنا نقيد هذا الإطلاق، أو نخص هذا العموم ببعض الصور.
ولهذا: القيود في الأدلة ظاهرة،فجعلوا تلك المطلقات مشروطة بشروط؛ فلهذا قال العلماء: (تلك المطلقات يُنظر في النصوص هل قيدت أم لا؟) كشأن العام، فإنه يبقى على عمومه حتى يرد مخصص، كشأن المطلق، فإنه يبقى على إطلاقه حتى يرد ما يقيده، فنظرنا في القرآن فوجدنا أن الرب -جل وعلا- ذكر عن نبيه موسى -عليه السلام- في أول سورة القصص، ذكر قوله جل وعلا: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ}فعلمنا بذلك أن موسى -عليه السلام- وهو نبي الله، كليم الله - وإن كان هذا قبل أن يوحى إليه - فهو ليس إذ قال ذلك بمشرك الشرك الأكبر؛ لأن الأنبياء منزهون عن الشرك الأكبر قبل النبوة وبعدها من باب أولى، كما هو واضح ظاهر.فإذاً قوله: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ}هنا الله -جل وعلا- ذكر الاستغاثة، فدل على أن هذا النوع من الطلب خارج عن الإطلاق، فننظر في بساط الحال لهذه الآية، فنقول: هذا طلبَ الغوث من موسى وهو حي أمامه وهو قادر؛ لأنه وكزه فقضى عليه، أو أنه في محل القدرة، يعني: في حكم القادر، وكذلك أنه يسمع خطابه، فظهر لنا من هذا الدليل قيودات، وكذلك نعلم أن الصحابة -رضوان الله عليهم- استغاثوا بالنبي-صلى الله عليه وسلم- في حياته في مواضع، وإذا كان كذلك فإنههم استغاثوا بمن يسمع وهو حي ويقدر على أن يغيثهم. وكذلك إجازة طلب الغوث فيما يستغيث المرء بمن هو يقدر على إزالة ما به من كرب، يعني بشروطه.فدلنا ذلك على أن تلك العمومات ((إذا سألت فاسأل الله))، {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} مقيدة، فلهذا قيد العلماء بهذه النصوص المقيدة: العموم، فقالوا: إذا كان المستغاث به - المسؤول، المطلوب - إذا كان حياً - يُخرج الميت - إذا كان قادراً على الإنفاذ أو في حكم القادر، إذا كان حاضراً يسمع، فإن الأدلة دلت على جواز الطلب منه، وعلى جواز الاستغاثة به، وعلى جواز الاستعانة، فإن كان غائباً فإنه يبقى العموم على بابه، تبقى المطلقات على بابها، فإن كان غير حي فيبقى.
فإذاً: هنا العمومات بالإجماع يُعمل بها، والمطلقات بالإجماع يعمل بها، العموم مثل قوله:{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} ومثل قوله: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} وأشباه ذلك، فيُعمل بالعموم حتى يرد المخصص، وهنا المخصصات المنفصلة - كما هو مقرر في الأصول - دلتنا على اعتبار الشروط.فإذاً:من منع هذا، منع الاستغاثة بغير الله -جل وعلا- فيما لا يقدر عليه ذلك المستغاث به، مستمسك بالأصل، مستمسك بالعمومات، مستمسك بالأدلة المحكمة في هذا الباب، فمن أجاز صورة من الصور فهو الذي عليه الدليل.فهذه شبهة أخرى جديدة ذكرها الإمام المجدد رحمه الله تعالى؛لأن أهل الشرك في زمانه من العلماء وأشباههم كانوا يوردونها على الشيخ رحمه الله، مستدلين بهذه الشبهة على إبطال توحيد الله -جل وعلا- بعبادة الاستغاثة.والمشركون حين احتجوا بهذه الشبهة وجادلوا بها يريدون إبطال الأصل الذي يعتمد عليه الموحدون، وهو أن صرف العبادة لغير الله -جل وعلا- شرك أكبر، فهم استدلوا ببعض ما ورد لإبطال توحيد العبادة، ويريدون بعد هذا أن يقصروا الشرك في عبادة الأصنام، وفي عبادةالأوثان التي كان عليها أهل الجاهلية في الزمن الأول على ما فهموه من عبادة الأصنام والأوثان.
وهذا الإيراد الذي ذكره الشيخ -رحمه الله- من العجب أنه تتابع عليه الذين ردوا على الشيخ قبله، يعني في زمانه وبعده رحمه الله تعالى، فالذين كتبوا في تجويز الاستغاثة بالقبور وبالمقبورين وبالأولياء الصالحين وغير الصالحين، هؤلاء احتجوا بهذا الدليل، وهو أن الناس يوم القيامة يستغيثون بآدم، وهذا النوع من الاستغاثة هي استغاثة بعد الممات، فيقولون الممات حلّ والاستغاثة هذه بعد الممات، وحياتهم في قبورهم كحياتهم في الموقف، ولا فرق، إذ هذا وهذا حياة لهم. فيستدلون بالاستغاثة بآدم، وبنوح، وبإبراهيم، وبموسى، ثم بعيسى، ثم بالنبي صلى الله عليه وسلم، يستدلون بذلك على أن الاستغاثة بغير الله -جل وعلا- ممن ليس في الحياة الدنيا جائزة، وهذا هو الذي ذكره الشيخ -رحمه الله- هنا، حيث ساق ما ساق.
قال في آخر كلامه: (قالوا: فهذا يدل على أن الاستغاثة بغير الله ليست شركاً)
ولهذا نقول: هذا الدليل الذي أوردتموه لا يخرج عن القيود التي ذكرناها،
هذه الشبهة بالاستدلال بهذا الدليل لا يخرج عما ذكرناه، بل هو مؤيِّد ودليل
من السنة على ما ذكرناه من القيود، واستدلالكم به على أن الحياة التي بعد
الموت لا تسمى حياة وإنما هي حياة الدنيا ثم بعده موت، ويوم القيامة والبعث
له حكم ما قبل الموت؛ لأن هؤلاء أحياء في قبورهم ثم بعد ذلك هم أحياء، فلا
فرق.
نقول: هذا لا يستقيم مع الأدلة الكثيرة في القرآن في أن الناس أُحيوا حياتين وأُميتوا مِيتتين قال جل وعلا: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً} يعني: في بطون الأمهات كنتم أمواتاً {فَأَحْيَاكُمْ}بنفخ الروح {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ}بذهاب الروح {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} بعود الروح.
وكذلك قوله -جل وعلا- في سورة غافر:{رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ}.
فدل على أن النصوص فيها حياتان وفيها ميتتان، فمن جعل الموت والحياة حالة واحدة -كحال هؤلاء المشبهة الذين أوردوا هذه الشبهة- فإن النصوص تبطل هذا الإيراد.
هذه الشبهة مبطلة كما ذكرنا من هاتين الجهتين:
أولاً: من حيث إن هذا الدليل هو لنا وليس علينا؛ لأن فيه القيود، لأن هؤلاء أحياء يتكلمون قادرون، آدم قادر على الدعاء، نوح قادر على الدعاء، وموسى قادر على الدعاء، ومحمد -عليه الصلاة والسلام- قادر على الدعاء، وعيسى -عليه السلام- قادر على الدعاء.ثم نقول:إن هؤلاء كانوا في حياة ثم صاروا إلى موت، وهم مع موتهم في حياة برزخية أكمل من حياة الشهداء - لكن فرق بين أحكام الموت وأحكام الحياة - ثم يصيرون إلى حياة، فدل على تنوع الأحوال، فلكل حال دليلها الذي يخصها.
أولاً:جواب الشبهة هذه، العمومات باقية، ادعاء أن هذا الدليل يصلح لجواز الاستغاثة بغير الله -جل وعلا- باطل؛ لأنهم استدلوا بدليل في الحياة والكلام معهم في الممات.
فإذا قالوا:الممات وما بعده من يوم القيامة، كل هذا يعتبر نوعاً واحداً من الحياة.
- نقول: النصوص دلت على أن ثمة حياتين وثمة موتين، فإذاً: يحتاجون إلى دليل آخر ولا دليل عندهم. هذا تقرير لهذه المسألة، ولك أن تُنَظِّرَ مثلها في كل أنواع الطلب التي استدلوا بها في أنواع الطلب، تستدل بمثل هذا؛ لأنهم يوردون بعض الأدلة والآثار والإسرائيليات في مثل هذا، فلك أن تطرد هذا في أمثاله.
قال الإمام رحمه الله تعالى وأجزل له المثوبة: (والجواب أن تقول: سبحان من طبع على قلوب أعدائه) وهذا تنزيه لله -جل وعلا- في مسألة عظيمة وهي مسألة القدر؛ لأنهم طُبع على قلوبهم فلا يفقهون إلا قليلاً.(فإن الاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه لا ننكرها) تستدلون بشيء ليس هو في المسألة التي فيها البحث، المسألة التي فيها البحث الاستغاثة بالأموات، الاستغاثة بمن لا يقدر، وأنتم تستدلون بدليل ليس في محل الدعوى، ولا شك أن هذا باطل عند جميع العقلاء، الاستدلال بدليل ليس في محل الدعوى استدلال باطل.
(فإن الاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه لا ننكرها). وتلحظ هنا قوله: (فيما يقدر عليه) وفي آخرها قال: (في الأشياء التي لا يقدر عليها إلا الله) وبين العبارتين فرق، هنا: (فيما يقدر عليه) وهناك: (فيما لا يقدر عليه إلا الله).والجواب عن هذا الإيراد:أن ضابط الاستغاثة كما ذكره في أول الكلام، أن الاستغاثة بالمخلوق جائزة فيما يقدر عليه، والاستغاثة الشركية: هو أن يستغيث بالمخلوق فيما لا يقدر عليه المخلوق، أو فيما لا يقدر عليه إلا الله؛ لأن بين العبارتين فرقاً، قد لا يقدر هو ولكن الآخر يقدر، وهذه من حيث الاستغاثة بغير الله -جل وعلا- فيما لا يقدر عليه ذلك الغير تحتاج إلى تفصيل، وقد ذكرنا شيئاً من تفصيلها في شرح (كتاب التوحيد) كما هو موجود في شروح (كتاب التوحيد).
وخلاصة الأمر: أن الضابط الأيسر أن تقول: فيما لا يقدر عليه إلا الله، وأما: (فيما يقدر عليه المخلوق فأنه جائز) و(فيما لا يقدر عليه المخلوق بأنه شرك) هذه تحتاج إلى ضوابط. فمثال ذلك: لو استغاث بمهندس للعمارة فيما يتعلق بأمر طبي - هو لا يقدر على ذلك، إنما يقدر عليه الطبيب - لكن هنا الاستغاثة لا نقول إنها شرك أكبر؛ لأن هذا جنسه يقدر، وليست القدرة على ما يقدر عليه الطبيب بخصوصه، بل القدر متنوعة، يأخذه يذهب به إلى طبيب، يكون معه، إلى آخر الأنواع.ولهذا بعض أهل العلم يعبر بقوله: إن الاستغاثة بالميت فيما لا يقدر عليه، أو الاستغاثة بالغائب فيما لا يقدر عليه؛ إنها شرك أكبر، وهذه لا تنضبط عند أكثر الناس هي صحيحة لكن تحتاج إلى عالم يضبطها؛ لأن المسائل متشابهة. فالذي يضبط المسألة هو قول الشيخ في آخر الكلام: (أو في غيبتهم في الأشياء التي لا يقدر عليها إلا الله) يعني إذا طلب من المخلوق الميت أو الغائب شيئاً لا يقدر عليه إلا الله فإنه يكون شركاً أكبر.أما فيما يقدر عليه المخلوق لكن هذا المخلوق المعين لا يقدر عليه، قد تكون وقعت شبهة عند المستغيث، وحال الاستغاثة يكون هناك ضعف، وقد يكون هناك ظن أن هذا يقدر أن يغيث، إلى آخر ما يتصل بهذا مما ذكرنا شرحه. المقصود من هذا: أن الضابط الأخير الذي ذكره الشيخ في الأشياء التي لا يقدر عليها إلا الله، هذا ضابط صحيح كما ذكره الشيخ في الحكم بالشرك، والأول في الحكم بالجواز؛ لهذا الشيخ نوّع العبارة؛ فقال: (الاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه جائز، والاستغاثة بالمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله شرك أكبر) وهذا ضابط صحيح، وهو أحسن من أن نقول في المقامين: فيما يقدر عليه المخلوق أو فيما لا يقدر عليه؛ لما يحصل معها من الاشتباه.قال رحمه الله: (وكما يستغيث الإنسان بأصحابه في الحرب أو غيره في أشياء يقدر عليه المخلوق)ونحن أنكرنا استغاثة العبادة التي يفعلونها عند قبور الأولياء أو في غيبتهم،استغاثة العبادة يعني طلب الغوث من الغائبين مع اعتقاد أن لهم تأثيراً في غيبتهم، هذه استغاثة العبادة، ويكون معها رجاء وخوف أو رجاء ومحبة، أو خوف ومحبة، أو الثلاثة معاً.فإذاً الاستغاثة منها ما هو عبادة ومنها ما ليس بعبادة،وما أنكرناه هو استغاثة العبادة، وهو أن يستغيث بغائب إما ميت أو حي غائب فيما لا يقدر عليه إلا الله جل وعلا، يستغيث به في شفاء مرضه، يستغيث به في أن يخلَّص من المدلهمات التي أصابته في كشف الكربات، في إزالة المصائب التي أصابته، في مغفرة الذنب، في إتيانه بولد، في تأمينه مما يخاف، إلى آخر ذلك. قال: (إذا ثبت ذلك) يعني: الجواب الأول الذي ذكره الشيخ وجَّه الاستدلال لصالحه، قال: هذا الدليل لنا وليس علينا، ثم قال: (إذا ثبت ذلك، فاستغاثتهم بالأنبياء يوم القيامة يريدون منهم أن يدعوا الله أن يحاسب الناس حتى يستريح أهل الجنة من كرب الموقف، وهذا جائز في الدنيا والآخرة):
-جوازه في الدنيا: لأنه يجوز أن تطلب من أحد في الدنيا أن يدعو لك؛ لأنه يقدر على هذا الشيء.
- وكذلك في الآخرة: يجوز أن تطلب منه أن يدعو لك؛ لأنه يقدر على ذلك، وهاتان حياتان، والكلام في الموت أو حين الغيبة هو محل النزاع.
قال: (وذلك أن تأتي عند رجل صالح حي يجالسك ويسمع كلامك وتقول له: ادع الله لي، كما كان أصحاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- يسألونه ذلك في حياته، وأما بعد موته فحاشا وكلا أنهم سألوا ذلك عند قبره) يعني: أن الصحابة لم يرد عنهم شيء البتة - وحاشاهم وكلا - أنهم أتوا قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- فاستغاثوا به، أو أتوا قبره فاستشفعوا به، طلبوا منه الدعاء، فهذا لم يكن يفعله الصحابة -رضوان الله عليهم- بعد موته البتة. قال: (بل أنكر السلف على من قصد دعاء الله عند قبره فكيف بدعائه -عليه الصلاة والسلام- نفسه) يعني: السلف الصالح؛ كما في قضية علي بن الحسين وعدة حوادث في هذا عن السلف، أنهم أنكروا من يأتي إلى القبر للدعاء، وإنما من دخل المسجد فسلم كفى، أو من أتى من سفر كما كان يفعل ابن عمر -رضي الله عنهما- وغيره، يأتي فيسلم على النبي -عليه الصلاة والسلام- سلاماً.أما أن يتخذ القبر محلاً للدعاء، يعني: ما حول القبر أو أنه يدعى النبي -عليه الصلاة والسلام- نفسه؛ فهذا لم يكن عند السلف، بل بعضهم غلط ودعا الله -جل وعلا- وحده عند القبر، فأنكر عليه بعض السلف كما ذكرت لك.إذا أنكروا على من قصد القبر لدعاء الله -جل وعلا- فكيف لا ينكرون من قصد القبر لدعاء المقبور نفسه؟! لا شك أن هذا أولى بالإنكار.المقصود من هذا أن الشبهة هذه ليست بمستقيمة، بل هي داحضة كما هي شبه أهل الشرك.
ولله الحمد، أهل السنة وأهل التوحيد ليس لهم غرض في هذا الأمر، لم يأتوه عن هوى، لم يأتوه عن شهوة، وإنما أتوه تطبيقاً لما جاء في الكتاب والسنة، ورعاية لما ورد، وتعظيماً لحق الله جل وعلا، فلو أجاز الله -جل وعلا- ذلك لاتبعناه؛ كما قال سبحانه: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} لو أجاز الرب -جل وعلا- ذلك لاتبعناه، ولكن لا دليل البتة يجيز هذا؛ لأن هذا هو الشرك الأكبر بعينه، وهذا عند أهل التوحيد بوضوح وظهور.
ولهذا قال كما في القصة المعروفة أن رجلاً حاج بعض أهل الشرك فيما هم عليه من الشرك، فقالوا له: أنتم تقولون هذا لأجل أن محمد بن عبد الوهاب قاله، تعصباً له، فقال هذا الموحد لكلمة التوحيد الصحيحة الخالصة التي هي عن بينة لا عن تقليد، قال: (لو قام محمد بن عبد الوهاب من قبره فقال: (ما قلت لكم غلط) لما اتبعناه) لم؟ لأنهم أخذوه بالحجة - ليس بالحجة من قول محمد بن عبد الوهاب - إنما بالحجة من قول الله -جل وعلا- وقول رسوله صلى الله عليه وسلم، وإجماع سلف الأمة، والإمام محمد بن عبد الوهاب إمام مصلح مجدد، دل الناس على معاني النصوص، وهذه وظيفة أهل العلم.
أهل العلم الراسخون منهم يؤخذ قولهم ؛ لأنهم دلوا الناس على معاني النصوص، وفي فقههم للنصوص وفهمهم لها قالوا: هذا معنى الآية، وهذا ما دل عليه القرآن، هذا ما دلت عليه السنة، أو تارة يجتهدون ويذكرون من القواعد ما يكون في نفوسهم من دلالات النصوص، فيفهمون من الشريعة بمجموع أدلتها وبروح الشريعة أن الشريعة أتت بكذا، فيقولون هذا ويُقبل كلامهم لأنهم هم الفقهاء بالكتاب والسنة.والإمام المصلح -رحمه الله- إنما قال للأمة معنى الآيات كذا، ومعنى الأحاديث كذا، ودلت على هذا، فإذاً: هو ناقل للكتاب والسنة وموضِح لمعناهما؛ لما آتاه الله -جل وعلا- من متابعة السلف الصالح ومن الرسوخ في العلم وفهم الأدلة.فإذاً ليست المسألة عن تقليد، وإنما هي عن وضوح حجة ووضوح برهان، ولله الحمد والمنة.
العناصر
الشبهة الثالثة عشرة: استدلالهم على أن الاستغاثة بغير الله ليست شركاً باستغاثة الناس بالأنبياء يوم القيامة
كشف الشبهة الثالثة عشرة
- الاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه لا ننكرها
- استغاثة الناس بالأنبياء يوم القيامة ليست شركاً
- الاستغاثة بالأنبياء بعد موتهم شرك أكبر
- أنكر السلف الصالح على من قصد دعاء الله عند قبره صلى الله عليه وسلم فكيف بدعائه نفسه
حكم طلب الدعاء من الصالحين الحاضرين
الاستغاثة بالحي الحاضر فيما يقدر عليه
الأسئلة
س1: ما حكم الاستغاثة بالحي الحاضر فيما يقدر عليه؟ مع ذكر الدليل.
س2: كيف تكشف شبهة من استدل على جواز الاستغاثة بالصالحين بحديث سؤال الناس الشفاعة من الأنبياء يوم القيامة؟
س3: ما حكم طلب الدعاء من الآخرين؟